ابو وليد البحيرى
2019-07-28, 04:13 AM
قاعدة: إنما الأعمال بالنيات
رجاء بنت صالح باسودان*
المقدمة :
إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى أجسامكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "فالنية عليها مدار الأعمال كلها ، ويعتمد صحة الفعل وفساده عليها . وقد اتفق العلماء على أن الأعمال الصادرة من المكلفين المؤمنين لا تصبح معتبرة شرعاً ولا يترتب عليها الثواب إلا بالنية .
وتجري النية في أبواب كثيرة من أبواب الفقه ، بل جُلها على الأصح ، لذلك اختيرت لأن تكون من القواعد الفقهية الكلية الكبرى ، والتي صدّر الإمام البخاري صحيحه بها .
لقد تم تقسيم البحث – بعد المقدمة - إلى فصلين وخاتمة ، كالتالي :
الفصل الأول : وفيه مبحثان :
المبحث الأول : أصل القاعدة – تعريفها – أهميتها .
المبحث الثاني : مباحث في النية .
الفصل الثاني : وفيه مبحثان :
المبحث الأول : بعض القواعد المندرجة تحت قاعدة : " الأمور بمقاصدها " .
المبحث الثاني : القواعد المستثناة من قاعدة : " الأمور بمقاصدها " .
الخاتمة : وفيها أهم النتائج التي توصل إليها البحث .
اللهم علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا ، وزدنا علم
الفصل الأول
حقائق عن القاعدة ومباحث عن النية
المبحث الأول : أصل القاعدة وتعريفها وأهميتها
أولاً : أصل القاعدة :
الأصل في هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم :"إنما الأعمال بالنيات" وهذا الحديث صحيح مشهور أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب[1].
معظم الروايات " إنما الأعمال بالنية " بجمع الأعمال وإفراد النية . وفي رواية عند البخاري في بدء الوحي ( إنما الأعمال بالنيات ) بجمع النيات أيضاً ، وفي رواية عنده في الإيمان والعتق والهجرة : " الأعمال بالنية " بالإفراد وحذف " إنما " ، وفي رواية في النكاح : " العمل بالنية " بإفرادهما[2].
أما روايات مسلم السبعة : " إنما الأعمال بالنيات " . وعند البيهقي في سننه من حديث أنس : " لا عمل لمن لا نية له " . وفي مسند الشهاب من حديثه : " نية المؤمن جزء من عمله " . وفي الصحيح من حديث سعد بن أبي وقاص : " إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت فيها حتى ما تجعل في فِيّ امرأتك " . ومن حديث ابن عباس : " ولكن جهاد ونية " . وفي مسند أحمد من حديث ابن مسعود : " رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته " . وعند ابن ماجه ، من حديث أبي هريرة ، وجابر بن عبدالله : " يبعث الناس على نياتهم"[3].
ثانياً : تعريف القاعدة :
الأمور : جمع أمر وهو : لفظ عام للأفعال والأقوال كلها ، ومنه قوله تعالى : " إليه يرجع الأمر كله " ، وقوله : " قل إن الأمر كله لله "[4]. وقيل : الأمور : جمع أمر ومعناه الحال والشأن والحادثة والفعل ، ودليله : قوله تعالى : " وما أمر فرعون برشيد " . أي حاله ( ما هو عليه من قول أو فعل )[5]، والكلام على تقدير مقتضى ، أي : أحكام الأمور بمقاصدها[6].
والمقاصد : جمع مقصد ومعناه : الالتزام والتوجه مع الأمّ ، والقصد يأتي بمعنى النية وهو المعنى المراد هنا[7].
فمعنى القاعدة في اللغة : إن الأفعال والتصرفات تابعة للنيات .
أما المعنى الاصطلاحي : إن أعمال المكلف وتصرفاته من قولية أو فعلية تختلف نتائجها وأحكامها الشرعية التي تترتب عليها باختلاف مقصود الشخص وغايته وهدفه من وراء تلك الأعمال والتصرفات[8].
ويكون معنى القاعدة : أن الحكم الذي يترتب على أمر يكون على مقتضى ما هو المقصود من ذلك الأمر[9].
ثالثاً : أهمية القاعدة :
حديث " إنما الأعمال بالنيات " هو أصل القاعدة ، وهو من الأحاديث الهامة التي عليها مدار الإسلام . وهو أصل الدين وعليه تدور غالب أحكامه ، قال الإمام أبو داود : إن هذا الحديث نصف الإسلام ، لأن الدين إما ظاهر وهو العمل ، وإما باطن وهو النية[10].
وقال الإمام أحمد والشافعي : يدخل في حديث " إنما الأعمال بالنيات " ثلث العلم ، ووجّه البيهقي كونه ثلث العلم : بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه ، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها ، لأنها قد تكون عبادة مستقلة ، وغيرها يحتاج إليها[11].
وبما أن المعنى المراد من القصد والنية متقاربان ، وكثر استعمال لفظة النية في الدراسة على هذه القاعدة ، كان لابد لنا من البحث فيه .
أولاً : تعريف النية :
لغة : النية مصدر نوى الشيء ينويه نية ونواه ، وأصلها نِوْيَة على وزن فعلة ، اجتمعت الواو والياء ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياءً ، وأدغمت في الياء ، فصارت "نية" ومعناها : العزم على الشيء ، يقال : نويت نية أي عزمت[12].
اصطلاحا : النية لها معنيان ، معنى عام و معنى خاص .
