المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التلازم بين الظاهر والباطن



محمدعبداللطيف
2019-07-13, 01:53 PM
ظاهر العبد – هو الوجه الآخر لقلبه وباطنه، و انعكاس مباشر له لا يتخلف عنه ولا يغايره، وإذا كان الباطن صالحاً كان الظاهر كذلك، وإذا كان الباطن فاسداً كان الظاهر كذلك فاسداً بحسبه؛ لأن الإيمان أصله في القلب، وهو: قول القلب من المعرفة والعلم والتصديق. عمل القلب من الإذعان والانقياد والاستسلام. ولكن من لوازم هذا الإيمان – إذا تحقق في القلب – تحقيقها في الظاهر، فالظاهر لا يتخلف عن الباطن ولا يضاده؛ لأنه ترجمان الباطن، ومرتبط به ارتباطاً وثيقاً. فالظاهر والباطن متلازمان لا يكون الظاهر مستقيماً إلا باستقامة الباطن، وكذلك العكس. والإيمان المطلوب شرعاً هو الإيمان الظاهر والباطن، وتلازم عمل القلب بعمل الجوارح؛ لأنه لا يصح إيمان العبد بواحدة دون الأخرى؛ فمن زعم وجود العمل في قلبه دون جوارحه؛ لا يثبت له اسم الإيمان؛ لأن الأعمال والأقوال الظاهرة من لوازم الإيمان التي لا تنفك عنه، -لا يتخلف التلازم بين الظاهر والباطن إلا لموانع شرعية ومنها على سبيل المثال
حالة الإكراه ، مع أنها حالة مؤقتة وغير مستمرة وتزول بزوال العارض ، وترجع إلى ما كانت عليه من اطمئنان القلب بالإيمان وعمل الجوارح بمقتضى هذا الإيمان فكل من " أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ" سرعان ما يزول بزوال الإكراه.
---حالة المنافق كما قال تعالى في سورة الفتح : " يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم ْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ " فغير ذلك يتلازم الظاهر والباطن ولا يتخلف إلا في حالة الإكراه والمانع والنفاق- -----ادلة التلازم بين الظاهر والباطن - - قوله سبحانه : " لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ" ونحوها. ---قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه)) . وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب)) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شرح هذا الحديث: (فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد؛ فإذا كان الجسد غير صالح، دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح؛ فعلم أن من يتكلم بالإيمان، ولا يعمل به، لا يكون قلبه مؤمناً، حتى أن المكره إذا كان في إظهار الإيمان؛ فلابد أن يتكلم مع نفسه، وفي السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه؛ كما قال عثمان. وأما إذا لم يظهر أثر ذلك إلا بقوله، ولا بفعله قط؛ فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان، وذلك أن الجسد تابع للقلب؛ فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن، ولو بوجه من الوجوه) .
وقال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – في شرحه لهذا الحديث أيضاً: (إن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه.
فإن كان قلبه سليماً، ليس فيه إلا محبة الله، ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله، وخشية الوقوع فيما يكرهه؛ صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات.
وإن كان القلب فاسداً، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب.
ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له، مبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك؛ فإن كان الملك صالحاً كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسداً كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم...
فإن أعمال الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب أن يكون ممتلئاً من محبة الله، ومحبة طاعته، وكراهية معصيته... وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده؛ فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله، وإن كانت حركة القلب وإرادته لغير الله تعالى، فسد، وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب... ومعنى هذا أن حركات القلب والجوارح إذا كانت كلها لله؛ فقد كمل إيمان العبد بذلك ظاهراً وباطناً، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح الجوارح؛ فإذا كان القلب صالحاً ليس فيه إلا إرادة الله، وإرادة الله ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله) -----.يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –---- فهذا الموضع ينبغي تدبره ، فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يُقتل أو يُقتل مع إسلامه ، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية ، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل ، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان وأن الأعمال ليست من الإيمان ، وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب ، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزءاً من الإيمان "
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فأصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب، فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي التصديق لما في القلب، ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له؛ لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح؛ كما قال أبو هريرة – رضي الله عنه – إن القلب ملك، والأعضاء جنوده؛ فإن طاب الملك، طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده) .
وقال أيضاً: (فهذا الموضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء إنه إذا أقر بالواجب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان، وأن الأعمال ليست من الإيمان، ... وأن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع؛ سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان، أو جزء من الإيمان) .
وقال في موضع آخر: (وهنا أصول تنازع الناس فيها: منها أن القلب هل يقوم به تصديق، أو تكذيب، ولا يظهر قط منه شيء على اللسان والجوارح، وإنما يظهر نقيضه من غير خوف؟ فالذي عليه السلف والأئمة وجمهور الناس؛ أنه لابد من ظهور موجب ذلك على الجوارح، فمن قال: إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه، ولم يتكلم قط بالإسلام، ولا فعل شيئاً من واجباته بلا خوف؛ فهذا لا يكون مؤمناً في الباطن، وإنما هو كافر).
