ابو وليد البحيرى
2019-09-23, 01:35 PM
مقاصد الشريعة الجزئية في الأحوال الشخصية
د. جميل يوسف زريوا
ملخص البحث: توصلت في هذا البحث إلى أن المقصود الأساس من النكاح هو امتثال أمر الله تعالى, وحفظ النسل, حتى يكون النوع الإنساني على أكمل وجه, كما أن المقصود من مشروعية الطلاق: إزالة الضرر عن الزوجين أو أحدهما, وأما الرجعة فتبين أن مقصودها سد باب الخصومة, وإذا تدبرت ما شرعه الله في هذه المعاملات, والحقوق الزوجية, وجدت ذلك كله خيرا وبركة, لتقوم مصالح العباد وتتم الحياة الطيبة.
Abstract:
From this research, I arrived at the conclusion that the main objective of marriage is obedience to the commandment of Allah and protection of progeny so that mankind can be in his best form. Likewise, the main objective of legalising divorce is to remove harm from the couple or one of them. As for remarriage with one's divorced wife, it is obvious that its objective is to block the door of dispute, and when you ponder over what Allah has legislated in these dealings and marital rights you will find that all of it is blessing and good, so as to strengthen the well being of people and perfect good life.
المقدمة: الحمد لله الذي اعتبر الحِكم في كل أفعاله، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد الأمين الذي راعى المقاصد في كل ما صدر عنه من أحكام, وعلى آله وصحبه الذين لا يغفلون عن مقاصد الشارع في اجتهاداتهم, أما بعد: فإن مقاصد الشريعة هي سر التشريع، والاشتغال بذلك من أفضل الأعمال، لأن بها يعرف استنباط الأحكام الشرعية، وبها يوقف على المصالح التي قصدها الشارع في أوامره ونواهيه, وقد أردت في هذه الأوراق أن أبين بعض المقاصد التي تتعلق بـالأحوال الشخصية (النكاح وما يتبعه) مجملا, وليس القصد هو الاستقراء ولا البسط, ولكن الإشارة إلى أهمها, لأن الاستيفاء غير ممكن, لطبيعة البحث.
أهمية الموضوع وأسباب اختياره:
كون هذا الموضوع يهتم بالمقاصد الجزئية وهو مما يحتاج إليه لمعرفة ما تتضمنه أوامر ونواهي الشارع من أسرار ومصالح وحِكم.
بدراسة هذا العلم يتعرّف على حلّ مشكلات العالم وفق الضوابط المقرّرة, الموافقة للفطر السليمة والعقول الصحيحة.
حاجة المكتبة الإسلامية إلى مزيد من الدراسات المقاصدية، لاسيما فيما يتعلق بالمقاصد الجزئية، ولعل هذه الدراسة تضيف جديدا أو تسد فراغا.
كون أكثر أحكام التي يحتاج إليها الناس تدور في الأحوال الشخصية فضرورة النكاح حاصلة لقضاء وطرهم, فصار معرفة مقاصدها من الأهمية بمكان.
خطة البحث:
وتتضمن مقدمة وتمهيد وستة مباحث وخاتمة وفهارس.
المقدمة: وتتضمن الافتتاحية وأسباب اختيار الموضوع ومنهجي في البحث.
التمهيد: ويتضمن ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف مقاصد الشريعة الإسلامية.
المطلب الثاني: الفائدة من دراسة علم المقاصد.
المطلب الثالث: تعريف المقاصد الجزئية.
المبحث الأول: مقاصد النكاح.
المبحث الثاني: مقاصد عدم جواز الزيادة على أكثر من أربع في النكاح.
المبحث الثالث: مقاصد الطلاق.
المبحث الرابع: مقاصد الإشهاد على الطلاق.
المبحث الخامس: مقاصد المتعة في الطلاق.
المبحث السادس: مقاصد الاستبراء والعدة.
الخاتمة: وفيها ذكر أهم النتائج.
منهج البحث:
- وضع مقدمة في كل مطلب تعين على فهمه.
- جمع ما تيسر من الوقوف عليه مما يتعلق بمقاصد كل مطلب.
- عزو الآيات للقرآن الكريم بذكر سورها وأرقامها وكتابتها بالرسم العثماني.
- عزو الأحاديث إلى مصادرها, وتخريجها تخريجا علميا يبين درجتها.
- توثيق النصوص وأقوال العلماء, بعزو هذه وتلك إلى مصادرها الأصيلة.
- الالتزام بعلامات الترقيم وضبط ما يحتاج إلى ضبط.
- خدمة البحث بوضع فهارس.
التمهيد:
المطلب الأول تعريف مقاصد الشريعة كثير ممن كتبوا في المقاصد ذكروا أنهم لم يعثروا على تعريف محدد لدى العلماء السابقين, وإنما اكتفوا بالتنصيص على بعض مقاصد الشريعة أو التقسيم لأنواعها, كما في نص الغزالي: "ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم, فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة, وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة",([1]) أو نص الشاطبي: "تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية, والثاني: أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون تحسينية ([2]).
فلم يحددوا له معنى, بحيث يتميز به عن الألفاظ ذات الصلة أو القريبة من معانيه, وذلك لأن بعضهم كان يتعرض للكلام عن المقاصد تبعًا لموضوع آخر في الأصول، كالعلل أو المصالح أو غير ذلك, ولعل وضوح معنى المقاصد جعل هؤلاء الأوائل لم يعرّجوا على تعريفها ؛ ولأنه يعبر عنها بأكثر من لفظ ([3]).
أما المتأخرون من الذين اعتنوا بالمقاصد, فقد حاولوا تعريف المقاصد من حيث الاصطلاح, وسأقتصر هنا على ذكر بعضها:
- قال محمد الطاهر بن عاشور: "مقاصد التشريع العامة, هي المعاني والحِكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها, بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة"([4]).
- وعرفها الشيخ علال الفاسي -رحمه الله- بقوله: "المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي رمى إليها الشارع الحكيم عند تقريره كل حكم من أحكامها"([5]).
- وعرفها شيخنا الدكتور اليوبي بقوله: "المقاصد هي المعاني والحِكَم ونحوها التي راعاها الشارع في التشريع عمومًا وخصوصًا، من أجل تحقيق مصالح العباد"([6]).
- وعرفها الدكتور يوسف البدوي بقوله: "الحكم التي أرادها الله من أوامره ونواهيه لتحقيق عبوديته وإصلاح العباد في المعاش والمعاد"([7]).
الترجيح:
يظهر أن التعريف الأخير هو الراجح, وذلك لأنه جمع فيه بين أصل المقاصد وأهمها وهو تحقيق العبودية لله تعالى ومصالح العباد, فالتعريف الأول تعريف للمقاصد العامة فقط, وأما التعريف الثاني فإنه شامل للمقاصد العامة والخاصة, غير أنه لم يذكر القصد منها, وأما تعريف شيخنا الدكتور اليوبي فلم يذكر فيه أصل المقاصد والغاية منها, وهو تحقيق العبودية لله تعالى ([8]).
المطلب الثاني فوائد معرفة علم المقاصد علم مقاصد الشارع له مقام عظيم, وذلك لأن معرفة حقيقة المصالح والمفاسد متوقفة عليه, فهو مفتاح لفهم نصوص الشريعة, ولذا يكتسب بالضرورة الحالة من الاحترام والتقدير, بحيث ينفرد العلماء المتخصصون في استنباطه وتوضيحه وتجليته للناس, ولذا تتبين فائدة علم مقاصد الشارع والغاية منه فيما يأتي:
- إبراز علل التشريع وحِكمه ومراميه الجزئية والكلية, العامة والخاصة, في شتى مجالات الحياة وفي مختلف أبواب الشريعة ([9]).
