ابو وليد البحيرى
2019-09-01, 02:55 PM
دعوة إلى جهاد الدعوة
خباب بن مروان الحمد
قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله: "ولهذا كان الجهاد نوعين":
جهادٌ بِاليَدِ والسِّنَانِ، وهذا المُشَارِكُ فيه كَثِيرٌ!
والثاني: الجِهَادُ بِالحُجَّةِ وَالبَيَانِ، وهذا جِهَادُ الخاصَّةِ مِنْ أتْبَاعِ الرُّسُلِ وَهْوَ جِهَادُ الأَئِمَّةِ، وَهْوَ أَفْضَلُ الجِهَادَيْن لِعِظَمِ مَنْفَعَتِهِ، وَشِدَّةِ مُؤْنَتِهِ، وَكَثْرَةِ أَعْدَائِهِ، قَال الله تعالى في «سُورة الفرقان» وهي مكية: ﴿ولو شئنا لبعثنا في كلِّ قريةٍ نذيراً* فلا تُطِعِ الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً﴾. فهذا جِهَادٌ لهم بالقرآن وهو أكبرُ الجِهَادَيْن»[1].
ثمَّة ضرورة في واقعنا الدعوي المعاصر، وهي ضرورة التبشير والجهاد الدعوي في بثِّ هذا الدين بأرجاء المعمورة، فلقد باتت ذات أهميَّة كبرى في سبيل نصرة فكرتها، والاهتمام بنشر ثقافة التبشير بها، والتلويح بأهميتها القصوى بين حين وآخر، فالأمَّة الإسلامية اليوم بحاجة ماسَّة وأكيدة إلى دعاة ربانيين يحملون على أكتافهم وعواتقهم منهج الدعوة إلى الله بأسلوب حضاري، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، وفقه منهج السلف وفهم الواقع المعاصر؛ ببذل الجهد والغاية في نشر الدعوة إلى الله بين المسلمين والكافرين، في زمان خيَّم على كثير من أبنائه الجهل، وأطبق على كثير من بناته الغفلة والفراغ، فبات الشباب والفتيات يتسمَّرون على أجهزة الرائي (التلفاز) وشبكة المعلومات العنكبوتيَّة وهم في غفلة شديدة عمَّا يراد بهم ولهم وإليهم.
ولو بحثنا بحثاً مضنياً في دعاة الإسلام في هذا الزمان الذين يجمعون بين العلم الشرعي ولو نزراً يسيراً منه يعينهم في دعوتهم، مع أساليب الدعوة إلى الله وطرق النذارة والبشارة للناس؛ لخرجنا بنتيجة تقول: إنَّ هؤلاء الدعاة على وجودهم فإنَّهم أندر في الواقع من الكبريت الأحمر، فلو عددنا كميَّة الدعاة إلى الله في هذا الزمان ما بين مليار وثلث مليار، لعلمنا كم هي القلَّة القليلة من احتياجات الناس لوجود دعاة ربَّانيين بينهم!
بل إنَّ الفضائيات الإسلامية التي تقوم بدور رائد في نشر الدعوة إلى الله، ودخول الدعاة إلى الله من خلال هذه الشاشات الفضيَّة في كثير من بيوتات المسلمين، حيث يستمع الناس لكلامهم وشيء من حججهم ودعوتهم؛ فلن تكون هذه الفضائيات ولن يكون الدعاة إلى الله فيها قد قاموا بالدور الكافي في ذلك، ليس تقصيراً من بعضهم، بل لقلَّة الدعاة إلى الله أصالة وبداءة، مما يؤدي لكثرة انتشار الفساد وأهله، وتفنُّنِهِم في عرض طرق فسادهم وإفسادهم.
كما أنَّ بعض الدعاة على هذه الفضائيات قد يتحدَّث في قضايا ليست ذات أولويَّة في واقعنا الدعوي المعاصر؛ أو أنَّ هنالك من القضايا يمكن أن تكون من قبيل الإغراق في الجزئيات، أو تقديم الفروع على الأصول، أو الجزئيات على الكليات.