وقال كذلك: (وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً، ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها؛ مثل أن يؤدي الأمانة، أو يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه؛ من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر؛ فإن المشركين، وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم) .
وقال - أيضاً- رحمه الله: (إذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة؛ كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان؛ فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجود هذا كاملاً، وجود هذا كاملاً؛ كما يلزم من نقص هذا، نقص هذا؛ إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل، كتقدير موجب تام بلا موجبه، وعلة تامة بلا معلولها، وهذا ممتنع).
وقال الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله: (وها هنا أصل آخر: وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول قسمان: قول القلب، وهو الاعتقاد. وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه. وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة، زال الإيمان بكماله. وإذا زال تصديق القلب، لم ينفع بقية الأجزاء؛ فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة.
وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق؛ فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة؛ فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده؛ كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه، واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول؛ بل ويرون به سراً وجهراً، ويقولون: ليس بكاذب، ولكن لا نتبعه، ولا نؤمن به.
وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب؛ فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولاسيما إذا كان ملزوماً لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم ... فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح، إذ لو أطاع القلب وانقاد؛ أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان.
فإن الإيمان ليس مجرد التصديق ... وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبيينه؛ بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه، والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى؛ فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء؛ كما أن اعتقاد التصديق، وإن سمي تصديقاً؛ فليس هو التصديق المستلزم للإيمان، فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته) .
------------------ وقال شيخ الاسلام - وهنا أصول تنازع الناس فيها : منها أن القلب هل يقوم به تصديق أو تكذيب ولا يظهر قط منه شيء على اللسان والجوارح ، وإنما يظهر نقيضه من غير خوف ؟ فالذي عليه السلف والأئمة وجمهور الناس أنه لا بد من ظهور موجب ذلك على الجوارح ، فمن قال : إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه ولم يتكلم قط بالإسلام ولا فعل شيئًا من واجباته بلا خوف ، فهذا لا يكون مؤمنًا في الباطن ، وإنما هو كافر ، وزعم جهم ومن وافقه أنه يكون مؤمنًا في الباطن ، وأن مجرد معرفة القلب وتصديقه يكون إيمانًا يوجب الثواب يوم القيامة بلا قول ولا عمل ظاهر ، وهذا باطل شرعًا وعقلاً كما بسط في غير هذا الموضع ، وقد كفَّرَ السلفُ ****ع وأحمد وغيرهما مَن يقول بهذا القول ، وقد قال النبي : " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " ، فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد ، فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح ، والقلب المؤمن صالح ، فعلم أن من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به لا يكون قلبه مؤمنًا حتى إن المكره إذا كان في إظهار الإيمان فلابد أن يتكلم مع نفسه وفي السر مع من يأمن إليه ، ولابد أن يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه ، كما قال عثمان ، وأما إذا لم يظهر أثر ذلك لا بقوله ولا بفعله قط فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان " أ.ه .

محمدعبداللطيف
2019-07-13, 01:58 PM
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية :
: " متى ثبت الإيمان في القلب والتصديق بما أخبر به الرسول وجب حصول مقتضى ذلك ضرورة ، فإنه ما أسر أحدٌ سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه ، فإذا ثبت التصديق في القلب لم يتخلف العمل بمقتضاه البتة ، فلا تستقر معرفة تامة ومحبة صحيحة ولا يكون لها أثر في الظاهر ، ولهذا ينفي الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه ، فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم كقوله تعالى : " وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ " ، وقوله : " لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " ، ونحوها فالظاهر والباطن متلازمان لا يكون الظاهر مستقيًا إلى مع استقامة الباطن ، وإذا استقام الباطن فلابد أن يستقيم الظاهر ولهذا قال النبي : " ألا أن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" وقال عمر لمن رآه يعبث في صلاته " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه " وفي الحديث : " لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم لسانه ، ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه " ولهذا كان الظاهر لازمًا للباطن من وجه وملزومًا له من وجه " ا.ه
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ولهذا ظن طوائف من الناس أن الإيمان إنما هو في القلب خاصة ، وما على الجوارح ليس داخلاً في مسماه ، ولكن هو من ثمراته ونتائجه الدالة عليه حتى آل الأمر بغلاتهم - كجهم وأتباعه - إلى أن قالوا: يمكن أن يصدق بقلبه ولا يظهر بلسانه إلا كلمة الكفر ، مع قدرته على إظهاره فيكون الذي في القلب إيمانًا نافعًا في الآخرة ، وقالوا حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول فلكونه دليلاً على انتفاء ما في القلب وقولهم متناقض ، فإنه إذا كان ذلك دليلاً مستلزمًا لانتفاء ما في القلب امتنع أن يكون الإيمان ثابتًا في القلب مع الدليل المستلزم لنفيه ، وإن لم يكن دليلاً لم يجز الاستدلال به على الكفر الباطن.
