ابو وليد البحيرى
2019-09-14, 12:48 PM
أخلاق الشباب المسلم
تقي الدين الهلالي
قال الله - تعالى - في سورة (الإسراء: 70): (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً).
قال القاسمي في تفسيره: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ): "أي بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة والصورة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به، (وَحَمَلْنَاهُم فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي يسّرنا لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها فيهما وتحصيلها (وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ) أي فنون المستلذات التي لم يرزقها غيرهم من المخلوقات: (وَفَضَّلْنَاهُ ْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) أي عظيما، فحقّ عليهم أن يشكروا هذه النعم بأن يعبدوا المتفضل بها وحده ويقيموا شرائعه وحدوده" ا. هـ.
فتفضيل الله للإنسان وتكريمه له بجعله الحاكم المتصرف، وتسخيره له ما في الأرض من حيوان ونبات وجماد يتصرف فيه كيف يشاء، ويسيّره في خدمته، لم يكن بقوة الجسم ولا بخواص الأعضاء، فإن كثيراً من الحيوان كالأسد والنمر والفيل والدب والفرس والبعير أقوى منه بكثير، وللحيوان مزايا في خلقه ليست للإنسان، فمنه ما أعطي مزية السرعة في الجري والسبق كالنعامة والغزال، ومنه ما أعطي من حاسة الشم أو البصر أو السمع ما يفوق الإنسان بكثير، فالمزية الكبرى والنعمة العظمى التي وهبها الله الإنسان وفضّله بها هي العقل والأدب كما قال الشاعر:
مـا وهــب الله لامرئ هـبـة *** أفضل من عقله ومن أدبه
هما جمال الفتى فإن فُقِدا *** ففقده للحياة أجـمـــل بـه
والمراد بالأدب هنا الأدب النفسي وهو الخلق الحسن، وبه تتفاوت الأمم ارتقاء وانحطاط، وقوة وضعفا، وسيادة وعبودية، فما من أمة كثر حظها من خلق الحسن إلاّ بلغت أوج الرقي وغاية السعادة، وإن كانت قليلة العدد، أو كانت أرضها ضيقة، أو قليلة الغناء والخير غير صالحة للزرع والضرع، قليلة الحواصل والثمرات، ضعيفة الغلات فإن جميع ما في الأرض من الخيرات والبركات يحمل إليها، كما قال - تعالى -في سورة (النحل: 112): (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ).
المراد بالقرية هنا أهلها، وهم الأمة والشعب، وكما حكى الله عن إبراهيم الخليل في دعائه لأهل مكة في سورة (البقرة: 126): (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَات)، وفي سورة (إبراهيم: 57): (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
ومن أقام في مكة شرّفها الله حتى قبل عصر الطائرات يرى فيها من فواكه الهند واندونيسيا والشام ومصر ما لا يكاد عجبه ينقضي منه، مع أنها أرض جبلية قاحلة.
ومن أقام في البلاد البريطانية يرى أكثر ما يؤكل فيها ويلبس ويقتنى ويتخذ للزينة مجلوباً إليها من أطرف الدنيا وهي جزائر في البحر ضيّقة الرقعة، شديدة البرد، لو اقتصر أهلها على ما يخرج من أرضهم لوقعوا في مسغبة.
فإن قلت: هذه مكة دعا لأهلها خليل الله فاستجاب الله دعاءه، ويوجد فيها قوم صالحون يعبدون الله ويطيعون أمره، والحجاج ضيوف الله - تعالى - يقصدونها من كل فج عميق للحج والعمرة، شعثاً غبراً، يدعون ربهم رغبا ورهبا، خاشعين الله، أما بلاد البريطانية فأيّ مزية في أهلها، وهم أساتذة الاستعمار والغزو، وكم شعوباً أناخوا عليها بكلاكلهم مئات السنين، فما تخلصت من استعبادهم إلاّ بعد اللّتيا والتي، فبماذا استحقوا ذلك العيش الرغد، وتلك الثمرات؟ فأين الأدب النفسي والخلق الحسن من أخلاقهم الاستعمارية؟
فالجواب: أن العدل والمساواة في الحقوق والواجبات هما أساس العمران، وهما موجودان عندهم بلا شك.
أما استعمارهم للبلدان فللكلام عليه مقام آخر يطول شرحه.
وقال في سورة (التحريم: 6): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: "معناها: أدبوهم وعلّموهم. وقال عن ابن عباس في الآية: "اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بتقوى الله"، وقال قتادة: "تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله وتأمرهم به وتساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها".. وهكذا قال الضحاك ومقاتل: "حق على المسلم أن يعلّم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه".
وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الملك ابن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها".قال الفقهاء: "وهكذا في الصوم ليكون تمريناً له على العبادة والطاعة ومجانبة المعاصي، وترك المنكر، والله الموافق" ا. هـ.
أقول: يمكن أن يقول القائل: إن التربية في هذا الزمان قد بلغت عند الأمم الراقية درجة عالية، وهي تقتضي عدم ضرب الصبيان، فهناك وسائل أخرى في الترغيب والترهيب والثواب والعقاب تغني عن الضرب، وتحبّب إلى الناشئ التعلم والعمل المثمر، فأقول في جوابه: هذا رأي يقال، والعمل في الأمم الراقية على خلافه، ففي البلاد الألمانية يفرض على كل التلميذات الحضور إلى الكنيسة مع معلمه يوم الأحد، ويشهد الصلاة والوعظ، فإن لم يحضر بلا عذر أدّب على ذلك بالضرب، وإن ترك الصلاة في الكنيسة ثلاثة آحاد متوالية طرد من المدرسة، أما الأيام الستة الباقية من الأسبوع فإن الكنيسة تبعث القسّيسين إلى المدارس يصلّون بالتلاميذ في داخل المدرسة، ويعلّمونهم دينهم ساعتين في كل يوم، ولا يستطيع التلميذ أن يتغيب في هاتين الساعتين إلاّ إذا كان على دين آخر غير المسيحية.
