ابو وليد البحيرى
2019-09-24, 09:51 PM
التشدد عند النقاد في الجرح والتعديل
أ. هيام السيد نصير
د. فضلان عثمان[**]
ملخص البحث: تناولت هذه الدراسة مسألة مهمة من مسائل الجرح والتعديل، هي مسألة التشدد عند النقاد، وأهم المعايير والضوابط التي احتكمت لها، والأسباب التي كانت وراء ذلك، وتتبع الباحث حركة النقد نشأة وتطورا، وقامت هذه الدراسة أيضا على ذكر من اتصف من نقاد الجرح والتعديل بصفة التشدد، مع دراسة نماذج لأشهر النقاد المتشددين, وخلصت هذه الدراسة إلى أن مسألة التشدد لها رصيد في واقع النقاد في الجرح والتعديل, وتتفاوت من ناقد لآخر، كما وأن لها الأثر البالغ في الحكم على الرواة والمرويات.
الكلمات المفتاحية: النقاد، التشدد، الرواة.
Abstract This study addressed the important issue of the wound and the amendment issues, a matter of militancy when the critics, and the most important standards and controls that invoked it, and the reasons were behind it, and keep track of researcher movement of cash origins and evolution, and the study also mentioned characterized critics of the wound and the amendment in militancy , with study models not critics month militants this study and concluded that the issue of militancy have stock in the reality of the critics in the wound and the amendment and varies from critic to time, as though it's in judging the narrators and Almruyat impact.
Key words: the critics, militancy, narrators.
المقدمة: الحمد لله الذي شرح صدور أهل الإسلام إلى السنة فانقادت لاتباعها، وارتاحت لسماعها، وأمات نفوس أهل الطغيان بالبدعة، بعد أن تمادت في نزاعها، وتغالت في ابتداعها، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، العالم بانقياد الأفئدة وامتناعها، المطلع على ضمائر القلوب في حالتي افتراقها واجتماعها، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي انخفضت بحقه كلمة الباطل بعد ارتفاعها، واتصلت بإرساله أنوار الهدى، وظهرت حجتها بعد انقطاعها، e مادامت السماء والأرض هذه في سموها وهذه في اتساعها، وعلى آله وصحبه الذين كسروا جيوش المردة، وفتحوا حصون قلاعها، وهجروا في محبة داعيهم إلى الله الأوطار والأوطان، ولم يعاودوها بعد وداعها، وحفظوا على أتباعهم أقواله وأفعاله وأحواله, حتى أمنت بهم السنة الشريفة من ضياعها"[1].
لما كان الدين جاءنا من الله عز وجل، بواسطة رسوله الكريم e، بنقل الرواة، وجب علينا معرفتهم حق المعرفة ومعرفة أحوالهم، وإثبات الذين عرفناهم منهم بشرائط العدالة والتثبت في الرواية، ومن حكم عليه بالعدالة منهم, وجب أن يكونوا أمناء في أنفسهم، علماء بدينهم، أهل ورع وتقوى وحفظ وتثبت وإتقان، وأهل تمييز وتحصيل، لا تعتريهم الغفلات أو الأوهام فيما حفظوه ووعوه، ولذا اختلف هؤلاء الرواة بعضهم عن بعض، وتمايزوا عن غيرهم، فكانت الحاجة ماسة لمعرفة طبقاتهم ومقادير حالاتهم، وتباين درجاتهم، ليعرف كل منهم من كان في منزلة الجهبذة والنقد والتنقير، وخبيرًا في البحث عن الرجال, بصيرًا بأحوالهم، وهؤلاء هم أهل التزكية في الجرح والتعديل,[2]
ومن هذا المنطلق جاءت هذه الدراسة لتسلط الضوء على أحد أبرز الظواهر عند هؤلاء النقاد، وهي ظاهرة التشدد، ومن ثم تتبع الحركة التاريخية للنقد، نشأةً وتطورًا، والتطرق إلى أهم تلك الضوابط والمعايير التي نستطيع من خلالها قياس هذه الظاهرة، ومدى تفاوتها بين النقاد، وهل هذه الصفة ملازمة لهم في جميع أحوالهم؟ أم أنهم سلكوها في حالات خاصة,
منهجية البحث:
نظرا لطبيعة موضوع الدراسة والأهداف التي تسعى لتحقيقها، يتم استخدام المنهج الاستقرائي الانتقائي، بتتبع آراء أئمة الجرح والتعديل وأقوالهم من خلال:
1- استقراء نصوص الأئمة المتأخرين التي تحدثت عن هذه الظاهرة؛ كالإمام الذهبي في ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل، والموقظة, وميزان الاعتدال، والسخاوي في المتكلمون في الرجال، وابن حجر في النكت.
المبحث الأول تعريف النقد لغةً واصطلاحًا والحركة النقدية للمحدثين نشأةً وتطورًا النقد في اللغة: هو تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها، وكذا تمييز غيرها، ومثل هذا المصدر في مدلول التنقاد، والتنقد، من انتقد وتنقَّد الدراهم: أي ميَّز جيِّدَها من رديئها.[3]
النقد عند المحدثين: هو تمييز الأحاديث الصحيحة من الأخرى الضعيفة، ومن ثم بيان عللها، والحكم على رواتها.[4]
وبعد أن عرفنا ما هو النقد، نعرف بالناقد، ونبين الشروط التي يجب أن تتوفر فيه، ولعل أفضل من تكلم عن ذلك وجمع وأوعى, الإمام المعلمي اليماني.
شروط يجب أن تتوفر في الناقد:
قال المعلمي اليماني في هذا الشأن: "إن نقد الرواة ليس بالأمر الهين، فلابد للناقد أن يكون واسع الاطلاع على أخبار المرويات، عارفًا بأحوال الرواة السابقين وطرق روايتهم، وخبيرًا بعاداتهم ومقاصدهم وأغراضهم، والأسباب التي دعت بعض الرواة إلى التساهل والكذب التي من شأنها الوقوع في الزلل والخطأ، ومن ثم يجب أن يعرف عن الراوي أدق خواصه، متى ولد؟ وفي أي بلد؟, وكيف هو في الدين والأمانة والمروءة والعقل والتحفظ؟ ومتى بدأ في طلب العلم؟ وممن سمع؟, ومع من؟, وكيف هي كتابته؟, ويجب أيضًا أن يكون ملمًّا وعارفًا بأحوال مشايخه الذين يروي عنهم؛ بلدانهم، ووفياتهم، وعاداتهم في الحديث، وأوقات تحديثهم، ومرويات الناس عنهم، ويقارنها بمرويات هذا الراوي، وعليه أن يتسم بالمهارة، ويكون متيقظ الذهن، صافي الفهم، ولا يستخفه بادر ذي ظن، وأخيرًا يحسن تطبيق أحكامه فلا يقصر ولا يجاوز، ولا شك في أن هذه المنزلة بعيدة المنال، لم يبلغها إلا الأفذاذ".[5]
بعد أن عرفنا من هو الناقد، والصورة التي يجب أن يكون عليها، لابد أن نعرج على المراحل التاريخية للحركة النقدية، وأشهر مادوِّن فيها من مؤلفات تخص هذا الفن.
مراحل النقد عند المحدثين: بداية من النشأة والظهور، ومرورًا بالتدوين والمصنفات:
المرحلة الأولى:
هي تلك الحقبة التي سبقت ظهور الفتن والبدع التي شتتت المجتمع الإسلامي الواحد، ظهر النقد ولكن كان العامل الوحيد وراء ظهوره هو ما جبل عليه الإنسان من الخطأ، والنسيان، والأوهام التي قد تقع لبعض الرواة حينها.
المرحلة الثانية:
تزامنت هذه الحقبة مع ظهور الفتن والبدع، والعامل الأكبر وراء نشاط الحركة النقدية هو الكذب[6] والوضع، وكانت أبرز تلك الفتن, الفتنة الكبرى، وهي مقتل عثمان t، التي استغلها بعض أصحاب الأغراض والأهواء السياسية والدينية لأغراضهم الخاصة، ومن هنا تبلور المنهج النقدي لمواجهة الزيف، وفضح أصحابه، وما كنا لنشهد على ذلك العصر, لولا أن هيَّأ الله لذلك رجالًا من كل الأمصار من عهد التابعين إلى تابعي تابعيهم، يأخذ كل واحد منهم ما عند شيخه، ويضيف إليه ما أوصلته إليه خبرته، فتجمعت مادة علمية غزيرة في الحديث عن الرواة والمرويات, إلى أن وصل الأمر إلى نقادنا وشيوخنا, الذين دوَّنوا في ذلك المصنفات المستقلة، مثل: يحيي بن معين، والبخاري، وأبي حاتم الرازي، وغيرهم.
