مشاهدة النسخة كاملة : تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي
صفاء الدين العراقي
2019-08-03, 10:18 AM
قال الشيخ الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآباذي رحمه الله:
الْحَمدُ للهِ حقَّ حَمدِه وَصلوات الله على مُحَمَّد خير خلقِهِ وعَلى أصحابه وأهل بَيتهِ.
لما رَأَيْت حَاجَة من يتفقه ماسّة الى معرفَة مَا يُعْتَرضُ بِهِ على الأدلة وَمَا يُجَاب بِهِ عَن الاعتراضات، وَوجدت مَا عملت من الملخص فِي الجدل مَبْسُوطا، صنفت هَذِه الْمُقدمَة لتَكون مَعُونَةً للمبتدئينَ وَتَذْكِرَة للمنتهينَ، مجزية فِي الجدل، كَافِيَة لأهل النّظر، وقدمّت على ذَلِك بَابا فِي بَيَان الأدلة ليَكُون مَا بعده من الاعتراضات والأجوبة على ترتيبهِ.
وَمَا توفيقي إلا بِاللَّه عَلَيْهِ توكّلت وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل، وإيّاه أسأَل أَن ينفع بِهِ فِي الدُّنْيَا والآخرة إنه قريب مُجيبٌ.
أقول: علم الجدل من العلوم التي تكاد تموت في هذا العصر مع أن حاجة من يتفقه إليه ماسّة كما قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله، وإن كتاب المعونة في الجدل من أفضل ما صنف في هذا العلم، ولم أجد له شرحا ولا حاشية، وكان قد سألني بعض الأصحاب أن أشرحه له فرأيت أن أكتب عليه ما يفتح الله به وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت هو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
علم الجدل: مسائل يبحث فيها عن الأدلة الشرعية الإجمالية من حيث ما يعترض به عليها وما يجاب به.
وموضوعه: الأدلة الشرعية الإجمالية من حيث الاعتراضات الواردة والأجوبة عنها.
وفائدته: معرفة طريق المناظرة في الفروع الفقهية.
وهذا العلم من فروع علم المناظرة إلا أنه خصّ بالأدلة الشرعية الإجمالية كالكتاب والسنة والإجماع والقياس.
مثاله: من مسائل علم الجدل"أن الاعتراض على دليل الخصم بأنه مبني على قاعدة أصولية لا يحتج هو بها اعتراض موجّه مقبول"
كأن يحتج الحنفي على حكم شرعي بآية من كتاب الله ويتوقف الاحتجاج بها على القول بمفهوم المخالفة، وهو يصرح في علم أصول الفقه بأنه ليس بحجة فيتوجه الاعتراض عليه بذلك.
ثم يبين في هذا العلم بماذا يمكن أن يدفع هذا الاعتراض كأن يخصص بعض المفاهيم بأن يقول الحنفي إن مفهوم المخالفة أنواع ومنه مفهوم الشرط وهو عند بعض أصحابنا حجة دون البقية وأنا أقول به.
فالفقهاء قد يحتجون على الحكم بآية أو حديث أو إجماع أو قياس فيبين في هذا العلم الاعتراضات المقبولة التي يصح الاعتراض بها على دليلهم، ثم يبين ما يمكن أن يجاب به عن تلك الاعتراضات.
صفاء الدين العراقي
2019-08-03, 10:31 AM
بَابُ بَيَانِ وُجُوهِ أدلَّةِ الشَّرْع
وأدلة الشَّرْع ثَلَاثَة: أصلٌ، ومعقولُ أصلٍ، واستصحابُ حَال.
فالأصلُ ثَلَاثَةٌ: الْكتابُ، وَالسّنةُ، والإجماعُ. وأضاف اليه الشَّافِعِيُّ رَحمَه الله فِي الْقَدِيم قَولَ الْوَاحِد من الصَّحَابَة فَجعله أربعة.
أقول: قبل بيان الاعتراضات والأجوبة أراد أن يبين الأدلة بشكل مختصر.
فأدلة الشرع هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب.
وقسمه المصنف إلى ثلاثة: أصل ومعقول أصل- القياس- واستصحاب حال.
فالأصل ثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع.
وأضاف إليه الإمام الشافعي رحمه الله في قوله القديم قول الواحد من الصحابة فإنه حجة يقدم على القياس، فإن اختلفوا كان اختلافهم كاختلاف الحجج- كأن يختلف حديثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيرجح أحدها من خارج، فجعل الأصل أربعة، وأما في القول الجديد فلم يحتج بقول الواحد من الصحابة واختلافهم كاختلاف المجتهدين لا كاختلاف الحجج.
صفاء الدين العراقي
2019-08-03, 05:00 PM
فأما الْكتابُ فدلالته ثَلَاثَة النَّص وَالظَّاهِر والعموم.
فالنَّصُّ هُوَ :اللَّفْظُ الَّذِي لَا يحْتَمل إلا معنى وَاحِدًا.
كَقَوْلِه تَعَالَى {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} {وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} وَمَا أشبهَ ذَلِك مِمَّا لَا يحْتَملُ إلا معنىً وَاحِدًا.
وَحكمه أن يُصَار إليه وَلَا يتْرك إلا بِنَصّ يُعَارضهُ.
أقول: المنطوق إما أن لا يحتمل إلا معنى واحدا، وإما أن يحتمل، فالذي لا يحتمل إلا معنى واحدا هو النص مثل: هذا زيدٌ، والذي يحتمل إما أن يكون أحد المعاني أظهر فيه، وإما أن لا يكون أحد المعاني أظهر فيه، فالأول هو الظاهر مثل: جاء الأسدُ، يحتمل الحيوان والشجاع، لكنه في الحيوان أظهر لأنه حقيقة اللفظ، والثاني هو المجمل مثل: هذا جون، يحتمل الأبيض والأسود.
وأما العام فهو مندرج في الظاهر؛ لأن الظاهر ما احتمل أمرين وهو في أحدهما أظهر، والعام ظاهر في العموم، محتمل في الخصوص.
ومن دلالة النص قوله تعالى: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} وقوله {وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} وقوله: { محمد رسول الله} وقوله: { ولكم نصف ما ترك أزواجكم} ونحوها من النصوص الصريحة في بيان الأحكام التي لا تحتمل إلا المعنى المفهوم من منطوقها.
وَحكم النص أن يُصَار إليه ويعمل به وَلَا يتْرك إلا بِنَصّ يُعَارضهُ فيصار حينئذ إلى النسخ أو الترجيح.
صفاء الدين العراقي
2019-08-03, 05:02 PM
وَالظَّاهِرُ: كلُّ لفظٍ احْتملَ أمرينِ وَهُوَ فِي أحدهما أظهر.
وَهُوَ ضَرْبَانِ: ظَاهرٌ بِوَضْع اللُّغَة. كالأمر يحْتَمل الإيجابَ وَيحْتَمل الندبَ إِلَّا أنه فِي الإيجاب أظهر، وكالنهي يحْتَمل التَّحْرِيم وَيحْتَمل الْكَرَاهَة والتنزيه إلا أنه فِي التَّحْرِيم أظهر، وكسائر الألفاظ المحتملة لمعنيين وَهُوَ فِي أحدهما أظهر. وَحكمه أن يحمل على أظهر الْمَعْنيين وَلَا يحمل على غَيره إلا بِدَلِيل.
وَظَاهرٌ بِوَضْع الشَّرْع كالأسماء المنقولة من اللُّغَة إلى الشَّرْع كَالصَّلَاةِ فِي اللُّغَة اسْم للدُّعَاء وَفِي الشَّرْع اسْم لهَذِهِ الافعال الْمَعْرُوفَة، وَالْحج فِي اللُّغَة اسْم للقصد وَفِي الشَّرْع اسْم لهَذِهِ الأفعال الْمَعْرُوفَة وَغير ذَلِك من الأسماء المنقولة من اللُّغَة إلى الشَّرْع.
وَحكمه أن يحمل على مَا نُقل إليه فِي الشَّرْع وَلَا يحمل على غَيره إلا بِدَلِيل.
وَمن أصحابنا من قَالَ: لَيْسَ فِي الأسماء شَيْء مَنْقُول بل الصَّلَاة هِيَ الدُّعَاء وَالْحج هُوَ الْقَصْد وإنما هَذِه الافعال زيادات أضيفت إليها وليست مِنْهَا كَمَا أضيفت الطَّهَارَة إلى الصَّلَاة وَلَيْسَت مِنْهَا، فعلى هَذَا تحمل هَذِه الألفاظ على موضوعها فِي اللُّغَة وَلَا تحمل على غَيره إلا بِدَلِيل.
أقول: الظاهر: ما احتمل أمرين هو في أحدهما أظهر. كالأسد. وهو نوعان:
1- ظاهر بوضع اللغة كالأمر يحتمل الوجوب والندب ولكن المعنى الحقيقي الظاهر في وضع اللغة هو الإيجاب.
ومثل النهي يحتمل التحريم والكراهة إلا أنه في التحريم أظهر.
ومثل: الألفاظ التي تحتمل الحقيقة والمجاز إلا أنها في الحقيقة أظهر.
وحكم هذا النوع أنه يحمل على أظهر المعاني ولا يصار إلى غيره إلا بدليل، فإن وجد الدليل حمل على المعنى الثاني ويسمى حينئذ ظاهرا بالدليل.
وذلك مثل قوله عز وجل: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء. فلفظه موضوع للخبر إلا أن الدليل دلّ على أنه لا يجوز أن يكون المراد به الخبر؛ لأنا لو جعلناه خبرا لوقع خلاف مخبره؛ لأنا نرى من المطلقات من يتربصن، ومن لا يتربصن، وخبر الله سبحانه وتعالى لا يقع بخلاف مخبَره، فثبت أنه أراد به الأمر فيحمل على ذلك ولا يعدل عنه إلا بدليل. اهـ الملخص في الجدل.
2- ظاهر بوضع الشرع كالصلاة موضوعة في الشرع لهذه الأفعال وهي في اللغة للدعاء، والصوم موضوع في الشرع للإمساك المخصوص وهو في اللغة لمطلق الإمساك، والحج موضوع للأفعال المعلومة ومعناه في اللغة هو القصد.
وحكم هذا النوع أن يحمل في النصوص الشرعية على الوضع الشرعي إلا بدليل.
هذا هو القول المشهور.
ومن الشافعية من قال: ليس في الأسماء شيء منقول من اللغة إلى الشرع بل الصلاة في الشرع هي الدعاء إلا أن الشرع أضاف لها هذه الأفعال كالركوع والسجود، وهي ليست منها، كما أضاف الشرع الطهارة للصلاة وليست منها اتفاقا.
وكذلك الحج اسم للقصد، والطواف والسعي زيادات أضيفت إلى الحج وليست من الحج بل هي شروط في الاعتداد به شرعا. وكذا القول في الصوم والزكاة ونحوهما.
فعلى قولهم تحمل هذه الألفاظ على معناها اللغوي ولا تحمل على غيره إلا بدليل.
والدليل على أن هذه الأسماء منقولة كما هو قول الجمهور أنها إذا أطلقت في لسان الشرع لم يعقل ويتبادر منها المعاني التي وضعت لها في اللغة، فدل على أنها منقولة إذْ لا يفهم من قوله تعالى: وأقيموا الصلاة. أن المقصود أقيموا الدعاء.
صفاء الدين العراقي
2019-08-04, 03:37 PM
والعمومُ: كلُّ لفظٍ عَمَّ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا على وَجهٍ وَاحِدٍ لَا مزيَّة لأحدهما على الآخر.
وألفاظُهُ أربعةٌ: أسماء الجموع كالمسلمين وَالْمُشْرِكين والأبرار والفجّار.
وَالِاسْم الْمُفْرد إذا عرِّف بالألف وَاللَّام كَالرّجلِ وَالْمَرْأَة وَالْمُسلم والمشرك.
وَمن أصحابنا من قَالَ: لَيْسَ هَذَا من ألفاظ الْعُمُومِ.
والأول أصحّ.
والأسماء المبهمة كـ "مَن" فِيمَن يعقل وَ"مَا" فِيمَا لَا يعقل وَ"أيّ" فِي الْجَمِيع وَ"حَيْثُ" وَأَيْنَ" فِي الْمَكَان وَ"مَتى" فِي الزَّمَانِ.
وَالنَّفْي فِي النكرات كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا يقتلُ مُسلمٌ بِكَافِر. وَمَا رَأَيْتُ رجلا وَمَا أشبهه.
فَحكم هَذِه الألفاظ أن تحمل على الْعُمُوم وَلَا يخصّ مِنْهُ شَيْءٌ إلا بِدَلِيل.
أقول: ذو العموم وهو اللفظ العام: اللفظ الذي عمّ شيئين فصاعدا، على وجه واحد لا مزية لأحدهما على الآخر. مثل: الرجال.
وقوله: "على وجه واحد" أي يتناولها تناولا واحدا احترز به عن تناول اللفظ المشترك لمعانيه مثل: تناول لفظ القرء للحيض والطهر فإنه لا يسمى عاما لأنه على البدل.
وقوله: "لا مزية لأحدهما على الآخر" يخرح تناول اللفظ لحقيقته ومجازه معا فإن للحقيقة مزية على المجاز فليس عاما.
وصيغ العموم أربعة:
1- أسماء الجموع- أي اللفظ الدال على جماعة- كالمسلمين والمشركين والأبرار والفجار.
2- الاسم المفرد إذا عرف بالألف واللام كالرجل والمرأة والمسلم والمشرك والسارق والقاتل.
ومن أصحابنا من قال: إن الاسم المفرد المعرف بالألف واللام يحمل على العهد ولا عموم فيه.
والقول الأول أصح لأن الله تعالى يقول: إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا. والاستثناء دليل العموم.
مثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: استنزهوا من البول. رواه الحاكم. فقيل إن البول عام ولذا استدل به على نجاسة جميع الأبوال. وأما من قال بطهارة بول المأكول كالإمام مالك فيمنع العموم.
3- الأسماء المبهمة كمَن فيمن يعقل وما فيما لا يعقل وأي في الجميع العاقل وغير العاقل، وحيث وأين في المكان، ومتى في الزمان.
4- النفي في النكرات مثل: لا رجل في الدار وما رأيت رجلا وما عندي شيء.
ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: لا يقتل مسلم بكافر. رواه البخاري فيعم كل كافر ذميا أو معاهدا أو مستأمنا.
وحكم هذا النوع أن يحمل على العموم ولا يخص من العموم شيء إلا بدليل.
صفاء الدين العراقي
2019-08-05, 07:25 PM
وأما السّنة فدلالتها ثَلَاثَة: قَولٌ وَفعل وإقرار.
فَالْقَوْلُ على ضَرْبَيْنِ: مُبْتَدأ، وخارج على سَبَبٍ.
فالمبتدأ يَنْقَسِم إلى مَا يَنْقَسِم إليه الْكتاب من النَّص وَالظَّاهِر والعموم.
فالنصُّ كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام فِي أربعينَ شَاة شَاةٌ. وَمَا أشبهه.
فَحكمه أن يُصَار إليه وَلَا يتْرك إلا بِنَصّ يُعَارضهُ.
وَالظَّاهِر كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: حتِّيه ثمَّ اقرصيه ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ. فَيحمل على الْوُجُوب وَلَا يصرف إلى الِاسْتِحْبَاب إلا بِدَلِيل.
والعموم كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: مَنْ بدّل دينه فَاقْتُلُوهُ. فَيحمل على الْعُمُوم فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء وَلَا يخص إلا بِدَلِيل.
وَالْخَارِجُ على سَبَب ضَرْبَان: مُسْتَقِلٌّ دون السَّبَب كَمَا رُوِيَ أنه قيل لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام: إنك تتوضأ من بِئْر بضَاعَة وإنما يطْرَح فِيهَا دم المحايض وَلُحُوم الْكلاب وَمَا يُنجي النَّاس فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: المَاء طهُور لَا يُنجسهُ شَيْء.
فَحكمُهُ حكم القَوْل المبتدأ.
وَمن أصحابنا من قَالَ: يقصر على السَّبَب الَّذِي ورد فِيهِ وَلَيْسَ بِشَيْء.
وَضرب لَا يسْتَقلّ دون السَّبَب كَمَا رُوِيَ أن أعرابيا قَالَ لَهُ: جامعتُ فِي شهر رَمَضَان بِالنَّهَارِ. فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَة.
فَيصير قَول الرَّسُول مَعَ السَّبَب كالجملة الْوَاحِدَة كَأَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: اذا جامعتَ فاعتقْ.
أقول: السنة قول وفعل وإقرار.
والقول ضربان: مبتدأ لم يقع على سبب، وخارج على سبب.
1- المبتدأ وهو ثلاثة أقسام: نص وظاهر وعام.
مثال النص قوله عليه الصلاة والسلام: في كل أربعين شاة شاة. رواه أبو داود. ومثل: قوله: فيما سقت السماء والأنهار والعيون العشر. رواه مسلم.
فحكمه أن يصار إليه ولا يترك إلا بنص يعارضه.
ومثال الظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ. رواه البخاري ومسلم. وظاهر الأمر يقتضي الوجوب.
وحكم هذا النوع هو أن يصار إلى ما ظهر منه ولا يعدل عنه إلا بدليل.
ومثال العموم: قوله عليه الصلاة والسلام: من بدل دينه فاقتلوه. رواه البخاري. فيعم الرجال والنساء.
وحكم هذا النوع هو أن يصار إلى عمومه ولا يخص منه شيء إلا بدليل.
2- الخارج على سبب. وهو ضربان: مستقل، وغير مستقل.
أ- المستقل وهو الذي إذا روي مفردا عن السبب عقل معناه وعرف المراد منه. كما في الحديث أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من بئر بضاعةَ وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنَّتنُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماء طهور لا ينجّسه شيء. رواه أبو داود. فقوله: الماء طهور لا ينجسه شيء. مستقل يصح الاستدلال به في غير محل وروده ولا يقصر على السبب الذي ورد فيه.
وحكم هذا النوع حكم القول المبتدأ.
ومن أصحابنا من قال: يقصر على السبب الذي ورد فيه.
وليس بشيء لأن اللفظ عام فوجب حمله على عمومه.
ب- غير مستقل وهو الذي إذا أفرد عن السؤال لم يعرف معناه وافتقر إلى معرفة المراد الذي ضم السؤال إليه.
كما في حديث الأعرابي الذي جامع أهله في رمضان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتق رقبة. رواه البخاري ومسلم. فهذا الجواب يكون مقصورا على ما وقع السؤال عنه فيختص به ولا يتعداه إلى غيره؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "أعتق رقبة". لا يعقل معناه إذا روي مفردا عن السبب لأنه معلق على شرط يعلم من سبب الحديث.
وحكم هذا النوع أنه يصير قول النبي صلى الله عليه وسلم مع السبب كالجملة الواحدة كأنه قال: إذا جامعت فأعتق.
صفاء الدين العراقي
2019-08-05, 07:27 PM
وأما الْفِعْلُ فضربانِ:
أحدهما: مَا فعله على غير وَجهِ الْقُرْبَةِ كالمشي والأكلِ وَغَيرِهمَا فَيدلُّ على الْجَوَاز.
وَالثَّانِي: مَا فعله على وَجه الْقرْبَة فَهُوَ على ثَلَاثَة أضرب:
أحدها: أن يكون امتثالا لأمر فَيُعْتَبر بذلك الأمر إن كَانَ وَاجِبا فَهُوَ وَاجِب، وإن كَانَ ندبا فَهُوَ ندب.
وَالثَّانِي: أن يكون بَيَانا لمجمل فَيعْتَبر بالمبيّن إن كَانَ وَاجِبا فَهُوَ وَاجِب، وإن كَانَ ندبا فَهُوَ ندبٌ.
وَالثَّالِث: أن يكون مُبْتَدأ فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه:
أحدهما: أنه يَقْتَضِي الْوُجُوب وَلَا يصرف إلى غَيره إلا بِدَلِيل.
وَالثَّانِي: أنه يَقْتَضِي النّدب وَلَا يصرف إلى غَيره إلا بِدَلِيل.
وَالثَّالِث: أنه على الْوَقْف فَلَا يحمل على وَاحِد مِنْهُمَا إلا بِدَلِيل.
أقول: فعل النبي صلى الله عليه وسلم نوعان:
أولا: ما فعله على غير وجه القربة والطاعة كالبيع والاكل والشرب والنوم فيدلّ على الجواز.
ثانيا: ما فعله على وجه القربة والطاعة كالصلاة والصوم والحج فهذا على ثلاثة أضرب:
1- أن يكون امتثالا لأمر.
2- أن يكون بيانا لمجمل.
3- أن يكون مبتدأ لا امتثالا لأمر ولا بيانا لمجمل.
فإن كان امتثالا لأمر كان معتبرا بذلك الأمر؛ فإن كان على الوجوب ففعله واجب، وإن كان على الندب ففعله ندب.
وإن كان بيانا لمجمل فهو أيضا معتبر بذلك المبيّن: إن كان ذلك المبين واجبا فهو واجب، وإن كان ندبا فهو ندب.
وإن كان فعله مبتدأ فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه:
أ- فمنهم من قال إنه يدل على الوجوب ولا يحمل على غيره إلا بدليل.
ب- ومنهم من قال إنه يدل على الندب ولا يحمل على غيره إلا بدليل.
ج- ومنهم من قال يجب التوقف فيه فلا يحمل على الوجوب ولا على الندب بل يحمل على ما دل عليه الدليل.
صفاء الدين العراقي
2019-08-05, 07:29 PM
وأما الإقرارُ فضربانِ:
أحدهما: أن يسمع قولا فَيقر عَلَيْهِ. كَمَا رُوِيَ أنه سمع رجلا يَقُول: الرجل يجد مَعَ امْرَأَته رجلا إن قتل قَتَلْتُمُوهُ وإن تكلم جلدتموه وإن سكت سكت على غيظ أم كَيفَ يصنع.
فَحكمُهُ حكمُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام وَقد بَيّناهُ.
وَالثَّانِي: أن يرى رجلا يفعل فعلا فيقره عَلَيْهِ. كَمَا رُوِيَ أنه رأى قيسا يُصَلِّي رَكْعَتي الْفجْر بعد الصُّبْح فأقره عليه.
فَحكمه حكم فعله وَقد بَيناهُ.
أقول: الإقرار نوعان:
أولا: أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم أحدا يقول شيئا فلا ينكره مثل قول الرجل: يا رسول الله إنْ أحدُنا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ. رواه أحمد.