- وضع القواعد التي يستعين بها المجتهد على استنباط الأحكام الشرعية، ومعرفة المصالح التي قصدها الشارع من تكليف العباد بالأحكام([10]).
- قدرة المجتهد بعد وضع القواعد على استنباط الأحكام الشرعية، ووصوله إلى معرفة المصالح التي قصدها الشارع من تشريع الأحكام([11]).
- القدرة على تحقيق المناط في الحوادث التي لم تكن موجودة في زمن السابقين, حتى تعطى الحكم الشرعي المناسب([12]).
- القدرة على التنسيق بين الآراء المختلفة, ودرء التعارض بينها والترجيح بين الأقوال, واختيار الراجح منها عند عدم إمكانية الجمع([13]).
- عون المكلف على القيام بالتكليف والامتثال على أحسن الوجوه وأتمها, ذلك أن المكلف إذا علم مثلا أن المقصد من الحج التأدب الكامل مع الناس, والتحلي بأخلاق الإسلام العليا, فإنه إذا علم ذلك فسيعمل جاهدا ومجتهدا قصد تحصيل المرتبة العليا, التي تجعل صاحبها عائدا بعد حجه كيوم ولدته أمه([14]).
- اكتساب المجتهد إحاطة بأحكام الشرع، ومعرفة كلياته المفيدة في معرفة جزئياتها([15]).
- الاطمئنان إلى ما نقل من أحكام في كتب المتقدمين؛ حيث جاءت وفق قواعد ثابتة، ومقاصد راسخة([16]).
- التقليل من الاختلاف والنزاع الفقهي, والتعصب المذهبي([17]).
- قدرة العالم بهذه القواعد والمقاصد على الرد على منكري حجية القياس, وتصور مباحثه وتطبيقها على الحوادث([18]).
- تفيد المجتهد فيما إذا خالف النص الشرعي مقاصد الشارع؛ فإن هذه المعرفة تعطي المجتهد ظناً غالباً أن لهذا النصِّ معارضاً؛ فتستدعيه هذه المعرفة أن يبحث عن المعارض بحثاً قويَّاً.([19]).
- التوفيق بين خاصتي الأخذ بظاهر النص, والالتفات إلى روحه ومدلوله على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص, ولا العكس, لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض([20]).
- معرفة أن دين الإسلام صالح لكل زمانٍ ومكانٍ؛ حيث إن قواعده قادرة على إيجاد الأحكام لكل ما يجدّ من حوادث في أي مكانٍ وزمان([21]).
- معرفة أن دين الإسلام يراعي حال المكلّف عند تكليفه بالأحكام ([22]).
وواضح أن الفوائد المرجوة بالنسبة للمسلم العامي والداعية يمكن إجمالها في كونها أمورا: إيمانية, مناعية تحصينية, الغاية منها زيادة إيمان المسلم وتحصينه ضد التيارات والأفكار الضارة, من أجل تحقيق مهمة العبودية لله تعالى على أتم وجه.
المطلب الثالث تعريف المقاصد الجزئية المقصود بالمقاصد الجزئية: هي المقاصد المتعلقة بمسألة معينة دون غيرها, أو دليل خاص, فما يستنتج من الدليل الخاص من حكمة أو معنى يعتبر مقصدا شرعيا جزئيا([23]), مثل مقصد الأذان والصلاة, والزكاة والصيام والحج, فقد نص الشارع لكل من هذه المسائل مقاصد معينة, فالأذان مثلا شرع للإعلام بدخول الوقت, والصلاة شرعت لإقامة ذكر الله, والزكاة لمواساة المحتاجين, والحج للتذكر بأحوال الأنبياء.
وليس المقصود في هذه الأوراق هو استقصاؤها, ولكن المقصود هو الإشارة إلى مقاصد بعض مسائل الأحوال الشخصية.
المقاصد الجزئية المتعلقة بالأحوال الشخصية, وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: مقاصد النكاح.
المبحث الثاني: مقاصد مشروعية التعدد.
المبحث الثالث: مقاصد عدم جواز الزيادة على أكثر من أربع في النكاح.
المبحث الرابع: مقاصد الطلاق.
المبحث الخامس: مقاصد الإشهاد على الطلاق.
المبحث السادس: مقاصد المتعة في الطلاق.
المبحث السابع: مقاصد الاستبراء والعدة.
المبحث الأول مقاصد النكاح لقد منّ الباري على عباده بالنكاح قدرا وأباحه شرعا، ورضيه وحث عليه ؛ لما يترتب عليه من المصالح الكثيرة, فالنكاح من أكبر النعم, وهو الطريقة الأساسية لبناء الأسرة المسلمة, والطريقة المثلى لوجود إنسان يحقق عبودية الله, فلو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء([24]), وفيما يلي ذكر هذه المحاسن التي يتضمنها:
- التقرب إلى الله تعالى وامتثال أمره.
- غض البصر عن الحرام وإعفاف فرج الزوج والزوجة.
- التذكر لنعم الله على العبد، والتفرغ لعبادته.
- تعاون الزوجين على مصالح دينهما ودنياهما, واجتماعهم في خير وعافية ووئام, يقول السعدي: "وأما النكاح: فقد أمر الله به ورسوله, وفيه: تحصين الفرج، وغض البصر، وتحصيل النسل، والإنفاق على الزوجة والأولاد؛ فإن العبد إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له أجراً، وحسنات عند الله، سواء كانت مأكولاً أو مشروبًا أو ملبوسًا أو مستعملاً في الحوائج كلها, كله خير للعبد، وحسنات جارية, وهو أفضل من نوافل العبادات القاصرة, وفيه: التذكر لنعم الله على العبد، والتفرغ لعبادته، وتعاون الزوجين على مصالح دينهما ودنياهما([25]).
- الترفع ببني الإنسان عن الحياة البهيمية إلى الحياة الإنسان الكريمة([26]).
- نجابة الأولاد وشرفهم, وأساسه الحسب والنسب الرفيع([27]).
- حفظ النسل وتكثيره؛ بغرض إعمار الكون وبقاء النوع الإنساني، وكذلك إكثار أفراد الأمة المسلمة وتقويتها وتمكينها في الوجود الحياتي والكوني حتى تكون مرهوبة الجانب، عزيزة الذات، فاعلة الأثر والتأثير، وحتى تؤدي رسالة الاستخلاف في الأرض، والشهادة على الناس, لذلك جاءت الأدلة الشرعية تحث على الزواج والإنجاب، وترغب في التناسل، وتحرم قتل الأولاد والبنات بسبب الفقر أو العار أو ما شابه ذلك، وتحظر الإجهاض إلا عند الضرورات القصوى، كأن يُخشى على الأم من الموت أو الهلاك المحقق بسبب خطر الجنين، فيباح إجهاضه؛ لأن المحافظة على الأصل مقدمة على المحافظة على الفرع ([28]).
- الإنفاق على الزوجة والأولاد ورعايتهم ([29]).
يقول السعدي: "ويقصد به إحصان الفرج والسرور في الحياة، وعمدة هذا حسن الأخلاق الظاهرة وحسن الخلائق الباطنة، ويقصد به نجابة الأولاد وشرفهم، وأساسه الحسب والنسب الرفيع، ولهذا أباح الشارع، بل أمر بالنظر لمن يخطبها، ليكون على بصيرة من أمره"([30]).
- السرور في الحياة, ولهذا أمر الشارع بالنظر لمن يخطبها, ليكون على بصيرة من أمره ([31]).
- حفظ الأنساب, فإن الغرض الأظهر في إحلال النكاح أن يختص بعل بزوجته, ولا يزدحم ناكحان على امرأة, فيؤدي ذلك إلى اختلاط الأنساب"([32]).
- التحصين من الزنا, فالنكاح شرع لتحصين الزوجين من فاحشة الزنا, فهو يصرف الشهوة الجنسية بالطريق المشروع([33]).