والله سبحانه في غير موضع يبين أن تحقيق الإيمان وتصديقه بما هو من الأعمال الظاهرة والباطنة كقوله تعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ " إلى أن قال - رحمه الله - فإن قال قائل : هذا يدل على أن الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور لا يدل على أنها من الإيمان ، قيل هذا اعتراف بأنه ينبغي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمور الظاهرة فلا يجوز أن يدعي أن يكون في القلب إيمان ينافي الكفر بدون أمور ظاهرة : لا قول ولا عمل وهو المطلوب وذلك تصديق ؛ وذلك لأن القلب إذا تحقق ما فيه أثَّر في الظاهر ضرورة ، ولا يمكن انقطاع أحدهما عن الآخر ، فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور وإذا كان في القلب حب الله ورسوله ثابتًا استلزم موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه " لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ " وقال سبحانه : " إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ " ، وقال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه " .
إلى غير ذلك من الأدلة الصريحة في أن إيمان القلب شرط في الإيمان ، ولا يصح الإيمان بدونه ، وأنه إذا وجد سرى ذلك إلى الجوارح ولابد : فالإيمان أصله معرفة القلب وتصديقه وقوله ، والعمل تابع لهذا العلم والتصديق ملازم له ، لا يكون العبد مؤمنًا إلا بها " ا.ه
ويقول - رحمه الله - مبينًا أن العمل الظاهر لازم وشرط للعمل الباطن كلزوم الروح للجسد ولا يتصور جسد بلا روح ولا حياة بلا ماء ولا هواء وليس هو فرض فقط أو واجب فقط ؛ بل هو لازم وملزوم ، وشرط ومشروط ، وركن وأصل ، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم ، وإذا زال الركن انهدم الأصل ، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط.
قال ـ رحمه الله ـ في بيان أن فساد الظاهر دليل على فساد الباطن
" العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه ، وانتفاء الظاهر دليل على انتفاء الباطن ... وما كان في القلب فلابد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح ، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه ، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه ، وهي تصديق لما في القلب ودليل عليه وشاهد له " وقد مر معك قوله في شرح العمدة وتكفيره تارك العمل بالكلية : " فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنًا ... فما دان الله دينًا ومن لا دين له فهو كافر .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النعمان مبينًا التلازم بين الظاهر والباطن وأنه إذا نقص الباطن نقص الظاهر ، وإذا فسد ، فسد ، وإذا زال الباطن زال الظاهر بالكلية قال : " ثم القلب هو الأصل ، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة ، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب ولهذا قال النبي في الحديث الصحيح " ألا إن في الجسد مضغة ... الحديث " فإذا كان القلب صالحًا بما فيه من الإيمان علمًا وعملاً قلبيًا لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق كما قال أهل الحديث : قول وعمل ، قول باطن وظاهر ، وعمل ظاهر وباطن ، والظاهر تابع للباطن ولازم له ، متى صلح الباطن صلح الظاهر ، وإذا فسد فسد ، والإرادة التامة مع القدرة تستلزم الفعل ، فيمتنع أن يكون الإنسان محبًا لله ورسوله مريدًا لما يحبه الله ورسوله إرادة جازمة مع قدرته على ذلك وهو لا يفعله ، فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه الله عليه " .
قال شيخ الإسلام : : " ولا يتصور في العادة أن رجلاً يكون مؤمنًا بقلبه في الباطن ، مقرًا بأن الله أوجب عليه الصلاة ملتزمًا لشريعة النبي وما جاء به ، يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع حتى يقتل ، ويكون مع ذلك مؤمنًا في الباطن ، قد لا يكون إلا كافرًا ولو قال أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها كان هذا القول مع هذه الحال كذبًا منه فهذا الموضع ينبغي تدبره ، فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب ، وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل ، أو يقتل مع إسلامه ، فإنه قد دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية " ا.ه
ويفول شيخ الإسلام رحمه الله : " والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان ، فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضًا وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بين (فإن الإيمان ليس مجرد التصديق كما تقدم بيانه ، وإنما هو التصديق الإذعاني المستلزم للطاعة والقبول والانقياد بالعلم) ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم : العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن" ا.ه
ويقول – رحمه الله - : " ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنًا إيمانًا ثابتًا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش وهو لا يسجد لله سجدة ولا يصوم يومًا من رمضان ولا يؤدي لله زكاة ولا يحج إلى بيته ، فهذا ممتنع ، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح " ا.ه

ويقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ
" فالإيمان له ظاهر وباطن ، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح ، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته ، فلا ينفع ظاهر لا باطن له ، وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذرية ، ولا يجزئ باطن لا ظاهر له ، إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك ، فتخلف العمل ظاهرًا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان ، ونقصه دليل نقصه ، وقوته دليل قوته" ا.ه .