فهذا حكمه حكم قوله عليه الصلاة والسلام فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي قاله.
ثانيا: أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم أحدا يفعل فعلا فلا ينكره عليه مثل ما جاء في سنن أبي داود أنه: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أصلاة الصبح مرتين ؟ " فقال الرجل : إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما، فصليتهما الآن، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدل على جوازه.
وحكم هذا النوع حكم فعله صلى الله عليه وسلم.
صفاء الدين العراقي
2019-08-06, 11:50 PM
وأما الإجماعُ فَهُوَ اتِّفَاقُ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ على حُكْمِ الْحَادِثَةِ. وَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أحدهما: مَا ثَبتَ بقولِ جَمِيعِهم. كإجماعِهِم على جَوَازِ البيعِ وَالشَّرِكَة وَالْمُضَاربَةِ وَغيرِ ذَلِكَ مِنَ الأحكامِ.
فَحكمه أن يُصَارَ إليه وَيُعْملَ بِهِ وَلَا يجوز تَركه بِحَالٍ.
وَالثَّانِي: مَا ثَبتَ بقول بَعضهم أوْ فعله وسكوتِ البَاقِينَ مَعَ انتشارِ ذَلِك فيهم.
فَذَلِك حجَّةٌ. وَهل يُسمى إجماعًا ؟ فِيهِ وَجْهَان.
وَقَالَ أبو عَليّ بنُ أبي هُرَيْرَةَ: إن كَانَ ذَلِك حكمًا مِن إمام أوْ قَاضٍ لم يكنْ حجَّةً، وإن كَانَ فتيا من فَقِيهٍ فَهُوَ حجَّةٌ.
والأوَّلُ أصحُّ.
أقول: الدليل الثالث هو الإجماع وهو: اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة. كإجماعهم على جواز البيع والشراء.
وهو لا ينعقد إلا عن دليل؛ فإذا رأينا إجماع أهل عصر على حكم حادثة علمنا أن هناك دليلا حملهم على إجماعهم عليه، وسواء عرفنا ذلك الدليل أم لم نعرفه، وسواء كان هذا الدليل كتابا أم سنة أم قياسا.
وهو نوعان:
الأول: الإجماع الصريح وهو أن تتفق أقوال الجميع على حكم الحادثة. مثل اتفاقهم على جواز البيع والشركة والمضاربة والضمان والحوالة وغير ذلك من الأحكام.
فهذا حكمه أن يصار إليه ويعمل به ولا يجوز تركه بحال.
الثاني: الإجماع غير الصريح وهو إذا وجد من بعضهم قول أو فعل وانتشر ذلك في الباقين وسكتوا عن معارضته ولم يظهروا خلافا.
فهل يكون ذلك إجماعا؟ وهل يكون ذلك حجة؟ فيه خلاف.
الصحيح أنه إجماع وأنه حجة. وذهب أبو بكر الصيرفي من أصحابنا إلى أنه حجة ولكن لا يسمى إجماعا.
وذهب أبو علي بن أبي هريرة من أصحابنا إلى أنه إن كان ذلك حكما من إمام أو حاكم فسكتوا عن مخالفته لم يكن ذلك حجة؛ لأن الاعتراض على الإمام والحاكم يعد سوء أدب، فلعل سكوتهم كان لذلك، وإن كان ذلك فتيا فقيه فسكتوا عنه فهو حجة.
والدليل على أنه حجة وأنه إجماع: أن العادة قد جرت أن أهل الاجتهاد إذا سمعوا جوابا من مجتهد ما عن حكم في مسألة حادثة اجتهدوا فأظهروا ما عندهم، فلما لم يظهروا الخلاف في جواب المجتهد غلب على الظن أنهم راضون بذلك موافقون له.
صفاء الدين العراقي
2019-08-06, 11:52 PM
وأمَّا قَولُ الْوَاحِدِ من الصَّحَابَةِ إذا لم ينتشرْ فَفِيهِ قَولَانِ:
قَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَيْسَ بِحجَّةٍ. فعلى هَذَا لَا يحْتَجُّ بِهِ وَلَكِن يرجَّحُ بِهِ.
وَقَالَ بعضُ أصحابنا: يحْتَجُّ بِهِ مَعَ قِيَاسٍ ضَعِيفٍ. وَلَيْسَ بِشَيْء.
وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: هُوَ حجَّةٌ. فعلى هَذَا يحْتَجُّ بِهِ، وَيقدَّمُ على الْقيَاسِ. وَهل يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
أقول: إذا قال بعض الصحابة قولا، ولم ينتشر ذلك في علماء الصحابة([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) ، ولم يعرف له مخالف، لم يكن ذلك إجماعا. وهل هو حجّة أو لا؟ فيه قولان:
قال الإمام الشافعي في الجديد: هو ليس بحجة. فعلى هذا لا يحتج به في إثبات الأحكام، ويقدم القياس عليه، ولكن يرجح به عند تعارض الأقوال والأدلة.
وقال بعض أصحابنا: يحتج بقول الواحد من الصحابي مع قياس ضعيف.
وليس بشيء؛ لأن قوله منفردا ليس بحجة، والقياس الضعيف ليس بحجة، فلا يجوز أن يترك بمجموعهما قياس هو حجة.
وقال في القديم: هو حجة. فعلى هذا يحتج به ويقدم على القياس، ويلزم التابعي -ومن بعده- العمل به ولا يجوز له مخالفته.
وعلى القول بأنه حجة هل يخص به عموم الآية أو الحديث؟ فيه وجهان لأصحابنا.
قال بعضهم: نعم يخص به عموم النصوص.
وقال بعضهم: لا يخص به العموم.
والدليل على أنه ليس بحجة أن الله سبحانه وتعالى إنما أمر باتباع سبيل جميع المؤمنين؛ فدل على أن اتباع بعضهم لا يجب.
فرع: إذا اختلفوا على قولين: فإن قلنا: إن قول الصحابي ليس بحجة، لم يكن قول بعضهم حجة ووجب الرجوع إلى الدليل.
وإن قلنا: إن قول الصحابي حجة، فهما حجتان تعارضتا؛ فيرجح أحد القولين على الآخر بكثرة العدد؛ فإن كان على أحد القولين أكثر الصحابة، وعلى الآخر الأقل قدّم ما عليه الأكثر.
([1] ) أما إذا انتشر في الباقين وسكتوا عنه فقد ذكرنا أنه حجة وهل يسمى إجماعا؟ على الخلاف الذي ذكرنا. شرح اللمع.
صفاء الدين العراقي
2019-08-08, 05:19 AM
فصلٌ: وأمَّا أدِلَّةُ الْمَعْقُولِ فَثَلَاثَةٌ: فحوى الْخطابِ، وَدَلِيلُ الْخطابِ، وَمعنى الْخطابِ.
فأمَّا فحوى الْخطابِ فَهُوَ: أن ينصّ على الأعلى وينبّه على الأدنى، أوْ ينصّ على الأدنى فينبِّه على الأعلى.
وَذَلِكَ مثلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمن أهل الْكتاب من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك وَمِنْهُم من إِن تأمنه بِدِينَار لَا يؤده إِلَيْك}.
وَكنَهْيهِ عَن التَّضْحِيَة بالعوراء، وَنبّهَ بِهِ على العمياءِ.
فَحكم هَذَا حكم النَّصِّ.
وأَما دَلِيلُ الْخطابِ فَهُوَ: أنْ يُعَلِّقَ الحكمَ على أَحَدِ وصفي الشَّيْءِ.
كَقَوْلِه تَعَالَى:{وَإِن كنَّ أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ}.
وَكقَولِهِ صلى الله عليه وسلم: فِي سَائِمَةِ الْغنم زَكَاةٌ.
فَدلَّ على أَنّ غيرَ الْحَامِلِ لَا نَفَقَة لَهَا. وَغيرَ السَّائِمَةِ لَا زَكَاةَ فِيهَا.
وَقَالَ أبو الْعَبَّاسِ بنُ سُرَيجٍ: لَا يدلُّ على حكمِ مَا عدا الْمَذْكُورِ.
وَالْمذهب الأول.
أقول: الحكم إما أن يستفاد من نفس ألفاظ النصوص وهو المنطوق وينقسم إلى نص، وظاهر، وعام. وإما أن يستفاد من معقولها وينقسم إلى ثلاثة أقسام: مفهوم الموافقة، ومفهوم المخالفة، والقياس.
فمفهوم الموافقة -ويسمى أيضا فحوى الخطاب([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) - هو: أن ينصّ على الأعلى وينبّه على الأدنى، أوْ ينصّ على الأدنى فينبِّه على الأعلى.
مثاله: قوله تعالى: وَمن أهل الْكتاب من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك وَمِنْهُم من إِن تأمنه بِدِينَار لَا يؤده إِلَيْك. فنص على القنطار ونبه على ما دونه، ونصّ على الدينار، ونبّه على ما فوقه.
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: لا يجوز من الضحايا: العوراء البيّن عورُها. رواه أبو داود. ونبه به على عدم جواز العمياء.
فحكم هذا النوع حكم النص فيكون المستفاد من المفهوم كالمستفاد من المنطوق.
ومفهوم المخالفة-ويسمى أيضا دليل الخطاب- هو: أن يعلق الحكم على أحد وصفي الشيء. فيدل على انتفائه عما عداه.
كقوله تعالى: إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا. فلما علق الحكم على الفاسق دلّ على أنه إن جاءنا عدل لا نتبين.
ومثله قوله تعالى: وإن كنّ أولات حمل فأنفقوا عليهن. فلما علق الحكم على كونهن أولات حمل دلّ على أن غير الحامل لا نفقة لها.
وكقوله صلى الله عليه وسلم: في سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة. رواه أبو داود. فدل على انتفاء الزكاة عما عدا السائمة وهي المعلوفة.
وقال الإمام أبو العباس بن سريج من كبار أصحابنا: تعليق الحكم على أحد الوصفين لا يدل على انتفاء الحكم عما عداه.
ومذهبنا هو القول بمفهوم المخالفة.
([1] ) وظاهر كلامه أن مفهوم الموافقة المساوي لا يسمى فحوى خطاب. مثال المساوي قوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما.. الآية فهي دالة بمنطوقها على حرمة أكل أموال اليتامى، ودالة بمفهومها على حرمة إحراقها، وحرمة الإحراق مساوية لحرمة الأكل؛ إذ كلا الأمرين إتلاف للمال.
صفاء الدين العراقي
2019-08-12, 03:55 PM
فأمّا معنى الْخطابِ فَهُوَ الْقيَاسُ: وَهُوَ حملُ فرعٍ على أصلٍ بعلةٍ جَامِعَة بَينهمَا وإجراءُ حكم الأصل على الْفَرْعِ.
وَهُوَ ضَرْبَانِ:
أحدهما: قِيَاس الْعلَّة وَهُوَ: أن يحمل الْفَرْع على الأصل بِالْمَعْنَى الَّذِي يتَعَلَّق الحكمُ بِهِ فِي الشَّرْعِ. وَذَلِكَ مثل قِيَاسِ النَّبِيذ على الْخمر بعلةِ أنه شرابٌ فِيهِ شِدَّة مطربَةٌ، وَقِيَاس الأرز على الْبر بعلة أنه مطعومُ جنسٍ.
وَالثَّانِي: قِيَاسُ الدّلَالَة وَهُوَ ثَلَاثَةُ أضْرُبٍ:
أحدها: أن يسْتَدلّ بخصيصة من خَصَائِص الشَّيْء عَلَيْهِ.
كَقَوْلِنَا فِي سُجُود التِّلَاوَةِ: إنَّهُ لَا يجبُ لأنه سُجُودٌ يجوزُ فعلهُ على الرَّاحِلَةِ فِي غير عذرٍ فأشبَهَ سُجُودَ النَّفْلِ، وإن جَوَاز فعله على الرَّاحِلَة من خَصَائِص النَّوَافِل فيستدلّ بِهِ على أنه نفلٌ.
وَالثَّانِي: أن يسْتَدلّ بالنَّظيرِ على النَّظيرِ.
كَقَوْلِنَا فِي الزَّكَاة فِي مَال الصَّبِي: إن من وَجب الْعشْر فِي زرعه وَجب ربع الْعشْر فِي مَاله كَالْبَالِغِ. وكقولنا فِي ظِهَار الذِّمِّي: مَن صَحَّ طَلَاقُه صَحَّ ظِهَاره كَالْمُسلمِ.
وإنَّ الْعشْرَ نَظِيرُ ربعِ الْعشْرِ، وَالظِّهَارَ نَظِيرُ الطَّلَاقِ فَيدلُّ أحدهما على الآخر.
وَالثَّالِث: أن يسْتدَلَّ بِضَرْبٍ من الشّبَه. مثلُ أن يَقُولَ فِي إيجاب التَّرْتِيب فِي الْوضُوء: إنه عبَادَة يُبْطِلهَا النّوم فَوَجَبَ فِيهَا التَّرْتِيب كَالصَّلَاةِ.
فَفِيهِ وَجْهَانِ:
مِن أصحابِنا مَن قَالَ: إنَّهُ دَلِيلٌ.
وَمِنْهُم مَن قَالَ: لَيْسَ بِدَلِيلٍ وإنما يُرجَّحُ بِهِ غَيرُهُ. وَهُوَ الأصحُّ.
أقول: القياس هو: حمل فرع على أصل بعلة جامعة بينهما، وإجراء حكم الأصل على الفرع. كحمل النبيذ على الخمر بجامع الإسكار. والمقصود بالحمل الإلحاق والتسوية في الحكم؛ فيكون إجراء حكم الأصل على الفرع تفسيرا للحمل.
وهو نوعان: الأول: قياس العلة وهو: أن يحمل الفرع على الأصل بالمعنى الذي يتعلق به الحكم في الشرع. أي أن يصرح القائس في قياسه بالعلة التي علق الشارع الحكم عليها بحيث لو سئل صاحب الشرع عن ذلك لنص عليه. كما لو قيل: يحرم النبيذ كالخمر للإسكار. فالإسكار هو المعنى الذي علق الشارع حكم تحريم الخمر عليه، فإذا جمع بين النبيذ والخمر في الحكم بسبب الإسكار المعبر عنه بالشدة المطربة فهو قياس علة.
ومثل قياس الأرز على البر بعلة الطعم([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) في الربوية.
وسواء علمت الحكمة أم لا، كالإسكار هو علة تحريم الخمر والحكمة في ذلك أنها توقع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة كما قال تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدَّكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون.
وكالطعم فهو علة الربا عندنا لحديث معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل. رواه مسلم. ولم يطلعنا الله تعالى على الحكمة في ذلك؛ فلا نعلم أنه إذا كان الجنس مطعوما لم حرّم بيع بعضه ببعض متفاضلا.
والثاني قياس الدلالة وهو: وهو حمل فرع على أصل بدليل العلة([2] (https://majles.alukah.net/#_ftn2) ) . أي أن لا يذكر العلة التي علق الشارع الحكم عليها، ولكن يذكر ما يدل على العلة([3] (https://majles.alukah.net/#_ftn3) ) وهو على ثلاثة أوجه:
1- أن يستدل بخاصة من خواص الشيء على الشيء لأن خاصة الشيء ما يوجد فيه ولا يكون في غيره.
مثاله: قول أصحابنا في سجود التلاوة: سجود يجوز فعله على الراحلة من غير عذر فلا يجب كسجود النفل.
فالفرع: سجود التلاوة، والأصل: صلاة النافلة، والجامع هو: جواز الفعل على الراحلة، والحكم هو الندب وعدم الوجوب.
فقد استدلوا بحكم من أحكام النفل- وهو الفعل على الراحلة من غير عذر - على كون سجود التلاوة نفلا.
فجواز الفعل على الراحلة التي هي خصيصة النوافل ليس علة نفي الوجوب بل لأن الله تعالى لم يخاطبنا به خطابا جازما، وإنما جعلنا ذلك دليلا على نفي الوجوب حيث وجدنا فيه خصيصة من خصائص النفي.
2- أن يستدل بنظير الحكم على الحكم.
مثاله: استدلال الشافعي على وجوب الزكاة في مال الصبي: إنه يجب العشر في زرعه، فوجبت الزكاة في ماله كالبالغ. فالعشر الذي هو حق الزروع نظير ربع العشر الذي هو حق أموال الزكاة.
ألا ترى أن مَن وجب عليه أحدهما- العشر أو ربع العشر- وجب عليه الآخر وذلك في المسلم البالغ، ومن لم يجب عليه أحدهما لم يجب عليه الآخر كما في الذمي. فلما رأينا العشر قرنت الزكاة به في الوجوب والسقوط دلنا ذلك على أن الزكاة هنا في مال الصبي واجبة حيث وجب العشر. لأنهما لما اتفقا في الوجود والعدم فلم يوجد أحدهما إلا مع وجود الآخر ولم يعدم أحدهما إلا مع عدم الآخر دل على أن علتهما واحدة([4] (https://majles.alukah.net/#_ftn4) ) .
مثال آخر: الاستدلال على صحة ظهار الذمي- خلافا للحنفية وغيرهم-: (إنه يصح طلاقه فيصح ظهاره) لأن الظهار نظير الطلاق. ألا ترى أنه من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم البالغ، ومن لا يصح طلاقه لا يصح ظهاره كالصبي والمجنون وهذا يدل على اتفاقهما في العلة التي هي التكليف مع الزوجية.
فتحصل أنه في قياس العلة توجد العلة الجالبة للحكم، وفي قياس الدلالة يوجد دليل العلة، فنستدل بذلك على وجود العلة نفسها، فيشتركان في الحكم.
3- الاستدلال بضرب من الشبه أي أن يحمل الفرع على الأصل بنوع شبه بينهما ويسمى قياس الشبه([5] (https://majles.alukah.net/#_ftn5) ) وذلك مثل أن يتردد الفرع بين أصلين يشبه أحدهما في ثلاثة أوصاف ويشبه الآخر في وصفين فيرد إلى أشبه الأصلين به.
مثاله: العبد يشبه الحر في أنه آدمي مثاب معاقب، ويشبه البهيمة في أنه مملوك مقَوَّم أي يباع ويشترى، وألحق بالبهيمة لأنه أشبه بها من جهة المالية فيجب في قتله القيمة.
مثال آخر: أن نقول في الترتيب في الوضوء: عبادة يبطلها الحدث فوجب فيها الترتيب كالصلاة.
فالمشابهة في الحكم الذي هو البطلان بالحدث جعلت دليلا على استحقاق الترتيب.
وقد اختلف أصحابنا في قياس الشبه: فمنهم من قال: يصح الاحتجاج به.
ومنهم من قال: لا يصح الاحتجاج به لأنه لم يثبت بالعلة ولا بدليلها. وإنما يصلح لترجيح قياس على غيره وهو الأصح عند الإمام أبي إسحاق. والله أعلم.
([1] ) وقوله مطعوم جنس من إضافة الصفة للموصوف والأصل جنس مطعوم.
([2] ) واعترض به على تعريف القياس المتقدم حمل أصل على فرع بعلة جامعة. بأنه لا توجد هنا علة جامعة فليس تعريف القياس جامعا. وأجيب بأن المراد بالعلة هنا مطلق المعرف للحكم.
([3] ) كما لو قيست المرأة التي حبلت وهي غير ذات زوج على الزانية في وجوب الحد. فالزنا هو علة الحد، وحبلها دليل على أنها قد زنت فيقام عليها الحد وإن لم تعترف أو يشهد عليها الشهود. وهو مذهب الإمام مالك والمذهب عندنا أنها لا تحد لجواز الإكراه والحدود تدرأ بالشبهات.
([4] ) وهذا كما نقول في العقليات إذا رأينا نفسين يحضران لسماع الدرس وينقطعان في أيام العطلة نعلم أنهما ما اتفقا في الحضور في أيام الدرس والانقطاع في أيام العطلة إلا وعلتهما واحدة وهو سماع الدرس. شرح اللمع.
([5] ) عد قياس الشبه نوعا من قياس الدلالة طريقة لبعض الأصوليين والطريقة الأخرى عده قسما منفصلا برأسه.
صفاء الدين العراقي
2019-08-12, 04:15 PM
فصلٌ في استصحابِ الحال
وأمَّا اسْتِصْحَاب الْحَال فضربانِ:
اسْتِصْحَابُ حَالِ الْعقل فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّة.
كَقَوْلِنَا فِي إسقاط دِيَةِ الْمُسلمِ إذا قُتِل فِي دَار الْحَرْب، أَوْ فِي إسقاطِ مَا زَادَ على ثلثِ الدِّيَة فِي قتلِ الْيَهُودِيّ: إن الأصل بَرَاءَة الذِّمَّة وفراغِ السَّاحَةِ وَطَريقِ اشتغالِها بِالشَّرْعِ وَلم نجدْ فِي الشَّرْع مَا يدُّلُّ على الِاشْتِغَالِ فِي قتلِ الْمُسلمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا على الاشْتِغَالِ فِيمَا زَادَ على الثُّلُثِ فِي قَتْلِ الْيَهُودي فَبَقيَ على الأصل.
فَهَذَا دَلِيلٌ يَفزعُ إليه الْمُجْتَهدُ عِنْد عدمِ الأَدلة.
وَالثَّانِي اسْتِصْحَاب حَال الإجماع وَذَلِكَ مثل أن يَقُول فِي الْمُتَيَمم إذا رأى المَاء فِي صلَاته: إنه يمْضِي فِي صلَاتِه لأن صلاته انْعَقَدتْ بالإجماعِ فَلَا يَزُولُ عَن ذَلِك إلا بِدَلِيلٍ.
وهَذَا فِيهِ وَجْهَان:
مِن أصحابنا مَن قَالَ: هُوَ دَلِيلٌ.
وَمِنْهُم من قَالَ: لَيْسَ بِدَلِيلٍ وَهُوَ الأصحُّ.
أقول: الاستصحاب: إبقاء ما كان على ما كان عليه. وهو نوعان: عقلي، وشرعي.
فأما العقلي فهو الرجوع إلى براءة الذمة.
مثل أن يُسأل الشافعي عن مسلم قتل مسلما في دار الحرب وكان يظنه حربيا فبان أنه مسلم، فيقول: لا تجب الدية؛ لأن الأصل براءة الذمة، وفراغ الساحة، وطريق إشغالها الشرع، وقد طلبت في الشرع فلم أجد ما يدل على وجوب الدية؛ فيجب أن يبقى على الأصل.
وهذا صحيح بلا خلاف والاستدلال به جائز.
ومن استصحاب العقل في براءة الذمة القول بأقل ما قيل([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) .
