ابو وليد البحيرى
2019-07-14, 05:07 AM
موقف السّيُوطي من الأغلاط اللغَويّة
سَمر روحي الفيصَل
يعتقد الباحث أن جلال الدين السيوطي لا يملك موقفاً من الأغلاط اللغوية، على الرغم من أن مؤلفاته (1) تُنبئ بعكس ذلك، وتشير إلى اهتمامه بهذا الحقل الذي شغل سابقيه (2) ذلك أن ثبت مؤلفات السيوطي يضم مخطوطة (3) في ثمان وعشرين ورقة، عنوانها "غلطات العوامّ"، تدل دلالة مباشرة على اهتمام السيوطي بموضوع الأغلاط اللغوية. ولكن هذه المخطوطة لم تحقق لأن المعنيين بكتب اللحن أيقنوا (4) بعد فحصها من أنها كتاب "تقويم اللسان" لابن الجوزي المتوفى سنة 597ه*، وأنه ليس للسيوطي من هذا الكتاب غير نسخ كتاب ابن الجوزي ووضع عنوان آخر له.
ولا شك في أن مهمة الباحثين في كتب اللحن مقصورة على التحقق من نسبة المخطوطة إلى صاحبها الحقيقي. وقد جسدوا هذه المهمة بقولهم إن مخطوطة "غلطات العوام" منسوبة للسيوطي، لأنها نسخة من كتاب "تقويم اللسان" لابن الجوزي. وهذه النتيجة أبعدت المحققين عن العناية بالمخطوطة المذكورة، وحذفت من مؤلفات السيوطي الكتاب اليتيم الدال مباشرة على اهتمام هذه العلامة بموضوع الأغلاط اللغوية.
ولا بد من الإشارة إلى أمر آخر قبل الشروع في البحث عن موقف السيوطي من الأغلاط اللغوية، هو محتوى النوع الخمسين، وهو آخر الأنواع في كتاب "المزهر في علوم اللغة". فقد حمل هذا النوع عنواناً محدداً دالاً على موضوع الأغلاط اللغوية، هو "معرفة أغلاط العرب" (5). ولكن فحص محتوى هذا النوع الخمسين يقود الباحث بسهولة إلى أن السيوطي لم يؤلف حرفاً مما ذكره، بل جمع الأغلاط من سبعة كتب، هي: الخصائص لابن جني وفقه اللغة للثعالبي، والأمالي للقالي والجمهرة لابن دريد وشرح المعلقات لأبي جعفر النحاس وشرح الفصيح لابن خالويه والكامل للمبرّد. وليس هذا بغريب بالنسبة إلى السيوطي. فكتبه كلها تجري على هذا النحو من الجمع والترتيب والتلخيص والتقديم والتأخير. ولا يختلف كتاب "المزهر في علوم اللغة" عن كتاب "الأشباه والنظائر في النحو" (6) أوكتاب "الاقتراح في علم أصول النحو" (7) في اتباع هذا المنحى في التأليف. ومن البدهي ألا يختلف نوع أو فصل داخل الكتاب عن المتبع في الفصول والأنواع الأخرى.
ومن الواجب أن يشير هنا إلى أمانة السيوطي (النسبية)، وحرصه على أن يعزو ما يقبسه إلى أصحابه.
ولكن هل يعني جمع الأغلاط من كتب السابقين أن السيوطي غير مسؤول عنها، وليس له رأي فيها، وأن المسؤولية تقع على عاتق أصحاب الكتب وحدهم؟.. أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال ضرورية جداً في أي محاولة لمعرفة موقف السيوطي من الأمور التي ذكرها في كتبه كلها. ويهمني هنا القول إن إيراد السيوطي الأغلاط في كتاب المزهر يدل على أنه مُقر بمخالفتها العربية الفصيحة، وأنه متفق وأصحاب الكتب التي استمد الأغلاط منها على تعليل الغلظ في كل منها. وإذا كانت الأغلاظ المذكورة في المزهر تنم على الموقف التطبيقي فإن هناك كتباً أخرى للسيوطي تنم على الموقف النظري من هذه الأغلاط وإن لم تُشر إليها صراحة، أي أن ما يصدق على الجانب التطبيقي عند السيوطي يصدق على الجانب النظري أيضاً، لأنه في الجانب النظري لم يؤلف حرفاً، بل راح يستمد من سابقيه الآراء والأقوال، ثم يجمعها ويرتبها ويلخص بعضاً منها قبل أن يوردها في كتبه.
1-موقف السيوطي النظري من الأغلاط اللغوية:
لا أعتقد أن هناك اختلافاً بين اللغويين العرب حول دلالة مصطلح "الأغلاط اللغوية". فهي عندهم مخالفة اللغة العربية الفصيحة في "الأصوات"، أو في الصيغ، أو في تركيب الجملة وحركات الأعراب، أو في دلالة الألفاظ" (8)
ذلك أن رد المخطئين إلى الصواب يحتاج إلى معيار واضح محدد لا يختلف حوله أحد. والمعروف أن محاولات تحديد المعيار انطلقت من الاتفاق على الاحتجاج بالقرآن الكريم وقراءاته كلها متواترها وآحادها وشاذها (9)، وما دوِّن من الحديث الشريف "في الصدر الأول وإن اختلفت فيها الرواية" (10). أما كلام العرب شعره ونثره فقد اتُّفق على أن حدوده الزمنية تمتد من الجاهلية إلى عام 150ه*، وعلى أن حدوده المكانية مقصورة على قبائل قليلة ضاربة وسط الجزيرة العربية، هي أسد وتميم وقيس وهذيل. وقد أوجز سعيد الأفغاني قواعد الاحتجاج بست قواعد هي:
-إسقاط الاحتجاج بما يتطرق إليه الاحتمال.
-إسقاط الاحتجاج بما تأخر زمان صاحبه عن زمن الاحتجاج.
لا يُحتج للقاعدة بكلام له روايتان متساويتان في القوة.
-لا يُبنى على شاهد قبل تحريه والتوثق من ضبطه.
-لا يُكتفى بالكلام الأبتر.
-ينبغي التفريق بين ما يُرتكب للضرورة الشعرية وما يؤتى به على السعة والاختيار.
هذا هو، بإيجاز، موقف اللغويين العرب من الاحتجاج بالقرآن الكريم والحديث الشريف وكلام العرب شعره ونثره. وقد عُد هذا الموقف معياراً للبصريين الذين اعتمدوا القياس وتشددوا فيه، كما عُد معياراً للكوفيين الذين تسمحوا وتوسعوا وأقبلوا على السّماع . ثم عرف تاريخ اللغة العربية ما سمي بالمدرستين البغدادية والأندلسية، وهما مدرستان قريبتان من المذهب البصري، ولكن علماء هما جمعوا إيجابيات البصريين والكوفيين، وكونوا مذاهب جديدة اشتهروا بها، كما هي حال أبي علي القالي وأبي حيان الغرناطي، ثم ابن مالك وابن هشام الأنصاري، ولكن الاتجاه الجديد الذي رسخته المدرستان البغدادية والأندلسية لم يخرج على معيار الاحتجاج، إضافة إلى أنه اتصف بالمرونة والتوسعة، ولم يقض على اتجاه القياس لدى البصريين والسّماع لدى الكوفيين. فابن جني البصري المتسمّع قياسيّ، وابن خالويه الكوفي المتشدد سماعيّ.
