ابو وليد البحيرى
2019-09-21, 03:48 PM
المقاصد القرآنية بين المتقدمين والمتأخرين
أ. عائشة عبد الملك محمد سعد
د. محمد نجيب بن عبد القادر[**]
ملخص البحث:
يهدف هذا البحث إلى التعريف بالمقاصد القرآنية، مبيناً العلاقة بين مقاصد القرآن ومقاصد التشريع وطرق العلماء في الكشف عن المقاصد القرآنية. كما ويهدف إلی تتبع اجتهادات بعض من المفسرين المتقدمين والمتأخرين وإشاراتهم في تفسیراتهم، والتي تدل علی اعتبارهم للمقاصد في تفسیر القرآن. وقد سلك الباحثان المنهج الوصفي, لجمع الأقوال والتعريفات والمنهج التحليلي بتفسير أقوال العلماء واستنباطاتهم. وقد خلص البحث إلى نتائج أهمها أن جمله التعريفات تدور على كون المقاصد تمثل مراد الله في أحكامه وتشريعاته القرآنية والغايات التي نزل القرآن لأجل تحقيقها مما فيه مصلحة للعباد، وأظهر البحث أن مقاصد الشريعة جزء من مقاصد القرآن, ولاحظ البحث أن الاستقراء هو أكثر ما اجمع عليه العلماء لمعرفة مقاصد القرآن. وأبرز ما خرج به هذا البحث أن أكثر من عني بمقاصد القرآن وتفصيلها هم العلماء المتأخرون, وأن هذا التفاوت في العناية بالمقاصد القرآنية عائد إلى أن كل مرحلة اتسمت بمميزات عن سابقتها وكل عالم أو مفسر نظر للمقاصد من زاوية مختلفة تتأثر بكثير من الأحيان بخلفيات أصحابها الفكرية والعلمية.
Abstract:
This research aims to introduce and identify Maqasid Al-Quran (Quranic purposes), Indicating the relationship between Maqasid Al-Quran and Maqasid al-Shariah (legislation purposes), and explaining the mufasireen’ (exegetes) approaches in detecting Maqasid Al-Quran. In addition, this research aims to search the early and late mufasireen’ viewpoints, interpretations and their indications regarding Maqasid Al-Quran. The researchers use the descriptive approach for collecting statements and definitions and the analytical approach to interpret the scholar’ statements and their indications. The findings of this research shows that the majority of the Maqasid Al-Quran definitions emphasize the fact that the Maqasid Al-Quran represent the Allah’ purpose in his Quranic provisions and legislations and the targets of the Quran is to achieve the benefit and best for the humans. Moreover, the research reveals the Maqasid al-Shariah is part of Maqasid Al-Quran, and notices that induction is the most followed approach by the mufasireen to figure out Maqasid Al-Quran. The findings also reveals that late scholar and mufassirūn gave attention to Maqasid Al-Quran more than early scholar and mufassirūn , this disparity in paying attention to Maqasid Al-Quran may refer to different characteristics of various eras and each scholar or mufassir views Maqasid Al-Quran from his own angle which is mostly affected by their scientific and ideological backgrounds.
المقدمة:
يتطرق هذا البحث إلى تعريف المقاصد القرآنية عند العلماء, وأيضا أوجه العلاقة بين المقاصد القرآنية والمقاصد الشرعية, وما الفرق بين مقاصد القرآن ومقاصد السور القرآنية في تصانيف العلماء, وكذلك الأهمية والفائدة الإجمالية من معرفة ودراسة المقاصد القرآنية, ويتناول أيضا جهود علماء الأمة من المتقدمين والمتأخرين في استنباط واستخراج المقاصد القرآنية وتصنيفهم للمقاصد القرآنية, واختلافهم في ذلك حسب خلفياتهم الفكرية. ويختم الباب بالطرق والمسالك التي سلكها العلماء في معرفة المقاصد القرآنية.
المبحث الأول
مفهوم المقاصد القرآنية
المقاصد في اللغة:
المقاصد جمع المقصد، وهو ما تقصده وتريد الوصول إليه, الْقَافُ وَالصَّادُ وَالدَّالُ أصول ثَلَاثَةٌ، يَدُلُّ أَحَدُهَا عَلَى إِتْيَانِ شَيْءٍ وَأَمِّهِ، وَالْآخَرُ عَلَى اكْتِنَازٍ فِي الشَّيْءِ. فَالْأَصْلُ: قَصَدْتُهُ قَصْدًا وَمَقْصَدًا[1], وجاء في لسان العرب: "قصد: الْقَصْدُ: اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ. قَصَد يَقْصِدُ قَصْدًا، فَهُوَ قاصِد. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾(الن حل: 9), أَي عَلَى اللَّهِ تَبْيِينُ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ والدعاءُ إِليه بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ، ﴿وَمِنْهَا جَائِرٌ﴾(النحل:9 ) أَي وَمِنْهَا طَرِيقٌ غَيْرُ قَاصِدٍ. وطريقٌ قَاصِدٌ: سَهْلٌ مُسْتَقِيمٌ. وسَفَرٌ قاصدٌ: سَهْلٌ قَرِيبٌ. وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: ﴿لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ﴾( التوبة: 42), قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: سَفَرًا قَاصِدًا أَي غيرَ شاقٍّ. والقَصْدُ: العَدْل"[2], وقد جاء لفظ "قصد"في ستة مواضع[3] في القرآن الكريم يفيد اغلبها التوسط والاستقامة والاعتدال, وهي كالتالي:
1. اقصد: في قوله تعالى: ﴿واقصد في مشيك واغضض من صوتك﴾ (لقمان: 9), أَيْ تَوَسَّطْ فِيهِ. وَالْقَصْدُ: مَا بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالْبُطْءِ، أَيْ لَا تَدِبَّ دَبِيبَ الْمُتَمَاوِتِي نَ وَلَا تَثِبْ وَثْبَ الشُّطَّارِ[4].
2. قصد: في قوله تعالى: ﴿وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر﴾ (النحل: 9), أَيْ عَلَى اللَّهِ بَيَانُ قَصْدِ السبيل، فحذف المضاف وهو البيان. والسبيل: السلام، أَيْ عَلَى اللَّهِ بَيَانُهُ بِالرُّسُلِ وَالْحِجَجِ وَالْبَرَاهِينِ . وَقَصْدُ السَّبِيلِ: اسْتِعَانَةُ الطَّرِيقِ، يُقَالُ: طَرِيقٌ قَاصِدٌ أَيْ يُؤَدِّي إلى الْمَطْلُوبِ. ﴿وَمِنْها جائِرٌ﴾ أَيْ وَمِنَ السَّبِيلِ جَائِرٌ، أَيْ عَادِلٌ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يُهْتَدَى بِهِ.[5]
3. قاصدا في قوله تعالى: ﴿لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك﴾ (التوبة: 42) أي سفرا سهلا معلوم الطريق.
4. مقتصد: في قوله تعالى: ﴿فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد﴾ (لقمان: 32) أي عدل في العهد.
5. مقتصد: في قوله تعالى: ﴿فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد﴾ (فاطر: 32) أي ملازم للقصد وهو ترك الميل.