- تحقيق السكن والمودة والرحمة بين الزوجين، وتحقيق التآلف والتعاون على البر والتقوى ودوام العشرة بالمعروف، مما يكون له الأثر الكبير في عبادتهما وانقيادهما لله تعالى، وفي إعمار الأرض وإصلاحها وتجميلها وجعلها مزرعة للآخرة وممراً لها, ولم يعد خفيفاً ما تعانيه المجموعة الدولية –بتفاوت ملحوظ بحسب الاعتبارات الدينية الأخلاقية– من آثار الشذوذ الجنسي، وتعاطي المخدرات، ومزاولة العنف والتقتيل والترويع، وغير ذلك مما هو نتيجة حتمية في الغالب لتفكك الأسرة، وتهميش دورها التربوي والوجداني والحضاري بصورة عامة, فلعل بعد كل ذلك نكون بيّنّا لك أخي الدارس والقارئ ما للأسرة المُسلمة الصالحة من دور فعال، وتأثير ملحوظ في بناء الأجيال والمجتمعات، وتحقيق الأمل المنشود والمقصد المفقود، ألا وهو الأمة التي أخرجت للناس لإصلاحها وإسعادها في المعاش والمعاد, قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾([34]),([35]).
- بناء الأسرة المسلمة وإيجاد المجتمع الصالح: من مقاصد النكاح بناء الأسرة المسلمة المكونة من الزوجين الشرعيين ومن الأصل والفروع، التي تطيع ربها وتعمل بأحكامه وتعاليمه، وتسهم في بناء المجتمع الإسلامي الصالح، وبناء الأمة المسلمة والقائدة, ومعلوم أن الأمة المسلمة قد اختارها الله تعالى لتكون خير أمة أخرجت للناس، بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله، وأداء العمل الصالح، والقيام برسالة الاستخلاف بكل صورها ومجالاتها وأبعادها, وهذه الأمة لن تتحقق إلا ببناء المجتمعات والشعوب الإسلامية على اختلاف أعراقها وألوانها وقاراتها ودولها وتقاليدها وخاصياتها, وبناء تلك المجتمعات والشعوب متوقف على إيجاد وبناء الأسرة المسلمة الصالحة المتزنة المستقيمة العارفة بعقيدتها الصحيحة وتدينها المطلوب وتعاملها الرشيد, فتكون النتيجة المستخلصة والبديهية، أن الأمة المسلمة بأسرها متوقف وجودها ونجاحها على الأسرة الناجحة والناهضة والمجتهدة.
إن الأسرة المسلمة مطلب له أهميته الكبرى، ومقصد شرعي دلت عليه القواطع والظواهر والقرائن المختلفة، وهو طريق وجود الأمة ووحدتها وتقدمها وقوتها, وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, ولقد أدرك خصوم الأمة وأعداؤها أهمية الأسرة المسلمة ودورها الحضاري العام، وشأنها في تحقيق السيادة والشهادة على الناس، فراحوا يعملون بوسائل شتى لأجل تحجيمها وتشتيتها وإضعافها، ولاسيما أن كثيراً من الأسرة والمجتمعات غير المسلمة تعيش أوضاعاً أخلاقية لا تحسد عليها، وتشهد التفكك الأسري، والميوعة الأخلاقية، والتسيب القيمي، والتهارج القانوني والنظامي بشكل مفزع وخطير, وقد زاد هذا في غيظهم ومكرهم وحرصهم على تدمير الأسرة المسلمة الحصن الحصين لسلامة الأمة وقوتها وتمكينها([36]).
- تطهير المجتمع من الأمراض الجنسية والآفات الخلقية: لعل هذا المقصد متضمن في المقصد السابق، المتعلق ببناء الأسرة المسلمة، والمجتمع الإسلامي، والأمة القوية والرائدة، المرتكزة على طهارة الظاهر والباطن، والسلامة من العيوب والأمراض الجنسية والخلقية والحضارية بشكل عام، وفي أغلب الأحيان وأكثرها, غير أننا أفردنا هذا المقصد بالذكر والبيان لأهميته وخطورته، ولاسيما في العصر الحالي وفي كثير من المجتمعات والدول التي شهدت ما لا يحصى من المشكلات والأزمات القانونية والسياسية والاجتماعية؛ بسبب الأمراض الجنسية الخطيرة (الزهري، السيلان، الإيدز)، وبسبب العاهات والآفات الخُلقية والقيمية التي أدت إلى التحلل الاجتماعي العام، والتَّسَيُّب الأسري الملحوظ ([37]).
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: ولما كانت مفسدة الزنا من أعظم المفاسد وهي منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الفروج، وصيانة الحرمات، وتوقي ما يوقع أعظم العداوة والبغضاء بين الناس، من إفساد كل منهم امرأة صاحبه، وبنته، وأخته، وأمه، وبذلك خراب العالم، كانت تلي مفسدة القتل في الإثم، ولذا قرنها الله به في القرآن الكريم ورسول الله في سنته فالزواج الشرعي الصحيح هي الكفيل الوحيد في صون المجتمع من كل هذه الأخطار، وتحقيق حفظ النفس من المهالك والمخاطر, ومعلوم أن حفظ النفس من المقاصد الضرورية التي وضعت الشريعة لحفظها([38]).
- قضاء الوطر، بإشباع وإرواء الغريزة الجنسية، فالإسلام لم يأت بالتَّرهُّب وقطع الشهوة، وإنَّما جاء بتهذيبها وتوجيهها والسُّمو بها من مجرد غريزة حيوانية، إلى أعلى درجات المودَّة بين الزَّوجين, فإذا أشبع الإنسان غريزته هدأ من الاضطراب، وسكنت نفسه من الصراع، وكفَّ عن التَّطلُّع إلى الحرام، واطمأنَّ إلى ما أحلَّه الله، وإذا لم يشبعها انتابه القلق والاضطراب، ونزعته نفسه إلى الشر والسوء, فالنكاح هو الطريق الوحيد الذي رضيه الله لإبقاء النوع الإنساني، وذلك دليل على أهميته، فلو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء.
المبحث الثاني مقاصد مشروعية التعدد إن أفعال الله وكذلك أحكامه، تابعة لحكمته، فلا يأمر بشيء عبثا، بل لا بد له من حكمة، عرفناها، أم لم نعرفها, وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة، فدين الإسلام هو دين الحكمة ودين الفطرة, ودين العقل والصلاح والفلاح, وقد شرع الله التعدد لمصالح عدة, يمكن تقسيمها إلى قسمين:
أولا: المصالح العائدة إلى الزوج أو الزوجة، فمنها:
- أن في التعدد حفظا للأسرة الواحدة وحماية لها من التفكك والانهيار, وذلك أن المرأة (الزوجة) قد تكون عقيماً أو مريضة مرضاً يمنع من الإنجاب أو يقلل منه, فيعوق حينئذ على الزوج مقصد عظيم من مقاصد الزواج, فإن من طبيعته الرغبة في الإنجاب, ولحل هذه المشكلة لابد من أحد مرين:
أولهما: الطلاق، وهذا له عواقبه المعروفة.
ثانيهما: أن يبقي زوجته تلك ويتزوج أخرى, ولاشك أن هذا هو الأولى, حفاظاً على الأولى من البقاء بلا زوج.([39]).
- كما أن التعدد يحل في كثير من الأوقات مشكلة الخلاف والشقاق بين الزوجين حين يتعذر الصلح, فقد يكون الحل الأمثل أن تبقى الزوجة خاصة, إذا كان الخلاف الأقوى من جانب الزوج وحينئذ يستخدم حقه في التعدد([40]).
- فيه إعفاف للرجل حين تقوى رغبته، ويشتد توقانه للنساء, فلا يكتفي بواحدة وفيه قدرة على العدل، فحينئذ شرع له أن يعدد([41]).