ههنا يمكنني القول إن جلال الدين السيوطي ورث بحكم تأخره الزمني ما خلفه علماء اللغة السابقون عليه. وتشير كتبه اطلاعه على آراء المدارس اللغوية في الاحتجاج، ولكنه لم يُعبر عن موقفه النظري من الأغلاط اللغوية تعبيراً مباشراً، بل عبر عنه تعبيراً غير مباشر. والمراد بالتعبير غير المباشر هنا اتباع السيوطي نهجاً في التأليف عماده جمع الآراء من كتب سابقيه. ثم نثرها في كتبه نصاً أو تلخيصاً أو تعديلاً. ويخيل إلي أن السيوطي كان يضع لكتابه خطة محددة، هي تقسيم الكتاب إلى أقسام، لكل قسم عنوان محدد. فكتاب المزهر في علوم اللغة يضم خمسين نوعاً، لكل نوع منها عنوان معين. فالنوع الأول هو معرفة الصحيح ويُقال له الثابت والمحفوظ، والثالث عشر هو معرفة الحوشي والغرائب والشواذ والنوادر.. وكتاب الاقتراح في علم أصول النحو يضم كلاماً في المقدمات وسبعة كتب. الكتاب الأول في السماع، والسابع في أول من وضع النحو. ولم تخل كتب السيوطي الجياد كلها من هذه الخطة التي تضم أقساماً محددة، يضعها السيوطي أول الأمر، ثم يرجع إلى أجزائها بعد ذلك جزءاً جزءاً ليذكر في كل جزء الآراء التي كان جمعها حول العنوان الذي وضعه لهذا الجزء.
وليس بمستبعد أن يضع السيوطي خططاً عدة في وقت واحد، ثم يملأ أقسامها في أثناء قراءاته. وقد أكد هذا الاحتمال عندي ما رأيته في نهايات بعض الأقسام من آراء نص السيوطي صراحة على أنه اطلع عليها بعد إيراده ما سبق له تدوينه. فقد حدد في كتاب الاقتراح المصطلحات التي يضمها تعريف "أصول النحو". وبعد فراغه منها قال: "بعد أن حررت هذا الحد بفكري وشرحته وجدت ابن الأنباري قال:" (12)، ثم ذكر نص كلام ابن الأنباري، وذيله بقوله: "وهذا جميع ما ذكره في الفصل الأول بحروفه" (13) ليدل على أنه نسخ كلام ابن الأنباري دون تلخيص أو تعديل. وقد تكرر الاستدراك من كتاب ابن الأنباري غير مرة في كتاب الاقتراح (14). ومهما يكن لأمر فإن هذا الاحتمال يحتاج إلى دراسة مستقلة ترجحه أو تنفيه أو تؤكده جملة وتفصيلا. فإذا صح لدى الباحثين أمره فإنني أعتقد أنه يعينهم على تفسير غزارة التأليف لدى السيوطي.
إن نهج السيوطي في التأليف ينطلق من "عقلية حديثية"، هي، في رأيي، جوهر التكوين المعرفيّ للسيوطي. وأقصد بهذه العقلية تأثره الواضح بعلم الحديث رواية ودراية وجرحاً وتعديلاً. والمعروف أنه لم يخف هذا التأثر، ولم يجد حرجاً في نقله إلى الحقل اللغوي، واستعمال مصطلحاته فيه. وقد أشرت إلى هذا الأمر لأعلل الأمانة العلمية (النسبية) التي تتصف بها كتب السيوطي، من تصريح بأسماء الذين ينقل عنهم، وقرنها بأسماء الكتب التي ينقل منها غالباً، وهذا كله يسمح لنا بدراسة طبيعة نقول السيوطي من الكتب لتحديد جوهر موقفه النظري غير المباشر من الأغلاط اللغوية.
إذا أنعمنا النظر في كتاب "الاقتراح" لاحظنا الوضوح في موقف السيوطي من الاحتجاج بقراءات القرآن الكريم كلها. بل إنه كان دقيقاً حين نص على أن القراءة الشاذة يُحتج بها وإن لم يجز القياس عليها (15). أما الاحتجاج بالحديث الشريف فقد قصره السيوطي على ما ثبت أنه لفظ النبي r، وهو نادر جداً، لأن غالبية الأحاديث رويت بالمعنى. ومن ثم كان السيوطي أحد مانعي الاحتجاج بالحديث الشريف وإن استثنى ما ثبتت روايته عن النبي r بلفظه، شأنه في ذلك شأن أبي حيان الأندلسي في شرح التسهيل، وابن الضائع في شرح الجمل.
وأما كلام العرب "فيُحتج منه بما ثبت عن الفصحاء الموثوق بعربيتهم" (16)، ثم "الاعتماد على ما رواه الثقات عنهم بالأسانيد المعتبرة من نثرهم ونظمهم" (17). وقد اعتمد السيوطي تقسيم ابن جني المسموع إلى مطرد وشاذ، ولخص ما ذكره في الخصائص من أن المطرد والشاذ أربعة ضروب، هي: مطرد في القياس والاستعمال معاً –مطرد في القياس شاذ في الاستعمال (الماضي من يذر ويدع) –مطرد في الاستعمال شاذ في القياس (استحوذ –استنوق الجمل –استصوبت الأمر) –شاذ في القياس والاستعمال معاً.
ثم نص على القواعد الآتية:
-لا علاقة للكفر بالاستشهاد بالشعر إذ كانت الرواية صحيحة.
-يُحتج برواية الفرد إذا لم يُسمع ما يخالفها.
-إذا خالفت رواية الفرد الثقة ما عليه الجمهور وما يقبله القياس قُبل ذلك منه.
-لهجات العرب كلها حجة.
-لا يؤُخذ عن أهل المدر لفساد لغتهم نتيجة اختلاطهم بغيرهم من الأمم.
-إذا اجتمع في كلام الفصيح لغتان قُبلتا منه.
-لا يُحتج بكلام المولدين والمحدثين كأبي تمام وبشار بن برد. وآخر الشعراء الذين يُحتج بشعرهم إبراهيم بن هرمة المتوفى سنة 176ه*.
-لا يُحتج بشعر أو نثر لا يُعرف قائله.
-يُتأوَّل ما كان شاذاً أو لغة طائفة من العرب.
-إذا دخل الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال.
-يحتجّ بالأبيات التي رويت على وجوه.
أخلص من ذلك إلى أن معيار الصواب عند السيوطي هو القرآن بقراءاته كلها، وما ثبتت روايته باللفظ من حديث النبي (r)، وما ثبت عن الفصحاء والرواة الثقات. فإذا فحصنا هذا المعيار استناداً إلى آراء اللغويين التي اعتمدها السيوطي بدا لنا شيء غير قليل من التناقض في موقفه النظري من الأغلاط اللغوية.
فقد استند في احتجاجه بقراءات القرآن الكريم كلها إلى رأيه الخالص.
وكان هذه الرأي واضحاً محدداً، يُعبّر عن وعي لغوي سليم، ومعرفة بأثر القراءات في الاحتجاج، وفصاحتها وسمو مكانتها اللغوية. ولم يكتف السيوطي بهذا الوضوح النظري، بل أضاف إليه وصف الذين عابوا قراءات عاصم وحمزة وابن عامر ونسبوها إلى اللحن بالخطأ، فقال: "إن قراءاتهم ثابتة بالأسانيد المتواترة الصحيحة التي لا مَطْعَن فيها. وثبوت ذلك دليل على جوازه في العربية" (18). واللافت للنظر ألا يلجأ السيوطي في أثناء حديثه عن الاحتجاج بالقرآن الكريم إلى آراء اللغويين، وأن يكتفي برأيه الخاص الذي يمكنني عدُّه إيجازاً لما أجمع عليه اللغويون العرب.
