ابو وليد البحيرى
2019-08-16, 04:09 AM
مجالات البحث في التراث النحوي -وأولوياتها
- د. رشيد بلحبيب
مقدمة :
في مفهوم التراث و الحاجة إلى ترتيب مجالات البحث فيه :
إن تراث الأمة - أيا كانت - هو جذورها ، ونسيج وجودها ، وهو قدرها وأساس رقيها ، وهو جماع مقومات شخصيتها ، ومن ثم ، كانت الحاجة ماسة إلى ضرورة إحيائه والالتزام العلمي الواعي بتصفحه ودراسته ، قصد فهم حاضر الأمة وتحديد الخرائط الدقيقة لمستقبلها .
وقد أصبح من المسلمات أن احترام الأمة لتراثها هو احترام لذاتها ، والاستخفاف بالتراث هو الاستخفاف بالنفس ، إذ الأمة التي لا تكف عن تحقير ذاتها في مقارنة مستمرة بالآخرين ، شأنها في ذلك شأن الفرد ، لا يمكن في أحسن الأحوال إلا أن يكون مقلدا كفؤا ، ولكنه فاقد للقدرة على الإبداع (1)
لقد أفرزت مجتمعاتنا نفوسا من بني جلدتنا ، تميل إلى احتقار الذات ، والاستخفاف بالتراث ، وتجد في ذلك لذة ونشوة ، تعدل أو تفوق ، تمجيدها للآخر والتغني به !
وهذا الميل في النفس إلى إنكار الإنسان لماضيه ، مخالف لسنن الكون الفطرية التي جعلت في كل أمة ميلا طبيعيا للاحتفاظ بمقوماتها ومشخصاتها من لغة وعقيدة...(2)
إن الصلة بين التراث الإسلامي والحريصين عليه صلة قديمة ، وقد أدرك أصحابه أن الحفاظ عليه ، حفاظ على المبادئ والقيم التي بنت عليها الحركة العلمية أسسها منذ عصر التدوين .
ومن هذا المرتكز دعوا إلى إحيائه وتطويره ، وتوظيف ما يصلح أن يكون خيوطا تجعل تاريخ الأمة الحضاري سلسلة موصولة الحلقات ، الأمر الذي يبعث في النفوس والعقول والقلوب إحساس الأصالة والعراقة ، فيعين على التصدي لعظيم التحديات (3)
إن تراثنا الإسلامي يمتد بامتداد الأوطان شرقا وغربا ، ويضرب في الأزمان ماضيا وحاضرا ، ويختلف باختلاف المدارس تنظيرا وتطبيقا ، وهو في كل ذلك متنوع كما وكيفا... ومما لا شك فيه أن الغزارة والرحابة التي عليها هذا التراث - مع ترامي الأطراف واختلاف الأوطان وتباين المستويات - يحتاج إلى جهود جبارة قصد إحصائه ، وإلى مثلها قصد تصنيفه ودراسته وتحديثه ، ويحتاج فوق ذلك الجهد إلى التخطيط والابتعاد عن التلقائية ! (4)
ولعل من آفات البحث في هذا التراث ، بجميع فروعه ، أنه يقوم على " منهج العثور" أو " الصدف " ، وينأى عن التخطيط والعلمية ، يتضح ذ لك بالنظر في مقدمات النصوص المحققة التي تروي لنا قصة الباحث مع المخطوط ، التي قد تطول فصولها ، وتتنوع أساليب التشويق فيها !
كما أن الناظر فيما تقذف به دور النشر ومراكز تحقيق النصوص ، وتصفح فهارس الرسائل الجامعية وأعمال المحققين ، يتبين له إلى أي حد يعاني هذا القطاع البحثي من الفوضى والتلقائية ، و غياب المنهجية ، واختلال في ترتيب الأولويات ، إذ كثيرا ما نهتم بالفروع قبل الأصول ، وبالجزئيات قبل الكليات ، وبالمُختلَف فيه قبل المُتفق عليه ! (5)
إلا أن هذا لا يعني أن حركتنا الفكرية لا تستفيد مما تنشره هذه اللجان أو الصادقون من الأفراد ، ذلك أن كل ما ينشر هو بالقطع مفيد ، لأنه يكشف عن صفحة من التاريخ الفكري لهذه الأمة ، ولكن عندما تكون إمكانيات التحقيق ، وبالذات إمكانية النشر محدودة ، فلا بد أن يكون هناك الأهم فالمهم ، فالأقل أهمية ... وعندما تكون حركتنا الفكرية التي نريد لها التقدم ... في حاجة إلى طاقة وزاد يعينها على إنجاز مهماتها الحضارية العصرية ... عند ذلك تبرز أهمية التخطيط وتتبدى لنا ضرورة حسن الاختيار(6)
إن مجالات البحث في تراثنا الحضاري كلها مطلوبة ، ولا ينبغي أن يهمل أي جانب منها أو يؤجل ، وإنما الواجب توزيع القوى والكفاءات على كل منها ، وفق حاجات هذه المجالات من ناحية ، أو وفق ما عندنا من قدرات من جهة أخرى !
ومن حق التراث علينا ، أن نفقه أيّ القضايا أولى بالاهتمام ، فتُعطى من الجهد والوقت أكثر مما يُعطى غيرها ، وتوضع الأشياء في مراتبها ، فلا يُؤخر ما حقه التقديم ولا ُيقدم ما حقه التأخير ، ولا يُصغر الأمر الكبير ويُحقّر ، ولا يُكبر الأمر الصغير ويُضخم ، هذا ما يقضي به المنهج ، وما تأمر به أحكام العقل المنظم .
يمثل تراثنا النحوي - موضوع هذه المداخلة - جزءا من تراث الأمة العام ، وكل ما يقال عن التراث إيجابا وسلبا ، يصدق على أجزائه وحقوله المعرفية ومنها النحو ، ومع أن أمهاتِ المصادر النحوية وعيونَها وموسوعاتِها ، شاء الله لها أن ترى النور بنسبة عالية ، إذا ما قورنت بغيرها ، إلا أن ما بقي مما لم يظهر للوجود من العناوين، يدفع إلى القول إن هناك مهماتٍ جسيمةً تنتظر الإنجاز وَفق أولويات منضبطة ومنهج محكم ، وقد رأيت أن أقسم هذه الأولويات إلى أربعة أقسام: ( و هي أولويات تصدق على النحو كما تصدق على غيره من حقول المعرفة الإسلامية ) :
1- أولويات في مجال التحقيق
2- أولويات في مجال الدراسة
3- أولويات في مجال النقد والمراجعة
4- أولويات في مجال التطوير والتحديث
-----------
1- أولويات في مجال تحقيق النصوص :
يمثل التحقيق العلمي للتراث النحوي المنطلقَ ، ونقطة البدء لأي نهضة لغوية راشدة ، ولذلك بادر الأفراد والمؤسسات منذ ما يزيد عن القرن والنصف إلى جعل مسألة تحقيقه فوق كل اعتبار ، لكن العملية رغم حرص كثير من الجهات - أفرادا ومؤسسات - على تنظيمها ، ظلت تعاني من التلقائية والانتقائية والفوضى .