6. مقتصدة: في قوله تعالى: ﴿منهم امة مقتصدة﴾ (المائدة: 66) أي منهم قوم لم يكونوا من المؤذيين المستهزئين وَالِاقْتِصَادُ الِاعْتِدَالُ فِي الْعَمَلِ، وَهُوَ مِنَ الْقَصْدِ، وَالْقَصْدُ إِتْيَانُ الشَّيْءِ، تَقُولُ: قَصَدْتُهُ وَقَصَدْتُ لَهُ وَقَصَدْتُ إِلَيْهِ بِمَعْنًى[6].
مما سبق يتضح أن المعنى اللغوي للمقاصد لها استعمالات متعددة, كالاستقامة والاعتدال, والتوسط والحكمة إلى غير ذلك من المعاني.
المقاصد في الاصطلاح:
يستخدم الأصوليون عادة المقاصد تحت معنى الهدف والغاية من الأحكام الشرعية, وفي هذا البحث الذي يعني بالمقاصد القرآنية سوف اذكر تعريف المقاصد الشرعية والمقاصد القرآنية التي هي أصل مقاصد الشريعة وعليها تدور مقاصد الشريعة ومنها تستمد حتى يتبين المراد والمقصود.
فقد عرف العلماء المقاصد بتعريفات عديدة, أما ما ذكره الإمام الشاطبي الذي يعتبر أول من أرسى دعائم علم المقاصد, فإنه لم يحرص على إعطاء حد وتعريف للمقاصد الشرعية، ولعله اعتبر الأمر واضحًا، ويزداد وضوحًا بما لا مزيد عليه بقراءة كتابه المخصص للمقاصد من "الموافقات" ولعل ما زهده في تعريف المقاصد كونه كتب كتابه للعلماء، بل للراسخين في علوم الشرعية[7]
أما ابن عاشور فقد عرف المقاصد الشرعية: المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة[8]
أما الدكتور أحمد الريسوني فقد عرف مقاصد الشريعة: بأنها الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد[9]
وقد استخلص اليوبي في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية أن تعريف المقاصد: المعاني والحكم ونحوها التي راعاها الشارع, في التشريع عموما وخصوصا, من أجل تحقيق مصالح العباد[10]
هذا بالنسبة لتعريف المقاصد الشرعية والتي يصلح أن تكون تعريف للمقاصد اصطلاحا, أما بالنسبة لتعريف المقاصد القرآنية التي هي موضع دراستي في هذه الرسالة, فانه قد ورد ذكر المصطلح في عدد من كتب المتقدمين من ذلك كتاب القواعد للعز بن عبد السلام, ذكرها في عدة مواضع, وأيضا ذكره ابن عاشور في مواضع عدة. أما من المعاصرين فقد ذكره عدد منهم أمثال الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار, مقاصد القرآن وغيرهم[11].
وجاء في تعريف المقاصد: أنها الغايات[12] والأهداف التي أنزل الله تعالى القرآن من أجلها.
ومن تعاريف مقاصد القرآن: (الأسرار والحكم والغايات التي نزل القرآن لأجل تحقيقها جلبًا للمصالح، ودفعًا للمفاسد، وهي واضحة في جميع القرآن أو معظمه)[13].
وخلاصة القول إن هذه التعريفات في جملتها تدور على كون المقاصد تمثل مراد الله في أحكامه وتشريعاته القرآنية والغايات التي نزل القرآن لأجل تحقيقها مما فيه مصلحة للعباد في المعاش والمعاد.
المبحث الثاني
العلاقة بين مقاصد القرآن ومقاصد التشريع
هناك اختلاف بين المقاصد القرآنية والمقاصد الشرعية فقد ارتبط لفظ المقاصد بعلم أصول الفقه إلا أن الأصوليون لم يضعوا تعريفا, فمقاصد القرآن يستنطقها المفسر من القرآن نفسه أما مقاصد الشريعة فيستخرجها الأصولي من كتب الفقه وأصوله, كما أن مقاصد القرآن تعد شرطا للوقوف على مقاصد الشريعة فمقاصد الشريعة تعد خطوة تالية للمقاصد القرآنية, كما أن مقاصد الشريعة تتعلق بموضوع واحد من الموضوعات القرآنية وهو مجال الأحكام والتشريع. ولا يخفى ما بين مقاصد القرآن[14], ومقاصد التشريع من تعلق، فمقاصد التشريع بمعنى: "المعاني التي لاحظها الشارع في أحكامه والغايات التي لأجلها وضع هذه الأحكام"، والتي لا تخرج عن جلب المصالح ودرء المفاسد؛ إنما هي مستمدة من أصل التشريع الأول: القرآن الكريم، وهي لذلك متضمنة في مقاصده العامة. فمقاصد القرآن[15] من حيث المفهوم والمجال ليست منحصرة في المقاصد الشرعية (بمعناها التشريعي الفقهي) وتختلف عنها, فان مقاصد القرآن تعني المحاور الكبرى والقضايا العامة التي جاء القرآن لتقريرها, وبذلك تغدوا مقاصد الشريعة جزءا من مقصد القرآن, إذ التشريع والأحكام جزء من القرآن الكريم وليس كل القرآن ولا يمكن حصر الكلي في الجزئي.
وهناك من يعتبر أن مقاصد الشريعة هي نفسها مقاصد القرآن, وفي ضمن مقاصد القرآن وتبعا لها[16].
وقد بين هذه العلاقة أبو إسحاق الشاطبي، حين ذكر ما انطوت عليه سور القرآن الكريم من المقاصد الكبرى، ومنها سورة البقرة التي (قررت قواعد التقوى المبنية على سورة الأنعام) وفيها نجد "حفظ الدين... وحفظ النفس والعقل والنسل والمال.
المبحث الثالث
العلاقة بين مقاصد القرآن ومقاصد السور
"مقاصد السور ومقاصد القرآن،هما نوعان متقاربان ومتداخلان، أما مقاصد السور فقد كانت محط عناية المفسرين، وممن كان له اهتمام خاص بمقاصد السور من المتقدمين الإمام البقاعي في كتابه: "مصاعد النظر في مقاصد السور"، وأيضا في تفسيره: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"؛ حيث اهتم بإبراز مقاصد السور في بداية تفسيره لها واطرد عنده هذا الأمر كثيرا، ولم يغب هذا النظر عند بعض من تقدمه من المفسرين كأبي حيان والرازي والقرطبي وابن عطية، وإن لم يطرد.
أما مقاصد القرآن، فإن النظر فيها أعم، وأقرب ما يكون إلى مقاصد التشريع، لذلك وجدناه واضحا عند المتأخرين ممن اهتموا بتجديد أمر التفسير وبمقاصد التشريع؛ كالشيخ رشيد رضا والشيخ الطاهر بن عاشور، إلا أن هذا الأمر لم يغب تماما عند بعض المتقدمين، الذين ألمحوا بإشارات عابرة مختصرة إلى مقاصد القرآن وأهمية مراعاتها في التفسير"[17]. فالسور القرآنية كانت مدخلا عند العديد من المفسرين للحديث عن مقاصد القرآن الكريم[18], انطلاقا من أن لكل سورة موضوع عام ومقصد محدد, وأن مقاصد القرآن هي مجموع مقاصد سوره, وأن فضل السورة يتأتى من نسبة ما تضمنته من هذه المقاصد.