وعليه؛ فنحن بالفعل بحاجة أكيدة لحثِّ من لديه قدر من المعرفة والعلم أن يبذل هذا العلم ويدعو الناس إلى الله وطريق الحق والهدى، فالوضع الراهن لا يحتمل فساداً وسوءاً منتشراً في العالم اليوم أكثر مما هو عليه الآن.
وفي بلادنا الإسلامية كذلك نجد ضآلة الدعاة...
فأين دور الدعاة إلى الله في الجامعات والتي تحوي الغث والسمين والطيب والخبيث والمثقف والجاهل ذكوراً وإناثاً؟!
وأين دور الدعاة إلى الله في نشر دعوتهم في النوادي والمقاهي ومجامع الناس؟!
وأين دورهم في دعوة علية القوم من أغنياء المسلمين وتجَّارهم ومحاولة التأثير عليهم لعل الله يهدي قلب واحد منهم فيبذل ما لديه من إمكانية لخدمة دين الله؟!
وأين دور الدعاة إلى الله في دعوة الأقارب ؟!
وأين الدور الدعوي في عملية التواصل والاتصال من خلال شبكة الإنترنت والتأثير على عموم المستخدمين لهذه الشبكة؟!
وأين دورهم في دعوة البيوت، وجمع عدد من معارفهم، لكي يجمع كل منهم في بيته عدداً ممَّن يعرف لكي يأتي الدعاة ويقول لهم كلمة خير وفضيلة وصلاح؟!
وأعيد وأكرِّر: لا يعني هذا انعدام وجود الدعاة، بل القصد قلَّة الداعين إلى الله في زمننا هذا، والذي يحتاج إلى عملية نفير دعوي جماعي: وقال - سبحانه وتعالى-: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[التوبة (122)].
· وهل الدعوة بحاجة إلى جهاد؟
جاء في تقرير إحصائي قدَّمته الأمم المتحدة قبل مدة قصيرة عن الديانات في العالم: "إنَّ الإسلام أكثر الأديان انتشاراً على وجه الأرض، وأنه في سرعة انتشاره يزيد بسته أضعاف على الديانة الثانية بعده"، وما دمنا نلحظ ونشاهد أنَّ دين الإسلام ينتشر مع ضعف الإمكانات وقلَّة الدعاة ومحاربة الكفار للمسلمين الهداة، فهذا كذلك يحتِّم علينا القيام بأمر الدعوة إلى الله.
والمسلم في هذا الوجود الذي خلقه الرب المعبود جلَّ وتعالى، بحاجة إلى بذل الجهد في أي شيء كان، سواء في الدراسة فهو بحاجة لأن يبذل جهداً ووقتاً في سبيل النجاح، وكذلك وقت الطلب للمعيشة أو الوظيفة بحاجة للجهد، وكذلك وقت البحث عن زوجة فسيبذل الجهد والغاية في اختيار المرأة المناسبة، وهكذا...
والدعوة إلى الله تعالى كذلك، لن يقوم قائمها ولن يعلو أفقها، ولن تسمو حركتها إلاَّ ببذل الجهد والغاية في نشرها بين الخافقين، والاهتمام بأمرها، فهي تجارة ربَّانية ناجحة لن تبور والربح فيها مؤكَّد، فكما يقوم التاجر ببذل جهده وغايته في بيع السلعة وتسويق البضاعة والنجاح في الصفقة التجاريًّة، ولربما يسأل الله تعالى نجاحه في ذلك، فهكذا التاجر الرباني والداعية الإيماني سيبذل جهده وغايته لتوصيل الحق إلى الخلق لإيصالهم بالرب الحق تبارك وتعالى.
ذكر ابن كثير أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما "قدم مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلاً مستضعفين ممن آمن به، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم - إذا كانت - على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله عز وجل ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به"[2].