1 - النية بمعناها العام : ذكر السيوطي في تعريفه للنية ، النية : عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً من جلب نفع أو دفع ضر ، حالاً أو مآلاً ، و الشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله تعالى و امتثال حكمه[13].
2- النية بمعناها الخاص : و هو قصد الطاعة و التقرب إلى الله سبحانه و تعالى[14].
ثانياً : الفرق بين النية والقصد والعزم والإرادة والاختيار
وذهب فريق من العلماء إلى تعريف النية بالعزم والقصد ، فقيل : " النية القصد إلى الشيء والعزيمة على فعله "[15].
و عرف العزم بأنه عقد القلب على إمضاء الأمر[16].
يقال عزمت الأمر و عزمت عليه و اعتزمت ، قال تعالى : {فإذا عزمت فتوكل على الله } (آل عمران: 195)، وأيضاً : {و لا تعزموا عقدة النكاح } (البقرة: 235). أما القصد فهو إتيان الشيء ، فتقول : قصدته و قصدت له و قصدت إليه بمعنى ، و قصدت قصده نحوت نحوه[17]، المقصد بالفتح موضع القصد و المقصد بالكسر يقال إلى مقصدي و جهتي[18]. القصد : الاعتماد و الأمّ[19].
وحقيقة النية :ربط القصد بمقصود معين ، والمشهور أنها مطلق القصد إلى الفعل ، قال الماوردي : هي قصد الشيء مقترناً بفعله ، فإن قصده وتراخى عنه فهو عزم[20].
وخصّ إمام الحرمين العزم بالفعل المستقبل ، والقصد بالفعل الحاضر المتحقق ، يقول في ذلك : " النية إن تعلقت بفعل مستقبل فهي عزم ، وإن تعلقت بفعل حاضر سميت قصداً تحقيقياً "[21].
ويرى الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أن النية هي القصد بعينه ، إلا أن بينها وبين القصد فرقين :
أحدهما : أن القصد معلق بفعل الفاعل نفسه وبفعل غيره ، والنية لا تتعلق إلا بفعله نفسه . فلا يتصور أن ينوي الرجل فعل غيره ، ويتصور أن يقصده ويريده .
الثاني : أن القصد لا يكون إلا بفعل مقدور يقصده الفاعل ، وأما النية فينوي الإنسان ما يقدر عليه وما يعجز عنه .
ويضيف الإمام ابن القيم : النية تتعلق بالمقدور عليه ، والمعجوز عنه ، بخلاف القصد والإرادة ، فإنهما لا يتعلقان بالمعجوز عنه لا من فعله ولا من فعل غيره[22].
ونخلص من هذا : أن القصد والنية والعزم في درجة واحدة من القوة ، فالمرء ينوي فعل أمر حاضر ، أو فعل أمر مستقبل .
أما ما يخص الإرادة فقد قال القرافي : " اعلم أن جنس النية هي الإرادة ، والإرادة متنوعة إلى العزم والهم والنية والشهوة والقصد والاختيار والعناية والمشيئة "[23].
ونستنتج من كلام الإمام القرافي أن الإرادة تشمل النية وغيرها ، والإرادة إذا أطلقت تشمل النية وغيرها ، فتعريف النية بالإرادة على ذلك تعريف غير مانع ، وبالتالي غير صحيح ؛ لأن الإرادة أعم من النية ، وبالإضافة إلى هذا : أن النية لا تتعلق إلا بفعل الناوي ، أما الإرادة فتتعلق بفعله وفعل غيره[24].
يقول ابن عابدين في حاشيته : النية : العزم ، والعزم هو الإرادة الجازمة القاطعة ، والإرادة صفة توجب تخصيص المفعول بوقت وحال دون غيرها ، أي ترجح أحد المستويين وتخصيصه لوقت وحال ، أي كيفية وحالة مخصوصة ، وبه علم أن النية ليست مطلق الإرادة بل هي الإرادة الجازمة[25].
واختلف العلماء في الإخلاص ، فمنهم من يرى أنه أمر زائد على النية لا يحصل بدونها وقد تحصل بدونه[26]. ويجعلونه صفة في النية . بينما يرى آخرون أن النية هي تلك الإرادة التي تقصد الفعل ، أما الإخلاص فهو تلك التي تقصد التوجه بالفعل إلى الله[27].
أما عن علاقة النية بالإختيار : فإن النية لها تأثير كبير في العمل ، فهو مرتبط بها صحة وفساداً ، ولكن هل المكلف قادر على توجيه نيته وتحديدها ، أم أن النية أمر قهري لا سلطان للمكلف عليها ولا يستطيع التصرف فيها ؟
الجواب أن يقال : أن النية عمل القلب ، وعمل القلب مطلق للمكلف مقدور له داخل تحت الإختيار ، فهو مأمور بإخلاص النية وتصفيتها وتحديد المقصود بها ، ومنهي عن الإشراك في النية وعدم تصفيتها وأن ينحرف بنيته إلى غير ما أمر به ، وهذه أمور استطاعة المكلف وقدرته ولو لم يكن كذلك لكان الأمر بالإخلاص والنهي عن الإشراك تكليفاً بما لا يطاق . والإنسان قادر على تحديد نيته وتوجيهها وإخلاصها ، كما أنه قادر على صرف نيته عما لم يرد منه شرعاً ، ذلك أن الله ركب في الإنسان العقل وجع له إرادة واختيار وأبان له طريق الخير ووضحه له ودعاه إليه ، ووعده على ذلك .