مثاله: أن يقول الشافعي في دية اليهودي والنصراني: إنها ثلث دية المسلم؛ لأن الأصل براءة الذمة، فقد اختلفوا في ديته فمنهم من أوجب دية كاملة، ومنهم من أوجب نصف الدية، ومنهم من أوجب ثلث الدية، فالثلث مجمع عليه متيقن، فوجب الأخذ به، وما زاد عليه باق على الأصل، فمن ادعى وجوبه احتاج إلى دليل.
فهذا النوع من الاستصحاب دليل صحيح يفزع إليه المجتهد عند عدم أدلة الشرع فإن وَجد دليلا من أدلة الشرع انتقل إليه، سواء كان ذلك الدليل نطقا نصا أو ظاهرا أو مفهوما؛ لأن هذه الحال إنما استصحبها لعدم دليل شرعي، فأي دليل ظهر من جهة الشرع حرم عليه استصحاب الحال بعده.
وأما الشرعي فهو مثل أن يقول الشافعي في المتيمم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة: إنه لا يبطل تيممه وصلاته؛ لأنا أجمعنا على صحة إحرامه وانعقاد صلاته، فمن ادعى البطلان احتاج إلى دليل.
وهذا استصحاب حال الإجماع في موضع الخلاف.
فهذا فيه وجهان: قيل: هو دليل يحتج به وهو قول أبي بكر الصيرفي.
وقيل: لا يحتج به وهو الصحيح؛ لأن موضع الإجماع هو تيمم عادم الماء، وموضع الخلاف المتيمم الواجد للماء، وهما صورتان مختلفتان ومسألتان منفردتان؛ والاستدلال في إحداهما بما يدل على الأخرى باطل.
([1] ) وهو أن يختلف العلماء في مسألة على قولين أو ثلاثة فيوجب بعضهم قدرا، ويوجب بعضهم أقل من ذلك. شرح اللمع.
صفاء الدين العراقي
2019-08-13, 09:29 PM
(بَابُ وُجُوهِ الْكَلامِ على الِاسْتِدْلَالِ بِالْكتابِ)
وَذَلِكَ من ثَمَانِيَةِ أوجهٍ:
أحدها: الاعتراضُ عليهِ بأنَّكَ لا تقولُ به. وذلكَ مُثِّل بِوجهين:
أَحدهما: أن يسْتَدلّ بطرِيقٍ من الأصول لَا يَقُول بِهِ.
وَذَلِكَ مثل أن يسْتَدلّ الْحَنَفِيّ فِي إسقاط الْمُتْعَة للمدخول بهَا بقوله عزَّ وجلَّ {لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة ومتِّعوهنَّ} فَشرطَ فِي إيجاب الْمُتْعَة أن لَا يكونَ قد مَسّهَا.
فَيَقُول الشَّافِعِي: هَذَا اسْتِدْلَال بِدَلِيل الْخطابِ وأنتَ لَا تَقولُ بِهِ.
والْجَوَاب أن يَقُول:
إنّ هَذَا من مسَائِل الأصول وأنا أقولُ بِهِ.
أو يقول إنّ هَذَا بِلَفْظ الشَّرْط لأنه قَالَ {إِن طلّقْتُم النِّسَاء} و"إنْ" من أمهات حُرُوف الشَّرْط، وأنا اقول بِدَلِيل الْخطاب إذا كَانَ بِلَفْظ الشَّرْط.
وَالثَّانِي أن لَا يَقُول بِهِ فِي الْموضع الَّذِي تنَاوله.
كاستدلال الْحَنَفِيّ فِي جواز شَهَادَة أهل الذِّمَّة بقوله عزّ وجل: {أَو آخرَانِ من غَيْركمْ} أَي من غير أهل ملتكم.
فَيَقُول الشَّافِعِي: كَانَ هَذَا فِي قضيّـة بَينَ الْمُسلمين والكفار، وعندك لَا تقبل شَهَادَة أهل الذِّمَّة على الْمُسلمين.
وتكلّف بَعضهم الْجَواب عَنهُ فَقَالَ: إنه لما قَبِل شَهَادَتهم على الْمُسلمين دلّ على أن شَهَادَتهم على الْكفَّار أولى بِالْقَبُولِ، ثمَّ دلّ الدَّلِيل على أن شَهَادَتهم لَا تقبلُ على الْمُسلمينَ فَبَقيَ فِي حق الْكفَّار على مَا اقْتَضَاهُ.
أقول: يتجّه على من يستدل بآية من كتاب الله سبحانه وتعالى على حكم ثمانية اعتراضات:
الأول: أن يستدل المستدل بما لا يقول هو به. وذلك على وجهين:
1- أن يستدل بطريق من الأصول لا يقول هو به.
كأن يستدل الظاهري بالقياس على حكم وهو يصرح في كتب الأصول أن القياس ليس بحجة فيكون قد ناقض نفسه.
ومثل أن يستدل الحنفي بمفهوم المخالفة وهو يقرر في الأصول أنه ليس بحجة معتبرة.
مثاله: استدلال الحنفية في متعة المطلقة بقوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء.. الآية. وإليك البيان:
المتعة في الشرع: اسم لمال يدفعه الرجل لمطلقته التي فارقها، تعويضا عما حصل لها من وحشة الفراق.
وهي غير مؤخر الصداق الباقي في ذمته.
فيشرع لمن طلق زوجته أن يعطيها بعض المال. قيل إن أقله ثلاثة أثواب للمرأة. وقيل يرجع في تحديده إلى القاضي مراعيا حال الزوج يسرا وعسرا. وبعض القوانين تقدره بنفقة سنتين تدفع للزوجة ولو على شكل أقساط.
وقد اختلف العلماء في حكمه:
فذهب الأحناف إلى إيجاب المتعة إذا طلقت المرأة قبل الدخول بها ولم يكن قد سمّى لها مهرا في عقد الزواج.
أما المطقة المدخول بها سواء سمى لها المهر أو لم يسم فلا تجب لها المتعة بل تستحب.
وذهب الشافعية إلى إيجاب المتعة لكل مطلقة عدا التي طلقت قبل الدخول بها وقد سمى لها مهرها فإن لها نصف المهر ولا متعة لها.
وذهب المالكية إلى أن المتعة مستحبة لكل مطلقة. وذهب الظاهرية إلى أن المتعة واجبة لكل مطلقة.
إذا علم هذا فقد احتج الأحناف على عدم وجوب المتعة على المدخول بها بقوله تعالى: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضة، ومتعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) فدل على أن الأمر بالمتعة إنما هو عند عدم المسّ وعدم فرض المهر و"أو" في الآية بمعنى الواو.
فيقول له الشافعي بأن هذا استدلال بدليل مفهوم المخالفة المسمى بدليل الخطاب وأنت لا تقول به. فقد احتججت بقاعدة وطريق من الأصول أنت لا تقول به.
ويمكن للفقيه الحنفي أن يجيب بما يلي:
أولا: إن ذلك الطريق من مسائل علم الأصول وأنا أقول به فإنه ليس عن أبي حنيفة نص في مفهوم المخالفة وأهل الأصول اختلفوا فيه وأنا أقول به ولست ملزما بما يقوله عامة الحنفية من عدم الاحتجاج به.
ثانيا: إن ذلك الطريق نوع مخصوص أقول به لأن هذا نوع مخصوص من مفهوم المخالفة وهو الحاصل بالشرط فإن قوله تعالى: ( إنْ طلقتم النساء) جاء بصيغة الشرط، و"إنْ" من أصول حروف الشرط، وبعض الحنفية ذهبوا إلى صحة مفهوم الشرط دون مفهوم الصفة وأنا أقول به.
2- أن يستدل بدليل وهو لا يقول بمقتضاه في الموضع الذي ورد فيه.
مثاله: استدلال الحنفية على جواز شهادة أهل الذمة على بعضهم البعض بقوله تعالى: ( أو آخران من غيركم). توضيحه:
اتفق الفقهاء على جواز شهادة المسلمين بعضهم على بعض، وعلى شهادة المسلمين على أهل الذمة، واتفقوا أيضا على أن الأصل عدم جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين، ولكن وقع خلاف في جواز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض فذهب الجمهور إلى عدم جوازها لأنهم ليسوا بذوي عدل. وذهب الحنفية إلى جوازها مستدلين بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) تقريره:
إن الله أجاز شهادة غير أهل الملة على المسلمين فمن باب أولى تجوز شهادتهم بعضهم على بعض.
وهنا يتجه اعتراض وهو: أن الآية نزلت في مسلم حضرته الوفاة وقد أشهد على وصيته اثنين ممن كانا نصارى، فهي بين مسلمين وكفار، وأنتم ونحن لا نجيز شهادة الكافر على المسلم فلا يصح لكم الاحتجاج بها؛ فإن مقتضى الآية والموضع الذي سيقت من أجله هو شهادة الكافر على المسلم وأنتم لا تقولون به فكيف تحتجون به على شهادة الكافر على الكافر ومعنى الآية الأصلي أنتم لا تقولون به!
وهذا كما قال - الإمام أبو إسحاق الشيرازي في الملخص- أصعب ما في هذا الباب على المستدل.
وقد تكلف بعض المخالفين الجواب عن هذا بأن الآية دلت على قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين من طريق المنطوق، ودلت على قبول شهادتهم على أهل الذمة من طريق المفهوم وذلك أنه إذا قبلت شهادتهم على المسلمين فلأن تقبل شهادتهم على أهل الذمة أولى، ثم دل الدليل على بطلان شهادتهم في حق المسلمين، وبقي قبول شهادتهم على أهل الذمة على ما دلّ عليه الدليل.
وهذا ليس بشيء لأن قبول شهادة أهل الذمة على أهل الذمة فرع لشهادتهم على المسلمين، فإذا بطلت شهادتهم على المسلمين وهو الأصل فلأن تبطل شهادتهم على أهل الذمة وهي فرعها أولى. اهـ من الملخص في الجدل بتصرف يسير.
تنبيه: ذهب الإمام أحمد إلى قبول شهاد الكافر على المسلم في السفر في وصية الموت إذا لم يوجد غيرهم لنص الآية "أو آخران من غيركم"، وذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى عدم الجواز وأن ذلك منسوخ بقوله تعالى: وأشهدوا ذوي عدل منكم. ذكر ذلك القرطبي في تفسيره. والله أعلم.
صفاء الدين العراقي
2019-08-15, 12:43 AM
والاعتراضُ الثَّانِي أنْ يَقُولَ بموجَبِها وَذَلِكَ على ضَرْبَيْنِ:
أحدِهما: أنْ يحْتَجَّ مِنَ الْآيَةِ بِأحدِ الوضعينِ. فَيَقُول السَّائِلُ بِمُوجبِه بَأنْ يحمِلهُ على الْوَضعِ الآخرِ.
كاستدلالِ الْحَنَفِيِّ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا بقولِهِ تَعَالَى {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكحَ آباؤكم} وَالْمرَاد لَا تطؤوا مَا وطِئ آباؤكم.
فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: النِّكَاحُ فِي الشَّرْعِ هُوَ العقدُ؛ فَيكونُ مَعْنَاهُ: لَا تتزوجوا مَنْ تزوَّجَ آباؤكم من النساء.وَالْجَو ابُ أنْ تسلُكَ طَريقَةَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الأَسماءَ غيرُ منقولَةٍ، وإنَّ الْخِطابَ بلغَةِ الْعَرَبِ، وَالنِّكَاحُ فِي عرفِ اللُّغَةِ هُوَ الْوَطْءُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي أنْ يَقُولَ بِمُوجَبِهِ فِي الوضعِ الَّذِي احْتجَّ بِهِ.وَذَلِكَ مثلُ أنْ يسْتَدِلَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْعَفوِ عَنِ الْقِصاصِ إلى الدِّيَةِ مِنْ غيرِ رِضى الْجَانِي بقولهِ:{فَمنْ عُفيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وَالْعَفوُ هُوَ الصَّفحُ وَالتّرْكُ.فَيَ ُولُ الْحَنَفِيُّ بلِ الْعَفوُ هَا هُنَا هُوَ الْبَذْلُ وَمَعْنَاهُ إذا بَذَلَ الْجَانِي للْوَلِيّ الدِّيَة اتَّبعَ الْمَعْرُوفَ.وَ لْجَوَابُ عَنهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أحدِهما: أنْ يبيّن أنَّ الْعَفوَ فِي الصَّفحِ وَالتّرْكِ أَظهرُ فِي اللُّغَةِ.
وَالثَّانِي: أنْ يبيّن بِالدَّلِيلِ مِن سِيَاقِ الآيةِ أَوْ غَيرهِ أَنَّ المُرَادَ بِهِ الصَّفحُ.
أقول: الاعتراض الثاني أن يقول بموجب الآية التي استدل بها المستدل ولكنه ينازعه في مقتضاها ومعناها الذي حملها عليه. وذلك على نوعين:
الأول: أن يحتج المستدل بالآية بحملها على أحد الوضعين ويحملها المعترض على وضع آخر.
مثاله: مسألة الزواج ممن زنا بها الأب أو الابن، فلو أن شخصا زنا بامرأة- والعياذ بالله- ثم أراد ابنه أن يتزوجها فهل يجوز ذلك في الشرع؟ قولان:
ذهب الحنفية وغيرهم إلى حرمة ذلك وأنه كما لا يجوز للابن أن يتزوج امرأة أبيه فلا يجوز له أن يتزوج من زنا بها أبوه.
وذهب الشافعية وغيرهم إلى جواز ذلك؛ لأن المصاهرة والأحكام تنبني على ما شرع الله من الزواج لا على المسافحة.
استدل الحنفية بقوله تعالى: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء. وهذا يقتضي أنه لا يجوز أن يطأ من وطأها الأب، وهذه المراة التي زنا بها قد وطئها الأب فيجب أن لا يجوز للابن أن يطأها. فموطوءة الأب حرام على ابنه.
فيقول الشافعي: هذا لا حجة فيه؛ لأن النكاح هو العقد في عرف الشريعة فكأنه قال: لا تعقدوا على من عقد عليه آباؤكم.
فهنا قال الشافعي بموجب الآية التي استدل بها الحنفي ولكن لم يقل بها بالمعنى الذي قال به الحنفي فهو حمل النكاح على الوضع الشرعي وهو العقد، وحمله الحنفي على الوضع اللغوي وهو الوطء.
وللحنفي أن يجيب بأحد جوابين:
1- أن يمنع أن يكون النكاح في عرف الشرع هو العقد، والدليل عليه أنه قد ورد في الشرع والمراد به العقد، وورد في الشرع والمراد به الوطء ألا ترى أنه تعالى قال: والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك. والمراد به الوطء([1] (http://feqhweb.com/vb/#_ftn1) ) . والمواضع التي حمل فيها على العقد إنما حمل عليها بقرائن اقترنت بها كقوله صلى الله عليه وسلم: لا نكاح إلا بولي. رواه أبو داود. فذكر الولي دليل على أنه أراد العقد. وأما النكاح بإطلاقه مجردا عن القرينة فيراد به الوطء.
2- أن يسلك طريقة من يقول من الأصوليين: إنه ليس في الألفاظ شيء منقول عن اللغة إلى الشرع، بل الألفاظ مبقاة على موضوعها في اللغة، وإنما الشرع أضاف عليها زيادات على موضوعها اللغوي، مثل الصلاة فهي في اللغة الدعاء، والشارع لم ينقلها عن الدعاء ويضع لها وضعا جديدا بل أضاف عليها بعض الشروط كالركوع والسجود والقراءة. وحينئذ فالنكاح باق على موضوعه اللغوي وهو الوطء.
الثاني: أن يقول بموجب الدليل في الوضع الذي احتج به.
مثاله: مسألة العفو عن القصاص إلى الدية، فمن قُتل له قتيل فهل يجوز أن يعفو عن القصاص ويقبل بالدية ولو لم يرض القاتل بذلك؟ قولان:
فذهب الشافعية إلى جواز ذلك وأن الأمر ليس موقوفا على رضاه بل يجبر على دفع الدية إذا اختارها ولي الدم بدل القصاص.
وذهب الحنفية إلى عدم جواز ذلك وأن الجاني إذا لم يرض ببذل الدية فلا سبيل لولي الدم أن يختارها ولم يبق عليه إلا القصاص أو العفو.
استدل الشافعي بقوله تعالى: فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف. والعفو في اللغة هو الصفح والترك.
فيقول الحنفي: أنا قائل بموجَب هذا الدليل، والعفو ها هنا هو البذل لأن العفو في اللغة قد يراد به البذل كقوله تعالى: خذ العفو. أي ما سهل أي خذ ما عفا وسهل وتيسر من أخلاق الناس، وارض منهم بما تيسر من أعمالهم وتسهل من غير كلفة، فكأنه قال: إن الولي متى بُذل له شيء فليقبل وليتبع المعروف.
فهنا الحنفي قائل بموجب الآية في نفس الوضع اللغوي ولم يذهب إلى وضع آخر، وإنما الوضع اللغوي نفسه له معنيان: فاختار المستدل أحدهما واختار المعترض الثاني، فهو يشبه الاعتراض السابق، ولكنه حاصل بوضع واحد.
وللشافعي أن يجيب بأحد جوابين:
أحدهما: أن يبين أن العفو في الصفح والترك أظهر في اللغة من البذل. فإن ورود كلمة العفو في القرآن بمعنى الصفح والترك والإسقاط للحق أكثر وأظهر في القرآن الكريم كقوله تعالى: واعف عنا. وقوله: عفا الله عنك لم أذنت لهم. وقوله: ولقد عفا الله عنهم. واللفظ إذا احتمل معنيين وجب حمله على أظهرهما وأشهرهما، ولا يحمل على الآخر إلا بدليل.
ثانيهما: أن يبين بالدليل من سياق الآية أو غيره ما يمنع حمله على البذل كأن يقول: قوله عز وجل فمن عفي له. كناية يرجع إلى مذكور متقدم، والذي تقدم ذكره هو القاتل دون الولي، فلا يجوز حمله عليه.
([1] ) يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله :" هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة ، أي : لا يطاوعه على مراده من الزنى إلا زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك ، وكذلك : ( الزانية لا ينكحها إلا زان ) أي : عاص بزناه ، ( أو مشرك ) لا يعتقد تحريمه، عن ابن عباس رضي الله عنهما : ليس هذا بالنكاح ، إنما هو الجماع ، لا يزني بها إلا زان أو مشرك . وهذا إسناد صحيح عنه ، وقد روي عنه من غير وجه أيضا . وقد روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير ، والضحاك ، ومكحول ، ومقاتل بن حيان ، وغير واحد ، نحو ذلك " انتهى.
صفاء الدين العراقي
2019-08-15, 11:50 PM
والاعتراض الثَّالِث أن يدّعي إجمال الآية إما فِي الشَّرْع وإمَّا فِي اللُّغَة.
فأمَّا فِي الشَّرْع فَمثل أن يسْتَدلّ الْحَنَفِيّ فِي نِيَّة صَوْمِ رَمَضَانَ بقوله تَعَالَى: {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} وَهَذَا قد صَامَ.
فَيَقُول الشَّافِعِي: هَذَا مُجملٌ لَأن المُرَادَ صَوْمٌ شَرْعِي وَنحن لَا نسلّم أن هَذَا صَوْم شَرْعِي.
وَالْجَوَاب عَنهُ: أن يبين أن الْخطاب بلغَة الْعَرَبِ ويسلك طَريقَة من يَقُول: لَيْسَ فِي الأسماء شَيْءٌ مَنْقُولٌ، وَالصَّوْم فِي اللُّغَةِ هُوَ الإمساكُ فَوَجَبَ أن يجزئ كلُّ إمساكٍ إلا مَا خصّه الدَّلِيلُ.
وأمّا فِي اللُّغَةِ فَمثل أن يسْتَدلّ الشَّافِعِي فِي أن الإحرام بِالْحَجِّ لَا يَصحّ فِي غير أشهره بقوله تَعَالَى: {الْحَجّ أشهر مَعْلُومَات فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج فَلَا رفث وَلَا فسوق}.
فَيَقُول الْمُخَالف: هَذَا مُجمل لأن الْحَج لَيْسَ بأشهر فَلَا بُدّ فِي معرفَة المُرَاد مِنْهُ من إضمار، وَيجوز أن يكون مَعْنَاهُ: وَقتُ إحرام الْحَج أشهر مَعْلُومَات، وَيجوز أن يكون مَعْنَاهُ: وَقتُ أفعال الْحَج أشهر مَعْلُومَات، فَوَجَبَ التَّوَقُّف فِيهِ.
وَالْجَوَاب: أن يبين بِالدَّلِيلِ أن المُرَاد بِهِ وَقت إحرام الْحَج؛ لأن الأفعال لَاتفْتَقر إلى أشهر، ولأنه قَالَ: {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج فَلَا رفث} وَالْفَرْضُ هُوَ الإحرامُ.
أقول: الاعتراض الثالث على الاستدلال بالكتاب هو أن يستدل المستدل بلفظ يدعي عمومه، فيدعي السائل إجماله ليمنع من التعلق بعمومه.
والإجمال إما في الشرع وإما في اللغة.
مثاله في الشرع: استدلال الحنفي في جواز صوم شهر رمضان بغير نية من الليل بقوله تعالى:(فمن شهد منكم الشهر فليصمه) بأن هذا قد صام؛ فمن أمسك عن الطعام والشراب فقد صدق عليه إنه صائم.
فيقول له الشافعي: هذا اللفظ مجمل؛ لأن المراد به صوم شرعي، وذلك لا يعلم من ظاهر اللفظ، بل يفتقر في معرفته إلى بيان، فصار في الإجمال كقوله تعالى:(وآتوا حقه يوم حصاده) لما لم يعلم مقدار الحق من ظاهره افتقر في معرفته إلى بيان فصار مجملا فكذلك ها هنا.
والطريق في الجواب عن هذا أن يسلك طريقة من يقول: إنه ليس من الأسماء شيء منقول، بل كلها مبقاة على مقتضاها في اللغة، والصوم في اللغة الإمساك فوجب أن يجزئ كل إمساك إلا ما خصه الدليل. الملخص في الجدل بتصرف يسير.
ومثاله في اللغة: استدلال الشافعي في أن الإحرام بالحجّ لا يصح في غير أشهر الحج([1] (http://feqhweb.com/vb/#_ftn1) ) بقوله تعالى: (الحجّ أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).
