ابو وليد البحيرى
2019-08-31, 03:27 AM
النظام النحوي للغة العربية بين الاستعمال اللغوي والمنطق العقلي
- أ.د. حسن منديل حسن العكيلي
المقدمة:
الحمد لله الذي شرفني بدراسة لغة القرآن ووفقني وهداني إلى بعض أسرارها. والصلاة والسلام على سيد الأنام محمد ، القائل ، (أعوذ بالله من علم لا ينفع). اللهم انا نسألك علما نافعاً ويقينا صادقا ، ونعوذ بك من أن نتشاغل بعلم لا ينفع ، أو علم لا يرضيك. وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً وبعدُ..
فان نظام اللغة العربية يشمل أنظمة مرتبطة بعضها ببعض كلها مكونات للمعنى، أهمها النظام الصوتي وقوانينه. ثم النظام الصرفي الذي يبنى على جذور، واشتقاقات مطرّدة قد تصل الى أكثر من مئتي اشتقاق أوتصريف محفوظ للجذر الواحد تتسع بالزوائد والحذف والإعلال والإبدال وتعاور الحركات وقوانين جمع التكسير والنسب والتصغير والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث على وفق نظام مرن مفتوح يستوعب كل معنى جديد لمواكبة التطور ويسعف المبدعين والمعربين وغيرهم([1]) في التعبير عن مقاصدهم العلمية والابداعية.
والنظام الصرفي " يتكون من نظام من المعاني التي تعبّر عنها المباني لأنّ هذه المباني تتحقق بدورها بواسطة العلاقات فمن المعاني والمباني تتكون اللغة ، ومن العلاقات يتكون الكلام..."([2]).
ونحن معنيون بالنظام النحوي – في هذا البحث - وهو نظام تركيب المفردات للتعبير عن الدلالة. وسنرى أن النظام نفسه جزء من الدلالة.
النظام النحوي:
يعتمد النظام النحوي على أنظمة اللغة الأخرى ولاسيما النظام الصرفي. كلها تتعاضد لخدمة الدلالة والبيان كالنظام الإعرابي ونظام الربط وغيرها.
يسمح النظام النحوي بالتوسع من خلال المشابهة وحمل الكلام بعضه على بعض ويتصف بالمرونة والتداخل كنظام الـ ******s في الحاسوب المتماسك بكثرة نوافذه التي يؤدي بعضها الى بعض والدخول إليه من أي نافذة وليس على شكل سلسلة مستقلة الحلقات، وإنما منتشر متداخل الفروع متماسك كأبواب النحو التي تقوم على المشابهة والمرونة ، لذلك نجد في كتب النحو كثرة الإحالات في هوامشها على الأبواب والمسائل والفروع وخير شاهد على ذلك كتاب (النحو الوافي) لعباس حسن الذي جاءت هوامشه وإحالاته أكثر من المتن.
وللأستاذ عباس المناصرة محاولة تكشف هذا النظام جلياً في كتابه (أطلس النحو العربي)([3]) ، فقد عرض النحو على شكل شجرة لها فروع تمثل أبواب النحو الرئيسة تتفرع منها فروع متصلة بعضها ببعض ، عرضها على شكل مشجرات تمثل مسائل النحو ومكوناته ، وان كانت محاولته معيارية تعليمية لانه أراد ان ينظم أجزاء النحو المتناثرة ويربطها بنظامها الشامل للتلاميذ بدلاً من تناولها مشتتة في سنوات الدراسة. لكنها محاولة تدل على الترابط والتماسك بين أبواب النحو وفروعه ومسائله على وفق نظام رصين مطرد ، كثير المداخل.
وكذلك محاولة العقيد الركن انطوان الدحداح في (معجم قواعد اللغة العربية في جداول ولوحات) وهو أوسع تناولاً وأكثر تفصيلاً وتطبيقاً وأشمل موضوعات وغيرها من الكتب النحوية التعليمية التي تكشف عن النظام النحوي المترابط الذي يقوم على التعاضد والمداخل والترابط وان لم تكن تقصد إليه قصداً بقدر هدفها التعليمي.
وهذا النظام كان سبباً لما امتازت به كتب النحو الأولى من التداخل والتكرار والاضطراب المنهجي أحيانا مثل كتاب سيبويه. والكتب التي لها صلة بأنظمة اللغة العربية (كدلائل الإعجاز) للإمام عبد القاهر و (الخصائص) لابن جني، والمغني لابن هشام ، والأشباه والنظائر للسيوطي وغيرها.
وصف النظام النحوي:
النظام النحوي يؤسس على مواقع محددة تسمى معانٍ نحوية أو وظائف اصطلح عليها النحاة بمصطلحات محددة كالإسناد والفاعلية والمفعولية والوصفية والتبعية وغيرها على وفق ترتيب يتصف بالمرونة يسمح بتغيرات داخل نظامه مشابهة له. وتعضده أنظمة أخرى كنظام الإعراب والربط والنظام الصرفي ونظام الإضافة والتعلق وغيرها.
نظام مبني على أصول محدودة ثم يتوسع فيها باتجاهات عديدة بحسب المعنى المراد وان كان دقيقاً او ملمحاً او لغزاً او إبداعيا او بلاغياً بتوسع هذه الأصول الى ما يشبهها وهذا الشبه قد يكون واضحاً جلياً كقواعد النحو ونظام الإعراب وقد يكون خفياً كالعدول في ضوء النظام نفسه.