المرحلة التمهيدية:
تتمثل هذه المرحلة في بدايات تدوين علوم الحديث، واقتصر ما دونوه فقط الاستدراكات، وملاحظات، وتصويبات تدون بهوامش المرويات، وفوائد يلتقطها طلبة العلم من شيوخهم، وتعد هذه المرحلة اللبنة الأولى لظهور ما يعرف بالمسانيد المعللة.
1- مرحلة المسانيد المعللة:
وتشمل هذه المرحلة المسانيد المعللة التي تعد أول مراحل ظهور علوم الحديث، ونشأتها، وهي كانت خليطًا من عدة معارف حديثية متنوعة، فقد حوت علومًا مثل: توثيق الرواة وتضعيفهم، وبيان الوفاة، وضبط الغريب، وبيان المشكل، وتوضيح الكنية، والنسب، والموطن، إلى غير ذلك. ثم نمت بعض الشيء وبدأت بالانفصال تدريجيًّا عن كتب الحديث، لتأخذ مسمياتٍ خاصةً، مثل كتب السؤالات، وفي الغالب كان طابع التدوين في هذه الفترة هو ما جمعه طلاب العلم من شيوخهم، وهذه العلوم جمعها هؤلاء الشيوخ هم كذلك من شيوخهم، بعد أن أضافوا إليها ما فتح الله به عليهم من علوم الحديث، وهكذا استمر الحال من طبقة إلى أخرى.
2- مرحلة كتب النقاد:
تشمل هذه المرحلة كتب النقاد، أو ما جمعوه من روايات، وإن اختلفت مسمياتهم، فهي تدور في فلك واحد، وهو كل ما يتعلق بعلوم الحديث، من نقد للرجال، وعلل للأحاديث، وهذان العلمان متلازمان دون شك، ونرى ذلك واضحًا في مؤلفات الامام أحمد بن حنبل، والإمام علي بن المديني[7]، فروايات الإمام أحمد أخذت عدة مسميات، هي: (التاريخ والعلل ومعرفة الرجال)،أما عن الإمام علي بن المديني فكانت (العلل، المسند بعلله، التاريخ)، وبالرغم من ذلك فقد ظهرت العديد من الكتب المتخصصة، تناولت عدة فنون في هذا العلم مثل: الأسماء والكنى، والمدلسون والضعفاء، وكتب في الوهم والغرائب، وبعض الأجزاء المستقلة في علل لشيوخ معينين، مثل: العلل لعلي بن المديني, ولعل أحسن ما صنف في تلك الفترة ترتيبًا وتناسقًا كتاب الطبقات (طبقات ابن سعد)، الذي يعد من المصادر الأولى في علم الجرح والتعديل وعلم الرجال، ولعله من الكتب التاريخية، فالتاريخ في ذلك الوقت اقتصر على علم الرجال والنقد، إضافة للسير والمغازي، وبعد ذلك تطور ليحوي فقط الوقائع التاريخية، ولقد جاء هذا المصنف في تسعة مجلدات، ثم توالت المصنفات تحت مسمى التاريخ، حيث سمى كل من الدارمي والدوري روايتيهما عن يحيى بن معين باسم التاريخ، وكذلك أبو بكر بن أبي شيبة، سمى كتابه في الرجال والجرح والتعديل باسم التاريخ، وكذلك الإمام خليفة بن خياط العصفري، له كتاب في التاريخ والطبقات، وأيضا الإمام البخاري له التاريخ الكبير والأوسط والصغير.[8]
وكان للمؤلفات في الجرح والتعديل والعلل اتجاهان بارزان:
الاتجاه الأول، وهو المؤلفات التي تحوي تراجم الرجال مصحوبة بمراتبهم وعلل الأحاديث، والمؤلفات التي ذكرناها سابقًا خير مثال لهذا الاتجاه.
الاتجاه الثاني يمثل عرض الأحاديث التي تشوبها العلل بتفاصيل أكثر لأحوال الرجال، ومواطنهم، ومراتبهم في الجرح والتعديل، وهذا ما يمثل المسانيد المعللة، ولعل مسند يعقوب بن شيبة السدوسي خير مثال لذلك.
المرحلة الثالثة:
وهي مرحلة مؤلفات الشيخ أبي حاتم الرازي، الذي جمع المؤلفات التي وصلت إليه، فهذبها ونقحها، وأضاف إليها، وفصل بين علم العلل، ونقد الرجال، بعد أن كانا متداخلين مع بعضهما البعض، فكان كتابه الجرح والتعديل الأنموذج الذي يحتذى به، والمرجع الأول لطلاب العلم كافةً، ولا غنى لهم عنه، ولقد استمد أبو حاتم الرازي كتابه هذا، واعتمد بشكل مباشر على تاريخ البخاري، بعد أن جرده من علله، وجعلها في كتاب مستقل سماه علل الحديث، واقتدى به كل من البزار في مسنده، والترمذي في العلل الكبير والصغير, أما عن المنهج النقدي في حد ذاته، فلربما كانت أولى تباشيره مع الإمام الشافعي، وكتابه الرسالة، حيث سجل به ملحوظات ذات أهمية بالغة، ولكنها جاءت مقرونة بأصول الفقه، وهو منهج استدلالي فصل كيفية تفسير النص عند علماء ذلك العصر، إضافة إلى كيفية التعامل مع المرويات من حيث الصحة والضعف، ولعل أول مصنف خاص منفرد في منهج النقد الحديثي هو (المحدث الفاصل) للرامهرمزي المتوفى سنة (360 هجريًّا)، ومن ثم كتاب (علوم الحديث) للحاكم النيسابوري، المتوفى (405 هجريًّا)، ومن ثم برزت العديد من المؤلفات، ولكن الخطيب البغدادي حاز قصب السبق وكان الأبرز من بينهم.[9]
وبعدها جاء من أحدث نقلةً نوعيةً في منهج النقد بشروح وتنكيتات ومختصرات وتعقيبات، وأغلق باب الاجتهادات في الحكم على الأحاديث، والاكتفاء بأقوال المتقدمين، وبيان عجز المتأخرين،ألا وهو ابن الصلاح الشهرزوري، المتوفى سنة (643هجريًّا)، ومقدمته الشهيرة (مقدمة ابن الصلاح)، وظلت هذه المقدمة في المقدمة،إلى أن سقطت بغداد في منتصف القرن السادس هجريًّا، حيث أنجبت هذه الواقعة علماء كبار، مثل: الذهبي، والعراقي، وابن حجر، الذين قدَّموا لنا مؤلفات ومصنفات غاية في الروعة والإتقان، واحتجوا على ما جاءت به مقدمة ابن الصلاح.[10]
وبعد أن تطرقنا إلى المراحل التاريخية التي مرت بها حركة التدوين عند النقاد الذين ندرسهم ونسلط الضوء على دقيق مناهجهم, التي أدت لوصفهم بالتشدد والتساهل والاعتدال، وبداية مع من وصفوا بالتشدد، نعرف التشدُّد لغةً واصطلاحًا، ثم سنتعرف على أهم تلك المعايير التي نقيس بناءً عليها هذه الظواهر.
المبحث الثاني
تعريف التشدد لغةً واصطلاحا ومن ثم التعرف على الضوابط والمعايير لقياس ظاهرة التشدد التشدد في اللغة: أصله كلمة شدَّ، قال ابن فارس: "الشين والدال أصل واحد يدل على قوة في الشيء، وفروعه ترجع إليه، ومن ذلك شددت العقد أشده شدًّا، ومن الباب نفسه الشديد والمتشدد (البخيل)،[11] قال تعالى (وإنه لحب الخير لشديد)،[12] وهنا تدل اللغة على أن المتشدد في التوثيق كالبخيل الممسك المتشدد في الإنفاق.
التشدد اصطلاحًا: هو الإفراط في الجرح وغمز الراوي بالغلطة والغلطتين، وقد قسم الإمام الذهبي بناءً على ذلك النقاد إلى: متعنت في التوثيق، متثبت في التعديل، يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث، ويلين بذلك حديثه، فهذا الناقد إذا وثق أحدًا فعض على قوله بالنواجد وتمسك به، أما إذا ضعَّف أحدًا فانظر قبلًا هل وافقه غيره على تضعيفه، فإن وافقه ولم يوثق ذلك الرجل أحد من الحذاق إذا فهو ضعيف دون شك، وأما إذا وثقه ناقد آخر فهذا الذي قالوا فيه لا يقبل تجريحه إلا مفسرًا.[13]
أهم الضوابط والمعايير لقياس التشدد:
هناك بعض الضوابط والمعايير نستطيع من خلالها قياس تشدد النقاد، ولا يمكن لطالب العلم الوصول إليها إلا بالغوص عميقًا في مناهج المحدثين، لسبر أغوارها، فلكل ناقد خصيصة في منهجه، نستقصي من خلالها تشدده أو تساهله:
مخالفة جمهور النقاد في الحكم على الراوي.