المبحث الرابع
الأهمية والفائدة الإجمالية لمعرفة مقاصد القرآن الكريم
فمن أهم ما يستفاد[19] من معرفة مقاصد القرآن الكريم -وخاصة مقاصدَه العامة- ما يلي:
1. معرفة مقاصد القرآن الكريم هي المدخل السليم إلى فهم الرسالة القرآنية الإسلامية على وجهها الصحيح، بلا زيادة ولا نقصان، ولا إفراط ولا تفريط. فمقاصد القرآن، إنما هي ما نَص عليه القرآن، وما نزل لأجله القرآن، وماس استُخلص من جُملةٍ من معانيه وأحكامه.
2. معرفة هذه المقاصد العامة واستحضارها عند قراءة القرآن وتدبره، تـمَكِّن قارئَه من الفهم السليم للمعاني التفصيلية والمقاصد الخاصة لأمثاله وقصصه ووعده ووعيده، ولكل آية وكل لفظ وكل حكم ورد فيه.
3. بمعرفة مقاصد القرآن يتسدد فهمنا لمقاصد السنة النبوية جملة وتفصيلا، ومن خلال ذلك يتسدد النظر الفقهي والاجتهاد الفقهي، كما سأبين لاحقا إن شاء الله تعالى وبعونه.
4. مقاصد القرآن هي الميزان والمعيار الذي يجب أن نزن به أعمالنا الفردية والجماعية، وحياتنا الخاصة والعامة، فكل عمل قلبي أو أخلاقي أو اقتصادي أو سياسي أو عسكري أو حضاري لا يهتدي بمقاصد القرآن، وبمقاصده في القرآن، فهو حائد عن هدي القرآن. خذ مثالا على ذلك أن من أهم مقاصد القرآن التي سبقت الإشارة إليها مقصد إقامة العدل، فهذا المقصد الكبير معيار نزن به مواقفنا الشخصية، وعقودنا المالية، كما نزن به القضاء العادل والسياسة العادلة. ومثاله أيضا أن الزواج مقصده في القرآن أن يكون سكينة ورحمة، فكل زواج إسلامي يوزن بمدى تحقيقه هذه السكينة والرحمة.
5. مقاصد القرآن هي الميزان والمعيار الذي لا بد منه كذلك للمفسرين في مناهجهم وتفسيراتهم؛ فبمعرفتها ومراعاتها يضمن المفسر لنفسه ولتفسيره أن تكون اهتماماته ومقاصده واستنباطاته في نطاق مقاصد القرآن، بلا زيادة ولا نقصان. وهذا ضرب من “تفسير القرآن بالقرآن”، ويمكن تسميته “تفسير القرآن في ضوء مقاصده”.
وهذه هي الفائدة العلمية الأهم والأوسع أثرا؛ وهي التي تعصم المفسرين من الانجرار وراء أمور لا مكان لها في مقاصد الكتاب العزيز. ومعلوم أن المفسر إذا استقام منهجه في تفسيره، انعكس خير ذلك وأثرُه على قرائه وعلى عامة المسلمين، وإذا اختل منهجه ونتائجه، انتقل ذلك إليهم وأصبح دينا لهم…كما يذكر أن من أهمية المقاصد ككل تكمن في كونه يبحث ويدرس ويُـبرز جوهر الشريعة وغاية رسالتها، ويكشف عن حِكَمها ومقاصد أحكامها. وهو بذلك الجدير بإبراز محاسنها ومكارمها، ونفي الأفهام والتفسيرات المشوِّهة لها. وبهذه الخصائص النفيسة يتمكن هذا العلم من التقويم والتسديد والإمداد لسائر العلوم والدراسات الإسلامية. "ثم أن الانفتاح على مقاصد القرآن الكريم الكلية وتوظيفها في مشروع نهضوي تتبدل فيه كل الأفكار والقيم والعادات والتقاليد الساذجة التي أنعشتها الإسرائيليات والتي عطلت العقل المسلم وحجبته عن فهمه لمرادات الشارع المقدس يتوقف على الترقي في مراتب هذا المنهج, أعني من القراءة الواعية الهادفة إلى القراءة العلمية المتخصصة, كما يوفر هذا المنهج وعي الآيات القرآنية الكريمة إلى درجة الإشراف على الطفرات الاجتماعية الكبرى في تاريخ البشرية, لاسيما عند دراسة السنن القرآنية للتاريخ وكيفية التحكم بمسار الأحداث وهذا الوعي القرآني هو الذي يحصن الفرد والمجتمع, ويسد الفراغ الإيديولوجي الذي أدى إلى غربة المسلم المؤمن في مجتمعه وعلى أرضه, بسبب الاستيراد الفوضوي للثقافات الهابطة من هنا وهناك"[20].
المبحث الخامس
تقسيمات العلماء للمقاصد القرآنية
أولا: مقاصد القرآن الكريم عند المتقدمين:
بذل العلماء السابقون والمعاصرون جهودا كبيرة في الكشف عن مقاصد القرآن وتوضيحها وان لم يكونوا يذكروا ذلك بلفظ الصريح-مقاصد القرآن- فانه لم تخل العديد من كتب التفسير من إشارات إلى مقاصد القرآن عند ذكر غرض المفسر من تفسيره, ومن العلماء المتقدمين في ذكر المقاصد:
إمام الحرمين الجويني (ت: 478ه): رائد علم المقاصد, فهو أول من طرحها على بساط البحث, في كتابه البرهان في أصول الفقه, حيث كان يردد كثيرا لفظ المقصد والمقصود والقصد ويشير إلى أهمية المقاصد وكان له السبق في الإشارة إلى الضروريات الخمس[21].
وحذا حذوه الإمام أبو حامد الغزالي (ت: 505ه): ولكنه أضاف وطور وأبدع حيث أوضح الضروريات والحاجيات والتحسينيات, وذكر بعض الأدلة التي يمكن من خلالها الوصول إلى المقاصد, وأشار إلى بعض قواعد المقاصد في كتابه "جواهر القرآن "ويعد أبو حامد الغزالي[22] الوحيد من بين القدماء الذي وضع تصنيفا واضحا ودقيقا لمقاصد القرآن. وقد قسم الغزالي المقاصد حيث قال في جواهر القرآن: "فلذلك انحصرت سُوَرُ القرآن وآياتُه في ستة أنواع: ثلاثة منها: هي السوابق والأصول المُهِمِّة, وثلاثة: هي الرَّوادف والتوابع المُغنِيَة المُتِمَّة.
أما الثلاثة المُهِمَّة فهي: تعريف المدعو إليه, وتعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه, وتعريف الحال عند الوصول إليه.
وأما الثلاثة المُغْنِيَة المُتِمَّة:
فأحدها: تعريف أحوال المُجيبين للدعوة ولطائف صُنع الله فيهم؛ وسِرُّهُ ومقصودُه التشويقُ والترغيبُ، وتعريفُ أحوال النَّاكبين والنَّاكلين عن الإجابة وكيفيةُ قمعِ الله لهم وتنكيلِهِ لهم؛ وسِرُّهُ ومقصوده الاعتبار والترهيب.