فالنية من أعمال المكلفين التي يطيقونها ويقدرون عليها وما على المكلف إلا الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى إخلاص النية[28].
ثالثاً : حكم النية :
النية عبادة مشروعة ، وقد اختلف في كونها ركناً أو شرطاً ، أو هي ركن في بعض العبادات شرط في غيرها .
النية في العبادة المقصودة كالصلاة والحج والصوم ركن من أركانها فلا تصح إلا بها وأما ما كان وسيلة كالوضوء والغسل ، فقالت الحنفية : هي شرط كمال فيها لتحصيل الثواب وقالت الشافعية وغيرهم : هي شرط صحة أيضاً ، فلا تصح الوسائل إلا بها[29].
رابعاً : فيما شرعت النية لأجله :
المقصود الأهم من النية : تمييز العبادات عن العادات ، وتمييز رتب العبادات بعضها عن بعض ، كالوضوء والغسل ، يتردد بين التنظيف والتبرد ، والعبادة ، والإمساك عن المفطرات قد يكون للحمية والتداوي ، أو لعدم الحاجة إليه ، والجلوس في المسجد قد يكون للاستراحة . ودفع المال للغير قد يكون هبة أو وصلة لغرض دنيوي وقد يكون قربة كالزكاة والصدقة والكفارة . والذبح قد يكون بقصد الأكل وقد يكون للتقرب بإراقة الدماء . فشرعت النية لتمييز القرب من غيرها ، وكل من الوضوء والغسل والصلاة والصوم ونحوها قد يكون فرضاً أو نذراً أو نفلاً ، والتيمم قد يكون عن الحدث أو الجنابة وصورته واحدة ، فشرعت لتمييز رتب العبادات بعضها عن بعض[30]. ونية التقرب تمتنع من الكافر بخلاف نية التمييز ، ولهذا لو ظاهر صح ويكفر بالعتق ولابد من النية ، وكذا لو حاضت الكافرة واغتسلت لتحل لزوجها المسلم فلابد أن تنوي بإباحة الاستمتاع ، فإن لم تنو لم يباح وطؤها[31].
وترتب على ذلك أمور :
الأمر الأول : عدم اشتراط النية في عبادة لا تكون عادة أو لا تلتبس بغيرها . كالإيمان بالله تعالى والمعرفة والخوف والرجاء والنية وقراءة القرآن والأذكار ؛ لأنها متميزة بصورتها[32].
فلا تحتاج هذه الأعمال إلى نية الإضافة أو نية التخصيص فإن هذه الأعمال بطبيعتها منصرفة إلى الله تعالى لا يستحقها سواه فلا يلزم العامل أن ينوي أنه يسبح لله أو يذكره أو يعبده ، لكن هذه الأعمال تحتاج إلى نية القصد وإرادة وجه الله سبحانه بهذه الأعمال فيؤدي هذه الأنواع من العبادات بنية الإخلاص والمحبة والتعظيم لله والرجاء لثوابه و الخوف من عقابه[33].
وهناك مسائل اختلف في اشتراط النية لها ، كالأذان وخطبة الجمعة وغسل الميت والخروج من الصلاة[34].
الأمر الثاني : اشتراط التعيين فيما يلتبس دون غيره .
ظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " إنما الأعمال بالنيات " : اشتراط التعيين ، ومنها الفرائض كالظهر والعصر لتساويهما فعلاً وصورةً ، فلابد من التمييز بينهما ولا تمييز إلا بالتعيين . ومنها : النوافل غير المطلقة كالرواتب ، فيعينها بإضافتها إلى الظهر مثلاً ، وكونها التي قبلها أو التي بعدها .
ومنها : التحية وسنة الوضوء وصلاة الاستخارة والحاجة وسنة الزوال ، والصوم .
أما ما لا يشترط فيه التعيين : الطهارات والحج والعمرة ، لأنه لو عيّن غيرها انصرفت إليها وكذا الزكاة والكفارات[35].
ويترتب على اشتراط التعيين أن العبادة التي يشترط لها تعيين النية لو أخطأ المكلف في نيتها أنها تبطل ، كمن أراد أن يصلي الظهر فنوى العصر ، فلا يصح ظهراً ولا عصراً قبل دخل وقته[36].
وتدخل النية جميع القرب ، فيتوقف حصول الثواب على قصد التقرب بها إلى الله تعالى ، فتدخل النية في العبادات ، أما الواجب الذي لم يشرع عبادة كرد المغصوب فلا يشترط فيه لآن القصد وصول الحق إلى مستحقه وذلك حاصل بدونها ، أما المندوبات فتفتقر إلى قصد إيقاعها طاعة ليثاب عليها . وأما المباحات فلا تفتقر إلى النية إلا إن أريد الثواب عليها ، والمحرمات لا تفتقر إلى نية للترك[37].
الأمر الثالث : النيابة في النية
مما يترتب على التمييز : الإخلاص ، ومن ثم لم يقبل النيابة ؛ لأن المقصود اختبار سر العبادة[38]. فمنها ما لا يتقبل بالإجماع كالإيمان بالله والصلاة والصوم عن الحي القادر والجهاد عنه .
ومنها ما يقبلها إجماعاً كالدعاء والصدقة والحج عن الميت وركعتي الطواف تبعاً له ورد الديون والودائع .
ومنها ما فيه خلاف : كالصوم عن الميت والحج عن الحي وثواب القراءة عند الشافعي رضي الله عنه[39].