ولما كان سكان البلاد الألمانية على مذهبين مختلفين، كاثولكيين وبروتستانتيين، كان الواجب على وزارة التعليم يقضي بإعداد المدارس لكل الفرقتين في كل مدينة أو قرية يكون سكانها مختلفين في المذهب حتى يتمكن التلميذ الذي أبوه كاثوليكي أن يجد مدرسة على مذهبه، وكذلك التلميذ الذي يكون أبوه برتستانتي يتعلم في مدرسة موافقة لمذهبه، فإن وجدت مدينة أو قرية سكانها كلهم على مذهب واحد، وسكن بينهم عدد قليل من أهل المذهب الآخر، يبعثون أولادهم إلى المدينة الأخرى ليجد مدرسة على مذهبهم، هذا في المدارس الابتدائية والثانوية، أما الجامعات ففي كل جامعة كلية لاهوت مختصة بتعليم الدين، وهذه الكلية محترمة جداً يؤمّها الأساتذة في الأعياد والمناسبات للصلاة والسماع الوعظ، ويتخرّج منها كل سنة كثير من الدكاترة في علم الدين، وكلهم يجدون أعمالا في الكنائس والإرساليات، وتعليم الدين في المدارس العامة.
وهناك مدارس دينية خالصة تديرها الكنائس، ولها مناهجها الخاصة لا تدخل تحت وزارة التربية والتعليم، وبهذه المناسبة أذكر هنا نبأ تاريخيا يخفى على أكثر الناس، وذلك أن هتلر اختلف مع الكنيسة الكاثولكية في قضيتين: إحداهما أنه أوجب على المدارس الدينية التابعة للكنيسة أن تطبق منهج وزارة التعليم، فعدّت الكنيسة الكاثولكية ذلك تدخلا في شؤون الدين، وعدواناً على الكنيسة، والثانية أنه استولى على الذهب المخزون في الكنيسة، وفرض رواتب يعطونها من وزارة المالية، ولهاتين القضيتين انظمّ الكاثولكيون إلى اليهود في عداوة هتلر، وأخذوا يكيدون له.
وهذا كله يبطل ما ينشره دجاجلة الاستعمار الروحي من زعيمهم أن الأمم الأوروبية التي بلغت أوج الرقي هجرت الدين وضربت به عرض الحائط، وكان ذلك سبب تقدمها، والأدلة على كذب هذه الدعاية أكثر من تحصى، وقد نشرت في مجلة دعوة الحق أدلة بالأرقام مأخوذة من سفارات الدول الراقية في أوروبا على تدين شعوبها، وقلة المارقين من الدين فيها، هذا مع أنّ دين النصرانية لا يتكفل بتدبير شئون الدين والدنيا كما يفعل الإسلام الحنيف، بل يقول من جملة ما يقول: "أعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر". أما الإسلام فيقول: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اْلأََرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).
ويقول في سورة (المائدة: 18): (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، ويقول في سورة (الأعراف: 128): (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ويقول في سورة (النجم: 25): (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى)، ففي نظر الإسلام كل شيء لله، وليس لقيصر شيء، بل قيصر نفسه مملوك لله.
وقد جرب المسلمون السابقون التمسك بالإسلام فوجدوه كفيلاً بسعادة الروح والبدن، وضابطا لمصالح الدين والدنيا، فالعجب من قوم يكون عندهم هذا الدين الحنيف محفوظا خالصا، لا تشوبه شائبة، ويرون كيف سعدت به أسلافهم، ثم يتنكرون له ويجهلونه ويجهلون عليه، ويردّدون أقول أعدائه، وينشرونها بين قومهم، مع ما فيها من الكذب والتدليس والتمويه والتحريف.
وقال - تعالى - في سورة (طه: 132): (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى).
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "وقوله - تعالى -: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت علي فعلها كما قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا)، قال ابن أبي حاتم بسنده إلى زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ (كذا)، وكان له ساعة من الليل يصلي فيها، فربما لم يقم فنقول: لا يقوم الليلة كما كان يقوم، وكان إذا استيقظ أقام - يعني أهله - وقال: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا).
وقوله: (لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُك)، يعني: إذا أقمت الصلاة نرزقك من حيث لا تحتسب، وقال - تعالى -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)- إلى قوله-: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين)، ولهذا قال: (لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُك) وقال الثوري: "لا نسألك رزقاً، يعني لا نكلّفك الطلب".
وقال ابن أبي حاتم بسنده إلى هشام عن أبيه "أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا، فرأى من دنياهم طرفا، فإذا رجع إلى أهله فدخل الدار قرأ: (وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْك) - إلى قوله-: (نَحْنُ نَرْزُقُك)، ثم يقول: "الصلاة الصلاة رحمكم الله".
وقال ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أصابته خصاصة نادى أهله: "يا أهلاه صلوا صلوا"و قال ثابت: "وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة".
وقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله - تعالى -: "يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك".
وروى ابن ماجه من حديث ابن مسعود: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من جعل الهموم هما واحداً همّ المعاد كفاه الله همّ دنياه، ومن تشعّبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أيّ أوديته هلك".
وروى أيضا من حديث ثابت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كانت الدنيا همّه فرّق الله عليه أمره وجعل فقرة بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلاّ ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة".
وقوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى): أي وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة لمن اتقى، وفي الصحيح أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت الليلة كأنّا في دار عقبة بن رافع، وأنا أتينا برطب من رطب ابن طاب، فأوّلت ذلك أنّ الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة في الآخرة، وأنّ ديننا قد طاب". أ. هـ.
