ابو وليد البحيرى
2019-09-24, 09:26 PM
مقاصد النهي في البيوع المحرمة
د. جميل يوسف زريوا
ملخص البحث:
توصلت في هذا البحث إلى أن البيوع المحرمة يرجع مقاصد النهي عنها إلى أربعة أمور: ما نهي عنه لكونه من وسائل الشرك, فقد نهي عن بيع الأصنام حفظا لجانب التوحيد, (فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ), وما نهي عنه لكونه يتضمن ضررا للبائع أو المشتري, كما في بيع الثمار قبل بدو صلاحها, وتلقي الركبان, وما نهي عنه لتضمنه غررا ومخاطرة, كما في بيع الملامسة والمنابذة وحبل الحبلة, وما نهي عنه لكونه من وسائل الربا, وأكل أموال الناس بالباطل, فقد نهي عن بيع العينة والمزابنة, لإفضائهما إلى الربا, وهذا يدل على حسن الشريعة ومراعاتها مصالح العباد, ودرئها ما يضرهم, والشريعة كلها محاسن وجلب للمصالح, ودرء للمفاسد.
Abstract:
From this research, I arrived at the conclusion that the main objectives behind the prohibition of some business transactions can be classified into four: that which was prohibited because it is among the avenues to polytheism, thus selling idols was prohibited in order to preserve Islamic monotheism..that which was prohibited because it is harmful to the seller or buyer as in the case of selling crops before they show sign of ripeness, and, that which was prohibited because of high risk and danger as in the case of trade of Mulamasa, Munabadha, and trade of Habalu Alhabala. that which was prohibited because it is among the avenues to usury and embezzlement, thus trade of Al'eena and Al-muzabana were prohibited because they lead to usury. All these show the beauty of the Sharia and its consideration for the benefits of the people and their protection from harm. The sharia in its entirety is full of goodness, benefits and protection against harm.
المقدمة:
الحمد لله الذي انفرد بالتحليل والتحريم لتحقيق مصالح العباد, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, الذي اعتبر المقاصد في كل أقواله وأفعاله, أما بعد, فلا يستطيع الإنسان العيش بدون التعامل والتعاون مع الآخرين، فالإنسان بمفرده لا يستطيع توفير حاجياته من الغذاء والكساء وبناء البيت وغيرها، وقد يجنح بمقتضى حاجته الملحة إلى أخذ ما في يد الغير عن طريق المغالبة أو المقاهرة، أو يلجأ إلى السؤال وتكفف أيدي الناس، وفي ذلك من المفاسد العظام ما لا يخفى، ومن الذل والصغار ما لا يقدر عليه الإنسان, ويعتبر البيع في الجملة من الأمور الحاجية, وقد يرقى البيع إلى الأمور الضرورية عند ما يؤدي عدمه إلى فوات أصل من الأصول الخمسة، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال[1], فالأصل في البيوع الجواز إلا ما حرّمه الشارع، بخلاف العبادات فالأصل فيها المنع إلا ما دلّ الدليل على مشروعيته؛ لأن الشارع يسد باب البدعة, والبيوع مع أن الأصل فيها الإباحة إلا أنه ورد على بعض أجناسها وأنواعها نواهٍ كثيرة, مما يجب على المسلم معرفته, ومعرفة مقاصد النهي في هذه البيوع مما يساعد على فهمها وتطبيقها بشكل صحيح, فمقاصد الشريعة هي سر التشريع, وبها يوقف على المفاسد التي أرادها الشارع من مناهيه.
وقد أردت في هذه الأوراق أن أبين بعض مقاصد النهي في البيوع المحرمة, وليس القصد هو الاستقراء ولا البسط, ولكن الإشارة إلى أهمها, لأن الاستيفاء غير ممكن, لطبيعة البحث.
أهمية الموضوع وأسباب اختياره
كون هذا الموضوع يتعلق بمقاصد الشريعة, وهو مما يحتاج إليه لمعرفة ما تتضمنه نواهي الشارع من أسرار ومصالح وحِكم.
بدراسة هذا العلم يتعرّف على حلّ مشكلات العالم وفق الضوابط المقرّرة, الموافقة للفطر السليمة والعقول الصحيحة.
حاجة المكتبة الإسلامية إلى مزيد من الدراسات المقاصدية، لاسيما فيما يتعلق بمقاصد المعاملات المحرمة، ولعل هذه الدراسة تضيف جديدا أو تسد فراغا.
كون الناس بأجمعهم محتاجون إلى البيع والشراء لقضاء أوطارهم, فمعرفة ما حرم منها من الضرورة بمكان, والعلم بمقاصدها يُسهل تطبيقها.
خطة البحث:
وتتضمن مقدمة وتمهيد وأربعة وعشرين مطلبا وخاتمة وفهارس.
المقدمة: وتتضمن الافتتاحية وأسباب اختيار الموضوع ومنهجي في البحث.
التمهيد: ويتضمن ثلاثة فروع:
الفرع الأول: تعريف مقاصد الشريعة الإسلامية.
الفرع الثاني: الفائدة من دراسة علم المقاصد.
الفرع الثالث: تعريف البيوع المحرمة.
المطلب الأول: مقاصد النهي عن بيع الرجل ما ليس عنده.
المطلب الثاني: مقاصد النهي عن تلقي الركبان.
المطلب الثالث: مقاصد النهي عن ربح ما لم يضمن.
المطلب الرابع: مقاصد النهي عن بيع المسلم على بيع أخيه.
المطلب الخامس: مقاصد النهي عن الربا.
المطلب السادس: مقاصد الحجر على السفيه والمجنون والمدِين.
المطلب السابع: مقاصد النهي عن بيع فضل الماء.
المطلب الثامن: مقاصد النهي عن حلوان الكاهن.
المطلب التاسع: مقاصد النهي عن بيع الحصاة.
المطلب العاشر: مقاصد النهي عن بيع الملامسة والمنابذة.
المطلب الحادي عشر: مقاصد النهي عن بيع حَبَل الحبلة.
المطلب الثاني عشر: مقاصد النهي عن بيع عسب الفحل.
المطلب الثالث عشر: المقصد الشرعي من تحريم بيع الأصنام.
المطلب الرابع عشر: مقاصد النهي عن الميسر.
المطلب الخامس عشر: مقاصد النهي عن البيع وقت نداء الجمعة.
المطلب السادس عشر: مقاصد النهي عن بيع السلاح وقت الفتنة.
المطلب السابع عشر: مقاصد النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها.
المطلب الثامن عشر: مقاصد النهي من تحريم النرد.
المطلب التاسع عشر: مقاصد النهي عن بيع السلعة قبل أن تنقل من مكانها.
المطلب العشرون: مقاصد النهي عن الاحتكار.
المطلب الحادي والعشرون: مقاصد النهي عن بيع العينة.
المطلب الثاني والعشرون: مقاصد النهي عن سلف وبيع.
المطلب الثالث والعشرون: مقاصد النهي عن المزابنة.
المطلب: الرابع والعشرون: مقاصد النهي عن النجش.
الخاتمة: وفيها ذكر أهم النتائج.
منهج البحث:
وضع مقدمة في كل مطلب تعين على فهمه.
جمع ما تيسر من الوقوف عليه مما يتعلق بمقاصد كل مطلب.
عزو الآيات للقرآن الكريم بذكر سورها وأرقامها وكتابتها بالرسم العثماني.
عزو الأحاديث إلى مصادرها.
توثيق النصوص وأقوال العلماء من مصادرها.
الالتزام بعلامات الترقيم وضبط ما يحتاج إلى ضبط.
خدمة البحث بوضع فهرس المراجع.
الفرع الأول
تعريف مقاصد الشريعة
وردت تعريفات عدة لمقاصد الشريعة, وسأقتصر هنا على ذكر بعضها:
قال محمد الطاهر بن عاشور: "مقاصد التشريع العامة, هي المعاني والحِكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها, بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة"[2].
وعرفها الشيخ علال الفاسي : بقوله: "المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي رمى إليها الشارع الحكيم عند تقريره كل حكم من أحكامها"[3].
وعرفها شيخنا الدكتور اليوبي بقوله: "المقاصد هي: المعاني والحِكَم ونحوها التي راعاها الشارع في التشريع عمومًا وخصوصًا، من أجل تحقيق مصالح العباد"[4].
وعرفها الدكتور يوسف البدوي بقوله: "الحكم التي أرادها الله من أوامره ونواهيه لتحقيق عبوديته وإصلاح العباد في المعاش والمعاد"[5].
الترجيح:
يظهر أن التعريف الأخير هو الراجح, وذلك لأنه جُمع فيه بين أصل المقاصد وأهمها وهو تحقيق العبودية لله تعالى ومصالح العباد, فالتعريف الأول تعريف للمقاصد العامة فقط, وأما التعريف الثاني فإنه شامل للمقاصد العامة والخاصة, غير أنه لم يذكر القصد منها, وأما تعريف شيخنا الدكتور اليوبي فلم يذكر فيه أصل المقاصد والغاية منها, وهو تحقيق العبودية لله تعالى[6].
الفرع الثاني
فوائد معرفة علم المقاصد
علم مقاصد الشارع له مقام عظيم, وذلك لأن معرفة حقيقة المصالح والمفاسد متوقفة عليه, فهو مفتاح لفهم نصوص الشريعة, ولذا يكتسب بالضرورة الحالة من الاحترام والتقدير, بحيث ينفرد العلماء المتخصصون في استنباطه وتوضيحه وتجليته للناس, ولذا تتبين فائدة علم مقاصد الشارع والغاية منه فيما يأتي:
إبراز علل التشريع وحِكمه ومراميه الجزئية والكلية, العامة والخاصة, في شتى مجالات الحياة وفي مختلف أبواب الشريعة[7].