وقد اختلف موقف السيوطي النظري حين تحدّث عن الاحتجاج بالحديث الشريف. إذ اعتنق مذهب ما نعي الاحتجاج بالحديث. ورأي هؤلاء المانعين هو الاحتجاج بما ثبت أنه لفظ الرسول (r). وهذا نادر جداً، يكاد يكون مقصوراً على الأحاديث القصار (19). أما غالبية الأحاديث فمروية بالمعنى (20)، لأن الأعاجم والمولدين تداولوها قبل تدوينها، ورووها بعباراتهم، فأبدلوا ألفاظاً بألفاظ، "ولذا ترى الحديث الواحد في القصة الواحدة مروياً على أوجه شتى بعبارات مختلفة" (21). وأورد السيوطي بعد هذه المقدمة آراء ثلاثة من اللغويين الذين منعوا الاحتجاج بالحديث الشريف من غير أن يناقشها ما فعل في أثناء حديثه عن قراءات عاصم وحمزة وابن عامر. بل إنه عُني برأي أبي حيان خاصة. وهذا الرأي ينكر على ابن مالك إثباته القواعد النحوية بألفاظ الحديث الشريف. وإذا كان إيراد السيوطي رأياً من آراء سابقيه من غير أن يناقشه يعني اتفاقه مع هذا الرأي وموافقته عليه، فإن الباحث يلاحظ التناقض بين إعجاب السيوطي بردّ ابن مالك على منكري الاحتجاج بقراءات عاصم وحمزة وابن عامر، ثم اتفاقه مع أبي حيان شارح كتاب التسهيل على توهين رأي ابن مالك نفسه. أبو حيان الأندلسي –كما هو معروف –من أشد مانعي الاحتجاج بالحديث، وأكثرهم إنكاراً على مخالفيه (22)، ومنهم ابن مالك صاحب التسهيل لاحتجاجه بالحديث الشريف.
إن إشادة السيوطي بابن مالك ثم إيراده ما يوهّن رأيه في موضعين مختلفين يمكن وصفه بالتناقض. وإذا لم يكن هذا الوصف دقيقاً فإن هناك –على أقل تقدير –تبايناً في الموقف النظري للسيوطي، مفاده الوعي اللغوي السليم في أثناء تعبيره عن الاحتجاج بالقرآن، وضيق أفقه اللغوي في أثناء تعبيره عن الاحتجاج بالحديث الشريف. ذلك لأن حجتي المانعين مردودتان، وهما رواية الأحاديث بالمعنى وتسرب اللحن إلى بعضها لأن كثيراً من رواتها كانوا غير عرب. أما كون رواية الأحاديث بالمعنى جائزة فمعناه "أن ذلك احتمال عقلي فحسب لا يقين بالوقوع. وعلى فرض وقوعه فالمغيّر لفظاً بلفظ في معناه عربي مطبوع يحتج بكلامه في اللغة" (23). والأصل أن يروى الحديث باللفظ، وهذا ما جرى عليه علماء الحديث، "حتى إذا شك راو عربي بين (على وجوههم) وعلى (مناخرهم) أثبتوا شكه ودوّنوه مبالغة في التحري والدقة" (24). وأما وقوع اللحن في بعض الأحاديث فهو "قليل جداً لا يُبنى عليه حكم. وقد تنبه إليه الناس وتحاموه ولم يحتج به أحد، ولا يصح أن يُمنع من أجله الاحتجاج بهذا الفيض الزاخر من الحديث الصحيح" (25)، إضافة إلى أن علماء الحديث "تشددوا في أخذ الناس بضبط ألفاظ الحديث، حتى إذا لحن فيه شاد أو عامي أقاموا عليه النكير" (26). ثم إن السيوطي وافق أبا حيان على أنه لم ير أحداً من المتقدمين والمتأخرين سلك طريق ابن مالك في الاستدلال على القواعد الكلية بما ورد في الحديث الشريف. وهذا الأمر مردود أيضاً بكثرة المتقدمين والمتأخرين الذين احتجوا بالحديث الشريف، كالأزهري في التهذيب، والجوهري في الصحاح، وابن سيده في المخصص، وابن فارس في المجمل ومقاييس اللغة، والزمخشري في الفائق، وغير هؤلاء كثير.
لا يمكن وصف رأي السيوطي في الاحتجاج بالحديث الشريف بشيء غير المغالاة والجمود. فقد ضيّق واسعاً، وعاف المرونة وهو المتأخر الذي توافرت له الأحاديث الصحاح في مظانها الأساسية. بل انه اصطنع مصطلحات علم الحديث في كتاب المزهر، وسعى إلى تطبيقها على كلام العرب، فكثرت لديه مصطلحات الجرح والتعديل والرواية والدراية، من غير أن يلتفت إلى أنها اصطُنعت أساساً للتأكد من أن الرسول الكريم نطق الأحاديث على هذا النحو دون غيره.
ثم إن السيوطي خص الاحتجاج بكلام العرب شعره ونثره بقدر من الاهتمام يفوق ما خصصه للحديث الشريف، فنقل آراء سابقيه في السماع والقياس، والقواعد التي اتفقوا عليها. ويمكن وصف موقفه في الاحتجاج بكلام العرب بالوضوح والتحديد وباتباع ما استقر عليه النحاة واللغويون معاً. إذ غلّب الاحتجاج بالشعر على الاحتجاج بالنثر، ولم تكن لديه مساواة بينهما. كما عُني بمحاكاة الفقهاء في حديثه عن اللغة والنحو، فصنفهم في طبقات، ووضع للنحو أصولاً تشبه أصول الفقه، وجاراهم في بناء القواعد على السماع والقياس والإجماع (27). ففي المزهر أنواع للمرسل والمنقطع (28)، ومعرفة طرق الأخذ والتحمل (29)، والضعيف والمنكر والمتروك (30). بل إنه عدّ كتاب " الاقتراح" بالنسبة إلى النحو كأصول الفقه بالنسبة إلى الفقه" (31)، ونص على أنه سلك في تصنيفه كتاب الأشباه والنظائر في النحو "سبيل الفقه" (32). وهذا ما جعل موقفه من الاحتجاج بكلام العرب محاكاة لمواقف اللغويين والنحاة العرب، ولكنها محاكاة العالِم بأصولها وفروعها وإن لم تستطع التحرر من سلبيات هذه المحاكاة وخصوصاً تكرار الأمثلة والشواهد القديمة من غير تمحيص، وإهمال الاحتجاج بالحديث الشريف، ومنح الضرورات الشعرية مكانة لا تستحقها.
أخلص من الحديث السابق إلى أن موقف السيوطي النظري من الأغلاط اللغوية ليس واحداً، بل هو مواقف ثلاثة: موقف ينم على وعي لغوي، وثان ينم على قصور في الوعي، وثالث ينم على المحاكاة. وأعتقد أن تباين المواقف الثلاثة يدل على أن السيوطي لم يكن معياراً نظرياً ثابتاً للصواب، بل كان يترجح في ثلاثة معايير كانت سائدة لدى سابقيه. وإذا كان اللغويون والنحاة الأوائل يترجحون في معاييرهم فلأنهم رواد مجتهدون رغبوا في إقامة صرح اللغة والنحو على أسس رأوها سليمة استناداً إلى النصوص التي توافرت لهم، وهي قليلة تبعاً لاستقرائهم الناقص. أما ترجح السيوطي فمختلف جداً. بل إنه ترجح مرفوض، لأن جهود السابقين استقرت في معجمات وكتب لغوية ونحوية تُكسب السيوطي وغيره القدرة على التمحيص والنقد واعتماد موقف ينسجم وما آلت إليه اللغة العربية. وليس لدي ما يعينني على القول إن السيوطي أفاد من النصوص والمعارف اللغوية التي توافرت له في بناء موقف نظري من الأغلاط اللغوية يلائم حال اللغة العربية في عصره، ويساعد على نموها.