ولم يتلكأ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في دعوته أو يتراجع أو يحجم، رغم ما لقيه من عذابات وآلام وأشواك على طريق الدعوة، ومع أنَّه لقي ربَّه عزَّ وجل وكان بإمكانه أن يسأله تعالى المقام عند، لكنَّه أدرك أنَّ أهل الأرض بحاجة لدعوة رب السماء، لعلَّهم يعودوا إلى جنان الخلد، وفي هذا الصدد يتحدث المفكر المسلم محمد إقبال: "إن النبي الكريم عندما صعد إلى السموات العلى، وكان ذلك الصعود ألذ رياضة روحية، لم يبق هناك؛ وإنما عاد إلى الأرض ليشق طريقه في موكب الزمان؛ ابتغاء التحكم في ضبط قوى التاريخ، وتوجيهها على نحو ينشئ به عالمًا من المثل العليا جديدًا"[3].
· مفهوم الجهاد الدعوي:
وطوبـى لعبـد دعــا للرشــــاد *** منادٍ إلى الخير في كـل واد
حثيثِ الخطى في سبيلِ الهدى*** وبالعزم يرقى عسير النِّجاد
قد يفهم بعض الناس أنَّ الجهاد في سبيل الله هو –فحسب- القتال والمعاركة لأعداء الدين، وهذا حق لا ريب فيه، ولكنَّه نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله، فالجهاد في سبيل الله في القرآن والسنَّة عام فيدخل فيه جهاد الحجَّة والبيان وجهاد السيف والسنان، والجهاد بحاجة لمشقة وبذل الجهد والطاقة في نصرة شيء ما، وهنا نقصد بها ضرورة تكوين عدد من المجاهدين في سبيل الله من الرجال والنساء شيباً وشباباً صغاراً وكباراً لبذل ما لديهم من طاقة وإمكانيَّة لنشر دين الله في الأرض، فيكون قائماً قياماً لله تعالى مقتدياً بما قاله تعالى:{قم فأنذر* وربك فكبر}.
قال الإمام ابن القيم:"وتبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن تبليغ السهام إلى نحور العدو يفعله كثير من الناس وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه"[4]، ولأجل ذلك فإنَّ الجهاد في أي شيء بحاجة إلى صبر ومصابرة، وثبات وتثبيت، وقوَّة وقدرة، وهنيئاً لمن يسَّر الله تعالى له ذلك، فإنَّه موعود بكون الله تعالى معه، فهو القائل: {والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سبلنا وإنَّ الله لمع المحسنين}.
نقل الإمام القرطبي في تفسيره عن أبي سُلَيْمَان الدَّارَانِيّ قوله: لَيْسَ الْجِهَاد فِي الْآيَة قِتَال الْكُفَّار فَقَطْ بَلْ هُوَ نَصْر الدِّين وَالرَّدّ عَلَى الْمُبْطِلِينَ: وَقَمْع الظَّالِمِينَ ; وَعُظْمه الأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر وَمِنْهُ مُجَاهَدَة النُّفُوس فِي طَاعَة اللَّه.
وقال الإمام ابن كثير في تفسيره: قَالَ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} يَعْنِي الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَأَتْبَاعه إِلَى يَوْم الدِّين {لَنَهْدِيَنَّه مْ سُبُلنَا} أَيْ لَنُبَصِّرَنَّه ُمْ سُبُلنَا أَيْ طُرُقنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، أخبرنا عباس الهمداني أبو أحمد من أهل عكا في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. قال: الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله لما لا يعلمون. قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت به أبا سليمان الداراني، فأعجبه. وقد روى ابن أبي حاتم أيضاً بسنده عن أصبغ قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} قيل له: قاتلوا فينا؟ قال: نعم.
وروى بسنده عن الربيع في قوله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا. قال: ليس على الأرض عبد أطاع ربه ودعا إليه ونهى عنه إلا وأنه قد جاهد في الله.