وضع القواعد التي يستعين بها المجتهد على استنباط الأحكام الشرعية، ومعرفة المصالح التي قصدها الشارع من تكليف العباد بالأحكام[8].
قدرة المجتهد بعد وضع القواعد على استنباط الأحكام الشرعية، ووصوله إلى معرفة المصالح التي قصدها الشارع من تشريع الأحكام[9].
القدرة على تحقيق المناط في الحوادث التي لم تكن موجودة في زمن السابقين, حتى تعطى الحكم الشرعي المناسب[10].
القدرة على التنسيق بين الآراء المختلفة, ودرء التعارض بينها والترجيح بين الأقوال, واختيار الراجح منها عند عدم إمكانية الجمع[11].
عون المكلف على القيام بالتكليف والامتثال على أحسن الوجوه وأتمها, ذلك أن المكلف إذا علم مثلا أن المقصد من الحج التأدب الكامل مع الناس, والتحلي بأخلاق الإسلام العليا, فإنه إذا علم ذلك فسيعمل جاهدا ومجتهدا قصد تحصيل المرتبة العليا, التي تجعل صاحبها عائدا بعد حجه كيوم ولدته أمه[12].
إكساب المجتهد إحاطة بأحكام الشرع، ومعرفة كلياته المفيدة في معرفة جزئياتها[13].
الاطمئنان إلى ما نقل من أحكام في كتب المتقدمين؛ حيث جاءت وفق قواعد ثابتة، ومقاصد راسخة[14].
التقليل من الاختلاف والنزاع الفقهي, والتعصب المذهبي[15].
قدرة العالم بهذه القواعد والمقاصد على الرد على منكري حجية القياس, وتصور مطالبه وتطبيقها على الحوادث[16].
تفيد المجتهد فيما إذا خالف النص الشرعي مقاصد الشارع؛ فإن هذه المعرفة تعطي المجتهد ظناً غالباً أن لهذا النصِّ معارضاً؛ فتستدعيه هذه المعرفة أن يبحث عن المعارض بحثاً قويَّاً[17].
التوفيق بين خاصتي الأخذ بظاهر النص, والالتفات إلى روحه ومدلوله على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص, ولا العكس, لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض[18].
معرفة أن دين الإسلام صالح لكل زمانٍ ومكانٍ؛ حيث إن قواعده قادرة على إيجاد الأحكام لكل ما يجدّ من حوادث في أي مكانٍ وزمان[19].
معرفة أن دين الإسلام يراعي حال المكلّف عند تكليفه بالأحكام[20].
وواضح أن الفوائد المرجوة بالنسبة للمسلم العامي والداعية يمكن إجمالها في كونها أمورا: إيمانية, مناعية تحصينية, الغاية منها زيادة إيمان المسلم وتحصينه ضد التيارات والأفكار الضارة, من أجل تحقيق مهمة العبودية لله تعالى على أتم وجه
الفرع الثالث
تعريف البيوع المحرمة
البيوع جمع بيع, والمقصود بالبيع هو: مبادلة مال بمال على وجه مخصوص مع التراضي[21].
وأما المحرمة فمأخوذة من الحرام, وهو: ما يعاقب على فعله ويثاب على تركه, فمن فعله يعاقب على ذلك كشرب الخمر ونحو ذلك من المحرمات، ومن تركه يثاب على تركه[22].
فالبيوع المحرمة هي التي نهى الله عن تعاطيها وفعلها والتعامل بها, لمقصد من المقاصد التي تجلب مصلحة, أو تدفع ضررا.
المطلب الأول
مقاصد النهي عن بيع الرجل ما ليس عنده
وردت أحاديث في النهي عن بيع الرجل ما ليس عنده, منها:
حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: "يا رسول الله, الرجل يأتيني يسألني البيع ليس عندي فأبيعه منه, ثم أمضي إلى السوق, فأشتريه وأسلمه إياه, فقال: "لا تبع ما ليس عندك "[23].
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع, ولا ربح مالم يضمن ولا بيع ما ليس عندك"[24].
يتلخص من كلام العلماء أن مقصد النهي عن بيع ما ليس عندك, هو: دفع الغرر والمخاطرة في البيع, وذلك أن البائعَ إذا باعَ ما ليس في مُلكه، ولا له قُدرة على تسليمه، ليذهب ويحصله، ويسلمه إلى المشتري، كان ذلك شبيهاً بالقمار والمخاطرة مِن غير حاجة بهما إلى هذا العقدِ، ولا تتوقَّفُ مصلحتُهما عليه, والبائع متردد بين الحصول وعدمه, فكان غررا يشبه القمار فنهي عنه[25].
المطلب الثاني
مقاصد النهي عن تلقي الركبان
روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "لا تلقوا الركبان, ولا يبع بعضكم على بيع بعض"[26].
وصورة ذلك: أن يعلم إنسان بقدوم رفقة تحمل سلعا وأمتعة فيستقبلهم على قصد أن يشتري منهم, ويتقدم إليهم ليكذبهم في سعر البلد, ويشتري منهم شيئا من سلعهم أو جميعها بغبن"[27].
يظهر من كلام شراح الحديث أن الشارع منع من تلقي الركبان, لمقصدين عظيمين:
دفع الضرر عن أهل المدينة الذين يجلب إليهم السلعة.
منع غبن الركبان الذين لم يتعرفوا على أسعار السوق.
قال الماوردي: اختلف أصحابنا في المعنى الذي لأجله نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك ومنع منه أي: تلقي الركبان, فقال جمهورهم: إن المعنى فيه أن قوما بالمدينة كانوا يتلقون الركبان إذا وردت بالأمتعة فيخبرونهم برخص الأمتعة وكسادها ويبتاعونها منهم بتلك الأسعار، فإذا ورد أرباب الأمتعة المدينة شاهدوا زيادة الأسعار وكذب من تلقاهم بالأخبار, فيؤدي ذلك إلى انقطاع الركبان وعدولهم بالأمتعة إلى غيرها من البلدان, فنهى النبي صلى الله عليه و سلم عن تلقيهم نظرا لهم, ولما في ذلك من الخديعة المجانبة للدين.
وقال آخرون: بل المعنى في النهي عن تلقيهم أن من كان يبتاعها منهم يحملها إلى منزله ويتربص بها زيادة السعر، فلا يتسع على أهل المدينة ولا ينالون نقصا من رخصها، فنهى النبي صلى الله عليه و سلم عن تلقي الركبان للبيع حتى ترد أمتعتهم السوق فتجتمع فيه وترخص الأسعار بكثرتها فينال أهل المدينة نفعا برخصها، فيكون هذا النهي نظرا لأهل المدية والله أعلم[28].
وقال ابن تيمية: "ونهى عن تلقي السلع, وذلك لما فيه من تغرير البائع أو ضرر المشتري"[29].
ويقول السعدي :: "والحكمة من تحريم تلقي الجلب: أنه خديعة للجالب, لأنه يجهل السعر, فلو باع في هذه الصورة فهو بالخيار إذا هبط السوق, ويجب تأديب المتلقي له"[30].
المطلب الثالث
مقاصد النهي عن ربح ما لم يضمن
الضرر منفي شرعًا، فلا يحل لمسلم أن يضر أخاه المسلم بقول، أو فعل، أو سبّ بغير حق وسواء كان له في ذلك نوع منفعة أم لا؟, والضرر يرجع إلى أحد أمرين: إما تفويت مصلحة، أو حصول مضرة بوجه من الوجوه، فالضرر غير المستحق لا يحل إيصاله وعمله مع الناس، بل يجب على الإنسان أن يمنع ضرره وأذاه عنهم من جميع الوجوه، وكل معاملة من هذا النوع، فإن الله لا يبارك فيها، لأنه من ضارّ مسلما ضاره الله، ومن ضاره الله، ترحّل عنه الخير، وتوجه إليه الشر وذلك بما كسبت يداه، وكل ما كانت مضرته وإثمه أكبر من نفعه، فإن رحمة الله وحكمته تقتضي المنع منه وتحريمه على عباده[31].
ورد حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع, ولا ربح ما لم تضمن ولا بيع ما ليس عندك"[32].
لقد نهى الشارع عن ربح ما لم يضمن تحقيقا للعدل بين المتابعين ومنعا لأكل أموال الناس بالباطل, ذلك أنه ما من مبيع إلا وهو عرضة للهلاك والنقص, كما أنه محتمل للزيادة والربح, فمن عدل الشريعة أن جعلت الزيادة والربح لضامن الهلاك والنقص, لأن من الحيف أن يجعل الضمان على أحدها والربح للآخر, فمن العدل ألا يأخذ ربح المال إلا من تحمل تبعة هلاكه ونقصه.
يقول ابن تيمية: "فلا يبيع بربح حتى يصير في حوزته ويعمل فيها بعمل التجارة, إما بنقلها إلى مكان آخر, وإما حبسها إلى وقت آخر, إلى أن قال: والربح إنما يكون للتاجر الذي نفع الناس بتجارته, فأخذ الربح بإزاء نفعه, فلم يأكل أموال الناس بالباطل"[33]
يقول ابن القيم: "والنهي عن ربح ما لم يضمن قد أشكل على بعض الفقهاء علته وهو من محاسن الشريعة, فإنه لم يتم عليه استيلاء, ولم تنقطع علق البائع عنه فهو يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه, وإن أقبضه إياه فإنما يقبضه على إغماض وتأسف على فوت الربح, فنفسه متعلقة به لم ينقطع طمعها منه, وهذا معلوم بالمشاهدة, فمن كمال الشريعة ومحاسنها النهي عن الربح فيه حتى يستقر عليه ويكون من ضمانه, فييأس البائع من الفسخ, وتنقطع علقه عنه[34].