ويقول ـ رحمه الله :
" والله تعالى أمر عباده أن يقوموا بشرائع الإسلام على ظواهرهم وحقائق الإيمان على بواطنهم ولا تقبل واحدًا منهما إلا بصاحبه وقرينه فكل إسلام ظاهر لا ينفذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة فليس بنافع حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن ، وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة لا تنفع ولو كانت ما كانت ، فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف ولم يتعبد بالأمر وظاهر الشرع لم ينجه ذلك من النار ، كما أنه لو قام بظواهر الإسلام وليس في باطنه حقيقة الإيمان لم ينجه من النار" وكما ترى فكلام السلف متفق على هذه الحقيقة لا يختلف.
يقول ابن القيم في كتابه الصلاة وحكم تاركها : " ومن أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية " .
ويقول ابن أبي العز في شرح الطحاوية :
" ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب إذ لو أطاع القلب وانقاد لأطاعت الجوارح وانقادت ، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة قال : " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " فمن صلح قلبه صلح جسده قطعًا" ا.ه

محمدعبداللطيف
2021-08-24, 02:26 AM
مقتطفات من رسالة مرجئة العصر تحت مجهر اهل السنة والجماعة
غلاة المرجئة، أو قل (الجهمية)، فالأصل عندهم هو الكفر القلبي، ولهذا لا يكفرون بالعمل المجرد عن الاعتقاد مطلقاً، ويشترطون الاستحلال للتكفير بالأعمال المكفرة بذاتها، فلو أن الإنسان عرف صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به وأقر بالإسلام بلسانه، فإن (الجهمية) لا يكفرونه إذا أتى من الأعمال المكفرة ما أتى ما لم (يجحد واجبا من الواجبات) أو (يستحل العمل المكفر)، ومعلوم أن "الجحد والاستحلال كلاهما يرجع إلى أصل واحد وهو التكذيب بالنصوص الشرعية، فالجاحد منكر لوجوب الواجب، والمستحل منكر لتحريم الحرام".
وعن (هؤلاء!) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :
"وقال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأُخبرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقرا بالفرائض واستقبال القبلة؛ فقلت: هذا الكفر الصراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين؛.. قال حنبل: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على الله أمره وعلى الرسول ما جاء به"( ).
وإنما كفر أئمة السلف هؤلاء لأنهم اشترطوا (الجحود والاستحلال) لتكفير (من كفره الله ورسوله بمجرد إتيانه العمل المكفر)، فردوا على الله أمره وعلى الرسول ما جاء به؛
ومع الأسف فإن (المعاصرين!) بمثل هذا يقولون، والله المستعان.
مرجئة الفقهاء، كفّروا من أتى بالعمل المكفر، لا لأن هذا العمل كفر بنفسه ولكن لأنه دليل وعلامة على الكفر القلبي، أي أنه دليل على الاستحلال والإنكار القلبي؛ فأنكروا في مبدأ قولهم أن يكون الكفر بمجرد العمل، فلما أدركوا مخالفتهم للكتاب والسنة والإجماع قالوا بأن العمل المكفر ينبىء عن الكفر القلبي، أي (الاستحلال والجحود)، اللذان يرجعان إلى التكذيب كما سبق بيانه.
يقول الإمام ابن حزم مبيناً قول المرجئة في (عمل مكفر) بذاته، وكيف أنهم يكفرون بذلك العمل لدلالته على الكفر لا لأنه كفر بنفسه:
"وقال هؤلاء: إن شتم الله عز وجل وشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كفراً لكنه دليل على أن في قلبه كفرا!"( ).
ويقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى متحدثاً عن (بشر المريسي):
"وكان مرجئياً وإليه تنسب المريسية من المرجئة، وكان يقول: إن السجود للشمس والقمر ليس بكفر، وإنما هو علامة للكفر"( ).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
"ويجب أن يعلم أن القول بكفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلة منكرة وهفوة عظيمة.. وإنما وقع من وقع في هذه المَهْواة بما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين وهم الجهمية الإناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب"( ).
فبأي هذه الأقوال يا ترى يقول (مرجئة العصر)؟؟
عقيدة (مرجئة العصر) في باب الكفر
وقد يرد اعتراض مفاده أن (مرجئة العصر) قد رجعوا عن اشتراط الاستحلال للتكفير بالأعمال المكفرة بذاتها إلى القول بقول (مرجئة الفقهاء) وهو أن تلك الأعمال يكفر صاحبها لا لأنها كفر أكبر بذاتها ولكن لأنها تدل وتنبىء عن الكفر الاعتقادي أي التكذيب والاستحلال القلبي.