ولهذا فالإنسان سيكون في خسارة كبيرة في هذه الدنيا إن لم يؤمن بربه وكذلك من آمن بربه سيكون خاسراً إن لم يعمل بما آمن به، وكذلك العامل سيكون خاسراً أجراً كبيراً إن لم يؤدِّ واجب الوقت في الدعوة إلى الله بعدما علم وعمل، والداعية المؤمن العامل، في خسارة أكيدة إن لم يصطبر على دعوته ويعاني الأمريَّن في سبيل نشرها ونصرتها ويلخص ذلك قول الله تعالى ففي سورة العصر المقصودة في كلام الشافعي يقول الله تعالى وهو أصدق القائلين:{والعصر * إنَّ الإنسان لفي خسر * إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات* وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} ولقد عرف قدر هذه السورة الإمام الشافعي فقال في حقِّها:"لو ما أنزل الله على عباده حجَّة إلا هذه السورة لكفتهم أو لوسعتهم".
فالقضية إذاً بحاجة لإيمان وعمل وتواصي بالحق وهي الدعوة إلى الله وتواصي بالصبر، لكي يكون الجهاد في نشر الدعوة إلى الله منصوراً، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "وإنَّ النصر مع الصبر".
فعلى الداعية إلى الله أن يدرك حقيقة الجهاد في سبيل الله لنشر الدعوة إلى الله، فالدعوة إلى الله تشريف وتكليف، وهمّ وهمَّة، ونية وإرادة، وعزيمة صادقة، لن تؤتي أكلها إلاَّ بنشرها نشراً كبيراً، ولقد وصَّى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلَّم بهذا الجهاد الدعوي فقال: {وجاهدهم به جهاداً كبيراً}، وهنيئاً لمن قام بهذا الجهاد والذي سيكتبه الله تعالى له، كما قال الحسن البصري رحمه الله: "إن الرجل ليجاهد وما ضرب يوماً من الدهر بسيف"[5].
يتبع
خباب بن مروان الحمد
قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله: "ولهذا كان الجهاد نوعين":
جهادٌ بِاليَدِ والسِّنَانِ، وهذا المُشَارِكُ فيه كَثِيرٌ!
والثاني: الجِهَادُ بِالحُجَّةِ وَالبَيَانِ، وهذا جِهَادُ الخاصَّةِ مِنْ أتْبَاعِ الرُّسُلِ وَهْوَ جِهَادُ الأَئِمَّةِ، وَهْوَ أَفْضَلُ الجِهَادَيْن لِعِظَمِ مَنْفَعَتِهِ، وَشِدَّةِ مُؤْنَتِهِ، وَكَثْرَةِ أَعْدَائِهِ، قَال الله تعالى في «سُورة الفرقان» وهي مكية: ﴿ولو شئنا لبعثنا في كلِّ قريةٍ نذيراً* فلا تُطِعِ الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً﴾. فهذا جِهَادٌ لهم بالقرآن وهو أكبرُ الجِهَادَيْن»[1].
ثمَّة ضرورة في واقعنا الدعوي المعاصر، وهي ضرورة التبشير والجهاد الدعوي في بثِّ هذا الدين بأرجاء المعمورة، فلقد باتت ذات أهميَّة كبرى في سبيل نصرة فكرتها، والاهتمام بنشر ثقافة التبشير بها، والتلويح بأهميتها القصوى بين حين وآخر، فالأمَّة الإسلامية اليوم بحاجة ماسَّة وأكيدة إلى دعاة ربانيين يحملون على أكتافهم وعواتقهم منهج الدعوة إلى الله بأسلوب حضاري، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، وفقه منهج السلف وفهم الواقع المعاصر؛ ببذل الجهد والغاية في نشر الدعوة إلى الله بين المسلمين والكافرين، في زمان خيَّم على كثير من أبنائه الجهل، وأطبق على كثير من بناته الغفلة والفراغ، فبات الشباب والفتيات يتسمَّرون على أجهزة الرائي (التلفاز) وشبكة المعلومات العنكبوتيَّة وهم في غفلة شديدة عمَّا يراد بهم ولهم وإليهم.