فيقول له المخالف قوله تعالى"أشهر معلومات" مجمل لأن الحج ليس بأشهر، فلا بد لصحة الحمل والإخبار من تقدير، ويجوز أن يكون التقدير: وقت إحرام الحج أشهر معلومات فيكون دليلا لكم، ويجوز أن يكون التقدير: وقت أفعال الحج أشهر معلومات فلا يكون دليلا لكم فوجب التوقف فيه.
والجواب عنه: أن يبين بالدليل أن المراد به وقت إحرام الحج بدليل أن أفعال الحج لا تفتقر في أدائها إلى أشهر، ولأن الله تعالى قال: فمن فرض فيهن الحج. والفرض هو الإحرام.
([1] ) اختلف العلماء في حكم الإحرام بالحج قبل أشهره: فذهب الجمهور الحنفية والمالكية والحنابلة إلى صحة الإحرام بالحج وانعقاده قبل أشهر الحج لكن مع الكراهة، وذهب الشافعية إلى أنه لا ينعقد الإحرام بالحج قبل أشهره، وينعقد عمرة.
صفاء الدين العراقي
2019-08-15, 11:57 PM
والاعتراض الرَّابِع: الْمُشَاركَةُ فِي الدَّلِيل.
كاستدلال الشَّافِعِي فِي النِّكَاح بِغَيْر وليٍّ بقوله تَعَالَى: {فَلَا تعضلوهن أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ} فَلَو لم يكن تَزْوِيجهَا إليه لما صَحَّ العَضْلُ.
فَيَقُول الْحَنَفِيُّ: هَذَا حجَّةٌ لنا؛ لأنه قَالَ: {أَن ينكحن} فأضاف النِّكَاحَ إليهن؛فَدلَّ على أن لَهُنَّ أن يعقدنَ.
وَالْجَوَاب:أن يسْقط دَلِيل السَّائِل ليسْلَمَ لَهُ مَا تعلَّق بِهِ.
أقول: الاعتراض الرابع: المشاركة في الدليل وهو: أن يجعل السائل ما استدل به المستدل دليلا له في المسألة.
مثاله: استدلال الشافعي على أن المرأة لا تلي عقدة النكاح بقوله تعالى:(فلاتعضلوه ن أن ينكحن أزواجهن) فنهى الله تعالى الأولياء عن عضل النساء؛ فدل على أن الأمر إليهم، وأن العقد موقوف عليهم؛ إذْ لو لم يكن كذلك لم يصح منهم العضل.
فيقول الحنفي: هذا الدليل حجة لنا؛ ألا تراه تعالى أضاف العقد إليها فقال:(أن ينكحن أزواجهن) فدل على أن لهن أن يعقدن.
فهنا كل واحد من الخصمين تعلق من الآية بلفظ، وتأوّل اللفظ الآخر، فالشافعي تعلق بقوله: "فلا تعضلوهن"، والحنفي تعلق بقوله: "أن ينكحن".
والطريق في الجواب أن يسقط دليل السائل- كالحنفي في مثالنا هنا- ليسلم له دليله، كأن يقول الشافعي: إن قوله تعالى: أن ينكحن. ليس يريد به أن يباشرن العقد بأنفسهن، وإنما يريد: أن يصرن منكوحات؛ فأضاف النكاح إليهن؛ لأنهن محل النكاح لا أنهن يفعلن ذلك. الملخص.
صفاء الدين العراقي
2019-08-16, 12:06 AM
والاعتراض الْخَامِس اخْتِلَاف الْقِرَاءَة.
وَذَلِكَ مثل أن يسْتَدلّ الشَّافِعِي فِي إيجاب الْوضُوء من اللَّمْس بقوله تَعَالَى {أَو لمستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا}ف يَقُول الْمُخَالف: قد قرئ {أَو لامستم} وَهَذَا يَقْتَضِي الْجِمَاع.
وَالْجَوَاب: أن يَقُول القراءتان كالآيتين فيستعملهما.
أقول: الاعتراض الخامس اختلاف القراءة كأن يستدل المستدل بقراءة؛ فيعارضه السائل بقراءة أخرى ليتأول القراءة التي استدل بها على غير ما حمل عليه المستدل ليمنعه من الاحتجاج بها.
مثاله: أن يستدل الشافعي في إيجاب الوضوء من لمس النساء بقوله تعالى في قراءة متواترة: أو لمستم النساء.
فيقول المخالف: المراد بالآية الجماع، والدليل عليه القراءة الأخرى: أو لامستم النساء. وهذا لا يستعمل إلا في الجماع لأن فاعَل يكون من اثنين وذلك لا يكون إلا في الجماع لأنه يتعلق بفعلهما ومباشرتهما، فأما المس باليد فلا يحتاج إلى فعلهما.
والجواب عن ذلك: أن يقول: أنا أجمع بين القراءتين: فأحمل لامستم على الجماع، ولمستم على سائر أنواع اللمس، والجمع بينهما أولى من إسقاط إحداهما فإن القراءتين كالآيتين.
صفاء الدين العراقي
2019-08-17, 12:18 AM
والاعتراض السَّادِسُ: النّسخُ وَهُوَ مِن ثَلَاثَةِ أوجهٍ:
أحدها: أن ينقل النّسخ صَرِيحًا.
كاستدلال الشَّافِعِي فِي إيجاب الْفِدْيَة على الْحَامِل والمرضع بقوله تَعَالَى: {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طعام}.
فَيَقُول الْحَنَفِيّ: قد قَالَ سَلمَة بنُ الأكوعِ: إنها مَنْسُوخَةٌ بقولِه تَعَالَى: {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه}.
وَالْجَوَاب: أن يبين أنها نُسِخَتْ إلَّا فِي الْحَامِل والمرضِعِ.
وَالثَّانِي: أن يدَّعي نسخهَا بِآيَة مُتَأَخِّرَة.
مثل أن يسْتَدلَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَنّ وَالْفِدَاء بقوله تَعَالَى: {فإمَّا منًّا بعدُ وَإِمَّا فدَاء}.
فَيَقُول الْحَنَفِيُّ: قد نُسِخَ بقوله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} لأَنَّها مُتَأَخِّرَةٌ.
وَالْجَوَاب: أن يجمع بَين الآيتين فيستعمل كلَّ وَاحِدَةٍ فِي مَوضِعٍ، وإذا أمكن الْجمع لم يجز دَعْوَى النّسخ.
وَالثَّالِث: أن يدّعي نسخهَا بِأَن ذَلِك شرعُ من قبلنَا.
كاستدلال الشَّافِعِي فِي وجوب الْقصاص فِي الطّرف بَين الرجل وَالْمَرْأَة بقوله تَعَالَى: {والجروح قصاص}.
فَيَقُول الْحَنَفِيّ: هَذَا إخبار عَن شرع من قبلنَا وَقد نُسخ ذَلِك بشرعنا.
وَالْجَوَاب: أن شرع من قبلنَا شرعٌ لنا، أوْ يَدُلَّ على أن ذَلِك شرعٌ لنا أيضا لأن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي امْرَأَة قلعت سنّ امْرَأَة: كتابُ اللهِ الْقِصاصُ. وأرادَ بِهِ هَذِه الآيةَ.
أقول: الاعتراض السادس على دليل المستدل هو النسخ ويقع على وجوه:
الأول: أن ينقل المعترض النسخ صريحا بخبر.
مثاله: استدلال أصحابنا على وجوب الفدية على الحامل والمرضع في الصيام بقوله تعالى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين. فيقول الحنفي([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1)) : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه. والدليل عليه ما روى البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما نزلت: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين. كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.
والطريق في الجواب عن ذلك أن يبين أن النسخ إنما حصل في حقّ غير الحامل والمرضع. لما روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في هذه الآية: أثبتت للحبلى والمرضع. أي لم تنسخ.
والدليل عليه هو أنه تعالى قال: فمن شهد منكم الشهر فليصمه. وهذا يقتضي انحتام الصوم، ولا خلاف أن الصوم لا يتحتم على الحامل والمرضع بل هما مخيران بين الصوم والفطر كما كانتا. فدل على أن الآية إنما نسخت في حق غيرهما.
الثاني: أن يدعي النسخ بآية متأخرة.
مثاله: استدلال أصحابنا في جواز المنّ والفداء في أسرى المشركين بقوله تعالى: فإما منّا بعد، وإما فداء. وهذا نصّ في جواز المنّ والفداء([2] (https://majles.alukah.net/#_ftn2) )
فيقول الحنفي: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين. لأن هذه الآية في سورة براءة، وهي آخر سورة نزلت؛ فكانت ناسخة لما قبلها.
والجواب: أن يبين أنه لا تجوز دعوى النسخ مع إمكان الجمع، وها هنا يمكن الجمع بين الآيتين بأن تحمل إحداهما عليه إذا رأى الإمام المصلحة في قتلهم، والأخرى إذا رأى المصلحة في المنّ والفداء بهم.
فالجمع بين الآيتين أولى من النسخ؛ لأن النسخ إسقاط والجمع استعمال، فكان الجمع أولى.
الثالث: دعوى النسخ بأنه شرع من قبلنا.
مثاله: استدلال الشافعي في وجوب القصاص في الأطراف بين الرجل والمرأة([3] (https://majles.alukah.net/#_ftn3) ) بقوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص.
فيقول الحنفي: هذا إخبار عن شرع من قبلنا، وقد نسخ ذلك بشرعنا فلا يجوز التعلقّ به.
والجواب عن هذا بما يلي:
أولا: أن يقول: إن شرع من قبلنا شرع لنا أيضا ما لم يثبت نسخه. وهو مذهب بعض أصحابنا.
ثانيا: أن يبين أن هذه الآية محكمة في شرعنا معمول بها. والدليل عليه: أن الرُّبَيِّع بنت النضر كسرت سن جارية، فقال النبي: صلى الله عليه وسلم: كتابُ اللهِ القصاصُ. رواه البخاري ومسلم. فأشار في إيجاب القصاص إلى هذه الآية؛ فدل على أن الآية محكمة في شرعنا. الملخص في الجدل بتصرف.
([1] ) مذهبهم وجوب القضاء عليهما فقط.
([2] ) مذهب الشافعية أن الإمام مخير في الأسرى بين أحد أربعة أمور: إما القتل، وإما الاسترقاق، وإما الفداء بمال أو أسرى، وإما أن يمن عليهم بدون مقابل.
ومذهب الحنفية أن الإمام مخير فيهم بين أمرين: إما القتل، وإما الاسترقاق. وليس له أن يفادي بالمال أو يمنّ. وأن قوله تعالى: فإما منّا بعد وإما فداء. منسوخ بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.
([3] ) مذهب الشافعية والجمهور أن القصاص في الأطراف يجري بين الرجل والمرأة فلو أن رجلا قطع كف امرأة قطعت كفه.
ومذهب الحنفية أن شرط القصاص التكافؤ، فلا قصاص فيما دون النفس بين الرجل والمرأة؛ لأن الأطراف عندهم كالأموال، ودية المرأة نصف دية الرجل.
صفاء الدين العراقي
2019-08-19, 07:04 PM
والاعتراض السَّابِع التَّأْوِيلُ. وَذَلِكَ ضَرْبَان:
تَأْوِيل الظَّاهِر. كاستدلال الشَّافِعِي فِي إيجاب الإيتاء بقوله تَعَالَى {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا وَآتُوهُمْ من مَال الله الَّذِي آتَاكُم}.
فيحمله الْحَنَفِيّ على الِاسْتِحْبَاب بِدَلِيل.
وَالثَّانِي: تَخْصِيص الْعُمُوم. كاستدلال الشَّافِعِي فِي قتل شُيُوخ الْمُشْركين بقوله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} فيخصصها الْحَنَفِيّ فِي الشُّيُوخ بِدَلِيل.
وَالْجَوَاب: أن يتَكَلَّم على الدَّلِيل الَّذِي تَأَول بِهِ أوْ خصّ بِهِ ليسلم لَهُ الظَّاهِر والعموم.
أقول: الاعتراض السابع: التأويل وهو: صرف اللفظ عن معناه المتبادر بدليل. وهو نوعان: تأويل الظاهر، وتخصيص العام.
فأما تأويل الظاهر فمثاله: استدلال الشافعي في إيجاب إيتاء العبد في الكتابة شيئا من المال بقوله تعالى: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم. فيقول: آتوهم أمر وهو يقتضي الوجوب.
فيقول الحنفي: هو هنا للاستحباب ويحتج بقرينة كأن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما عبد كاتب على مائة أوقية([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) فأداها إلا عشرة أواق فهو عبد وأيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد. رواه أبو داود. قالوا: وفي هذا الحديث دليل على أنه لا يستحق على المولى حط شيء من مال الكتابة، فبهذا الحديث تبين أن المراد من الأمر بالآية هو الندب.
والجواب عنه بالتكلم على الدليل الذي تأول به الظاهر ليسلم له الظاهر، كأن يقول: نحن نقول بهذا الحديث وإن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولسنا نعين قدرا من المال يعطيه المولى لمكاتبه بحيث إن بقي عليه بقدره أعتق.
وأما تخصيص العام فمثاله: استدلال الشافعي في قتل شيوخ وعجائز المشركين([2] (https://majles.alukah.net/#_ftn2)) بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين. والمشركون: لفظ عام يعمّ كل مشرك.
فيقول الحنفي: أنا أخص منه الشيوخ، والدليل عليه: ما جاء في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقتلوا شيخا فانيا.
والجواب عن هذا بالتكلم على الدليل الذي خصّ به العام فيسقطه ليسلم له العام. كأن يقول حديث أبي داود ضعيف وهو معارض بحديث الترمذي مرفوعا: اقتلوا شيوخ المشركين. فلا يقوى على تخصيص ظاهر القرآن.
([1] ) وهي أربعون درهما.
([2] ) مذهب الشافعية هو قتل كل مشرك لشركه إلا النساء والصبيان. وذهب الجمهور إلى عدم جواز قتل الشيوخ إلا إن قاتلوا.
صفاء الدين العراقي
2019-08-21, 01:40 AM
والاعتراض الثَّامِن الْمُعَارضَة. وَهُوَ ضَرْبَان: مُعَارضَة بالنطق، ومعارضة بِالْعِلَّةِ.
فالمعارضة بالنطق مثل: أن يسْتَدلّ الشَّافِعِي فِي تَحْرِيم شعر الْميتَة بقوله تَعَالَى: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة}
فيعارضه الْحَنَفِيّ بقوله تَعَالَى: {وَمن أصوافها وأوبارها وَأَشْعَارهَا أثاثا ومتاعا إِلَى حِين}
الْجَواب عَنهُ من وَجْهَيْن:
أحدهما: أن يتَكَلَّم على الْمُعَارضَة بِمَا يعْتَرض بِه لو استدل به ابتداء.
أوْ يرجح دَلِيله على الْمُعَارضَة.
وإن كَانَت الْمُعَارضَة بعلة تكلم عَلَيْهَا بِمَا يُتكلم على الْعِلَل ليسلم دَلِيله.
أقول: الاعتراض الثامن هو المعارضة وهي: مقابلة دليل الخصم بدليل آخر. وهي نوعان:
الأول: معارضة بالنطق- من كتاب وسنة- كأن يستدل المستدل بآية من كتاب الله فيقابله السائل بآية أخرى.
مثاله: استدلال الشافعي في تحريم الانتفاع بشعر الميتة بقوله تعالى: حرمت عليكم الميتة. ولم يفرق بين الشعر وغيره.
فيعارضه الحنفي بجواز ذلك مستدلا بقوله تعالى: ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين. ولم يفرق بين ما يؤخذ في حال الحياة وبين ما يؤخذ بعد الموت.
والجواب عن المعارضة بوجهين:
أحدهما: أن يتكلم على المعارضة كما لو أنها ذكرت ابتداء أي كما لو أنها حجة مبتدأة لم تذكر على وجه المعارضة، فلو أن الحنفي ابتدأ بالآية السابقة كدليل له على مسألته، فحينئذ للشافعي أن ينظر فيها بما ذكرناه من الاعتراضات السبعة المتقدمة كالتأويل أو الإجمال([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) )
وثانيهما: أن يرجح دليله على المعارضة كأن يقول هنا: إن التمسك بآيتنا أولى لأنها وردت لبيان المحرم، وأن الميتة محرمة علينا، ووردت الأخرى للامتنان بما أُحل لنا. فالأولى أولى لأنها قصدت لبيان الحكم.
الثاني: المعارضة بالقياس كأن يخصص آية المستدل بالقياس، أو يصرف ظاهرها به.
مثاله: استدلال الشافعي في قتل شيوخ المشركين بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين
فيقول المخالف معارضا: لا يجوز قتل شيوخ الكفار لأنهم ليسوا من أهل القتال كالنساء.
والطريق في الجواب أن يتكلم على العلة بما يسقطها من الوجوه التي سيأتي ذكرها في باب القياس ليسلم له الظاهر والعموم كأن يقول: هذه العلة مخالفة للنص على قتل شيوخ المشركين الوارد في حديث الترمذي السابق.
([1] ) أجاب أصحابنا كما في المجموع: إنها محمولة على شعر المأكول إذا ذكي أو أخذ في حياته كما هو المعهود. ولكن ذكر الإمام أبو إسحاق في الملخص ما نصّه: فليس للمستدل أن يحمل آية السائل على ما يؤخذ في حال الحياة بدليل آيته الخاصة إلا وللسائل أن يحمل آية المستدل على غير الشعر بدليل آيته الخاصة في الأشعار. اهـ
صفاء الدين العراقي
2019-08-22, 12:20 AM
بَاب الْكَلَام على الِاسْتِدْلَال بِالسنّةِ
وَذَلِكَ من ثَلَاثَة أوجهٍ:
أحدها: الرَّد.
وَالثَّانِي: الْكَلَام على الإسناد.
وَالثَّالِث: الْكَلَام على الْمَتْن.
فأما الرَّد فَمن وُجُوهٍ:
أحدها: ردُّ الرافضةِ. وَذَلِكَ مثل ردهم أخبارنا فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وإيجاب غسل الرجلَيْن، فقَالُوا: هَذِه أخبار آحاد وَنحنُ لَا نقُول بِهِا.
والْجَوَابُ من ثَلَاثَةِ أوجهٍ:
أحدها: أن نقُول: أخبار الآحاد أصل من أصول الدّين؛ فانْ لم تسلِّمُوا نقلنا الْكَلَام إليه.
وَالثَّانِي: أن نقولَ: إنَّ هَذَا تَوَاتر من طَرِيق الْمَعْنى فإن الْجَمِيع مُتَّفق على الدّلَالَة على الْمسْح على الْخُفين وإيجاب غسل الرجلَيْن، وإن كَانَ فِي كل قضيَة مِنْهَا خبر الْوَاحِد فَوَقع الْعلم بهَا كالأخبار عَن شجاعة عَليّ وسخاء حَاتِم.
وَالثَّالِث: أن يناقضوا فِيمَا خالفونا فِيهِ فإنهم أثبتوها بأخبار الآحاد.
أقول: قد مضى الكلام في الاستدلال بالكتاب والاعتراض عليه والجواب عنه، والكلام ها هنا في بيان وجوه الاعتراض على السنة والجواب عنه فنقول:
الاعتراض على السنة يتأتى من ثلاثة أوجه: من جهة الرد أي رد الخبر لكونه خبر آحاد، ومن جهة الإسناد، ومن جهة المتن.
فأما من جهة الرد فيقع على أنحاء:
الأول: رد الشيعة الإمامية أخبار أهل السنة في المسح على الخفين، وفي وجوب غسل الرجلين. فقالوا: هذه أخبار آحاد ونحن لا نقول بها.
والجواب من ثلاثة وجوه:
أحدها: أن نقول: أخبار الآحاد أصل من أصول الدين يثبت بها الأحكام الشرعية؛ فإن لم تسلموا ذلك نقلنا الكلام إليه، أي انتقلنا لإثبات أن أخبار الآحاد حجة وطريق من طرق إثبات الأحكام فنستدل بقوله تعالى: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قوهم إذا رجعوا إليهم لعلم يحذرون. وقوله تعالى: إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا. فدل على أن العدل يقبل قوله، وغيرها من الأدلة الواضحة الدالة على قبول خبر الواحد.
ثانيها: أن نمنع أنها أخبار آحاد فإنها متواترة تواترا معنويا فإن جميع تلك الروايات متفقة على مسح الخفين وأنه صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه، وعلى إيجاب غسل الرجلين في الوضوء، وإن كان كل حديث وقضية خبر واحد بمفرده، فيحصل العلم بمجموعها علما قطعيا، وذلك نظير الأخبار عن شجاعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكرم حاتم الطائي فإن كل خبر منفردا يفيد الظن، ولكن بمجموعها يحصل التواتر والعلم.
ثالثها: أن يُناقضوا فيما خالفونا فيه من المسائل مما أثبتوه بأخبار الآحاد في أبواب الطهارة والصلاة والزكاة وغيرها مما هو مدون في كتبهم. فيقال حينئذ: هذا تناقض منكم كيف تعترضون على إثباتنا لتلك الفروع بأخبار الآحاد- إن سلمنا أنها ليست متواترة- ثم تثبتون تلك الأحكام بخبر الآحاد!
صفاء الدين العراقي
2019-08-23, 09:22 PM
وَالثَّانِي: ردُّ أصحابِ أبي حنيفَة فِيمَا يعمُّ بِهِ الْبلوى.
كردِّهمْ خبرنَا فِي مسِّ الذّكرِ، قَالُوا: مَا يعمُّ بِهِ الْبلوى لَا يقبلُ فِيهِ خبرُ الْوَاحِدِ.
وَالْجَوَابُ: أن عندنَا يقبلُ، فإنْ لم يُسلِّمُوا دلَّلْنا عَلَيْهِ.
ولأَنهم عمِلُوا بِهِ فِي: الْمَنْع مِنْ بيعِ دورِ مَكَّةَ، وإيجابِ الْوترِ، وَالْمَشْي خلفَ الْجِنَازَةِ.
أقول: الرد الثاني لخبر الآحاد هو ردّ الحنفية قالوا: المسألة إذا كانت مما تعمّ بها البلوى لا نقبل فيها خبر الواحد. توضيحه: إن من الأحكام ما تعمّ به البلوى([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) وهو: ما يحتاج كل أحد إلى معرفته. أي أن كل المكلفين أو أغلبهم يحتاجون إلى معرفة ذلك الحكم الشرعي للعمل به فعلا أو تركا لتكرر وقوعه وذلك مثل: أحكام الوضوء ونواقضه والصلاة ومبطلاتها والصوم ومفطراته ونحوه.