2-موقف السيوطي التطبيقي من الأغلاط اللغوية:
اعتقدت أول وهلة أن السيوطي ترجح في موقفه التطبيقي كما ترجح في موقفه النظري. بيد أنني انتهيت من فحص الأغلاط اللغوية التي ذكرها إلى شيء آخر مختلف. وهذا بيان بموقفه التطبيقي من الاحتجاج بالقرآن والحديث وكلام العرب، يقود إلى النتيجة التي انتهيت إليها.
أ-الموقف التطبيقي من الاحتجاج بالقرآن الكريم:
احتج السيوطي في كتاب الاقتراح بتسع عشرة آية من القرآن الكريم، وردت إحدى عشرة آية منها في الصفحات الأربع التي تحدث فيها عن الاحتجاج بالقرآن، ووردت ثماني آيات في أمكنة متفرقة من الكتاب. وهذا يعني أن السيوطي لم يكثر من الاحتجاج بالقرآن، بل كان مقلاً فيه. وإذا أنعمنا النظر في الآيات التي احتج بها لاحظنا أنه لم يكن يوضح أحياناً موضع الشاهد وطبيعة الآية المحتج بها. فقد احتج بقوله تعالى: )استحوذ عليهم الشيطان( (33) مرتين (34)، مكتفياً بالإشارة إلى أن فعل (استحوذ) مسموع يُحتج به ولا يُقاس عليه.
وكأن السيوطي يعتمد على معرفة القارئ بأن واو (استحوذ) وردت في الآية على الأصل من غير إعلال كما هي حال أخواتها (استقام واستباع). كذلك الأمر بالنسبة إلى الآية (ويأبى الله إلى أن يُتم نوره) (35). فقد ذكرها مثالاً على المسموع الذي يُحتج به ولا يقاس عليه، معتمداً على أن القارئ يعلم أنه لم يجئ عن العرب فِعْلٌ على فَعَلَ يَفْعَل، مفتوح العين في الماضي والمضارع، إلا ثانيه أو ثالثه أحد حروف الحلق (الهمزة –الهاء –العين –الغين –الحاء –الخاء) غير أبي يأبى.
بيد أن الاتجاه العام لدى السيوطي هو تقديم إشارة موجزة إلى موضع الشاهد في الآية. فقد ذكر قوله تعالى (فبذلك فلتفرحوا) (36) دليلاً على جواز إدخال لام الأمر على المضارع المبدوء بتاء الخطاب (37). كما ذكر قوله تعالى (ولنحمل خطاياكم) (38) دليلاً على إدخال لام الأمر على المضارع المبدوء بالنون. وحرص في أثناء هذه الإشارة الموجزة إلى موضع الشاهد على أن ينص على أن القراءة شاذة في الآية الأولى ومتواترة في الثانية.
وقد لاحظت أن الآيات التي احتج بها السيوطي هي الآيات التي احتج سابقوه بها على الأمور نفسها. وذلك يعني عندي أنه لم ينقل آراء سابقيه فحسب، بل تطبيقاتهم أيضاً. ولعل الآيات التي أغفل السيوطي موضع الاحتجاج فيها وردت لدى سابقيه غفلاً من توضيح موضع الشاهد، والآيات التي وضح موضع الشاهد فيها وردت لدى سابقيه مقترنة بالتوضيح نفسه. ففي كتاب الاقتراح دليل على أن ابن جني هو الذي أستشهد بالآية الكريمة )استحوذ عليهم الشيطان( على المسموع الذي يُحتج به ولا يقاس عليه (39). وقد توفي ابن جني عام 932ه* كما هو معروف. كما أن ابن مالك (المتوفى عام 672ه*) لم يكن أول من احتج بالآية (وتساءلون به والأرحامِ) (40) على جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، بل سبقه إلى ذلك الفخر الرازي (41) ولم يكن ابن مالك نفسه أول من احتج بالآية ( قتل أولادهم شركائهم (42) على جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، بل سبقه إلى ذلك ابن الأنباري (المتوفى عام 577ه*) في كتابه المعروف (الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين) (43). وهذا يعني أن السيوطي لم يكن محقاً حين نص على أن المتأخرين، ومنهم ابن المالك، ردوا على مَنْ عاب قراءة عاصم وحمزة وابن مالك. كما أنه لم يكتف بنقل آراء سابقيه، بل نقل الآيات التي احتجوا بها، وتبعهم في إغفالهم توضيح موضع الشاهد حيناً وذكره أحياناً. وهذا ما يجعل موقفه التطبيقي من الاحتجاج بالقرآن الكريم سبيلاً إلى الشك في موقفه النظري نفسه، والمراد هنا أنه لم يذكر في أثناء إيراده رأيه النظري أنه نقل من سابقيه حرفاً، ولكن موقفه التطبيقي دل على أنه نقل الآيات التي احتج بها سابقوه، فهل يعني ذلك أنه نقل الآراء وشواهدها معاً؟ أكاد أعتقد ذلك. ومهما يكن الأمر فإن عدد الآيات التي ذكرها السيوطي في الاقتراح قليل جداً، لا يوازي حماسته للاحتجاج بالقرآن الكريم.
ب-الموقف التطبيقي من الاحتجاج بالحديث الشريف:
أعتقد أن موقف السيوطي التطبيقي من الاحتجاج بالحديث الشريف يختلف عن موقفه النظري. فقد أكثر من الاحتجاج بالحديث في المزهر والأشباه والنظائر في النحو، واكتفى في الاقتراح بالاحتجاج بتسعة أحاديث. ويهمني القول إنه وظف الأحاديث التي احتج بها لأغراض عدة، أبرزها الدلالة على أن الرسول r أول من استعمل بعض العبارات الفصيحة، كقوله: "مات حتف أنفه، حمي الوطيس، لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين(44). كما احتج بالحديث الشريف للدلالة على أصل في اللغة والنحو، كما فعل في الأشباه والنظائر في النحو حين تحدث عن الإتباع. إذ احتج بستة أحاديث (45) وفي الاقتراح حين تحدث عن أن اللهجات على اختلافها حجة (46).
كما التفت السيوطي أحياناً إلى أحاديث شريفة احتجّ اللغويون بها على صحة تركيب نحوي. من ذلك مثلاً (47) ما روى أبو حيان عن أن ابن مالك استشهد على لغة "أكلوني البراغيث" بقول الرسول الكريم r: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار". فقد وهن السيوطي لغة أكلوني البراغيث بإيراده رواية البزّار (المتوفى عام 583ه*) للحديث، وهي رواية تُعنى بذكر بداية الحديث الشريف نفسه، وهي: "إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار". وعلى الرغم من أن السيوطي لم يوضح مراده من رواية الحديث كاملاً، فإن عمله يدل على قاعدة لغوية مهمة، هي عدم الاكتفاء بالكلام الأبتر، ووجوب العودة إلى مظانه إن كان شعراً، ومعرفة ما قبله وما بعده إن كان نثراً (48). وقد أورد السيوطي الرواية التي ذكرها البزّار للحديث الشريف ليقول بشكل غير مباشر إن واو (يتعاقبون) لا ترجع إلى (ملائكة) التي بعدها، بل ترجع إلى (ملائكة) التي قبلها، وبذلك يُنْفى الشاهد النثري على صحة لغة (أكلوني البراغيث)، وتبقى هذه اللغة مقصورة على الضرورات الشعرية.
إن إكثار السيوطي من الاحتجاج بالحديث الشريف يدل على شيء مغاير لما نص عليه في موقفه النظري. فالأحاديث الشريفة المروية بلفظ النبي r كثيرة جداً، حفظتها لنا كتب الحديث، وبذل العلماء في جمعها والتدقيق فيها الوقت والجهد لأنها أكثر كلام العرب فصاحة بعد القرآن الكريم.