فنقول أما كونهم يقولون أحيانا بقول (مرجئة الفقهاء) فصحيح؛ ولكن هيهات هيهات أن يدعوا القول باشتراط (الاعتقاد) للتكفير بالعمل المكفر؛ ذلك أنهم لما أدركوا خروجهم عن الإجماع في اشتراطهم الاستحلال والجحود لتكفير من أتى بالكفر العملي الأكبر و "خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم، فقالوا: لكنه دليل على أن في قلبه كفراً"( )، فلجأوا إلى ما لجأ إليه (مرجئة الفقهاء) من القول بأن الأعمال المكفرة بذاتها إنما هي كفر لدلالتها على الكفر القلبي، لا لأنها كفر بنفسها كما يقول أهل السنة، ولكن (مرجئة العصر) مع ذلك يشترطون من جديد (قصد الكفر بالقلب) للتكفير بتلك الأعمال، فيعودون بذلك إلى قولهم الأول وهو أن الكفر الأكبر لا يمكن أن يتعلق بالعمل وحده ما لم يصاحبه الاعتقاد المكفر.
ومعنى ذلك –مثلا- أن شخصاً ما لو كان عالما بكون هذا الكتاب مُصحفاً ثم داسه برجله، فقد يكفر إذا صرّح بأنه يقصد الكفر بقلبه (أي قصد بقلبه إهانة المصحف) ولا يكفر إذا صرّح بأنه لم يقصد الكفر بقلبه ولم يقصد استحلال ذلك العمل.
والفرق بين هذا القول وقول أهل السنة، أن أهل السنة يشترطون (قصد الفعل أي التعمد) وهو لازم العلم، أما (مرجئة العصر) و(الجهمية) فيضيفون شرطاً آخر وهو (قصد الكفر بالقلب)، فإذا انتفى هذا الشرط ولو مع وجود التعمد فلا يكون الشخص كافرا عندهم في (الحقيقة)( ).
فتنبه لهذا الأمر تكن على بينة من الخلاف بين أهل السنة و(مرجئة العصر)، وهاك الدليل من أقوالهم وصريح اعتقادهم لتعلم صدق ما نقول، والله المستعان.
وبهذا يتضح أن لجوء (مرجئة العصر) إلى قول (مرجئة الفقهاء) لا يدوم طويلا، إذ سرعان ما يعودون إلى قولهم الأصلي، ألا وهو قول الجهمية، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ فمرجئة الفقهاء يكفِّرون بالعمل المكفر بذاته لأنه عندهم علامة ودليل على الكفر القلبي أي دليل على انتفاء الإيمان القلبي، وهذا ما يقوله أيضا الشيخ الألباني وتلامذته، ولكن هؤلاء يزيدون على (مرجئة الفقهاء) باشتراط (قصد الكفر والاستحلال القلبي)؛ فلو نفى الفاعل أن يكون قاصدا الكفر والاستحلال بفعله المكفّر، لكان عند (مرجئة العصر) مؤمنا لأنه لم يعتقد الكفر بقلبه، أما عند (مرجئة الفقهاء) فهو كافر لأن فعله يدل على انتفاء الإيمان من قلبه وإن أنكر ذلك بلسانه.
الدليل على أن (مرجئة العصر) في باب الكفر على عقيدة(الجهمية)
يقرر شيخ الإسلام قاعدة لأهل السنة في التكفير تخالف مذهب المرجئة على اختلاف أنواعهم، ومقتضاها أن من الأفعال والأقوال ما هو كفر ناقل عن الملة، مع قطع النظر عن الاعتقاد القلبي وعما إذا كان صاحبها يقصد الكفر أو لا يقصده، فيقول رحمه الله تعالى:
"وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كُفْرٌ كَفَرَ بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافرا، إذ لا يقصد أحد الكفر إلا ما شاء الله"( ).
ويبين أن الاعتقاد بهذا من لوازم القول بأن الإيمان (قول وعمل)، في مثال للأعمال المكفرة، فيقول منتقضا ما يشترطه (مرجئة العصر) من الاستحلال:
"إن سب الله وسب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل"( ).
فمن يدعي أن الإيمان قول وعمل، ثم يشترط الاستحلال وقصد الكفر للتكفير بالأعمال المكفرة، فهو يكذب نفسه وينقض غزله من بعد قوة أنكاثاً.
ويبين إمام من أئمة السلف وهو إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى، أن إجماع أهل السنة قد انعقد على أن من الأعمال ما يكفر صاحبها ولو لم يُظهر اعتقاداً مكفرا (من اعتقاد للاستحلال أو تكذيب أو جحود) فيقول:
"قد أجمع العلماء على أن من سب الله عز وجل، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئا أنزله الله، أو قتل نبيا من أنبياء الله، أنه كافر بذلك، وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله"( ).