فإذا علم هذا فقد ذهب الحنفية إلى أن خبر الواحد فيما يتكرر وقوعه وتعمّ به البلوى لا يقبل دون تلقي الأمة له بالقبول؛ لأن ما تعم به البلوى يكثر سؤال الناس عنه لشدة احتياجهم إليه فتقتضي العادة نقله نقلا متواترا لتوفر الدواعي على نقله.
وذهب الجمهور إلى قبول خبر الواحد إذا صح سنده لا فرق بين ما عمت به البلوى وما لا تعم به البلوى.
ومن أمثلة ذلك ردّ الحنفية حديث: من مسّ ذكره فلا يصل حتى يتوضأ. رواه الترمذي وغيره. لأن الحكم الذي تضمنه مما تعم به البلوى فلا يقبل فيه خبر الواحد وهو بسرة بنت صفوان.
والطريق في الجواب:
1- أن يبين أنه عندنا يقبل؛ فإن لم يسلموا صحة ما ذهبنا إليه نقلنا الكلام على هذا الأصل وتكلمنا في إثباته فنقول: إن الله تعالى قال: إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا. فدل على لزوم العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا سواء أكان فيما تعم به البلوى أم لا. وأيضا فقد رجع الصحابة إلى حديث عائشة وحدها في وجوب الغسل عند التقاء الختانين كما في صحيح مسلم وهو مما تعم به البلوى.
2- أن يناقضوا فيقال: فأنتم أنفسكم قد عملتم بخبر الواحد في مسائل مما تعم بها البلوى فمن ذلك:
إيجاب الوتر بحديث: إن الله زادكم صلاة وهي الوتر. رواه أحمد.
استحباب المشي خلف الجنازة([2] (https://majles.alukah.net/#_ftn2) ) استدلوا فيه بحديث للترمذي: الجنازة متبوعة ولا تتبع وليس منها من تقدمها.
المنع من بيع دور مكة([3] (https://majles.alukah.net/#_ftn3) ) استدلوا فيه بحديث ضعيف رواه البيهقي: مكة مُناخٌ لا تباع رِباعها ولا تؤاجر منازلها. مناخ أي محل للمناخ أي إبراك الإبل ونحوها والرباع أي المساكن.
([1] ) العموم في اللغة بمعنى الشمول، والبلوى هي الاختبار والامتحان أي شمول الاختبار والتكليف بالفعل لعموم المكلفين.
([2] ) مذهب أصحابنا أن المشي أمام الجنازة أفضل.
([3] ) مذهبنا جواز بيع دور مكة وتأجيرها.
صفاء الدين العراقي
2019-08-25, 08:30 PM
وَالثَّالِثُ: ردُّ أصحابِ مَالكٍ فِيمَا خَالفَ الْقيَاسَ.
كردِّهم خبرنَا فِي طَهَارَةِ جُلُودِ الْميتَةِ؛ أَنَّهُ مُخَالفٌ للْقِيَاسِ فَلَا يُقبلُ.
وَالْجَوَابُ: أنَّ خبرَ الْوَاحِدِ عندنَا مقدَّمٌ على الْقيَاسِ، فإنْ لم يُسلِّمُوا دلَّلنا عَلَيْهِ وَتناقضوا بِمَا قبِلوا فِيهِ خبرَ الْوَاحِدِ وقدّمُوهُ على الْقيَاسِ.
أقول: الرد الثالث لخبر الآحاد هو ردّ المالكية قالوا: إذا خالف خبر الواحد القياس فلا نقبله.
فإذا خالفَ خبر الآحاد القياس ولم يمكن الجمع بينهما فقد اختار المالكية([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) تقديم القياس عليه؛ لاشتمال القياس على علة الحكم وحكمته فهو أولى.
مثاله: إذا استدل الشافعي في طهارة جلود الميتة بالدبغ بقوله صلى الله عليه وسلم: أيما إهاب دُبغ فقد طهر. رواه الأربعة.
فيقول المالكي: هذا الخبر مخالف للقياس؛ لأن القياس أن ما نجس بالموت لا يطهر بالمعالجة كسائر الأجزاء، وخبر الواحد إذا خالف القياس وجب إطّراحه.
والجواب من أوجه:
أحدها: أن يقول: هذا أصل من أصولنا أن خبر الواحد مقدم على القياس؛ فإن سلمتم ذلك وإلا نقلنا الكلام إليه.
والثاني: أن يتكلم على هذا الأصل ويدل عليه، بأن يقول: إن الأدلة الدالة على قبول خبر الآحاد لم تقيد بكونه لا يخالف القياس فوجب الأخذ بالدليل، وأيضا القياس يدل على قصد صاحب الشرع من طريق الاستدلال والاستنباط، وخبر الواحد يدل على قصده من طريق التصريح، فكان الرجوع إلى التصريح هو المتعين.
الثالث: أن يبين المواضع التي عملوا فيها بخبر الواحد، وتركوا القياس، فيستدل بذلك على بطلان ما قالوه.
مثاله: مسألة المصرّاة وهي الشاة ونحوها يشد على ضرعها بالشد وترك الحلب لمدة حتى يظن المشتري أنها كثيرة الحليب ثم بعد حلبها يتبين أنها ليست كذلك فهذه ورد فيها حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: لا تَصَرُّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها: إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعَ تمر. فهذا الحديث فيه مخالفة للقياس؛ فإن القياس إن الضمان يكون برد مثله في المثليات وقيمته في القيميات فيلزم بقيمة اللبن أو مثله كما هو ضمان سائر المتلفات. أما أن يضمن بصاع تمر فهذا مخالف للقياس. ومع هذا أخذ المالكية به تقديما للخبر على القياس.
([1] ) حصل اختلاف في النقل عنهم واختلف المالكية أنفسهم.
صفاء الدين العراقي
2019-08-27, 08:49 PM
وَالرَّابِعُ: ردُّ أصحابِ أبي حنيفَة فِيمَا خَالفَ قِيَاسَ الأُصولِ.
كردِّهم خبرنَا فِي الْمُصرَّاة والقُرعة وَغَيرِهمَا.
وَالْجَوَاب: أن قِيَاسَ الأصول هُوَ الْقيَاسُ على مَا ثَبت بالأصولِ وَقد بَيّنا الْجَواب عَنهُ.
ولأنهم ناقضوا فعملوا بِخَبَر الْوَاحِد فِي: نَبِيذ التَّمْرِ، وقهقهةِ الْمُصَلِّي، وأكلِ النَّاسِي فِي الصَّوْمِ.
أقول: الرد الرابع لخبر الآحاد هو رد الحنفية أيضا قالوا: إذا خالف خبر الواحد قياس الأصول فلا نقبله.
توضيحه: اعلم أن الأصول هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فقول الحنفية([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) : "قياس الأصول" يفهم منه قياس فرع على أصل ثبت بالكتاب أو السنة أو الإجماع فحينئذ لا يظهر فرق بين قولهم وقول المالكية فالفريقان على رد خبر الواحد إذا خالف القياس.
مثاله: حديث المصراة السابق فهو مخالف للقياس فلهذا ردوه وقالوا: لا يرد البيع بعيب، وليس له رد الشاة بل له أخذ الفرق عن نقصان ثمن الشاة إذا تبين أنها مصرَّاة.
مثال آخر: حديث القرعة وهو ما أخرجه أبو داود وغيره عن عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له قولا شديدا، ثم دعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرقّ أربعة. فإن الحنفية لم يقبلوه لكونه خبر آحاد قد خالف القياس؛ لأن القرعة تؤذي المستحق فإذا لم يوزع العتق عليهم فقد حرم بعضهم بعض حصته؛ فالحكم عندهم أن يعتق من كل واحد منهم ثلثه.
مثال آخر: حديث التفليس وهو ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره. أي سواء كان وارثا أم لا، وبهذا قال جمهور العلماء أن من اشترى متاعا ثم أفلس ولم يدفع الثمن فالبائع يستحق أخذ ماله، وخالفت الحنفية فلم يقبلوه لكونه خبر آحاد خالف القياس فإن السلعة صارت بالبيع ملكا للمشتري، وصار البائع أجنبيا عنها كسائر أمواله، فاستحقاق البائع أخذها منه نقض لملكه، فالقياس أن يكون هذا المبتاع كسائر الغرماء.
والجواب: أن هذا هو ما قاله أصحاب مالك فالرد عليهم هو عينه الرد عليكم.
وجواب آخر وهو أن يقال: قد ناقضتم أنفسكم فإنكم تركتم القياس بخبر الواحد في مواضع منها:
1- قالوا: القياس أنه لا يجوز الوضوء بنبيذ التمر لتغير طعم الماء ، وصيرورته مغلوبا بطعم التمر ، فكان في معنى الماء المقيد ولكن تركناه لحديث ابن مسعود سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في إداوتك- إناء من جلد يتخذ للماء- فقلتُ: نبيذٌ، فقال: ثمرة طيبة وماء طهور. قال: فتوضأ منه. رواه أبو داود وهو ضعيف.
2- قالوا: القياس أن القهقهة في الصلاة لا تبطل الوضوء لأنها ليست بخارج نجس بل هي صوت كالبكاء والكلام، ولكنا تركناه وأوجبنا بطلان الوضوء والصلاة لحديث: ألا من ضحك منكم قهقهة فليعد الوضوء والصلاة جميعا. رواه ابن عدي. وهو حديث ضعيف.
3- قالوا: القياس: أن من أكل أو شرب ناسيا بطل صومه لفوات ركن الصوم وهو الإمساك غير أنا تركناه لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من نسي وهو صائم فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه. متفق عليه.
([1] ) في أصول السرخسي وغيره من كتبهم ما حاصله: أن الصحابي راوي الحديث إن كان معروفا بالفقه كالخلفاء الراشدين قبل خبره خالف القياس أم لا، وإن لم يكن معروفا بالفقه كأبي هريرة وأنس بن مالك فما خالف القياس وتلقته الأمة بالقبول قبل، فإن لم تتلقه الأمة بالقبول وخالف جميع الأقيسة بحيث لا يوافق القياس من أي وجه وانسد باب الرأي بالكلية رد، ومثلوا له بحديث المصراة.
صفاء الدين العراقي
2019-08-28, 11:07 AM
وَالْخَامِسُ: ردُّ أصحابِ أبي حنيفَة فِيمَا يُوجبُ زِيَادَةً فِي نَصِّ الْقُرْآنِ وأنَّ ذَلِكَ نسخٌ.
كخبرِنا فِي إيجاب التَّغْرِيبِ. فَقَالُوا: هَذَا يُوجبُ زِيَادَة فِي نَص الْقُرْآن، وَذَلِكَ نسخٌ، وَلَا يقبلُ فِيهِ خبرُ الْوَاحِدِ.
وَالْجَوَاب: أن ذَلِك لَيْسَ بنسخ عندنَا؛ لَأن النّسخ هُوَ الرّفْع والإزالة وَنحن لم نرفع مَا فِي الآية.
ولأنهم ناقضوا فزادوا النَّبِيذ فِي آية التَّيَمُّم بِخَبَر الْوَاحِد.
أقول: الرد الخامس لخبر الآحاد هو رد الحنفية أيضا قالوا: إذا زاد خبر الواحد حكما على نص القرآن فلا نقبله لأنه نسخ، والقرآن لا ينسخ بخبر الواحد. وهذه المسألة تسمى الزيادة على النص. توضيحه:
إذا أمر الشارع بعبادة ثم جاء نص آخر فزاد في تلك العبادة جزءا أو شرطا فهل تعد تلك الزيادة نسخا للنص الأول باعتبار أنه كان خاليا من تلك الزيادة ثم زادها النص الثاني أو لا تعد نسخا؟
قولان: ذهب الحنفية إلى أن ذلك نسخ، وذهب الجمهور إلى أنه ليس بنسخ، فعلى القول بأنه نسخ لو كان النص الذى أتى بالزيادة هو خبر آحاد، والنص الأول هو آية من القرآن فلا يصح النسخ ولا يقبل ذلك الحكم الزائد، وقال الجمهور يقبل لأن ذلك ليس من النسخ في شيء.
مثاله: استدلال الشافعي في إيجاب النية في الوضوء بقوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات. رواه البخاري ومسلم.
فيقول الحنفي: هذا يتضمن زيادة في نص القرآن وهو قوله عز وجل: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا.. لأن الآية تضمنت أربعة أركان فتفيد حصول الإجزاء بها وجاء حديث الآحاد فأضاف لها ركنا خامسا وهو النية فيفيد أن الوضوء لا يجزئ إلا بها، فكان نسخا للآية، والقرآن لا ينسخ بحديث الآحاد.
مثال آخر: استدلال الشافعي في إيجاب التغريب والنفي من البلد مدة عام على الزاني بقوله صلى الله عليه وسلم: خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. رواه مسلم.
فيقول الحنفي: هذا زيادة على نص القرآن، فإن الحديث أضاف على نص الآية: فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة. تغريب عام فيكون نسخا ولا ينسخ القرآن بحديث الآحاد. و لهذا لم يوجبوا التغريب.
والجواب: أن يقول: هذا ليس بنسخ عندنا؛ لأن النسخ هو الرفع والإزالة، وخبر الواحد لا يرفع شيئا من المذكور بل يبقي المذكور كما كان ويضيف إليه شيئا آخر فلا يكون ذلك نسخا، ألا ترى أنه إذا كان في الكيس دراهم وأضيف إليه شيء آخر كدينار لا يقال: إنه رفع ما في الكيس، وإذا كتب كتابا ثم كتب في حاشيته شيئا آخر لا يقال: إنه رفع ما في الكتاب. من الملخص.
وجواب آخر وهو أن يقال: قد ناقضتم أنفسكم؛ لأنكم أثبتم جواز الوضوء بنبيذ التمر بخبر الواحد، وهذا زيادة على نص القرآن- فإن القرآن فيه الوضوء بالماء وأنتم زدتم على قوله تعالى: فإن لم تجدوا ماء فتيمموا. نبيذ التمر عند عدمه في السفر- بخبر الواحد فسقط ما قلتموه.
صفاء الدين العراقي
2019-08-29, 03:43 AM
وأمّا الإسنادُ فَالْكَلَام فيه مِن وَجْهَيْن:
أحدهما: الْمُطَالبَة بإثباته وَهَذَا يكون فِي الأخبار الَّتِي لم تدوّنْ فِي السّنَن وَلم تسمع إلا مِن الْمُخَالفينَ.
كاستدلال الْحَنَفِيّ فِي صَدَقَة الْبَقر بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: فِي أربعينَ مُسِنَّةٌ، وَفِيمَا زَادَ فبحسابهِ.
وَالْجَوَاب: أن يبين إسناده، أَو يحيله على كتاب مُعْتَمد.
وَالثَّانِي: الْقدح فِي الإسناد وَهُوَ من ثَلَاثَة أوجهٍ:
أحدها: أن يذكر فِي الرَّاوِي سَببا يُوجب الرَّد مثل أن يَقُول: إنه كَذَّابٌ، أوْ مُبْتَدع، أَوْ مُغفّلٌ.
فَالْجَوَاب أن يبين للْحَدِيث طَرِيقا آخر.
وَالثَّانِي: أن يذكر أَنَّهُ مَجْهُولٌ.
فَالْجَوَاب: أن يبين للْحَدِيث طَرِيقًا آخر، أوْ يزِيل جهالته بِرِوَايَة الثِّقَات عَنهُ، أوْ ثَنَاء أصحاب الحَدِيث عَلَيْهِ.
وَالثَّالِث: أن يذكر أنَّهُ مُرْسلٌ.
فَالْجَوَاب: أن يبين أنه مُسْند.
أوْ يَقُول: الْمُرْسلُ كالمسندِ إنْ كَانَ مِمَّن يعْتَقد قبُول الْمَرَاسِيل.
أقول: أما الكلام في الإسناد فمن وجهين:
أحدهما: من جهة المطالبة ببيان الإسناد.
والثاني: من جهة القدح.
فأما المطالبة فهو: أن يروي المستدل حديثا فيطالبه بإسناده. وهذا على وجهين:
1- أن يذكر حديثا معروفا إسناده لا يخفى على أمثاله كحديث: إنما الأعمال بالنيات، فهذا لا يحسن فيه المطالبة بإسناده، فإن تعنت وطالب به فيذكر له من رواه ويحيله على كتب الحديث.
2- أن يذكر حديثا غير معروف لم يدون في السنن ولم يسمع إلا من المخالفين يتداولونه في كتبهم الفقهية.
مثاله: استدلال الحنفية في زكاة البقر بروايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: في أربعين مُسنّةٌ، وفيما زاد فبحسابهِ([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) )
فيقول له الشافعي: أين إسناد الحديث.
والجواب: أن يذكر إسناده ويبين رجاله، أو يحيله على كتاب معتمد من كتب الحديث.
وأما القدح في الإسناد والطعن فيه فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يقدح في الراوي بطعن يوجب ردّ حديثه.
كأن يقول: هذا الراوي كذاب، أو مبتدع كرافضي أو قدري، أو مغفل كثير الوهم والخطأ.
والجواب: أن يبين للحديث طريقا آخر إن أمكن.
ثانيها: أن يذكر أن الراوي مجهول.
والجواب: أن يذكر للحديث طريقا آخر يسلم من الطعن إن أمكنه.
أو يرفع جهالته ببيان رواية الثقات عنه، أو من وثقه من أصحاب الحديث.
ثالثها: أن يذكر أن الحديث مرسل والمرسل ضعيف.
والجواب: أن يبين أنه مسند من وجه آخر أي أنه روي مرسلا ومسندا، والمسند زيادة ثقة فيصار إليه.
أو يقول: المرسل عندي كالمسند إن كان يعتقد قبول المراسيل، وأن الثقة إنما يرسل لقطعه بصحة الخبر([2] (https://majles.alukah.net/#_ftn2) )
([1] ) رواه الترمذي بلفظ: ومن كل أربعين مسنة.
([2] ) ذكر الإمام أبو إسحاق في الملخص أمثلة لتلك الأوجه الثلاثة- ص 249 وما بعدها- أعرضت عنها اختصارا لوضوح المطلب لطالب الحديث.
صفاء الدين العراقي
2019-08-30, 09:07 PM
وأضافَ أصحابُ أبي حنيفَةَ إلى هَذا وُجُوهًا أخر مِنْهَا أن يَقُول:
السّلفُ رَدُّوهُ.
كَمَا قَالُوا فِي حَدِيث الْقسَامَة: أن عَمْرو بن شُعَيْب قَالَ: وَاللـهِ مَا كَانَ الحَدِيث كَمَا حدّثَ سَهلٌ.
فَالْجَوَاب: أنَّه إذا كَانَ الرَّاوِي ثِقَة لم يرد حَدِيثه بإنكار غَيرِه؛ لَأن الْمُنكِر يَنْفِي والراوي يثبت والإثبات مقدّم على النَّفْي، لَأن مَعَ الْمُثبِت زِيَادَة علمٍ.
أقول: ومن الوجوه التي قدح بها في الإسناد وليست بقادحة ما قاله الحنفية: إن السلف قد طعنوا في الحديث.
مثاله: حديث الأيمان في القَسَامة([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) فعن سهل بن أبي حَثْمَة - رضي الله عنه - قال: انطلق عبد الله بن سهل، ومُحَيّصَةُ بن مسعود بن زيد إلى خيبر، وهي يومئذ صلح فتفرّقا. فأتى مُحيّصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتَشَحَّطُ في دمه قتيلًا، فدفنه، ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحُوَيَّصَة ابنا مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال: كَبر كَبر، وهو أحدث القوم فسكت. فتكلما فقال: تحلفون وتستحقون قاتلَكم، أو صاحبَكم. قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: فَتُبْريْكُم يهود بخمسين. فقالوا: كيف نأخذ أَيمانَ قومٍ كفار؟ فَعَقَلَه([2] (https://majles.alukah.net/#_ftn2) ) النبي - صلى الله عليه وسلم - من عنده. رواه البخاري ومسلم.
ففي هذا الحديث أن الأيمان تكون أولا على المدَّعي لا على المدّعى عليه وهذا مخالف لسائر الدعاوي.
وبذلك قال الجمهور أخذا بالحديث وخالف الحنفية فقالوا الذي عليه الأيمان هو المدعى عليه كاليهود في حادثة القتل.
قالوا: أما حديث سهل فقد قدح به بعض السلف فنرده فقد قال ابن إسحاق: وسمعت عمرو بن شعيب في المسجد الحرام يقول: والله الذي لا إله إلا هو ما كان الحديث كما حدث سهل([3] (https://majles.alukah.net/#_ftn3) ) .
والجواب أن يقال: إن الراوي إذا كان ثقة لم يسقط حديثه بإنكار من أنكر، وذلك أن الإنكار نفي، والرواية إثبات، والإثبات يقدم على النفي؛ لأن مع المثبت زيادة علم.
([1] ) صفة القسامة أن يدعي قومٌ أن مورِّثَهم قتله فلان، ووجدت القرينة المشعرة بصدق أهل القتيل من عداوة فيحلفون على أنه هو القاتل، ويكررون الأيمان، فإذا فعلوا ذلك استحقوا الدية، فليس فيها بيِّنة، وإنما فيها هذه الأيمان فقط.
([2] ) دفع ديته من عنده قطعا للنزاع.
([3] ) انظر سيرة ابن هشام ومختصر اختلاف العلماء لأبي جعفر الطحاوي.
صفاء الدين العراقي
2019-08-30, 09:12 PM
وَمِنْهَا أن يَقُول: الرَّاوِي أنكرَ الحَدِيث.
كَمَا قَالُوا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أيما امْرَأَة نكحت بِغَيْر اذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل. رَاوِيه الزُّهْرِيّ وَقد قَالَ: لَا أعرفه.
فَالْجَوَاب: أن إنكار الرَّاوِي لَا يقْدَح فِي الحَدِيث لجَوَاز أن يكون نَسيَهُ.
أقول: ومن تلك الأوجه التي لا تقدح أن يقول الخصم: إن راوي الحديث قد أنكره.
مثاله: قول الحنفية في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل. رواه أبو داود. إن الراوي له ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري، وقد قال ابن جريج: لقيت الزهري فسألته عن الحديث فقال: لا أعرفه. والراوي إذا أنكر الحديث الذي روي عنه سقط.
والجواب أن يقال: إن إنكار الراوي لا يقدح في الحديث إذا كان الراوي عنه ثقة؛ لأنه يجوز أن يكون قد روى ذلك ثم نسيه، ونسيانه لا يمنع الاحتجاج بحديثه؛ لأن نسيانه ليس بأعظم من موته، وموته لا يسقط حديثه فنسيانه أولى.