وثانيها: حكاية أحوال الجاحدين، وكَشْفُ فضائحهم وجهلهم بالمجادلة والمُحاجَّة على الحق، وسِرُّه ومقصوده في جنب الباطل الإِفضاحُ والتَّنْفير، وفي جَنب الحق الإيضاحُ والتَّثْبيتُ والتَّقهير.
وثالثها: تعريف عمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ الزاد والأُهبة والاستعداد.
فهذه ستة أقسام"[23]. ويمكن القول: إن مقاصد[24] القرآن الأساسية بحسب الغزالي هي: 1- التوحيد (تعريف المدعو إليه), 2- المعاد أو الوعد والوعيد (تعريف الحال عند الوصول إليه), 3- القصص(تعريف أحوال السالكين والناكبين),4- أحكام التشريع (تعريف عمارة منازل الطريق).
فهذا التقسيم[25] الذي جاء به الغزالي يبدو شاملا لجميع مقاصد القرآن, وسنجد أن تصنيف العلماء بعد الغزالي لمقاصد القرآن لا يكاد يخرج عما ذكره, كما أن مقاصد الشريعة التي يعبر عنها العلماء بالكليات الخمس أدرجها الغزالي ضمن المقصد الأخير, المتعلق بعمارة منازل الطريق وهذا الأمر يعزز ما ذهبنا إليه من أن مقاصد القرآن تختلف عن مقاصد الشريعة فهذا مقصد واحد من مقاصد الشريعة.
وكذلك الإمام ابن العربي فقد كان ممن اشتهر بتفسير النصوص مع مراعاة المقاصد الشرعية, وذلك في شروحاته الحديثة كالمسالك والقبس كلاهما في الموطأ, وكذلك في عارضة الأحوذي في شرح جامع الترمذي, وكذلك في أحكام القرآن[26]. وقد كان التفسير المقاصدي عند ابن العربي في أحكام القرآن يقوم على أساسين[27], هما: 1- النظر إلى معاني النصوص, بتعليلها ومعرفة أسرارها وحكمها, دون الوقوف على ظواهرها.
2-النظر إلى الأحكام من حيث مقصودها في جلب المصالح ودرء المفاسد.
وأما عناصر[28] نظرية التفسير المقاصدي عنده فقد شملت التيسير ورفع الحرج, النظر إلى المعاني المرادة وعدم الوقوف على ظواهر الألفاظ, النظر إلى المال ومنه سد الذرائع, وتحريم الحيل, واعتبار المصلحة, ومقاصد المكلفين, وتعليل العبادات, وأما طريقته[29] في توظيف المقاصد عمليا فقد جاءت على شكلين: تقصيد الآيات القرآنية, والاستدلال بالمقاصد على الأحكام.
والإمام العز بن عبد السلام (ت660ه): الذي تفرد بكتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) بالكلام عن المصالح والمفاسد وارتباط الأحكام بالمقاصد وقد أبدع في هذا الكتاب وأشبع الكلام عن مقاصد الشارع وأثرها في تفسير النصوص وقد عرف المقاصد والمفاسد, وقسم المقاصد إلى دنيوية وأخروية, كما وظف المقاصد في الترجيح بين المصالح والمفاسد, وأشار أيضا إلى بعض طرق الكشف عن المقاصد, وتطرق أيضا إلى المقاصد الجزئية للأحكام الشرعية[30].
والإمام القرافي (ت: 684ه): الذي عده ابن عاشور من المؤسسين للمقاصد في كتابه الفروق والذخيرة[31]. وقد ذكر من خلال كتابه (الفروق) بعض القواعد المتعلقة بالمقاصد وهي مستفادة من شيخه مثل قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل. وقاعدة المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها.
وأيضاً في كتابه (شرح تنقيح الفصول) ذكر الضروريات، وذكر المقاصد الخمسة وذكر الخلاف في العرض وكذلك نجد اهتمامه بالمقاصد في كتابه (النفائس) أكثر وأكثر فقد ذكر جملة من القواعد والفوائد المتعلقة بالمقاصد[32].
والإمام ابن تيمية (ت728ه): الذي لا يخلو مؤلف من مؤلفاته من ذكر المقاصد, وهذا واضح في مواضع كثيرة من مجموع الفتاوى ومن الفتاوى الكبرى ومن مظاهر التجديد عند ابن تيمية في المقاصد: اعتراضه على حصر المقاصد في الضروريات الخمس إذ تتعدى عنده إلى معان أخرى كحب الله والخوف منه, والإخلاص في الدين والعمل به[33].
وابن القيم (ت: 751ه): الذي نحا منحا شيخه ابن تيمية في رعايته لمقاصد الشريعة لاسيما في كتابه الفذ أعلام الموقعين عند الكلام على رفع الحرج وسد الذرائع ومنع الحيل الشرعية[34].
والإمام الشاطبي: وقد ذهب ابن عاشور إلى أن الشاطبي هو الذي أفرد المقاصد بالتدوين في كتابه الموافقات. والشاطبي[35] لم يعمد إلى وضع حد أو رسم للمقاصد, بل بدأ مباشرة ببيان المقاصد من خلال بيان أقسامها، فقسمها إلى قسمين: قصد الشارع؛ وقصد المكلف.
القسم الأول: قصد الشارع: وقسمه إلى أربعة أنواع هي:
1- قصد الشارع إلى وضع الشريعة ابتداءً أي بالقصد الذي يعتبر في المرتبة الأولى، ويكون ما عداه كالتفصيل له، وهذا القصد الأول, وهو الذي قال فيه الشاطبي: «تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو أن تكون ثلاثة أقسام: ضرورية، وحاجية، وتحسينية», وهذه المقاصد تجمعها قاعدة «درء المفاسد وجلب المصالح».
2- قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام.
3- قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها.
4- قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة.
القسم الثاني: قصد المكلف: وخصصه لمقاصد المكلف في التكليف، مؤكداً أن العمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية، وإذا عرى عن القصد لم يتعلق به شيء منها.
وهذه التقسيمات تجمع مدلول المقاصد عند الشاطبي، الذي يمتد ليشمل المقاصد المصلحية والدلالية للخطاب الشرعي والمرتبطة في تحققها واقعاً بامتثال المكلف.