ويجوز التوكيل في النية إذا اقترنت بفعل كتفرقة زكاة أو ذبح أضحية أو صوم عن الميت أو حج[40].
مسائل على التشريك في النية :
- ما لو نوى الوضوء أو الغسل والتبرّد ، ففي وجه لا يصح للتشريك ، والأصح الصحة ؛ لأن التبرّد حاصل ، قصده أم لا ، فلم يجعل قصده تشريكاً وتركاً للإخلاص ، بل هو قصد للعبادة على حسب وقوعها ؛ لأن من ضرورتها حصول التبرّد .
- ومنها : ما لو نوى الصلاة ودفع غريمه ، صحت صلاته ؛ لأن اشتغاله عن الغريم لا يفتقر إلى قصد .
- لو نوى الطواف وملازمة غريمه ، أو السعي خلفه ، والأصح الصحة ، فلو لم يفرد الطواف بنية لم يصح ؛ لأنه إنما يصح بدونها ؛ لانسحاب حكم النية في أصل النسك عليه ، فإذا قصد ملازمة الغريم ، كان ذلك صارفاً له ، ولم يبق للاندراج أثر[41].
خامساً : شروط صحة النية :
1 - الإسلام :
فلا تصح العبادات من الكافر[42]؛ لأن العبادة تحتاج إلى نية ، والعبادة لا تصح منه لأنه فاقد شرط صحة قبول العبادة ، وهو الإيمان بالله تعالى[43].
وخرج من ذلك صور :
- الكتابية تحت المسلم ، يصح غسلها من الحيض ليحل وطؤها بلا خلاف ، للضرورة ويشترط نيتها[44]، بخلاف الحنفية[45].
2 - التمييز :
ومعناه : القوة التي في الدماغ وبها تستنبط المعاني[46]، فلا تصح عبادة صبي لا يميز ولا مجنون[47].
ومن فروع هذا الشرط :
مسألة عمد الصبي والمجنون في الجنايات ، هل هو عمد أو لا ؟ لأنه لا يتصور منهما القصد ، فيه خلاف عند الشافعية : فمن له نوع تمييز فإن عمده عمد ، وإلا فإن عمده خطأ ، والأصح عندهم أن عمدهما عمد[48]. وعند الحنفية : فإن عمدهما خطأ[49].
3 - العلم بالمنوي :
ومعناه : أن يعلم المكلف حكم ما نواه من فرض أو نفل ، عبادة أو غيرها[50].
فمن جهل الفرضيّة ، فرضية الوضوء أو الصلاة لم يصح منه فعلها ، وكذا لو علم أن بعض الصلاة فرض ولم يعلم فرضية التي شرع فيها . وإن علم الفرضية وجهل الأركان ، فإن اعتقد الكل سنّة أو البعض فرضاً والبعض سنّة ولم يميزها لم تصح قطعاً ، أو الكل فرضاً فوجهان : أصحهما : الصحة ؛ لأنه ليس فيه أكثر من أنه إدّى سنّة باعتقاد الفرض وذلك لا يؤثر[51].
ومن فروع هذا الشرط :
قوله : بعتك بمثل ما باع به فلان فرسه ، وهو لا يعلم قدره فإن البيع لا يصح[52].
4 - أن لا يأتي بمنافٍ بين النية والمنوي :
المراد بالمنافي : العمل الخارج عن المنوي وليس من النية ، كمن ارتد بعد نية العبادة فقد بطلت عبادته[53].
أنواع المنافي :
أ - نية القطع : فإذا نوى قطع الإيمان – والعياذ بالله – صار مرتداً في الحال[54]. ومن نوى قطع الصلاة أثناءها بطلت لأنها شبيهة بالإيمان[55]. ولم تبطل عند الحنفية[56].
ب - عدم القدرة على المنوي ، إما عقلاً ، وإما شرعاً ، وإما عادة :
فمن الأول : نوى بوضوئه أن يصلى صلاة ولا يصليها : لم يصح لتناقضه .
ومن الثاني : نوى به الصلاة في مكان نجس ، قيل : ينبغي أن لا يصح .
ومن الثالث : نوى به صلاة العيد وهو في أول السنة ، أو الطواف وهو بالشام ، ففي صحة وضوئه خلاف[57].
جـ - التردد وعدم الجزم في أصل النية :
- فإذا تردد : هل يقطع الصلاة أو لا ؟ أو علق إبطالها على شيء بطلت وكذا في الأيمان[58].
- من اشترى خادماً للخدمة ، وهو ينوي إن أصاب ربحاً باعه ، لا زكاة عليه[59].
- تيمم أو صلى أو صام شاكاً في دخول الوقت ، فبان في الوقت لم تصح[60].
ذكر صور صحت فيها النية مع تردد أ وتعلق :
- من صلى منفرداً ، ثم أعاد مع جماعة ونوى الفرضية ، ثم بان فساد الأولى ، فإن الثانية تجزيه ، ولا يلزم الإعادة .
- عليه صوم واجب ، لا يدري هل هو من رمضان أو نذر أو كفارة ، فنوى صوماً واجباً أجزأه ، كم نسي صلاة من الخمس ، ويعذر في عدم النية للضرورة[61].
- نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد ، إن كان من رمضان فهو فرض ، وإن لم يكن فتطوع صحيح .
- شك في قصر إمامه ، فقال : إن قصر قصرت ، وإلا أتممت ، فبان قاصراً قصر[62].