يتبع
سَمر روحي الفيصَل
يعتقد الباحث أن جلال الدين السيوطي لا يملك موقفاً من الأغلاط اللغوية، على الرغم من أن مؤلفاته (1) تُنبئ بعكس ذلك، وتشير إلى اهتمامه بهذا الحقل الذي شغل سابقيه (2) ذلك أن ثبت مؤلفات السيوطي يضم مخطوطة (3) في ثمان وعشرين ورقة، عنوانها "غلطات العوامّ"، تدل دلالة مباشرة على اهتمام السيوطي بموضوع الأغلاط اللغوية. ولكن هذه المخطوطة لم تحقق لأن المعنيين بكتب اللحن أيقنوا (4) بعد فحصها من أنها كتاب "تقويم اللسان" لابن الجوزي المتوفى سنة 597ه*، وأنه ليس للسيوطي من هذا الكتاب غير نسخ كتاب ابن الجوزي ووضع عنوان آخر له.
ولا شك في أن مهمة الباحثين في كتب اللحن مقصورة على التحقق من نسبة المخطوطة إلى صاحبها الحقيقي. وقد جسدوا هذه المهمة بقولهم إن مخطوطة "غلطات العوام" منسوبة للسيوطي، لأنها نسخة من كتاب "تقويم اللسان" لابن الجوزي. وهذه النتيجة أبعدت المحققين عن العناية بالمخطوطة المذكورة، وحذفت من مؤلفات السيوطي الكتاب اليتيم الدال مباشرة على اهتمام هذه العلامة بموضوع الأغلاط اللغوية.
ولا بد من الإشارة إلى أمر آخر قبل الشروع في البحث عن موقف السيوطي من الأغلاط اللغوية، هو محتوى النوع الخمسين، وهو آخر الأنواع في كتاب "المزهر في علوم اللغة". فقد حمل هذا النوع عنواناً محدداً دالاً على موضوع الأغلاط اللغوية، هو "معرفة أغلاط العرب" (5). ولكن فحص محتوى هذا النوع الخمسين يقود الباحث بسهولة إلى أن السيوطي لم يؤلف حرفاً مما ذكره، بل جمع الأغلاط من سبعة كتب، هي: الخصائص لابن جني وفقه اللغة للثعالبي، والأمالي للقالي والجمهرة لابن دريد وشرح المعلقات لأبي جعفر النحاس وشرح الفصيح لابن خالويه والكامل للمبرّد. وليس هذا بغريب بالنسبة إلى السيوطي. فكتبه كلها تجري على هذا النحو من الجمع والترتيب والتلخيص والتقديم والتأخير. ولا يختلف كتاب "المزهر في علوم اللغة" عن كتاب "الأشباه والنظائر في النحو" (6) أوكتاب "الاقتراح في علم أصول النحو" (7) في اتباع هذا المنحى في التأليف. ومن البدهي ألا يختلف نوع أو فصل داخل الكتاب عن المتبع في الفصول والأنواع الأخرى.
ومن الواجب أن يشير هنا إلى أمانة السيوطي (النسبية)، وحرصه على أن يعزو ما يقبسه إلى أصحابه.
ولكن هل يعني جمع الأغلاط من كتب السابقين أن السيوطي غير مسؤول عنها، وليس له رأي فيها، وأن المسؤولية تقع على عاتق أصحاب الكتب وحدهم؟.. أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال ضرورية جداً في أي محاولة لمعرفة موقف السيوطي من الأمور التي ذكرها في كتبه كلها. ويهمني هنا القول إن إيراد السيوطي الأغلاط في كتاب المزهر يدل على أنه مُقر بمخالفتها العربية الفصيحة، وأنه متفق وأصحاب الكتب التي استمد الأغلاط منها على تعليل الغلظ في كل منها. وإذا كانت الأغلاظ المذكورة في المزهر تنم على الموقف التطبيقي فإن هناك كتباً أخرى للسيوطي تنم على الموقف النظري من هذه الأغلاط وإن لم تُشر إليها صراحة، أي أن ما يصدق على الجانب التطبيقي عند السيوطي يصدق على الجانب النظري أيضاً، لأنه في الجانب النظري لم يؤلف حرفاً، بل راح يستمد من سابقيه الآراء والأقوال، ثم يجمعها ويرتبها ويلخص بعضاً منها قبل أن يوردها في كتبه.
1-موقف السيوطي النظري من الأغلاط اللغوية:
لا أعتقد أن هناك اختلافاً بين اللغويين العرب حول دلالة مصطلح "الأغلاط اللغوية". فهي عندهم مخالفة اللغة العربية الفصيحة في "الأصوات"، أو في الصيغ، أو في تركيب الجملة وحركات الأعراب، أو في دلالة الألفاظ" (8)
ذلك أن رد المخطئين إلى الصواب يحتاج إلى معيار واضح محدد لا يختلف حوله أحد. والمعروف أن محاولات تحديد المعيار انطلقت من الاتفاق على الاحتجاج بالقرآن الكريم وقراءاته كلها متواترها وآحادها وشاذها (9)، وما دوِّن من الحديث الشريف "في الصدر الأول وإن اختلفت فيها الرواية" (10). أما كلام العرب شعره ونثره فقد اتُّفق على أن حدوده الزمنية تمتد من الجاهلية إلى عام 150ه*، وعلى أن حدوده المكانية مقصورة على قبائل قليلة ضاربة وسط الجزيرة العربية، هي أسد وتميم وقيس وهذيل. وقد أوجز سعيد الأفغاني قواعد الاحتجاج بست قواعد هي:
-إسقاط الاحتجاج بما يتطرق إليه الاحتمال.
-إسقاط الاحتجاج بما تأخر زمان صاحبه عن زمن الاحتجاج.
لا يُحتج للقاعدة بكلام له روايتان متساويتان في القوة.
-لا يُبنى على شاهد قبل تحريه والتوثق من ضبطه.
-لا يُكتفى بالكلام الأبتر.
-ينبغي التفريق بين ما يُرتكب للضرورة الشعرية وما يؤتى به على السعة والاختيار.
هذا هو، بإيجاز، موقف اللغويين العرب من الاحتجاج بالقرآن الكريم والحديث الشريف وكلام العرب شعره ونثره. وقد عُد هذا الموقف معياراً للبصريين الذين اعتمدوا القياس وتشددوا فيه، كما عُد معياراً للكوفيين الذين تسمحوا وتوسعوا وأقبلوا على السّماع . ثم عرف تاريخ اللغة العربية ما سمي بالمدرستين البغدادية والأندلسية، وهما مدرستان قريبتان من المذهب البصري، ولكن علماء هما جمعوا إيجابيات البصريين والكوفيين، وكونوا مذاهب جديدة اشتهروا بها، كما هي حال أبي علي القالي وأبي حيان الغرناطي، ثم ابن مالك وابن هشام الأنصاري، ولكن الاتجاه الجديد الذي رسخته المدرستان البغدادية والأندلسية لم يخرج على معيار الاحتجاج، إضافة إلى أنه اتصف بالمرونة والتوسعة، ولم يقض على اتجاه القياس لدى البصريين والسّماع لدى الكوفيين. فابن جني البصري المتسمّع قياسيّ، وابن خالويه الكوفي المتشدد سماعيّ.