ولهذا أصحاب الحديث يروون الحديث عمن روى عنهم إذا نسوا الحديث فيقولون: حدثنا فلان عنا أنا رويناه عن فلان، حتى صنف الدارقطني جزءا فيمن روى عمن روى له فدل على جواز ذلك. الملخص.
صفاء الدين العراقي
2019-09-02, 12:33 AM
وَمِنْهَا أن يَقُول: رَاوِيه لم يعْمل بِهِ.
كَمَا قَالُوا فِي حَدِيث الْغسْل من ولوغ الْكَلْب سبعا إنَّ رَاوِيه أبو هُرَيْرَة وَقد افتى بِثَلَاث مَرَّات. فَالْجَوَاب: أن الرَّاوِي يجوز أن يكون قد نسي فِي حَال الْفتيا، أوْ أَخطَأ فِي تَأْوِيله فَلَا يتْرك سنة ثَابِتَة بِتَرْكِهِ.
أقول: ومما يعترض به وليس بقادح أن يقال: إن هذا الحديث لم يعمل به راويه.
مثاله: ما قاله أصحاب أبي حنيفة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: طُهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعا إحداهن بالتراب. رواه البخاري ومسلم. إن هذا يرويه أبو هريرة رضي الله عنه وقد كان يفتي بثلاث مرات، ولو كان صحيحا ما ترك العمل به.
والجواب أن يقال: إن ترك الراوي للحديث لا يمنع الاحتجاج به؛ لجواز أن يكون قد تركه لنسيان في حال الفتيا، أو أخطأ في تأويله، وإذا احتمل ما ذكرناه لا تترك سنة ثابتة بترك الراوي العمل بها.
صفاء الدين العراقي
2019-09-02, 12:37 AM
وَمِنْهَا أن يَقُول: هَذِه الزِّيَادَة لم تنقل نقل الأصل.
كَمَا قَالُوا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر وَفِيمَا سُقِي بنضح أوْ غرب نصف الْعشْر إذا بلغ خَمْسَة أوسق.
فَقَالُوا: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ جمَاعَة فَلم يذكرُوا الأوسق فَدلَّ على أنه لَا أصل لَهَا.
وَالْجَوَاب: أنه يجوز أن يكون قد ذكر هَذِه الزِّيَادَة فِي وَقت لم يحضر الْجَمَاعَة، أوْ كَانَ هُوَ أقْربْ إليه سمع الزِّيَادَة وَلم يسمعوا فَلم يجز رد خبر الثِّقَة.
أقول: ومن الأوجه التي وقع فيها الخلاف مسألة زيادة الثقة، فيعترض بأن هذه الزيادة لم تنقل نقل أصل الحديث أي أن الرواة نقلوا أصل الحديث وزاد بعضهم زيادة لم يروها البقية فيعترض بان هذه الزيادة ليست بثابتة لعدم رواية البقية لها.
والجواب: أن الزيادة مقبولة؛ لأنه يجوز أن يكون الشيخ قد ذكر الزيادة في وقت لم تحضر الجماعة، أو كان الراوي هذا أقرب إليه مجلسا فسمع الزيادة ولم يسمعوا.
هذا مختار الفقهاء وهو قبول زيادة الراوي إذا كان ثقة ولو لم يذكرها بقية الثقات من أصحاب الشيخ.
والمختار عند المحققين من أئمة الحديث أن الزيادة لا تقبل مطلقا ولا ترد مطلقا وينظر في القرائن فقد يكون من ذكرها أوثق وأحفظ وألصق بالشيخ ممن لم يذكرها فتقبل، وقد لا يكون كذلك فترد زيادته لمخالفته الثقات ويحكم عليها حينئذ بأنها شاذة كما هو مقرر في محله.
وقد مثل المصنف بحديث ابن عمر مرفوعا: فيما سقت السماءُ العشرُ، وما سُقي بنضحٍ ([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) )فنصفُ العشرِ. رواه البخاري.
وورد من حديث عمرو بن حزم مرفوعا: مَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَكَانَ سَيْحًا أَوْ كَانَ بَعْلًا فَفِيهِ الْعُشْرُ إِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَمَا سُقِيَ بِالرِّشَاءِ وَالدَّالِيَةِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ إِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. رواه البيهقي في السنن الكبرى([2] (https://majles.alukah.net/#_ftn2) ) .
فالحديث الأول الذي رواه الأكثر ليس فيه زيادة: " إذا بلغ خمسة أوسق"، والحديث الثاني فيه ذكر الزيادة، فلا تقبل عند أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، ولهذا لم يقيدوا زكاة الحبوب بخمسة أوسق بل تجب في القليل والكثير.
ويناقش التمثيل بهذا للزيادة: بأن هذا من قبيل حديثين مستقلين ليس أحدهما أصلا للآخر؛ لعدم اتحاد الصحابي، وإنما زيادة الثقات تحصل فيما اتحد الصحابي واختلف الرواة على شيخ في السند بالزيادة وعدمها. والله أعلم.
([1] ) بالنضح أي بالسانية والمراد بها الإبل التي يستقى عليها. والغرب دلو عظيمة تتخذ من جلد ثور يستقى به على السانية. والمقصود بهما الآلة.
([2] ) السيح أن يسيح الماء من نحو عين فيسقى به الزرع بدون آلة، والبعل أن يشرب النبات بعروقه من الأرض لقربه من الماء ولا يحتاج إلى سقي، والرشاء أي حبل الدلو، والدوالي جمع دالية وهي الناعورة التي يديرها الحيوان.
صفاء الدين العراقي
2019-09-02, 08:25 AM
فَصْلٌ: وأما الْمَتْن فَهُوَ ثَلَاثَةٌ: قَولٌ وَفعلٌ وإقرارٌ.
فأمَّا القَوْلُ فضربانِ: مُبْتَدأٌ، وخارجٌ على سَبَب.
فالمبتدأ كالكتاب يتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مَا يتَوَجَّه على الْكتاب. وَقد بَيّناهُ إلا أني أُعِيدُ القَوْلَ فِي السّنة؛ لأنَّهُ أوضحُ أمثلةً، وَرُبمَا اتّفق فِيهِ زِيَادَة لم تذكر فِي الْكتاب.
والاعتراض على الْمَتْن من ثَمَانِيَة أوجه:
أحدها: أن يسْتَدلّ بِمَا لَا يَقُول بِهِ وَذَلِكَ من ثَلَاثَة أوجهٍ:
فَمِنْهَا: أن يسْتَدلّ بِحَدِيث وَهُوَ مِمَّن لَا يقبل مثل ذَلِك الحَدِيث.
كاستدلالهم بِخَبَر الْوَاحِد فِيمَا يعم بِهِ البلوى، أوْ فِيمَا يُخَالِفهُ الْقيَاس، وَمَا أشبه ذَلِك مِمَّا لَا يَقول فِيهِ بِخَبَر الْوَاحِد.
وَالْجَوَاب: أن يَقُول: إن كنتُ أنا لَا أقول بِهِ إلا أنك تَقول بِهِ وَهُوَ حجَّة عنْدك فيلزمك الْعَمَل بِهِ.
وَالثَّانِي: أن يسْتَدِلَّ فِيهِ بطرِيقٍ لَا يَقُولُ بِهِ.
مثلُ: أن يسْتَدلّ بِدَلِيل الْخطابِ وَهُوَ لَا يَقُول بِهِ. كاستدلاله فِي إبطال خِيَار الْمجْلس بِمَا رُوِيَ أن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نهى عَن بيع الطَّعَام حَتَّى يقبضَ. فَدلَّ على أنه إذا قُبض جَازَ بَيْعُه وإنْ كَانَ فِي الْمجْلس.
فَيُقَال لَهُ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَلِيلِ الْخطاب وأنت لَا تَقولُ بِهِ.
وَالْجَوَاب أن يَقُول: هَذِهِ طَريقَةٌ لبَعضِ أصحابِنا وأنا مِمَّن أقول بِهِ.
أوْ أن يَقُول: إن هَذَا بِلَفْظ الْغَايَة، وأنا أقول بِهِ فِيمَا عُلِّقَ الحكم فِيهِ على الْغَايَة.
وَالثَّالِث: أن لَا يَقُولَ بِهِ فِي الْموضع الَّذِي ورد فِيهِ.
كاستدلالهم على أن الْحر يقتل بِالْعَبدِ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من قتل عَبده قَتَلْنَاهُ.
فَيُقَالُ: مَا تنَاولَهُ الْخَبَر لَا نقُولُ بِهِ فَإِنَّهُ لَا خلافَ أنَّهُ لَا يُقتلُ بِعَبْدِهِ.
وَقد تكلّف بَعضهم الْجَوابَ عَنهُ بِأَنَّهُ لما وَجبَ الْقَتْل على الْحرِّ بقتلِ عَبده دلَّ على أنه يُقتل بِعَبْد غَيره أولى، ثمَّ دلَّ الدَّلِيل على أنهُ لَا يُقتلُ بِعَبْدِهِ وَبَقيَ قَتلَهُ بِعَبْد غَيرِهِ على مَا اقْتَضَاهُ.
أقول: قد مضى الكلام على الإسناد وبقي الكلام على المتن، ومتن الحديث ثلاثة أقسام: قول، وفعل، وإقرار.
والقول ضربان: مبتدأ لم يقع على سبب، وخارج على سبب.
فالمبتدأ من القول كالكتاب، ترد على الاستدلال به نفس الاعتراضات الثمانية السابقة، وقد كان مقتضى الاختصار عدم إعادة الكلام فيها لكن المصنف ذكرها لسببين:
الأول أن الأمثلة في السنة أوضح بيانا للقاعدة من أمثلة الكتاب المتقدمة فيكون فيها زيادة توضيح.
الثاني أنه ربما اتفق في الكلام على السنة بعض الزيادات التي لم تذكر في الكتاب.
فإذا علم هذا فنقول: الاعتراض على المتن يكون من ثمانية أوجه:
الأول: أن يستدل المستدل بما لا يقول به. وهذا السؤال يتوجه على السنة من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يستدل بحديث لا يقبل عنده.
مثاله: أن يستدل الحنفي بخبر الواحد فيما يعمّ به البلوى كحديث النهي عن بيع دور مكة المتقدم.
مثال آخر: أن يستدل المالكي بخبر الواحد فيما يخالف القياس كحديث المصرّاة المتقدم.
مثال آخر: أن يستدل الحنفي بخبر الواحد فيما خالف قياس الأصول كحديث القهقهة المتقدم.
فيقول لهم الشافعي: تلك الأحاديث لا تقبل عندكم.
والجواب أن يقول: إن كنت لا أقول به فأنت تقول به فيلزمك العمل به.
وهذا الجواب يصلح في إلزام الخصم العمل به، ولكنه لا يصلح جوابا لعمله هو به مع مخالفته أصله الذي أصّله.
ثانيها: أن يستدل بالحديث بطريق من الأصول لا يقول به.
مثاله: أن يستدل الحنفي بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يقبض. رواه البخاري ومسلم. على إبطال خيار المجلس الذي يقول به الشافعية وغيرهم فيقول: دل الحديث على أنه إذا قبض الطعام في المجلس جاز بيعه. فهو بيع نافذ لا يتوقف على إجازة من البائع الأول.
فيقال له: هذا احتجاج بدليل الخطاب- مفهوم المخالفة- وأنت لا تقول به.
والجواب عن هذا أن يقول: إن كون دليل الخطاب ليس بحجة طريقة لبعض أصحابنا، وأنا ممن يقول بحجيته.
أو يقول: إن هذا المفهوم بلفظ الغاية وأنا أقول به فيما علق الحكم فيه على الغاية.
ثالثها: أن يستدل بما لا يقول بظاهره ولا يعمل بمقتضاه في الموضع الذي ورد فيه.
مثاله: استدلال الحنفية على أن الحر يقتل إذا قتل عبدا بقوله صلى الله عليه وسلم: مَن قتل عبده قتلناه. رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
فيقول له الشافعي: أنت لا تقول به؛ لأنه لا خلاف أن الحر لا يقتل بعبده؛ فالذي اقتضاه منطوق الخبر متروك اتفاقا.
وهذا أشد ما في هذا الباب على المستدل لأنه فيما تقدم من الأقسام يمكنه أن يختار غير ما اختار أصحابه لأن المسألة من مسائل الأصول؛ ولأصحابه في المذهب اختيارات، وليس للإمام أبي حنيفة رحمه الله فيها مذهب مسطور.
أما في هذه فلا يمكنه أن يخالف الإجماع أو يفتي بخلاف مذهبه.
وقد تكلف بعضهم الجواب عن ذلك فقال: إن الحديث دل على وجوب قتل الحر بقتل عبده من طريق المنطوق، ودل على أن الحر يقتل بقتل عبد غيره من طريق المفهوم، وذلك أنه إذا قُتل بقتل عبد نفسه وبعض ماله فلأن يقتل بقتل عبد غيره من باب أولى، ثم دلّ الدليل على بطلان قتل الحر بقتل عبده، وبقي وجوب قتله بقتل عبد غيره على ما دل عليه الدليل.
وهذا ليس بشيء لأن وجوب قتل الحر بقتل عبد غيره فرع لوجوب قتله بقتل عبده، فإذا بطل وجوب قتله بقتل عبده وهو الأصل فلأن يبطل قتله بقتل عبد غيره وهو فرعه أولى.
صفاء الدين العراقي
2019-09-04, 01:14 AM
والاعتراضُ الثَّانِي: أن يَقُولَ بِمُوجبِه وَذَلِكَ على وَجْهَيْن:
أحدهما: أن يحْتَجَّ الْمُسْتَدلُّ بأحد الوضعينِ فَيَقُولُ السَّائِلُ بِمُوجبِه بِالْحملِ على الْوَضعِ الآخرِ.
مثلُ: أَن يسْتَدلَّ الشَّافِعِيُ فِي نِكَاح الْمحرمِ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يَنْكِح الْمحرم وَلَا يُنْكِح.
فَيَقُول الْحَنَفِيُّ: النِّكَاحُ فِي اللُّغَة هُوَ الْوَطْء فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يطَأ الْمحرمُ.
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أحدهما: أن يَقُولَ: النِّكَاح فِي عرف الشَّرْع هُوَ العقدُ، وَفِي عرف اللُّغَة هُوَ الوَطْأ، وَاللَّفْظُ إذا كَانَ لَهُ عرفان عرف فِي اللُّغَة وَعرف فِي الشَّرْع حمل على عرف الشَّرْع وَلَا يحمل على عرف اللُّغَة إلا بِدَلِيل.
وَالثَّانِي: أن يبين بِالدَّلِيلِ من سِيَاق الْخَبَر أوْ غَيره أن المُرَاد بِهِ العقد.
وَالضَّرْب الثَّانِي: أن يَقُول بِمُوجبِه فِي الوضع الَّذِي احْتج بِهِ.
كاستدلالِ أَصْحَابنَا فِي خِيَار الْمجْلس بقوله صلى الله عليه وسلم: الْمُتَبَايعَان ِ بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا.
فَيَقُول الْمُخَالف: الْمُتَبَايعَان ِ هما المتشاغلان بِالْبيعِ قبل الْفَرَاغ وهما بِالْخِيَارِ عِنْدِي.
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أحدهما: أن يبين أن اللَّفْظ فِي اللُّغَة حَقِيقَة فِيمَا ادَّعَاهُ.
وَالثَّانِي أن يبين بِالدَّلِيلِ من سِيَاق الْخَبَر أوْ غَيره أن المُرَاد بِهِ مَا قَالَه.
أقول: الاعتراض الثاني هو أن يقول بالموجب بأن يحمل كلٌّ منهما اللفظ على غير ما يحمله الآخر.
وذلك على نوعين:
الأول: أن يحتج المستدل بالحديث بحمله على أحد الوضعين ويحمله المعترض على وضع آخر.
مثاله: استدلال الشافعي في بطلان نكاح المحرم بحج أو عمرة بقوله صلى الله عليه وسلم: لاَ يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلاَ يُنْكَحُ وَلاَ يَخْطُبُ. رواه مسلم.
فيقول الحنفي: النكاح هو الوطأ في اللغة، فكأنه قال: لا يطأ المحرم.
والطريق في الجواب عن هذا أمران:
أحدهما: أن يبين أن النكاح في عرف الشرع هو العقد، والدليل عليه أن كل موضع ورد الشرع به، فالمراد به العقد.
والثاني: أن يبين أن في الخبر ما يمنع حمله على ما ذكروه بأن يقول قد قال صلى الله عليه وسلم: لا يَنكِح المحرم، ثم قابله بقوله: ولا يُنكِح، ولا يكون الإنكاح إلا العقد.
الثاني: أن يقول بموجب الدليل في الوضع الذي احتج به. كأن يتنازعا في مقتضى اللفظ في اللغة فيدعي كل واحد منهما أنه موضوع لما يدعيه من المعنى.
مثاله: استدلال أصحابنا في خيار المجلس بقوله صلى الله عليه وسلم: المتبايعانِ بالخيارِ ما لم يتفرقا. متفق عليه.
فيقول الحنفي: هذا لا حجّة فيه؛ لأن المتبايعين اسم للمتشاغلين بالبيع. وذلك إنما يكون في حال العقد قبل الفراغ، كما أن المُتآكلينِ اسم للمتشاغلين بالأكل قبل الفراغ، والمتناظرين اسم للمتشاغلين بالنظر قبل الفراغ، وعندنا الخيار ثابت في حال الاشتغال بالعقد قبل الفراغ.
فهنا يدعي كل من الشافعي والحنفي أن اللفظ موضوع لما يدعيه.
والطريق في الجواب عن هذا أمران:
أحدهما: أن يبين أن اللفظ لما قاله أحقّ.
بأن يقول: إن البيع في اللغة اسم للإيجاب والقبول، والمتبايعين: اسم لمن وجد منهما ذلك، ومتى وجد أحدهما دون الآخر لم يوجد البيع؛ فلا يسميان متبايعين.
والثاني: أن يبين بالدليل من سياق الخبر أو غيره أن المراد به في الحديث ما قاله.
كأن يقول: إن في الخبر ما يدل على ما قلناه وهو قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى للبخاري ومسلم: المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار. فقوله: "إلا بيع الخيار" دليل على ما قلناه أي إلا بيع الخيار فلا يحتاج إلى التفرق فدل على أن المراد كل بيع بالخيار مالم يتفرقا إلا بيع الخيار فلا يحتاج إلى التفرق، وقد جاء في رواية البيهقي: حتى يتفرَّقا من مكانِهما. فلا يصح تأويله بتفرق الأقوال.
صفاء الدين العراقي
2019-09-05, 11:50 AM
والاعتراض الثَّالِث: أن يَدعِي الإجمال إما فِي الشَّرْع أوْ فِي اللُّغَة.
فأما فِي الشَّرْع فَهُوَ مثل أن يحْتَج الْحَنَفِيّ فِي جَوَاز الصَّلَاة بِغَيْر اعْتِدَال بقوله: صلوا خمسكم. وَهَذَا قد صلّى.
فَيَقُول الشَّافِعِي: هَذَا مُجمل؛ لَأن المُرَاد بِالصَّلَاةِ هُوَ الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة وَذَلِكَ لَا يعلم من لَفظه بل يفْتَقر فِي مَعْرفَته إلى غَيره فَلم يحْتَج بِهِ إلا بِدَلِيل على أن ذَلِك صَلَاة.
وَالْجَوَاب: أن يسْلك طَريقَة من يَقُول: إن الْخطابَ بلغة الْعَرَبِ، وَالصَّلَاة فِي اللُّغَة هِيَ الدُّعَاء فَوَجَبَ أنه إذا فعل مَا يُسمّى صَلَاة فِي اللُّغَة أن يكون ممتثلا.
وأما الْمُجْمل فِي اللُّغَة فَمثل أن يسْتَدلَّ الْحَنَفِيّ فِي تضمين الرَّهْن بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الرَّهْن بِمَا فِيهِ.
فَيَقُول لَهُ الشَّافِعِي: هَذَا مُجمل لِأَنَّهُ يفْتَقر إلى تَقْدِيرِ مُضمرٍ فَيحْتَمل أن يكون مَعْنَاهُ: الرَّهْن مَضْمُون بِمَا فِيهِ، وَيحْتَمل أن يكون مَبيعٌ بِمَا فِيهِ، وَيحْتَمل أن يكون مَعْنَاهُ مَحْبُوس بِمَا فِيهِ، فَوَجَبَ أن يتَوَقَّف فِيهِ.
وَالْجَوَاب: أن يدل على أن المُرَاد بِهِ مَا ذَكرُوهُ إما من جِهَة الْوَضع، أوْ من جِهَة الدَّلِيل.
أقول: الاعتراض الثالث أن يدعي الإجمال إما في الشرع وإما في اللغة.
فأما في الشرع فمثاله: أن يستدل الحنفي بقوله صلى الله عليه وسلم: صلوا خمسكم. رواه الترمذي. على عدم وجوب الاعتدال في الركوع والسجود لأن هذا قد صلى خمسه.
فيقول له الشافعي: هذا مجمل؛ لأن الأمر هو بالصلاة الشرعية هنا، وذلك لا يعلم من لفظ هذا الخبر، بل يفتقر في معرفته إلى غيره فلا يحتج به بلفظه بل بدليل يدل على أن تلك الصلاة بغير اعتدال صلاة شرعية.
والطريق في الجواب عن هذا أن يسلك طريقة من يقول: إنه ليس من الأسماء شيء منقول، بل كلها مبقاة على مقتضاها في اللغة، والصلاة في اللغة الدعاء فوجب أن يجزئ كل ما يسمى صلاة إلا ما خصه الدليل.
وأما في اللغة فمثاله: أن يستدل الحنفي في تضمين الرهن([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: الرهن بما فيه. رواه أبو داود في المراسيل مرسلا عن عطاء.
فيقول له الشافعي: هذا مجمل؛ لأنه يفتقر إلى تقديرِ مضمرٍ، فيحتمل أن يكون معناه: الرهن مضمون بما فيه، بتقدير كلمة مضمون، ويحتمل أن يكون معناه: الرهن مبيع بما فيه، ويحتمل أن يكون المعنى: الرهن محبوس بما فيه أي لا يتصرف فيه، فوجب التوقف إلى أن يرد دليل يرجحه إلى أحد محتملاته.