ويقول أيضاً:
"ومما أجمعوا على تكفيره وحكموا عليه كما حكموا على الجاحد، فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى، وبما جاء من عنده، ثم قتل نبيا، أو أعان على قتله، ويقول قتل الأنبياء محرم، فهو كافر"( ).
فتأمل خروج " مرجئة العصر " عن إجماع السلف –في هذه المسألة الخطيرة- باشتراطهم الاستحلال وحصرهم الكفر في الاعتقاد القلبي، ثم بعد ذلك يزعمون أنهم (وحدهم!) أتباع السلف!!
ويرد الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله على من يشترط (قصد الكفر) للتكفير بالعمل المكفر فيقول عند قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)( ):
"وهذا من أدل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته.
وذلك أن الله تعالى ذِكْرُه أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في الآية أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالاً، وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم، ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه كانوا مثابين مأجورين عليه، ولكن القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة وأن أعمالهم حابطة"( ).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
"إن المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه، ومن غير أن يختار ديناً على دين الإسلام"( ).
ويقول الشيخ حمد بن عتيق النجدي رحمه الله تعالى ناسفاً ما يزعمه (مرجئة العصر) و (أسلافهم!):
"وأما خروجه –أي الخصم- عما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة وما عليه الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم، فقوله: (فمن شرح بالكفر صدرا، أي فتحه ووسعه وارتد عن الدين وطابت نفسه بالكفر فذلك الذي ندين الله بتكفيره [كما يقول (مرجئة العصر) تماما] هذه عبارته. وصريحها أن من قال الكفر أو فعله لا يكون كافرا وأنه لا يكفر إلا من فتح صدره للكفر ووسعه، وهذا معارض لصريح المعقول وصحيح المنقول وسلوك سبيل غير سبيل المؤمنين، فإن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة قد اتفقت على أن من قال الكفر أو فعله كفر، ولا يشترط في ذلك انشراح الصدر بالكفر، ولا يستثنى من ذلك إلا المكره، وأما من شرح بالكفر صدرا أي فتحه ووسعه وطابت نفسه به ورضي فهذا كافر عدو لله ولرسوله وإن لم يتلفظ بذلك بلسانه ولا فعله بجوارحه، هذا هو المعلوم بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة"( ).
ويرد الإمام ابن حزم على من يحصر الكفر في الجحود والاستحلال مفسراً قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ)( ).
قال ابن حزم:
"فجعلهم مرتدين كفارا بعد علمهم بالحق، وبعد أن تبين لهم الهدى، بقولهم للكفار ما قالوا فقط، وأخبرنا تعالى أنه يعلم إسرارهم، ولم يقل تعالى إنهم جحدوا، بل قد صح أن في سرهم التصديق، لأن الهدى قد تبين لهم، ومن تبين له شيء فلا يمكن البتة أن يجحده بقلبه أصلا"( ).
ويذكر الإمام أبو بكر الحصني الشافعي أمثلة من الأقوال التي أجمع أهل السنة على كفر صاحبها وإن ادّعى عدم قصده للكفر بالقلب فيقول:
"فكما لو قال شخص عن عدوه: لو كان ربي ما عبدته، فإنه يكفر؛ وكذا لو قال: لو كان نبيا ما آمنت به؛.. وكذا لو قال مريض بعد أن شفي: لقيت في مرضي هذا ما لو قتلت أبا بكر وعمر لم استوجبه، فإنه يكفر؛.. وكذا لو ادعى أنه أوحي إليه وإن لم يدع النبوة؛ أو ادعى أنه يدخل الجنة ويأكل من ثمارها وأنه يعانق الحور العين، فهو كافر بالإجماع، ومثل هذا وأشباهه كما يقوله زنادقة المتصوفة قاتلهم الله..؛ ولو سب نبيا من الأنبياء أو استخف به، فإنه يكفر بالإجماع..؛ ولو قال شخص أنا نبي، وقال آخر: صدق، كَفَرا؛ ولو قال لمسلم يا كافر بلا تأويل كفر، لأنه سمى الإسلام كفرا...
ولو قال: إن مات ابني تهودت أو تنصرت، كفر في الحال؛ ولو سأله كافر يريد الإسلام أن يلقنه كلمة التوحيد فأشار عليه بأن يثبت [على الكفر]، كفر؛ وكذا إن لم يلقنه التوحيد كفر؛.. ولو تقاول شخصان فقال أحدهما: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الآخر: لا حول ولا قوة إلا بالله لا تغني من جوع، كفر.
ولو سمع آذان المؤذن فقال: إنه يكذب، كفر؛ ولو قال: لا أخاف القيامة، كفر؛.. ولو ضرب غلامه وولده، فقال له شخص ألست بمسلم، فقال: لا متعمداً، كفر.."( ).