فالأصل يركب من معنيين نحويين ورابط وتفصيل يزيد المعنى وضوحاً وبياناً كالتمييز والحال والنعت والتوابع الأخرى ثم يتوسع بإحلال معانٍ مختلفة بالموقعين النحويين او الوظيفتين او المعنيين، وكذلك الرابط يتوسع فيه بإحلال روابط مختلفة كالأداة والضمير والحرف وحركات الإعراب التي تعضد النظام ، وكذلك الأمر للتفصيل ، وكل معنى نحوي او موقع تحل محله وظائف نحوية مختلفة كالفعل والاسم المبتدأ وما يشبهها من الأفعال الناقصة والأخرى المشبهة بالفعل في المعنى النحوي الأول. وتحل محل المعنى النحوي الثاني او الموقع معانٍ نحوية او وظائف متعددة كالمفعولية والخبرية وغيرهما ، وتحل معانٍ نحوية مختلفة في (التفصيل) كالتبعية. ومهما يتوسع النظام فيقوم على مشابهة الأصل حتى الأساليب التي يختلف نظامها كالاستفهام والشرط والاستثناء والنداء وغيرها.
والنظام الصرفي يعتمد على النظامين الصوتي والدلالي والنظام النحوي يعتمد على الأنظمة الصوتي والصرفي والدلالي والنظام الاسلوبي يعتمد على أنظمة اللغة جميعها.
مخطط النظام اللغوي يمثل تلازمه وارتباطه وتداخله بعضه ببعض ليؤدي المعنى المتحرك بحسب تطور المجتمع والثقافات وغيرها. قال تعالى : ) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ( (سورة يّـس:40) ، أي في نظامه وليس الحركة خارج الفلك دائماً وإنما يسبح ضمن نظامه وفلكه والله اعلم.
إن البشرية تغيرت على وفق أحداث كبرى تبعتها تغيرات في التفكير والمعتقدات والعلوم واللغات وطرائق العيش والعادات وغيرها فالعلم اختلف مثلاً بعد الحروب العالمية وبعد الحرب الباردة وبعد الانفجار المعرفي وعصر الصناعة والكهرباء وأخرها شبكة الاتصال الالكترونية العالمية- (الانترنت). لكن نظام العربية المفتوح استوعب كل هذه التغيرات وتحرك معها المعنى مع بقاء النص ثابتاً. وقد خضعت اللغات المختلفة للتطور والتغيير إلاّ النصّ القرآني كما نزل يحوي المتغيرات بسبب نظامه اللغوي المعجز.
ونظام الإعراب يعضد هذه المعاني فيمنح لكل معنى حركة إعرابية الرفع للإسناد والفاعلية والفعل المعرب. والنصب للمفعولية وان أحدثتها عوامل ظاهرة او مقدرة فحملاً على الأصل ، والجر للإضافة والجزم خاص بالأفعال ولكلٍ دلالته.
هذا أصل الإعراب وينوب عنه علامات فرعية في معناه نفسه، كالإعراب بالحروف والإعراب المقدر والمحلي الذي لا يظهر لدواعٍ صوتية ، كالثقل والتعذر واشتغال المحل ، فيحمل على الأصل في ضوء صفة الاطراد والانعكاس لنظام العربية.
أما البناء فغالباً يحدث لأسباب تخص اللفظة ولاسيما الحروف والأسماء المحمولة عليها، تلزم حركة بناء واحدة لكنها تقع في مواقع الإعراب المختلفة ، ويقدر عليها النظام الإعرابي نفسه، هذا للبناء اللازم.
أما البناء العارض كالمنادى العلم واسم لا النافية للجنس ومركب الأعداد فانها محمولة على معانٍ نحوية اخرى تشبهها. فحمل بعضها على بعض، والمشابهة بينها جوهر النظام اللغوي للعربية.
إن النظام الإعرابي أوضح أنظمة العربية لذلك أولاه النحويون جلّ عنايتهم. وان سعة النحو العربي لا يتضح بهذه العجالة وسيزداد الأمر وضوحاً فيما يأتي ان شاء الله.
النظام النحوي في التفكير النحوي لدى النحاة المتقدمين:
أدرك علماء النحو القدامى نظام العربية الذي يختلف عن المنطق العقلي الذي خلط بينهما النحاة المتأخرون ، وكان منهج الخليل بن احمد رحمه الله تعالى (175هـ) النحوي في معالجة التقاطع الحاصل بين النصّ القرآني والمعايير النحوية، يقوم على لحظ هذا النظام الذي يقوم على مشابهة الكلام العربي بعضه ببعض، وتعلق بعضه برقاب بعض.
قال تلميذه سيبويه: "ومن كلامهم ان يشبهوا الشيء بالشيء وان لم يكن مثله في جميع الأشياء"([4]). وكان الخليل – رحمه الله تعالى - يفسر العدول عن القياس النحوي المنطقي الذي يبدو في النصّ القرآني في ضوء نظام العربية ، وكان فهمه للقياس النحوي على هذا الفهم لذلك قالوا عنه انه صححّ القياس بعد أن جرّده ابن أبي اسحق وغيره، أي جعله منطقياً عقلياً وليس لغوياً في ضوء الواقع الاستعمالي للغة.
فمن أقيسته بناء المنادى على الضم على بناء (قبلُ) و (بعدُ) على الضم في حالة إفرادهما وعدم تنوينهما ونصبه على حالة نصبهما([5]) ، وجزم (إنْ) الفعل على جزم جواب الأمر([6]). وهكذا كما سيمر بنا.
وكتاب سيبويه مليء بمعالجة العدول عن القياس العقلي المنطقي المجرّد نقلاً عن شيخه الخليل، كان سيبويه يسأله عنه كثيرا، فيفسره في ضوء نظام العربية رابطاً إياه بالمعنى. ذلك أن هذا النظام من خلال اتساعه يستوعب المعاني المختلفة ولاسيما الدقيقة منها التي اختصّ بها كتاب الله تعالى. وهي ملامح أسلوبية تنطلق من حقيقة العربية ونظامها ويعد ذلك أهم تفسير للعدول اسلوبياً.