ويمكن معالجة الأمر وفق النظر في إنجاز ما يلي :
أ - فهرسة الأعمال المحققة تحقيقا جيدا :
تعتبر فهرسة الأعمال المحققة من أولوية الأولويات ، وإن الباحث في الدراسات النحوية ليستغرب حين لا يجد فهرسة كاملة شاملة قابلة للتحديث ، يعود إليها للتحقق من عمل ما ، فعلى الرغم من وجود بعض فهارس المطبوعات ، وفهارس الرسائل الجامعية إلا أنها لا تشفي غليلا ، فوق كونها مليئة بالتضارب والشطب ، ُمفهِرسة للمُنجز وغير المُنجز.
وعملية فهرسة المصادر النحوية المحققة ، مطبوعة ومرقونة - على يسرها وإمكانها - تعد من أجلّ الأعمال ، لأنها تزود الباحث بالمراد ، وتبعده عن التخبط والتكرار.
ويمكن الاستعانة في هذا السياق بالمفهرس الآلي العربي ، الذي يُمكِّن عن طريق الحاسوب من القيام بمجموعة من أصناف الترتيب ، وقد طورت شركة صخر هذا البرنامج الذي يحتوي على مستويات مختلفة من الفهرسة ، كما توجد به نسخة من html للإنترنت .
وهذا ما ُيمكّن من العمل الجماعي في الفهرسة - إذا استُحدث موقع للتراث النحوي على شبكة الإنترنت- دون عناء وبدقة عالية ، ويجعل الفهرسة متاحة لملايين المستخدمين ، ويُمكّن كل باحث من الإسهام فيها عن طريق مراسلة الموقع وإمداده بما يتم العثور عليه من جديد .
ب - فهرسة التراث النحوي غير المحققٍ ، مطبوعا ومخطوطا :
تتمثل النقطة الثانية في فهرسةِ التراث النحوي غير المحقق مطبوعا ومخطوطا وجمعِه على صعيد واحد ، انطلاقا من كتب التراجم والطبقات ، ومصادر التراث وفهارس الخزائن العامة والخاصة ، بحيث يصير مُزِّودا للأقسام العلمية بالمؤسسات الجامعية ، وُممِّدا للباحثين والمهتمين في كل مكان .
ومن المؤلم أن عددا من الغيورين على هذا التراث ينفقون ميزانيات ضخمة جدا في تصوير المخطوطات من شتى بقاع العالم ، لكنهم يعملون دون إحصاء ولا تخطيط ، بل إن كثيرا منهم يتنافس في تكثير سواد الممتلكات ، وفي المحصلة ، مخطوطات مكررة في عشرات المراكز بعشرات النسخ ، ويظل المفقود مفقودا ، والمبتور مبتورا ، وكان الأولى أن يتم التعاون على تصوير ما لم يصور ، والتكامل في اقتناء الموجود والبحث المشترك عن المفقود ، ترشيدا للإنفاق وتسديدا للجهود !
جـ - ترتيب ما ينبغي تحقيقه وفهرسته وفق الأولويات :
لا بد من ترتيب ما ينبغي تحقيقُه بعد جمعه وفهرسته وَفق أولويات ، وقد بدا لي أن الأولويات يمكن أن نستخلصها من مقاصد التأليف في تراثنا العربي والإسلامي ، والتي رصدها عدد من الأئمة منهم ابن خلدون في سبعة مقاصد :
1- استنباط العلم بموضوعه ، وتقويم أبوابه وفصوله (7) ( كما فعل سيبويه في علم النحو ، والشافعي في علم الأصول ، وابن جني في علم اللغة ، والجرجاني في علم البلاغة ... ) فتحقيق المخطوط التي هذه أوصافه مقدم على غيره ، لأنه مُؤسس للعلم مُبدع فيه ، غير مسبوق إليه (8)
2- شرح ما استغلق من كتب الأولين ( مثل شروح كتاب سيبويه ، وشروح كتاب الجمل ، وشروح المفصل ، وشروح التسهيل ...) وهذا الضرب يأتي في المرتبة الموالية ، لأنه يقوم على غيره ، فلا ينبغي أن يتقدم عليه .
3- تصحيح أخطاء من تقدم ( مثلما فعل الغندجاني في فرحة الأديب ، حيث نبه على أخطاء السيرافي في شرحه لشواهد سيبويه ، ومثلما فعل ابن هشام اللخمي الذي نبه على أخطاء الأعلم الشنتمري في شرحه لشواهد الكتاب ، ومثلما فعل أبو عبيد البكري في كتابه " التنبيه على أوهام القالي في أماليه " ، ومثلما فعل ابن بري في كتابه " التنبيه والإيضاح عما وقع في الصحاح ...) وهذا النوع يلي في الترتيب سابقيه .
4- إتمام ما نقص من مسائلَ وأبوابٍ وفصول في فن بعينه ( مثلما فعل الزبيدي في كتابه الاستدراك على أبنية سيبويه ...)
5- ترتيب مسائل في أبوابها ، مثلما فعل السيوطي في الأشباه والنظائر...
6- جمع ما تفرق من مسائل في أبوابها ، مثل صنيع السيوطي ، والمتأخرين من النحويين ...
7 - تلخيص المسهب والمكرر، وتناوله بالاختصار والإيجاز ( مثل اختصار الزبيدي لكتاب العين ، وتلخيص القزويني في علم البلاغة ، واختصار السيرة لابن كثير وتلخيص ابن مالك للكافية الشافية ...)
وقد ختم ابن خلدون حديثه عن أصناف التواليف قائلا :" فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف ومراعاتها ، وما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه ، وخطأ عن الجادة التي يتعين سلوكها في نظر العقلاء ، مثل انتحال ما تقدم لغيره من التواليف بأن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس من تبديل الألفاظ وتقديم المتأخر وعكسه ... أو يأتي بما لا فائدة فيه ، فهذا شأن الجهل والقحة " (9)
وهذا الذي عده ابن خلدون جهلا وقحة ، هو إفساد للعلم ، ومضيعة للجهد والوقت والحبر والورق ، وهو تخسير للكاغد على حد تعبير الإمام ابن عرفة .
إن هذا المعيار الذي رسمه ابن خلدون لمقاصد التأليف يضع الكتابة العلمية وفق ترتيب معقول ، فالمبدع في العلم المستنبط له ليس كالشارح أو المستدرك أو الجامع ... ولذلك يمكن اعتماده منهجا في ترتيب الأولويات عند اختلاط الأمر ، أو تراكم المادة العلمية المخطوطة ، فيكون الترتيب على الشكل الآتي :
المُبدع في العلم أولا ، ثم المُكمل ، ثم المُصحح ، ثم الشارح ، ثم المُختصِر ثم الجامع للمتفرق ، ثم المُرتب للمنثور، أما الناقل أو المدلس فلا مكان له في سلم الأولويات .
د- التنسيق في عملية التحقيق بين المؤسسات والأفراد :
لا شك أن تراثنا العربي بحاجة ماسة إلى قراءة معرفية تضع اليد على مواطن القوة والضعف فيه ، وتنبه على المعتمد والمردود منه ، وهو بحاجة ماسة كذلك إلى جهود جماعية لخدمته وإحيائه ، ومع مرور ما يزيد عن قرن من الزمان على نشأة هذا الإحساس ، فإن هذا الحقل مازال يعرف انعداما في التخطيط ، وتلقائية في الفعل ، وغيابا في الرؤية وفقدانا للمنهج العلمي الدقيق .