بدايةً يجب على الناقد أن لا يخالف جمهور النقاد في الحكم على راوٍ بعينه، وخاصة إذا كان هذا الحكم غير مبني علي دليل وحجة قوية تدعم قوله وتفسر جرحه، فإذا حصل هذا الأمر من ناقد معين وخالف الجمهور؛ فهو دون شك ناقد متشدد، وتأصيل هذا الأمر إنما هو القياس على رواية الثقة التي يخالف فيها من هو أوثق منه، فعند حصول ذلك؛ نحكم علي هذه الرواية بالشذوذ.
التحامل على راوٍ بعينه:
أما الضابط الآخر هو أن لا يعرف عن الناقد تحامله على فئة معينة من الرواة, كما جاء عن صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي، ما نصه "الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي، لا أشك في دينه وورعه وتحريه فيما يقوله للناس، ولكنه غلب عليه مذهب الإثبات، ومنافرة التأويل، والغفلة عن التنزيه، حتى أثر ذلك في طبعه انحرافًا شديدًا عن أهل التنزيه، وميلًا قويًّا إلى أهل الإثبات؛ فإذا ترجم لواحد منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن، ويبالغ في وصفه، ويتغافل عن غلطاته، ويتأول له ما أمكن. وإذا ذكر أحدًا من الطرف الآخر كإمام الحرمين، والغزالي، ونحوهما، لا يبالغ في وصفه، ويكثر من قول من طعن فيه، ويعيد ذلك ويبديه، ويعتقده دينًا وهو لا يشعر، ويعرض عن محاسنهم الطافحة فلا يستوعبه، وإذا ظفر لأحد منهم بغلطة ذكرها".[14]
طعن الأقران بعضهم لبعض:
والضابط الآخر هو مراعاة طعن الأقران في بعضهم البعض، قال ابن حجر: "يحيى بن سعيد القطان شديد التعنت في الرجال لاسيما من كان من أقرانه,.."[15] فإذا ورد عن بعضهم طعنٌ في أقرانه، وجرحٌ بينٌ لهم، فإن هذا لا يعني وصف الناقد بالتشدُّد مطلقًا، فربما كان غير ذلك مع باقي الرواة.[16]
الطعن في الرواة الذين يخالفونهم في المذهب أو العقيدة:
ولعل من أبرز الضوابط التي تؤخذ بعين الاعتبار في هذا الشأن، طعن بعض العلماء لبعض الأئمة الذين يخالفونه في المذهب، مثل طعن ابن حبّان في الإمام أبي حنيفة، وابن معين في الشافعي، وهذه مسألة مهمة من مسائل الجرح والتعديل، ينبغي عدم التغافل عنها، وهي أن نتفقد عند الجرح حال الجارح والمجروح في العقائد، واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة، فجرحه لذلك، وإليه أشار الرافعي بقوله: "وينبغي أن يكون المزكّون برآء من الشحناء والعصبية في المذهب، خوفًا من أن يحملهم ذلك علي جرح أو عدل، أو تزكية فاسق[17], وأيضا التشدد في تجريح بعض أصحاب البدع ورد أحاديثهم، واتهامهم بالتشيع أو الإرجاء أو القول بخلق القران وغير ذلك، فبعض هؤلاء الرواة قبل روايتهم أئمة معتدلون، كالإمام البخاري، ومسلم، وباقي أصحاب الكتب الستة.
وأخيرًا يجب مراعاة ضابط مهم، وهو الظروف التي عاش فيها هؤلاء النقاد والعلماء، ففي عهد بعضهم نشط القصاص والزندقة، مما استدعى شدة التحري والتدقيق، ولا يؤخذ براوية من يشتبه في روايته، كعهد شعبة بن الحجاج وابن معين، على العكس من ذلك العهد الذي ألف فيه الحاكم كتابه المستدرك، وابن حبان كتابه الثقات.[18] ولقد بالغ بعض المتشددين في تجريح الرواة، حتى بلغ بهم الأمر أن قالوا بوجوب ابتعاد المحدث والشاهد عن كثير من الأمور التي تعد من المباحات، نحو التبذل، والجلوس للتنزه في الطرقات، والبول قائمًا، والانبساط إلى الخرق في المداعبة والمزاح، وأخذ الأجرة على التحديث،ويرون أن كل ما سبق منقصٌ للقدر والمروءة، ويُسقط العدالة أيضًا، وموجب لردِّ الشهادة.[19]
وبعد أن عرفنا التشدُّد وأهم المعايير التي يقاس بها، لابدَّ أن نعرف من هم النقاد المتشدِّدون، وسوف نقتصر فقط على أكثرهم شهرةً ومبالغةً في التشدد، وأقوال العلماء الذين وصفوهم بذلك، وبعض سمات وملامح هذا التشدد في نقدهم للرواة.
المبحث الثالث النقاد المتشددون الإمام شعبة بن الحجاج، وتكلم في تشدُّده كل من الحافظ بن حجر، والسخاوي.
يحيى بن سعيد القطان، وتكلم في تشدده علي بن المديني، والزيلعي، والذهبي، وابن حجر.
الإمام مالك، تكلم عن تشدده الجوزجاني، وسفيان بن عيينة، وذكره ابن حجر مع من تشدد.
الإمام أبو نعيم الفضل بن دكين، وصفه علي بن المديني بالتشدد.
الإمام عفان بن مسلم، أشار كل من علي بن المديني وأحمد بن حنبل إلى تشدده.
يحيى بن معين، وصفه كل من الذهبي، وابن حجر، وابن تيمية بالتشدد.
الإمام علي بن المديني، وصفه أبو زرعة الرازي بالتشدد.
أبو حاتم الرازي، ذكره كل من الذهبي وابن حجر مع المتشددين.
الجوزجاني نسبه كذلك الذهبي وابن حجر إلى التشدد.
الفسوي، أشار إلى تشدُّده أيضا الذهبي وابن حجر.
النسائي وصفه الذهبي بالتشدد.
أبو الفتح الأزدي كذلك نعته الذهبي بالتشدد.
ابن الخراش، وصفه الذهبي بالتشدد، وكذلك فعل السخاوي.
الساجي ذكر ابن حجر تشدده.
أبو الحسن بن القطان نعته الذهبي بالتشدد.
ابن حزم الظاهري أشار ابن حجر إلى تشدده.
العقيلي وصفه ابن حجر والذهبي بالتشدد.
ابن حبان أشار الذهبي إلى تشدده.
الدارقطني وصفه ابن حجر بالتعنت.[20]
وبعد ذكر النقاد الذين عرف عنهم التشدد نقوم بدراسة نماذج من هؤلاء النقاد:
نماذج لأشهر النقاد المتشددين:
1: شعبة بن الحجاج العتكي:
المكنى بأبي بسطام الأزدي العتكي، هو الإمام الحافظ أمير المؤمنين في الحديث، وعالم أهل البصرة، وشيخها، ابن الحجاج بن ورد، سكن البصرة، وقابل الحسن t، وأخذعنه، وتوفي رحمه الله سنة 160 هجرية.