ههنا يمكنني القول إن جلال الدين السيوطي ورث بحكم تأخره الزمني ما خلفه علماء اللغة السابقون عليه. وتشير كتبه اطلاعه على آراء المدارس اللغوية في الاحتجاج، ولكنه لم يُعبر عن موقفه النظري من الأغلاط اللغوية تعبيراً مباشراً، بل عبر عنه تعبيراً غير مباشر. والمراد بالتعبير غير المباشر هنا اتباع السيوطي نهجاً في التأليف عماده جمع الآراء من كتب سابقيه. ثم نثرها في كتبه نصاً أو تلخيصاً أو تعديلاً. ويخيل إلي أن السيوطي كان يضع لكتابه خطة محددة، هي تقسيم الكتاب إلى أقسام، لكل قسم عنوان محدد. فكتاب المزهر في علوم اللغة يضم خمسين نوعاً، لكل نوع منها عنوان معين. فالنوع الأول هو معرفة الصحيح ويُقال له الثابت والمحفوظ، والثالث عشر هو معرفة الحوشي والغرائب والشواذ والنوادر.. وكتاب الاقتراح في علم أصول النحو يضم كلاماً في المقدمات وسبعة كتب. الكتاب الأول في السماع، والسابع في أول من وضع النحو. ولم تخل كتب السيوطي الجياد كلها من هذه الخطة التي تضم أقساماً محددة، يضعها السيوطي أول الأمر، ثم يرجع إلى أجزائها بعد ذلك جزءاً جزءاً ليذكر في كل جزء الآراء التي كان جمعها حول العنوان الذي وضعه لهذا الجزء.
وليس بمستبعد أن يضع السيوطي خططاً عدة في وقت واحد، ثم يملأ أقسامها في أثناء قراءاته. وقد أكد هذا الاحتمال عندي ما رأيته في نهايات بعض الأقسام من آراء نص السيوطي صراحة على أنه اطلع عليها بعد إيراده ما سبق له تدوينه. فقد حدد في كتاب الاقتراح المصطلحات التي يضمها تعريف "أصول النحو". وبعد فراغه منها قال: "بعد أن حررت هذا الحد بفكري وشرحته وجدت ابن الأنباري قال:" (12)، ثم ذكر نص كلام ابن الأنباري، وذيله بقوله: "وهذا جميع ما ذكره في الفصل الأول بحروفه" (13) ليدل على أنه نسخ كلام ابن الأنباري دون تلخيص أو تعديل. وقد تكرر الاستدراك من كتاب ابن الأنباري غير مرة في كتاب الاقتراح (14). ومهما يكن لأمر فإن هذا الاحتمال يحتاج إلى دراسة مستقلة ترجحه أو تنفيه أو تؤكده جملة وتفصيلا. فإذا صح لدى الباحثين أمره فإنني أعتقد أنه يعينهم على تفسير غزارة التأليف لدى السيوطي.
إن نهج السيوطي في التأليف ينطلق من "عقلية حديثية"، هي، في رأيي، جوهر التكوين المعرفيّ للسيوطي. وأقصد بهذه العقلية تأثره الواضح بعلم الحديث رواية ودراية وجرحاً وتعديلاً. والمعروف أنه لم يخف هذا التأثر، ولم يجد حرجاً في نقله إلى الحقل اللغوي، واستعمال مصطلحاته فيه. وقد أشرت إلى هذا الأمر لأعلل الأمانة العلمية (النسبية) التي تتصف بها كتب السيوطي، من تصريح بأسماء الذين ينقل عنهم، وقرنها بأسماء الكتب التي ينقل منها غالباً، وهذا كله يسمح لنا بدراسة طبيعة نقول السيوطي من الكتب لتحديد جوهر موقفه النظري غير المباشر من الأغلاط اللغوية.
إذا أنعمنا النظر في كتاب "الاقتراح" لاحظنا الوضوح في موقف السيوطي من الاحتجاج بقراءات القرآن الكريم كلها. بل إنه كان دقيقاً حين نص على أن القراءة الشاذة يُحتج بها وإن لم يجز القياس عليها (15). أما الاحتجاج بالحديث الشريف فقد قصره السيوطي على ما ثبت أنه لفظ النبي r، وهو نادر جداً، لأن غالبية الأحاديث رويت بالمعنى. ومن ثم كان السيوطي أحد مانعي الاحتجاج بالحديث الشريف وإن استثنى ما ثبتت روايته عن النبي r بلفظه، شأنه في ذلك شأن أبي حيان الأندلسي في شرح التسهيل، وابن الضائع في شرح الجمل.
وأما كلام العرب "فيُحتج منه بما ثبت عن الفصحاء الموثوق بعربيتهم" (16)، ثم "الاعتماد على ما رواه الثقات عنهم بالأسانيد المعتبرة من نثرهم ونظمهم" (17). وقد اعتمد السيوطي تقسيم ابن جني المسموع إلى مطرد وشاذ، ولخص ما ذكره في الخصائص من أن المطرد والشاذ أربعة ضروب، هي: مطرد في القياس والاستعمال معاً –مطرد في القياس شاذ في الاستعمال (الماضي من يذر ويدع) –مطرد في الاستعمال شاذ في القياس (استحوذ –استنوق الجمل –استصوبت الأمر) –شاذ في القياس والاستعمال معاً.
ثم نص على القواعد الآتية:
-لا علاقة للكفر بالاستشهاد بالشعر إذ كانت الرواية صحيحة.
-يُحتج برواية الفرد إذا لم يُسمع ما يخالفها.
-إذا خالفت رواية الفرد الثقة ما عليه الجمهور وما يقبله القياس قُبل ذلك منه.
-لهجات العرب كلها حجة.
-لا يؤُخذ عن أهل المدر لفساد لغتهم نتيجة اختلاطهم بغيرهم من الأمم.
-إذا اجتمع في كلام الفصيح لغتان قُبلتا منه.
-لا يُحتج بكلام المولدين والمحدثين كأبي تمام وبشار بن برد. وآخر الشعراء الذين يُحتج بشعرهم إبراهيم بن هرمة المتوفى سنة 176ه*.
-لا يُحتج بشعر أو نثر لا يُعرف قائله.
-يُتأوَّل ما كان شاذاً أو لغة طائفة من العرب.
-إذا دخل الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال.
-يحتجّ بالأبيات التي رويت على وجوه.
أخلص من ذلك إلى أن معيار الصواب عند السيوطي هو القرآن بقراءاته كلها، وما ثبتت روايته باللفظ من حديث النبي (r)، وما ثبت عن الفصحاء والرواة الثقات. فإذا فحصنا هذا المعيار استناداً إلى آراء اللغويين التي اعتمدها السيوطي بدا لنا شيء غير قليل من التناقض في موقفه النظري من الأغلاط اللغوية.
فقد استند في احتجاجه بقراءات القرآن الكريم كلها إلى رأيه الخالص.
وكان هذه الرأي واضحاً محدداً، يُعبّر عن وعي لغوي سليم، ومعرفة بأثر القراءات في الاحتجاج، وفصاحتها وسمو مكانتها اللغوية. ولم يكتف السيوطي بهذا الوضوح النظري، بل أضاف إليه وصف الذين عابوا قراءات عاصم وحمزة وابن عامر ونسبوها إلى اللحن بالخطأ، فقال: "إن قراءاتهم ثابتة بالأسانيد المتواترة الصحيحة التي لا مَطْعَن فيها. وثبوت ذلك دليل على جوازه في العربية" (18). واللافت للنظر ألا يلجأ السيوطي في أثناء حديثه عن الاحتجاج بالقرآن الكريم إلى آراء اللغويين، وأن يكتفي برأيه الخاص الذي يمكنني عدُّه إيجازاً لما أجمع عليه اللغويون العرب.