ومع وفرة المؤسسات القائمة على تحقيق التراث في العالم العربي والإسلامي ، إلا أن التنسيق بينها يكاد يكون منعدما ، كما أن عامل الزمان لديها مهدر ، فقد شُرع في طبع كتاب " نهاية الأرب في فنون الأدب " للنويري منذ سنة 1910، وما تزال بعض أجزائه تنتظر الفرج ، كما استغرق تحقيق " خزانة الأدب " للبغدادي ما يقارب نصف قرن من الزمان ، ومازال شرح السيرافي لكتاب سيبويه على جلال قدره وسعة علمه ينتظر، ومازال شرح التذييل والتكميل لأبي حيان مع خطورته ، تحقيقه لم يستقر !
إن تحديد الأولويات وترشيد عمل المحققين يبعد حركة التحقيق عن السقوط في المتاهات والتخبط بين ملايين المخطوطات التي لا تستحق - يقينا- أن يبذل فيها ما يبذل في غيرها من الجهد .
وهذا العمل يجب أن يتم بالمنهج العلمي الدقيق وبالرؤية الحضارية المطلوبة ، بعيدا عن عقلية الناشرين ومصلحتهم ، وبعيدا عن هوى الذين يعملون في حقل التراث ورغباتهم ، ممن دفعت بهم الأقدمية والترقيات والدرجات العلمية إلى مراكز التحكم ، والذين كثيرا ما يختارون المخطوطات المرشحة للتحقيق أو النشر، بناء على الاسم الرنان للكتاب أو الشهرة لصاحبـه ... ضـاربين صفـحا عن القيمـة العلميـة لما ينشر غالــــبا (10) .
إن غياب استراتيجية لمباشرة التراث تحقيقا ودراسة يعرقل عملية إخراجه للوجود ، ويعرقل من ثم حركية الأمة وفكرها ، كما أن الرسائل المنجزة في التحقيق لا قيمة لها ما لم تنشر، لأنها تنقل من رف إلى رف آخر ، ومن مخطوط إلى مرقون !
وغياب التنسيق بين المراكز والجامعات يؤدي إلى إعادة تحقيق ما حقق مرات ، في جهات مختلفة من الوطن العربي ، وفي كثير من الأحيان في البلد الواحد ، إن لم يكن في الجامعة أو المؤسسة الواحدة !
وما حقق وصرفت فيه الجهود مما لا يضيف جديدا للفن الذي ينسب إليه ، يعد عملا في غير موضعه إن لم نقل عملا ضائعا وجهدا مبددا .
إن من القيم الحضارية المهمة التي شاعت في هذا العصر ما سمي بالعمل المؤسسي ، وهو عمل جماعي منظم يشارك في إنجازه عادة المؤسسات ، أو مجموعات منظمة من الأفراد ، وهو بذلك من صفات المجتمع المفتوح ، الذي يهيئ لتنمية قدرات الأفراد والجماعات وإمكاناتهم وتعبئتها إلى القدر الكافي ، لتلبية الحاجات ومواجهة التحديات (11)
والتراث العربي بحاجة ماسة إلى الأعمال الجماعية ، التي يجب أن تسري روحها بين العاملين والمهتمين بقضاياه ، وحتى لا تضيع الجهود أو تتكرر لابد أن تقوم على العمل المؤسسي ، فهذا العصر أصبح لا يقيم وزنا للجهود الفردية " كما أن ردود الفعل التي يبديها الناس لمواجهة المشكلات الكبرى لا تكون فاعلة ومؤثرة إلا إذا قامت على تنظيم الجهود واجتماعها ، وحسن التنسيق بينها ، واختيار أحسن الوساءل والمؤسسات والنظم والأساليب ، ثم المضي في استعمالها وتعديلها وتقويمها لتناسب متطلبات المواقف المختلفة (12)
وفي هذا السياق كان أستاذنا الدكتور الشاهد قد اقترح على " مركز زائد للتراث والتاريخ " تنظيم مؤتمر دولي تحت مسمى ( المؤتمر العالمي الأول لتنسيق حركة تحقيق المخطوطات العربية في العالم ) وسطر للمؤتمر الأهداف الـتالية :
تنظيم حركة السير في مجال تحقيق المخطوطات العربية في العالم
الاتفاق على خطة تحقيق ونشر علمية منهجية شاملة متكاملة .
التخطيط لإنشاء المركز الجامع لصور المخطوطات العربية في العالم ، والشبكة التابعة له .
البت في تأسيس : مكتب تنسيق حركة تحقيق المخطوطات العربية في العالم وما يتعلق به (13)
ومما لا شك فيه أن عملا من هذا النوع خطوة جبارة في الاتجاه الصحيح ، تعود بالنفع على كل الحقول المعرفية لتراثنا الإسلامي ، ومنها النحو .
2 - أولويات في مجال الدراسة :
تحقيقُ التراث خطوةٌ أولى يجب أن تتلوها خطوات ، وهو ليس هدفا في حد ذاته ، وإنما هو وسيلة لتمكين الباحثين من تصفح هذا التراث وقراءته بجميع أنواع القراءة ، ودراسته ونقده واستخلاص ما يفيد الأمة في عملية البناء ، وقد ظهر لي أن من أولويات البحث في تراثنا النحوي - بعد التحقيق - الدراسة ، فكثير من الزوايا مازال يلفها الظلام ، وما زالت في منأى عن الباحثين ، لا تطأ حماها قدم ، إما لوعورة مسالكها أو عسر مادتها أو لاستعجال الباحثين ... وقد رأيت أن أسجل بعض الأولويات في مجال الدراسة على الشكل الآتي :
أ - دراسة المصادر الأصلية غير المدروسة :
مازالت كثير من الدراسات النحوية تدور في فلك التجميع والترديد والاجترار منذ ما يقارب القرن من الزمان ، حيث تضخم الإنجاز وكثر الـتأليف وانعدمت الأصالة والتمثل العلمي للتراث ، مئات العناوين لا تجد فيها راحلة ، في حين يمر الباحثون على مجالات بكر وهم عنها معرضون ، إن كتب الحواشي و الأمالي وكتب الخلاف وكتب الطبقات وكتب المجالس والمناظرات ... حافلة بمادة نحوية غزيرة يجلي البحث فيها ضروبَ التأليف ومناهجَ التصنيف ، وقد تُسعف في فهمٍ أدق لمنظومة النحو العربي .
ب - دراسة المصادر الفرعية للنحو العربي :
للنحو مصادر قلما يرتادها الباحثون ، يمكن اعتبارها فرعية ، كـ : كتب التفسير والقراءات والنقد الأدبي والشروح ، شروح الحديث والأشعار... هذه المؤلفات غنية بالمادة النحوية ، وخطيرة في بيان ما اصطلح على تسميته بنحو النص ، فهي تعالج النحو لا معالجة الجمل كما تصنع كتب القواعد ، وإنما انطلاقا من تداخل الجمل وتشابكها وتلاحمها وتعقد طبقاتها وبناها ، وهي تمثل المجال التطبيقي للنظرية النحوية العربية ، ولذلك يعتبر البحث فيها من الأولويات في مجال الدراسة .
وفي هذا السياق يمكن للمتخصصين رصد قائمة من البحوث والقضايا - قابلة للتحديث - لم تدرس ، انطلاقا من المصادر الأصلية أو الفرعية للنحو العربي ، وترتيبها وإمداد الباحثين وطلبة الدراسات العليا بها .