أشهر شيوخه الذين حدث عنهم: أنس بن سيرين، قتادة بن دعامة، المنهال بن عمرو، عبيد بن الحسن، والحكم بن عتبة، وعمرو بن دينار، وأبي حمزة الضبعي، وعدي بن ثابت، وأيوب السختياني، وعمرو بن مرة، وخلق كثير غيرهم.[21]
أقوال من وصفوا الإمام شعبه بالتشدد:
أهم الأقوال التي وصفت تشدد الإمام شعبه: قال المزي في تهذيب الكمال، في ترجمة عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني: "..عن أبي سليمان؛ قرة بن سليمان الجهضمي، قال لي مالك: شعبتكم تشدد في الرجال"[22]، ولقد كان شعبة بن الحجاج أحد تلاميذ الإمام مالك، ولكن وفاته كانت قبله، وهذا النص هنا فيه دلالة واضحة على التأصيل المبكر لظاهرة التشدد عند النقاد، وإضافة لذلك عده البعض أول من تكلم في الرجال، حيث قال صالح بن محمد الحافظ كما في (شرح علل الترمذي) لابن رجب: "أول من تكلم في الرجال شعبة بن الحجاج، ثم تبعه يحيى بن سعيد القطان، ثم تبعه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين"[23]
وقد انتقد البعض شعبة وعده مبالغًا في تشدده في النقد، ولاسيما عند المتأخرين: روى أبو زرعة في الضعفاء عن ابن المبارك قال: "ما رأيت رجلًا أطعن في الرجال من شعبة"[24]
وكان شعبة قد ترك جملة من الرواة في عصره، فلم يروِ عنهم شيئًا، لأمور قد يكونون معذورين فيها عند غيره من النقاد، قال المعلمي: "وكانوا كثيرًا ما يبالغون في الاحتياط، حتى قيل لشعبة: لم تركتَ حديث فلان؟ قال: رأيته يركض على برذون[25]، وفي كتاب الكفاية في علم الرواية نجد الكثير من الأمثلة على مبالغة شعبة بن الحجاج، فمثلا: قال شعبة: "رأيت سماك ابن حرب يبول قائمًا فلم أكتب عنه"، وفي مثال آخر، يقول شعبة:"لقيت ناجية الذي روى عنه أبو إسحاق، فرأيته يلعب الشطرنج، فتركته فلم أكتب عنه، ثم كتبت عن رجل عنه."[26]، ويقول عنه أبو داود الطيالسي: "سمعت شعبة يقول سمعت من طلحة بن مصرف حديثًا واحدًا، وكنت كلما مررت به سألته عنه، فقيل لمّا يا أبا بسطام؟ قال أردت أن أنظر في حفظه، فإن غيَّر شيًئا تركته". وفي مثال آخر قيل لشعبة ما شأن حسام بن مصك؟ قال: رأيته يبول مستقبلًا القبلة. ويروي لنا ابن معين أن شعبة ترك الرواية عن أبي غالب؛ لأنه رآه يحدث في الشمس، وضعه شعبه على أنه تغير عقله.[27]
2- الإمام يحيى بن سعيد القطان:
هو يحيي بن سعيد بن فروخ، المكنى بأبي سعيد، مولاهم البصري الأحول القطان، أمير المؤمنين في الحديث، والإمام الكبير الحافظ، توفي سنة 198 هجريًّا.
أشهر شيوخه الذين سمع منهم وتأثر بهم فهم: شعبة، وسفيان الثوري، وعطاء بن السائب، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وسليمان الأعمش، وزكريا بن أبي زائدة، وعثمان بن الأسود المكي، وابن أبي عروبة، وفضيل بن غزوان، ومحمد بن عجلان، وعبد الرحمن بن حرملة الأسلمي، وعبد الملك بن أبي سليمان، وحجاج بن أبي عثمان الصواف، وخلقٌ كثير غيرهم.[28]
أما أشهر ما جاء في تشدد الإمام يحيى مقال الإمام علي بن المديني في تاريخ بغداد، حيث قال: "إذا اجتمع يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل، لم أحدث عنه، فإذا اختلفا أخذت بقول عبد الرحمن؛ لأنه أقصدهما، وكان في يحيى تشدد"[29]
ولقد تحدث الذهبي عن تشدد الإمام يحيى في عدة مواضع، من بينها ترجمة سفيان بن عيينة:[30]" وكرر هذا القول في ترجمته لعبد الرحمن بن عبد الله المدني: حدث عنه يحيى بن سعيد مع تعنته"[31]، وقال كذلك عنه في سير أعلام النبلاء:"كان يحيى بن سعيد متعنِّتًا في الرجال"[32]، وقال الذهبي كذلك في كتابه ميزان الاعتدال، وذلك في ترجمته لعبد الرحمن بن دينار المجني: "صالح الحديث وقد وثق، وحدث عنه يحيى بن سعيد مع تعنته في الرجال"[33]
وكذلك وصفه يحيى بن معين بالتشدد، خاصةً مع أقرانه حين قال عنه: "يحيى بن سعيد شديد التعنت في الرجال، لاسيما من كان من أقرانه"[34]، وجاءت كل هذه النصوص لتؤكد وصف الإمام يحيى بن معين بالتشدد باللفظ الصريح بعبارة "تشدد" و"تعنت"، أما عن أفعاله فقد قال عنه الذهبي في ترجمة أبي شهاب الحناط الصغير: "عبد ربه بن نافع، أبو شهاب الحناط، صدوق، في حفظه شيء"، وقال علي: "سمعت يحيى بن سعيد يقول: لم يكن أبو شهاب الحناط بالحافظ، ولم يرضَ يحيى أمره"[35].
وكذا في ترجمة حرب بن شداد: الإمام الثقة الحافظ أبو الخطاب اليشكري البصري، وثَّقه أحمد وغيره، وقال الفلاس: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه، قلت هذا من تعنُّت يحيى في الرجال، وله اجتهاده؛ فلقد كان حجة في نقد الرواة[36].
أهم مظاهر تشدد يحيى بن سعيد:
موقفه من محمد بن عمرو بن علقمة، يروي ذلك الإمام علي بن المديني، قال: سألت يحيى بن سعيد عن محمد بن عمرو بن علقمة، فقال: تريد العفو أو تشدد؟ فقلت: لا، بل أشدد، فقال: ليس هو ممن تريد، كان يقول: "أشياخنا أبو سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب"[37] وكان يحيى بن سعيد يعمد إلى ترك الرجال الذين يحدثون من حفظهم, الذين يجد لديهم اختلافًا بين قول وآخر، وحتى وان لم يتهمهم أحد النقاد بالكذب، ومسلكه هذا جعله يترك العديد من الرواة المعروفين الذين يحدث عنهم نقاد مثل وكيع بن الجرح، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن المبارك[38]. واتهم يحيى بن سعيد الصالحين والزهاد بعدم إجادة الحديث وإتقان الرواية، وهو بهذا يحذو حذو علي بن المديني، والإمام مسلم الذي ذكر في مقدمة صحيحه: "لن ترى في الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث".[39]
3- يحيي بن معين:
هو شيخ المحدثين يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام، المكنى بأبي زكريا، الإمام الحافظ الجهبد، ويقال أن جده غياث بن زياد بن عون بن بسطام الغطفاني ثم المري، مولاهم البغدادي، وولد سنة 158 هجريًّا، وكانت وفاته رحمة الله عليه سنة 233 هجريًّا.[40]
أما أشهر شيوخه الذين سمع منهم فهم: سفيان بن عيينة، ووكيع، وابن مهدي، وحاتم بن إسماعيل، وحفص بن غياث، وعباد بن عباد، وإسماعيل بن عياش، وهشام بن يوسف، وعيسى بن يونس، وابن المبارك، وهشيم، وعلي بن هاشم، ويحيى القطان، وسمع من خلق كثير من مختلف الأقطار والأمصار؛ من مصر، والحجاز، والشام، والعراق.
وقال في هذا الشأن ابن عبد البر: "كان ابن معين، عفا الله عنه، يطلق لسانه في أعراض الأئمة الثقات، وقوله في الشافعي: ليس بثقة، ولقد قيل لأحمد: إن يحيى بن معين يتكلم في الشافعي، فرد أحمد من أين يعرف يحيى الشافعي؟[41] وسبب تكلم الإمام يحيى بن معين في الشافعي هو أنه، وكما هو معروف، أن يحيى بن معين متعصب لمذهبه الحنفي، فكان شديدًا على من يخالف مذهبه.
ونص كذلك على تعنت الإمام يحيي بن معين الذهبيُّ في الموقظة، وهو يصنف النقاد، حيث قال: "فمنهم من نفسه حاد في الجرح، فالحاد فيهم يحيى بن سعيد، وابن معين، وأبو حاتم."[42]
والإمام يحيى بن معين قد بالغ في بعض الأحيان في تشدده في الرجال؛ فقد روى عنه الخطيب البغدادي قال: "أخبرني عبد الله بن يحيى السكري، قال أنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، قال ثنا جعفر بن الأزهر، قال أنا ابن الغلابي، قال وسئل يحيى، يعني ابن معين، عن حجاج بن الشاعر، فبزق لما سئل عنه"[43]، وعُدَّ موقفه هذا مغالاة في التشدد، ومن الجرح المبهم؛ لأنه لم يوضح سبب مسلكه هذا.