المطلب الرابع
مقاصد النهي عن بيع المسلم على بيع أخيه
والمقصود به: أن يذهب مثلا لمن اشترى سلعة من شخص بمائة, فيقول: أنا أعطيك مثلها بثمانين، أو أعطيك أحسن منها بمائة فيرجع المشتري ويفسخ العقد الأول ويعقد مع الثاني، ومثله الشراء على شرائه,[35] فإذا باع الرجل سلعة لأخيه المسلم ورضي المشترى, فلا يجوز لآخر أن يُغري البائع بالرجوع في بيعته ليشتريها هو بثمن أكثر، وقد نهى الرسول صلى الله عليه و سلم عن هذا النوع من البيوع بقوله: "لا يبيع بعضكم على بيع أخيه"[36], وذلك لمقاصد وحِكم جمة, وهي كما يلي:
منع إحداث البغضاء بين المسلمين, يقول السعدي: "والصحيح أن المنع من البيع على بيع أخيه, وشرائه على أخيه عام في زمن الخيارين, وغيرهما, لعموم النهي عنهما, ولأن العلة التي نهى عنها –وهو إحداث البغضاء بين المسلمين- موجودة ولو بعد الخيارين[37].
دفع حصول الشقاق بينهم, قال السعدي: "الثاني: قال: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض"[38] لأنه يقع به من الشقاق والبغضاء شيء كثير"[39].
المطلب الخامس
مقاصد النهي عن الربا
وأما الربا فهو عبارة عن إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر, فما يؤخذ منه زيادة عن رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل[40].
لا شك أن للربا أضرارًا جسيمة، وعواقب وخيمة، والدين الإسلامي لم يأمر البشرية بشيء إلا وفيه سعادتها، وعزها في الدنيا والآخرة، ولم ينهها عن شيء إلا وفيه شقاوتها، وخسارتها في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ)[41], ففي هذا الخبر التخويف والترغيب لمن يتعامل بالربا, وإن زاد كسبه واستُدرج استدراجا مؤقتا أن آخر أمره المحق ونزع البركة, وأن المتصدق الذي يقصد بصدقته وجه الله, ويراعي محلها يزيده الله نماء وبركة في رزقه[42], فما عند الله لا ينال إلا بطاعته وامتثال أمره, فالمتجرئ على الربا يعامل بنقيض قصده, وهذا مشاهد بالتجربة, ومن أصدق من الله قيلا[43], وسأجمل مقاصد النهي عن الربا فيما يأتي:
منع ظلم المحتاجين: يقول عند تفسير قوله تعالى: (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)[44]: وفي هذه الآية، بيان لحكمة النهي عن الربا، وأنه يتضمن الظلم للمحتاجين بأخذ الزيادة، وتضاعف الربا عليهم، ولهذا قال: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)[45], أي: وإن كان الذي عليه الدين معسرا، لا يقدر على الوفاء، وجب على غريمه أن ينظره إلى ميسرة, وهو يجب عليه إذا حصل له وفاء بأي طريق مباح، أن يوفي ما عليه, وإن تصدق عليه غريمه- بإسقاط الدين كله أو بعضه- فهو خير له، ويهون على العبد التزام الأمور الشرعية، واجتناب المعاملات الربوية، والإحسان إلى المعسرين، علمُه بأن له يوما يرجع فيه إلى الله، ويوفيه عمله، ولا يظلمه مثقال ذرة، كما ختم هذه الآية بقوله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[46][47].
استغناء الناس عنها, فقد أحل الله للناس الكسب الطيب, الذي يستغنون به عن الربا[48].
عدم تعطيل المكاسب والتجارات والحرف والصناعات التي لا تنتظم مصالح العالم إلا بها, لأن المرابي إذا تحصل على زيادة ماله بواسطة الربا بدون تعب, فلن يكتسب طرقا أخرى للكسب[49].
دفع الفساد عن الناس, فالربا سبب لوقوع الفساد في المجتمع[50].
عدم قطع المعروف بين الناس وسد باب القرض الحسن, فالربا يؤدي إليه[51].
المطلب السادس
مقاصد الحجر على السفيه والمجنون والمدِين
لقد جاء الإسلام لتحقيق المصالح أو تكميلها, ودرء المفاسد أو تقليلها, وشرع من التشريعات ما تعود مصلحتها على العبد أو من يتعامل معه من الخلق, ومن ذلك مشروعية الحجر على السفيه والمجنون والمدين, فقد منع الله السفيه والمجنون والمدين من التصرف في أموالهم لمقاصد:
حفظ الأموال وصيانتها.
إيصال الحقوق إلى أهلها.
يقول السعدي :: والمقصود بالحجر هو حفظ الأموال وصيانتها وإيصال الحقوق إلى أهلها, فيجب على وليهم منعهم من التصرف في مالهم, ويتولى هو حفظه والتصرف فيه, ولا يتصرف في مالهم إلا بما فيه مصلحة, فيجري عليهم من النفقة من أموالهم بالمعروف, وما احتاجوا إليه من تعلم علم أو صنعة في أموالهم, وذلك عين مصلحتهم وهذا من محاسن الشريعة, حيث لم يمكّن القاصرين من أموالهم خوف الضرر عليهم, ويــدل عليه أيضا قولــه تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا)[52][53].
إرشاد العباد إلى السعي في كل تصرف نافع غير ضار[54].
تحقيق مصالح المحجورين[55].
المطلب السابع
مقاصد النهي عن بيع فضل الماء
لقد أوجب الله على المسلمين أن يكونوا إخوة مجتمعين على الحق، متحابين متعاونين على البر والتقوى، متناهين عن الإثم والعدوان، وشرع لهم ما يقوي هذه الأخوة والمحبة من الاجتماع على الصلوات الخمس والجمع والأعياد والحج، كما شرع لهم تبادل التحية والسلام والمصافحة وتشميت العاطس وإجابة الدعوة والنصيحة وعيادة المريض واتباع الجنائز, وتبادل الهدايا، وكل هذا من أسباب المحبة والألفة وإزالة العداوة والبغضاء[56]، فمن أعظم البر السعي في جمع كلمة المسلمين واتفاقهم بكل طريق، كما أن السعي في تفريق كلمة المسلمين من أعظم التعاون على الإثم والعـدوان[57].
ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ"[58].
فقد نهي الشارع عن بيع فضل الماء لئلا يكون ذريعة إلى منع فضل الكلأ, كما علل به في نفس الحديث, فجعله بمنعه من الماء مانعا من الكلأ, لأن صاحب المواشي إذا لم يمكنه الشرب من ذلك الماء لم يتمكن من المرعى الذي حوله[59].
المطلب الثامن
مقاصد النهي عن حلوان الكاهن
لقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن أكل حلوان الكاهن في قوله: "إن مهـر البغي[60] وثـمن الكلب وكسب الحجام وحلوان الكاهن[61] من السحت"[62][63], وذلك لمقاصد عدة, يمكن إجمالها فيما يأتي:
صيانة التوحيد, وسد وسائل الشرك.
منع الكاهن من الاستمرار في عمله الفاسد.
كونه من أكل أموال الناس بالباطل.
يقول ابن العربي: "وأما حلوان الكاهن فمن أكل المال بالباطل, لأنه شر الكذب والضلال, فيكون كشراء المحرم من الميتة والأصنام وما شابهها"[64].
ويقول ابن القيم: "والشارع صلوات الله عليه حرم من تعاطي ذلك, ما مضرتُه راجحة على منفعته، أو ما لا منفعة فيه، أو ما يُخشى على صاحبه أن يجرَّه إلى الشرك، وحرم بذل المال في ذلك، وحرم أخذه به صيانة للأمة عما يُفسد عليها الإيمان أو يخدِشُه"[65].
المطلب التاسع
مقاصد النهي عن بيع الحصاة
ورد عند مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع الحصاة" [66].
يقول ابن القيم: "فُسِّرَ بيعُ الحصاة بأن يقول: ارمِ هذه الحصاةَ، فعلى أيِّ ثوبِ وقعت، فهو لك بِدرهم، وفسر بأن بيعَه مِن أرضه قدرَ ما انتهت إليه رميةُ الحصاة، وفُسِّرَ بأن يقبض على كف من حصا، ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع، أو يبيعه سلعة، ويَقْبِض على كف مِن الحصا، ويقول: لي بكُلِّ حصاة, درهم، وفُسِّرَ بأن يمسك أحدهما حصاة في يده، ويقول: أي وقت سقطت الحصاة، وجب البيعُ، وفُسِّرَ بأن يتبايعا، ويقول أحدهما: إذا نبذت إليك الحصاة، فقد وجب البيعُ، وفُسِّرَ بأن يعترِضَ القطيع مِن الغنم، فيأخذ حصاة، ويقول: أيُّ شاة أصبتها، فهي لك بكذا، وهذه الصورُ كلُها فاسدة لما تتضمنه من أكل المال بالباطل، ومِن الغَرَرِ والخطر الذي هو شبيه بالقمار[67].
لقد حرص الإسلام على زرع معاني الأخوة والمحبة بين المسلمين، وجاء التشريع الإسلامي متساوقا مع هذا المعنى، فحرمت الشريعة الغرر في العقود من بيع وإجارة، والغرر هو تلك الجهالة في المعقود عليه كيفًا، أو كمًّا، أو مكانا، أو زمانا، أو قيمة وما إلى ذلك، فما كان يؤدي من ذلك إلى التنازع حرمته الشريعة، وما جرت العادة بالتسامح فيه كان مخصوصا من المنع.
يتلخص من كلام ابن القيم السابق أن بيع الحصاة إنما منع لما تضمنه من أكل أموال الناس بالباطل والغرر والمخاطرة.
المطلب العاشر
مقاصد النهي عن بيع الملامسة والمنابذة
"نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيعتين, نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع, والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك, والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه, وينبذ الآخر ثوبه ويكون ذلك بيعهما عن غير نظر ولا تراض"[68].