فضلا عن العناية بالمصطلحات النحوية تكشيفا وفهرسة ، ودراستها دراسة علمية باعتبارها مفاتيح العلم وثماره القصوى ، والعناية بالمدارس النحوية وأسسها النظرية والمنهجية ، كالمدارس العجمية على سبيل المثال ( مدرسة فارس ، مدرسة جرجان ...)
إن مثل هذه الدراسات من شأنها أن تجلي ملامح النظرية النحوية العربية وأسسها المنهجية ، لتوظيفها في تطوير النحو وتطويعه للاستجابة للمعالجة الآلية .
3 - أولويات في مجال النقد والتقويم :
أ - نقد القدماء للنحو العربي وتقويمه :
إن عملية المراجعة والتقويم للدرس النحوي ، على امتداده وخطورته زمانا وإنجازا، تقتضي عدم إغفال أي فئة ممن كتب لهم أن يدرسوا هذا العلم ، كما تقتضي استحضار كل ما قيل في هذا العلم نقدا وتوجيها وإطراء ، باعتبار أن المراجعة مطلب حضاري ، وشرط من شروط أي نهضة ، ودليل حياة وحركة بالنسبة للأمم والمجتمعـات ، وأولوية من أولويات الدرس .
لقد أدرك علماؤنا قديما ما تضمنه النحو من صعوبات فقد أدركوا أن بعض مصادره كانت تعاني من الاضطراب في تتالي الأبواب ، و في توزيع جزئيات الباب الواحد ، فضلا عن الغموض في العناوين ، مع غياب الدقة في المصطلحات ، وصعوبة الاهتداء إلى المسائل ، وعدم التطابق بين العنوان وما تحته ، ويمثل كتاب سيبويه خير نموذج لهذه الأحكام ، مع أنه يمثل أكمل وأنضج محاولة في التأليف النحوي قديما وحديثا ! (14)
فقد روى أبو العباس المبرد عن المازني أنه قال :" قرأ عليَّ رجلٌ كتاب سيبويه في مدة طويلة ، فلما بلغ آخره قال لي : أما أنت فجزاك الله خيرا ، وأما أنا فما فهمت منه حرفا (15)
ولهذا انبرى الخلق لشرح هذا الكتاب والتعليق عليه وشرح عيونه وغريبه ونكته والاستدراك على ما فاته من الأبنية ...
كما تعاني معظم كتب النحو من الطول المفرط الناشئ عن التكرار والاستطراد والحشو ومعالجة المسائل الأجنبية التي لا صلة لها بالنحو ، فضلا عن الشغف بالمناقشات والجدل والإغراق في تتبع العلل والإكثار من التقسيمات والتفريعات (16)
ومن نماذج ذلك على سبيل المثال ، أن الأشموني أوصل معمول الصفة المشبهة إلى 72 صورة ، منها جائز وممتنع ، ولكن الصبان أبى إلا أن يبزّ الأشموني في عدد الأقسام ، فأوصلها مع تحري الدقة والأمانة إلى 14256 صورة (17)
لم تغب هذه الصعوبات ومثيلاتها عن إدراك القدامى أنفسهم ، فقد استجابوا تلقائيا لدعوة التيسير على مر القرون - على المستويين النظري والتطبيقي- فكانوا يؤلفون المؤلفات الضخمة للمتخصصين ، ويؤلفون للناشئة متونا ومختصرات مهذبة .
فقد ألف خلف الأحمر " مقدمة في النحو " قال في بدايته :" لما رأيت النحويين وأصحاب العربية قد استعملوا التطويل وأكثروا العلل ... أمعنت النظر في كتاب أؤلفه وأجمع فيه الأصول والأدوات والعوامل على أصول المبتدئين ، ليستغني به المبتدئ عن التطويل (18)
وتطالعنا في كتب التراجم والفهارس عناوين كثيرة تدل على أن القدماء كانوا يدركون بعض مصادر الصعوبة في تعلم النحو ، وأن تيسير النحو للناشئة أمر لا مناص منه !
فقد ألف الكسائي مختصرا في النحو ، وألف ابن خياط الموجز في النحو ، وألف ابن النحاس التفاحة ، وتذكر المصادر لابن جني : اللمع ، ولابن قتيبة : تلقين المتعلم ، ولابن خالويه : المبتدئ ، ولابن درستويه : الإرشاد في النحو ، وللمفضل ابن سلمة : المدخل إلى النحو ، وللزبيدي : الواضح في النحو ، وللمطرِّزي : المصباح ، وللشلوبين : التوطئة ولأبي الفرج الصقلي : مقدمة في النحو ...
وهي مؤلفات يظهر من عناوينها رغبة مؤلفيها في التيسير والإيضاح والإرشاد ، كما يطغى عليها الجانب التعليمي !
هذا على المستوى التطبيقي ، أما على المستوى النظري ، فقد وجدت أيضا حركة إصلاح يمكن تلمس خيوطها عند نحاة كبار من أمثال ابن حزم ، وابن مضاء ، وابن رشد ، وابن الأثير ، وابن خلدون ...
فقد كان ابن حزم يرى أن التعمق في النحو فضول لا منفعة فيه ، بل مشغلة عن الأوكد ، ومقطعة عن الأوجب (19)
وألف ابن مضاء كتابه " الرد على النحاة " الذي قال في مقدمته :" قصدي في هذا الكتاب أن أحذف من النحو ما يستغني النحوي عنه ، وأنبه على ما أجمعوا على الخطأ فيه " وانتقد نظرية العامل ووصفها بأنها باطل عقلا وشرعا ولا يقول بها أحد من العقلاء (20)
كما ألف ابن رشد " الضروري في صناعة النحو " وجعل غرضه من الكتاب أن يذكر" من علم النحو ما هو كالضروري لمن أراد أن يتكلم على عادة العرب في كلامهم ، ويتحرى في ذلك ما هو أقربُ إلى الأمر الصناعي ، وأسهل تعليما ، وأشد تحصيلا للمعاني (21) وقد أشار في كتابه إلى التداخل بين الموضوعات والمستويات في كتب النحو العربي ، وهو تقصير يَرجع سببه - كما يرى - إلى أن النحاة " لم يستعملوا في إحصاء أنواع الإعراب القسمة الصحيحة التي لا يعرض فيها تداخل...(22)
كما ذهب ابن الأثير إلى أن واضع النحو جعل الوضع عاما " فإذا نظرنا إلى أقسامه المدونة وجدنا أكثرها غيرَ محتاج إليه في إفهام المعاني (23)
وكان الجاحظ قبل هؤلاء، يوصي المعلم بأن يترفق بالصبيان في تعليم النحو، يقول : " أما النحو فلا تشغل قلب الصبي منه إلا بقدر ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن ... وما زاد على ذلك فهو مشغلة عما هو أولى به ... " إلى أن قال :" وعويص النحو لا يجري في المعاملات ولا َيضطر إليه شيء (24)
والجدير بالذكر هنا ، أن علماء النحو القدماء - رغم ما ذكر - لم يدركوا من هذه الصعوبات إلا القليل ، لقربهم من عصور السلامة ، وقدرتهم على تحصيل الملكة " وحتى تلك العيوب المحدودة لم تنل منهم اهتماما كافيا ، فقد عالجوها فرادى ، من غير أن يعرض لها إمام بالتجميع والحصر ووصف العلاج ... على كثرة الأئمة الباحثين ، وفيض الكتب والرسائل التي تتصدى للنحو وقضاياه (25)
يتبع
- د. رشيد بلحبيب
مقدمة :
في مفهوم التراث و الحاجة إلى ترتيب مجالات البحث فيه :
إن تراث الأمة - أيا كانت - هو جذورها ، ونسيج وجودها ، وهو قدرها وأساس رقيها ، وهو جماع مقومات شخصيتها ، ومن ثم ، كانت الحاجة ماسة إلى ضرورة إحيائه والالتزام العلمي الواعي بتصفحه ودراسته ، قصد فهم حاضر الأمة وتحديد الخرائط الدقيقة لمستقبلها .