"وقد ورد كلام العلماء عن مقاصد القرآن في مناسبات عديدة منها: في مقدمات التفسير كما فعل ابن جزي (741ه) في مقدمة تفسيره تحت باب سماه: "في المعاني والعلوم التي تضمنها القرآن" حيث ميز في مقاصد القرآن بين عام وتفصيلي، فقال: "أما الجملة فاعلم أن المقصود بالقرآن دعوة الخلق إلى عبادة الله وإلى الدخول في دينه. وفي كتب علوم القرآن عند الكلام عن أقسام علوم القرآن كما فعل السيوطي (900ه) وعند الكلام عن سورة الفاتحة واحتوائها على كل مقاصد القرآن الكريم, وعند الكلام عن تحقيق بعض المقاصد في سور عديدة كالكوثر والكافرون"[36]
يتبع
أ. عائشة عبد الملك محمد سعد
د. محمد نجيب بن عبد القادر[**]
ملخص البحث:
يهدف هذا البحث إلى التعريف بالمقاصد القرآنية، مبيناً العلاقة بين مقاصد القرآن ومقاصد التشريع وطرق العلماء في الكشف عن المقاصد القرآنية. كما ويهدف إلی تتبع اجتهادات بعض من المفسرين المتقدمين والمتأخرين وإشاراتهم في تفسیراتهم، والتي تدل علی اعتبارهم للمقاصد في تفسیر القرآن. وقد سلك الباحثان المنهج الوصفي, لجمع الأقوال والتعريفات والمنهج التحليلي بتفسير أقوال العلماء واستنباطاتهم. وقد خلص البحث إلى نتائج أهمها أن جمله التعريفات تدور على كون المقاصد تمثل مراد الله في أحكامه وتشريعاته القرآنية والغايات التي نزل القرآن لأجل تحقيقها مما فيه مصلحة للعباد، وأظهر البحث أن مقاصد الشريعة جزء من مقاصد القرآن, ولاحظ البحث أن الاستقراء هو أكثر ما اجمع عليه العلماء لمعرفة مقاصد القرآن. وأبرز ما خرج به هذا البحث أن أكثر من عني بمقاصد القرآن وتفصيلها هم العلماء المتأخرون, وأن هذا التفاوت في العناية بالمقاصد القرآنية عائد إلى أن كل مرحلة اتسمت بمميزات عن سابقتها وكل عالم أو مفسر نظر للمقاصد من زاوية مختلفة تتأثر بكثير من الأحيان بخلفيات أصحابها الفكرية والعلمية.
Abstract:
This research aims to introduce and identify Maqasid Al-Quran (Quranic purposes), Indicating the relationship between Maqasid Al-Quran and Maqasid al-Shariah (legislation purposes), and explaining the mufasireen’ (exegetes) approaches in detecting Maqasid Al-Quran. In addition, this research aims to search the early and late mufasireen’ viewpoints, interpretations and their indications regarding Maqasid Al-Quran. The researchers use the descriptive approach for collecting statements and definitions and the analytical approach to interpret the scholar’ statements and their indications. The findings of this research shows that the majority of the Maqasid Al-Quran definitions emphasize the fact that the Maqasid Al-Quran represent the Allah’ purpose in his Quranic provisions and legislations and the targets of the Quran is to achieve the benefit and best for the humans. Moreover, the research reveals the Maqasid al-Shariah is part of Maqasid Al-Quran, and notices that induction is the most followed approach by the mufasireen to figure out Maqasid Al-Quran. The findings also reveals that late scholar and mufassirūn gave attention to Maqasid Al-Quran more than early scholar and mufassirūn , this disparity in paying attention to Maqasid Al-Quran may refer to different characteristics of various eras and each scholar or mufassir views Maqasid Al-Quran from his own angle which is mostly affected by their scientific and ideological backgrounds.
المقدمة:
يتطرق هذا البحث إلى تعريف المقاصد القرآنية عند العلماء, وأيضا أوجه العلاقة بين المقاصد القرآنية والمقاصد الشرعية, وما الفرق بين مقاصد القرآن ومقاصد السور القرآنية في تصانيف العلماء, وكذلك الأهمية والفائدة الإجمالية من معرفة ودراسة المقاصد القرآنية, ويتناول أيضا جهود علماء الأمة من المتقدمين والمتأخرين في استنباط واستخراج المقاصد القرآنية وتصنيفهم للمقاصد القرآنية, واختلافهم في ذلك حسب خلفياتهم الفكرية. ويختم الباب بالطرق والمسالك التي سلكها العلماء في معرفة المقاصد القرآنية.
المبحث الأول
مفهوم المقاصد القرآنية
المقاصد في اللغة:
المقاصد جمع المقصد، وهو ما تقصده وتريد الوصول إليه, الْقَافُ وَالصَّادُ وَالدَّالُ أصول ثَلَاثَةٌ، يَدُلُّ أَحَدُهَا عَلَى إِتْيَانِ شَيْءٍ وَأَمِّهِ، وَالْآخَرُ عَلَى اكْتِنَازٍ فِي الشَّيْءِ. فَالْأَصْلُ: قَصَدْتُهُ قَصْدًا وَمَقْصَدًا[1], وجاء في لسان العرب: "قصد: الْقَصْدُ: اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ. قَصَد يَقْصِدُ قَصْدًا، فَهُوَ قاصِد. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾(الن حل: 9), أَي عَلَى اللَّهِ تَبْيِينُ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ والدعاءُ إِليه بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ، ﴿وَمِنْهَا جَائِرٌ﴾(النحل:9 ) أَي وَمِنْهَا طَرِيقٌ غَيْرُ قَاصِدٍ. وطريقٌ قَاصِدٌ: سَهْلٌ مُسْتَقِيمٌ. وسَفَرٌ قاصدٌ: سَهْلٌ قَرِيبٌ. وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: ﴿لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ﴾( التوبة: 42), قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: سَفَرًا قَاصِدًا أَي غيرَ شاقٍّ. والقَصْدُ: العَدْل"[2], وقد جاء لفظ "قصد"في ستة مواضع[3] في القرآن الكريم يفيد اغلبها التوسط والاستقامة والاعتدال, وهي كالتالي:
1. اقصد: في قوله تعالى: ﴿واقصد في مشيك واغضض من صوتك﴾ (لقمان: 9), أَيْ تَوَسَّطْ فِيهِ. وَالْقَصْدُ: مَا بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالْبُطْءِ، أَيْ لَا تَدِبَّ دَبِيبَ الْمُتَمَاوِتِي نَ وَلَا تَثِبْ وَثْبَ الشُّطَّارِ[4].
2. قصد: في قوله تعالى: ﴿وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر﴾ (النحل: 9), أَيْ عَلَى اللَّهِ بَيَانُ قَصْدِ السبيل، فحذف المضاف وهو البيان. والسبيل: السلام، أَيْ عَلَى اللَّهِ بَيَانُهُ بِالرُّسُلِ وَالْحِجَجِ وَالْبَرَاهِينِ . وَقَصْدُ السَّبِيلِ: اسْتِعَانَةُ الطَّرِيقِ، يُقَالُ: طَرِيقٌ قَاصِدٌ أَيْ يُؤَدِّي إلى الْمَطْلُوبِ. ﴿وَمِنْها جائِرٌ﴾ أَيْ وَمِنَ السَّبِيلِ جَائِرٌ، أَيْ عَادِلٌ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يُهْتَدَى بِهِ.[5]
3. قاصدا في قوله تعالى: ﴿لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك﴾ (التوبة: 42) أي سفرا سهلا معلوم الطريق.
4. مقتصد: في قوله تعالى: ﴿فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد﴾ (لقمان: 32) أي عدل في العهد.
5. مقتصد: في قوله تعالى: ﴿فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد﴾ (فاطر: 32) أي ملازم للقصد وهو ترك الميل.