قال سيبويه: (هذا باب من الجزاء ينجزم فيه الفعل اذا كان جواباً لأمر او نهي او استفهام او تمنٍ او عرضٍ) نحو ( أتني أتِكَ ، لا تفعلْ يكنْ خيراً لك ، ألا تأتني أحدِثْك ، أين تكن أزرْكَ ، ألا ماءَ أشرْبهُ ، ليته عندنا يُحدِّثْنا ، ألا تنزل تُصِبْ خيراً ).
قال الخليل: "كلها فيها معنى (إنْ) فلذلك انجزم الجواب." ومما ورد منه في القرآن:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( (سورة الصف:11) فلما انقضت الآية قال: (يغفر لكم)..." ([7]) .
إن للدلالة نظاماً مبنياً على أصول وفروع تناوله البلاغيون في علم البيان: فهي أما خبر أو إنشاء ، أي طلب ثم تتفرع على المعاني المختلفة: استفهام وأمر ونداء وغيرها ثم تتركب مع غيرها من المعاني وتتداخل. ونظام العربية خير من يعبر عنها لأنه يتوسع بحسب تركيب المعاني وتشعبها فيعبر عن الشرط مثلاً بالأداة (إنْ) ثم تحمل عليها أدوات وأساليب أخرى للتعبير عن معاني إضافية فضلاً عن معنى (الشرط). كاجتماع الأمر والشرط في الجملة الأولى والنهي والشرط في الثانية والعرض والشرط في الثالثة والاستفهام والشرط في الرابعة وهكذا.
قال ابن جني: " من عادة العرب أنّهم يؤثرون التجانس والتشابه فلذلك حملوا الفرع على الأصل وردّه إليه ، فمن ذلك حمل النصب على الجر في التثنية والجمع الذي على حدّه ألا ترى أنهم لما أعربوا بالحروف في التثنية والجمع الذي على حدّه ، فأعطوا الرفع في التثنية الألف والرفع في الجمع الواو ، والجر فيهما الياء ، وبقي النصب..."([8]) ، فحملوه على الجر.
ومن ذلك حمل النصب على الجر في جمع المؤنث السالم نحو: (رأيت الهنداتِ) ، مع قدرتهم على فتح التاء " فدلّ دخولهم تحت هذا ، مع ان الحال لا تضطر إليه على إيثارهم واستحبابهم حمل الفرع على الأصل([9]).
قال ابن السراج: "وكثيراً ما يعملون الشيء عمل الشيء اذا أشبهه في اللفظ وان لم يكن مثله"([10]).
ومنه توكيد الفعل المضارع بعد (لا) النافية حملاً على لفظ (لا) الناهية([11]). قال تعالى: ) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( (سورة الأنفال:25)، ويعملون الشيء عمل الآخر للشبه المعنوي كأعمال (ما) عمل (ليس) لاشتراكهما في النفي ، وحمل (أنْ) الناصبة على (ما) المصدرية في الإهمال ، و لأنهما تكونان مع الفعل بعدهما بمنزلة المصدر ، كما ان (ما) تكون مع الفعل بعدها بمنزلة المصدر. وحمل (إنَّ) وأخواتها على (الفعل) في العمل ، لشبههما في اللفظ والمعنى والبناء على الفتح واقتضاءهما الاسم([12]).
وغير ذلك الكثير مما ذكرته كتب النحو ولاسيما المتأخرة منها وكتب أصول النحو. مما أخذه النحاة المعاصرون عليهم ولاسيما أصحاب التيسير النحوي وعدّوه جدلاً ومنطقاً ينبغي رفعه من النحو ، لكنه هو الذي ينبغي دراسة العربية في ضوئه لأنه يكشف لنا عن نظامها الدقيق ويفسّر لنا ظواهر لغوية كثيرة اختلف فيها النحاة كما في باب (الحمل على المعنى).
يمكننا تلخيص أرضية التفكير النحوي عند النحاة بأنهم قاسوا المنصوبات على المفعول به ، والمرفوعات على الفاعل ، والضمير في البناء على الحروف لشبهه في قلة الحروف. والتوابع على المجاورة لما قبلها بسبب ، والأسماء العاملة على الأفعال والممنوع من الصرف على الأفعال([13]).
هذا الذي ينبغي الالتفات إليه في الدرس النحوي العربي ذلك انه مرتبط بحقيقة اللغة العربية ونظامها الذي يرجع الى أصول ثم تتوسع في داخله ، وهو مطّردٌ في النصّ القرآني.
وليس العربية مبنية على المشابهة الشكلية إنما على نظام دقيق بعضه واضح جلي وكثير منه خفي لا يستنبطه إلا العلماء كونه أسرار العربية ، وبعضه يبدو لنا عدولاً عن القياس النحوي وانحرافاً إلا انه يقع في داخل النظام اللغوي للعربية نفسه ولكنه يحتاج الى تدبر وقد ورد في النص القرآني الكثير منه للتعبير عن معاني دقيقة لا تؤدى بالكلام المباشر.