- صيانة المرأة من الوقوع في الرذيلة وبخاصة في هذا الوقت الذي كثرت فيه الفتن وعم فيه البلاء، فخير للمرأة أن تكون ثانية أو ثالثة خير لها من التعرض للفتنة, وقانا الله والمسلمين شرها([42]).
- تفرغ المرأة في غير نوبتها لطلب العلم وقراءة القرآن, وتنظيف بيتها, وهذا لا يتيسر – غالبا- للمرأة ذات الزوج غير المعدد ([43]).
- فيه حل لمشكلة العوانس والمطلقات، فقد أصبحت مشكلة العنوسة بين الفتيات ظاهرة للعيان، وعند مكاتب الإحصاء: الخبر اليقين، وهي مشكلة يئن منها العالم كله، وفي هذه البلاد من ذلك الشيء الكثير حتى بلغ الأمر أن يوجد في أحد البيوت: خمس عوانس أعمارهن من الثلاثين إلى الخامسة والأربعين, ولهذا الداء أسباب كثيرة ليس هذا مقام ذكرها, لكن يهمنا أن نعلم أن في التعدد حلا ظاهراً وداء ناجعا, لكثير من ضحايا العنوسة, وقد صرحت إحدى العانسات وقد بلغت الخامسة والأربعين, وقالت بملء فيها: (أعطوني ولو نصف زوج), وما يقال في العوانس يقال في المطلقات, وإن كانت المطلقة أكثر ميلا إلى التعدد من البكر (العانس) في الغالب([44]).
- من الناس من هو كثير الأسفار والتنقلات وراء مصالحه, فتكون حاجته ماسة إلى من يؤنسه في غربته, وفي المقابل ربما تكون الزوجة موظفة, لا تمكث في البيت إلا ريثما تستعد للذهاب إلى العمل مرة أخرى, وهذا موجود بالنسبة للطبيبات، والرجل بحاجة إلى من تؤنس رغبته وتزيل وحشته, فيحتاج إلى أن يتزوج بأخرى, فهذه بعض الفوائد والمصالح المتعلقة بالأزواج والزوجات([45]).
- قد يكون عنده من القوة الجنسية، ما لا يكتفي معه بزوجته، إما لشيخوختها، وإما لكثرة الأيام التي لا تصلح فيها للمعاشرة الجنسية –وهي أيام الحيض والحمل والنفاس والمرض وما أشبهها– وفي هذه الحالة نجد الأولى والأحسن أن يصبر على ما هو فيه، ولكن: إذا لم يكن له صبر فماذا يفعل؟ أنغمض أعيننا عن الواقع وننكره كما تفعل النعامة أم نحاول علاجه؟ وبماذا نعالجه؟, نبيح له الاتصال الجنسي المحرم؟ وفي ذلك إيذاء للمرأة الثانية التي اتصل بها، وضياع لحقوقها وحقوق أطفالها، عدا ما فيه من منافاة لقواعد الدين والأخلاق؟ أم نبيح له الزواج منها زواجاً شرعياً تصان فيه كرامتها، ويعترف لها بحقوقها، ولأولادهم بنسبهم الشرعي معه؟ هنا تتدخل مبادئ الأخلاق والحقوق فلا تتردد في تفضيل الحالة الثانية على الأولى ([46]).
- زيادة الألفة والمحبة بين الزوج ونسائه, إذ لا تأتي نوبة الواحدة منهن, إلا وهو في شوق لامرأته, وهي كذلك في اشتياق له([47]).
ثانياً: المصالح العامة, وهي التي تعود على الأمة كلها والمجتمع بأسره:
- تكثير عدد الأمة: فإن الأمة بحاجة إلى كثرة أعدادها، وهذه الحاجة مقصد شرعي حث عليه الرسولr في غير ما حديث كقوله عليه الصلاة والسلام: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم"([48]),([49]), وقد لاحظ هذه المصلحة أحد زعماء المسلمين في (نيجيريا) عندما أراد أن يزداد عدد المسلمين ليفوق عدد النصارى واللادينيين, فحثهم على التعدد وهم بطبيعة الحال راغبون فيه, فتضاعف عددهم أضعافا كثيرة([50]).
- التعدد يشتمل على الرحمة والعدل, إذا إن في تطبيقه إلقاء العبء (امرأة بلا زواج) عن كاهل المجتمع، وبخاصة إذا علمنا أن نسبة عدد النساء تفوق نسبة عدد الرجال في كثير من المجتمعات, وسبب ذلك: إما لما يتعرض له الذكور من الآفات والحروب، وإما لكثرة المواليد من الإناث، وهذا مشاهد ملموس, وقد أخبر عنه نبيناr في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله r يقول: "من أشراط الساعة: أن يقل العلم، ويظهر الجهل ويظهر الزنا، وتكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد"([51]), والإحصاءات تدل على ذلك في كثير من البلدان([52]).
- أن في التعدد توثيقاً للروابط والصلات بين أفراد المجتمع وأسره، وذلك أن النكاح في أصله جعله الله تعالى قسيما للنسب فقال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا﴾([53]), فإذا كان النكاح في أصله كذلك، فإن في كثرة النكاح وتعدده زيادة ربط, وتوثيق بين أسر المسلمين([54]).
هذه بعض المصالح والحكم والغايات التي شرع من أجلها التعدد.
المبحث الثالث
مقاصد عدم جواز الزيادة على أكثر من أربع في النكاح
يجوز للرجل أن يتزوج أكثر من زوجة إلى أربع زوجات، إذا وثق من نفسه بالعدل بين زوجاته، وأمن من الجور، لكن يحرم عليه أن يجمع في عصمته أكثر من أربع زوجات، والدليل على ذلك: الكتاب والسنة والإجماع.
- أما الكتاب: فقوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾([55]) فأذن تعالى لكل من يريد أن يتزوج أكثر من واحدة أن يتزوج إن شاء اثنتين، وإن شاء ثلاثا، وإن شاء أربعا؛ إن لم يخف الجور، ولم يأذن له سبحانه بأكثر من أربع.
- وأما السنة: فلما روي أن النبي r قال لغـيلان بن سلمة الثقفي ([56]) وقد أسلم على عشر: "أمسك أربعا وفارق سائرهن"([57]).
- وقد أجمع أهل السنة والجماعة قولا وعملا على أنه لا يجوز للرجل أن يجمع في عصمته أكثر من أربع زوجات إلا النبي r، فمن رغب عن ذلك وجمع بين أكثر من أربع زوجات فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله r. والإجماع ([58]).
وفي الاقتصار على أربع زوجات في النكاح حكم متعددة ذكرها العلماء, وأجملها فيما يأتي:
- إظهار شرف النكاح وخطره([59]).
- أن ذلك يؤدي إلى أن لا يتحمل الإنسان ما يعجز عنه([60]), قال ابن القيم: "ومنع من تجاوز أربع زوجات, لكونه ذريعة ظاهرة إلى الجور وعدم العدل بينهن وقصر الرجال على الأربع فسحة لهم في التخلص من الزنى, وإن وقع منهم بعض الجور فاحتماله أقل مفسدة من مفسدة الزنى"([61])
- أن الزيادة على الأربع قد تؤدي به إلى الحرام في أكثر أحواله([62]).
- مراعاة مصلحة المرأة ([63]).
وعلى كل؛ فكل تشريع لله ففيه الحكمة وفيه الرضا لكل طرف, وهو أيضا موافقا لفطرة كل من الذكر والأنثى, والشرط الأساسي والأولي وفي حياة كل مؤمن هو البر والتقوى ومخافة الله عز وجل, فهما أصل كل حياة سعيدة والمتآلفة, والاحترام المتبادل, نقطتين أخيرتين, فلو زاد العدد عن أربع لربما وجد رجال دون نساء, وبالمقابل وفي حالات الأزمات قد يكون الكثير من النساء دون أزواج, فهنا والحل الأمثل وفي كل شيء هو التعدد المحدود !!!