والمقصود من النهي عن بيع الملامسة والمنابذة هو نفي الغرر والمخاطرة عن الناس, قال إمام الحرمين: "ولا شك في فساد هذا العقد لأنه تغرير"[69], وقال ابن القيم: "فالغرر في ذلك ظاهر، وليس العلة تعليقَ البيعِ بشرط، بل ما تضمنه مِن الخطر والغرر, وأكل أموال الناس بالباطل, ويئول إلى إضرار البائع أو المشتري[70].
المطلب الحادي عشر
مقاصد النهي عن بيع حبل الحبلة
عن عبد الله بن عمر م: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم "نهى عن بيع حَبَل الحبَلة وكان بيعا يتبايعه أهل الجاهلية وكان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها"[71].
يظهر من كلام علماء المقاصد أن هذا النوع من البيع محرم لأمرين:
كونه معدوما ومجهولا.
كون ذلك من المخاطرة والغرر.
قال إمام الحرمين: "ولا شك في فساد هذا العقد, وسببه جهالة الأجل"[72].
قال ابن القيم: "الثالث: معدوم لا يُدرى يحصُل أو لا يحصُل، ولا ثقة لبائعه بحصوله، بل يكونُ المشتري منه على خطر، فهذا الذي منع الشارعُ بيعَه لا لِكونه معدوماً، بل لكونه غَرَراً، فمنه صورةُ النهي التي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر م، فإن البائعَ إذا باعَ ما ليس في مُلكه، ولا له قُدرة على تسليمه، ليذهب ويحصله، ويسلمه إلى المشتري، كان ذلك شبيهاً بالقمار والمخاطرة مِن غير حاجة بهما إلى هذا العقدِ، ولا تتوقَّفُ مصلحتُهما عليه، وكذلك بيعُ حَبَلِ الحَبَلَة -وهو بيعُ حمل ما تحمِلُ ناقتُه-، ولا يختصُّ هذا النهي بحمل الحمل، بل لو باعه ما تحمِلُ ناقتُه أو بقرتُه أو أمتُه، كان مِن بيوع الجاهلية التي يعتادونها[73]".
المطلب الثاني عشر
مقاصد النهي عن بيع عسب الفحل
روى البخاري من حديث ابن عمر م: "نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن عسب الفحل"[74], وفى صحيح مسلمٍ عن جابر رضي الله عنه أن النبىَّ صلى الله عليه و سلم "نهى عن بَيْعِ ضِرَابِ الفحل[75]"
وحديث جابر مفسر لحديث ابن عمر, وقيل: عسب الفحل: ماؤه, وقيل: كرائه, أي تأجيره[76], قال ابن القيم: "والنبي صلى الله عليه و سلم نهى عما يعتادونه من استئجار الفحل للضِّراب، وسمي ذلك بيع عَسْبِهِ، فلا يجوزُ حمل كلامه على غير الواقع والمعتاد, وإخلاء الواقع من البيان مع أنه الذي قصد بالنهى، ومن المعلوم أنه ليس للمستأجر غرض صحيح في نزو الفحل على الأنثى الذي له دفعات معلومة، وإنما غرضُه نتيجة ذلك وثمرته، ولأجله بذل ماله.
وقد علَّل التحريمَ بعدة علل, منها:
إحداها: أنه لا يقدر على تسليم المعقود عليه، فأشبه إجارة الآبق، فإن ذلك متعلق باختيار الفحل وشهوته.
الثانية: أن المقصودَ هو الماءُ وهو مما لا يجوز إفرادُه بالعقد، فإنه مجهولُ القدر والعين وهذا بخلاف إجارة الظئر، فإنها احتملت بمصلحة الآدمي، فلا يُقاسُ عليها غيرُها، وقد يقال والله أعلم إن النهى عن ذلك مِن محاسن الشريعة وكمالها, فإن مقابلة ماء الفحل بالأثمان، وجعله محلاً لعقود المعاوضات مما هو مستقبح ومستهجَن عند العقلاء، وفاعل ذلك عندهم ساقط مِن أعينهم في أنفسهم، وقد جعل الله سبحانه فِطَرَ عباده لا سيما المسلمين ميزاناً للحسن والقبيح، فما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عند الله قبيح.
ويزيد هذا بياناً أن ماء الفحل لا قيمة له، ولا هو مما يُعاوض عليه، ولهذا لو نزا فحلُ الرجل على رَمَكَة[77] غيره، فأولدها، فالولد لِصاحب الرَّمَكَةِ اتفاقاً، لأنه لم ينفصِلْ عن الفحل إلا مجردُ الماء وهو لا قيمة له، فحرمت هذه الشريعةُ الكاملةُ المعاوضةَ على ضِرابه ليتناوله الناس بينهم مجاناً، لما فيه مِن تكثير النسل المحتاج إليه من غير إضرار بصاحب الفحل، ولا نقصان من ماله، فمن محاسن الشريعة إيجابُ بذلِ هذا مجاناً، فهذه حقوقٌ يضر بالناس منعُها إلا بالمعاوضة، فأوجبت الشريعة بذلها مجاناً[78].
المطلب الثالث عشر
المقصد الشرعي من تحريم بيع الأصنام
إن أفعال الله وكذلك أحكامه، تابعة لحكمته، فلا يخلق شيئا عبثا، بل لا بد له من حكمة، عرفناها، أم لم نعرفها، وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة، فدين الإسلام هو دين الحكمة ودين الفطرة، ودين العقل والصلاح والفلاح، ولذلك كان محتويا على الأحكام الأصولية والفروعية التي تقبلها الفطر والعقول، فلا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة، أو راجحة، ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة، لتمام حكمته ورحمته[79].
ذكر البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله م: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول عام الفتح وهو بمكة "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام", وقد استنبط العلماء النهي عن بيع الأصنام, وأجملها ابن القيم في قوله: "وأما تحريمُ بيع الأصنام، فُيستفاد منه تحريمُ بيع كُلِّ آلة متخذة للشرك على أي وجه كانت، ومن أي نوع كانت صنماً أو وثناً أو صليباً، وكذلك الكُتب المشتمِلَةُ على الشرك، وعبادة غير الله، فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها، وبيعُها ذريعةٌ إلي اقتناعها واتخاذها، فهو أولى بتحريم البيع مِن كل ما عداها، فإن مفسدةَ بيعها بحسب مفسدتها في نفسها"[80].
يتلخص من كلام ابن القيم السابق: أن المقصد من تحريم بيع الأصنام هو حفظ جناب التوحيد, وسد وسائط الشرك.
المطلب الرابع عشر
مقاصد النهي عن الميسر
لقد نهى الله عن الميسر لدفع مفاسد عدة, يمكن إجمالها فيما يلي:
الصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
إيجاب الإثم والعداوة والبغضاء بين الناس.
كونها من عمل الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان.
كونها رجسا، والأمور الخبيثة مما ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بها.
يقول ابن تيمية: هب أن علة التحريم في الأصل هي المقامرة لكن الشارع قرن بين الخمر والميسر في التحريم؛ فقال تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)[81], فوصف الأربعة بأنها رجس من عمل الشيطان؛ وأمر باجتنابها, ثم خص الخمر والميسر بأنه يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة, ويهدد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى: (فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) كما علق الفلاح بالاجتناب في قوله: (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ولهذا يقال: إن هذه الآية دلت على تحريم الخمر والميسر من عدة أوجه, ومعلوم أن "الخمر" لما أمر باجتنابها حرم مقاربتها بوجه فلا يجوز اقتناؤها ولا شرب قليلها, ومن المعلوم أن هذه الملاعب تشتهيها النفوس وإذا قويت الرغبة فيها أدخل فيها العوض كما جرت به العادة, وكان من حكم الشارع أن ينهى عما يدعو إلى ذلك لو لم يكن فيه مصلحة راجحة وهذا بخلاف المغالبات التي قد تنفع: مثل المسابقة والمصارعة ونحو ذلك, فإن تلك فيها منفعة راجحة لتقوية الأبدان فلم ينه عنها لأجل ذلك, ولم تجر عادة النفوس بالاكتساب بها"[82].
وقد فصل العلامة السعدي الكلام في هذه النقاط عند تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)[83], حيث يقول: "فهذه نهى الله عنها وزجر، وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها واجتنابها، فمنها: أنها رجس، أي: خبث، نجس معنى، وإن لم تكن نجسة حسا، والأمور الخبيثة مما ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بها, ومنها: أنها من عمل الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان، ومن المعلوم أن العدو يُحذر منه، وتُحذر مصايده وأعماله، خصوصا الأعمال التي يعملها ليوقع فيها عدوه، فإنها فيها هلاكه، فالحزم كل الحزم في البعد عن عمل العدو المبين، والحذر منهـا، والخوف من الوقوع فيها, ومنها: أنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها، فإن الفلاح هو: الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المرهوب، وهذه الأمور مانعة من الفلاح ومعوقة له, ومنها: أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس، والشيطان حريص على بثها، ليوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء، فإن في الميسر من غلبة أحدهما للآخر، وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة، ما هو من أكبر الأسباب للعداوة والبغضاء, ومنها: أن هذه الأشياء تصد القلب، ويتبعه البدن عن ذكر الله وعن الصلاة، اللذين خلق لهما العبد، وبهما سعادته، فالميسر، تصد عن ذلك أعظم صد، ويشتغل قلبه، ويذهل لبه في الاشتغال بهما، حتى يمضي عليه مدة طويلة وهو لا يدري أين هو؟.
فأي معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها، وتجعله من أهل الخبث، وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه، فينقاد له كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها، وتحول بين العبد وبين فلاحه، وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وتصد عن ذكر الله و الصلاة؟, فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر؟, ولذا عرض تعالى على العقول السليمة النهي عنها عرضا بقوله:َ(هَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)[84], لأن العاقل -إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد- انزجر عنها وكفت نفسه، ولم يحتج إلى وعظ كثير ولا زجر بليغ"[85].