ولابد له من داعٍ يدعو إليه وهو التوسع في اللغة وفي المعنى بحيث تتسع العربية لتؤدي أي معنى كالمعاني المطلقة الإلهية. ويضيق فيعبر به العامة وبين ذلك درجات تلبي حاجة المبدع للتعبير عن تجربته النفسية بالمعاني المباشرة والمعاني الثانية وظلال المعاني من خلال استعمال فني إبداعي داخل النظام نفسه الذي هو مبني على المشابهة في كل مستوياته الصوتية والصرفية والنحوية والاسلوبية. فالمستوى النحوي مثل:
المحمول عليه
المحمول
السبب
الحكم
اسم الفاعل
الفعل المضارع
الشبه اللفظي من حيث عدد الحروف والإعراب والإسناد
الرفع
الحرف
الضمير
قلة الحروف
البناء
ما النافية
ليس
النفي
البناء
الفعل الماضي
إنّ المشبّه بالفعل
الشبه اللفظي واقتضاء الاسم
البناء
الفاعل
النائب عن الفاعل
الإسناد
الرفع
وقد ذكر النحاة ضروباً من القياس من هذا النوع يمكننا تتبعها في النحو كله. . وليس غرضنا الاستقصاء بل الاستدلال فان ما يدل على التشابه في النحو ومسائله واقيسته في اقوال النحاة وخلافاتهم كثيرة كقول الكوفيين " ينتصب المستثنى لانه مشبه بالمفعول " 0 وقولهم بالتقريب وهو ان يعمل اسم الاشارة عمل كان وغير ذلك كثير ([14]) .
النظام النحوي في التفكير النحوي لدى المتأخرين:
ان مناهج المتأخرين والمعاصرين نأت في دراسة العربية عن هذا النظام.
أما المتأخرون فقد أسرفوا فيه لأدنى مشابهة ، وفلسفوه وتناولوه تناولاً عقلياً لا فنياً اسلوبياً ، ومزجوا بينه وبين المنطق الأرسطي فانحرفوا عمّا كان الأوائل عليه، وغالوا فيه وصار جزءاً من علم الجدل الذي اختلفوا فيه اختلافاً كبيراً وتناولوه في جدلهم وعللهم تناولاً منطقياً فانحرفوا عن حقيقته التي تكشف لنا عن أساليب العربية الفنية الدقيقة الجميلة.
فكانت العلل لديهم: علة شبه وعلة طرد ، واختلفوا في حجية التعليل ، وذكروا قوادح للعلة كثيرة أي أموراً تبطلها نحو: النقض وتخلف العكس ، وعدم التأثير ، والقول بالموجب وفساد الاعتبار ، وفساد الوضع وهلم جرّا مما لا جدوى فيه ([15]).
لقد تناولوا النظام اللغوي الجميل تناولاً عقلياً منطقياً افقدوه روحه وحقيقته ، على شكل أركان: مقيس ومقيس عليه او أصل وفرع وعله جامعة سبب المشابهة والحكم الذي هو وجه الشبه وفرّعوا الأخيرين فروعاً كثيرة ، واشترطوا للمقيس عليه والمقيس شروطاً عقلية متأثرين بذلك بالمنطق الأرسطي.
وبعضهم كان تناوله أما جزئياً ، أو مشتتاً هنا وهناك ، او مختلطاً مع المنطق الأرسطي أو دراسته دراسة غير مباشرة على وفق مناهج وأسس لا تبنى على النظام العام كما في كتب الإعجاز وأساليب القرآن. وفي كتب أصول النحو كتجريد القياس.
فمن تناولهم الجزئي المشتت لنظام العربية في باب الحمل على المعنى وفروعه الكثيرة ، أما في النحو فتناولوه من خلال ظاهرة النيابة النحوية والتناوب والتضمين وغير ذلك. وظاهرة النيابة النحوية باب واسع يشمل ظواهر لغوية كثيرة بمستويات مختلفة فضلاً عن تداخلها مع الظواهر الأخرى من غير حدود فاصلة واضحة فهي مشتتة في أبواب المجاز والاتساع والحمل على المعنى.
وقد توسع الدكتور هادي نهر بهذه الظاهرة لتشمل كل مستويات اللغة وظواهرها وجعلها بديلاً من نظام العربية الذي نعنى به. قال: "نحن نألف هذه الظاهرة شاخصة في المستويات اللغوية كافة صرفاً ونحواً ودلالةً ، فهي في الدرس الصرفي تستأثر بنصيب كبير في أبنية المصادر وأنواع المشتقات وجموع التكسير وموضوعات النسب والتصغير والتثنية والجمع وغير ذلك"([16]).
وقال في الدرس النحوي قلما نجد باباً من أبوب النحو يخلو من ذكر النيابة او ما اختلط بها وتداخل منها مصطلحات متعددة أمثال: العوض ، التعويض ، والبدل ، الساد مسدّه والقائم مقامه ، والاستغناء والتعاقب والإبدال والحمل والتأويل والإيجاز والاختصار والحذف والاتساع والتجوز والمجاز وغيرها ثم تناول أبواب النحو والصرف في ضوء النيابة متوسعاً بها كنيابة الحروف عن الأفعال والأسماء نحو: يا عبد الله ، تنوب عن ادعوا أو أنادي لدى النحاة و(إلاّ) تنوب عن الفعل (أستثني) و (الواو) عن (أعطف) وليت عن (أتمنى) و(هل) عن (استفهم) و (ما) عن (انفي) وغير ذلك. ونيابة الحروف عن الأسماء كنيابة (عن) عن جانب و(على) عن فوق و (إلا) عن (غير). وفي باب المرفوعات ، كنيابة المبتدأ عن الفعل ونيابة المصدر عن الذات الواقع خبراً او نيابة الحال عن الخبر ، ونائب الفاعل ، والنيابة في الموصولات الاسمية ، وفي باب المصدر وهو باب واسع وفروع كثيرة والنيابة في باب المفعول فيه والمضاف إليه عن المضاف ونيابة الجمل ، والنيابة في الأفعال ، كالاسم عن الفعل و اسم الفعل عن الفعل وغير ذلك متوسعاً بذلك ومعتمداً على تأويلات النحاة وتقديراتهم وفلسفتهم وشواهدهم المؤولة كنيابة (الحمد لله) عن (احمد الله) ، وهو موضوع نحوي وليس اسلوبياً كما في تناوب حروف الجر بعضها عن بعض الذي ردّها متابعاً للبصريين ، والقول بتضمين الفعل معنى فعل آخر كما سيمر بنا([17]).