ولو بحثنا بحثاً مضنياً في دعاة الإسلام في هذا الزمان الذين يجمعون بين العلم الشرعي ولو نزراً يسيراً منه يعينهم في دعوتهم، مع أساليب الدعوة إلى الله وطرق النذارة والبشارة للناس؛ لخرجنا بنتيجة تقول: إنَّ هؤلاء الدعاة على وجودهم فإنَّهم أندر في الواقع من الكبريت الأحمر، فلو عددنا كميَّة الدعاة إلى الله في هذا الزمان ما بين مليار وثلث مليار، لعلمنا كم هي القلَّة القليلة من احتياجات الناس لوجود دعاة ربَّانيين بينهم!
بل إنَّ الفضائيات الإسلامية التي تقوم بدور رائد في نشر الدعوة إلى الله، ودخول الدعاة إلى الله من خلال هذه الشاشات الفضيَّة في كثير من بيوتات المسلمين، حيث يستمع الناس لكلامهم وشيء من حججهم ودعوتهم؛ فلن تكون هذه الفضائيات ولن يكون الدعاة إلى الله فيها قد قاموا بالدور الكافي في ذلك، ليس تقصيراً من بعضهم، بل لقلَّة الدعاة إلى الله أصالة وبداءة، مما يؤدي لكثرة انتشار الفساد وأهله، وتفنُّنِهِم في عرض طرق فسادهم وإفسادهم.
كما أنَّ بعض الدعاة على هذه الفضائيات قد يتحدَّث في قضايا ليست ذات أولويَّة في واقعنا الدعوي المعاصر؛ أو أنَّ هنالك من القضايا يمكن أن تكون من قبيل الإغراق في الجزئيات، أو تقديم الفروع على الأصول، أو الجزئيات على الكليات.
وعليه؛ فنحن بالفعل بحاجة أكيدة لحثِّ من لديه قدر من المعرفة والعلم أن يبذل هذا العلم ويدعو الناس إلى الله وطريق الحق والهدى، فالوضع الراهن لا يحتمل فساداً وسوءاً منتشراً في العالم اليوم أكثر مما هو عليه الآن.
وفي بلادنا الإسلامية كذلك نجد ضآلة الدعاة...
فأين دور الدعاة إلى الله في الجامعات والتي تحوي الغث والسمين والطيب والخبيث والمثقف والجاهل ذكوراً وإناثاً؟!
وأين دور الدعاة إلى الله في نشر دعوتهم في النوادي والمقاهي ومجامع الناس؟!
وأين دورهم في دعوة علية القوم من أغنياء المسلمين وتجَّارهم ومحاولة التأثير عليهم لعل الله يهدي قلب واحد منهم فيبذل ما لديه من إمكانية لخدمة دين الله؟!
وأين دور الدعاة إلى الله في دعوة الأقارب ؟!
وأين الدور الدعوي في عملية التواصل والاتصال من خلال شبكة الإنترنت والتأثير على عموم المستخدمين لهذه الشبكة؟!
وأين دورهم في دعوة البيوت، وجمع عدد من معارفهم، لكي يجمع كل منهم في بيته عدداً ممَّن يعرف لكي يأتي الدعاة ويقول لهم كلمة خير وفضيلة وصلاح؟!
وأعيد وأكرِّر: لا يعني هذا انعدام وجود الدعاة، بل القصد قلَّة الداعين إلى الله في زمننا هذا، والذي يحتاج إلى عملية نفير دعوي جماعي: وقال - سبحانه وتعالى-: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[التوبة (122)].