يتبع
د. جميل يوسف زريوا
ملخص البحث:
توصلت في هذا البحث إلى أن البيوع المحرمة يرجع مقاصد النهي عنها إلى أربعة أمور: ما نهي عنه لكونه من وسائل الشرك, فقد نهي عن بيع الأصنام حفظا لجانب التوحيد, (فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ), وما نهي عنه لكونه يتضمن ضررا للبائع أو المشتري, كما في بيع الثمار قبل بدو صلاحها, وتلقي الركبان, وما نهي عنه لتضمنه غررا ومخاطرة, كما في بيع الملامسة والمنابذة وحبل الحبلة, وما نهي عنه لكونه من وسائل الربا, وأكل أموال الناس بالباطل, فقد نهي عن بيع العينة والمزابنة, لإفضائهما إلى الربا, وهذا يدل على حسن الشريعة ومراعاتها مصالح العباد, ودرئها ما يضرهم, والشريعة كلها محاسن وجلب للمصالح, ودرء للمفاسد.
Abstract:
From this research, I arrived at the conclusion that the main objectives behind the prohibition of some business transactions can be classified into four: that which was prohibited because it is among the avenues to polytheism, thus selling idols was prohibited in order to preserve Islamic monotheism..that which was prohibited because it is harmful to the seller or buyer as in the case of selling crops before they show sign of ripeness, and, that which was prohibited because of high risk and danger as in the case of trade of Mulamasa, Munabadha, and trade of Habalu Alhabala. that which was prohibited because it is among the avenues to usury and embezzlement, thus trade of Al'eena and Al-muzabana were prohibited because they lead to usury. All these show the beauty of the Sharia and its consideration for the benefits of the people and their protection from harm. The sharia in its entirety is full of goodness, benefits and protection against harm.
المقدمة:
الحمد لله الذي انفرد بالتحليل والتحريم لتحقيق مصالح العباد, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, الذي اعتبر المقاصد في كل أقواله وأفعاله, أما بعد, فلا يستطيع الإنسان العيش بدون التعامل والتعاون مع الآخرين، فالإنسان بمفرده لا يستطيع توفير حاجياته من الغذاء والكساء وبناء البيت وغيرها، وقد يجنح بمقتضى حاجته الملحة إلى أخذ ما في يد الغير عن طريق المغالبة أو المقاهرة، أو يلجأ إلى السؤال وتكفف أيدي الناس، وفي ذلك من المفاسد العظام ما لا يخفى، ومن الذل والصغار ما لا يقدر عليه الإنسان, ويعتبر البيع في الجملة من الأمور الحاجية, وقد يرقى البيع إلى الأمور الضرورية عند ما يؤدي عدمه إلى فوات أصل من الأصول الخمسة، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال[1], فالأصل في البيوع الجواز إلا ما حرّمه الشارع، بخلاف العبادات فالأصل فيها المنع إلا ما دلّ الدليل على مشروعيته؛ لأن الشارع يسد باب البدعة, والبيوع مع أن الأصل فيها الإباحة إلا أنه ورد على بعض أجناسها وأنواعها نواهٍ كثيرة, مما يجب على المسلم معرفته, ومعرفة مقاصد النهي في هذه البيوع مما يساعد على فهمها وتطبيقها بشكل صحيح, فمقاصد الشريعة هي سر التشريع, وبها يوقف على المفاسد التي أرادها الشارع من مناهيه.
وقد أردت في هذه الأوراق أن أبين بعض مقاصد النهي في البيوع المحرمة, وليس القصد هو الاستقراء ولا البسط, ولكن الإشارة إلى أهمها, لأن الاستيفاء غير ممكن, لطبيعة البحث.
أهمية الموضوع وأسباب اختياره
كون هذا الموضوع يتعلق بمقاصد الشريعة, وهو مما يحتاج إليه لمعرفة ما تتضمنه نواهي الشارع من أسرار ومصالح وحِكم.
بدراسة هذا العلم يتعرّف على حلّ مشكلات العالم وفق الضوابط المقرّرة, الموافقة للفطر السليمة والعقول الصحيحة.
حاجة المكتبة الإسلامية إلى مزيد من الدراسات المقاصدية، لاسيما فيما يتعلق بمقاصد المعاملات المحرمة، ولعل هذه الدراسة تضيف جديدا أو تسد فراغا.
كون الناس بأجمعهم محتاجون إلى البيع والشراء لقضاء أوطارهم, فمعرفة ما حرم منها من الضرورة بمكان, والعلم بمقاصدها يُسهل تطبيقها.
خطة البحث:
وتتضمن مقدمة وتمهيد وأربعة وعشرين مطلبا وخاتمة وفهارس.
المقدمة: وتتضمن الافتتاحية وأسباب اختيار الموضوع ومنهجي في البحث.
التمهيد: ويتضمن ثلاثة فروع:
الفرع الأول: تعريف مقاصد الشريعة الإسلامية.
الفرع الثاني: الفائدة من دراسة علم المقاصد.
الفرع الثالث: تعريف البيوع المحرمة.
المطلب الأول: مقاصد النهي عن بيع الرجل ما ليس عنده.
المطلب الثاني: مقاصد النهي عن تلقي الركبان.
المطلب الثالث: مقاصد النهي عن ربح ما لم يضمن.
المطلب الرابع: مقاصد النهي عن بيع المسلم على بيع أخيه.
المطلب الخامس: مقاصد النهي عن الربا.
المطلب السادس: مقاصد الحجر على السفيه والمجنون والمدِين.
المطلب السابع: مقاصد النهي عن بيع فضل الماء.
المطلب الثامن: مقاصد النهي عن حلوان الكاهن.
المطلب التاسع: مقاصد النهي عن بيع الحصاة.
المطلب العاشر: مقاصد النهي عن بيع الملامسة والمنابذة.
المطلب الحادي عشر: مقاصد النهي عن بيع حَبَل الحبلة.
المطلب الثاني عشر: مقاصد النهي عن بيع عسب الفحل.
المطلب الثالث عشر: المقصد الشرعي من تحريم بيع الأصنام.
المطلب الرابع عشر: مقاصد النهي عن الميسر.
المطلب الخامس عشر: مقاصد النهي عن البيع وقت نداء الجمعة.
المطلب السادس عشر: مقاصد النهي عن بيع السلاح وقت الفتنة.
المطلب السابع عشر: مقاصد النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها.
المطلب الثامن عشر: مقاصد النهي من تحريم النرد.
المطلب التاسع عشر: مقاصد النهي عن بيع السلعة قبل أن تنقل من مكانها.
المطلب العشرون: مقاصد النهي عن الاحتكار.
المطلب الحادي والعشرون: مقاصد النهي عن بيع العينة.
المطلب الثاني والعشرون: مقاصد النهي عن سلف وبيع.
المطلب الثالث والعشرون: مقاصد النهي عن المزابنة.
المطلب: الرابع والعشرون: مقاصد النهي عن النجش.
الخاتمة: وفيها ذكر أهم النتائج.
منهج البحث:
وضع مقدمة في كل مطلب تعين على فهمه.
جمع ما تيسر من الوقوف عليه مما يتعلق بمقاصد كل مطلب.
عزو الآيات للقرآن الكريم بذكر سورها وأرقامها وكتابتها بالرسم العثماني.
عزو الأحاديث إلى مصادرها.
توثيق النصوص وأقوال العلماء من مصادرها.
الالتزام بعلامات الترقيم وضبط ما يحتاج إلى ضبط.
خدمة البحث بوضع فهرس المراجع.
الفرع الأول
تعريف مقاصد الشريعة
وردت تعريفات عدة لمقاصد الشريعة, وسأقتصر هنا على ذكر بعضها:
قال محمد الطاهر بن عاشور: "مقاصد التشريع العامة, هي المعاني والحِكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها, بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة"[2].
وعرفها الشيخ علال الفاسي : بقوله: "المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي رمى إليها الشارع الحكيم عند تقريره كل حكم من أحكامها"[3].
وعرفها شيخنا الدكتور اليوبي بقوله: "المقاصد هي: المعاني والحِكَم ونحوها التي راعاها الشارع في التشريع عمومًا وخصوصًا، من أجل تحقيق مصالح العباد"[4].
وعرفها الدكتور يوسف البدوي بقوله: "الحكم التي أرادها الله من أوامره ونواهيه لتحقيق عبوديته وإصلاح العباد في المعاش والمعاد"[5].
الترجيح:
يظهر أن التعريف الأخير هو الراجح, وذلك لأنه جُمع فيه بين أصل المقاصد وأهمها وهو تحقيق العبودية لله تعالى ومصالح العباد, فالتعريف الأول تعريف للمقاصد العامة فقط, وأما التعريف الثاني فإنه شامل للمقاصد العامة والخاصة, غير أنه لم يذكر القصد منها, وأما تعريف شيخنا الدكتور اليوبي فلم يذكر فيه أصل المقاصد والغاية منها, وهو تحقيق العبودية لله تعالى[6].
الفرع الثاني
فوائد معرفة علم المقاصد
علم مقاصد الشارع له مقام عظيم, وذلك لأن معرفة حقيقة المصالح والمفاسد متوقفة عليه, فهو مفتاح لفهم نصوص الشريعة, ولذا يكتسب بالضرورة الحالة من الاحترام والتقدير, بحيث ينفرد العلماء المتخصصون في استنباطه وتوضيحه وتجليته للناس, ولذا تتبين فائدة علم مقاصد الشارع والغاية منه فيما يأتي:
إبراز علل التشريع وحِكمه ومراميه الجزئية والكلية, العامة والخاصة, في شتى مجالات الحياة وفي مختلف أبواب الشريعة[7].
وضع القواعد التي يستعين بها المجتهد على استنباط الأحكام الشرعية، ومعرفة المصالح التي قصدها الشارع من تكليف العباد بالأحكام[8].