والطريق في الجواب إما بمنع الإجمال ووجود الاحتمال وأن اللفظ نص لا يحتمل إلا المعنى الذي ذكره وأن قوله: الرهن بما فيه. معناه مضمون بما فيه. ولا يصح أي تأويل؛ لأن المفهوم هو مضمون بما فيه من الدين.
وإما بأن يرجح المعنى الذي ذكره بدليل كأن يقول: قد ورد أن رجلا رهن فرسا فنفق في يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرتهن: ذهب حقك. رواه أبو داود في المراسيل.
([1] ) ذهب الحنفية إلى أن الرهن مضمون على المرتهن فإذا تلف عنده يضمن بالدين، وذهب الشافعية إلى أن المرتهن لا يضمنه لأن يده يد أمانة فلا يضمن إلا بالتقصير.
صفاء الدين العراقي
2019-09-07, 07:47 AM
والاعتراض الرَّابِع: الْمُشَاركَة فِي الدَّلِيل.
وَذَلِكَ مثل أن يسْتَدلّ الْحَنَفِيّ فِي مَسْأَلَة السَّاجة بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا ضَرَر وَلَا ضرار. وفِي نقض دَار الْغَاصِب ورد الساجة إضرار فَوَجَبَ أن لَا يجوز.
فَيَقُول الشَّافِعِي: هَذَا حجَّة لنا لَأن فِي إسقاط حق الْمَالِك من عين مَاله والإحالة على ذمَّة الْغَاصِب إضرار بِهِ فَوَجَبَ أن لَا يجوز ذَلِك.
وَالْجَوَاب أن يبين الْمُسْتَدلّ أنه لَا إضرار على الْمَالِك فَإِنَّهُ يدْفع إليه الْقيمَة فيزول عَنهُ الضَّرَر.
أقول: الاعتراض الرابع هو المشاركة في الدليل بأن يجعل ما استدل به المستدل دليلا له في المسألة.
مثاله: استدلال الحنفي في مسألة السّاجَةِ([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) بقوله صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار. رواه ابن ماجه. وفي قلع الساجة ونقض بنيان الغاصب ضررا على الغاصب فوجب أن لا يجوز.
فيقول الشافعي: هذ الحديث حجة لنا لأن في إسقاط حقّ المالك من عين ماله والحيلولة بينه وبينها، وإحالته على قيمة في ذمة الغاصب إضرارا بالمالك.
والطريق في الجواب عنه أن يجيب عما تعلق به خصمه ليسلم له الدليل بأن يقول الحنفي هنا: إنه ليس في منع الساجة من المغصوب منه إضرار به لأنه تدفع إليه القيمة فيزول عنه الضرر بذلك.
([1] ) الساج ضرب عظيم من الشجر يجلب من الهند واحده ساجة وهي خشبة صلبة تجعل في بناء الدور ويعمل منها الأبواب أيضا، ومسألة الساجة هي: شخص غصب ساجة فبنى عليها، فكيف نردها للمغصوب منه؟ قال الحنفية: قد زال بالبنيان عليها ملك صاحبها ولزم الغاصب قيمتها لأن في قلعها ضررا ظاهرا على الغاصب، وقال الشافعية: للمالك أخذها فتقلع لأن في بقائها إضرارا بحق مالكها والضرر يزال.
صفاء الدين العراقي
2019-09-07, 03:00 PM
والاعتراض الْخَامِس: اخْتلَاف الرِّوَايَة.
مثل أن يسْتَدلّ الشَّافِعِي فِي جَوَاز الْعَفو عَن الْقصاص من غير رضَا الْجَانِي بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَمنْ قتلَ بعدَ ذَلِكَ قتيلا فأهله بَين خِيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الْعَقْلَ.
فَيَقُول الْمُخَالف: قد رُوِيَ إن أحبوا فَادوا. والمفاداة مفاعلة وَلَا يكون إلا بِالتَّرَاضِي، وَالْخَبَر خبرٌ وَاحِدٌ فَيجب التَّوَقُّف فِيهِ حَتَّى يعلم أصل الحَدِيث.
الْجَواب: أنه قد رُوِيَ الْجَمِيع، وَالظَّاهِرُ مِنْهُمَا الصِّحَّةُ، فَيصير كالخبرينِ فَيجمع بَينهمَا، فَنَقُولُ: يجوز بِالتَّرَاضِي، وَبِغير التَّرَاضِي، وهم لَا يَقُولُونَ بِمَا روينَاهُ.
أقول: الاعتراض الخامس اختلاف الرواية وهو: أن يستدل بخبر فيقول الخصم إن الرواية قد اختلفت في هذا.
مثاله: استدلال الشافعي في جواز العفو عن القصاص على الدية من غير رضا الجاني بقوله صلى الله عليه وسلم:
ثم أنتم يا خُزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هُذيل، وأنا والله عاقله([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) ، من قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين: إن أحبّوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العَقْل. رواه الترمذي وأصله في الصحيحين.
فيقول المخالف: هذا لا حجة فيه لانه قد روي في هذا الخبر أنه قال: وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُقَادَ، وَإِمَّا أَنْ يُفَادَى([2] (https://majles.alukah.net/#_ftn2) ) . وهذا يدل على التراضي لأن المفاداة مفاعلة من الطرفين كالمصالحة والمراضاة، ونحوه، والخبر واحد في قصة هذيل فإذا روي على الوجهين وجب التوقف فيه حتى يعلم ما هو أصل الحديث.
والجواب أن يقول: إنه قد روي الجميع، والظاهر من الروايتين الصحة، فيصير المرويان كالخبرين فنستعملهما معا، فنقول: يجوز بالتراضي وبغير التراضي، وأنتم لا تقولون بما رويناه فكانت حجتنا أولى.
([1] ) أي مؤد ديته.
([2] ) رواه البيهقي في السنن الكبرى. ويقاد أي يقتل قصاصا.
صفاء الدين العراقي
2019-09-09, 06:46 AM
والِاعْتِرَاض السَّادِس: النّسخ وَذَلِكَ من وُجُوه:
أحدها: أن ينْقل نَسْخَه صَرِيحًا.
وَالثَّانِي: أن ينْقل مَا يُنَافِيهِ مُتَأَخِّرًا فيدعي نسخه بِهِ.
وَالثَّالِث: أن ينْقل عَن الصَّحَابَة الْعَمَل بِخِلَافِهِ فيدل على نسخه.
وَالرَّابِع: أن يَدعِي نسخه بِأَنَّهُ شرع من قبلنَا وأنه نسخه شرعنا.
فَأَما النّسخ بالتصريح بنسخه فَهُوَ مثلُ: أن يسْتَدلّ أصحابنا فِي طَهَارَة جُلُود الْميتَة بالدباغ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أيما إهاب دبغ فقد طهر.
فَيَقُول الحنبلي: هَذَا مَنْسُوخٌ بقوله صلى الله عليه وسلم: كنتُ رخَّصت لكم فِي جُلُود الْميتَة فإذا أتاكم كتابي هَذَا فَلَا تنتفعوا من الْميتَة بإهاب وَلَا عصب. فَهَذَا صَرِيح فِي نسخ كل خبر ورد فِي طَهَارَة الْجلد بالدباغ.
وَالْجَوَاب: أن يبين أن هَذَا لم يتَنَاوَل خبرنَا وإنما ورد هَذَا فِي جُلُود الْميتَة قبل الدّباغ؛ لِأن الإهاب اسْم للجلد قبل الدّباغ فأما بعد الدّباغ فَلَا يُسمى إهابا وإنما يُسمى جلدا وأديما وأفيقًا.
أقول: الاعتراض السادس النسخ وذلك من أربعة وجوه:
أحدها: أن ينقل نسخه صريحا.
والثاني: أن ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينافيه متأخرا عنه فيدل ذلك على نسخه.
والثالث: أن ينقل عن الصحابة العمل بخلافه فيدل ذلك على نسخه.
والرابع: أن يدعي النسخ بأنه شرع من قبلنا.
فأما دعوى النسخ بنقل صريح فمثل: أن يستدل أصحابنا في طهارة الجلود بالدباغ بقوله صلى الله عليه وسلم: أيما إهاب دبغ فقد طهر. رواه الأربعة.
فيقول الحنبلي: هذا منسوخ بحديث عبد الله بن عكيم رضي الله عنه قال: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض جهينة، قال: وأنا غلام شاب قبل وفاته بشهر أو شهرين: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب. رواه أحمد وغيره. وهذا صريح في نسخ كل خبر ورد في طهارة جلود الميتة بالدباغ.
والطريق في الجواب عنه: أن يبين أن النسخ لم يرد يتناول خبرنا الذي تمسكنا به، وإنما ورد خبركم في جلود الميتة قبل الدباغ لأن الإهاب في اللغة اسم للجلد قبل الدباغ، فأما بعد الدباغ فلا يسمى إهابا وإنما يسمى جلدا وأديما وأفيقا.
صفاء الدين العراقي
2019-09-09, 07:01 AM
وأما النّسخ بِنَقْل الْمُتَأَخر فمثل أن يسْتَدلّ الظَّاهِرِيّ فِي جلد الثّيّب مَعَ الرَّجْم بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خُذُوا عني خُذُوا عني قد جعل الله لهن سَبِيلا الْبكر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ جلد مائَة وَالرَّجم.
فَيَقُول الشَّافِعِي: هَذَا مَنْسُوخ بِمَا رُوِيَ أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم: رجم ماعزا وَلم يجلده. وَهَذَا مُتَأَخّر عَن خبركم لأن خبركم ورد فِي أول مَا شرع الْجلد وَالرَّجم.
وَالْجَوَاب: أن يتَكَلَّم على النَّاسِخ بِمَا يسْقطهُ ليبقى لَهُ الحَدِيث.
أقول: الضرب الثاني من النسخ وهو أن ينقل عن سول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالفه متأخرا عنه فيستدل به على نسخه.
مثاله: استدلال ابن حزم والظاهرية على وجوب الجمع للزاني المحصن بين الجلد والرجم فيجلد أولا مائة جلدة ثم يرجم بقوله صلى الله عليه وسلم: خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. رواه مسلم.
فيقول الشافعي: هذا منسوخ بخبر رجم ماعز رضي الله عنه. رواه البخاري ومسلم. وفيه أنه رجمه ولم يجلده، وهذا متأخر عن خبركم فإنه قد رواه أبو هريرة وهو متأخر في الإسلام. وخبركم أول ما شرع الجلد والرجم.
والجواب: أن يتكلم على الناسخ فيسقطه كأن يقول: إن خبرنا قول صريح، وخبركم فعل وقضية في عين، ويحتمل أن الراوي شهد أحدهما ولم يشهد الآخر.
صفاء الدين العراقي
2019-09-09, 07:09 AM
وأما النّسخ بِعَمَل الصَّحَابَة بِخِلَافِهِ فَمثل اسْتِدْلَال الْحَنَفِيّ فِي اسْتِئْنَاف الْفَرِيضَة بقوله صلى الله عليه وسلم: فاذا زَادَت الإبل على عشْرين وَمِائَة استؤنفت الْفَرِيضَة فِي كل خمس شاة.
فَيَقُول الشَّافِعِي: هَذَا مَنْسُوخ لَأن أبا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا لم يعملا بِهِ فلو لم يعلمَا بنسخِه لعملا بِهِ.
وَالْجَوَاب: أن يتَكَلَّم على عمل الصَّحَابَة بِمَا يسْقطهُ ليبقى لَهُ الْخَبَر.
أقول: الضرب الثالث هو الاستدلال على نسخه بعمل الصحابة بخلافه.
مثاله: استدلال الحنفية في أن زكاة الإبل إذا زادت على مائة وعشرين رأسا تستأنف الفريضة فيكون في خمسة شاة وفي عشر شاتان، فيكون في مائة وخمسة وعشرين حقتان وشاة، وفي مائة وثلاثين حقتان وشاتان بما ذكره أبو داود في المراسيل عن حماد قال: قلت لقيس بن سعد خذ لي كتاب محمد بن عمرو بن حزم فأعطاني كتابا أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه لجده فقرأته فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الابل فقص الحديث إلى أن تبلغ عشرين ومائة فإذا كانت أكثر من ذلك فعد في كل خمسين حقة وما فضل فإنه يعاد إلى أول فريضة الإبل.
فيقول الشافعي: إن ثبت هذا فهو منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حِقَّة([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ). رواه البخاري . والدليل على أنه منسوخ أن أبا بكر وعمر عملا([2] (https://majles.alukah.net/#_ftn2) ) بهذا الحديث ولم يعملا بخبر الاستئناف فدل على أنه منسوخ.
والطريق في الجواب عن ذلك أن يتكلم على عمل الصحابة بما يسقطه ليبقى له الخبر كأن يقول: اختلف الآثار في ذلك عن الصحابة فلا يجوز دعوى النسخ بل يعمل بحديث كتاب عمرو بن حزم السابق ويحمل حديث البخاري على الزيادة الكثيرة حتى تبلغ مائتين وبه نقول: إن في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة([3] (https://majles.alukah.net/#_ftn3) ) .
([1] ) فيكون في مائة وخمسة وعشرين ثلاث بنات لبون. وبنت لبون أي التي أتمت سنتين.
([2] ) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض فقرنه بسيفه، فعمل به أبو بكر حتى قُبض، ثم عمل به عمر حتى قبض فكان فيه: في خمس من الإبل شاة... فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك- أي من عشرين ومائة- ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون... الحديث. رواه أبو داود. من هامش تحقيق الملخص. قال في تحفة الأحوذي: أي كتب كتاب الصدقة فقرنه بسيفه لإرادة أن يخرجه إلى عماله فلم يخرجه حتى قبض ففي العبارة تقديم وتأخير. اهـ
([3] ) انظر بدائع الصنائع- كتاب الزكاة.
صفاء الدين العراقي
2019-09-10, 07:02 AM
وأما النّسخ لأنه شرع من قبلنَا فَمثل اسْتِدْلَال الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي رجم الذِّمِّي بَأن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجم يهوديين زَنَيَا.
فَيَقُول الْمُخَالف: إنما رجمهما بِحكم التَّوْرَاة فَإِنَّهُ أمْر بإحضارهما ثمَّ عمل بذلك، وشرعنا قد نسخ ذَلِك.
وَالْجَوَاب: أن شرع من قبلنَا شرع لنا مَا لم نعلم نسخه، وَلِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمل بِهِ فَدلَّ على أنه شرع لنا.
أقول: الضرب الرابع هو أن يدعي نسخ الحكم المنقول بأن ذلك إنما هو شرع من قبلنا وقد نسخ بشرعنا.
مثاله: أن يستدل أصحابنا في رجم الذمي المحصن إذا زنا بما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديينِ زَنيا. متفق عليه.
فيقول المخالف: إنما رجم بشرعهم بحكم التوراة فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بإحضارها ثم عمل بذلك([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) وقد نسخ بشرعنا، لحديث: من أشرك بالله فليس بمحصن. رواه الداقطني موصولا وموقوفا ورجح وقفه. فلا نقيم حد الرجم على أهل الذمة
والطريق في الجواب عن هذا أن يقال: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يعلم نسخه، وعلى أنه إن كان ذلك شرعهم فقد صار بفعله صلى الله عليه وسلم شرعا لنا؛ إذْ لا يجوز أن يكون ذلك غير حكم شرعه فيعمل به ويترك شرعه.الملخص.
([1] ) الحديث في البخاري ومسلم.
صفاء الدين العراقي
2019-09-10, 07:03 AM
وَألْحق أصحاب أبي حنيفَة بذلكَ وَجهًا آخر وَهُوَ النّسخ بِزَوَال الْعلَّة.
وَذَلِكَ مثل أن يسْتَدلّ أصحابنا فِي تَخْلِيل الْخمر بَأن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أبا طَلْحَة عَن تخليلها.
فَقَالُوا: هَذَا كَانَ أول مَا حرم الْخمر وألفوا شربهَا فنَهَى عَن تخليلها تَغْلِيظًا وتشديدا، وَقد زَالَ هَذَا الْمَعْنى فَزَالَ الحكم.
وَالْجَوَاب: أن يبين أن ذَلِك لم يكن لهَذِهِ الْعلَّة بل كَانَ ذَلِك بَيَانا لحكم الخمر كإيجاب الْحَد وَتَحْرِيم الشّرْب وَالْمَنْع من البيع وَغير ذَلِك. وعَلى أنا لَو سلمنَا أنه حُرِّم لهَذِهِ الْعلَّة إلا أنه حرمهَا بقول مُطلق يَقْتَضِي تَحْرِيمه فِي الأزمان كلهَا فلَا يجوز نسخه بِزَوَال الْعلَّة. كَمَا أنه شرع الرمل والاضطباع فِي الْحَج لإظهار الْجلد للْكفَّار وَقد زَالَ هَذَا المعْنى وَالْحكم بَاقٍ.
أقول: ومما يلحق بالنسخ وليس بنسخ أن يدعي نسخ الخبر بأنه ورد لعلة كانت موجودة عند الحكم، وقد زالت العلة فوجب أن يزول الحكم. وهذا ما يسميه الحنفية النسخ بزوال العلة.
مثاله: استدلال أصحابنا في تخليل الخمر بأنه صلى الله عليه وسلم نهى أبا طلحة عن تخليلها فقد روى أبو داود عن أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا، فقال: أهرقها. قال: ألا نجعلها خلا؟ قال: لا.
فيقول الحنفي: هذا إنما ورد في أول ما حرّمت الخمر، وكانوا قد ألفوا شربها، فنهوا عن تخليلها، وأمر بإراقتها تغليظا لأمرها ليرتدع الناس عن شربها وينزجروا عن تناولها، وقد انتهى الناس واستقر هذا الأمر فزال المعنى فزال الحكم فيجوز تخليل الخمر.
والجواب: أن يبين أن ذلك لم يكن لهذه العلة فإن الصحابة كانوا لا يخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحتاج مع النهي إلى تغليظ بل كان بيانا لحكم الخمر -وهو أنه يحرم تخليلها- كإيجاب الحد بشربها، والمنع من شربها، والمنع من بيعها وشرائها والعمل بنقلها ونحو ذلك، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال في الحد أيضا أنه إنما شرع لقرب عهدهم بها فأوجب ليرتدعوا عنها، وقد زال بتقادم العهد بالتحريم، فيجب أن يزول الحد!.
ثم على فرض التسليم أنه صلى الله عليه وسلم منع من التخليل لهذا المعنى إلا أنه حرمها بقول مطلق غير مقيد بوقت فيقتضي تحريمه في جميع الأزمان فلا يجوز نسخه بزوال العلة، إذْ يجوز أن يزول المعنى المقتضي للتحريم ويبقى الحكم، كما أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالرَّمل- الهرولة في الطواف-والاضطباع- أن يدخل الرداء من تحت إبطه الأيمن ويرد طرفه على يساره فيبدي الأيمن ويغطي الأيسر- في الحج لإظهار الجلد للكفار حين قالوا: إن حُمَّى يثرب نهكت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) . وقد زال هذا المعنى، ثم لم يزل الرمل والاضطباع.
([1] ) الحديث في الصحيحين، وليس فيه أمر بالاضطباع وإن ورد أنهم اضطبعوا في حجهم. قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير: تنبيه: لم أقف في شيء من طرقه على الاضطباع بصيغة الأمر. اهـ
صفاء الدين العراقي
2019-09-12, 06:58 AM
والاعتراض السَّابِع: التَّأْوِيلُ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
تَأْوِيل الظَّاهِر كاستدلالِ الحنْفِيّ فِي إيجاب غسلِ الثَّوْبِ من الْمَنِيّ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلّم: إن كَانَ رطبا فاغسليه وإن كَانَ يَابسا فحُكِّيهِ. فيحمله الشَّافِعِي على الِاسْتِحْبَاب بِدَلِيل.
وَتَخْصِيص الْعُمُوم مثل أن يسْتَدلّ الشَّافِعِي فِي قتل الْمُرْتَدَّة بقوله صلى الله عليه وسلم: من بدّل دينه فَاقْتُلُوهُ.
فيخصه الْحَنَفِيّ بِدَلِيل.
وَالْجَوَاب: أن يتَكَلَّم على الدَّلِيل الَّذِي تأوَّلَ بِهِ أوْ خص بِهِ ليسلم لَهُ الظَّاهِر والعموم.
أقول: الاعتراض السابع هو التأويل وهو ضربان: تأويل الظاهر وتخصيص العموم.
فأما تأويل الظاهر فمثاله: استدلال الحنفي على إيجاب غسل المني من الثوب بما حكي أنه صلى الله عليه وسلم قال: إن كان رطبا فاغسليه، وإن كان يابسا فحكّيه([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) والأمر يقتضي الوجوب.
فيقول الشافعي: أحمله على الاستحباب لأنه لا يجب غسله إذا جف فلم يكن نجسا كالمخاط.
والجواب: أن يتكلم على الدليل الذي تأولوا به الظاهر مثل أن يقول: لو كان المراد به الاستحباب لما فرق بين الرطب واليابس؛ لأن في اليابس أيضا يستحب الغسل، فلما فرق بينهما دل على أنه أراد به الإيجاب.
وأما تخصيص العموم فمثاله: أن يستدل الشافعي في قتل المرتدة بقوله صلى الله عليه وسلم: مَن بدل دينه فاقتلوه. رواه البخاري. وهذا عام.
فيقول الحنفي: هذا محمول على الخصوص بدليل نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء.متفق عليه.
والجواب: أن يتكلم على الدليل الذي تأولوا به العموم كأن يقول: نهيه صلى الله عليه وسلم هو في الكافرة الأصلية إذا لم تباشر القتال.
([1] ) قال الحافظ في تلخيص الحبير: قال ابن الجوزي في التحقيق: هذا الحديث لا يعرف بهذا السياق، وإنما نقل أنها هي كانت تفعل ذلك. رواه الدارقطني وأبو عوانة فى صحيحه وأبو بكر البزار.
صفاء الدين العراقي
2019-09-14, 08:47 AM
والاعتراض الثَّامِن: الْمُعَارضَة وَهِي ضَرْبَان: مُعَارضَة بالنطق، ومعارضة بِالْعِلَّةِ.
فالمعارضة بالنطق مثل أن يسْتَدلّ الشَّافِعِي فِي جَوَاز صلاة لَهَا سَبَب فِي أوقات النَّهْي بقوله صلى الله عليه وسلم: من نَام عَن صَلَاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرهَا.
فيعارضه الْحَنَفِيّ بنهيه عَن الصَّلَاة فِي هَذِه الأوقات.