وهناك رواية أخرى تبرز تشددَ ابن معين، جاء على ذكرها كذلك الخطيب البغدادي، حيث قال: "أخبرني أبو بكر البرقاني، قال علي أحمد بن جعفر بن مالك، وأنا أسمع، حدَّثكم عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: قلت لأبي: إن يحيى بن معين يطعن على عامر بن صالح يقول ماذا؟ قلت رآه يسمع من حجاج، قال: قد رأيت أنا حجاجًا يسمع من هشيم، وهذا عيب، يسمع الرجل ممن هو أصغر منه وأكبر.[44]
يتبع
أ. هيام السيد نصير
د. فضلان عثمان[**]
ملخص البحث: تناولت هذه الدراسة مسألة مهمة من مسائل الجرح والتعديل، هي مسألة التشدد عند النقاد، وأهم المعايير والضوابط التي احتكمت لها، والأسباب التي كانت وراء ذلك، وتتبع الباحث حركة النقد نشأة وتطورا، وقامت هذه الدراسة أيضا على ذكر من اتصف من نقاد الجرح والتعديل بصفة التشدد، مع دراسة نماذج لأشهر النقاد المتشددين, وخلصت هذه الدراسة إلى أن مسألة التشدد لها رصيد في واقع النقاد في الجرح والتعديل, وتتفاوت من ناقد لآخر، كما وأن لها الأثر البالغ في الحكم على الرواة والمرويات.
الكلمات المفتاحية: النقاد، التشدد، الرواة.
Abstract This study addressed the important issue of the wound and the amendment issues, a matter of militancy when the critics, and the most important standards and controls that invoked it, and the reasons were behind it, and keep track of researcher movement of cash origins and evolution, and the study also mentioned characterized critics of the wound and the amendment in militancy , with study models not critics month militants this study and concluded that the issue of militancy have stock in the reality of the critics in the wound and the amendment and varies from critic to time, as though it's in judging the narrators and Almruyat impact.
Key words: the critics, militancy, narrators.
المقدمة: الحمد لله الذي شرح صدور أهل الإسلام إلى السنة فانقادت لاتباعها، وارتاحت لسماعها، وأمات نفوس أهل الطغيان بالبدعة، بعد أن تمادت في نزاعها، وتغالت في ابتداعها، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، العالم بانقياد الأفئدة وامتناعها، المطلع على ضمائر القلوب في حالتي افتراقها واجتماعها، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي انخفضت بحقه كلمة الباطل بعد ارتفاعها، واتصلت بإرساله أنوار الهدى، وظهرت حجتها بعد انقطاعها، e مادامت السماء والأرض هذه في سموها وهذه في اتساعها، وعلى آله وصحبه الذين كسروا جيوش المردة، وفتحوا حصون قلاعها، وهجروا في محبة داعيهم إلى الله الأوطار والأوطان، ولم يعاودوها بعد وداعها، وحفظوا على أتباعهم أقواله وأفعاله وأحواله, حتى أمنت بهم السنة الشريفة من ضياعها"[1].
لما كان الدين جاءنا من الله عز وجل، بواسطة رسوله الكريم e، بنقل الرواة، وجب علينا معرفتهم حق المعرفة ومعرفة أحوالهم، وإثبات الذين عرفناهم منهم بشرائط العدالة والتثبت في الرواية، ومن حكم عليه بالعدالة منهم, وجب أن يكونوا أمناء في أنفسهم، علماء بدينهم، أهل ورع وتقوى وحفظ وتثبت وإتقان، وأهل تمييز وتحصيل، لا تعتريهم الغفلات أو الأوهام فيما حفظوه ووعوه، ولذا اختلف هؤلاء الرواة بعضهم عن بعض، وتمايزوا عن غيرهم، فكانت الحاجة ماسة لمعرفة طبقاتهم ومقادير حالاتهم، وتباين درجاتهم، ليعرف كل منهم من كان في منزلة الجهبذة والنقد والتنقير، وخبيرًا في البحث عن الرجال, بصيرًا بأحوالهم، وهؤلاء هم أهل التزكية في الجرح والتعديل,[2]
ومن هذا المنطلق جاءت هذه الدراسة لتسلط الضوء على أحد أبرز الظواهر عند هؤلاء النقاد، وهي ظاهرة التشدد، ومن ثم تتبع الحركة التاريخية للنقد، نشأةً وتطورًا، والتطرق إلى أهم تلك الضوابط والمعايير التي نستطيع من خلالها قياس هذه الظاهرة، ومدى تفاوتها بين النقاد، وهل هذه الصفة ملازمة لهم في جميع أحوالهم؟ أم أنهم سلكوها في حالات خاصة,
منهجية البحث:
نظرا لطبيعة موضوع الدراسة والأهداف التي تسعى لتحقيقها، يتم استخدام المنهج الاستقرائي الانتقائي، بتتبع آراء أئمة الجرح والتعديل وأقوالهم من خلال:
1- استقراء نصوص الأئمة المتأخرين التي تحدثت عن هذه الظاهرة؛ كالإمام الذهبي في ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل، والموقظة, وميزان الاعتدال، والسخاوي في المتكلمون في الرجال، وابن حجر في النكت.
المبحث الأول تعريف النقد لغةً واصطلاحًا والحركة النقدية للمحدثين نشأةً وتطورًا النقد في اللغة: هو تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها، وكذا تمييز غيرها، ومثل هذا المصدر في مدلول التنقاد، والتنقد، من انتقد وتنقَّد الدراهم: أي ميَّز جيِّدَها من رديئها.[3]
النقد عند المحدثين: هو تمييز الأحاديث الصحيحة من الأخرى الضعيفة، ومن ثم بيان عللها، والحكم على رواتها.[4]
وبعد أن عرفنا ما هو النقد، نعرف بالناقد، ونبين الشروط التي يجب أن تتوفر فيه، ولعل أفضل من تكلم عن ذلك وجمع وأوعى, الإمام المعلمي اليماني.
شروط يجب أن تتوفر في الناقد:
قال المعلمي اليماني في هذا الشأن: "إن نقد الرواة ليس بالأمر الهين، فلابد للناقد أن يكون واسع الاطلاع على أخبار المرويات، عارفًا بأحوال الرواة السابقين وطرق روايتهم، وخبيرًا بعاداتهم ومقاصدهم وأغراضهم، والأسباب التي دعت بعض الرواة إلى التساهل والكذب التي من شأنها الوقوع في الزلل والخطأ، ومن ثم يجب أن يعرف عن الراوي أدق خواصه، متى ولد؟ وفي أي بلد؟, وكيف هو في الدين والأمانة والمروءة والعقل والتحفظ؟ ومتى بدأ في طلب العلم؟ وممن سمع؟, ومع من؟, وكيف هي كتابته؟, ويجب أيضًا أن يكون ملمًّا وعارفًا بأحوال مشايخه الذين يروي عنهم؛ بلدانهم، ووفياتهم، وعاداتهم في الحديث، وأوقات تحديثهم، ومرويات الناس عنهم، ويقارنها بمرويات هذا الراوي، وعليه أن يتسم بالمهارة، ويكون متيقظ الذهن، صافي الفهم، ولا يستخفه بادر ذي ظن، وأخيرًا يحسن تطبيق أحكامه فلا يقصر ولا يجاوز، ولا شك في أن هذه المنزلة بعيدة المنال، لم يبلغها إلا الأفذاذ".[5]
بعد أن عرفنا من هو الناقد، والصورة التي يجب أن يكون عليها، لابد أن نعرج على المراحل التاريخية للحركة النقدية، وأشهر مادوِّن فيها من مؤلفات تخص هذا الفن.
مراحل النقد عند المحدثين: بداية من النشأة والظهور، ومرورًا بالتدوين والمصنفات:
المرحلة الأولى:
هي تلك الحقبة التي سبقت ظهور الفتن والبدع التي شتتت المجتمع الإسلامي الواحد، ظهر النقد ولكن كان العامل الوحيد وراء ظهوره هو ما جبل عليه الإنسان من الخطأ، والنسيان، والأوهام التي قد تقع لبعض الرواة حينها.
المرحلة الثانية:
تزامنت هذه الحقبة مع ظهور الفتن والبدع، والعامل الأكبر وراء نشاط الحركة النقدية هو الكذب[6] والوضع، وكانت أبرز تلك الفتن, الفتنة الكبرى، وهي مقتل عثمان t، التي استغلها بعض أصحاب الأغراض والأهواء السياسية والدينية لأغراضهم الخاصة، ومن هنا تبلور المنهج النقدي لمواجهة الزيف، وفضح أصحابه، وما كنا لنشهد على ذلك العصر, لولا أن هيَّأ الله لذلك رجالًا من كل الأمصار من عهد التابعين إلى تابعي تابعيهم، يأخذ كل واحد منهم ما عند شيخه، ويضيف إليه ما أوصلته إليه خبرته، فتجمعت مادة علمية غزيرة في الحديث عن الرواة والمرويات, إلى أن وصل الأمر إلى نقادنا وشيوخنا, الذين دوَّنوا في ذلك المصنفات المستقلة، مثل: يحيي بن معين، والبخاري، وأبي حاتم الرازي، وغيرهم.