ويقرر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن شتم الله ورسوله من الأعمال المكفرة بذاتها قطع النظر عن الاعتقاد القلبي للساب، فيقول:
"قال القاضي أبو يعلى: من سب الله أو سب رسوله فإنه يكفر سواء استحل سبه أو لم يستحل"( ).
ويقول: "فقد أخبر سبحانه وتعالى أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب"( ).
ويرد شيخ الإسلام على الذين يقولون: من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان قاصدا للكفر ومعتقدا له ومستحلا له بقلبه كفر؛ وأما إن نفى الاستحلال بقلبه أو نفى اعتقاد الاستخفاف والكفر (كما يقول (مرجئة العصر))، فهذا ليس بكافر؛ فيقول رحمه الله تعالى:
"إن الحكاية المذكورة عن الفقهاء أنه إذا كان مستحلاً كفر، وإلا فلا، ليس لها أصل، وإنما نقلها القاضي من كتاب بعض المتكلمين الذين نقلوها عن الفقهاء، وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جاريا على أصولهم أو بما قد سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يعد قوله قولاً، وقد حكينا نصوص أئمة الفقه وحكاية إجماعهم عمن هو من أعلم الناس بمذاهبهم، فلا يظن ظان أن في المسألة خلافاً يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، وإنما ذلك غلط، لا يستطيع أحد أن يحكي عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى هذا التفصيل البتة [فماذا يقول ((مرجئة العصر))؟]... وإذا تبين أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة في نفسها كفر استحلها صاحبها أو لم يستحلها، فالدليل على ذلك جميع ما قدمناه في المسألة الأولى من الدليل على كفر الساب مثل قوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ)( )، وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)( )، وقوله تعالى: (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ).
وما ذكرناه من الأحاديث والآثار فإنما هو أدلة بينة في أن نفس أذى الله ورسوله كفر، مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجوداً وعدماً"( ).
قلت: فهذا هو الإجماع الذي لا إجماع بعده، ولا يزيغ عنه إلا من تلبّس بالإرجاء والإرجاف!
ويصف شيخ الإسلام (حال) المرجئة حين تقام عليهم الحجة في هذا بالإجماع كيف يلجأون إلى القول بأن هذه الأعمال وأمثالها ليست كفرا بنفسها بل تدل وتنبىء عن الكفر القلبي، فيقول:
"فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي قد صرحوا بأن سب الله ورسوله وتكلم بالتثليث، وكل كلمة من كلام الكفر، ليس كفراً في الباطن [أي أنه كفر في الظاهر فقط!]، ولكنه دليل في الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفا بالله موحدا له مؤمنا به [ولكنه سيىء التربية (فقط) كما قال (مرجئة العصر)].
فإذا أقيمت عليهم حجة بنص أو إجماع أن هذا كافر ظاهراً وباطناً، قالوا هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطن"( ).
ويرد الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى على من يعتقد أن العمل المكفر ليس (كفراً بنفسه) ولكنه (دليل) و(علامة) على (الكفر والجحود القلبي)، وأن هذه الدلالة قد تتخلف إذا انتفى (قصد الكفر) عند صاحب ذلك العمل، لأن الأصل هو (الكفر القلبي!) كما يزعمون، فيقول:
"وقال هؤلاء: إن شتم الله عز وجل وشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كفراً، لكنه دليل على أن في قلبه كفراً"( ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وقالوا (أي المرجئة): حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول فلكونه دليلاً على انتفاء ما في القلب، وقولهم متناقض، فإنه إذا كان ذلك دليلا مستلزما لانتفاء الإيمان الذي في القلب امتنع أن يكون الإيمان ثابتاً في القلب مع الدليل المستلزم لنفيه، وإن لم يكن دليلا لم يجز الاستدلال به على الكفر الباطن"( ).
ويقول ابن حزم:
"وأما سب الله تعالى فما على وجه الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد، إلا أن الجهمية والأشعرية وهما طائفتان لا يعتد بهما، يصرحون بأن سب الله تعالى وإعلان الكفر ليس كفراً، قال بعضهم: ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى"( ).
ويقول رحمه الله تعالى:
"قال تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ)( )، فنص تعالى على أن من الكلام في آيات الله ما هو كفر بعينه مسموع، وقال تعالى: (قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ)( ).
فنص تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى وآياته أو برسول من رسله كفر مخرج عن الإيمان، ولم يقل تعالى في ذلك أني علمت أن في قلوبكم كفراً، بل جعلهم كفاراً بنفس الاستهزاء، ومن ادعى غير ذلك فقد قوّل الله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى"( ).
ويضرب ابن حزم مثالا لما يقوله الجهمية والأشعرية ومن سلك سبيلهم، فيقول:
"مثل هذا أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل هذه الدار اليوم إلا كافر، أو يقول كل من دخل هذه الدار اليوم فهو كافر، قالوا [أي المرجئة ومن نحا نحوهم]: فدخول تلك الدار دليل على أنه يعتقد الكفر لا أن دخول الدار كفر.