شروح وإيضاح:
1- قوله: "كان يبيت عنده أنا ويرفأ" يظهر لي في هذه العبارة خلل إلاّ إذا أوّلناها على أن اسم كان ضمير الشأن، وجملة (يبيت) خبرها، وحتى على هذا التأويل يبقى الخلل كما هو، إذ لا يقال: "يبيت أنا"، فلعله تحريف من بعض النساخ، والصواب: "كنا نبيت عنده أنا ويرفأ"، ويرفأ اسم علم كيزيد ويشكر.
2- قوله: " فربما لم يقم" يعني أن عمر - رضي الله عنه - كان له وقت من الليل يتهجّد فيه، أي يصلي النافلة بالليل، وكان خادماه زيد ابن أسلم ويرفأ يراقبان قيامه، وفي بعض الأحيان كان يتأخر عن القيام، ولعل ذلك لغلبة نوم، وكان إذا قام لصلاة النافلة بالليل يقيم أهل بيته للاشتراك معه في العبادة اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أمره الله أن يأمر أهله بالصلاة ويصبر عليها، وستأتي زيادة بيان لهذا المعنى.
3- فهم المفسرون من قوله - تعالى -: (لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُك) أن من لم يشغله طلب الرزق عن صلاته عناية بها ومحافظة عليها رزقه الله وأغناه بفضله، وأنّ من ظنّ أنّ المحافظة على الصلاة في أوقاتها تُنقص من رزقه أو تمنعه، ملأ الله قلبه همّاً وغمّاً، ولم يأته من الرزق إلاّ ما كتب له كما سيأتي في الحديث صريحاً.
4- قوله - تعالى -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَاْ أُرِيْدُ أَنْ يُطْعِمُونَ * إِنَّ اْلله هُوَ اْلرَّزَّاقُ ذُو اْلقُوَّةِ اْلمَتِينِ) (الذاريات: 56-58)، أخبر الله - سبحانه - أنه خلق الخلق لغرض واحد يعود عليهم بالخير والسعادة، وذلك الغرض هو عبادته وحده لا شريك له، وهو غنيٌّ عن العالمين، وهم محتاجون إليه، فمن اشتغل بالغرض الذي خلقه الله لأجله فقد أفلح وسعد ورشد واهتدى، وقد ضمن الله رزقه يأتيه من حيث لا يدري، ومن لم يثق بوعد الله، وشغله طلب الرزق عما خلق له شتت الله شمله، وأكثر همّه، ولم ينل من الرزق إلاّ ما قدّر له.
5- قوله: "هشام عن أبيه" يعني عروة بن الزبير بن العوام، "كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفا" المراد بالطرف: نفائس الأموال التي يندر مثيلها، فإذا رجع إلى أهله ودخل بيته ولم ير فيه تلك النفائس التي رآها في بيوت أهل الثراء المترفين يتلو قوله - تعالى -: (وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ) الآية.
قال ابن كثير في تفسيره: "يقول الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنظر إلى ما فيه هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة، ليختبرهم بذلك أَيَشْكرون أم يكفرون، وقليل من عبادي الشكور، وقال مجاهد: (أَزْوَاجاً مِنْهُمْ): "يعني الأغنياء"، فقد آتاك الله خيرا مما آتاهم، وكذلك ما ادّخره الله - تعالى -لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف، كما قال - تعالى -: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) (الضحى: 5)، ولهذا قال: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طـه: من الآية131)" ا. هـ.
أقول: في هذا الخطاب تزهيد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمته في الدنيا وزخارفها وإبعاد لهم عن الافتتان بزهرتها وزينتها، لأنّ من فتن به أهلكته وشغلته عن ذكر الله، وهذا مع العلم بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان رئيس الدولة وكان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، والأموال كلها بيده، ولكنه كان زهداً فيها، مفضّلاً التقشف في المعيشة طوعاً واختياراً لا حاجة واضطراراً، فكان ينام على الحصير حتى يؤثر في جسمه الشريف، وكان يمر الشهر والشهران لا توقد النار في بيته، وإنما يعيش هو وأهله على الماء والتمر كما في حديث عائشة في الصحيحين، فكان عروة بن الزبير إذا دخل بيته يعظ نفسه وأهله بهذه الآية وينادي فيهم: "الصلاة الصلاة"، ففي الصلاة نعيم وقرّة عين للمتقين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"، والمراد بقرة العين: "الفرح والسرور".
6- قوله: "إذا أصابه خصاصة" أي حاجة وضيق في المعيشة، أمر أهله بالصلاة امتثالا لأمر الله تعالى؛ لأن الصلاة تعين كل محتاج، وتفرّج كربه كما قال - تعالى - في سورة (البقرة: 153): (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة)، وهذه سنة سائر كل الأنبياء إذا نزل بهم أمر يكرهونه يفزعون إلى الصلاة فيدفع الله عنهم بها كل مكروه، ويبدلهم بالعسر يسرا، وبالضيق سعة، وبالشدة رخاء، وهكذا ينبغي للمؤمنين الصادقين - شبابا كانوا أم كهولا أم شيوخا - أن يفعلوا إذا نزل بهم ما يكرهون أن يستعينوا بالصبر والصلاة، فالصبر يهوّن عليهم المصيبة، ويفتح لهم باب الفرج، والصلاة استغاثة واستعانة بالله - تعالى -.
وقد رأينا محمد علي كلاي الملاكم العالمي المشهور إذا أراد أن ينازل بطلا من أبطال الملاكمة يصلّي ويدعو الله - تعالى - ويستمدّ منه قوة على خصمه فينصره الله ويهزم عدوه، فهذا هو الأدب المحمدي الذي ينجح في كل زمان ومكان.