المرحلة التمهيدية:
تتمثل هذه المرحلة في بدايات تدوين علوم الحديث، واقتصر ما دونوه فقط الاستدراكات، وملاحظات، وتصويبات تدون بهوامش المرويات، وفوائد يلتقطها طلبة العلم من شيوخهم، وتعد هذه المرحلة اللبنة الأولى لظهور ما يعرف بالمسانيد المعللة.
1- مرحلة المسانيد المعللة:
وتشمل هذه المرحلة المسانيد المعللة التي تعد أول مراحل ظهور علوم الحديث، ونشأتها، وهي كانت خليطًا من عدة معارف حديثية متنوعة، فقد حوت علومًا مثل: توثيق الرواة وتضعيفهم، وبيان الوفاة، وضبط الغريب، وبيان المشكل، وتوضيح الكنية، والنسب، والموطن، إلى غير ذلك. ثم نمت بعض الشيء وبدأت بالانفصال تدريجيًّا عن كتب الحديث، لتأخذ مسمياتٍ خاصةً، مثل كتب السؤالات، وفي الغالب كان طابع التدوين في هذه الفترة هو ما جمعه طلاب العلم من شيوخهم، وهذه العلوم جمعها هؤلاء الشيوخ هم كذلك من شيوخهم، بعد أن أضافوا إليها ما فتح الله به عليهم من علوم الحديث، وهكذا استمر الحال من طبقة إلى أخرى.
2- مرحلة كتب النقاد:
تشمل هذه المرحلة كتب النقاد، أو ما جمعوه من روايات، وإن اختلفت مسمياتهم، فهي تدور في فلك واحد، وهو كل ما يتعلق بعلوم الحديث، من نقد للرجال، وعلل للأحاديث، وهذان العلمان متلازمان دون شك، ونرى ذلك واضحًا في مؤلفات الامام أحمد بن حنبل، والإمام علي بن المديني[7]، فروايات الإمام أحمد أخذت عدة مسميات، هي: (التاريخ والعلل ومعرفة الرجال)،أما عن الإمام علي بن المديني فكانت (العلل، المسند بعلله، التاريخ)، وبالرغم من ذلك فقد ظهرت العديد من الكتب المتخصصة، تناولت عدة فنون في هذا العلم مثل: الأسماء والكنى، والمدلسون والضعفاء، وكتب في الوهم والغرائب، وبعض الأجزاء المستقلة في علل لشيوخ معينين، مثل: العلل لعلي بن المديني, ولعل أحسن ما صنف في تلك الفترة ترتيبًا وتناسقًا كتاب الطبقات (طبقات ابن سعد)، الذي يعد من المصادر الأولى في علم الجرح والتعديل وعلم الرجال، ولعله من الكتب التاريخية، فالتاريخ في ذلك الوقت اقتصر على علم الرجال والنقد، إضافة للسير والمغازي، وبعد ذلك تطور ليحوي فقط الوقائع التاريخية، ولقد جاء هذا المصنف في تسعة مجلدات، ثم توالت المصنفات تحت مسمى التاريخ، حيث سمى كل من الدارمي والدوري روايتيهما عن يحيى بن معين باسم التاريخ، وكذلك أبو بكر بن أبي شيبة، سمى كتابه في الرجال والجرح والتعديل باسم التاريخ، وكذلك الإمام خليفة بن خياط العصفري، له كتاب في التاريخ والطبقات، وأيضا الإمام البخاري له التاريخ الكبير والأوسط والصغير.[8]
وكان للمؤلفات في الجرح والتعديل والعلل اتجاهان بارزان:
الاتجاه الأول، وهو المؤلفات التي تحوي تراجم الرجال مصحوبة بمراتبهم وعلل الأحاديث، والمؤلفات التي ذكرناها سابقًا خير مثال لهذا الاتجاه.
الاتجاه الثاني يمثل عرض الأحاديث التي تشوبها العلل بتفاصيل أكثر لأحوال الرجال، ومواطنهم، ومراتبهم في الجرح والتعديل، وهذا ما يمثل المسانيد المعللة، ولعل مسند يعقوب بن شيبة السدوسي خير مثال لذلك.
المرحلة الثالثة:
وهي مرحلة مؤلفات الشيخ أبي حاتم الرازي، الذي جمع المؤلفات التي وصلت إليه، فهذبها ونقحها، وأضاف إليها، وفصل بين علم العلل، ونقد الرجال، بعد أن كانا متداخلين مع بعضهما البعض، فكان كتابه الجرح والتعديل الأنموذج الذي يحتذى به، والمرجع الأول لطلاب العلم كافةً، ولا غنى لهم عنه، ولقد استمد أبو حاتم الرازي كتابه هذا، واعتمد بشكل مباشر على تاريخ البخاري، بعد أن جرده من علله، وجعلها في كتاب مستقل سماه علل الحديث، واقتدى به كل من البزار في مسنده، والترمذي في العلل الكبير والصغير, أما عن المنهج النقدي في حد ذاته، فلربما كانت أولى تباشيره مع الإمام الشافعي، وكتابه الرسالة، حيث سجل به ملحوظات ذات أهمية بالغة، ولكنها جاءت مقرونة بأصول الفقه، وهو منهج استدلالي فصل كيفية تفسير النص عند علماء ذلك العصر، إضافة إلى كيفية التعامل مع المرويات من حيث الصحة والضعف، ولعل أول مصنف خاص منفرد في منهج النقد الحديثي هو (المحدث الفاصل) للرامهرمزي المتوفى سنة (360 هجريًّا)، ومن ثم كتاب (علوم الحديث) للحاكم النيسابوري، المتوفى (405 هجريًّا)، ومن ثم برزت العديد من المؤلفات، ولكن الخطيب البغدادي حاز قصب السبق وكان الأبرز من بينهم.[9]
وبعدها جاء من أحدث نقلةً نوعيةً في منهج النقد بشروح وتنكيتات ومختصرات وتعقيبات، وأغلق باب الاجتهادات في الحكم على الأحاديث، والاكتفاء بأقوال المتقدمين، وبيان عجز المتأخرين،ألا وهو ابن الصلاح الشهرزوري، المتوفى سنة (643هجريًّا)، ومقدمته الشهيرة (مقدمة ابن الصلاح)، وظلت هذه المقدمة في المقدمة،إلى أن سقطت بغداد في منتصف القرن السادس هجريًّا، حيث أنجبت هذه الواقعة علماء كبار، مثل: الذهبي، والعراقي، وابن حجر، الذين قدَّموا لنا مؤلفات ومصنفات غاية في الروعة والإتقان، واحتجوا على ما جاءت به مقدمة ابن الصلاح.[10]
وبعد أن تطرقنا إلى المراحل التاريخية التي مرت بها حركة التدوين عند النقاد الذين ندرسهم ونسلط الضوء على دقيق مناهجهم, التي أدت لوصفهم بالتشدد والتساهل والاعتدال، وبداية مع من وصفوا بالتشدد، نعرف التشدُّد لغةً واصطلاحًا، ثم سنتعرف على أهم تلك المعايير التي نقيس بناءً عليها هذه الظواهر.
المبحث الثاني
تعريف التشدد لغةً واصطلاحا ومن ثم التعرف على الضوابط والمعايير لقياس ظاهرة التشدد التشدد في اللغة: أصله كلمة شدَّ، قال ابن فارس: "الشين والدال أصل واحد يدل على قوة في الشيء، وفروعه ترجع إليه، ومن ذلك شددت العقد أشده شدًّا، ومن الباب نفسه الشديد والمتشدد (البخيل)،[11] قال تعالى (وإنه لحب الخير لشديد)،[12] وهنا تدل اللغة على أن المتشدد في التوثيق كالبخيل الممسك المتشدد في الإنفاق.
التشدد اصطلاحًا: هو الإفراط في الجرح وغمز الراوي بالغلطة والغلطتين، وقد قسم الإمام الذهبي بناءً على ذلك النقاد إلى: متعنت في التوثيق، متثبت في التعديل، يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث، ويلين بذلك حديثه، فهذا الناقد إذا وثق أحدًا فعض على قوله بالنواجد وتمسك به، أما إذا ضعَّف أحدًا فانظر قبلًا هل وافقه غيره على تضعيفه، فإن وافقه ولم يوثق ذلك الرجل أحد من الحذاق إذا فهو ضعيف دون شك، وأما إذا وثقه ناقد آخر فهذا الذي قالوا فيه لا يقبل تجريحه إلا مفسرًا.[13]
أهم الضوابط والمعايير لقياس التشدد:
هناك بعض الضوابط والمعايير نستطيع من خلالها قياس تشدد النقاد، ولا يمكن لطالب العلم الوصول إليها إلا بالغوص عميقًا في مناهج المحدثين، لسبر أغوارها، فلكل ناقد خصيصة في منهجه، نستقصي من خلالها تشدده أو تساهله:
مخالفة جمهور النقاد في الحكم على الراوي.