6. مقتصدة: في قوله تعالى: ﴿منهم امة مقتصدة﴾ (المائدة: 66) أي منهم قوم لم يكونوا من المؤذيين المستهزئين وَالِاقْتِصَادُ الِاعْتِدَالُ فِي الْعَمَلِ، وَهُوَ مِنَ الْقَصْدِ، وَالْقَصْدُ إِتْيَانُ الشَّيْءِ، تَقُولُ: قَصَدْتُهُ وَقَصَدْتُ لَهُ وَقَصَدْتُ إِلَيْهِ بِمَعْنًى[6].
مما سبق يتضح أن المعنى اللغوي للمقاصد لها استعمالات متعددة, كالاستقامة والاعتدال, والتوسط والحكمة إلى غير ذلك من المعاني.
المقاصد في الاصطلاح:
يستخدم الأصوليون عادة المقاصد تحت معنى الهدف والغاية من الأحكام الشرعية, وفي هذا البحث الذي يعني بالمقاصد القرآنية سوف اذكر تعريف المقاصد الشرعية والمقاصد القرآنية التي هي أصل مقاصد الشريعة وعليها تدور مقاصد الشريعة ومنها تستمد حتى يتبين المراد والمقصود.
فقد عرف العلماء المقاصد بتعريفات عديدة, أما ما ذكره الإمام الشاطبي الذي يعتبر أول من أرسى دعائم علم المقاصد, فإنه لم يحرص على إعطاء حد وتعريف للمقاصد الشرعية، ولعله اعتبر الأمر واضحًا، ويزداد وضوحًا بما لا مزيد عليه بقراءة كتابه المخصص للمقاصد من "الموافقات" ولعل ما زهده في تعريف المقاصد كونه كتب كتابه للعلماء، بل للراسخين في علوم الشرعية[7]
أما ابن عاشور فقد عرف المقاصد الشرعية: المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة[8]
أما الدكتور أحمد الريسوني فقد عرف مقاصد الشريعة: بأنها الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد[9]
وقد استخلص اليوبي في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية أن تعريف المقاصد: المعاني والحكم ونحوها التي راعاها الشارع, في التشريع عموما وخصوصا, من أجل تحقيق مصالح العباد[10]
هذا بالنسبة لتعريف المقاصد الشرعية والتي يصلح أن تكون تعريف للمقاصد اصطلاحا, أما بالنسبة لتعريف المقاصد القرآنية التي هي موضع دراستي في هذه الرسالة, فانه قد ورد ذكر المصطلح في عدد من كتب المتقدمين من ذلك كتاب القواعد للعز بن عبد السلام, ذكرها في عدة مواضع, وأيضا ذكره ابن عاشور في مواضع عدة. أما من المعاصرين فقد ذكره عدد منهم أمثال الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار, مقاصد القرآن وغيرهم[11].
وجاء في تعريف المقاصد: أنها الغايات[12] والأهداف التي أنزل الله تعالى القرآن من أجلها.
ومن تعاريف مقاصد القرآن: (الأسرار والحكم والغايات التي نزل القرآن لأجل تحقيقها جلبًا للمصالح، ودفعًا للمفاسد، وهي واضحة في جميع القرآن أو معظمه)[13].
وخلاصة القول إن هذه التعريفات في جملتها تدور على كون المقاصد تمثل مراد الله في أحكامه وتشريعاته القرآنية والغايات التي نزل القرآن لأجل تحقيقها مما فيه مصلحة للعباد في المعاش والمعاد.
المبحث الثاني
العلاقة بين مقاصد القرآن ومقاصد التشريع
هناك اختلاف بين المقاصد القرآنية والمقاصد الشرعية فقد ارتبط لفظ المقاصد بعلم أصول الفقه إلا أن الأصوليون لم يضعوا تعريفا, فمقاصد القرآن يستنطقها المفسر من القرآن نفسه أما مقاصد الشريعة فيستخرجها الأصولي من كتب الفقه وأصوله, كما أن مقاصد القرآن تعد شرطا للوقوف على مقاصد الشريعة فمقاصد الشريعة تعد خطوة تالية للمقاصد القرآنية, كما أن مقاصد الشريعة تتعلق بموضوع واحد من الموضوعات القرآنية وهو مجال الأحكام والتشريع. ولا يخفى ما بين مقاصد القرآن[14], ومقاصد التشريع من تعلق، فمقاصد التشريع بمعنى: "المعاني التي لاحظها الشارع في أحكامه والغايات التي لأجلها وضع هذه الأحكام"، والتي لا تخرج عن جلب المصالح ودرء المفاسد؛ إنما هي مستمدة من أصل التشريع الأول: القرآن الكريم، وهي لذلك متضمنة في مقاصده العامة. فمقاصد القرآن[15] من حيث المفهوم والمجال ليست منحصرة في المقاصد الشرعية (بمعناها التشريعي الفقهي) وتختلف عنها, فان مقاصد القرآن تعني المحاور الكبرى والقضايا العامة التي جاء القرآن لتقريرها, وبذلك تغدوا مقاصد الشريعة جزءا من مقصد القرآن, إذ التشريع والأحكام جزء من القرآن الكريم وليس كل القرآن ولا يمكن حصر الكلي في الجزئي.
وهناك من يعتبر أن مقاصد الشريعة هي نفسها مقاصد القرآن, وفي ضمن مقاصد القرآن وتبعا لها[16].
وقد بين هذه العلاقة أبو إسحاق الشاطبي، حين ذكر ما انطوت عليه سور القرآن الكريم من المقاصد الكبرى، ومنها سورة البقرة التي (قررت قواعد التقوى المبنية على سورة الأنعام) وفيها نجد "حفظ الدين... وحفظ النفس والعقل والنسل والمال.
المبحث الثالث
العلاقة بين مقاصد القرآن ومقاصد السور
"مقاصد السور ومقاصد القرآن،هما نوعان متقاربان ومتداخلان، أما مقاصد السور فقد كانت محط عناية المفسرين، وممن كان له اهتمام خاص بمقاصد السور من المتقدمين الإمام البقاعي في كتابه: "مصاعد النظر في مقاصد السور"، وأيضا في تفسيره: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"؛ حيث اهتم بإبراز مقاصد السور في بداية تفسيره لها واطرد عنده هذا الأمر كثيرا، ولم يغب هذا النظر عند بعض من تقدمه من المفسرين كأبي حيان والرازي والقرطبي وابن عطية، وإن لم يطرد.
أما مقاصد القرآن، فإن النظر فيها أعم، وأقرب ما يكون إلى مقاصد التشريع، لذلك وجدناه واضحا عند المتأخرين ممن اهتموا بتجديد أمر التفسير وبمقاصد التشريع؛ كالشيخ رشيد رضا والشيخ الطاهر بن عاشور، إلا أن هذا الأمر لم يغب تماما عند بعض المتقدمين، الذين ألمحوا بإشارات عابرة مختصرة إلى مقاصد القرآن وأهمية مراعاتها في التفسير"[17]. فالسور القرآنية كانت مدخلا عند العديد من المفسرين للحديث عن مقاصد القرآن الكريم[18], انطلاقا من أن لكل سورة موضوع عام ومقصد محدد, وأن مقاصد القرآن هي مجموع مقاصد سوره, وأن فضل السورة يتأتى من نسبة ما تضمنته من هذه المقاصد.