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أحدهما: أن يسْقط الْمُعَارضَة بِمَا ذَكرْنَاهُ من وُجُوه الِاعْتِرَاضات.
وَالثَّانِي: أن يرجح دَلِيله على المُعَارضَة بِمَا نذكرهُ من وُجُوه الترجيحات.
أقول: الاعتراض الثامن المعارضة وهي ضربان: معارضة بنطق أي بنص من كتاب أو سنة، ومعارضة بعلة أي بقياس.
فأما المعارضة بالنطق فمثالها: أن يستدل الشافعي في جواز فعل الصلاة ذات السبب- كالفائتة- في أوقات النهي بقوله صلى الله عليه وسلم: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها. متفق عليه.
فيعارضه الحنفي بقوله صلى الله عليه وسلم: لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس. متفق عليه.
والجواب من وجهين:
الأول: أن يسقط المعارضة بما ذكرناه من وجوه الاعتراضات السابقة على الاستدلال بالسنة، كأن يقول: هذا محمول عندنا على النفل المطلق.
الثاني: أن يرجح خبره على خبر الخصم بما سيأتي من وجوه الترجيحات كأن يقول: خبرنا قد اقترن به ما يرجحه وهو إقراره صلى الله عليه وسلم لمن صلى سنة الفجر التي فاتته بعد صلاة الصبح كما تقدم.
وأما المعارضة بالعلة([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) أي أن يعارض السنة بقياس فمثاله: استدلال الشافعي في إيجاب القراءة خلف الإمام بقوله صلى الله عليه وسلم لمن كان يقرأ خلفه: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها. رواه أبو داود.
فيقول الحنفي: إنها قراءة فلا تجوز خلف الإمام كقراءة السورة بعد الفاتحة.
والجواب أن يقال: إن النص لا تجوز معارضته بالقياس.
([1] ) لم يتكلم عليها المصنف فيحتمل أنه تركها اتكالا على ما سبق من المعارضة بالكتاب- حيث قال: وإن كَانَت الْمُعَارضَة بعلة تكلم عَلَيْهَا بِمَا يُتكلم على الْعِلَل ليسلم دَلِيله- ويحتمل أنه نسيها، ويحتمل أنها سقطت من الناسخ، وهي موجودة في الملخص.
صفاء الدين العراقي
2019-09-15, 05:58 AM
وأما الْخَارِج على سَبَب فضربان:
أحدهما: أن يكون اللَّفْظ مُسْتقِلا بِنَفسِهِ دون السَّبَب. وَالْكَلَام عَلَيْهِ كَالْكَلَامِ على السّنة المبتدأة.
وَزَاد أصحاب مَالك فِي الِاعْتِرَاض عَلَيْهَا أن قَالُوا: إن هَذَا ورد على سَبَب فَوَجَبَ أن يقْتَصر عَلَيْهِ.
وَذَلِكَ مثل استدلالنا فِي إيجاب التَّرْتِيب فِي الْوضُوء بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ابدأوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ. فَقَالُوا: هَذَا ورد فِي السَّعْي. فَوَجَبَ أن يقْتَصر عَلَيْهِ.
وَالْجَوَاب: أن اللَّفْظ إذا اسْتَقل بِنَفسِهِ حمل عندنَا على عُمُومه، فإن لم يسلِّم دلّلنا عَلَيْهِ.
أقول: قد تقدم أن السنة إما مبتدأة وإما خارجة على سبب، وقد مضى تفصيل القسم الأول وشرع هنا في تفصيل القسم الثاني. فالخارج على سبب ضربان:
الأول: أن يكون لفظ الحديث مستقلا بنفسه غير مفتقر إلى السبب. فهذا الكلام عليه كالكلام على السنة المبتدأة فيتوجه عليه الاعتراض بواحد من الاعتراضات الثمانية السابقة.
وزاد أصحاب مالك وجها آخر في الاعتراض وهو أن الحديث ورد على سبب فوجب أن يقتصر عليه.
مثاله: استدلال أصحابنا في إيجاب الترتيب في الوضوء بقوله صلى الله عليه وسلم: ابدؤوا بما بدأ الله به. رواه النسائي.
فقال المالكية: هذا ورد في السعي بين الصفا والمروة فيجب أن يكون مقصورا عليه ولا يحتج به في غيره.
والجواب: أن اللفظ إذا استقل بنفسه حمل عندنا على عمومه ولا يقتصر على سببه، فإن سلمتم هذا الأصل وإلا نقلنا الكلام إليه ودللنا عليه فنقول: الدليل هو قول صاحب الشريعة فاعتبر عمومه كما لو تجرد عن السبب، ولأن كل لفظ لو تجرد عن سؤال خاص حمل على عمومه. فكذلك إذا تقدمه سؤال خاص.([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) )
([1] ) انظر التبصرة في أصول الفقه للمؤلف وقد نسب القول بالاقتصار على السبب إلى مالك وغيره. وقال القرافي في تنقيح الفصول: وليس من مخصصات العموم سببه... وعلى ذلك أكثر أصحابنا، وعن مالك فيه روايتان.
صفاء الدين العراقي
2019-09-15, 06:00 AM
وَالضَّرْب الثَّانِي: مَا لَا يسْتَقِلّ بِنَفسِهِ دون السَّبَب.
وَالَّذِي يَخُصُّهُ من الِاعْتِرَاض دَعْوَى الإجمال.
وَذَلِكَ مثل: أن يسْتَدلّ الشَّافِعِي فِي مَسْأَلَة مُدِّ عَجْوَة بِمَا رُوِيَ أن رجلا أتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُ قلادة وفيهَا خَرز وَذهب، فَقَالَ: ابتعتُ هَذِه بِسبعة دَنَانِير، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: لَا حَتَّى تميّز.
فَيَقُول الْمُخَالف: هَذَا مُجمل لأنه قَضِيَّة فِي عين فَيحْتَمل أن يكون الثّمن مثل الذَّهَب الَّذِي فِي القلادة فَنهى لذَلِك، وَيحْتَمل أن يكون أكثر فنهى لما ذكرْتُمْ فَوَجَبَ التَّوَقُّف حَتَّى يعلم.
وَالْجَوَاب عَنهُ من أربعة أوجه:
أحدها: أن يُقَال: هَذِه زِيَادَة فِي السَّبَب الْمَنْقُول، وَالْحكم اذا نقل مَعَ سَبَب لم تجز الزِّيَادَة فِي السَّبَب إلا بِدَلِيل، وَالَّذِي نقل من السَّبَب بيع الخرز وَالذَّهَب بِالذَّهَب، وَالْحكم هُوَ النَّهْي فَلم تجز الزِّيَادَة فِي ذَلِك.
وَالثَّانِي: أن يبين أن الظَّاهِر مَا ادَّعَاهُ مِن أن الذَّهَب الَّذِي مَعَ القلادة أقل من الثّمن فإن الْغَالِب أن الْعَاقِل لَا يَبِيع خَرَزا وَسَبْعَة مَثَاقِيل بسبعة دَنَانِير.
وَالثَّالِث: أن يَقُول: لَو كَانَ الْمَنْع كما ذكرْتُمْ لنقِل إذ لَا يجوز أن ينْقل مَا لَا يتَعَلَّق بِهِ الحكم وَيتْرك مَا يتَعَلَّق بِهِ الحكم.
وَالرَّابِع: أنه لم يفصّل، وَلَو كَانَ كما ذكرتم لفصَّل وَقَالَ: لا*، إن كَانَ الذَّهَب مثل الثّمن.
أقول: الضرب الثاني من الخارج على سبب هو ما لا يستقل بنفسه ولا يتم إلا بسببه.
وهذا يعترض عليه بدعوى الإجمال.
مثاله: استدلال أصحابنا في مسألة مُدّ عَجوة([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) بحديث فضالة بن عبيد قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو بسبعة دنانير قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حتى تميز بينه وبينه. فقال: إنما أردت الحجارة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حتى تميز بينهما. قال: فرده حتى ميز بينهما. رواه أبو داود.
فيقول الحنفي([2] (https://majles.alukah.net/#_ftn2) ) : هذا الحديث مجمل لأنه حكم في حادثة معينة ويحتمل أن يكون الثمن ( تسعة دنانير أو سبعة دنانير) مثل الذهب الذي في القلادة، ويحتمل أن يكون أكثر فوجب التوقف حتى يعلم ولا يجوز الاحتجاج به، أي إنما يصح احتجاجكم به إذا ثبت أن الدنانير كانت أكثر من الذهب ونحن لا نسلم ذلك.
والجواب عنه من أربعة أوجه:
الأول: أن يقال: قولكم إذا كان الذهب أكثر جاز وإلا لم يجز هذه زيادة على السبب المنقول في الرواية، والقاعدة أن الحكم إذا نقل مع سبب لم تجز الزيادة عليه إلا بدليل، فالسبب المنقول هو: بيع الخرز مع الذهب بالذهب، والحكم هو النهي، فلم تجز الزيادة بدون دليل، ولا دليل عندكم.
الثاني: أن يبين أن الظاهر هو كون الذهب الذي في القلادة أقل من الثمن؛ أي فيكون الثمن أكثر من القلادة؛ فإن العاقل لا يبيع سبعة مثاقيل من ذهب وخرز، بسبعة مثاقيل فلا يتحقق الذي قلتموه وهو كون الثمن مثل الذهب الذي في القلادة.
الثالث: أن يقال لو كان المنع من بيع القلادة لأجل ما ذكرتم وهو كون الثمن مماثلا لنقل هذا في الرواية لأنه هو المؤثر، فلا يجوز أن ينقل ما لا يتعلق الحكم به، ويترك ما يتعلق الحكم به.
والرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفصل له في الجواب ولو كان الأمر كما ذكرتم لتعين أن يفصل فيقول: لا - أي لا يجوز- إن كان الذهب مثل الثمن.
([1] ) مسألة مد عجوة- العجوة نوع من تمور المدينة- أفردت بالبحث ومحلها كتب الفقه، ولكننا نبينها بالقدر الذي يعيننا على فهم الكتاب فنقول: هنالك مال ربوي، ومال غير ربوي، فالمال الربوي هو الأثمان والطعام، كما في حديث مسلم: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مِثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد. وما عدا ذلك من الأموال فليست ربوية كالصابون والإسمنت والثياب والحديد والخشب، والمال الربوي بنص الحديث لا يجوز بيع بعضه من جنس واحد ببعض إلا إذا تماثلا بالمقدار وحصل التقابض يدا بيد في مجلس العقد؛ فلا يجوز مثلا بيع حنطة جيدة بحنطة من نوع آخر إلا إذا تماثلا صاعا بصاع مدا بمد ولا يجوز أن يكون أحدهما أزيد على اعتبار أن الثاني أجود، فإذا علم هذا (فما حرم فيه الربا من الأموال لا يجوز بيع بعضه ببعض من جنسه، ومع أحد العوضين جنس آخر مما فيه الربا أو مما لا ربا فيه) فهذه هي مسألة مد عجوة فمن صورها: مُد من عجوة ودرهم بمدين من عجوة، فالتمر بالتمر مال ربوي ومع أحد العوضين جنس آخر وهو الدرهم، وقلادة فيها ذهب وخَرز- نوع من الأحجار الكريمة- بذهب، فتلك الصور باطلة عندنا.
([2] ) يجيز الحنفية بيع تلك القلادة بالدنانير متى ما كانت تلك الدنانير أكثر من الذهب، كأن يكون المال تسعة دنانير من الذهب، والذهب الذي في القلادة ثمانية مثاقيل، فتقع الثمانية بمقابل الثمانية، والدينار الزائد بمقابل الخرز الذي في القلادة فيصح حينئذ البيع، ولا يجيزون البيع إذا كانت مثله أو دونه.
صفاء الدين العراقي
2019-09-16, 11:09 AM
فصل
وأما الْفِعْل فَإِنَّهُ يتَوَجَّه عَلَيْهِ مَا يتَوَجَّه على القَوْل من الِاعْتِرَاض.
فأوّل ذَلِك الِاعْتِرَاض بِأَن الْمُسْتَدلّ لَا يَقُول بِهِ.
وَذَلِكَ مثل: أن يسْتَدلّ الْحَنَفِيّ فِي قتل الْمُسلم بالكافر بَأن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قتل مُسلما بِكَافِر وَقَالَ: أنا أحق من وفّى بِذِمَّتِهِ.
فَيَقُول الشَّافِعِي: هذا لَا تَقول بِهِ فإن الَّذِي قَتله بِهِ كَانَ رَسُولا، وَعند أبي حنيفَة لَا يقتل الْمُسلم بالرسول.
وَالْجَوَاب: أن يَقُول: إنه لما قتل الْمُسلم بالرسول دلّ على أنه بالذمي أولى أن يقتل ثمَّ نسخ ذَلِك فِي الرَّسُول وَبَقِي فِي الذِّمِّيّ على مَا اقْتَضَاهُ.
أقول: قد ذكرنا أن السنة قول وفعل وإقرار ومضى الكلام على القول، والكلام ها هنا على الفعل، ويرد على الفعل ما يرد على القول من الاعتراضات الثمانية.
وأول ذلك الاعتراض عليه بأن الفعل الذي احتج به المستدل لا يقول هو به.
مثاله: استدلال الحنفي في قتل المسلم بالكافر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بكافر، وقال: أنا أحقّ مَن وفّى بذمته. ثم أمر به فقتل. ([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) )
فيقول الشافعي: هذا الحديث لا تقول به فإن الذي قتله به كان مستأمنا لأنه كان رسولا، وعند أبي حنيفة لا يقتل المسلم بالرسول الكافر فلا يصح احتجاجك به.
والجواب: أن الخبر لما دلّ على أن المسلم يقتل بالمستأمن نبّه به على أن المسلم أولى أن يقتل بالذمي، ثم دلّ الدليل على نسخ قتل المسلم بالمستأمن فبقي جواز قتل المسلم بالذمي على ما اقتضاه.
وقد تقدم أن هذا الجواب لا يصح لأنه إذا بطل الأصل بطل الفرع.
([1] ) رواه البيهقي في السنن الصغرى وقال: فهذا حديث منقطع، وراويه غير محتج به.
صفاء الدين العراقي
2019-09-16, 11:17 AM
والاعتراض الثَّانِي: أن ينازعه فِي مُقْتَضَاهُ، وَهَذَا النَّوْع يتَوَجَّه على الْفِعْل من طَرِيقين:
أحدهما: أن ينازعه فِيمَا فعل.
وَالثَّانِي: أن ينازعه فِي مُقْتَضى الْفِعْل.
فأما الأول فَمثل: أن يسْتَدلّ الشَّافِعِي فِي تكْرَار مسح الرَّأْس بِمَا روي أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم توضأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ: هَذَا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي، ووضوء خليلي إبراهيم عَلَيْهِ السَّلَام.
فَيَقُول الْحَنَفِيّ: قَوْله: "تَوَضَّأ ثلاثا" مَعْنَاهُ غسل؛ لَأن الْوضُوء فِي اللُّغَة النَّظَافَة وَذَلِكَ إنما يحصل بِالْغسْلِ فلَا يدْخل فِيهِ الْمسْح.
وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن:
أحدهما: أن يبين أن الْوضُوء فِي عرف الشَّرْع هُوَ الْغسْل وَالْمسح، وفي اللُّغَة عبارَة عَن الْغسْل، فَوَجَبَ أن يحمل على عرف الشَّرْع.
وَالثَّانِي: أن يبين بِالدَّلِيلِ من جِهَة السِّيَاق أوْ غَيره أن المُرَاد بِهِ الْغسْل وَالْمسح.
وَالطَّرِيق الثَّانِي: أن يسلّم مَا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه ينازعه فِي مُقْتَضى فعله.
وَذَلِكَ مثل: أن يسْتَدلّ الشَّافِعِي فِي وجوب الِاعْتِدَال فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود بَأن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل ذَلِك.
فَيَقُول الْمُخَالف: فعله لَا يَقْتَضِي الْوُجُوب.
وَالْجَوَاب عَنهُ من ثَلَاثَة أوجه:
أحدها: أن يَقُول فعله عِنْدِي يَقْتَضِي الْوُجُوب وإن لم تسلم دلّلت عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أن يَقُول: هَذَا بَيَان لمجمل وَاجِب فِي الْقُرْآن، وَبَيَان الْوَاجِب وَاجِب.
وَالثَّالِث: أن يَقُول قد اقْترن بِهِ أمْر وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم: صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أصلي. والأمر يَقْتَضِي الْوُجُوب.
أقول: الاعتراض الثاني على الفعل المنازعة في المقتضى، وهذا النوع يتوجه من وجهين:
أحدهما أن ينازعه في أي شيء قد فعل بأن يحمل المعترض فعله صلى الله عليه وسلم على وضع غير الوضع الذي حمله عليه المستدل.
مثاله: استدلال الشافعي على استحباب التثليث في مسح الرأس أنه صلى الله عليه وسلم دعا بماء فتوضأ مرة مرة، فقال : " هذا وظيفة الوضوء ، أو قال: وضوء من لم يتوضأه لم يقبل الله له صلاة " . ثم توضأ مرتين مرتين ، ثم قال : " هذا وضوء من توضأه أعطاه الله عز وجل كفلين من الأجر " ثم توضأ ثلاثا ثلاثا فقال: " هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلي". رواه ابن ماجه وغيره وهو ضعيف([1] (https://majles.alukah.net/#_ftn1) ) .
فيقول الحنفي: قوله: "توضأ" معناه غسل؛ لأن الوضوء في اللغة هو النظافة وما تحصل به الوضاءة، وذلك إنما يحصل بالغسل دون المسح فيكون معنى قوله:توضأ ثلاثا ثلاثا هو: غسل ثلاثا ثلاثا.
والجواب عنه من طريقين:
الأول: أن الوضوء في الشرع هو عبارة عن الغسل والمسح، والدليل عليه أن كل موضع ورد الشرع به كان المراد به ما قلناه، وفي اللغة عبارة عن الوضاءة والنظافة، واللفظ إذا كان له عرفان: عرف في اللغة، وعرف في الشرع، حمل على عرف الشرع ولا يحمل على عرف اللغة إلا بدليل.
الثاني: أن يبين بالدليل من جهة سياق الحديث أو غيره أن المراد به الغسل والمسح، وذلك أنه ورد في الخبر أنه توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لم يتوضأه لم يقبل الله له صلاة، ولا شك أنه غسل ومسح، فإذا قيل: توضأ مرتين يجب أن يكون كرر ذلك بعينه، وإذا قيل: ثلاثا ثلاثا يجب أن يكون كرر ذلك بعينه ثلاثا فيدخل الغسل والمسح.
الوجه الثاني: أن يسلم له ما روي من الفعل أنه فعله ولكنه ينازعه في مقتضى فعله وما يفهم منه.
مثاله: استدلال الشافعي في وجوب الاعتدال في الركوع والسجود بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك. كما في أحاديث صحيحة ثابتة في الصحيحين وغيرهما.
فيقول المخالف: لا أسلم أن اعتداله صلى الله عليه وسلم يقتضي الوجوب.
والجواب عنه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يقول: فعله عندي يقتضي الوجوب فإن سلمت هذا الأصل وإلا نقلنا الكلام إليه، والدليل على أن فعله صلى الله عليه وسلم يقتضي الوجوب قوله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره. والأمر يقع على القول والفعل، والدليل عليه قوله تعالى: وأمرهم شورى بينهم.
ثانيهما: فعله صلى الله عليه وسلم هذا خرج مخرج البيان لمجمل واجب في القرآن وهو الصلاة وما كان بيانا لواجب فهو واجب.
ثالثهما: أن نقول: هذا الفعل قد اقترن به ما يدل على الوجوب وهو قوله صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي. رواه البخاري. والأمر يقتضي الوجوب.
([1] ) ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده بلفظ: هذا وضوئي ووضوء خليل الله إبراهيم ووضوء الأنبياء قبلي. قال الإمام النووي في المجموع: وإذا ثبت ضعفه تعين الاحتجاج بغيره وفي ذلك أحاديث كثيرة صحيحة منها حديث عثمان رضي الله عنه أنه وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتوضأ ثلاثا ثلاثا. رواه مسلم.
محمد عبد الأعلى
2019-09-17, 09:03 PM
ما شاء الله !!
نفع الله بكم
صفاء الدين العراقي
2019-10-20, 10:58 PM
والاعتراض الثَّالِث: دَعْوَى الإجمال وَهُوَ مثل: أن يسْتَدلّ الشَّافِعِي فِي طَهَارَة الْمَنِيّ بأن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: كنت أفرك الْمَنِيّ من ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يُصَلِّي. وَلَو كَانَ نجسا لقطع الصَّلَاة.
فَيَقُول الْحَنَفِيّ: هَذَا مُجمل لأنه قَضِيَّة فِي عين فَيحْتَمل أنه كَانَ قَلِيلا وَيحْتَمل أنه كَانَ كثيرا فَوَجَبَ التَّوَقُّف فِيهِ.
وَالْجَوَاب: أن يبين بِالدَّلِيلِ أنه كَانَ كثيرا لأن عَائِشَة احتجت بِهَذَا الْخَبَر على طَهَارَته فَلَا يجوز أن يُحْتَج بِمَا يُعْفَى عَنهُ.
ولأنها أخبرت عَن دوَام الْفِعْل وتكراره وَيبعد مَعَ التّكْرَار أن يكون ذَلِك قَلِيلا.
أقول: الاعتراض الثالث على الفعل دعوى الإجمال.
مثاله: استدلال الشافعي في طهارة المني بقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا فيصلي فيه. متفق عليه واللفظ لمسلم. وجاء في رواية ابن خزيمة: أنها كانت تحتّ المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي. ولو كان المني نجسا لقطع الصلاة واستأنفها.
فيقول الحنفي: هذا مجمل لأنه قضية في عين فيحتمل أن المني كان كثيرا فيثبت طهارته كما تقولون، ويحتمل أنه كان قليلا فيعفى عنه فلا تثبت طهارته فوجب التوقف فيه على البيان.
والجواب أن ينفي أنه كان قليلا وذلك لأمرين:
الأول: أن عائشة احتجت به على طهارة المني ولا يجوز أن يحتج على طهارة شيء بما يعفى عنه.
الثاني: أن في متن الخبر ما يدل على أنه كان كثيرا لأنها قالت "كنت أفرك" وهذا إخبار عن أفعال متكررة في أحوال مختلفة ويبعد مع التكرار أن يكون قليلا.
Powered by vBulletin® Version 4.2.2 Copyright © 2025 vBulletin Solutions، Inc. All rights reserved.