وقد أصبح من المسلمات أن احترام الأمة لتراثها هو احترام لذاتها ، والاستخفاف بالتراث هو الاستخفاف بالنفس ، إذ الأمة التي لا تكف عن تحقير ذاتها في مقارنة مستمرة بالآخرين ، شأنها في ذلك شأن الفرد ، لا يمكن في أحسن الأحوال إلا أن يكون مقلدا كفؤا ، ولكنه فاقد للقدرة على الإبداع (1)
لقد أفرزت مجتمعاتنا نفوسا من بني جلدتنا ، تميل إلى احتقار الذات ، والاستخفاف بالتراث ، وتجد في ذلك لذة ونشوة ، تعدل أو تفوق ، تمجيدها للآخر والتغني به !
وهذا الميل في النفس إلى إنكار الإنسان لماضيه ، مخالف لسنن الكون الفطرية التي جعلت في كل أمة ميلا طبيعيا للاحتفاظ بمقوماتها ومشخصاتها من لغة وعقيدة...(2)
إن الصلة بين التراث الإسلامي والحريصين عليه صلة قديمة ، وقد أدرك أصحابه أن الحفاظ عليه ، حفاظ على المبادئ والقيم التي بنت عليها الحركة العلمية أسسها منذ عصر التدوين .
ومن هذا المرتكز دعوا إلى إحيائه وتطويره ، وتوظيف ما يصلح أن يكون خيوطا تجعل تاريخ الأمة الحضاري سلسلة موصولة الحلقات ، الأمر الذي يبعث في النفوس والعقول والقلوب إحساس الأصالة والعراقة ، فيعين على التصدي لعظيم التحديات (3)
إن تراثنا الإسلامي يمتد بامتداد الأوطان شرقا وغربا ، ويضرب في الأزمان ماضيا وحاضرا ، ويختلف باختلاف المدارس تنظيرا وتطبيقا ، وهو في كل ذلك متنوع كما وكيفا... ومما لا شك فيه أن الغزارة والرحابة التي عليها هذا التراث - مع ترامي الأطراف واختلاف الأوطان وتباين المستويات - يحتاج إلى جهود جبارة قصد إحصائه ، وإلى مثلها قصد تصنيفه ودراسته وتحديثه ، ويحتاج فوق ذلك الجهد إلى التخطيط والابتعاد عن التلقائية ! (4)
ولعل من آفات البحث في هذا التراث ، بجميع فروعه ، أنه يقوم على " منهج العثور" أو " الصدف " ، وينأى عن التخطيط والعلمية ، يتضح ذ لك بالنظر في مقدمات النصوص المحققة التي تروي لنا قصة الباحث مع المخطوط ، التي قد تطول فصولها ، وتتنوع أساليب التشويق فيها !
كما أن الناظر فيما تقذف به دور النشر ومراكز تحقيق النصوص ، وتصفح فهارس الرسائل الجامعية وأعمال المحققين ، يتبين له إلى أي حد يعاني هذا القطاع البحثي من الفوضى والتلقائية ، و غياب المنهجية ، واختلال في ترتيب الأولويات ، إذ كثيرا ما نهتم بالفروع قبل الأصول ، وبالجزئيات قبل الكليات ، وبالمُختلَف فيه قبل المُتفق عليه ! (5)
إلا أن هذا لا يعني أن حركتنا الفكرية لا تستفيد مما تنشره هذه اللجان أو الصادقون من الأفراد ، ذلك أن كل ما ينشر هو بالقطع مفيد ، لأنه يكشف عن صفحة من التاريخ الفكري لهذه الأمة ، ولكن عندما تكون إمكانيات التحقيق ، وبالذات إمكانية النشر محدودة ، فلا بد أن يكون هناك الأهم فالمهم ، فالأقل أهمية ... وعندما تكون حركتنا الفكرية التي نريد لها التقدم ... في حاجة إلى طاقة وزاد يعينها على إنجاز مهماتها الحضارية العصرية ... عند ذلك تبرز أهمية التخطيط وتتبدى لنا ضرورة حسن الاختيار(6)
إن مجالات البحث في تراثنا الحضاري كلها مطلوبة ، ولا ينبغي أن يهمل أي جانب منها أو يؤجل ، وإنما الواجب توزيع القوى والكفاءات على كل منها ، وفق حاجات هذه المجالات من ناحية ، أو وفق ما عندنا من قدرات من جهة أخرى !
ومن حق التراث علينا ، أن نفقه أيّ القضايا أولى بالاهتمام ، فتُعطى من الجهد والوقت أكثر مما يُعطى غيرها ، وتوضع الأشياء في مراتبها ، فلا يُؤخر ما حقه التقديم ولا ُيقدم ما حقه التأخير ، ولا يُصغر الأمر الكبير ويُحقّر ، ولا يُكبر الأمر الصغير ويُضخم ، هذا ما يقضي به المنهج ، وما تأمر به أحكام العقل المنظم .
يمثل تراثنا النحوي - موضوع هذه المداخلة - جزءا من تراث الأمة العام ، وكل ما يقال عن التراث إيجابا وسلبا ، يصدق على أجزائه وحقوله المعرفية ومنها النحو ، ومع أن أمهاتِ المصادر النحوية وعيونَها وموسوعاتِها ، شاء الله لها أن ترى النور بنسبة عالية ، إذا ما قورنت بغيرها ، إلا أن ما بقي مما لم يظهر للوجود من العناوين، يدفع إلى القول إن هناك مهماتٍ جسيمةً تنتظر الإنجاز وَفق أولويات منضبطة ومنهج محكم ، وقد رأيت أن أقسم هذه الأولويات إلى أربعة أقسام: ( و هي أولويات تصدق على النحو كما تصدق على غيره من حقول المعرفة الإسلامية ) :
1- أولويات في مجال التحقيق
2- أولويات في مجال الدراسة
3- أولويات في مجال النقد والمراجعة
4- أولويات في مجال التطوير والتحديث
-----------
1- أولويات في مجال تحقيق النصوص :
يمثل التحقيق العلمي للتراث النحوي المنطلقَ ، ونقطة البدء لأي نهضة لغوية راشدة ، ولذلك بادر الأفراد والمؤسسات منذ ما يزيد عن القرن والنصف إلى جعل مسألة تحقيقه فوق كل اعتبار ، لكن العملية رغم حرص كثير من الجهات - أفرادا ومؤسسات - على تنظيمها ، ظلت تعاني من التلقائية والانتقائية والفوضى .