يتبع
- أ.د. حسن منديل حسن العكيلي
المقدمة:
الحمد لله الذي شرفني بدراسة لغة القرآن ووفقني وهداني إلى بعض أسرارها. والصلاة والسلام على سيد الأنام محمد ، القائل ، (أعوذ بالله من علم لا ينفع). اللهم انا نسألك علما نافعاً ويقينا صادقا ، ونعوذ بك من أن نتشاغل بعلم لا ينفع ، أو علم لا يرضيك. وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً وبعدُ..
فان نظام اللغة العربية يشمل أنظمة مرتبطة بعضها ببعض كلها مكونات للمعنى، أهمها النظام الصوتي وقوانينه. ثم النظام الصرفي الذي يبنى على جذور، واشتقاقات مطرّدة قد تصل الى أكثر من مئتي اشتقاق أوتصريف محفوظ للجذر الواحد تتسع بالزوائد والحذف والإعلال والإبدال وتعاور الحركات وقوانين جمع التكسير والنسب والتصغير والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث على وفق نظام مرن مفتوح يستوعب كل معنى جديد لمواكبة التطور ويسعف المبدعين والمعربين وغيرهم([1]) في التعبير عن مقاصدهم العلمية والابداعية.
والنظام الصرفي " يتكون من نظام من المعاني التي تعبّر عنها المباني لأنّ هذه المباني تتحقق بدورها بواسطة العلاقات فمن المعاني والمباني تتكون اللغة ، ومن العلاقات يتكون الكلام..."([2]).
ونحن معنيون بالنظام النحوي – في هذا البحث - وهو نظام تركيب المفردات للتعبير عن الدلالة. وسنرى أن النظام نفسه جزء من الدلالة.
النظام النحوي:
يعتمد النظام النحوي على أنظمة اللغة الأخرى ولاسيما النظام الصرفي. كلها تتعاضد لخدمة الدلالة والبيان كالنظام الإعرابي ونظام الربط وغيرها.
يسمح النظام النحوي بالتوسع من خلال المشابهة وحمل الكلام بعضه على بعض ويتصف بالمرونة والتداخل كنظام الـ ******s في الحاسوب المتماسك بكثرة نوافذه التي يؤدي بعضها الى بعض والدخول إليه من أي نافذة وليس على شكل سلسلة مستقلة الحلقات، وإنما منتشر متداخل الفروع متماسك كأبواب النحو التي تقوم على المشابهة والمرونة ، لذلك نجد في كتب النحو كثرة الإحالات في هوامشها على الأبواب والمسائل والفروع وخير شاهد على ذلك كتاب (النحو الوافي) لعباس حسن الذي جاءت هوامشه وإحالاته أكثر من المتن.
وللأستاذ عباس المناصرة محاولة تكشف هذا النظام جلياً في كتابه (أطلس النحو العربي)([3]) ، فقد عرض النحو على شكل شجرة لها فروع تمثل أبواب النحو الرئيسة تتفرع منها فروع متصلة بعضها ببعض ، عرضها على شكل مشجرات تمثل مسائل النحو ومكوناته ، وان كانت محاولته معيارية تعليمية لانه أراد ان ينظم أجزاء النحو المتناثرة ويربطها بنظامها الشامل للتلاميذ بدلاً من تناولها مشتتة في سنوات الدراسة. لكنها محاولة تدل على الترابط والتماسك بين أبواب النحو وفروعه ومسائله على وفق نظام رصين مطرد ، كثير المداخل.
وكذلك محاولة العقيد الركن انطوان الدحداح في (معجم قواعد اللغة العربية في جداول ولوحات) وهو أوسع تناولاً وأكثر تفصيلاً وتطبيقاً وأشمل موضوعات وغيرها من الكتب النحوية التعليمية التي تكشف عن النظام النحوي المترابط الذي يقوم على التعاضد والمداخل والترابط وان لم تكن تقصد إليه قصداً بقدر هدفها التعليمي.
وهذا النظام كان سبباً لما امتازت به كتب النحو الأولى من التداخل والتكرار والاضطراب المنهجي أحيانا مثل كتاب سيبويه. والكتب التي لها صلة بأنظمة اللغة العربية (كدلائل الإعجاز) للإمام عبد القاهر و (الخصائص) لابن جني، والمغني لابن هشام ، والأشباه والنظائر للسيوطي وغيرها.
وصف النظام النحوي:
النظام النحوي يؤسس على مواقع محددة تسمى معانٍ نحوية أو وظائف اصطلح عليها النحاة بمصطلحات محددة كالإسناد والفاعلية والمفعولية والوصفية والتبعية وغيرها على وفق ترتيب يتصف بالمرونة يسمح بتغيرات داخل نظامه مشابهة له. وتعضده أنظمة أخرى كنظام الإعراب والربط والنظام الصرفي ونظام الإضافة والتعلق وغيرها.
نظام مبني على أصول محدودة ثم يتوسع فيها باتجاهات عديدة بحسب المعنى المراد وان كان دقيقاً او ملمحاً او لغزاً او إبداعيا او بلاغياً بتوسع هذه الأصول الى ما يشبهها وهذا الشبه قد يكون واضحاً جلياً كقواعد النحو ونظام الإعراب وقد يكون خفياً كالعدول في ضوء النظام نفسه.