قدرة المجتهد بعد وضع القواعد على استنباط الأحكام الشرعية، ووصوله إلى معرفة المصالح التي قصدها الشارع من تشريع الأحكام[9].
القدرة على تحقيق المناط في الحوادث التي لم تكن موجودة في زمن السابقين, حتى تعطى الحكم الشرعي المناسب[10].
القدرة على التنسيق بين الآراء المختلفة, ودرء التعارض بينها والترجيح بين الأقوال, واختيار الراجح منها عند عدم إمكانية الجمع[11].
عون المكلف على القيام بالتكليف والامتثال على أحسن الوجوه وأتمها, ذلك أن المكلف إذا علم مثلا أن المقصد من الحج التأدب الكامل مع الناس, والتحلي بأخلاق الإسلام العليا, فإنه إذا علم ذلك فسيعمل جاهدا ومجتهدا قصد تحصيل المرتبة العليا, التي تجعل صاحبها عائدا بعد حجه كيوم ولدته أمه[12].
إكساب المجتهد إحاطة بأحكام الشرع، ومعرفة كلياته المفيدة في معرفة جزئياتها[13].
الاطمئنان إلى ما نقل من أحكام في كتب المتقدمين؛ حيث جاءت وفق قواعد ثابتة، ومقاصد راسخة[14].
التقليل من الاختلاف والنزاع الفقهي, والتعصب المذهبي[15].
قدرة العالم بهذه القواعد والمقاصد على الرد على منكري حجية القياس, وتصور مطالبه وتطبيقها على الحوادث[16].
تفيد المجتهد فيما إذا خالف النص الشرعي مقاصد الشارع؛ فإن هذه المعرفة تعطي المجتهد ظناً غالباً أن لهذا النصِّ معارضاً؛ فتستدعيه هذه المعرفة أن يبحث عن المعارض بحثاً قويَّاً[17].
التوفيق بين خاصتي الأخذ بظاهر النص, والالتفات إلى روحه ومدلوله على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص, ولا العكس, لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض[18].
معرفة أن دين الإسلام صالح لكل زمانٍ ومكانٍ؛ حيث إن قواعده قادرة على إيجاد الأحكام لكل ما يجدّ من حوادث في أي مكانٍ وزمان[19].
معرفة أن دين الإسلام يراعي حال المكلّف عند تكليفه بالأحكام[20].
وواضح أن الفوائد المرجوة بالنسبة للمسلم العامي والداعية يمكن إجمالها في كونها أمورا: إيمانية, مناعية تحصينية, الغاية منها زيادة إيمان المسلم وتحصينه ضد التيارات والأفكار الضارة, من أجل تحقيق مهمة العبودية لله تعالى على أتم وجه
الفرع الثالث
تعريف البيوع المحرمة
البيوع جمع بيع, والمقصود بالبيع هو: مبادلة مال بمال على وجه مخصوص مع التراضي[21].
وأما المحرمة فمأخوذة من الحرام, وهو: ما يعاقب على فعله ويثاب على تركه, فمن فعله يعاقب على ذلك كشرب الخمر ونحو ذلك من المحرمات، ومن تركه يثاب على تركه[22].
فالبيوع المحرمة هي التي نهى الله عن تعاطيها وفعلها والتعامل بها, لمقصد من المقاصد التي تجلب مصلحة, أو تدفع ضررا.
المطلب الأول
مقاصد النهي عن بيع الرجل ما ليس عنده
وردت أحاديث في النهي عن بيع الرجل ما ليس عنده, منها:
حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: "يا رسول الله, الرجل يأتيني يسألني البيع ليس عندي فأبيعه منه, ثم أمضي إلى السوق, فأشتريه وأسلمه إياه, فقال: "لا تبع ما ليس عندك "[23].
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع, ولا ربح مالم يضمن ولا بيع ما ليس عندك"[24].
يتلخص من كلام العلماء أن مقصد النهي عن بيع ما ليس عندك, هو: دفع الغرر والمخاطرة في البيع, وذلك أن البائعَ إذا باعَ ما ليس في مُلكه، ولا له قُدرة على تسليمه، ليذهب ويحصله، ويسلمه إلى المشتري، كان ذلك شبيهاً بالقمار والمخاطرة مِن غير حاجة بهما إلى هذا العقدِ، ولا تتوقَّفُ مصلحتُهما عليه, والبائع متردد بين الحصول وعدمه, فكان غررا يشبه القمار فنهي عنه[25].
المطلب الثاني
مقاصد النهي عن تلقي الركبان
روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "لا تلقوا الركبان, ولا يبع بعضكم على بيع بعض"[26].
وصورة ذلك: أن يعلم إنسان بقدوم رفقة تحمل سلعا وأمتعة فيستقبلهم على قصد أن يشتري منهم, ويتقدم إليهم ليكذبهم في سعر البلد, ويشتري منهم شيئا من سلعهم أو جميعها بغبن"[27].
يظهر من كلام شراح الحديث أن الشارع منع من تلقي الركبان, لمقصدين عظيمين:
دفع الضرر عن أهل المدينة الذين يجلب إليهم السلعة.
منع غبن الركبان الذين لم يتعرفوا على أسعار السوق.
قال الماوردي: اختلف أصحابنا في المعنى الذي لأجله نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك ومنع منه أي: تلقي الركبان, فقال جمهورهم: إن المعنى فيه أن قوما بالمدينة كانوا يتلقون الركبان إذا وردت بالأمتعة فيخبرونهم برخص الأمتعة وكسادها ويبتاعونها منهم بتلك الأسعار، فإذا ورد أرباب الأمتعة المدينة شاهدوا زيادة الأسعار وكذب من تلقاهم بالأخبار, فيؤدي ذلك إلى انقطاع الركبان وعدولهم بالأمتعة إلى غيرها من البلدان, فنهى النبي صلى الله عليه و سلم عن تلقيهم نظرا لهم, ولما في ذلك من الخديعة المجانبة للدين.
وقال آخرون: بل المعنى في النهي عن تلقيهم أن من كان يبتاعها منهم يحملها إلى منزله ويتربص بها زيادة السعر، فلا يتسع على أهل المدينة ولا ينالون نقصا من رخصها، فنهى النبي صلى الله عليه و سلم عن تلقي الركبان للبيع حتى ترد أمتعتهم السوق فتجتمع فيه وترخص الأسعار بكثرتها فينال أهل المدينة نفعا برخصها، فيكون هذا النهي نظرا لأهل المدية والله أعلم[28].
وقال ابن تيمية: "ونهى عن تلقي السلع, وذلك لما فيه من تغرير البائع أو ضرر المشتري"[29].
ويقول السعدي :: "والحكمة من تحريم تلقي الجلب: أنه خديعة للجالب, لأنه يجهل السعر, فلو باع في هذه الصورة فهو بالخيار إذا هبط السوق, ويجب تأديب المتلقي له"[30].
المطلب الثالث
مقاصد النهي عن ربح ما لم يضمن
الضرر منفي شرعًا، فلا يحل لمسلم أن يضر أخاه المسلم بقول، أو فعل، أو سبّ بغير حق وسواء كان له في ذلك نوع منفعة أم لا؟, والضرر يرجع إلى أحد أمرين: إما تفويت مصلحة، أو حصول مضرة بوجه من الوجوه، فالضرر غير المستحق لا يحل إيصاله وعمله مع الناس، بل يجب على الإنسان أن يمنع ضرره وأذاه عنهم من جميع الوجوه، وكل معاملة من هذا النوع، فإن الله لا يبارك فيها، لأنه من ضارّ مسلما ضاره الله، ومن ضاره الله، ترحّل عنه الخير، وتوجه إليه الشر وذلك بما كسبت يداه، وكل ما كانت مضرته وإثمه أكبر من نفعه، فإن رحمة الله وحكمته تقتضي المنع منه وتحريمه على عباده[31].
ورد حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع, ولا ربح ما لم تضمن ولا بيع ما ليس عندك"[32].
لقد نهى الشارع عن ربح ما لم يضمن تحقيقا للعدل بين المتابعين ومنعا لأكل أموال الناس بالباطل, ذلك أنه ما من مبيع إلا وهو عرضة للهلاك والنقص, كما أنه محتمل للزيادة والربح, فمن عدل الشريعة أن جعلت الزيادة والربح لضامن الهلاك والنقص, لأن من الحيف أن يجعل الضمان على أحدها والربح للآخر, فمن العدل ألا يأخذ ربح المال إلا من تحمل تبعة هلاكه ونقصه.
يقول ابن تيمية: "فلا يبيع بربح حتى يصير في حوزته ويعمل فيها بعمل التجارة, إما بنقلها إلى مكان آخر, وإما حبسها إلى وقت آخر, إلى أن قال: والربح إنما يكون للتاجر الذي نفع الناس بتجارته, فأخذ الربح بإزاء نفعه, فلم يأكل أموال الناس بالباطل"[33]
يقول ابن القيم: "والنهي عن ربح ما لم يضمن قد أشكل على بعض الفقهاء علته وهو من محاسن الشريعة, فإنه لم يتم عليه استيلاء, ولم تنقطع علق البائع عنه فهو يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه, وإن أقبضه إياه فإنما يقبضه على إغماض وتأسف على فوت الربح, فنفسه متعلقة به لم ينقطع طمعها منه, وهذا معلوم بالمشاهدة, فمن كمال الشريعة ومحاسنها النهي عن الربح فيه حتى يستقر عليه ويكون من ضمانه, فييأس البائع من الفسخ, وتنقطع علقه عنه[34].