ويمكن معالجة الأمر وفق النظر في إنجاز ما يلي :
أ - فهرسة الأعمال المحققة تحقيقا جيدا :
تعتبر فهرسة الأعمال المحققة من أولوية الأولويات ، وإن الباحث في الدراسات النحوية ليستغرب حين لا يجد فهرسة كاملة شاملة قابلة للتحديث ، يعود إليها للتحقق من عمل ما ، فعلى الرغم من وجود بعض فهارس المطبوعات ، وفهارس الرسائل الجامعية إلا أنها لا تشفي غليلا ، فوق كونها مليئة بالتضارب والشطب ، ُمفهِرسة للمُنجز وغير المُنجز.
وعملية فهرسة المصادر النحوية المحققة ، مطبوعة ومرقونة - على يسرها وإمكانها - تعد من أجلّ الأعمال ، لأنها تزود الباحث بالمراد ، وتبعده عن التخبط والتكرار.
ويمكن الاستعانة في هذا السياق بالمفهرس الآلي العربي ، الذي يُمكِّن عن طريق الحاسوب من القيام بمجموعة من أصناف الترتيب ، وقد طورت شركة صخر هذا البرنامج الذي يحتوي على مستويات مختلفة من الفهرسة ، كما توجد به نسخة من html للإنترنت .
وهذا ما ُيمكّن من العمل الجماعي في الفهرسة - إذا استُحدث موقع للتراث النحوي على شبكة الإنترنت- دون عناء وبدقة عالية ، ويجعل الفهرسة متاحة لملايين المستخدمين ، ويُمكّن كل باحث من الإسهام فيها عن طريق مراسلة الموقع وإمداده بما يتم العثور عليه من جديد .
ب - فهرسة التراث النحوي غير المحققٍ ، مطبوعا ومخطوطا :
تتمثل النقطة الثانية في فهرسةِ التراث النحوي غير المحقق مطبوعا ومخطوطا وجمعِه على صعيد واحد ، انطلاقا من كتب التراجم والطبقات ، ومصادر التراث وفهارس الخزائن العامة والخاصة ، بحيث يصير مُزِّودا للأقسام العلمية بالمؤسسات الجامعية ، وُممِّدا للباحثين والمهتمين في كل مكان .
ومن المؤلم أن عددا من الغيورين على هذا التراث ينفقون ميزانيات ضخمة جدا في تصوير المخطوطات من شتى بقاع العالم ، لكنهم يعملون دون إحصاء ولا تخطيط ، بل إن كثيرا منهم يتنافس في تكثير سواد الممتلكات ، وفي المحصلة ، مخطوطات مكررة في عشرات المراكز بعشرات النسخ ، ويظل المفقود مفقودا ، والمبتور مبتورا ، وكان الأولى أن يتم التعاون على تصوير ما لم يصور ، والتكامل في اقتناء الموجود والبحث المشترك عن المفقود ، ترشيدا للإنفاق وتسديدا للجهود !
جـ - ترتيب ما ينبغي تحقيقه وفهرسته وفق الأولويات :
لا بد من ترتيب ما ينبغي تحقيقُه بعد جمعه وفهرسته وَفق أولويات ، وقد بدا لي أن الأولويات يمكن أن نستخلصها من مقاصد التأليف في تراثنا العربي والإسلامي ، والتي رصدها عدد من الأئمة منهم ابن خلدون في سبعة مقاصد :
1- استنباط العلم بموضوعه ، وتقويم أبوابه وفصوله (7) ( كما فعل سيبويه في علم النحو ، والشافعي في علم الأصول ، وابن جني في علم اللغة ، والجرجاني في علم البلاغة ... ) فتحقيق المخطوط التي هذه أوصافه مقدم على غيره ، لأنه مُؤسس للعلم مُبدع فيه ، غير مسبوق إليه (8)
2- شرح ما استغلق من كتب الأولين ( مثل شروح كتاب سيبويه ، وشروح كتاب الجمل ، وشروح المفصل ، وشروح التسهيل ...) وهذا الضرب يأتي في المرتبة الموالية ، لأنه يقوم على غيره ، فلا ينبغي أن يتقدم عليه .
3- تصحيح أخطاء من تقدم ( مثلما فعل الغندجاني في فرحة الأديب ، حيث نبه على أخطاء السيرافي في شرحه لشواهد سيبويه ، ومثلما فعل ابن هشام اللخمي الذي نبه على أخطاء الأعلم الشنتمري في شرحه لشواهد الكتاب ، ومثلما فعل أبو عبيد البكري في كتابه " التنبيه على أوهام القالي في أماليه " ، ومثلما فعل ابن بري في كتابه " التنبيه والإيضاح عما وقع في الصحاح ...) وهذا النوع يلي في الترتيب سابقيه .
4- إتمام ما نقص من مسائلَ وأبوابٍ وفصول في فن بعينه ( مثلما فعل الزبيدي في كتابه الاستدراك على أبنية سيبويه ...)
5- ترتيب مسائل في أبوابها ، مثلما فعل السيوطي في الأشباه والنظائر...
6- جمع ما تفرق من مسائل في أبوابها ، مثل صنيع السيوطي ، والمتأخرين من النحويين ...
7 - تلخيص المسهب والمكرر، وتناوله بالاختصار والإيجاز ( مثل اختصار الزبيدي لكتاب العين ، وتلخيص القزويني في علم البلاغة ، واختصار السيرة لابن كثير وتلخيص ابن مالك للكافية الشافية ...)
وقد ختم ابن خلدون حديثه عن أصناف التواليف قائلا :" فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف ومراعاتها ، وما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه ، وخطأ عن الجادة التي يتعين سلوكها في نظر العقلاء ، مثل انتحال ما تقدم لغيره من التواليف بأن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس من تبديل الألفاظ وتقديم المتأخر وعكسه ... أو يأتي بما لا فائدة فيه ، فهذا شأن الجهل والقحة " (9)
وهذا الذي عده ابن خلدون جهلا وقحة ، هو إفساد للعلم ، ومضيعة للجهد والوقت والحبر والورق ، وهو تخسير للكاغد على حد تعبير الإمام ابن عرفة .
إن هذا المعيار الذي رسمه ابن خلدون لمقاصد التأليف يضع الكتابة العلمية وفق ترتيب معقول ، فالمبدع في العلم المستنبط له ليس كالشارح أو المستدرك أو الجامع ... ولذلك يمكن اعتماده منهجا في ترتيب الأولويات عند اختلاط الأمر ، أو تراكم المادة العلمية المخطوطة ، فيكون الترتيب على الشكل الآتي :
المُبدع في العلم أولا ، ثم المُكمل ، ثم المُصحح ، ثم الشارح ، ثم المُختصِر ثم الجامع للمتفرق ، ثم المُرتب للمنثور، أما الناقل أو المدلس فلا مكان له في سلم الأولويات .
د- التنسيق في عملية التحقيق بين المؤسسات والأفراد :
لا شك أن تراثنا العربي بحاجة ماسة إلى قراءة معرفية تضع اليد على مواطن القوة والضعف فيه ، وتنبه على المعتمد والمردود منه ، وهو بحاجة ماسة كذلك إلى جهود جماعية لخدمته وإحيائه ، ومع مرور ما يزيد عن قرن من الزمان على نشأة هذا الإحساس ، فإن هذا الحقل مازال يعرف انعداما في التخطيط ، وتلقائية في الفعل ، وغيابا في الرؤية وفقدانا للمنهج العلمي الدقيق .