يتبع
رجاء بنت صالح باسودان*
المقدمة :
إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى أجسامكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "فالنية عليها مدار الأعمال كلها ، ويعتمد صحة الفعل وفساده عليها . وقد اتفق العلماء على أن الأعمال الصادرة من المكلفين المؤمنين لا تصبح معتبرة شرعاً ولا يترتب عليها الثواب إلا بالنية .
وتجري النية في أبواب كثيرة من أبواب الفقه ، بل جُلها على الأصح ، لذلك اختيرت لأن تكون من القواعد الفقهية الكلية الكبرى ، والتي صدّر الإمام البخاري صحيحه بها .
لقد تم تقسيم البحث – بعد المقدمة - إلى فصلين وخاتمة ، كالتالي :
الفصل الأول : وفيه مبحثان :
المبحث الأول : أصل القاعدة – تعريفها – أهميتها .
المبحث الثاني : مباحث في النية .
الفصل الثاني : وفيه مبحثان :
المبحث الأول : بعض القواعد المندرجة تحت قاعدة : " الأمور بمقاصدها " .
المبحث الثاني : القواعد المستثناة من قاعدة : " الأمور بمقاصدها " .
الخاتمة : وفيها أهم النتائج التي توصل إليها البحث .
اللهم علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا ، وزدنا علم
الفصل الأول
حقائق عن القاعدة ومباحث عن النية
المبحث الأول : أصل القاعدة وتعريفها وأهميتها
أولاً : أصل القاعدة :
الأصل في هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم :"إنما الأعمال بالنيات" وهذا الحديث صحيح مشهور أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب[1].
معظم الروايات " إنما الأعمال بالنية " بجمع الأعمال وإفراد النية . وفي رواية عند البخاري في بدء الوحي ( إنما الأعمال بالنيات ) بجمع النيات أيضاً ، وفي رواية عنده في الإيمان والعتق والهجرة : " الأعمال بالنية " بالإفراد وحذف " إنما " ، وفي رواية في النكاح : " العمل بالنية " بإفرادهما[2].
أما روايات مسلم السبعة : " إنما الأعمال بالنيات " . وعند البيهقي في سننه من حديث أنس : " لا عمل لمن لا نية له " . وفي مسند الشهاب من حديثه : " نية المؤمن جزء من عمله " . وفي الصحيح من حديث سعد بن أبي وقاص : " إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت فيها حتى ما تجعل في فِيّ امرأتك " . ومن حديث ابن عباس : " ولكن جهاد ونية " . وفي مسند أحمد من حديث ابن مسعود : " رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته " . وعند ابن ماجه ، من حديث أبي هريرة ، وجابر بن عبدالله : " يبعث الناس على نياتهم"[3].
ثانياً : تعريف القاعدة :
الأمور : جمع أمر وهو : لفظ عام للأفعال والأقوال كلها ، ومنه قوله تعالى : " إليه يرجع الأمر كله " ، وقوله : " قل إن الأمر كله لله "[4]. وقيل : الأمور : جمع أمر ومعناه الحال والشأن والحادثة والفعل ، ودليله : قوله تعالى : " وما أمر فرعون برشيد " . أي حاله ( ما هو عليه من قول أو فعل )[5]، والكلام على تقدير مقتضى ، أي : أحكام الأمور بمقاصدها[6].
والمقاصد : جمع مقصد ومعناه : الالتزام والتوجه مع الأمّ ، والقصد يأتي بمعنى النية وهو المعنى المراد هنا[7].
فمعنى القاعدة في اللغة : إن الأفعال والتصرفات تابعة للنيات .
أما المعنى الاصطلاحي : إن أعمال المكلف وتصرفاته من قولية أو فعلية تختلف نتائجها وأحكامها الشرعية التي تترتب عليها باختلاف مقصود الشخص وغايته وهدفه من وراء تلك الأعمال والتصرفات[8].
ويكون معنى القاعدة : أن الحكم الذي يترتب على أمر يكون على مقتضى ما هو المقصود من ذلك الأمر[9].
ثالثاً : أهمية القاعدة :
حديث " إنما الأعمال بالنيات " هو أصل القاعدة ، وهو من الأحاديث الهامة التي عليها مدار الإسلام . وهو أصل الدين وعليه تدور غالب أحكامه ، قال الإمام أبو داود : إن هذا الحديث نصف الإسلام ، لأن الدين إما ظاهر وهو العمل ، وإما باطن وهو النية[10].
وقال الإمام أحمد والشافعي : يدخل في حديث " إنما الأعمال بالنيات " ثلث العلم ، ووجّه البيهقي كونه ثلث العلم : بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه ، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها ، لأنها قد تكون عبادة مستقلة ، وغيرها يحتاج إليها[11].
وبما أن المعنى المراد من القصد والنية متقاربان ، وكثر استعمال لفظة النية في الدراسة على هذه القاعدة ، كان لابد لنا من البحث فيه .
أولاً : تعريف النية :
لغة : النية مصدر نوى الشيء ينويه نية ونواه ، وأصلها نِوْيَة على وزن فعلة ، اجتمعت الواو والياء ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياءً ، وأدغمت في الياء ، فصارت "نية" ومعناها : العزم على الشيء ، يقال : نويت نية أي عزمت[12].
اصطلاحا : النية لها معنيان ، معنى عام و معنى خاص .