يتبع
د. جميل يوسف زريوا
ملخص البحث: توصلت في هذا البحث إلى أن المقصود الأساس من النكاح هو امتثال أمر الله تعالى, وحفظ النسل, حتى يكون النوع الإنساني على أكمل وجه, كما أن المقصود من مشروعية الطلاق: إزالة الضرر عن الزوجين أو أحدهما, وأما الرجعة فتبين أن مقصودها سد باب الخصومة, وإذا تدبرت ما شرعه الله في هذه المعاملات, والحقوق الزوجية, وجدت ذلك كله خيرا وبركة, لتقوم مصالح العباد وتتم الحياة الطيبة.
Abstract:
From this research, I arrived at the conclusion that the main objective of marriage is obedience to the commandment of Allah and protection of progeny so that mankind can be in his best form. Likewise, the main objective of legalising divorce is to remove harm from the couple or one of them. As for remarriage with one's divorced wife, it is obvious that its objective is to block the door of dispute, and when you ponder over what Allah has legislated in these dealings and marital rights you will find that all of it is blessing and good, so as to strengthen the well being of people and perfect good life.
المقدمة: الحمد لله الذي اعتبر الحِكم في كل أفعاله، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد الأمين الذي راعى المقاصد في كل ما صدر عنه من أحكام, وعلى آله وصحبه الذين لا يغفلون عن مقاصد الشارع في اجتهاداتهم, أما بعد: فإن مقاصد الشريعة هي سر التشريع، والاشتغال بذلك من أفضل الأعمال، لأن بها يعرف استنباط الأحكام الشرعية، وبها يوقف على المصالح التي قصدها الشارع في أوامره ونواهيه, وقد أردت في هذه الأوراق أن أبين بعض المقاصد التي تتعلق بـالأحوال الشخصية (النكاح وما يتبعه) مجملا, وليس القصد هو الاستقراء ولا البسط, ولكن الإشارة إلى أهمها, لأن الاستيفاء غير ممكن, لطبيعة البحث.
أهمية الموضوع وأسباب اختياره:
كون هذا الموضوع يهتم بالمقاصد الجزئية وهو مما يحتاج إليه لمعرفة ما تتضمنه أوامر ونواهي الشارع من أسرار ومصالح وحِكم.
بدراسة هذا العلم يتعرّف على حلّ مشكلات العالم وفق الضوابط المقرّرة, الموافقة للفطر السليمة والعقول الصحيحة.
حاجة المكتبة الإسلامية إلى مزيد من الدراسات المقاصدية، لاسيما فيما يتعلق بالمقاصد الجزئية، ولعل هذه الدراسة تضيف جديدا أو تسد فراغا.
كون أكثر أحكام التي يحتاج إليها الناس تدور في الأحوال الشخصية فضرورة النكاح حاصلة لقضاء وطرهم, فصار معرفة مقاصدها من الأهمية بمكان.
خطة البحث:
وتتضمن مقدمة وتمهيد وستة مباحث وخاتمة وفهارس.
المقدمة: وتتضمن الافتتاحية وأسباب اختيار الموضوع ومنهجي في البحث.
التمهيد: ويتضمن ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف مقاصد الشريعة الإسلامية.
المطلب الثاني: الفائدة من دراسة علم المقاصد.
المطلب الثالث: تعريف المقاصد الجزئية.
المبحث الأول: مقاصد النكاح.
المبحث الثاني: مقاصد عدم جواز الزيادة على أكثر من أربع في النكاح.
المبحث الثالث: مقاصد الطلاق.
المبحث الرابع: مقاصد الإشهاد على الطلاق.
المبحث الخامس: مقاصد المتعة في الطلاق.
المبحث السادس: مقاصد الاستبراء والعدة.
الخاتمة: وفيها ذكر أهم النتائج.
منهج البحث:
- وضع مقدمة في كل مطلب تعين على فهمه.
- جمع ما تيسر من الوقوف عليه مما يتعلق بمقاصد كل مطلب.
- عزو الآيات للقرآن الكريم بذكر سورها وأرقامها وكتابتها بالرسم العثماني.
- عزو الأحاديث إلى مصادرها, وتخريجها تخريجا علميا يبين درجتها.
- توثيق النصوص وأقوال العلماء, بعزو هذه وتلك إلى مصادرها الأصيلة.
- الالتزام بعلامات الترقيم وضبط ما يحتاج إلى ضبط.
- خدمة البحث بوضع فهارس.
التمهيد:
المطلب الأول تعريف مقاصد الشريعة كثير ممن كتبوا في المقاصد ذكروا أنهم لم يعثروا على تعريف محدد لدى العلماء السابقين, وإنما اكتفوا بالتنصيص على بعض مقاصد الشريعة أو التقسيم لأنواعها, كما في نص الغزالي: "ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم, فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة, وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة",([1]) أو نص الشاطبي: "تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية, والثاني: أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون تحسينية ([2]).
فلم يحددوا له معنى, بحيث يتميز به عن الألفاظ ذات الصلة أو القريبة من معانيه, وذلك لأن بعضهم كان يتعرض للكلام عن المقاصد تبعًا لموضوع آخر في الأصول، كالعلل أو المصالح أو غير ذلك, ولعل وضوح معنى المقاصد جعل هؤلاء الأوائل لم يعرّجوا على تعريفها ؛ ولأنه يعبر عنها بأكثر من لفظ ([3]).
أما المتأخرون من الذين اعتنوا بالمقاصد, فقد حاولوا تعريف المقاصد من حيث الاصطلاح, وسأقتصر هنا على ذكر بعضها:
- قال محمد الطاهر بن عاشور: "مقاصد التشريع العامة, هي المعاني والحِكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها, بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة"([4]).
- وعرفها الشيخ علال الفاسي -رحمه الله- بقوله: "المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي رمى إليها الشارع الحكيم عند تقريره كل حكم من أحكامها"([5]).
- وعرفها شيخنا الدكتور اليوبي بقوله: "المقاصد هي المعاني والحِكَم ونحوها التي راعاها الشارع في التشريع عمومًا وخصوصًا، من أجل تحقيق مصالح العباد"([6]).
- وعرفها الدكتور يوسف البدوي بقوله: "الحكم التي أرادها الله من أوامره ونواهيه لتحقيق عبوديته وإصلاح العباد في المعاش والمعاد"([7]).
الترجيح:
يظهر أن التعريف الأخير هو الراجح, وذلك لأنه جمع فيه بين أصل المقاصد وأهمها وهو تحقيق العبودية لله تعالى ومصالح العباد, فالتعريف الأول تعريف للمقاصد العامة فقط, وأما التعريف الثاني فإنه شامل للمقاصد العامة والخاصة, غير أنه لم يذكر القصد منها, وأما تعريف شيخنا الدكتور اليوبي فلم يذكر فيه أصل المقاصد والغاية منها, وهو تحقيق العبودية لله تعالى ([8]).
المطلب الثاني فوائد معرفة علم المقاصد علم مقاصد الشارع له مقام عظيم, وذلك لأن معرفة حقيقة المصالح والمفاسد متوقفة عليه, فهو مفتاح لفهم نصوص الشريعة, ولذا يكتسب بالضرورة الحالة من الاحترام والتقدير, بحيث ينفرد العلماء المتخصصون في استنباطه وتوضيحه وتجليته للناس, ولذا تتبين فائدة علم مقاصد الشارع والغاية منه فيما يأتي:
- إبراز علل التشريع وحِكمه ومراميه الجزئية والكلية, العامة والخاصة, في شتى مجالات الحياة وفي مختلف أبواب الشريعة ([9]).
- وضع القواعد التي يستعين بها المجتهد على استنباط الأحكام الشرعية، ومعرفة المصالح التي قصدها الشارع من تكليف العباد بالأحكام([10]).