المطلب الرابع
مقاصد النهي عن بيع المسلم على بيع أخيه
والمقصود به: أن يذهب مثلا لمن اشترى سلعة من شخص بمائة, فيقول: أنا أعطيك مثلها بثمانين، أو أعطيك أحسن منها بمائة فيرجع المشتري ويفسخ العقد الأول ويعقد مع الثاني، ومثله الشراء على شرائه,[35] فإذا باع الرجل سلعة لأخيه المسلم ورضي المشترى, فلا يجوز لآخر أن يُغري البائع بالرجوع في بيعته ليشتريها هو بثمن أكثر، وقد نهى الرسول صلى الله عليه و سلم عن هذا النوع من البيوع بقوله: "لا يبيع بعضكم على بيع أخيه"[36], وذلك لمقاصد وحِكم جمة, وهي كما يلي:
منع إحداث البغضاء بين المسلمين, يقول السعدي: "والصحيح أن المنع من البيع على بيع أخيه, وشرائه على أخيه عام في زمن الخيارين, وغيرهما, لعموم النهي عنهما, ولأن العلة التي نهى عنها –وهو إحداث البغضاء بين المسلمين- موجودة ولو بعد الخيارين[37].
دفع حصول الشقاق بينهم, قال السعدي: "الثاني: قال: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض"[38] لأنه يقع به من الشقاق والبغضاء شيء كثير"[39].
المطلب الخامس
مقاصد النهي عن الربا
وأما الربا فهو عبارة عن إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر, فما يؤخذ منه زيادة عن رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل[40].
لا شك أن للربا أضرارًا جسيمة، وعواقب وخيمة، والدين الإسلامي لم يأمر البشرية بشيء إلا وفيه سعادتها، وعزها في الدنيا والآخرة، ولم ينهها عن شيء إلا وفيه شقاوتها، وخسارتها في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ)[41], ففي هذا الخبر التخويف والترغيب لمن يتعامل بالربا, وإن زاد كسبه واستُدرج استدراجا مؤقتا أن آخر أمره المحق ونزع البركة, وأن المتصدق الذي يقصد بصدقته وجه الله, ويراعي محلها يزيده الله نماء وبركة في رزقه[42], فما عند الله لا ينال إلا بطاعته وامتثال أمره, فالمتجرئ على الربا يعامل بنقيض قصده, وهذا مشاهد بالتجربة, ومن أصدق من الله قيلا[43], وسأجمل مقاصد النهي عن الربا فيما يأتي:
منع ظلم المحتاجين: يقول عند تفسير قوله تعالى: (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)[44]: وفي هذه الآية، بيان لحكمة النهي عن الربا، وأنه يتضمن الظلم للمحتاجين بأخذ الزيادة، وتضاعف الربا عليهم، ولهذا قال: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)[45], أي: وإن كان الذي عليه الدين معسرا، لا يقدر على الوفاء، وجب على غريمه أن ينظره إلى ميسرة, وهو يجب عليه إذا حصل له وفاء بأي طريق مباح، أن يوفي ما عليه, وإن تصدق عليه غريمه- بإسقاط الدين كله أو بعضه- فهو خير له، ويهون على العبد التزام الأمور الشرعية، واجتناب المعاملات الربوية، والإحسان إلى المعسرين، علمُه بأن له يوما يرجع فيه إلى الله، ويوفيه عمله، ولا يظلمه مثقال ذرة، كما ختم هذه الآية بقوله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[46][47].
استغناء الناس عنها, فقد أحل الله للناس الكسب الطيب, الذي يستغنون به عن الربا[48].
عدم تعطيل المكاسب والتجارات والحرف والصناعات التي لا تنتظم مصالح العالم إلا بها, لأن المرابي إذا تحصل على زيادة ماله بواسطة الربا بدون تعب, فلن يكتسب طرقا أخرى للكسب[49].
دفع الفساد عن الناس, فالربا سبب لوقوع الفساد في المجتمع[50].
عدم قطع المعروف بين الناس وسد باب القرض الحسن, فالربا يؤدي إليه[51].
المطلب السادس
مقاصد الحجر على السفيه والمجنون والمدِين
لقد جاء الإسلام لتحقيق المصالح أو تكميلها, ودرء المفاسد أو تقليلها, وشرع من التشريعات ما تعود مصلحتها على العبد أو من يتعامل معه من الخلق, ومن ذلك مشروعية الحجر على السفيه والمجنون والمدين, فقد منع الله السفيه والمجنون والمدين من التصرف في أموالهم لمقاصد:
حفظ الأموال وصيانتها.
إيصال الحقوق إلى أهلها.
يقول السعدي :: والمقصود بالحجر هو حفظ الأموال وصيانتها وإيصال الحقوق إلى أهلها, فيجب على وليهم منعهم من التصرف في مالهم, ويتولى هو حفظه والتصرف فيه, ولا يتصرف في مالهم إلا بما فيه مصلحة, فيجري عليهم من النفقة من أموالهم بالمعروف, وما احتاجوا إليه من تعلم علم أو صنعة في أموالهم, وذلك عين مصلحتهم وهذا من محاسن الشريعة, حيث لم يمكّن القاصرين من أموالهم خوف الضرر عليهم, ويــدل عليه أيضا قولــه تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا)[52][53].
إرشاد العباد إلى السعي في كل تصرف نافع غير ضار[54].
تحقيق مصالح المحجورين[55].
المطلب السابع
مقاصد النهي عن بيع فضل الماء
لقد أوجب الله على المسلمين أن يكونوا إخوة مجتمعين على الحق، متحابين متعاونين على البر والتقوى، متناهين عن الإثم والعدوان، وشرع لهم ما يقوي هذه الأخوة والمحبة من الاجتماع على الصلوات الخمس والجمع والأعياد والحج، كما شرع لهم تبادل التحية والسلام والمصافحة وتشميت العاطس وإجابة الدعوة والنصيحة وعيادة المريض واتباع الجنائز, وتبادل الهدايا، وكل هذا من أسباب المحبة والألفة وإزالة العداوة والبغضاء[56]، فمن أعظم البر السعي في جمع كلمة المسلمين واتفاقهم بكل طريق، كما أن السعي في تفريق كلمة المسلمين من أعظم التعاون على الإثم والعـدوان[57].
ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ"[58].
فقد نهي الشارع عن بيع فضل الماء لئلا يكون ذريعة إلى منع فضل الكلأ, كما علل به في نفس الحديث, فجعله بمنعه من الماء مانعا من الكلأ, لأن صاحب المواشي إذا لم يمكنه الشرب من ذلك الماء لم يتمكن من المرعى الذي حوله[59].
المطلب الثامن
مقاصد النهي عن حلوان الكاهن
لقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن أكل حلوان الكاهن في قوله: "إن مهـر البغي[60] وثـمن الكلب وكسب الحجام وحلوان الكاهن[61] من السحت"[62][63], وذلك لمقاصد عدة, يمكن إجمالها فيما يأتي:
صيانة التوحيد, وسد وسائل الشرك.
منع الكاهن من الاستمرار في عمله الفاسد.
كونه من أكل أموال الناس بالباطل.
يقول ابن العربي: "وأما حلوان الكاهن فمن أكل المال بالباطل, لأنه شر الكذب والضلال, فيكون كشراء المحرم من الميتة والأصنام وما شابهها"[64].
ويقول ابن القيم: "والشارع صلوات الله عليه حرم من تعاطي ذلك, ما مضرتُه راجحة على منفعته، أو ما لا منفعة فيه، أو ما يُخشى على صاحبه أن يجرَّه إلى الشرك، وحرم بذل المال في ذلك، وحرم أخذه به صيانة للأمة عما يُفسد عليها الإيمان أو يخدِشُه"[65].
المطلب التاسع
مقاصد النهي عن بيع الحصاة
ورد عند مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع الحصاة" [66].
يقول ابن القيم: "فُسِّرَ بيعُ الحصاة بأن يقول: ارمِ هذه الحصاةَ، فعلى أيِّ ثوبِ وقعت، فهو لك بِدرهم، وفسر بأن بيعَه مِن أرضه قدرَ ما انتهت إليه رميةُ الحصاة، وفُسِّرَ بأن يقبض على كف من حصا، ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع، أو يبيعه سلعة، ويَقْبِض على كف مِن الحصا، ويقول: لي بكُلِّ حصاة, درهم، وفُسِّرَ بأن يمسك أحدهما حصاة في يده، ويقول: أي وقت سقطت الحصاة، وجب البيعُ، وفُسِّرَ بأن يتبايعا، ويقول أحدهما: إذا نبذت إليك الحصاة، فقد وجب البيعُ، وفُسِّرَ بأن يعترِضَ القطيع مِن الغنم، فيأخذ حصاة، ويقول: أيُّ شاة أصبتها، فهي لك بكذا، وهذه الصورُ كلُها فاسدة لما تتضمنه من أكل المال بالباطل، ومِن الغَرَرِ والخطر الذي هو شبيه بالقمار[67].
لقد حرص الإسلام على زرع معاني الأخوة والمحبة بين المسلمين، وجاء التشريع الإسلامي متساوقا مع هذا المعنى، فحرمت الشريعة الغرر في العقود من بيع وإجارة، والغرر هو تلك الجهالة في المعقود عليه كيفًا، أو كمًّا، أو مكانا، أو زمانا، أو قيمة وما إلى ذلك، فما كان يؤدي من ذلك إلى التنازع حرمته الشريعة، وما جرت العادة بالتسامح فيه كان مخصوصا من المنع.
يتلخص من كلام ابن القيم السابق أن بيع الحصاة إنما منع لما تضمنه من أكل أموال الناس بالباطل والغرر والمخاطرة.
المطلب العاشر
مقاصد النهي عن بيع الملامسة والمنابذة
"نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيعتين, نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع, والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك, والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه, وينبذ الآخر ثوبه ويكون ذلك بيعهما عن غير نظر ولا تراض"[68].