فالأصل يركب من معنيين نحويين ورابط وتفصيل يزيد المعنى وضوحاً وبياناً كالتمييز والحال والنعت والتوابع الأخرى ثم يتوسع بإحلال معانٍ مختلفة بالموقعين النحويين او الوظيفتين او المعنيين، وكذلك الرابط يتوسع فيه بإحلال روابط مختلفة كالأداة والضمير والحرف وحركات الإعراب التي تعضد النظام ، وكذلك الأمر للتفصيل ، وكل معنى نحوي او موقع تحل محله وظائف نحوية مختلفة كالفعل والاسم المبتدأ وما يشبهها من الأفعال الناقصة والأخرى المشبهة بالفعل في المعنى النحوي الأول. وتحل محل المعنى النحوي الثاني او الموقع معانٍ نحوية او وظائف متعددة كالمفعولية والخبرية وغيرهما ، وتحل معانٍ نحوية مختلفة في (التفصيل) كالتبعية. ومهما يتوسع النظام فيقوم على مشابهة الأصل حتى الأساليب التي يختلف نظامها كالاستفهام والشرط والاستثناء والنداء وغيرها.
والنظام الصرفي يعتمد على النظامين الصوتي والدلالي والنظام النحوي يعتمد على الأنظمة الصوتي والصرفي والدلالي والنظام الاسلوبي يعتمد على أنظمة اللغة جميعها.
مخطط النظام اللغوي يمثل تلازمه وارتباطه وتداخله بعضه ببعض ليؤدي المعنى المتحرك بحسب تطور المجتمع والثقافات وغيرها. قال تعالى : ) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ( (سورة يّـس:40) ، أي في نظامه وليس الحركة خارج الفلك دائماً وإنما يسبح ضمن نظامه وفلكه والله اعلم.
إن البشرية تغيرت على وفق أحداث كبرى تبعتها تغيرات في التفكير والمعتقدات والعلوم واللغات وطرائق العيش والعادات وغيرها فالعلم اختلف مثلاً بعد الحروب العالمية وبعد الحرب الباردة وبعد الانفجار المعرفي وعصر الصناعة والكهرباء وأخرها شبكة الاتصال الالكترونية العالمية- (الانترنت). لكن نظام العربية المفتوح استوعب كل هذه التغيرات وتحرك معها المعنى مع بقاء النص ثابتاً. وقد خضعت اللغات المختلفة للتطور والتغيير إلاّ النصّ القرآني كما نزل يحوي المتغيرات بسبب نظامه اللغوي المعجز.
ونظام الإعراب يعضد هذه المعاني فيمنح لكل معنى حركة إعرابية الرفع للإسناد والفاعلية والفعل المعرب. والنصب للمفعولية وان أحدثتها عوامل ظاهرة او مقدرة فحملاً على الأصل ، والجر للإضافة والجزم خاص بالأفعال ولكلٍ دلالته.
هذا أصل الإعراب وينوب عنه علامات فرعية في معناه نفسه، كالإعراب بالحروف والإعراب المقدر والمحلي الذي لا يظهر لدواعٍ صوتية ، كالثقل والتعذر واشتغال المحل ، فيحمل على الأصل في ضوء صفة الاطراد والانعكاس لنظام العربية.
أما البناء فغالباً يحدث لأسباب تخص اللفظة ولاسيما الحروف والأسماء المحمولة عليها، تلزم حركة بناء واحدة لكنها تقع في مواقع الإعراب المختلفة ، ويقدر عليها النظام الإعرابي نفسه، هذا للبناء اللازم.
أما البناء العارض كالمنادى العلم واسم لا النافية للجنس ومركب الأعداد فانها محمولة على معانٍ نحوية اخرى تشبهها. فحمل بعضها على بعض، والمشابهة بينها جوهر النظام اللغوي للعربية.
إن النظام الإعرابي أوضح أنظمة العربية لذلك أولاه النحويون جلّ عنايتهم. وان سعة النحو العربي لا يتضح بهذه العجالة وسيزداد الأمر وضوحاً فيما يأتي ان شاء الله.
النظام النحوي في التفكير النحوي لدى النحاة المتقدمين:
أدرك علماء النحو القدامى نظام العربية الذي يختلف عن المنطق العقلي الذي خلط بينهما النحاة المتأخرون ، وكان منهج الخليل بن احمد رحمه الله تعالى (175هـ) النحوي في معالجة التقاطع الحاصل بين النصّ القرآني والمعايير النحوية، يقوم على لحظ هذا النظام الذي يقوم على مشابهة الكلام العربي بعضه ببعض، وتعلق بعضه برقاب بعض.
قال تلميذه سيبويه: "ومن كلامهم ان يشبهوا الشيء بالشيء وان لم يكن مثله في جميع الأشياء"([4]). وكان الخليل – رحمه الله تعالى - يفسر العدول عن القياس النحوي المنطقي الذي يبدو في النصّ القرآني في ضوء نظام العربية ، وكان فهمه للقياس النحوي على هذا الفهم لذلك قالوا عنه انه صححّ القياس بعد أن جرّده ابن أبي اسحق وغيره، أي جعله منطقياً عقلياً وليس لغوياً في ضوء الواقع الاستعمالي للغة.
فمن أقيسته بناء المنادى على الضم على بناء (قبلُ) و (بعدُ) على الضم في حالة إفرادهما وعدم تنوينهما ونصبه على حالة نصبهما([5]) ، وجزم (إنْ) الفعل على جزم جواب الأمر([6]). وهكذا كما سيمر بنا.
وكتاب سيبويه مليء بمعالجة العدول عن القياس العقلي المنطقي المجرّد نقلاً عن شيخه الخليل، كان سيبويه يسأله عنه كثيرا، فيفسره في ضوء نظام العربية رابطاً إياه بالمعنى. ذلك أن هذا النظام من خلال اتساعه يستوعب المعاني المختلفة ولاسيما الدقيقة منها التي اختصّ بها كتاب الله تعالى. وهي ملامح أسلوبية تنطلق من حقيقة العربية ونظامها ويعد ذلك أهم تفسير للعدول اسلوبياً.