- قدرة المجتهد بعد وضع القواعد على استنباط الأحكام الشرعية، ووصوله إلى معرفة المصالح التي قصدها الشارع من تشريع الأحكام([11]).
- القدرة على تحقيق المناط في الحوادث التي لم تكن موجودة في زمن السابقين, حتى تعطى الحكم الشرعي المناسب([12]).
- القدرة على التنسيق بين الآراء المختلفة, ودرء التعارض بينها والترجيح بين الأقوال, واختيار الراجح منها عند عدم إمكانية الجمع([13]).
- عون المكلف على القيام بالتكليف والامتثال على أحسن الوجوه وأتمها, ذلك أن المكلف إذا علم مثلا أن المقصد من الحج التأدب الكامل مع الناس, والتحلي بأخلاق الإسلام العليا, فإنه إذا علم ذلك فسيعمل جاهدا ومجتهدا قصد تحصيل المرتبة العليا, التي تجعل صاحبها عائدا بعد حجه كيوم ولدته أمه([14]).
- اكتساب المجتهد إحاطة بأحكام الشرع، ومعرفة كلياته المفيدة في معرفة جزئياتها([15]).
- الاطمئنان إلى ما نقل من أحكام في كتب المتقدمين؛ حيث جاءت وفق قواعد ثابتة، ومقاصد راسخة([16]).
- التقليل من الاختلاف والنزاع الفقهي, والتعصب المذهبي([17]).
- قدرة العالم بهذه القواعد والمقاصد على الرد على منكري حجية القياس, وتصور مباحثه وتطبيقها على الحوادث([18]).
- تفيد المجتهد فيما إذا خالف النص الشرعي مقاصد الشارع؛ فإن هذه المعرفة تعطي المجتهد ظناً غالباً أن لهذا النصِّ معارضاً؛ فتستدعيه هذه المعرفة أن يبحث عن المعارض بحثاً قويَّاً.([19]).
- التوفيق بين خاصتي الأخذ بظاهر النص, والالتفات إلى روحه ومدلوله على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص, ولا العكس, لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض([20]).
- معرفة أن دين الإسلام صالح لكل زمانٍ ومكانٍ؛ حيث إن قواعده قادرة على إيجاد الأحكام لكل ما يجدّ من حوادث في أي مكانٍ وزمان([21]).
- معرفة أن دين الإسلام يراعي حال المكلّف عند تكليفه بالأحكام ([22]).
وواضح أن الفوائد المرجوة بالنسبة للمسلم العامي والداعية يمكن إجمالها في كونها أمورا: إيمانية, مناعية تحصينية, الغاية منها زيادة إيمان المسلم وتحصينه ضد التيارات والأفكار الضارة, من أجل تحقيق مهمة العبودية لله تعالى على أتم وجه.
المطلب الثالث تعريف المقاصد الجزئية المقصود بالمقاصد الجزئية: هي المقاصد المتعلقة بمسألة معينة دون غيرها, أو دليل خاص, فما يستنتج من الدليل الخاص من حكمة أو معنى يعتبر مقصدا شرعيا جزئيا([23]), مثل مقصد الأذان والصلاة, والزكاة والصيام والحج, فقد نص الشارع لكل من هذه المسائل مقاصد معينة, فالأذان مثلا شرع للإعلام بدخول الوقت, والصلاة شرعت لإقامة ذكر الله, والزكاة لمواساة المحتاجين, والحج للتذكر بأحوال الأنبياء.
وليس المقصود في هذه الأوراق هو استقصاؤها, ولكن المقصود هو الإشارة إلى مقاصد بعض مسائل الأحوال الشخصية.
المقاصد الجزئية المتعلقة بالأحوال الشخصية, وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: مقاصد النكاح.
المبحث الثاني: مقاصد مشروعية التعدد.
المبحث الثالث: مقاصد عدم جواز الزيادة على أكثر من أربع في النكاح.
المبحث الرابع: مقاصد الطلاق.
المبحث الخامس: مقاصد الإشهاد على الطلاق.
المبحث السادس: مقاصد المتعة في الطلاق.
المبحث السابع: مقاصد الاستبراء والعدة.
المبحث الأول مقاصد النكاح لقد منّ الباري على عباده بالنكاح قدرا وأباحه شرعا، ورضيه وحث عليه ؛ لما يترتب عليه من المصالح الكثيرة, فالنكاح من أكبر النعم, وهو الطريقة الأساسية لبناء الأسرة المسلمة, والطريقة المثلى لوجود إنسان يحقق عبودية الله, فلو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء([24]), وفيما يلي ذكر هذه المحاسن التي يتضمنها:
- التقرب إلى الله تعالى وامتثال أمره.
- غض البصر عن الحرام وإعفاف فرج الزوج والزوجة.
- التذكر لنعم الله على العبد، والتفرغ لعبادته.
- تعاون الزوجين على مصالح دينهما ودنياهما, واجتماعهم في خير وعافية ووئام, يقول السعدي: "وأما النكاح: فقد أمر الله به ورسوله, وفيه: تحصين الفرج، وغض البصر، وتحصيل النسل، والإنفاق على الزوجة والأولاد؛ فإن العبد إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له أجراً، وحسنات عند الله، سواء كانت مأكولاً أو مشروبًا أو ملبوسًا أو مستعملاً في الحوائج كلها, كله خير للعبد، وحسنات جارية, وهو أفضل من نوافل العبادات القاصرة, وفيه: التذكر لنعم الله على العبد، والتفرغ لعبادته، وتعاون الزوجين على مصالح دينهما ودنياهما([25]).
- الترفع ببني الإنسان عن الحياة البهيمية إلى الحياة الإنسان الكريمة([26]).
- نجابة الأولاد وشرفهم, وأساسه الحسب والنسب الرفيع([27]).
- حفظ النسل وتكثيره؛ بغرض إعمار الكون وبقاء النوع الإنساني، وكذلك إكثار أفراد الأمة المسلمة وتقويتها وتمكينها في الوجود الحياتي والكوني حتى تكون مرهوبة الجانب، عزيزة الذات، فاعلة الأثر والتأثير، وحتى تؤدي رسالة الاستخلاف في الأرض، والشهادة على الناس, لذلك جاءت الأدلة الشرعية تحث على الزواج والإنجاب، وترغب في التناسل، وتحرم قتل الأولاد والبنات بسبب الفقر أو العار أو ما شابه ذلك، وتحظر الإجهاض إلا عند الضرورات القصوى، كأن يُخشى على الأم من الموت أو الهلاك المحقق بسبب خطر الجنين، فيباح إجهاضه؛ لأن المحافظة على الأصل مقدمة على المحافظة على الفرع ([28]).
- الإنفاق على الزوجة والأولاد ورعايتهم ([29]).
يقول السعدي: "ويقصد به إحصان الفرج والسرور في الحياة، وعمدة هذا حسن الأخلاق الظاهرة وحسن الخلائق الباطنة، ويقصد به نجابة الأولاد وشرفهم، وأساسه الحسب والنسب الرفيع، ولهذا أباح الشارع، بل أمر بالنظر لمن يخطبها، ليكون على بصيرة من أمره"([30]).
- السرور في الحياة, ولهذا أمر الشارع بالنظر لمن يخطبها, ليكون على بصيرة من أمره ([31]).
- حفظ الأنساب, فإن الغرض الأظهر في إحلال النكاح أن يختص بعل بزوجته, ولا يزدحم ناكحان على امرأة, فيؤدي ذلك إلى اختلاط الأنساب"([32]).
- التحصين من الزنا, فالنكاح شرع لتحصين الزوجين من فاحشة الزنا, فهو يصرف الشهوة الجنسية بالطريق المشروع([33]).