· وهل الدعوة بحاجة إلى جهاد؟
جاء في تقرير إحصائي قدَّمته الأمم المتحدة قبل مدة قصيرة عن الديانات في العالم: "إنَّ الإسلام أكثر الأديان انتشاراً على وجه الأرض، وأنه في سرعة انتشاره يزيد بسته أضعاف على الديانة الثانية بعده"، وما دمنا نلحظ ونشاهد أنَّ دين الإسلام ينتشر مع ضعف الإمكانات وقلَّة الدعاة ومحاربة الكفار للمسلمين الهداة، فهذا كذلك يحتِّم علينا القيام بأمر الدعوة إلى الله.
والمسلم في هذا الوجود الذي خلقه الرب المعبود جلَّ وتعالى، بحاجة إلى بذل الجهد في أي شيء كان، سواء في الدراسة فهو بحاجة لأن يبذل جهداً ووقتاً في سبيل النجاح، وكذلك وقت الطلب للمعيشة أو الوظيفة بحاجة للجهد، وكذلك وقت البحث عن زوجة فسيبذل الجهد والغاية في اختيار المرأة المناسبة، وهكذا...
والدعوة إلى الله تعالى كذلك، لن يقوم قائمها ولن يعلو أفقها، ولن تسمو حركتها إلاَّ ببذل الجهد والغاية في نشرها بين الخافقين، والاهتمام بأمرها، فهي تجارة ربَّانية ناجحة لن تبور والربح فيها مؤكَّد، فكما يقوم التاجر ببذل جهده وغايته في بيع السلعة وتسويق البضاعة والنجاح في الصفقة التجاريًّة، ولربما يسأل الله تعالى نجاحه في ذلك، فهكذا التاجر الرباني والداعية الإيماني سيبذل جهده وغايته لتوصيل الحق إلى الخلق لإيصالهم بالرب الحق تبارك وتعالى.
ذكر ابن كثير أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما "قدم مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلاً مستضعفين ممن آمن به، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم - إذا كانت - على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله عز وجل ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به"[2].
ولم يتلكأ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في دعوته أو يتراجع أو يحجم، رغم ما لقيه من عذابات وآلام وأشواك على طريق الدعوة، ومع أنَّه لقي ربَّه عزَّ وجل وكان بإمكانه أن يسأله تعالى المقام عند، لكنَّه أدرك أنَّ أهل الأرض بحاجة لدعوة رب السماء، لعلَّهم يعودوا إلى جنان الخلد، وفي هذا الصدد يتحدث المفكر المسلم محمد إقبال: "إن النبي الكريم عندما صعد إلى السموات العلى، وكان ذلك الصعود ألذ رياضة روحية، لم يبق هناك؛ وإنما عاد إلى الأرض ليشق طريقه في موكب الزمان؛ ابتغاء التحكم في ضبط قوى التاريخ، وتوجيهها على نحو ينشئ به عالمًا من المثل العليا جديدًا"[3].
· مفهوم الجهاد الدعوي:
وطوبـى لعبـد دعــا للرشــــاد *** منادٍ إلى الخير في كـل واد
حثيثِ الخطى في سبيلِ الهدى*** وبالعزم يرقى عسير النِّجاد
قد يفهم بعض الناس أنَّ الجهاد في سبيل الله هو –فحسب- القتال والمعاركة لأعداء الدين، وهذا حق لا ريب فيه، ولكنَّه نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله، فالجهاد في سبيل الله في القرآن والسنَّة عام فيدخل فيه جهاد الحجَّة والبيان وجهاد السيف والسنان، والجهاد بحاجة لمشقة وبذل الجهد والطاقة في نصرة شيء ما، وهنا نقصد بها ضرورة تكوين عدد من المجاهدين في سبيل الله من الرجال والنساء شيباً وشباباً صغاراً وكباراً لبذل ما لديهم من طاقة وإمكانيَّة لنشر دين الله في الأرض، فيكون قائماً قياماً لله تعالى مقتدياً بما قاله تعالى:{قم فأنذر* وربك فكبر}.