7- حديث أبي هريرة القدسي، يقول الله - تعالى -: ((يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك))، في هذا الحديث جواب للذين يسألون عن أوقات الصلاة إذا فرض فيها شغل دنيوي كالمعلّمين وتلامذة المدارس، والموظفين في الإدارات، وفي سائر الأعمال إذا دخل وقت العصر، هل يتفرّغون لعبادة الله لمدة خمس دقائق ويؤدون فريضتهم، ويدعون شغلهم جانباً، فإن فعلوا ذلك ملأ الله صدورهم وأيديهم غنى، وأزال فقرهم الحسي والمعنوي، فالمعنوي هو فقر القلب وجزعه، وشغله بالتفكير في الرزق، أو في أيّ وسيلة التي يظن أن الرزق يأتي بسببها، وإن هم لم يستجيبوا لدعوة الله، وتمادوا في شغلهم، وأعرضوا عن صلاة العصر وحدها؛ لأنها هي التي تجيء عادة في وسط الأشغال وبها يمتحن المؤمن، فإن كان صادق العزم ثابت اليقين وقف الشغل الدنيوي من بيع وشراء وعمل في مزرعة أو مصنع، أو مدرسة أو مختبر، أو غير ذلك، وتفرّغ لعبادة الله واستجاب لدعوته، فيزيده الله قوة إلى قوته، ويملأ صدره غنى وثقة به، وذلك هو الظفر والنصر المبين، وإن كان خائر العزم، ضعيف الإرادة، كبر عليه ترك شغله وخيّل له أنّ في تركه خسارة لا تعوّض، فيستمر في شغله عاصيا ربه، خائنا دينه، خائسا بعهده، فحينئذ يمتلئ صدره غمّاً وشغلاً يلازمانه أبداً.
أخرج البخاري في كتاب المواقيت من صحيحه عن أبي المليح قال: "كنّا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم فقال: "بكروا بصلاة العصر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ترك صلاة العصر حبط عمله".
وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله)).
نفهم من الحديث الأول ومن غيره من الأحاديث الصحاح، ومن الآيات البينات أن من ترك صلاة العصر عمدا بلا عذر شرعي حتى خرج وقتها فقد بطل عمله الصالح كله، لأنه كفر فإن تاب ورجع إلى الإسلام، وعاهد الله عهداً صادقا أن لا يتعمد ترك الصلاة مفروضة أبداً، فإن الله يرد له ما حبط من عمله.
ومثل هذا قوله - تعالى - في سورة (الزمر: 52): (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" رواه مسلم من حديث جابر، وإذا كان ترك الصلاة عمداً كفرا فلا إشكال في حبوط العمل.
وأما الحديث الثاني الذي تفوته الصلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله، أي خسر ماله وأهله وبقي فرداً بلا أهل ولا مال، ومثل ذلك قوله - تعالى - في سورة (الزمر: 15): (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)، وكل فريضة حدّد وقتها يجب على المسلم أن يترك كل شغله يشغله عن أدائها، قال - تعالى - في سورة (الجمعة: 9-10): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فحرّم الله على المسلمين أن يشتغلوا بالبيع وغيره من أمور الدنيا بعد آذان الجمعة، وأوجب عليهم أن يسعوا إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة حتى إذا سلّم الإمام من صلاة الجمعة فقد أذن الله لهم أن يخرجوا من المسجد، وينتشروا في الأرض ليشتغلوا بأعمالهم التي تكفّل لهم رزقهم.
ومثل ذلك في قوله - تعالى - في سورة (المعارج: 16-35): (إِنَّ اْلإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم ْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم ْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ).
أخبرنا الله - سبحانه - أن الإنسان - يعني جميع الناس - خُلق هلوعا، جعل من طبعه الهلع وهو الجزع وشدة الحرص، فتفسير (هَلُوعاً) هو ما بعده: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ): المرض والفقر وسائر المصائب (جَزُوعاً): يائسا خاضعا منقطع الرجاء (وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ): وهو الغنى والصحة والقوة والنصر وسائر النعم، (مَنُوعاً): بخيلا لا ينفع غيره بشيء.
ثم استثنى الله - تعالى - من الناس المجبولين على ذلك الطبع الخبيث المصلين، وأكد وصفهم بقوله - تعالى -: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) أي محافظون على أوقاتها وشروطها وأركانها وآدابها، ووصفهم بصفات بدأها بالمحافظة على الصلاة، وختمها بالمحافظة على الصلاة، وذكر بينهما صفات:
أولاها: أنّ في أموالهم حقاً معلوماً للفقراء والمحتاجين، سواء أكانوا من الذين يظهرون فقرهم وحاجتهم ويسألون الناس، أم كانوا من المتعففين الذين يكتمون فقرهم، ولا يسألون الناس، وهم القسم المعبر عنه بالمحروم؛ لأن أكثر الناس يحرمونهم من الصدقة.
ثانيتها: أنهم يصدّقون بيوم الدين، أي يؤمنون بيوم القيامة، وهو يوم الجزاء، ويجعلونه نصب أعينهم، فيبعثهم ذلك على مراقبة الله - تعالى -، فلا يفعلون إلاّ ما يرضيه.
ثالثتها: الخوف من الله - تعالى - فهم يخافون عذابه ولا يأمنون مكره، فإنه لا يأمنه إلاّ القوم الخاسرون.
رابعتها: أنهم يحفظون فروجهم عمّا حرم الله ويقتصرون على ما أحل الله.
خامستها: أنهم يحافظون على عهدهم إذا عاهدوا مسلما أو ذميا، أو معاهدا أو مصالحا، لا ينقضونه أبداً.
سادستها: أنهم يقومون بشهاداتهم فيؤدّونها كما علموها، ولو كانت على الوالدين والأقربين، لا يزيدون فيها ولا ينقصون، ولا يبدّلون ولا يغيّرون، ولا يكتمونها أبدا، ومن يكتمها فإنه آثمٌ قلبُه.
فهذه صفات المؤمنين الصادقين، لا جرم أنّ كل شعب سادت فيه هذه الصفات يكون سعيداً في دنياه وأخراه، عزيزا مؤيداً منصورا، جعلنا الله من أهلها.