والمقصود من النهي عن بيع الملامسة والمنابذة هو نفي الغرر والمخاطرة عن الناس, قال إمام الحرمين: "ولا شك في فساد هذا العقد لأنه تغرير"[69], وقال ابن القيم: "فالغرر في ذلك ظاهر، وليس العلة تعليقَ البيعِ بشرط، بل ما تضمنه مِن الخطر والغرر, وأكل أموال الناس بالباطل, ويئول إلى إضرار البائع أو المشتري[70].
المطلب الحادي عشر
مقاصد النهي عن بيع حبل الحبلة
عن عبد الله بن عمر م: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم "نهى عن بيع حَبَل الحبَلة وكان بيعا يتبايعه أهل الجاهلية وكان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها"[71].
يظهر من كلام علماء المقاصد أن هذا النوع من البيع محرم لأمرين:
كونه معدوما ومجهولا.
كون ذلك من المخاطرة والغرر.
قال إمام الحرمين: "ولا شك في فساد هذا العقد, وسببه جهالة الأجل"[72].
قال ابن القيم: "الثالث: معدوم لا يُدرى يحصُل أو لا يحصُل، ولا ثقة لبائعه بحصوله، بل يكونُ المشتري منه على خطر، فهذا الذي منع الشارعُ بيعَه لا لِكونه معدوماً، بل لكونه غَرَراً، فمنه صورةُ النهي التي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر م، فإن البائعَ إذا باعَ ما ليس في مُلكه، ولا له قُدرة على تسليمه، ليذهب ويحصله، ويسلمه إلى المشتري، كان ذلك شبيهاً بالقمار والمخاطرة مِن غير حاجة بهما إلى هذا العقدِ، ولا تتوقَّفُ مصلحتُهما عليه، وكذلك بيعُ حَبَلِ الحَبَلَة -وهو بيعُ حمل ما تحمِلُ ناقتُه-، ولا يختصُّ هذا النهي بحمل الحمل، بل لو باعه ما تحمِلُ ناقتُه أو بقرتُه أو أمتُه، كان مِن بيوع الجاهلية التي يعتادونها[73]".
المطلب الثاني عشر
مقاصد النهي عن بيع عسب الفحل
روى البخاري من حديث ابن عمر م: "نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن عسب الفحل"[74], وفى صحيح مسلمٍ عن جابر رضي الله عنه أن النبىَّ صلى الله عليه و سلم "نهى عن بَيْعِ ضِرَابِ الفحل[75]"
وحديث جابر مفسر لحديث ابن عمر, وقيل: عسب الفحل: ماؤه, وقيل: كرائه, أي تأجيره[76], قال ابن القيم: "والنبي صلى الله عليه و سلم نهى عما يعتادونه من استئجار الفحل للضِّراب، وسمي ذلك بيع عَسْبِهِ، فلا يجوزُ حمل كلامه على غير الواقع والمعتاد, وإخلاء الواقع من البيان مع أنه الذي قصد بالنهى، ومن المعلوم أنه ليس للمستأجر غرض صحيح في نزو الفحل على الأنثى الذي له دفعات معلومة، وإنما غرضُه نتيجة ذلك وثمرته، ولأجله بذل ماله.
وقد علَّل التحريمَ بعدة علل, منها:
إحداها: أنه لا يقدر على تسليم المعقود عليه، فأشبه إجارة الآبق، فإن ذلك متعلق باختيار الفحل وشهوته.
الثانية: أن المقصودَ هو الماءُ وهو مما لا يجوز إفرادُه بالعقد، فإنه مجهولُ القدر والعين وهذا بخلاف إجارة الظئر، فإنها احتملت بمصلحة الآدمي، فلا يُقاسُ عليها غيرُها، وقد يقال والله أعلم إن النهى عن ذلك مِن محاسن الشريعة وكمالها, فإن مقابلة ماء الفحل بالأثمان، وجعله محلاً لعقود المعاوضات مما هو مستقبح ومستهجَن عند العقلاء، وفاعل ذلك عندهم ساقط مِن أعينهم في أنفسهم، وقد جعل الله سبحانه فِطَرَ عباده لا سيما المسلمين ميزاناً للحسن والقبيح، فما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عند الله قبيح.
ويزيد هذا بياناً أن ماء الفحل لا قيمة له، ولا هو مما يُعاوض عليه، ولهذا لو نزا فحلُ الرجل على رَمَكَة[77] غيره، فأولدها، فالولد لِصاحب الرَّمَكَةِ اتفاقاً، لأنه لم ينفصِلْ عن الفحل إلا مجردُ الماء وهو لا قيمة له، فحرمت هذه الشريعةُ الكاملةُ المعاوضةَ على ضِرابه ليتناوله الناس بينهم مجاناً، لما فيه مِن تكثير النسل المحتاج إليه من غير إضرار بصاحب الفحل، ولا نقصان من ماله، فمن محاسن الشريعة إيجابُ بذلِ هذا مجاناً، فهذه حقوقٌ يضر بالناس منعُها إلا بالمعاوضة، فأوجبت الشريعة بذلها مجاناً[78].
المطلب الثالث عشر
المقصد الشرعي من تحريم بيع الأصنام
إن أفعال الله وكذلك أحكامه، تابعة لحكمته، فلا يخلق شيئا عبثا، بل لا بد له من حكمة، عرفناها، أم لم نعرفها، وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة، فدين الإسلام هو دين الحكمة ودين الفطرة، ودين العقل والصلاح والفلاح، ولذلك كان محتويا على الأحكام الأصولية والفروعية التي تقبلها الفطر والعقول، فلا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة، أو راجحة، ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة، لتمام حكمته ورحمته[79].
ذكر البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله م: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول عام الفتح وهو بمكة "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام", وقد استنبط العلماء النهي عن بيع الأصنام, وأجملها ابن القيم في قوله: "وأما تحريمُ بيع الأصنام، فُيستفاد منه تحريمُ بيع كُلِّ آلة متخذة للشرك على أي وجه كانت، ومن أي نوع كانت صنماً أو وثناً أو صليباً، وكذلك الكُتب المشتمِلَةُ على الشرك، وعبادة غير الله، فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها، وبيعُها ذريعةٌ إلي اقتناعها واتخاذها، فهو أولى بتحريم البيع مِن كل ما عداها، فإن مفسدةَ بيعها بحسب مفسدتها في نفسها"[80].
يتلخص من كلام ابن القيم السابق: أن المقصد من تحريم بيع الأصنام هو حفظ جناب التوحيد, وسد وسائط الشرك.
المطلب الرابع عشر
مقاصد النهي عن الميسر
لقد نهى الله عن الميسر لدفع مفاسد عدة, يمكن إجمالها فيما يلي:
الصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
إيجاب الإثم والعداوة والبغضاء بين الناس.
كونها من عمل الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان.
كونها رجسا، والأمور الخبيثة مما ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بها.
يقول ابن تيمية: هب أن علة التحريم في الأصل هي المقامرة لكن الشارع قرن بين الخمر والميسر في التحريم؛ فقال تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)[81], فوصف الأربعة بأنها رجس من عمل الشيطان؛ وأمر باجتنابها, ثم خص الخمر والميسر بأنه يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة, ويهدد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى: (فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) كما علق الفلاح بالاجتناب في قوله: (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ولهذا يقال: إن هذه الآية دلت على تحريم الخمر والميسر من عدة أوجه, ومعلوم أن "الخمر" لما أمر باجتنابها حرم مقاربتها بوجه فلا يجوز اقتناؤها ولا شرب قليلها, ومن المعلوم أن هذه الملاعب تشتهيها النفوس وإذا قويت الرغبة فيها أدخل فيها العوض كما جرت به العادة, وكان من حكم الشارع أن ينهى عما يدعو إلى ذلك لو لم يكن فيه مصلحة راجحة وهذا بخلاف المغالبات التي قد تنفع: مثل المسابقة والمصارعة ونحو ذلك, فإن تلك فيها منفعة راجحة لتقوية الأبدان فلم ينه عنها لأجل ذلك, ولم تجر عادة النفوس بالاكتساب بها"[82].
وقد فصل العلامة السعدي الكلام في هذه النقاط عند تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)[83], حيث يقول: "فهذه نهى الله عنها وزجر، وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها واجتنابها، فمنها: أنها رجس، أي: خبث، نجس معنى، وإن لم تكن نجسة حسا، والأمور الخبيثة مما ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بها, ومنها: أنها من عمل الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان، ومن المعلوم أن العدو يُحذر منه، وتُحذر مصايده وأعماله، خصوصا الأعمال التي يعملها ليوقع فيها عدوه، فإنها فيها هلاكه، فالحزم كل الحزم في البعد عن عمل العدو المبين، والحذر منهـا، والخوف من الوقوع فيها, ومنها: أنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها، فإن الفلاح هو: الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المرهوب، وهذه الأمور مانعة من الفلاح ومعوقة له, ومنها: أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس، والشيطان حريص على بثها، ليوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء، فإن في الميسر من غلبة أحدهما للآخر، وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة، ما هو من أكبر الأسباب للعداوة والبغضاء, ومنها: أن هذه الأشياء تصد القلب، ويتبعه البدن عن ذكر الله وعن الصلاة، اللذين خلق لهما العبد، وبهما سعادته، فالميسر، تصد عن ذلك أعظم صد، ويشتغل قلبه، ويذهل لبه في الاشتغال بهما، حتى يمضي عليه مدة طويلة وهو لا يدري أين هو؟.
فأي معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها، وتجعله من أهل الخبث، وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه، فينقاد له كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها، وتحول بين العبد وبين فلاحه، وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وتصد عن ذكر الله و الصلاة؟, فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر؟, ولذا عرض تعالى على العقول السليمة النهي عنها عرضا بقوله:َ(هَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)[84], لأن العاقل -إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد- انزجر عنها وكفت نفسه، ولم يحتج إلى وعظ كثير ولا زجر بليغ"[85].
يتبع