قال سيبويه: (هذا باب من الجزاء ينجزم فيه الفعل اذا كان جواباً لأمر او نهي او استفهام او تمنٍ او عرضٍ) نحو ( أتني أتِكَ ، لا تفعلْ يكنْ خيراً لك ، ألا تأتني أحدِثْك ، أين تكن أزرْكَ ، ألا ماءَ أشرْبهُ ، ليته عندنا يُحدِّثْنا ، ألا تنزل تُصِبْ خيراً ).
قال الخليل: "كلها فيها معنى (إنْ) فلذلك انجزم الجواب." ومما ورد منه في القرآن:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( (سورة الصف:11) فلما انقضت الآية قال: (يغفر لكم)..." ([7]) .
إن للدلالة نظاماً مبنياً على أصول وفروع تناوله البلاغيون في علم البيان: فهي أما خبر أو إنشاء ، أي طلب ثم تتفرع على المعاني المختلفة: استفهام وأمر ونداء وغيرها ثم تتركب مع غيرها من المعاني وتتداخل. ونظام العربية خير من يعبر عنها لأنه يتوسع بحسب تركيب المعاني وتشعبها فيعبر عن الشرط مثلاً بالأداة (إنْ) ثم تحمل عليها أدوات وأساليب أخرى للتعبير عن معاني إضافية فضلاً عن معنى (الشرط). كاجتماع الأمر والشرط في الجملة الأولى والنهي والشرط في الثانية والعرض والشرط في الثالثة والاستفهام والشرط في الرابعة وهكذا.
قال ابن جني: " من عادة العرب أنّهم يؤثرون التجانس والتشابه فلذلك حملوا الفرع على الأصل وردّه إليه ، فمن ذلك حمل النصب على الجر في التثنية والجمع الذي على حدّه ألا ترى أنهم لما أعربوا بالحروف في التثنية والجمع الذي على حدّه ، فأعطوا الرفع في التثنية الألف والرفع في الجمع الواو ، والجر فيهما الياء ، وبقي النصب..."([8]) ، فحملوه على الجر.
ومن ذلك حمل النصب على الجر في جمع المؤنث السالم نحو: (رأيت الهنداتِ) ، مع قدرتهم على فتح التاء " فدلّ دخولهم تحت هذا ، مع ان الحال لا تضطر إليه على إيثارهم واستحبابهم حمل الفرع على الأصل([9]).
قال ابن السراج: "وكثيراً ما يعملون الشيء عمل الشيء اذا أشبهه في اللفظ وان لم يكن مثله"([10]).
ومنه توكيد الفعل المضارع بعد (لا) النافية حملاً على لفظ (لا) الناهية([11]). قال تعالى: ) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( (سورة الأنفال:25)، ويعملون الشيء عمل الآخر للشبه المعنوي كأعمال (ما) عمل (ليس) لاشتراكهما في النفي ، وحمل (أنْ) الناصبة على (ما) المصدرية في الإهمال ، و لأنهما تكونان مع الفعل بعدهما بمنزلة المصدر ، كما ان (ما) تكون مع الفعل بعدها بمنزلة المصدر. وحمل (إنَّ) وأخواتها على (الفعل) في العمل ، لشبههما في اللفظ والمعنى والبناء على الفتح واقتضاءهما الاسم([12]).
وغير ذلك الكثير مما ذكرته كتب النحو ولاسيما المتأخرة منها وكتب أصول النحو. مما أخذه النحاة المعاصرون عليهم ولاسيما أصحاب التيسير النحوي وعدّوه جدلاً ومنطقاً ينبغي رفعه من النحو ، لكنه هو الذي ينبغي دراسة العربية في ضوئه لأنه يكشف لنا عن نظامها الدقيق ويفسّر لنا ظواهر لغوية كثيرة اختلف فيها النحاة كما في باب (الحمل على المعنى).
يمكننا تلخيص أرضية التفكير النحوي عند النحاة بأنهم قاسوا المنصوبات على المفعول به ، والمرفوعات على الفاعل ، والضمير في البناء على الحروف لشبهه في قلة الحروف. والتوابع على المجاورة لما قبلها بسبب ، والأسماء العاملة على الأفعال والممنوع من الصرف على الأفعال([13]).
هذا الذي ينبغي الالتفات إليه في الدرس النحوي العربي ذلك انه مرتبط بحقيقة اللغة العربية ونظامها الذي يرجع الى أصول ثم تتوسع في داخله ، وهو مطّردٌ في النصّ القرآني.
وليس العربية مبنية على المشابهة الشكلية إنما على نظام دقيق بعضه واضح جلي وكثير منه خفي لا يستنبطه إلا العلماء كونه أسرار العربية ، وبعضه يبدو لنا عدولاً عن القياس النحوي وانحرافاً إلا انه يقع في داخل النظام اللغوي للعربية نفسه ولكنه يحتاج الى تدبر وقد ورد في النص القرآني الكثير منه للتعبير عن معاني دقيقة لا تؤدى بالكلام المباشر.
ولابد له من داعٍ يدعو إليه وهو التوسع في اللغة وفي المعنى بحيث تتسع العربية لتؤدي أي معنى كالمعاني المطلقة الإلهية. ويضيق فيعبر به العامة وبين ذلك درجات تلبي حاجة المبدع للتعبير عن تجربته النفسية بالمعاني المباشرة والمعاني الثانية وظلال المعاني من خلال استعمال فني إبداعي داخل النظام نفسه الذي هو مبني على المشابهة في كل مستوياته الصوتية والصرفية والنحوية والاسلوبية. فالمستوى النحوي مثل:
المحمول عليه
المحمول
السبب
الحكم
اسم الفاعل
الفعل المضارع
الشبه اللفظي من حيث عدد الحروف والإعراب والإسناد
الرفع
الحرف
الضمير
قلة الحروف
البناء
ما النافية
ليس
النفي
البناء
الفعل الماضي
إنّ المشبّه بالفعل
الشبه اللفظي واقتضاء الاسم
البناء
الفاعل
النائب عن الفاعل
الإسناد
الرفع
وقد ذكر النحاة ضروباً من القياس من هذا النوع يمكننا تتبعها في النحو كله. . وليس غرضنا الاستقصاء بل الاستدلال فان ما يدل على التشابه في النحو ومسائله واقيسته في اقوال النحاة وخلافاتهم كثيرة كقول الكوفيين " ينتصب المستثنى لانه مشبه بالمفعول " 0 وقولهم بالتقريب وهو ان يعمل اسم الاشارة عمل كان وغير ذلك كثير ([14]) .