يتبع
تقي الدين الهلالي
قال الله - تعالى - في سورة (الإسراء: 70): (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً).
قال القاسمي في تفسيره: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ): "أي بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة والصورة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به، (وَحَمَلْنَاهُم فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي يسّرنا لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها فيهما وتحصيلها (وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ) أي فنون المستلذات التي لم يرزقها غيرهم من المخلوقات: (وَفَضَّلْنَاهُ ْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) أي عظيما، فحقّ عليهم أن يشكروا هذه النعم بأن يعبدوا المتفضل بها وحده ويقيموا شرائعه وحدوده" ا. هـ.
فتفضيل الله للإنسان وتكريمه له بجعله الحاكم المتصرف، وتسخيره له ما في الأرض من حيوان ونبات وجماد يتصرف فيه كيف يشاء، ويسيّره في خدمته، لم يكن بقوة الجسم ولا بخواص الأعضاء، فإن كثيراً من الحيوان كالأسد والنمر والفيل والدب والفرس والبعير أقوى منه بكثير، وللحيوان مزايا في خلقه ليست للإنسان، فمنه ما أعطي مزية السرعة في الجري والسبق كالنعامة والغزال، ومنه ما أعطي من حاسة الشم أو البصر أو السمع ما يفوق الإنسان بكثير، فالمزية الكبرى والنعمة العظمى التي وهبها الله الإنسان وفضّله بها هي العقل والأدب كما قال الشاعر:
مـا وهــب الله لامرئ هـبـة *** أفضل من عقله ومن أدبه
هما جمال الفتى فإن فُقِدا *** ففقده للحياة أجـمـــل بـه
والمراد بالأدب هنا الأدب النفسي وهو الخلق الحسن، وبه تتفاوت الأمم ارتقاء وانحطاط، وقوة وضعفا، وسيادة وعبودية، فما من أمة كثر حظها من خلق الحسن إلاّ بلغت أوج الرقي وغاية السعادة، وإن كانت قليلة العدد، أو كانت أرضها ضيقة، أو قليلة الغناء والخير غير صالحة للزرع والضرع، قليلة الحواصل والثمرات، ضعيفة الغلات فإن جميع ما في الأرض من الخيرات والبركات يحمل إليها، كما قال - تعالى -في سورة (النحل: 112): (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ).
المراد بالقرية هنا أهلها، وهم الأمة والشعب، وكما حكى الله عن إبراهيم الخليل في دعائه لأهل مكة في سورة (البقرة: 126): (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَات)، وفي سورة (إبراهيم: 57): (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
ومن أقام في مكة شرّفها الله حتى قبل عصر الطائرات يرى فيها من فواكه الهند واندونيسيا والشام ومصر ما لا يكاد عجبه ينقضي منه، مع أنها أرض جبلية قاحلة.
ومن أقام في البلاد البريطانية يرى أكثر ما يؤكل فيها ويلبس ويقتنى ويتخذ للزينة مجلوباً إليها من أطرف الدنيا وهي جزائر في البحر ضيّقة الرقعة، شديدة البرد، لو اقتصر أهلها على ما يخرج من أرضهم لوقعوا في مسغبة.
فإن قلت: هذه مكة دعا لأهلها خليل الله فاستجاب الله دعاءه، ويوجد فيها قوم صالحون يعبدون الله ويطيعون أمره، والحجاج ضيوف الله - تعالى - يقصدونها من كل فج عميق للحج والعمرة، شعثاً غبراً، يدعون ربهم رغبا ورهبا، خاشعين الله، أما بلاد البريطانية فأيّ مزية في أهلها، وهم أساتذة الاستعمار والغزو، وكم شعوباً أناخوا عليها بكلاكلهم مئات السنين، فما تخلصت من استعبادهم إلاّ بعد اللّتيا والتي، فبماذا استحقوا ذلك العيش الرغد، وتلك الثمرات؟ فأين الأدب النفسي والخلق الحسن من أخلاقهم الاستعمارية؟
فالجواب: أن العدل والمساواة في الحقوق والواجبات هما أساس العمران، وهما موجودان عندهم بلا شك.
أما استعمارهم للبلدان فللكلام عليه مقام آخر يطول شرحه.
وقال في سورة (التحريم: 6): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: "معناها: أدبوهم وعلّموهم. وقال عن ابن عباس في الآية: "اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بتقوى الله"، وقال قتادة: "تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله وتأمرهم به وتساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها".. وهكذا قال الضحاك ومقاتل: "حق على المسلم أن يعلّم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه".
وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الملك ابن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها".قال الفقهاء: "وهكذا في الصوم ليكون تمريناً له على العبادة والطاعة ومجانبة المعاصي، وترك المنكر، والله الموافق" ا. هـ.
أقول: يمكن أن يقول القائل: إن التربية في هذا الزمان قد بلغت عند الأمم الراقية درجة عالية، وهي تقتضي عدم ضرب الصبيان، فهناك وسائل أخرى في الترغيب والترهيب والثواب والعقاب تغني عن الضرب، وتحبّب إلى الناشئ التعلم والعمل المثمر، فأقول في جوابه: هذا رأي يقال، والعمل في الأمم الراقية على خلافه، ففي البلاد الألمانية يفرض على كل التلميذات الحضور إلى الكنيسة مع معلمه يوم الأحد، ويشهد الصلاة والوعظ، فإن لم يحضر بلا عذر أدّب على ذلك بالضرب، وإن ترك الصلاة في الكنيسة ثلاثة آحاد متوالية طرد من المدرسة، أما الأيام الستة الباقية من الأسبوع فإن الكنيسة تبعث القسّيسين إلى المدارس يصلّون بالتلاميذ في داخل المدرسة، ويعلّمونهم دينهم ساعتين في كل يوم، ولا يستطيع التلميذ أن يتغيب في هاتين الساعتين إلاّ إذا كان على دين آخر غير المسيحية.