بدايةً يجب على الناقد أن لا يخالف جمهور النقاد في الحكم على راوٍ بعينه، وخاصة إذا كان هذا الحكم غير مبني علي دليل وحجة قوية تدعم قوله وتفسر جرحه، فإذا حصل هذا الأمر من ناقد معين وخالف الجمهور؛ فهو دون شك ناقد متشدد، وتأصيل هذا الأمر إنما هو القياس على رواية الثقة التي يخالف فيها من هو أوثق منه، فعند حصول ذلك؛ نحكم علي هذه الرواية بالشذوذ.
التحامل على راوٍ بعينه:
أما الضابط الآخر هو أن لا يعرف عن الناقد تحامله على فئة معينة من الرواة, كما جاء عن صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي، ما نصه "الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي، لا أشك في دينه وورعه وتحريه فيما يقوله للناس، ولكنه غلب عليه مذهب الإثبات، ومنافرة التأويل، والغفلة عن التنزيه، حتى أثر ذلك في طبعه انحرافًا شديدًا عن أهل التنزيه، وميلًا قويًّا إلى أهل الإثبات؛ فإذا ترجم لواحد منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن، ويبالغ في وصفه، ويتغافل عن غلطاته، ويتأول له ما أمكن. وإذا ذكر أحدًا من الطرف الآخر كإمام الحرمين، والغزالي، ونحوهما، لا يبالغ في وصفه، ويكثر من قول من طعن فيه، ويعيد ذلك ويبديه، ويعتقده دينًا وهو لا يشعر، ويعرض عن محاسنهم الطافحة فلا يستوعبه، وإذا ظفر لأحد منهم بغلطة ذكرها".[14]
طعن الأقران بعضهم لبعض:
والضابط الآخر هو مراعاة طعن الأقران في بعضهم البعض، قال ابن حجر: "يحيى بن سعيد القطان شديد التعنت في الرجال لاسيما من كان من أقرانه,.."[15] فإذا ورد عن بعضهم طعنٌ في أقرانه، وجرحٌ بينٌ لهم، فإن هذا لا يعني وصف الناقد بالتشدُّد مطلقًا، فربما كان غير ذلك مع باقي الرواة.[16]
الطعن في الرواة الذين يخالفونهم في المذهب أو العقيدة:
ولعل من أبرز الضوابط التي تؤخذ بعين الاعتبار في هذا الشأن، طعن بعض العلماء لبعض الأئمة الذين يخالفونه في المذهب، مثل طعن ابن حبّان في الإمام أبي حنيفة، وابن معين في الشافعي، وهذه مسألة مهمة من مسائل الجرح والتعديل، ينبغي عدم التغافل عنها، وهي أن نتفقد عند الجرح حال الجارح والمجروح في العقائد، واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة، فجرحه لذلك، وإليه أشار الرافعي بقوله: "وينبغي أن يكون المزكّون برآء من الشحناء والعصبية في المذهب، خوفًا من أن يحملهم ذلك علي جرح أو عدل، أو تزكية فاسق[17], وأيضا التشدد في تجريح بعض أصحاب البدع ورد أحاديثهم، واتهامهم بالتشيع أو الإرجاء أو القول بخلق القران وغير ذلك، فبعض هؤلاء الرواة قبل روايتهم أئمة معتدلون، كالإمام البخاري، ومسلم، وباقي أصحاب الكتب الستة.
وأخيرًا يجب مراعاة ضابط مهم، وهو الظروف التي عاش فيها هؤلاء النقاد والعلماء، ففي عهد بعضهم نشط القصاص والزندقة، مما استدعى شدة التحري والتدقيق، ولا يؤخذ براوية من يشتبه في روايته، كعهد شعبة بن الحجاج وابن معين، على العكس من ذلك العهد الذي ألف فيه الحاكم كتابه المستدرك، وابن حبان كتابه الثقات.[18] ولقد بالغ بعض المتشددين في تجريح الرواة، حتى بلغ بهم الأمر أن قالوا بوجوب ابتعاد المحدث والشاهد عن كثير من الأمور التي تعد من المباحات، نحو التبذل، والجلوس للتنزه في الطرقات، والبول قائمًا، والانبساط إلى الخرق في المداعبة والمزاح، وأخذ الأجرة على التحديث،ويرون أن كل ما سبق منقصٌ للقدر والمروءة، ويُسقط العدالة أيضًا، وموجب لردِّ الشهادة.[19]
وبعد أن عرفنا التشدُّد وأهم المعايير التي يقاس بها، لابدَّ أن نعرف من هم النقاد المتشدِّدون، وسوف نقتصر فقط على أكثرهم شهرةً ومبالغةً في التشدد، وأقوال العلماء الذين وصفوهم بذلك، وبعض سمات وملامح هذا التشدد في نقدهم للرواة.
المبحث الثالث النقاد المتشددون الإمام شعبة بن الحجاج، وتكلم في تشدُّده كل من الحافظ بن حجر، والسخاوي.
يحيى بن سعيد القطان، وتكلم في تشدده علي بن المديني، والزيلعي، والذهبي، وابن حجر.
الإمام مالك، تكلم عن تشدده الجوزجاني، وسفيان بن عيينة، وذكره ابن حجر مع من تشدد.
الإمام أبو نعيم الفضل بن دكين، وصفه علي بن المديني بالتشدد.
الإمام عفان بن مسلم، أشار كل من علي بن المديني وأحمد بن حنبل إلى تشدده.
يحيى بن معين، وصفه كل من الذهبي، وابن حجر، وابن تيمية بالتشدد.
الإمام علي بن المديني، وصفه أبو زرعة الرازي بالتشدد.
أبو حاتم الرازي، ذكره كل من الذهبي وابن حجر مع المتشددين.
الجوزجاني نسبه كذلك الذهبي وابن حجر إلى التشدد.
الفسوي، أشار إلى تشدُّده أيضا الذهبي وابن حجر.
النسائي وصفه الذهبي بالتشدد.
أبو الفتح الأزدي كذلك نعته الذهبي بالتشدد.
ابن الخراش، وصفه الذهبي بالتشدد، وكذلك فعل السخاوي.
الساجي ذكر ابن حجر تشدده.
أبو الحسن بن القطان نعته الذهبي بالتشدد.
ابن حزم الظاهري أشار ابن حجر إلى تشدده.
العقيلي وصفه ابن حجر والذهبي بالتشدد.
ابن حبان أشار الذهبي إلى تشدده.
الدارقطني وصفه ابن حجر بالتعنت.[20]
وبعد ذكر النقاد الذين عرف عنهم التشدد نقوم بدراسة نماذج من هؤلاء النقاد:
نماذج لأشهر النقاد المتشددين:
1: شعبة بن الحجاج العتكي:
المكنى بأبي بسطام الأزدي العتكي، هو الإمام الحافظ أمير المؤمنين في الحديث، وعالم أهل البصرة، وشيخها، ابن الحجاج بن ورد، سكن البصرة، وقابل الحسن t، وأخذعنه، وتوفي رحمه الله سنة 160 هجرية.