المبحث الرابع
الأهمية والفائدة الإجمالية لمعرفة مقاصد القرآن الكريم
فمن أهم ما يستفاد[19] من معرفة مقاصد القرآن الكريم -وخاصة مقاصدَه العامة- ما يلي:
1. معرفة مقاصد القرآن الكريم هي المدخل السليم إلى فهم الرسالة القرآنية الإسلامية على وجهها الصحيح، بلا زيادة ولا نقصان، ولا إفراط ولا تفريط. فمقاصد القرآن، إنما هي ما نَص عليه القرآن، وما نزل لأجله القرآن، وماس استُخلص من جُملةٍ من معانيه وأحكامه.
2. معرفة هذه المقاصد العامة واستحضارها عند قراءة القرآن وتدبره، تـمَكِّن قارئَه من الفهم السليم للمعاني التفصيلية والمقاصد الخاصة لأمثاله وقصصه ووعده ووعيده، ولكل آية وكل لفظ وكل حكم ورد فيه.
3. بمعرفة مقاصد القرآن يتسدد فهمنا لمقاصد السنة النبوية جملة وتفصيلا، ومن خلال ذلك يتسدد النظر الفقهي والاجتهاد الفقهي، كما سأبين لاحقا إن شاء الله تعالى وبعونه.
4. مقاصد القرآن هي الميزان والمعيار الذي يجب أن نزن به أعمالنا الفردية والجماعية، وحياتنا الخاصة والعامة، فكل عمل قلبي أو أخلاقي أو اقتصادي أو سياسي أو عسكري أو حضاري لا يهتدي بمقاصد القرآن، وبمقاصده في القرآن، فهو حائد عن هدي القرآن. خذ مثالا على ذلك أن من أهم مقاصد القرآن التي سبقت الإشارة إليها مقصد إقامة العدل، فهذا المقصد الكبير معيار نزن به مواقفنا الشخصية، وعقودنا المالية، كما نزن به القضاء العادل والسياسة العادلة. ومثاله أيضا أن الزواج مقصده في القرآن أن يكون سكينة ورحمة، فكل زواج إسلامي يوزن بمدى تحقيقه هذه السكينة والرحمة.
5. مقاصد القرآن هي الميزان والمعيار الذي لا بد منه كذلك للمفسرين في مناهجهم وتفسيراتهم؛ فبمعرفتها ومراعاتها يضمن المفسر لنفسه ولتفسيره أن تكون اهتماماته ومقاصده واستنباطاته في نطاق مقاصد القرآن، بلا زيادة ولا نقصان. وهذا ضرب من “تفسير القرآن بالقرآن”، ويمكن تسميته “تفسير القرآن في ضوء مقاصده”.
وهذه هي الفائدة العلمية الأهم والأوسع أثرا؛ وهي التي تعصم المفسرين من الانجرار وراء أمور لا مكان لها في مقاصد الكتاب العزيز. ومعلوم أن المفسر إذا استقام منهجه في تفسيره، انعكس خير ذلك وأثرُه على قرائه وعلى عامة المسلمين، وإذا اختل منهجه ونتائجه، انتقل ذلك إليهم وأصبح دينا لهم…كما يذكر أن من أهمية المقاصد ككل تكمن في كونه يبحث ويدرس ويُـبرز جوهر الشريعة وغاية رسالتها، ويكشف عن حِكَمها ومقاصد أحكامها. وهو بذلك الجدير بإبراز محاسنها ومكارمها، ونفي الأفهام والتفسيرات المشوِّهة لها. وبهذه الخصائص النفيسة يتمكن هذا العلم من التقويم والتسديد والإمداد لسائر العلوم والدراسات الإسلامية. "ثم أن الانفتاح على مقاصد القرآن الكريم الكلية وتوظيفها في مشروع نهضوي تتبدل فيه كل الأفكار والقيم والعادات والتقاليد الساذجة التي أنعشتها الإسرائيليات والتي عطلت العقل المسلم وحجبته عن فهمه لمرادات الشارع المقدس يتوقف على الترقي في مراتب هذا المنهج, أعني من القراءة الواعية الهادفة إلى القراءة العلمية المتخصصة, كما يوفر هذا المنهج وعي الآيات القرآنية الكريمة إلى درجة الإشراف على الطفرات الاجتماعية الكبرى في تاريخ البشرية, لاسيما عند دراسة السنن القرآنية للتاريخ وكيفية التحكم بمسار الأحداث وهذا الوعي القرآني هو الذي يحصن الفرد والمجتمع, ويسد الفراغ الإيديولوجي الذي أدى إلى غربة المسلم المؤمن في مجتمعه وعلى أرضه, بسبب الاستيراد الفوضوي للثقافات الهابطة من هنا وهناك"[20].
المبحث الخامس
تقسيمات العلماء للمقاصد القرآنية
أولا: مقاصد القرآن الكريم عند المتقدمين:
بذل العلماء السابقون والمعاصرون جهودا كبيرة في الكشف عن مقاصد القرآن وتوضيحها وان لم يكونوا يذكروا ذلك بلفظ الصريح-مقاصد القرآن- فانه لم تخل العديد من كتب التفسير من إشارات إلى مقاصد القرآن عند ذكر غرض المفسر من تفسيره, ومن العلماء المتقدمين في ذكر المقاصد:
إمام الحرمين الجويني (ت: 478ه): رائد علم المقاصد, فهو أول من طرحها على بساط البحث, في كتابه البرهان في أصول الفقه, حيث كان يردد كثيرا لفظ المقصد والمقصود والقصد ويشير إلى أهمية المقاصد وكان له السبق في الإشارة إلى الضروريات الخمس[21].
وحذا حذوه الإمام أبو حامد الغزالي (ت: 505ه): ولكنه أضاف وطور وأبدع حيث أوضح الضروريات والحاجيات والتحسينيات, وذكر بعض الأدلة التي يمكن من خلالها الوصول إلى المقاصد, وأشار إلى بعض قواعد المقاصد في كتابه "جواهر القرآن "ويعد أبو حامد الغزالي[22] الوحيد من بين القدماء الذي وضع تصنيفا واضحا ودقيقا لمقاصد القرآن. وقد قسم الغزالي المقاصد حيث قال في جواهر القرآن: "فلذلك انحصرت سُوَرُ القرآن وآياتُه في ستة أنواع: ثلاثة منها: هي السوابق والأصول المُهِمِّة, وثلاثة: هي الرَّوادف والتوابع المُغنِيَة المُتِمَّة.
أما الثلاثة المُهِمَّة فهي: تعريف المدعو إليه, وتعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه, وتعريف الحال عند الوصول إليه.
وأما الثلاثة المُغْنِيَة المُتِمَّة:
فأحدها: تعريف أحوال المُجيبين للدعوة ولطائف صُنع الله فيهم؛ وسِرُّهُ ومقصودُه التشويقُ والترغيبُ، وتعريفُ أحوال النَّاكبين والنَّاكلين عن الإجابة وكيفيةُ قمعِ الله لهم وتنكيلِهِ لهم؛ وسِرُّهُ ومقصوده الاعتبار والترهيب.