ولما كان سكان البلاد الألمانية على مذهبين مختلفين، كاثولكيين وبروتستانتيين، كان الواجب على وزارة التعليم يقضي بإعداد المدارس لكل الفرقتين في كل مدينة أو قرية يكون سكانها مختلفين في المذهب حتى يتمكن التلميذ الذي أبوه كاثوليكي أن يجد مدرسة على مذهبه، وكذلك التلميذ الذي يكون أبوه برتستانتي يتعلم في مدرسة موافقة لمذهبه، فإن وجدت مدينة أو قرية سكانها كلهم على مذهب واحد، وسكن بينهم عدد قليل من أهل المذهب الآخر، يبعثون أولادهم إلى المدينة الأخرى ليجد مدرسة على مذهبهم، هذا في المدارس الابتدائية والثانوية، أما الجامعات ففي كل جامعة كلية لاهوت مختصة بتعليم الدين، وهذه الكلية محترمة جداً يؤمّها الأساتذة في الأعياد والمناسبات للصلاة والسماع الوعظ، ويتخرّج منها كل سنة كثير من الدكاترة في علم الدين، وكلهم يجدون أعمالا في الكنائس والإرساليات، وتعليم الدين في المدارس العامة.
وهناك مدارس دينية خالصة تديرها الكنائس، ولها مناهجها الخاصة لا تدخل تحت وزارة التربية والتعليم، وبهذه المناسبة أذكر هنا نبأ تاريخيا يخفى على أكثر الناس، وذلك أن هتلر اختلف مع الكنيسة الكاثولكية في قضيتين: إحداهما أنه أوجب على المدارس الدينية التابعة للكنيسة أن تطبق منهج وزارة التعليم، فعدّت الكنيسة الكاثولكية ذلك تدخلا في شؤون الدين، وعدواناً على الكنيسة، والثانية أنه استولى على الذهب المخزون في الكنيسة، وفرض رواتب يعطونها من وزارة المالية، ولهاتين القضيتين انظمّ الكاثولكيون إلى اليهود في عداوة هتلر، وأخذوا يكيدون له.
وهذا كله يبطل ما ينشره دجاجلة الاستعمار الروحي من زعيمهم أن الأمم الأوروبية التي بلغت أوج الرقي هجرت الدين وضربت به عرض الحائط، وكان ذلك سبب تقدمها، والأدلة على كذب هذه الدعاية أكثر من تحصى، وقد نشرت في مجلة دعوة الحق أدلة بالأرقام مأخوذة من سفارات الدول الراقية في أوروبا على تدين شعوبها، وقلة المارقين من الدين فيها، هذا مع أنّ دين النصرانية لا يتكفل بتدبير شئون الدين والدنيا كما يفعل الإسلام الحنيف، بل يقول من جملة ما يقول: "أعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر". أما الإسلام فيقول: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اْلأََرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).
ويقول في سورة (المائدة: 18): (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، ويقول في سورة (الأعراف: 128): (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ويقول في سورة (النجم: 25): (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى)، ففي نظر الإسلام كل شيء لله، وليس لقيصر شيء، بل قيصر نفسه مملوك لله.
وقد جرب المسلمون السابقون التمسك بالإسلام فوجدوه كفيلاً بسعادة الروح والبدن، وضابطا لمصالح الدين والدنيا، فالعجب من قوم يكون عندهم هذا الدين الحنيف محفوظا خالصا، لا تشوبه شائبة، ويرون كيف سعدت به أسلافهم، ثم يتنكرون له ويجهلونه ويجهلون عليه، ويردّدون أقول أعدائه، وينشرونها بين قومهم، مع ما فيها من الكذب والتدليس والتمويه والتحريف.
وقال - تعالى - في سورة (طه: 132): (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى).
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "وقوله - تعالى -: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت علي فعلها كما قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا)، قال ابن أبي حاتم بسنده إلى زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ (كذا)، وكان له ساعة من الليل يصلي فيها، فربما لم يقم فنقول: لا يقوم الليلة كما كان يقوم، وكان إذا استيقظ أقام - يعني أهله - وقال: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا).
وقوله: (لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُك)، يعني: إذا أقمت الصلاة نرزقك من حيث لا تحتسب، وقال - تعالى -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)- إلى قوله-: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين)، ولهذا قال: (لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُك) وقال الثوري: "لا نسألك رزقاً، يعني لا نكلّفك الطلب".
وقال ابن أبي حاتم بسنده إلى هشام عن أبيه "أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا، فرأى من دنياهم طرفا، فإذا رجع إلى أهله فدخل الدار قرأ: (وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْك) - إلى قوله-: (نَحْنُ نَرْزُقُك)، ثم يقول: "الصلاة الصلاة رحمكم الله".
وقال ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أصابته خصاصة نادى أهله: "يا أهلاه صلوا صلوا"و قال ثابت: "وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة".
وقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله - تعالى -: "يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك".
وروى ابن ماجه من حديث ابن مسعود: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من جعل الهموم هما واحداً همّ المعاد كفاه الله همّ دنياه، ومن تشعّبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أيّ أوديته هلك".
وروى أيضا من حديث ثابت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كانت الدنيا همّه فرّق الله عليه أمره وجعل فقرة بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلاّ ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة".
وقوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى): أي وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة لمن اتقى، وفي الصحيح أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت الليلة كأنّا في دار عقبة بن رافع، وأنا أتينا برطب من رطب ابن طاب، فأوّلت ذلك أنّ الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة في الآخرة، وأنّ ديننا قد طاب". أ. هـ.