قال الإمام ابن القيم:"وتبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن تبليغ السهام إلى نحور العدو يفعله كثير من الناس وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه"[4]، ولأجل ذلك فإنَّ الجهاد في أي شيء بحاجة إلى صبر ومصابرة، وثبات وتثبيت، وقوَّة وقدرة، وهنيئاً لمن يسَّر الله تعالى له ذلك، فإنَّه موعود بكون الله تعالى معه، فهو القائل: {والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سبلنا وإنَّ الله لمع المحسنين}.
نقل الإمام القرطبي في تفسيره عن أبي سُلَيْمَان الدَّارَانِيّ قوله: لَيْسَ الْجِهَاد فِي الْآيَة قِتَال الْكُفَّار فَقَطْ بَلْ هُوَ نَصْر الدِّين وَالرَّدّ عَلَى الْمُبْطِلِينَ: وَقَمْع الظَّالِمِينَ ; وَعُظْمه الأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر وَمِنْهُ مُجَاهَدَة النُّفُوس فِي طَاعَة اللَّه.
وقال الإمام ابن كثير في تفسيره: قَالَ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} يَعْنِي الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَأَتْبَاعه إِلَى يَوْم الدِّين {لَنَهْدِيَنَّه مْ سُبُلنَا} أَيْ لَنُبَصِّرَنَّه ُمْ سُبُلنَا أَيْ طُرُقنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، أخبرنا عباس الهمداني أبو أحمد من أهل عكا في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. قال: الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله لما لا يعلمون. قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت به أبا سليمان الداراني، فأعجبه. وقد روى ابن أبي حاتم أيضاً بسنده عن أصبغ قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} قيل له: قاتلوا فينا؟ قال: نعم.
وروى بسنده عن الربيع في قوله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا. قال: ليس على الأرض عبد أطاع ربه ودعا إليه ونهى عنه إلا وأنه قد جاهد في الله.
ولهذا فالإنسان سيكون في خسارة كبيرة في هذه الدنيا إن لم يؤمن بربه وكذلك من آمن بربه سيكون خاسراً إن لم يعمل بما آمن به، وكذلك العامل سيكون خاسراً أجراً كبيراً إن لم يؤدِّ واجب الوقت في الدعوة إلى الله بعدما علم وعمل، والداعية المؤمن العامل، في خسارة أكيدة إن لم يصطبر على دعوته ويعاني الأمريَّن في سبيل نشرها ونصرتها ويلخص ذلك قول الله تعالى ففي سورة العصر المقصودة في كلام الشافعي يقول الله تعالى وهو أصدق القائلين:{والعصر * إنَّ الإنسان لفي خسر * إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات* وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} ولقد عرف قدر هذه السورة الإمام الشافعي فقال في حقِّها:"لو ما أنزل الله على عباده حجَّة إلا هذه السورة لكفتهم أو لوسعتهم".
فالقضية إذاً بحاجة لإيمان وعمل وتواصي بالحق وهي الدعوة إلى الله وتواصي بالصبر، لكي يكون الجهاد في نشر الدعوة إلى الله منصوراً، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "وإنَّ النصر مع الصبر".
فعلى الداعية إلى الله أن يدرك حقيقة الجهاد في سبيل الله لنشر الدعوة إلى الله، فالدعوة إلى الله تشريف وتكليف، وهمّ وهمَّة، ونية وإرادة، وعزيمة صادقة، لن تؤتي أكلها إلاَّ بنشرها نشراً كبيراً، ولقد وصَّى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلَّم بهذا الجهاد الدعوي فقال: {وجاهدهم به جهاداً كبيراً}، وهنيئاً لمن قام بهذا الجهاد والذي سيكتبه الله تعالى له، كما قال الحسن البصري رحمه الله: "إن الرجل ليجاهد وما ضرب يوماً من الدهر بسيف"[5].
يتبع