وثانيها: حكاية أحوال الجاحدين، وكَشْفُ فضائحهم وجهلهم بالمجادلة والمُحاجَّة على الحق، وسِرُّه ومقصوده في جنب الباطل الإِفضاحُ والتَّنْفير، وفي جَنب الحق الإيضاحُ والتَّثْبيتُ والتَّقهير.
وثالثها: تعريف عمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ الزاد والأُهبة والاستعداد.
فهذه ستة أقسام"[23]. ويمكن القول: إن مقاصد[24] القرآن الأساسية بحسب الغزالي هي: 1- التوحيد (تعريف المدعو إليه), 2- المعاد أو الوعد والوعيد (تعريف الحال عند الوصول إليه), 3- القصص(تعريف أحوال السالكين والناكبين),4- أحكام التشريع (تعريف عمارة منازل الطريق).
فهذا التقسيم[25] الذي جاء به الغزالي يبدو شاملا لجميع مقاصد القرآن, وسنجد أن تصنيف العلماء بعد الغزالي لمقاصد القرآن لا يكاد يخرج عما ذكره, كما أن مقاصد الشريعة التي يعبر عنها العلماء بالكليات الخمس أدرجها الغزالي ضمن المقصد الأخير, المتعلق بعمارة منازل الطريق وهذا الأمر يعزز ما ذهبنا إليه من أن مقاصد القرآن تختلف عن مقاصد الشريعة فهذا مقصد واحد من مقاصد الشريعة.
وكذلك الإمام ابن العربي فقد كان ممن اشتهر بتفسير النصوص مع مراعاة المقاصد الشرعية, وذلك في شروحاته الحديثة كالمسالك والقبس كلاهما في الموطأ, وكذلك في عارضة الأحوذي في شرح جامع الترمذي, وكذلك في أحكام القرآن[26]. وقد كان التفسير المقاصدي عند ابن العربي في أحكام القرآن يقوم على أساسين[27], هما: 1- النظر إلى معاني النصوص, بتعليلها ومعرفة أسرارها وحكمها, دون الوقوف على ظواهرها.
2-النظر إلى الأحكام من حيث مقصودها في جلب المصالح ودرء المفاسد.
وأما عناصر[28] نظرية التفسير المقاصدي عنده فقد شملت التيسير ورفع الحرج, النظر إلى المعاني المرادة وعدم الوقوف على ظواهر الألفاظ, النظر إلى المال ومنه سد الذرائع, وتحريم الحيل, واعتبار المصلحة, ومقاصد المكلفين, وتعليل العبادات, وأما طريقته[29] في توظيف المقاصد عمليا فقد جاءت على شكلين: تقصيد الآيات القرآنية, والاستدلال بالمقاصد على الأحكام.
والإمام العز بن عبد السلام (ت660ه): الذي تفرد بكتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) بالكلام عن المصالح والمفاسد وارتباط الأحكام بالمقاصد وقد أبدع في هذا الكتاب وأشبع الكلام عن مقاصد الشارع وأثرها في تفسير النصوص وقد عرف المقاصد والمفاسد, وقسم المقاصد إلى دنيوية وأخروية, كما وظف المقاصد في الترجيح بين المصالح والمفاسد, وأشار أيضا إلى بعض طرق الكشف عن المقاصد, وتطرق أيضا إلى المقاصد الجزئية للأحكام الشرعية[30].
والإمام القرافي (ت: 684ه): الذي عده ابن عاشور من المؤسسين للمقاصد في كتابه الفروق والذخيرة[31]. وقد ذكر من خلال كتابه (الفروق) بعض القواعد المتعلقة بالمقاصد وهي مستفادة من شيخه مثل قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل. وقاعدة المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها.
وأيضاً في كتابه (شرح تنقيح الفصول) ذكر الضروريات، وذكر المقاصد الخمسة وذكر الخلاف في العرض وكذلك نجد اهتمامه بالمقاصد في كتابه (النفائس) أكثر وأكثر فقد ذكر جملة من القواعد والفوائد المتعلقة بالمقاصد[32].
والإمام ابن تيمية (ت728ه): الذي لا يخلو مؤلف من مؤلفاته من ذكر المقاصد, وهذا واضح في مواضع كثيرة من مجموع الفتاوى ومن الفتاوى الكبرى ومن مظاهر التجديد عند ابن تيمية في المقاصد: اعتراضه على حصر المقاصد في الضروريات الخمس إذ تتعدى عنده إلى معان أخرى كحب الله والخوف منه, والإخلاص في الدين والعمل به[33].
وابن القيم (ت: 751ه): الذي نحا منحا شيخه ابن تيمية في رعايته لمقاصد الشريعة لاسيما في كتابه الفذ أعلام الموقعين عند الكلام على رفع الحرج وسد الذرائع ومنع الحيل الشرعية[34].
والإمام الشاطبي: وقد ذهب ابن عاشور إلى أن الشاطبي هو الذي أفرد المقاصد بالتدوين في كتابه الموافقات. والشاطبي[35] لم يعمد إلى وضع حد أو رسم للمقاصد, بل بدأ مباشرة ببيان المقاصد من خلال بيان أقسامها، فقسمها إلى قسمين: قصد الشارع؛ وقصد المكلف.
القسم الأول: قصد الشارع: وقسمه إلى أربعة أنواع هي:
1- قصد الشارع إلى وضع الشريعة ابتداءً أي بالقصد الذي يعتبر في المرتبة الأولى، ويكون ما عداه كالتفصيل له، وهذا القصد الأول, وهو الذي قال فيه الشاطبي: «تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو أن تكون ثلاثة أقسام: ضرورية، وحاجية، وتحسينية», وهذه المقاصد تجمعها قاعدة «درء المفاسد وجلب المصالح».
2- قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام.
3- قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها.
4- قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة.
القسم الثاني: قصد المكلف: وخصصه لمقاصد المكلف في التكليف، مؤكداً أن العمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية، وإذا عرى عن القصد لم يتعلق به شيء منها.
وهذه التقسيمات تجمع مدلول المقاصد عند الشاطبي، الذي يمتد ليشمل المقاصد المصلحية والدلالية للخطاب الشرعي والمرتبطة في تحققها واقعاً بامتثال المكلف.
"وقد ورد كلام العلماء عن مقاصد القرآن في مناسبات عديدة منها: في مقدمات التفسير كما فعل ابن جزي (741ه) في مقدمة تفسيره تحت باب سماه: "في المعاني والعلوم التي تضمنها القرآن" حيث ميز في مقاصد القرآن بين عام وتفصيلي، فقال: "أما الجملة فاعلم أن المقصود بالقرآن دعوة الخلق إلى عبادة الله وإلى الدخول في دينه. وفي كتب علوم القرآن عند الكلام عن أقسام علوم القرآن كما فعل السيوطي (900ه) وعند الكلام عن سورة الفاتحة واحتوائها على كل مقاصد القرآن الكريم, وعند الكلام عن تحقيق بعض المقاصد في سور عديدة كالكوثر والكافرون"[36]
يتبع