1 - النية بمعناها العام : ذكر السيوطي في تعريفه للنية ، النية : عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً من جلب نفع أو دفع ضر ، حالاً أو مآلاً ، و الشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله تعالى و امتثال حكمه[13].
2- النية بمعناها الخاص : و هو قصد الطاعة و التقرب إلى الله سبحانه و تعالى[14].
ثانياً : الفرق بين النية والقصد والعزم والإرادة والاختيار
وذهب فريق من العلماء إلى تعريف النية بالعزم والقصد ، فقيل : " النية القصد إلى الشيء والعزيمة على فعله "[15].
و عرف العزم بأنه عقد القلب على إمضاء الأمر[16].
يقال عزمت الأمر و عزمت عليه و اعتزمت ، قال تعالى : {فإذا عزمت فتوكل على الله } (آل عمران: 195)، وأيضاً : {و لا تعزموا عقدة النكاح } (البقرة: 235). أما القصد فهو إتيان الشيء ، فتقول : قصدته و قصدت له و قصدت إليه بمعنى ، و قصدت قصده نحوت نحوه[17]، المقصد بالفتح موضع القصد و المقصد بالكسر يقال إلى مقصدي و جهتي[18]. القصد : الاعتماد و الأمّ[19].
وحقيقة النية :ربط القصد بمقصود معين ، والمشهور أنها مطلق القصد إلى الفعل ، قال الماوردي : هي قصد الشيء مقترناً بفعله ، فإن قصده وتراخى عنه فهو عزم[20].
وخصّ إمام الحرمين العزم بالفعل المستقبل ، والقصد بالفعل الحاضر المتحقق ، يقول في ذلك : " النية إن تعلقت بفعل مستقبل فهي عزم ، وإن تعلقت بفعل حاضر سميت قصداً تحقيقياً "[21].
ويرى الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أن النية هي القصد بعينه ، إلا أن بينها وبين القصد فرقين :
أحدهما : أن القصد معلق بفعل الفاعل نفسه وبفعل غيره ، والنية لا تتعلق إلا بفعله نفسه . فلا يتصور أن ينوي الرجل فعل غيره ، ويتصور أن يقصده ويريده .
الثاني : أن القصد لا يكون إلا بفعل مقدور يقصده الفاعل ، وأما النية فينوي الإنسان ما يقدر عليه وما يعجز عنه .
ويضيف الإمام ابن القيم : النية تتعلق بالمقدور عليه ، والمعجوز عنه ، بخلاف القصد والإرادة ، فإنهما لا يتعلقان بالمعجوز عنه لا من فعله ولا من فعل غيره[22].
ونخلص من هذا : أن القصد والنية والعزم في درجة واحدة من القوة ، فالمرء ينوي فعل أمر حاضر ، أو فعل أمر مستقبل .
أما ما يخص الإرادة فقد قال القرافي : " اعلم أن جنس النية هي الإرادة ، والإرادة متنوعة إلى العزم والهم والنية والشهوة والقصد والاختيار والعناية والمشيئة "[23].
ونستنتج من كلام الإمام القرافي أن الإرادة تشمل النية وغيرها ، والإرادة إذا أطلقت تشمل النية وغيرها ، فتعريف النية بالإرادة على ذلك تعريف غير مانع ، وبالتالي غير صحيح ؛ لأن الإرادة أعم من النية ، وبالإضافة إلى هذا : أن النية لا تتعلق إلا بفعل الناوي ، أما الإرادة فتتعلق بفعله وفعل غيره[24].
يقول ابن عابدين في حاشيته : النية : العزم ، والعزم هو الإرادة الجازمة القاطعة ، والإرادة صفة توجب تخصيص المفعول بوقت وحال دون غيرها ، أي ترجح أحد المستويين وتخصيصه لوقت وحال ، أي كيفية وحالة مخصوصة ، وبه علم أن النية ليست مطلق الإرادة بل هي الإرادة الجازمة[25].
واختلف العلماء في الإخلاص ، فمنهم من يرى أنه أمر زائد على النية لا يحصل بدونها وقد تحصل بدونه[26]. ويجعلونه صفة في النية . بينما يرى آخرون أن النية هي تلك الإرادة التي تقصد الفعل ، أما الإخلاص فهو تلك التي تقصد التوجه بالفعل إلى الله[27].
أما عن علاقة النية بالإختيار : فإن النية لها تأثير كبير في العمل ، فهو مرتبط بها صحة وفساداً ، ولكن هل المكلف قادر على توجيه نيته وتحديدها ، أم أن النية أمر قهري لا سلطان للمكلف عليها ولا يستطيع التصرف فيها ؟
الجواب أن يقال : أن النية عمل القلب ، وعمل القلب مطلق للمكلف مقدور له داخل تحت الإختيار ، فهو مأمور بإخلاص النية وتصفيتها وتحديد المقصود بها ، ومنهي عن الإشراك في النية وعدم تصفيتها وأن ينحرف بنيته إلى غير ما أمر به ، وهذه أمور استطاعة المكلف وقدرته ولو لم يكن كذلك لكان الأمر بالإخلاص والنهي عن الإشراك تكليفاً بما لا يطاق . والإنسان قادر على تحديد نيته وتوجيهها وإخلاصها ، كما أنه قادر على صرف نيته عما لم يرد منه شرعاً ، ذلك أن الله ركب في الإنسان العقل وجع له إرادة واختيار وأبان له طريق الخير ووضحه له ودعاه إليه ، ووعده على ذلك .