أشهر شيوخه الذين حدث عنهم: أنس بن سيرين، قتادة بن دعامة، المنهال بن عمرو، عبيد بن الحسن، والحكم بن عتبة، وعمرو بن دينار، وأبي حمزة الضبعي، وعدي بن ثابت، وأيوب السختياني، وعمرو بن مرة، وخلق كثير غيرهم.[21]
أقوال من وصفوا الإمام شعبه بالتشدد:
أهم الأقوال التي وصفت تشدد الإمام شعبه: قال المزي في تهذيب الكمال، في ترجمة عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني: "..عن أبي سليمان؛ قرة بن سليمان الجهضمي، قال لي مالك: شعبتكم تشدد في الرجال"[22]، ولقد كان شعبة بن الحجاج أحد تلاميذ الإمام مالك، ولكن وفاته كانت قبله، وهذا النص هنا فيه دلالة واضحة على التأصيل المبكر لظاهرة التشدد عند النقاد، وإضافة لذلك عده البعض أول من تكلم في الرجال، حيث قال صالح بن محمد الحافظ كما في (شرح علل الترمذي) لابن رجب: "أول من تكلم في الرجال شعبة بن الحجاج، ثم تبعه يحيى بن سعيد القطان، ثم تبعه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين"[23]
وقد انتقد البعض شعبة وعده مبالغًا في تشدده في النقد، ولاسيما عند المتأخرين: روى أبو زرعة في الضعفاء عن ابن المبارك قال: "ما رأيت رجلًا أطعن في الرجال من شعبة"[24]
وكان شعبة قد ترك جملة من الرواة في عصره، فلم يروِ عنهم شيئًا، لأمور قد يكونون معذورين فيها عند غيره من النقاد، قال المعلمي: "وكانوا كثيرًا ما يبالغون في الاحتياط، حتى قيل لشعبة: لم تركتَ حديث فلان؟ قال: رأيته يركض على برذون[25]، وفي كتاب الكفاية في علم الرواية نجد الكثير من الأمثلة على مبالغة شعبة بن الحجاج، فمثلا: قال شعبة: "رأيت سماك ابن حرب يبول قائمًا فلم أكتب عنه"، وفي مثال آخر، يقول شعبة:"لقيت ناجية الذي روى عنه أبو إسحاق، فرأيته يلعب الشطرنج، فتركته فلم أكتب عنه، ثم كتبت عن رجل عنه."[26]، ويقول عنه أبو داود الطيالسي: "سمعت شعبة يقول سمعت من طلحة بن مصرف حديثًا واحدًا، وكنت كلما مررت به سألته عنه، فقيل لمّا يا أبا بسطام؟ قال أردت أن أنظر في حفظه، فإن غيَّر شيًئا تركته". وفي مثال آخر قيل لشعبة ما شأن حسام بن مصك؟ قال: رأيته يبول مستقبلًا القبلة. ويروي لنا ابن معين أن شعبة ترك الرواية عن أبي غالب؛ لأنه رآه يحدث في الشمس، وضعه شعبه على أنه تغير عقله.[27]
2- الإمام يحيى بن سعيد القطان:
هو يحيي بن سعيد بن فروخ، المكنى بأبي سعيد، مولاهم البصري الأحول القطان، أمير المؤمنين في الحديث، والإمام الكبير الحافظ، توفي سنة 198 هجريًّا.
أشهر شيوخه الذين سمع منهم وتأثر بهم فهم: شعبة، وسفيان الثوري، وعطاء بن السائب، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وسليمان الأعمش، وزكريا بن أبي زائدة، وعثمان بن الأسود المكي، وابن أبي عروبة، وفضيل بن غزوان، ومحمد بن عجلان، وعبد الرحمن بن حرملة الأسلمي، وعبد الملك بن أبي سليمان، وحجاج بن أبي عثمان الصواف، وخلقٌ كثير غيرهم.[28]
أما أشهر ما جاء في تشدد الإمام يحيى مقال الإمام علي بن المديني في تاريخ بغداد، حيث قال: "إذا اجتمع يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل، لم أحدث عنه، فإذا اختلفا أخذت بقول عبد الرحمن؛ لأنه أقصدهما، وكان في يحيى تشدد"[29]
ولقد تحدث الذهبي عن تشدد الإمام يحيى في عدة مواضع، من بينها ترجمة سفيان بن عيينة:[30]" وكرر هذا القول في ترجمته لعبد الرحمن بن عبد الله المدني: حدث عنه يحيى بن سعيد مع تعنته"[31]، وقال كذلك عنه في سير أعلام النبلاء:"كان يحيى بن سعيد متعنِّتًا في الرجال"[32]، وقال الذهبي كذلك في كتابه ميزان الاعتدال، وذلك في ترجمته لعبد الرحمن بن دينار المجني: "صالح الحديث وقد وثق، وحدث عنه يحيى بن سعيد مع تعنته في الرجال"[33]
وكذلك وصفه يحيى بن معين بالتشدد، خاصةً مع أقرانه حين قال عنه: "يحيى بن سعيد شديد التعنت في الرجال، لاسيما من كان من أقرانه"[34]، وجاءت كل هذه النصوص لتؤكد وصف الإمام يحيى بن معين بالتشدد باللفظ الصريح بعبارة "تشدد" و"تعنت"، أما عن أفعاله فقد قال عنه الذهبي في ترجمة أبي شهاب الحناط الصغير: "عبد ربه بن نافع، أبو شهاب الحناط، صدوق، في حفظه شيء"، وقال علي: "سمعت يحيى بن سعيد يقول: لم يكن أبو شهاب الحناط بالحافظ، ولم يرضَ يحيى أمره"[35].
وكذا في ترجمة حرب بن شداد: الإمام الثقة الحافظ أبو الخطاب اليشكري البصري، وثَّقه أحمد وغيره، وقال الفلاس: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه، قلت هذا من تعنُّت يحيى في الرجال، وله اجتهاده؛ فلقد كان حجة في نقد الرواة[36].
أهم مظاهر تشدد يحيى بن سعيد:
موقفه من محمد بن عمرو بن علقمة، يروي ذلك الإمام علي بن المديني، قال: سألت يحيى بن سعيد عن محمد بن عمرو بن علقمة، فقال: تريد العفو أو تشدد؟ فقلت: لا، بل أشدد، فقال: ليس هو ممن تريد، كان يقول: "أشياخنا أبو سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب"[37] وكان يحيى بن سعيد يعمد إلى ترك الرجال الذين يحدثون من حفظهم, الذين يجد لديهم اختلافًا بين قول وآخر، وحتى وان لم يتهمهم أحد النقاد بالكذب، ومسلكه هذا جعله يترك العديد من الرواة المعروفين الذين يحدث عنهم نقاد مثل وكيع بن الجرح، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن المبارك[38]. واتهم يحيى بن سعيد الصالحين والزهاد بعدم إجادة الحديث وإتقان الرواية، وهو بهذا يحذو حذو علي بن المديني، والإمام مسلم الذي ذكر في مقدمة صحيحه: "لن ترى في الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث".[39]
3- يحيي بن معين:
هو شيخ المحدثين يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام، المكنى بأبي زكريا، الإمام الحافظ الجهبد، ويقال أن جده غياث بن زياد بن عون بن بسطام الغطفاني ثم المري، مولاهم البغدادي، وولد سنة 158 هجريًّا، وكانت وفاته رحمة الله عليه سنة 233 هجريًّا.[40]
أما أشهر شيوخه الذين سمع منهم فهم: سفيان بن عيينة، ووكيع، وابن مهدي، وحاتم بن إسماعيل، وحفص بن غياث، وعباد بن عباد، وإسماعيل بن عياش، وهشام بن يوسف، وعيسى بن يونس، وابن المبارك، وهشيم، وعلي بن هاشم، ويحيى القطان، وسمع من خلق كثير من مختلف الأقطار والأمصار؛ من مصر، والحجاز، والشام، والعراق.
وقال في هذا الشأن ابن عبد البر: "كان ابن معين، عفا الله عنه، يطلق لسانه في أعراض الأئمة الثقات، وقوله في الشافعي: ليس بثقة، ولقد قيل لأحمد: إن يحيى بن معين يتكلم في الشافعي، فرد أحمد من أين يعرف يحيى الشافعي؟[41] وسبب تكلم الإمام يحيى بن معين في الشافعي هو أنه، وكما هو معروف، أن يحيى بن معين متعصب لمذهبه الحنفي، فكان شديدًا على من يخالف مذهبه.
ونص كذلك على تعنت الإمام يحيي بن معين الذهبيُّ في الموقظة، وهو يصنف النقاد، حيث قال: "فمنهم من نفسه حاد في الجرح، فالحاد فيهم يحيى بن سعيد، وابن معين، وأبو حاتم."[42]
والإمام يحيى بن معين قد بالغ في بعض الأحيان في تشدده في الرجال؛ فقد روى عنه الخطيب البغدادي قال: "أخبرني عبد الله بن يحيى السكري، قال أنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، قال ثنا جعفر بن الأزهر، قال أنا ابن الغلابي، قال وسئل يحيى، يعني ابن معين، عن حجاج بن الشاعر، فبزق لما سئل عنه"[43]، وعُدَّ موقفه هذا مغالاة في التشدد، ومن الجرح المبهم؛ لأنه لم يوضح سبب مسلكه هذا.
وهناك رواية أخرى تبرز تشددَ ابن معين، جاء على ذكرها كذلك الخطيب البغدادي، حيث قال: "أخبرني أبو بكر البرقاني، قال علي أحمد بن جعفر بن مالك، وأنا أسمع، حدَّثكم عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: قلت لأبي: إن يحيى بن معين يطعن على عامر بن صالح يقول ماذا؟ قلت رآه يسمع من حجاج، قال: قد رأيت أنا حجاجًا يسمع من هشيم، وهذا عيب، يسمع الرجل ممن هو أصغر منه وأكبر.[44]
يتبع