شروح وإيضاح:
1- قوله: "كان يبيت عنده أنا ويرفأ" يظهر لي في هذه العبارة خلل إلاّ إذا أوّلناها على أن اسم كان ضمير الشأن، وجملة (يبيت) خبرها، وحتى على هذا التأويل يبقى الخلل كما هو، إذ لا يقال: "يبيت أنا"، فلعله تحريف من بعض النساخ، والصواب: "كنا نبيت عنده أنا ويرفأ"، ويرفأ اسم علم كيزيد ويشكر.
2- قوله: " فربما لم يقم" يعني أن عمر - رضي الله عنه - كان له وقت من الليل يتهجّد فيه، أي يصلي النافلة بالليل، وكان خادماه زيد ابن أسلم ويرفأ يراقبان قيامه، وفي بعض الأحيان كان يتأخر عن القيام، ولعل ذلك لغلبة نوم، وكان إذا قام لصلاة النافلة بالليل يقيم أهل بيته للاشتراك معه في العبادة اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أمره الله أن يأمر أهله بالصلاة ويصبر عليها، وستأتي زيادة بيان لهذا المعنى.
3- فهم المفسرون من قوله - تعالى -: (لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُك) أن من لم يشغله طلب الرزق عن صلاته عناية بها ومحافظة عليها رزقه الله وأغناه بفضله، وأنّ من ظنّ أنّ المحافظة على الصلاة في أوقاتها تُنقص من رزقه أو تمنعه، ملأ الله قلبه همّاً وغمّاً، ولم يأته من الرزق إلاّ ما كتب له كما سيأتي في الحديث صريحاً.
4- قوله - تعالى -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَاْ أُرِيْدُ أَنْ يُطْعِمُونَ * إِنَّ اْلله هُوَ اْلرَّزَّاقُ ذُو اْلقُوَّةِ اْلمَتِينِ) (الذاريات: 56-58)، أخبر الله - سبحانه - أنه خلق الخلق لغرض واحد يعود عليهم بالخير والسعادة، وذلك الغرض هو عبادته وحده لا شريك له، وهو غنيٌّ عن العالمين، وهم محتاجون إليه، فمن اشتغل بالغرض الذي خلقه الله لأجله فقد أفلح وسعد ورشد واهتدى، وقد ضمن الله رزقه يأتيه من حيث لا يدري، ومن لم يثق بوعد الله، وشغله طلب الرزق عما خلق له شتت الله شمله، وأكثر همّه، ولم ينل من الرزق إلاّ ما قدّر له.
5- قوله: "هشام عن أبيه" يعني عروة بن الزبير بن العوام، "كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفا" المراد بالطرف: نفائس الأموال التي يندر مثيلها، فإذا رجع إلى أهله ودخل بيته ولم ير فيه تلك النفائس التي رآها في بيوت أهل الثراء المترفين يتلو قوله - تعالى -: (وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ) الآية.
قال ابن كثير في تفسيره: "يقول الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنظر إلى ما فيه هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة، ليختبرهم بذلك أَيَشْكرون أم يكفرون، وقليل من عبادي الشكور، وقال مجاهد: (أَزْوَاجاً مِنْهُمْ): "يعني الأغنياء"، فقد آتاك الله خيرا مما آتاهم، وكذلك ما ادّخره الله - تعالى -لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف، كما قال - تعالى -: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) (الضحى: 5)، ولهذا قال: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طـه: من الآية131)" ا. هـ.
أقول: في هذا الخطاب تزهيد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمته في الدنيا وزخارفها وإبعاد لهم عن الافتتان بزهرتها وزينتها، لأنّ من فتن به أهلكته وشغلته عن ذكر الله، وهذا مع العلم بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان رئيس الدولة وكان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، والأموال كلها بيده، ولكنه كان زهداً فيها، مفضّلاً التقشف في المعيشة طوعاً واختياراً لا حاجة واضطراراً، فكان ينام على الحصير حتى يؤثر في جسمه الشريف، وكان يمر الشهر والشهران لا توقد النار في بيته، وإنما يعيش هو وأهله على الماء والتمر كما في حديث عائشة في الصحيحين، فكان عروة بن الزبير إذا دخل بيته يعظ نفسه وأهله بهذه الآية وينادي فيهم: "الصلاة الصلاة"، ففي الصلاة نعيم وقرّة عين للمتقين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"، والمراد بقرة العين: "الفرح والسرور".
6- قوله: "إذا أصابه خصاصة" أي حاجة وضيق في المعيشة، أمر أهله بالصلاة امتثالا لأمر الله تعالى؛ لأن الصلاة تعين كل محتاج، وتفرّج كربه كما قال - تعالى - في سورة (البقرة: 153): (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة)، وهذه سنة سائر كل الأنبياء إذا نزل بهم أمر يكرهونه يفزعون إلى الصلاة فيدفع الله عنهم بها كل مكروه، ويبدلهم بالعسر يسرا، وبالضيق سعة، وبالشدة رخاء، وهكذا ينبغي للمؤمنين الصادقين - شبابا كانوا أم كهولا أم شيوخا - أن يفعلوا إذا نزل بهم ما يكرهون أن يستعينوا بالصبر والصلاة، فالصبر يهوّن عليهم المصيبة، ويفتح لهم باب الفرج، والصلاة استغاثة واستعانة بالله - تعالى -.
وقد رأينا محمد علي كلاي الملاكم العالمي المشهور إذا أراد أن ينازل بطلا من أبطال الملاكمة يصلّي ويدعو الله - تعالى - ويستمدّ منه قوة على خصمه فينصره الله ويهزم عدوه، فهذا هو الأدب المحمدي الذي ينجح في كل زمان ومكان.