ومع وفرة المؤسسات القائمة على تحقيق التراث في العالم العربي والإسلامي ، إلا أن التنسيق بينها يكاد يكون منعدما ، كما أن عامل الزمان لديها مهدر ، فقد شُرع في طبع كتاب " نهاية الأرب في فنون الأدب " للنويري منذ سنة 1910، وما تزال بعض أجزائه تنتظر الفرج ، كما استغرق تحقيق " خزانة الأدب " للبغدادي ما يقارب نصف قرن من الزمان ، ومازال شرح السيرافي لكتاب سيبويه على جلال قدره وسعة علمه ينتظر، ومازال شرح التذييل والتكميل لأبي حيان مع خطورته ، تحقيقه لم يستقر !
إن تحديد الأولويات وترشيد عمل المحققين يبعد حركة التحقيق عن السقوط في المتاهات والتخبط بين ملايين المخطوطات التي لا تستحق - يقينا- أن يبذل فيها ما يبذل في غيرها من الجهد .
وهذا العمل يجب أن يتم بالمنهج العلمي الدقيق وبالرؤية الحضارية المطلوبة ، بعيدا عن عقلية الناشرين ومصلحتهم ، وبعيدا عن هوى الذين يعملون في حقل التراث ورغباتهم ، ممن دفعت بهم الأقدمية والترقيات والدرجات العلمية إلى مراكز التحكم ، والذين كثيرا ما يختارون المخطوطات المرشحة للتحقيق أو النشر، بناء على الاسم الرنان للكتاب أو الشهرة لصاحبـه ... ضـاربين صفـحا عن القيمـة العلميـة لما ينشر غالــــبا (10) .
إن غياب استراتيجية لمباشرة التراث تحقيقا ودراسة يعرقل عملية إخراجه للوجود ، ويعرقل من ثم حركية الأمة وفكرها ، كما أن الرسائل المنجزة في التحقيق لا قيمة لها ما لم تنشر، لأنها تنقل من رف إلى رف آخر ، ومن مخطوط إلى مرقون !
وغياب التنسيق بين المراكز والجامعات يؤدي إلى إعادة تحقيق ما حقق مرات ، في جهات مختلفة من الوطن العربي ، وفي كثير من الأحيان في البلد الواحد ، إن لم يكن في الجامعة أو المؤسسة الواحدة !
وما حقق وصرفت فيه الجهود مما لا يضيف جديدا للفن الذي ينسب إليه ، يعد عملا في غير موضعه إن لم نقل عملا ضائعا وجهدا مبددا .
إن من القيم الحضارية المهمة التي شاعت في هذا العصر ما سمي بالعمل المؤسسي ، وهو عمل جماعي منظم يشارك في إنجازه عادة المؤسسات ، أو مجموعات منظمة من الأفراد ، وهو بذلك من صفات المجتمع المفتوح ، الذي يهيئ لتنمية قدرات الأفراد والجماعات وإمكاناتهم وتعبئتها إلى القدر الكافي ، لتلبية الحاجات ومواجهة التحديات (11)
والتراث العربي بحاجة ماسة إلى الأعمال الجماعية ، التي يجب أن تسري روحها بين العاملين والمهتمين بقضاياه ، وحتى لا تضيع الجهود أو تتكرر لابد أن تقوم على العمل المؤسسي ، فهذا العصر أصبح لا يقيم وزنا للجهود الفردية " كما أن ردود الفعل التي يبديها الناس لمواجهة المشكلات الكبرى لا تكون فاعلة ومؤثرة إلا إذا قامت على تنظيم الجهود واجتماعها ، وحسن التنسيق بينها ، واختيار أحسن الوساءل والمؤسسات والنظم والأساليب ، ثم المضي في استعمالها وتعديلها وتقويمها لتناسب متطلبات المواقف المختلفة (12)
وفي هذا السياق كان أستاذنا الدكتور الشاهد قد اقترح على " مركز زائد للتراث والتاريخ " تنظيم مؤتمر دولي تحت مسمى ( المؤتمر العالمي الأول لتنسيق حركة تحقيق المخطوطات العربية في العالم ) وسطر للمؤتمر الأهداف الـتالية :
تنظيم حركة السير في مجال تحقيق المخطوطات العربية في العالم
الاتفاق على خطة تحقيق ونشر علمية منهجية شاملة متكاملة .
التخطيط لإنشاء المركز الجامع لصور المخطوطات العربية في العالم ، والشبكة التابعة له .
البت في تأسيس : مكتب تنسيق حركة تحقيق المخطوطات العربية في العالم وما يتعلق به (13)
ومما لا شك فيه أن عملا من هذا النوع خطوة جبارة في الاتجاه الصحيح ، تعود بالنفع على كل الحقول المعرفية لتراثنا الإسلامي ، ومنها النحو .
2 - أولويات في مجال الدراسة :
تحقيقُ التراث خطوةٌ أولى يجب أن تتلوها خطوات ، وهو ليس هدفا في حد ذاته ، وإنما هو وسيلة لتمكين الباحثين من تصفح هذا التراث وقراءته بجميع أنواع القراءة ، ودراسته ونقده واستخلاص ما يفيد الأمة في عملية البناء ، وقد ظهر لي أن من أولويات البحث في تراثنا النحوي - بعد التحقيق - الدراسة ، فكثير من الزوايا مازال يلفها الظلام ، وما زالت في منأى عن الباحثين ، لا تطأ حماها قدم ، إما لوعورة مسالكها أو عسر مادتها أو لاستعجال الباحثين ... وقد رأيت أن أسجل بعض الأولويات في مجال الدراسة على الشكل الآتي :
أ - دراسة المصادر الأصلية غير المدروسة :
مازالت كثير من الدراسات النحوية تدور في فلك التجميع والترديد والاجترار منذ ما يقارب القرن من الزمان ، حيث تضخم الإنجاز وكثر الـتأليف وانعدمت الأصالة والتمثل العلمي للتراث ، مئات العناوين لا تجد فيها راحلة ، في حين يمر الباحثون على مجالات بكر وهم عنها معرضون ، إن كتب الحواشي و الأمالي وكتب الخلاف وكتب الطبقات وكتب المجالس والمناظرات ... حافلة بمادة نحوية غزيرة يجلي البحث فيها ضروبَ التأليف ومناهجَ التصنيف ، وقد تُسعف في فهمٍ أدق لمنظومة النحو العربي .
ب - دراسة المصادر الفرعية للنحو العربي :
للنحو مصادر قلما يرتادها الباحثون ، يمكن اعتبارها فرعية ، كـ : كتب التفسير والقراءات والنقد الأدبي والشروح ، شروح الحديث والأشعار... هذه المؤلفات غنية بالمادة النحوية ، وخطيرة في بيان ما اصطلح على تسميته بنحو النص ، فهي تعالج النحو لا معالجة الجمل كما تصنع كتب القواعد ، وإنما انطلاقا من تداخل الجمل وتشابكها وتلاحمها وتعقد طبقاتها وبناها ، وهي تمثل المجال التطبيقي للنظرية النحوية العربية ، ولذلك يعتبر البحث فيها من الأولويات في مجال الدراسة .
وفي هذا السياق يمكن للمتخصصين رصد قائمة من البحوث والقضايا - قابلة للتحديث - لم تدرس ، انطلاقا من المصادر الأصلية أو الفرعية للنحو العربي ، وترتيبها وإمداد الباحثين وطلبة الدراسات العليا بها .