- تحقيق السكن والمودة والرحمة بين الزوجين، وتحقيق التآلف والتعاون على البر والتقوى ودوام العشرة بالمعروف، مما يكون له الأثر الكبير في عبادتهما وانقيادهما لله تعالى، وفي إعمار الأرض وإصلاحها وتجميلها وجعلها مزرعة للآخرة وممراً لها, ولم يعد خفيفاً ما تعانيه المجموعة الدولية –بتفاوت ملحوظ بحسب الاعتبارات الدينية الأخلاقية– من آثار الشذوذ الجنسي، وتعاطي المخدرات، ومزاولة العنف والتقتيل والترويع، وغير ذلك مما هو نتيجة حتمية في الغالب لتفكك الأسرة، وتهميش دورها التربوي والوجداني والحضاري بصورة عامة, فلعل بعد كل ذلك نكون بيّنّا لك أخي الدارس والقارئ ما للأسرة المُسلمة الصالحة من دور فعال، وتأثير ملحوظ في بناء الأجيال والمجتمعات، وتحقيق الأمل المنشود والمقصد المفقود، ألا وهو الأمة التي أخرجت للناس لإصلاحها وإسعادها في المعاش والمعاد, قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾([34]),([35]).
- بناء الأسرة المسلمة وإيجاد المجتمع الصالح: من مقاصد النكاح بناء الأسرة المسلمة المكونة من الزوجين الشرعيين ومن الأصل والفروع، التي تطيع ربها وتعمل بأحكامه وتعاليمه، وتسهم في بناء المجتمع الإسلامي الصالح، وبناء الأمة المسلمة والقائدة, ومعلوم أن الأمة المسلمة قد اختارها الله تعالى لتكون خير أمة أخرجت للناس، بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله، وأداء العمل الصالح، والقيام برسالة الاستخلاف بكل صورها ومجالاتها وأبعادها, وهذه الأمة لن تتحقق إلا ببناء المجتمعات والشعوب الإسلامية على اختلاف أعراقها وألوانها وقاراتها ودولها وتقاليدها وخاصياتها, وبناء تلك المجتمعات والشعوب متوقف على إيجاد وبناء الأسرة المسلمة الصالحة المتزنة المستقيمة العارفة بعقيدتها الصحيحة وتدينها المطلوب وتعاملها الرشيد, فتكون النتيجة المستخلصة والبديهية، أن الأمة المسلمة بأسرها متوقف وجودها ونجاحها على الأسرة الناجحة والناهضة والمجتهدة.
إن الأسرة المسلمة مطلب له أهميته الكبرى، ومقصد شرعي دلت عليه القواطع والظواهر والقرائن المختلفة، وهو طريق وجود الأمة ووحدتها وتقدمها وقوتها, وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, ولقد أدرك خصوم الأمة وأعداؤها أهمية الأسرة المسلمة ودورها الحضاري العام، وشأنها في تحقيق السيادة والشهادة على الناس، فراحوا يعملون بوسائل شتى لأجل تحجيمها وتشتيتها وإضعافها، ولاسيما أن كثيراً من الأسرة والمجتمعات غير المسلمة تعيش أوضاعاً أخلاقية لا تحسد عليها، وتشهد التفكك الأسري، والميوعة الأخلاقية، والتسيب القيمي، والتهارج القانوني والنظامي بشكل مفزع وخطير, وقد زاد هذا في غيظهم ومكرهم وحرصهم على تدمير الأسرة المسلمة الحصن الحصين لسلامة الأمة وقوتها وتمكينها([36]).
- تطهير المجتمع من الأمراض الجنسية والآفات الخلقية: لعل هذا المقصد متضمن في المقصد السابق، المتعلق ببناء الأسرة المسلمة، والمجتمع الإسلامي، والأمة القوية والرائدة، المرتكزة على طهارة الظاهر والباطن، والسلامة من العيوب والأمراض الجنسية والخلقية والحضارية بشكل عام، وفي أغلب الأحيان وأكثرها, غير أننا أفردنا هذا المقصد بالذكر والبيان لأهميته وخطورته، ولاسيما في العصر الحالي وفي كثير من المجتمعات والدول التي شهدت ما لا يحصى من المشكلات والأزمات القانونية والسياسية والاجتماعية؛ بسبب الأمراض الجنسية الخطيرة (الزهري، السيلان، الإيدز)، وبسبب العاهات والآفات الخُلقية والقيمية التي أدت إلى التحلل الاجتماعي العام، والتَّسَيُّب الأسري الملحوظ ([37]).
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: ولما كانت مفسدة الزنا من أعظم المفاسد وهي منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الفروج، وصيانة الحرمات، وتوقي ما يوقع أعظم العداوة والبغضاء بين الناس، من إفساد كل منهم امرأة صاحبه، وبنته، وأخته، وأمه، وبذلك خراب العالم، كانت تلي مفسدة القتل في الإثم، ولذا قرنها الله به في القرآن الكريم ورسول الله في سنته فالزواج الشرعي الصحيح هي الكفيل الوحيد في صون المجتمع من كل هذه الأخطار، وتحقيق حفظ النفس من المهالك والمخاطر, ومعلوم أن حفظ النفس من المقاصد الضرورية التي وضعت الشريعة لحفظها([38]).
- قضاء الوطر، بإشباع وإرواء الغريزة الجنسية، فالإسلام لم يأت بالتَّرهُّب وقطع الشهوة، وإنَّما جاء بتهذيبها وتوجيهها والسُّمو بها من مجرد غريزة حيوانية، إلى أعلى درجات المودَّة بين الزَّوجين, فإذا أشبع الإنسان غريزته هدأ من الاضطراب، وسكنت نفسه من الصراع، وكفَّ عن التَّطلُّع إلى الحرام، واطمأنَّ إلى ما أحلَّه الله، وإذا لم يشبعها انتابه القلق والاضطراب، ونزعته نفسه إلى الشر والسوء, فالنكاح هو الطريق الوحيد الذي رضيه الله لإبقاء النوع الإنساني، وذلك دليل على أهميته، فلو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء.
المبحث الثاني مقاصد مشروعية التعدد إن أفعال الله وكذلك أحكامه، تابعة لحكمته، فلا يأمر بشيء عبثا، بل لا بد له من حكمة، عرفناها، أم لم نعرفها, وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة، فدين الإسلام هو دين الحكمة ودين الفطرة, ودين العقل والصلاح والفلاح, وقد شرع الله التعدد لمصالح عدة, يمكن تقسيمها إلى قسمين:
أولا: المصالح العائدة إلى الزوج أو الزوجة، فمنها:
- أن في التعدد حفظا للأسرة الواحدة وحماية لها من التفكك والانهيار, وذلك أن المرأة (الزوجة) قد تكون عقيماً أو مريضة مرضاً يمنع من الإنجاب أو يقلل منه, فيعوق حينئذ على الزوج مقصد عظيم من مقاصد الزواج, فإن من طبيعته الرغبة في الإنجاب, ولحل هذه المشكلة لابد من أحد مرين:
أولهما: الطلاق، وهذا له عواقبه المعروفة.
ثانيهما: أن يبقي زوجته تلك ويتزوج أخرى, ولاشك أن هذا هو الأولى, حفاظاً على الأولى من البقاء بلا زوج.([39]).
- كما أن التعدد يحل في كثير من الأوقات مشكلة الخلاف والشقاق بين الزوجين حين يتعذر الصلح, فقد يكون الحل الأمثل أن تبقى الزوجة خاصة, إذا كان الخلاف الأقوى من جانب الزوج وحينئذ يستخدم حقه في التعدد([40]).
- فيه إعفاف للرجل حين تقوى رغبته، ويشتد توقانه للنساء, فلا يكتفي بواحدة وفيه قدرة على العدل، فحينئذ شرع له أن يعدد([41]).