وقد اختلف موقف السيوطي النظري حين تحدّث عن الاحتجاج بالحديث الشريف. إذ اعتنق مذهب ما نعي الاحتجاج بالحديث. ورأي هؤلاء المانعين هو الاحتجاج بما ثبت أنه لفظ الرسول (r). وهذا نادر جداً، يكاد يكون مقصوراً على الأحاديث القصار (19). أما غالبية الأحاديث فمروية بالمعنى (20)، لأن الأعاجم والمولدين تداولوها قبل تدوينها، ورووها بعباراتهم، فأبدلوا ألفاظاً بألفاظ، "ولذا ترى الحديث الواحد في القصة الواحدة مروياً على أوجه شتى بعبارات مختلفة" (21). وأورد السيوطي بعد هذه المقدمة آراء ثلاثة من اللغويين الذين منعوا الاحتجاج بالحديث الشريف من غير أن يناقشها ما فعل في أثناء حديثه عن قراءات عاصم وحمزة وابن عامر. بل إنه عُني برأي أبي حيان خاصة. وهذا الرأي ينكر على ابن مالك إثباته القواعد النحوية بألفاظ الحديث الشريف. وإذا كان إيراد السيوطي رأياً من آراء سابقيه من غير أن يناقشه يعني اتفاقه مع هذا الرأي وموافقته عليه، فإن الباحث يلاحظ التناقض بين إعجاب السيوطي بردّ ابن مالك على منكري الاحتجاج بقراءات عاصم وحمزة وابن عامر، ثم اتفاقه مع أبي حيان شارح كتاب التسهيل على توهين رأي ابن مالك نفسه. أبو حيان الأندلسي –كما هو معروف –من أشد مانعي الاحتجاج بالحديث، وأكثرهم إنكاراً على مخالفيه (22)، ومنهم ابن مالك صاحب التسهيل لاحتجاجه بالحديث الشريف.
إن إشادة السيوطي بابن مالك ثم إيراده ما يوهّن رأيه في موضعين مختلفين يمكن وصفه بالتناقض. وإذا لم يكن هذا الوصف دقيقاً فإن هناك –على أقل تقدير –تبايناً في الموقف النظري للسيوطي، مفاده الوعي اللغوي السليم في أثناء تعبيره عن الاحتجاج بالقرآن، وضيق أفقه اللغوي في أثناء تعبيره عن الاحتجاج بالحديث الشريف. ذلك لأن حجتي المانعين مردودتان، وهما رواية الأحاديث بالمعنى وتسرب اللحن إلى بعضها لأن كثيراً من رواتها كانوا غير عرب. أما كون رواية الأحاديث بالمعنى جائزة فمعناه "أن ذلك احتمال عقلي فحسب لا يقين بالوقوع. وعلى فرض وقوعه فالمغيّر لفظاً بلفظ في معناه عربي مطبوع يحتج بكلامه في اللغة" (23). والأصل أن يروى الحديث باللفظ، وهذا ما جرى عليه علماء الحديث، "حتى إذا شك راو عربي بين (على وجوههم) وعلى (مناخرهم) أثبتوا شكه ودوّنوه مبالغة في التحري والدقة" (24). وأما وقوع اللحن في بعض الأحاديث فهو "قليل جداً لا يُبنى عليه حكم. وقد تنبه إليه الناس وتحاموه ولم يحتج به أحد، ولا يصح أن يُمنع من أجله الاحتجاج بهذا الفيض الزاخر من الحديث الصحيح" (25)، إضافة إلى أن علماء الحديث "تشددوا في أخذ الناس بضبط ألفاظ الحديث، حتى إذا لحن فيه شاد أو عامي أقاموا عليه النكير" (26). ثم إن السيوطي وافق أبا حيان على أنه لم ير أحداً من المتقدمين والمتأخرين سلك طريق ابن مالك في الاستدلال على القواعد الكلية بما ورد في الحديث الشريف. وهذا الأمر مردود أيضاً بكثرة المتقدمين والمتأخرين الذين احتجوا بالحديث الشريف، كالأزهري في التهذيب، والجوهري في الصحاح، وابن سيده في المخصص، وابن فارس في المجمل ومقاييس اللغة، والزمخشري في الفائق، وغير هؤلاء كثير.
لا يمكن وصف رأي السيوطي في الاحتجاج بالحديث الشريف بشيء غير المغالاة والجمود. فقد ضيّق واسعاً، وعاف المرونة وهو المتأخر الذي توافرت له الأحاديث الصحاح في مظانها الأساسية. بل انه اصطنع مصطلحات علم الحديث في كتاب المزهر، وسعى إلى تطبيقها على كلام العرب، فكثرت لديه مصطلحات الجرح والتعديل والرواية والدراية، من غير أن يلتفت إلى أنها اصطُنعت أساساً للتأكد من أن الرسول الكريم نطق الأحاديث على هذا النحو دون غيره.
ثم إن السيوطي خص الاحتجاج بكلام العرب شعره ونثره بقدر من الاهتمام يفوق ما خصصه للحديث الشريف، فنقل آراء سابقيه في السماع والقياس، والقواعد التي اتفقوا عليها. ويمكن وصف موقفه في الاحتجاج بكلام العرب بالوضوح والتحديد وباتباع ما استقر عليه النحاة واللغويون معاً. إذ غلّب الاحتجاج بالشعر على الاحتجاج بالنثر، ولم تكن لديه مساواة بينهما. كما عُني بمحاكاة الفقهاء في حديثه عن اللغة والنحو، فصنفهم في طبقات، ووضع للنحو أصولاً تشبه أصول الفقه، وجاراهم في بناء القواعد على السماع والقياس والإجماع (27). ففي المزهر أنواع للمرسل والمنقطع (28)، ومعرفة طرق الأخذ والتحمل (29)، والضعيف والمنكر والمتروك (30). بل إنه عدّ كتاب " الاقتراح" بالنسبة إلى النحو كأصول الفقه بالنسبة إلى الفقه" (31)، ونص على أنه سلك في تصنيفه كتاب الأشباه والنظائر في النحو "سبيل الفقه" (32). وهذا ما جعل موقفه من الاحتجاج بكلام العرب محاكاة لمواقف اللغويين والنحاة العرب، ولكنها محاكاة العالِم بأصولها وفروعها وإن لم تستطع التحرر من سلبيات هذه المحاكاة وخصوصاً تكرار الأمثلة والشواهد القديمة من غير تمحيص، وإهمال الاحتجاج بالحديث الشريف، ومنح الضرورات الشعرية مكانة لا تستحقها.
أخلص من الحديث السابق إلى أن موقف السيوطي النظري من الأغلاط اللغوية ليس واحداً، بل هو مواقف ثلاثة: موقف ينم على وعي لغوي، وثان ينم على قصور في الوعي، وثالث ينم على المحاكاة. وأعتقد أن تباين المواقف الثلاثة يدل على أن السيوطي لم يكن معياراً نظرياً ثابتاً للصواب، بل كان يترجح في ثلاثة معايير كانت سائدة لدى سابقيه. وإذا كان اللغويون والنحاة الأوائل يترجحون في معاييرهم فلأنهم رواد مجتهدون رغبوا في إقامة صرح اللغة والنحو على أسس رأوها سليمة استناداً إلى النصوص التي توافرت لهم، وهي قليلة تبعاً لاستقرائهم الناقص. أما ترجح السيوطي فمختلف جداً. بل إنه ترجح مرفوض، لأن جهود السابقين استقرت في معجمات وكتب لغوية ونحوية تُكسب السيوطي وغيره القدرة على التمحيص والنقد واعتماد موقف ينسجم وما آلت إليه اللغة العربية. وليس لدي ما يعينني على القول إن السيوطي أفاد من النصوص والمعارف اللغوية التي توافرت له في بناء موقف نظري من الأغلاط اللغوية يلائم حال اللغة العربية في عصره، ويساعد على نموها.