7- حديث أبي هريرة القدسي، يقول الله - تعالى -: ((يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك))، في هذا الحديث جواب للذين يسألون عن أوقات الصلاة إذا فرض فيها شغل دنيوي كالمعلّمين وتلامذة المدارس، والموظفين في الإدارات، وفي سائر الأعمال إذا دخل وقت العصر، هل يتفرّغون لعبادة الله لمدة خمس دقائق ويؤدون فريضتهم، ويدعون شغلهم جانباً، فإن فعلوا ذلك ملأ الله صدورهم وأيديهم غنى، وأزال فقرهم الحسي والمعنوي، فالمعنوي هو فقر القلب وجزعه، وشغله بالتفكير في الرزق، أو في أيّ وسيلة التي يظن أن الرزق يأتي بسببها، وإن هم لم يستجيبوا لدعوة الله، وتمادوا في شغلهم، وأعرضوا عن صلاة العصر وحدها؛ لأنها هي التي تجيء عادة في وسط الأشغال وبها يمتحن المؤمن، فإن كان صادق العزم ثابت اليقين وقف الشغل الدنيوي من بيع وشراء وعمل في مزرعة أو مصنع، أو مدرسة أو مختبر، أو غير ذلك، وتفرّغ لعبادة الله واستجاب لدعوته، فيزيده الله قوة إلى قوته، ويملأ صدره غنى وثقة به، وذلك هو الظفر والنصر المبين، وإن كان خائر العزم، ضعيف الإرادة، كبر عليه ترك شغله وخيّل له أنّ في تركه خسارة لا تعوّض، فيستمر في شغله عاصيا ربه، خائنا دينه، خائسا بعهده، فحينئذ يمتلئ صدره غمّاً وشغلاً يلازمانه أبداً.
أخرج البخاري في كتاب المواقيت من صحيحه عن أبي المليح قال: "كنّا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم فقال: "بكروا بصلاة العصر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ترك صلاة العصر حبط عمله".
وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله)).
نفهم من الحديث الأول ومن غيره من الأحاديث الصحاح، ومن الآيات البينات أن من ترك صلاة العصر عمدا بلا عذر شرعي حتى خرج وقتها فقد بطل عمله الصالح كله، لأنه كفر فإن تاب ورجع إلى الإسلام، وعاهد الله عهداً صادقا أن لا يتعمد ترك الصلاة مفروضة أبداً، فإن الله يرد له ما حبط من عمله.
ومثل هذا قوله - تعالى - في سورة (الزمر: 52): (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" رواه مسلم من حديث جابر، وإذا كان ترك الصلاة عمداً كفرا فلا إشكال في حبوط العمل.
وأما الحديث الثاني الذي تفوته الصلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله، أي خسر ماله وأهله وبقي فرداً بلا أهل ولا مال، ومثل ذلك قوله - تعالى - في سورة (الزمر: 15): (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)، وكل فريضة حدّد وقتها يجب على المسلم أن يترك كل شغله يشغله عن أدائها، قال - تعالى - في سورة (الجمعة: 9-10): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فحرّم الله على المسلمين أن يشتغلوا بالبيع وغيره من أمور الدنيا بعد آذان الجمعة، وأوجب عليهم أن يسعوا إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة حتى إذا سلّم الإمام من صلاة الجمعة فقد أذن الله لهم أن يخرجوا من المسجد، وينتشروا في الأرض ليشتغلوا بأعمالهم التي تكفّل لهم رزقهم.
ومثل ذلك في قوله - تعالى - في سورة (المعارج: 16-35): (إِنَّ اْلإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم ْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم ْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ).
أخبرنا الله - سبحانه - أن الإنسان - يعني جميع الناس - خُلق هلوعا، جعل من طبعه الهلع وهو الجزع وشدة الحرص، فتفسير (هَلُوعاً) هو ما بعده: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ): المرض والفقر وسائر المصائب (جَزُوعاً): يائسا خاضعا منقطع الرجاء (وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ): وهو الغنى والصحة والقوة والنصر وسائر النعم، (مَنُوعاً): بخيلا لا ينفع غيره بشيء.
ثم استثنى الله - تعالى - من الناس المجبولين على ذلك الطبع الخبيث المصلين، وأكد وصفهم بقوله - تعالى -: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) أي محافظون على أوقاتها وشروطها وأركانها وآدابها، ووصفهم بصفات بدأها بالمحافظة على الصلاة، وختمها بالمحافظة على الصلاة، وذكر بينهما صفات:
أولاها: أنّ في أموالهم حقاً معلوماً للفقراء والمحتاجين، سواء أكانوا من الذين يظهرون فقرهم وحاجتهم ويسألون الناس، أم كانوا من المتعففين الذين يكتمون فقرهم، ولا يسألون الناس، وهم القسم المعبر عنه بالمحروم؛ لأن أكثر الناس يحرمونهم من الصدقة.
ثانيتها: أنهم يصدّقون بيوم الدين، أي يؤمنون بيوم القيامة، وهو يوم الجزاء، ويجعلونه نصب أعينهم، فيبعثهم ذلك على مراقبة الله - تعالى -، فلا يفعلون إلاّ ما يرضيه.
ثالثتها: الخوف من الله - تعالى - فهم يخافون عذابه ولا يأمنون مكره، فإنه لا يأمنه إلاّ القوم الخاسرون.
رابعتها: أنهم يحفظون فروجهم عمّا حرم الله ويقتصرون على ما أحل الله.
خامستها: أنهم يحافظون على عهدهم إذا عاهدوا مسلما أو ذميا، أو معاهدا أو مصالحا، لا ينقضونه أبداً.
سادستها: أنهم يقومون بشهاداتهم فيؤدّونها كما علموها، ولو كانت على الوالدين والأقربين، لا يزيدون فيها ولا ينقصون، ولا يبدّلون ولا يغيّرون، ولا يكتمونها أبدا، ومن يكتمها فإنه آثمٌ قلبُه.
فهذه صفات المؤمنين الصادقين، لا جرم أنّ كل شعب سادت فيه هذه الصفات يكون سعيداً في دنياه وأخراه، عزيزا مؤيداً منصورا، جعلنا الله من أهلها.
يتبع