فالنية من أعمال المكلفين التي يطيقونها ويقدرون عليها وما على المكلف إلا الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى إخلاص النية[28].
ثالثاً : حكم النية :
النية عبادة مشروعة ، وقد اختلف في كونها ركناً أو شرطاً ، أو هي ركن في بعض العبادات شرط في غيرها .
النية في العبادة المقصودة كالصلاة والحج والصوم ركن من أركانها فلا تصح إلا بها وأما ما كان وسيلة كالوضوء والغسل ، فقالت الحنفية : هي شرط كمال فيها لتحصيل الثواب وقالت الشافعية وغيرهم : هي شرط صحة أيضاً ، فلا تصح الوسائل إلا بها[29].
رابعاً : فيما شرعت النية لأجله :
المقصود الأهم من النية : تمييز العبادات عن العادات ، وتمييز رتب العبادات بعضها عن بعض ، كالوضوء والغسل ، يتردد بين التنظيف والتبرد ، والعبادة ، والإمساك عن المفطرات قد يكون للحمية والتداوي ، أو لعدم الحاجة إليه ، والجلوس في المسجد قد يكون للاستراحة . ودفع المال للغير قد يكون هبة أو وصلة لغرض دنيوي وقد يكون قربة كالزكاة والصدقة والكفارة . والذبح قد يكون بقصد الأكل وقد يكون للتقرب بإراقة الدماء . فشرعت النية لتمييز القرب من غيرها ، وكل من الوضوء والغسل والصلاة والصوم ونحوها قد يكون فرضاً أو نذراً أو نفلاً ، والتيمم قد يكون عن الحدث أو الجنابة وصورته واحدة ، فشرعت لتمييز رتب العبادات بعضها عن بعض[30]. ونية التقرب تمتنع من الكافر بخلاف نية التمييز ، ولهذا لو ظاهر صح ويكفر بالعتق ولابد من النية ، وكذا لو حاضت الكافرة واغتسلت لتحل لزوجها المسلم فلابد أن تنوي بإباحة الاستمتاع ، فإن لم تنو لم يباح وطؤها[31].
وترتب على ذلك أمور :
الأمر الأول : عدم اشتراط النية في عبادة لا تكون عادة أو لا تلتبس بغيرها . كالإيمان بالله تعالى والمعرفة والخوف والرجاء والنية وقراءة القرآن والأذكار ؛ لأنها متميزة بصورتها[32].
فلا تحتاج هذه الأعمال إلى نية الإضافة أو نية التخصيص فإن هذه الأعمال بطبيعتها منصرفة إلى الله تعالى لا يستحقها سواه فلا يلزم العامل أن ينوي أنه يسبح لله أو يذكره أو يعبده ، لكن هذه الأعمال تحتاج إلى نية القصد وإرادة وجه الله سبحانه بهذه الأعمال فيؤدي هذه الأنواع من العبادات بنية الإخلاص والمحبة والتعظيم لله والرجاء لثوابه و الخوف من عقابه[33].
وهناك مسائل اختلف في اشتراط النية لها ، كالأذان وخطبة الجمعة وغسل الميت والخروج من الصلاة[34].
الأمر الثاني : اشتراط التعيين فيما يلتبس دون غيره .
ظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " إنما الأعمال بالنيات " : اشتراط التعيين ، ومنها الفرائض كالظهر والعصر لتساويهما فعلاً وصورةً ، فلابد من التمييز بينهما ولا تمييز إلا بالتعيين . ومنها : النوافل غير المطلقة كالرواتب ، فيعينها بإضافتها إلى الظهر مثلاً ، وكونها التي قبلها أو التي بعدها .
ومنها : التحية وسنة الوضوء وصلاة الاستخارة والحاجة وسنة الزوال ، والصوم .
أما ما لا يشترط فيه التعيين : الطهارات والحج والعمرة ، لأنه لو عيّن غيرها انصرفت إليها وكذا الزكاة والكفارات[35].
ويترتب على اشتراط التعيين أن العبادة التي يشترط لها تعيين النية لو أخطأ المكلف في نيتها أنها تبطل ، كمن أراد أن يصلي الظهر فنوى العصر ، فلا يصح ظهراً ولا عصراً قبل دخل وقته[36].
وتدخل النية جميع القرب ، فيتوقف حصول الثواب على قصد التقرب بها إلى الله تعالى ، فتدخل النية في العبادات ، أما الواجب الذي لم يشرع عبادة كرد المغصوب فلا يشترط فيه لآن القصد وصول الحق إلى مستحقه وذلك حاصل بدونها ، أما المندوبات فتفتقر إلى قصد إيقاعها طاعة ليثاب عليها . وأما المباحات فلا تفتقر إلى النية إلا إن أريد الثواب عليها ، والمحرمات لا تفتقر إلى نية للترك[37].
الأمر الثالث : النيابة في النية
مما يترتب على التمييز : الإخلاص ، ومن ثم لم يقبل النيابة ؛ لأن المقصود اختبار سر العبادة[38]. فمنها ما لا يتقبل بالإجماع كالإيمان بالله والصلاة والصوم عن الحي القادر والجهاد عنه .
ومنها ما يقبلها إجماعاً كالدعاء والصدقة والحج عن الميت وركعتي الطواف تبعاً له ورد الديون والودائع .
ومنها ما فيه خلاف : كالصوم عن الميت والحج عن الحي وثواب القراءة عند الشافعي رضي الله عنه[39].