2-موقف السيوطي التطبيقي من الأغلاط اللغوية:
اعتقدت أول وهلة أن السيوطي ترجح في موقفه التطبيقي كما ترجح في موقفه النظري. بيد أنني انتهيت من فحص الأغلاط اللغوية التي ذكرها إلى شيء آخر مختلف. وهذا بيان بموقفه التطبيقي من الاحتجاج بالقرآن والحديث وكلام العرب، يقود إلى النتيجة التي انتهيت إليها.
أ-الموقف التطبيقي من الاحتجاج بالقرآن الكريم:
احتج السيوطي في كتاب الاقتراح بتسع عشرة آية من القرآن الكريم، وردت إحدى عشرة آية منها في الصفحات الأربع التي تحدث فيها عن الاحتجاج بالقرآن، ووردت ثماني آيات في أمكنة متفرقة من الكتاب. وهذا يعني أن السيوطي لم يكثر من الاحتجاج بالقرآن، بل كان مقلاً فيه. وإذا أنعمنا النظر في الآيات التي احتج بها لاحظنا أنه لم يكن يوضح أحياناً موضع الشاهد وطبيعة الآية المحتج بها. فقد احتج بقوله تعالى: )استحوذ عليهم الشيطان( (33) مرتين (34)، مكتفياً بالإشارة إلى أن فعل (استحوذ) مسموع يُحتج به ولا يُقاس عليه.
وكأن السيوطي يعتمد على معرفة القارئ بأن واو (استحوذ) وردت في الآية على الأصل من غير إعلال كما هي حال أخواتها (استقام واستباع). كذلك الأمر بالنسبة إلى الآية (ويأبى الله إلى أن يُتم نوره) (35). فقد ذكرها مثالاً على المسموع الذي يُحتج به ولا يقاس عليه، معتمداً على أن القارئ يعلم أنه لم يجئ عن العرب فِعْلٌ على فَعَلَ يَفْعَل، مفتوح العين في الماضي والمضارع، إلا ثانيه أو ثالثه أحد حروف الحلق (الهمزة –الهاء –العين –الغين –الحاء –الخاء) غير أبي يأبى.
بيد أن الاتجاه العام لدى السيوطي هو تقديم إشارة موجزة إلى موضع الشاهد في الآية. فقد ذكر قوله تعالى (فبذلك فلتفرحوا) (36) دليلاً على جواز إدخال لام الأمر على المضارع المبدوء بتاء الخطاب (37). كما ذكر قوله تعالى (ولنحمل خطاياكم) (38) دليلاً على إدخال لام الأمر على المضارع المبدوء بالنون. وحرص في أثناء هذه الإشارة الموجزة إلى موضع الشاهد على أن ينص على أن القراءة شاذة في الآية الأولى ومتواترة في الثانية.
وقد لاحظت أن الآيات التي احتج بها السيوطي هي الآيات التي احتج سابقوه بها على الأمور نفسها. وذلك يعني عندي أنه لم ينقل آراء سابقيه فحسب، بل تطبيقاتهم أيضاً. ولعل الآيات التي أغفل السيوطي موضع الاحتجاج فيها وردت لدى سابقيه غفلاً من توضيح موضع الشاهد، والآيات التي وضح موضع الشاهد فيها وردت لدى سابقيه مقترنة بالتوضيح نفسه. ففي كتاب الاقتراح دليل على أن ابن جني هو الذي أستشهد بالآية الكريمة )استحوذ عليهم الشيطان( على المسموع الذي يُحتج به ولا يقاس عليه (39). وقد توفي ابن جني عام 932ه* كما هو معروف. كما أن ابن مالك (المتوفى عام 672ه*) لم يكن أول من احتج بالآية (وتساءلون به والأرحامِ) (40) على جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، بل سبقه إلى ذلك الفخر الرازي (41) ولم يكن ابن مالك نفسه أول من احتج بالآية ( قتل أولادهم شركائهم (42) على جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، بل سبقه إلى ذلك ابن الأنباري (المتوفى عام 577ه*) في كتابه المعروف (الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين) (43). وهذا يعني أن السيوطي لم يكن محقاً حين نص على أن المتأخرين، ومنهم ابن المالك، ردوا على مَنْ عاب قراءة عاصم وحمزة وابن مالك. كما أنه لم يكتف بنقل آراء سابقيه، بل نقل الآيات التي احتجوا بها، وتبعهم في إغفالهم توضيح موضع الشاهد حيناً وذكره أحياناً. وهذا ما يجعل موقفه التطبيقي من الاحتجاج بالقرآن الكريم سبيلاً إلى الشك في موقفه النظري نفسه، والمراد هنا أنه لم يذكر في أثناء إيراده رأيه النظري أنه نقل من سابقيه حرفاً، ولكن موقفه التطبيقي دل على أنه نقل الآيات التي احتج بها سابقوه، فهل يعني ذلك أنه نقل الآراء وشواهدها معاً؟ أكاد أعتقد ذلك. ومهما يكن الأمر فإن عدد الآيات التي ذكرها السيوطي في الاقتراح قليل جداً، لا يوازي حماسته للاحتجاج بالقرآن الكريم.
ب-الموقف التطبيقي من الاحتجاج بالحديث الشريف:
أعتقد أن موقف السيوطي التطبيقي من الاحتجاج بالحديث الشريف يختلف عن موقفه النظري. فقد أكثر من الاحتجاج بالحديث في المزهر والأشباه والنظائر في النحو، واكتفى في الاقتراح بالاحتجاج بتسعة أحاديث. ويهمني القول إنه وظف الأحاديث التي احتج بها لأغراض عدة، أبرزها الدلالة على أن الرسول r أول من استعمل بعض العبارات الفصيحة، كقوله: "مات حتف أنفه، حمي الوطيس، لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين(44). كما احتج بالحديث الشريف للدلالة على أصل في اللغة والنحو، كما فعل في الأشباه والنظائر في النحو حين تحدث عن الإتباع. إذ احتج بستة أحاديث (45) وفي الاقتراح حين تحدث عن أن اللهجات على اختلافها حجة (46).
كما التفت السيوطي أحياناً إلى أحاديث شريفة احتجّ اللغويون بها على صحة تركيب نحوي. من ذلك مثلاً (47) ما روى أبو حيان عن أن ابن مالك استشهد على لغة "أكلوني البراغيث" بقول الرسول الكريم r: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار". فقد وهن السيوطي لغة أكلوني البراغيث بإيراده رواية البزّار (المتوفى عام 583ه*) للحديث، وهي رواية تُعنى بذكر بداية الحديث الشريف نفسه، وهي: "إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار". وعلى الرغم من أن السيوطي لم يوضح مراده من رواية الحديث كاملاً، فإن عمله يدل على قاعدة لغوية مهمة، هي عدم الاكتفاء بالكلام الأبتر، ووجوب العودة إلى مظانه إن كان شعراً، ومعرفة ما قبله وما بعده إن كان نثراً (48). وقد أورد السيوطي الرواية التي ذكرها البزّار للحديث الشريف ليقول بشكل غير مباشر إن واو (يتعاقبون) لا ترجع إلى (ملائكة) التي بعدها، بل ترجع إلى (ملائكة) التي قبلها، وبذلك يُنْفى الشاهد النثري على صحة لغة (أكلوني البراغيث)، وتبقى هذه اللغة مقصورة على الضرورات الشعرية.
إن إكثار السيوطي من الاحتجاج بالحديث الشريف يدل على شيء مغاير لما نص عليه في موقفه النظري. فالأحاديث الشريفة المروية بلفظ النبي r كثيرة جداً، حفظتها لنا كتب الحديث، وبذل العلماء في جمعها والتدقيق فيها الوقت والجهد لأنها أكثر كلام العرب فصاحة بعد القرآن الكريم.
يتبع