النظام النحوي في التفكير النحوي لدى المتأخرين:
ان مناهج المتأخرين والمعاصرين نأت في دراسة العربية عن هذا النظام.
أما المتأخرون فقد أسرفوا فيه لأدنى مشابهة ، وفلسفوه وتناولوه تناولاً عقلياً لا فنياً اسلوبياً ، ومزجوا بينه وبين المنطق الأرسطي فانحرفوا عمّا كان الأوائل عليه، وغالوا فيه وصار جزءاً من علم الجدل الذي اختلفوا فيه اختلافاً كبيراً وتناولوه في جدلهم وعللهم تناولاً منطقياً فانحرفوا عن حقيقته التي تكشف لنا عن أساليب العربية الفنية الدقيقة الجميلة.
فكانت العلل لديهم: علة شبه وعلة طرد ، واختلفوا في حجية التعليل ، وذكروا قوادح للعلة كثيرة أي أموراً تبطلها نحو: النقض وتخلف العكس ، وعدم التأثير ، والقول بالموجب وفساد الاعتبار ، وفساد الوضع وهلم جرّا مما لا جدوى فيه ([15]).
لقد تناولوا النظام اللغوي الجميل تناولاً عقلياً منطقياً افقدوه روحه وحقيقته ، على شكل أركان: مقيس ومقيس عليه او أصل وفرع وعله جامعة سبب المشابهة والحكم الذي هو وجه الشبه وفرّعوا الأخيرين فروعاً كثيرة ، واشترطوا للمقيس عليه والمقيس شروطاً عقلية متأثرين بذلك بالمنطق الأرسطي.
وبعضهم كان تناوله أما جزئياً ، أو مشتتاً هنا وهناك ، او مختلطاً مع المنطق الأرسطي أو دراسته دراسة غير مباشرة على وفق مناهج وأسس لا تبنى على النظام العام كما في كتب الإعجاز وأساليب القرآن. وفي كتب أصول النحو كتجريد القياس.
فمن تناولهم الجزئي المشتت لنظام العربية في باب الحمل على المعنى وفروعه الكثيرة ، أما في النحو فتناولوه من خلال ظاهرة النيابة النحوية والتناوب والتضمين وغير ذلك. وظاهرة النيابة النحوية باب واسع يشمل ظواهر لغوية كثيرة بمستويات مختلفة فضلاً عن تداخلها مع الظواهر الأخرى من غير حدود فاصلة واضحة فهي مشتتة في أبواب المجاز والاتساع والحمل على المعنى.
وقد توسع الدكتور هادي نهر بهذه الظاهرة لتشمل كل مستويات اللغة وظواهرها وجعلها بديلاً من نظام العربية الذي نعنى به. قال: "نحن نألف هذه الظاهرة شاخصة في المستويات اللغوية كافة صرفاً ونحواً ودلالةً ، فهي في الدرس الصرفي تستأثر بنصيب كبير في أبنية المصادر وأنواع المشتقات وجموع التكسير وموضوعات النسب والتصغير والتثنية والجمع وغير ذلك"([16]).
وقال في الدرس النحوي قلما نجد باباً من أبوب النحو يخلو من ذكر النيابة او ما اختلط بها وتداخل منها مصطلحات متعددة أمثال: العوض ، التعويض ، والبدل ، الساد مسدّه والقائم مقامه ، والاستغناء والتعاقب والإبدال والحمل والتأويل والإيجاز والاختصار والحذف والاتساع والتجوز والمجاز وغيرها ثم تناول أبواب النحو والصرف في ضوء النيابة متوسعاً بها كنيابة الحروف عن الأفعال والأسماء نحو: يا عبد الله ، تنوب عن ادعوا أو أنادي لدى النحاة و(إلاّ) تنوب عن الفعل (أستثني) و (الواو) عن (أعطف) وليت عن (أتمنى) و(هل) عن (استفهم) و (ما) عن (انفي) وغير ذلك. ونيابة الحروف عن الأسماء كنيابة (عن) عن جانب و(على) عن فوق و (إلا) عن (غير). وفي باب المرفوعات ، كنيابة المبتدأ عن الفعل ونيابة المصدر عن الذات الواقع خبراً او نيابة الحال عن الخبر ، ونائب الفاعل ، والنيابة في الموصولات الاسمية ، وفي باب المصدر وهو باب واسع وفروع كثيرة والنيابة في باب المفعول فيه والمضاف إليه عن المضاف ونيابة الجمل ، والنيابة في الأفعال ، كالاسم عن الفعل و اسم الفعل عن الفعل وغير ذلك متوسعاً بذلك ومعتمداً على تأويلات النحاة وتقديراتهم وفلسفتهم وشواهدهم المؤولة كنيابة (الحمد لله) عن (احمد الله) ، وهو موضوع نحوي وليس اسلوبياً كما في تناوب حروف الجر بعضها عن بعض الذي ردّها متابعاً للبصريين ، والقول بتضمين الفعل معنى فعل آخر كما سيمر بنا([17]).
يتبع