فضلا عن العناية بالمصطلحات النحوية تكشيفا وفهرسة ، ودراستها دراسة علمية باعتبارها مفاتيح العلم وثماره القصوى ، والعناية بالمدارس النحوية وأسسها النظرية والمنهجية ، كالمدارس العجمية على سبيل المثال ( مدرسة فارس ، مدرسة جرجان ...)
إن مثل هذه الدراسات من شأنها أن تجلي ملامح النظرية النحوية العربية وأسسها المنهجية ، لتوظيفها في تطوير النحو وتطويعه للاستجابة للمعالجة الآلية .
3 - أولويات في مجال النقد والتقويم :
أ - نقد القدماء للنحو العربي وتقويمه :
إن عملية المراجعة والتقويم للدرس النحوي ، على امتداده وخطورته زمانا وإنجازا، تقتضي عدم إغفال أي فئة ممن كتب لهم أن يدرسوا هذا العلم ، كما تقتضي استحضار كل ما قيل في هذا العلم نقدا وتوجيها وإطراء ، باعتبار أن المراجعة مطلب حضاري ، وشرط من شروط أي نهضة ، ودليل حياة وحركة بالنسبة للأمم والمجتمعـات ، وأولوية من أولويات الدرس .
لقد أدرك علماؤنا قديما ما تضمنه النحو من صعوبات فقد أدركوا أن بعض مصادره كانت تعاني من الاضطراب في تتالي الأبواب ، و في توزيع جزئيات الباب الواحد ، فضلا عن الغموض في العناوين ، مع غياب الدقة في المصطلحات ، وصعوبة الاهتداء إلى المسائل ، وعدم التطابق بين العنوان وما تحته ، ويمثل كتاب سيبويه خير نموذج لهذه الأحكام ، مع أنه يمثل أكمل وأنضج محاولة في التأليف النحوي قديما وحديثا ! (14)
فقد روى أبو العباس المبرد عن المازني أنه قال :" قرأ عليَّ رجلٌ كتاب سيبويه في مدة طويلة ، فلما بلغ آخره قال لي : أما أنت فجزاك الله خيرا ، وأما أنا فما فهمت منه حرفا (15)
ولهذا انبرى الخلق لشرح هذا الكتاب والتعليق عليه وشرح عيونه وغريبه ونكته والاستدراك على ما فاته من الأبنية ...
كما تعاني معظم كتب النحو من الطول المفرط الناشئ عن التكرار والاستطراد والحشو ومعالجة المسائل الأجنبية التي لا صلة لها بالنحو ، فضلا عن الشغف بالمناقشات والجدل والإغراق في تتبع العلل والإكثار من التقسيمات والتفريعات (16)
ومن نماذج ذلك على سبيل المثال ، أن الأشموني أوصل معمول الصفة المشبهة إلى 72 صورة ، منها جائز وممتنع ، ولكن الصبان أبى إلا أن يبزّ الأشموني في عدد الأقسام ، فأوصلها مع تحري الدقة والأمانة إلى 14256 صورة (17)
لم تغب هذه الصعوبات ومثيلاتها عن إدراك القدامى أنفسهم ، فقد استجابوا تلقائيا لدعوة التيسير على مر القرون - على المستويين النظري والتطبيقي- فكانوا يؤلفون المؤلفات الضخمة للمتخصصين ، ويؤلفون للناشئة متونا ومختصرات مهذبة .
فقد ألف خلف الأحمر " مقدمة في النحو " قال في بدايته :" لما رأيت النحويين وأصحاب العربية قد استعملوا التطويل وأكثروا العلل ... أمعنت النظر في كتاب أؤلفه وأجمع فيه الأصول والأدوات والعوامل على أصول المبتدئين ، ليستغني به المبتدئ عن التطويل (18)
وتطالعنا في كتب التراجم والفهارس عناوين كثيرة تدل على أن القدماء كانوا يدركون بعض مصادر الصعوبة في تعلم النحو ، وأن تيسير النحو للناشئة أمر لا مناص منه !
فقد ألف الكسائي مختصرا في النحو ، وألف ابن خياط الموجز في النحو ، وألف ابن النحاس التفاحة ، وتذكر المصادر لابن جني : اللمع ، ولابن قتيبة : تلقين المتعلم ، ولابن خالويه : المبتدئ ، ولابن درستويه : الإرشاد في النحو ، وللمفضل ابن سلمة : المدخل إلى النحو ، وللزبيدي : الواضح في النحو ، وللمطرِّزي : المصباح ، وللشلوبين : التوطئة ولأبي الفرج الصقلي : مقدمة في النحو ...
وهي مؤلفات يظهر من عناوينها رغبة مؤلفيها في التيسير والإيضاح والإرشاد ، كما يطغى عليها الجانب التعليمي !
هذا على المستوى التطبيقي ، أما على المستوى النظري ، فقد وجدت أيضا حركة إصلاح يمكن تلمس خيوطها عند نحاة كبار من أمثال ابن حزم ، وابن مضاء ، وابن رشد ، وابن الأثير ، وابن خلدون ...
فقد كان ابن حزم يرى أن التعمق في النحو فضول لا منفعة فيه ، بل مشغلة عن الأوكد ، ومقطعة عن الأوجب (19)
وألف ابن مضاء كتابه " الرد على النحاة " الذي قال في مقدمته :" قصدي في هذا الكتاب أن أحذف من النحو ما يستغني النحوي عنه ، وأنبه على ما أجمعوا على الخطأ فيه " وانتقد نظرية العامل ووصفها بأنها باطل عقلا وشرعا ولا يقول بها أحد من العقلاء (20)
كما ألف ابن رشد " الضروري في صناعة النحو " وجعل غرضه من الكتاب أن يذكر" من علم النحو ما هو كالضروري لمن أراد أن يتكلم على عادة العرب في كلامهم ، ويتحرى في ذلك ما هو أقربُ إلى الأمر الصناعي ، وأسهل تعليما ، وأشد تحصيلا للمعاني (21) وقد أشار في كتابه إلى التداخل بين الموضوعات والمستويات في كتب النحو العربي ، وهو تقصير يَرجع سببه - كما يرى - إلى أن النحاة " لم يستعملوا في إحصاء أنواع الإعراب القسمة الصحيحة التي لا يعرض فيها تداخل...(22)
كما ذهب ابن الأثير إلى أن واضع النحو جعل الوضع عاما " فإذا نظرنا إلى أقسامه المدونة وجدنا أكثرها غيرَ محتاج إليه في إفهام المعاني (23)
وكان الجاحظ قبل هؤلاء، يوصي المعلم بأن يترفق بالصبيان في تعليم النحو، يقول : " أما النحو فلا تشغل قلب الصبي منه إلا بقدر ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن ... وما زاد على ذلك فهو مشغلة عما هو أولى به ... " إلى أن قال :" وعويص النحو لا يجري في المعاملات ولا َيضطر إليه شيء (24)
والجدير بالذكر هنا ، أن علماء النحو القدماء - رغم ما ذكر - لم يدركوا من هذه الصعوبات إلا القليل ، لقربهم من عصور السلامة ، وقدرتهم على تحصيل الملكة " وحتى تلك العيوب المحدودة لم تنل منهم اهتماما كافيا ، فقد عالجوها فرادى ، من غير أن يعرض لها إمام بالتجميع والحصر ووصف العلاج ... على كثرة الأئمة الباحثين ، وفيض الكتب والرسائل التي تتصدى للنحو وقضاياه (25)
يتبع