- صيانة المرأة من الوقوع في الرذيلة وبخاصة في هذا الوقت الذي كثرت فيه الفتن وعم فيه البلاء، فخير للمرأة أن تكون ثانية أو ثالثة خير لها من التعرض للفتنة, وقانا الله والمسلمين شرها([42]).
- تفرغ المرأة في غير نوبتها لطلب العلم وقراءة القرآن, وتنظيف بيتها, وهذا لا يتيسر – غالبا- للمرأة ذات الزوج غير المعدد ([43]).
- فيه حل لمشكلة العوانس والمطلقات، فقد أصبحت مشكلة العنوسة بين الفتيات ظاهرة للعيان، وعند مكاتب الإحصاء: الخبر اليقين، وهي مشكلة يئن منها العالم كله، وفي هذه البلاد من ذلك الشيء الكثير حتى بلغ الأمر أن يوجد في أحد البيوت: خمس عوانس أعمارهن من الثلاثين إلى الخامسة والأربعين, ولهذا الداء أسباب كثيرة ليس هذا مقام ذكرها, لكن يهمنا أن نعلم أن في التعدد حلا ظاهراً وداء ناجعا, لكثير من ضحايا العنوسة, وقد صرحت إحدى العانسات وقد بلغت الخامسة والأربعين, وقالت بملء فيها: (أعطوني ولو نصف زوج), وما يقال في العوانس يقال في المطلقات, وإن كانت المطلقة أكثر ميلا إلى التعدد من البكر (العانس) في الغالب([44]).
- من الناس من هو كثير الأسفار والتنقلات وراء مصالحه, فتكون حاجته ماسة إلى من يؤنسه في غربته, وفي المقابل ربما تكون الزوجة موظفة, لا تمكث في البيت إلا ريثما تستعد للذهاب إلى العمل مرة أخرى, وهذا موجود بالنسبة للطبيبات، والرجل بحاجة إلى من تؤنس رغبته وتزيل وحشته, فيحتاج إلى أن يتزوج بأخرى, فهذه بعض الفوائد والمصالح المتعلقة بالأزواج والزوجات([45]).
- قد يكون عنده من القوة الجنسية، ما لا يكتفي معه بزوجته، إما لشيخوختها، وإما لكثرة الأيام التي لا تصلح فيها للمعاشرة الجنسية –وهي أيام الحيض والحمل والنفاس والمرض وما أشبهها– وفي هذه الحالة نجد الأولى والأحسن أن يصبر على ما هو فيه، ولكن: إذا لم يكن له صبر فماذا يفعل؟ أنغمض أعيننا عن الواقع وننكره كما تفعل النعامة أم نحاول علاجه؟ وبماذا نعالجه؟, نبيح له الاتصال الجنسي المحرم؟ وفي ذلك إيذاء للمرأة الثانية التي اتصل بها، وضياع لحقوقها وحقوق أطفالها، عدا ما فيه من منافاة لقواعد الدين والأخلاق؟ أم نبيح له الزواج منها زواجاً شرعياً تصان فيه كرامتها، ويعترف لها بحقوقها، ولأولادهم بنسبهم الشرعي معه؟ هنا تتدخل مبادئ الأخلاق والحقوق فلا تتردد في تفضيل الحالة الثانية على الأولى ([46]).
- زيادة الألفة والمحبة بين الزوج ونسائه, إذ لا تأتي نوبة الواحدة منهن, إلا وهو في شوق لامرأته, وهي كذلك في اشتياق له([47]).
ثانياً: المصالح العامة, وهي التي تعود على الأمة كلها والمجتمع بأسره:
- تكثير عدد الأمة: فإن الأمة بحاجة إلى كثرة أعدادها، وهذه الحاجة مقصد شرعي حث عليه الرسولr في غير ما حديث كقوله عليه الصلاة والسلام: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم"([48]),([49]), وقد لاحظ هذه المصلحة أحد زعماء المسلمين في (نيجيريا) عندما أراد أن يزداد عدد المسلمين ليفوق عدد النصارى واللادينيين, فحثهم على التعدد وهم بطبيعة الحال راغبون فيه, فتضاعف عددهم أضعافا كثيرة([50]).
- التعدد يشتمل على الرحمة والعدل, إذا إن في تطبيقه إلقاء العبء (امرأة بلا زواج) عن كاهل المجتمع، وبخاصة إذا علمنا أن نسبة عدد النساء تفوق نسبة عدد الرجال في كثير من المجتمعات, وسبب ذلك: إما لما يتعرض له الذكور من الآفات والحروب، وإما لكثرة المواليد من الإناث، وهذا مشاهد ملموس, وقد أخبر عنه نبيناr في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله r يقول: "من أشراط الساعة: أن يقل العلم، ويظهر الجهل ويظهر الزنا، وتكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد"([51]), والإحصاءات تدل على ذلك في كثير من البلدان([52]).
- أن في التعدد توثيقاً للروابط والصلات بين أفراد المجتمع وأسره، وذلك أن النكاح في أصله جعله الله تعالى قسيما للنسب فقال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا﴾([53]), فإذا كان النكاح في أصله كذلك، فإن في كثرة النكاح وتعدده زيادة ربط, وتوثيق بين أسر المسلمين([54]).
هذه بعض المصالح والحكم والغايات التي شرع من أجلها التعدد.
المبحث الثالث
مقاصد عدم جواز الزيادة على أكثر من أربع في النكاح
يجوز للرجل أن يتزوج أكثر من زوجة إلى أربع زوجات، إذا وثق من نفسه بالعدل بين زوجاته، وأمن من الجور، لكن يحرم عليه أن يجمع في عصمته أكثر من أربع زوجات، والدليل على ذلك: الكتاب والسنة والإجماع.
- أما الكتاب: فقوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾([55]) فأذن تعالى لكل من يريد أن يتزوج أكثر من واحدة أن يتزوج إن شاء اثنتين، وإن شاء ثلاثا، وإن شاء أربعا؛ إن لم يخف الجور، ولم يأذن له سبحانه بأكثر من أربع.
- وأما السنة: فلما روي أن النبي r قال لغـيلان بن سلمة الثقفي ([56]) وقد أسلم على عشر: "أمسك أربعا وفارق سائرهن"([57]).
- وقد أجمع أهل السنة والجماعة قولا وعملا على أنه لا يجوز للرجل أن يجمع في عصمته أكثر من أربع زوجات إلا النبي r، فمن رغب عن ذلك وجمع بين أكثر من أربع زوجات فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله r. والإجماع ([58]).
وفي الاقتصار على أربع زوجات في النكاح حكم متعددة ذكرها العلماء, وأجملها فيما يأتي:
- إظهار شرف النكاح وخطره([59]).
- أن ذلك يؤدي إلى أن لا يتحمل الإنسان ما يعجز عنه([60]), قال ابن القيم: "ومنع من تجاوز أربع زوجات, لكونه ذريعة ظاهرة إلى الجور وعدم العدل بينهن وقصر الرجال على الأربع فسحة لهم في التخلص من الزنى, وإن وقع منهم بعض الجور فاحتماله أقل مفسدة من مفسدة الزنى"([61])
- أن الزيادة على الأربع قد تؤدي به إلى الحرام في أكثر أحواله([62]).
- مراعاة مصلحة المرأة ([63]).
وعلى كل؛ فكل تشريع لله ففيه الحكمة وفيه الرضا لكل طرف, وهو أيضا موافقا لفطرة كل من الذكر والأنثى, والشرط الأساسي والأولي وفي حياة كل مؤمن هو البر والتقوى ومخافة الله عز وجل, فهما أصل كل حياة سعيدة والمتآلفة, والاحترام المتبادل, نقطتين أخيرتين, فلو زاد العدد عن أربع لربما وجد رجال دون نساء, وبالمقابل وفي حالات الأزمات قد يكون الكثير من النساء دون أزواج, فهنا والحل الأمثل وفي كل شيء هو التعدد المحدود !!!
يتبع