ويجوز التوكيل في النية إذا اقترنت بفعل كتفرقة زكاة أو ذبح أضحية أو صوم عن الميت أو حج[40].
مسائل على التشريك في النية :
- ما لو نوى الوضوء أو الغسل والتبرّد ، ففي وجه لا يصح للتشريك ، والأصح الصحة ؛ لأن التبرّد حاصل ، قصده أم لا ، فلم يجعل قصده تشريكاً وتركاً للإخلاص ، بل هو قصد للعبادة على حسب وقوعها ؛ لأن من ضرورتها حصول التبرّد .
- ومنها : ما لو نوى الصلاة ودفع غريمه ، صحت صلاته ؛ لأن اشتغاله عن الغريم لا يفتقر إلى قصد .
- لو نوى الطواف وملازمة غريمه ، أو السعي خلفه ، والأصح الصحة ، فلو لم يفرد الطواف بنية لم يصح ؛ لأنه إنما يصح بدونها ؛ لانسحاب حكم النية في أصل النسك عليه ، فإذا قصد ملازمة الغريم ، كان ذلك صارفاً له ، ولم يبق للاندراج أثر[41].
خامساً : شروط صحة النية :
1 - الإسلام :
فلا تصح العبادات من الكافر[42]؛ لأن العبادة تحتاج إلى نية ، والعبادة لا تصح منه لأنه فاقد شرط صحة قبول العبادة ، وهو الإيمان بالله تعالى[43].
وخرج من ذلك صور :
- الكتابية تحت المسلم ، يصح غسلها من الحيض ليحل وطؤها بلا خلاف ، للضرورة ويشترط نيتها[44]، بخلاف الحنفية[45].
2 - التمييز :
ومعناه : القوة التي في الدماغ وبها تستنبط المعاني[46]، فلا تصح عبادة صبي لا يميز ولا مجنون[47].
ومن فروع هذا الشرط :
مسألة عمد الصبي والمجنون في الجنايات ، هل هو عمد أو لا ؟ لأنه لا يتصور منهما القصد ، فيه خلاف عند الشافعية : فمن له نوع تمييز فإن عمده عمد ، وإلا فإن عمده خطأ ، والأصح عندهم أن عمدهما عمد[48]. وعند الحنفية : فإن عمدهما خطأ[49].
3 - العلم بالمنوي :
ومعناه : أن يعلم المكلف حكم ما نواه من فرض أو نفل ، عبادة أو غيرها[50].
فمن جهل الفرضيّة ، فرضية الوضوء أو الصلاة لم يصح منه فعلها ، وكذا لو علم أن بعض الصلاة فرض ولم يعلم فرضية التي شرع فيها . وإن علم الفرضية وجهل الأركان ، فإن اعتقد الكل سنّة أو البعض فرضاً والبعض سنّة ولم يميزها لم تصح قطعاً ، أو الكل فرضاً فوجهان : أصحهما : الصحة ؛ لأنه ليس فيه أكثر من أنه إدّى سنّة باعتقاد الفرض وذلك لا يؤثر[51].
ومن فروع هذا الشرط :
قوله : بعتك بمثل ما باع به فلان فرسه ، وهو لا يعلم قدره فإن البيع لا يصح[52].
4 - أن لا يأتي بمنافٍ بين النية والمنوي :
المراد بالمنافي : العمل الخارج عن المنوي وليس من النية ، كمن ارتد بعد نية العبادة فقد بطلت عبادته[53].
أنواع المنافي :
أ - نية القطع : فإذا نوى قطع الإيمان – والعياذ بالله – صار مرتداً في الحال[54]. ومن نوى قطع الصلاة أثناءها بطلت لأنها شبيهة بالإيمان[55]. ولم تبطل عند الحنفية[56].
ب - عدم القدرة على المنوي ، إما عقلاً ، وإما شرعاً ، وإما عادة :
فمن الأول : نوى بوضوئه أن يصلى صلاة ولا يصليها : لم يصح لتناقضه .
ومن الثاني : نوى به الصلاة في مكان نجس ، قيل : ينبغي أن لا يصح .
ومن الثالث : نوى به صلاة العيد وهو في أول السنة ، أو الطواف وهو بالشام ، ففي صحة وضوئه خلاف[57].
جـ - التردد وعدم الجزم في أصل النية :
- فإذا تردد : هل يقطع الصلاة أو لا ؟ أو علق إبطالها على شيء بطلت وكذا في الأيمان[58].
- من اشترى خادماً للخدمة ، وهو ينوي إن أصاب ربحاً باعه ، لا زكاة عليه[59].
- تيمم أو صلى أو صام شاكاً في دخول الوقت ، فبان في الوقت لم تصح[60].
ذكر صور صحت فيها النية مع تردد أ وتعلق :
- من صلى منفرداً ، ثم أعاد مع جماعة ونوى الفرضية ، ثم بان فساد الأولى ، فإن الثانية تجزيه ، ولا يلزم الإعادة .
- عليه صوم واجب ، لا يدري هل هو من رمضان أو نذر أو كفارة ، فنوى صوماً واجباً أجزأه ، كم نسي صلاة من الخمس ، ويعذر في عدم النية للضرورة[61].
- نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد ، إن كان من رمضان فهو فرض ، وإن لم يكن فتطوع صحيح .
- شك في قصر إمامه ، فقال : إن قصر قصرت ، وإلا أتممت ، فبان قاصراً قصر[62].
يتبع