قال أبو محمد: وهذا كذب وتمويه ضعيف بأن دخول تلك الدار في ذلك اليوم كفر محض مجرد، وقد يمكن أن يكون الداخل فيها مصدقا بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أن تصديقه ذلك قد حبط بدخول الدار، برهان ذلك أنه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن دخول تلك الدار لا يحل البتة لعائشة ولا لأبي بكر ولا لعلي ولا لأحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا لأحد من أصحابه رضي الله عنهم، كما أن الله قد نص على أنه علم ما قي قلوبهم وأنزل السكينة عليهم، وإذ ذلك كذلك فقد وجب ضرورة أن هؤلاء رضي الله عنهم لو دخلوا تلك الدار لكانوا كفارا بلا شك بنفس دخولهم فيها ولحبط إيمانهم، فإن قالوا لو دخلها هؤلاء لم يكفروا كانوا هم قد كفروا، لأنهم بهذا القول قاطعون بأن كلامه صلى الله عليه وسلم كذب في قوله لا يدخلها إلا كافر... قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)( )، فهذا نص جلي وخطاب للمؤمنين بأن إيمانهم يبطل جملة وأعمالهم تحبط برفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم دون جحد كان منهم أصلاً، ولو كان منهم جحد لشعروا به، والله تعالى أخبرنا بأن ذلك يكون وهم لا يشعرون، فصح أن من أعمال الجسد ما يكون كفراً مبطلاً لإيمان فاعله جملة، ومنه ما لا يكون كفراً، لكن على ما حكم الله تعالى به في كل ذلك ولا مزيد".
ويرد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى على من يزعم أن الكفر لا يكون إلا بشرح الصدر بالكفر، داحضاً الفهم الإرجائي السقيم لقوله تعالى: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً)( )، فيقول:
"لو كان التكلم بالكفر لا يكون كفراً إلا إذا شرح به الصدر لم يستثن المكره، فلما استثنى المكره عُلِم أن كل من تكلم بالكفر غيره مكره فقد شرح به صدرا، فهذا حكم وليس بقيد".

محمدعبداللطيف
2021-08-24, 02:30 AM
يقول الشيخ عبد العزيز الراجحى فى شرحه لكتاب الايمان لأبى عبيد
الكفر الظاهر وصلته بالباطن
ما حكم من يقول: إن عقيدة أهل السنة في التكفير مبنية على إثبات التلازم بين الباطن والظاهر، فكل من كفر كفراً عملياً أكبر مخرجاً عن الملة؛ فإن هذا الكفر يدل على الكفر الاعتقادي، كما ذكر ذلك الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في أعلام السنة المنشورة، وهو أن كفر الظاهر متلازم مع كفر الباطن، فهل هذا القول صحيح أم لا؟

لا يلزم ذلك، وقد يقال: إن هذا قول المرجئة، فقد يسب شخص الله ورسوله بسبب خصومة بينه وبين شخص آخر وهو لا يعتقد ذلك بقلبه فيكفر بهذا السب والعياذ بالله، ولو خاصم شخص شخصاً ثم سب الدين وهو لا يعتقد ذلك فإنه يكفر أيضاً، فالأول ليس عنده عقيدة سب الله ورسوله أو الاستهزاء بالله ورسوله، ولكنه يكفر بذلك، والدليل على هذا أن جماعة من الناس في غزوة تبوك سبوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء بأنهم يأكلون كثيراً ويكذبون، وهم جبناء عند اللقاء، فقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء، فنزلت الآية الكريمة: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فأثبت لهم الكفر بعد الإيمان بهذه المقالة، فقد يكفر الإنسان ولو لم يعتقد ذلك بقلبه، فلو أن شخصاً مزق المصحف استهانة به أو داسه بقدمه متعمداً أو لطخه بالنجاسة كفر، وساب الله ورسوله يكفر، وإذا استهزأ بالله أو بكاتبه أو برسوله فإنه يكفر، وإذا سجد لصنم وقال: إنما وضعت رأسي أمامه فإنه يكفر، ولهذا ناقشهم ابن القيم رحمه الله وقال: إن مشايخ الصوفية يطلبون من أتباعهم أن يسجدوا أو يركعوا لهم إذا جاءوا، فإذا قيل لهم: كيف تسجدون لغير الله؟! قالوا: إن هذا إنما هو وضع الرأس أمام الشيخ احتراماً له وتواضعاً، فقال ابن القيم: ولو سميتموه ما سميتموه، فإن من سجد للصنم فقد وضع رأسه للصنم احتراماً له وتواضعاً، فالمقصود أنه لا يوجد تلازم بين العمل وبين القلب، وإنما المرجئة هم الذين يقولون: إن السجود للصنم ليس بكفر، ولكنه دليل على ما في القلب من الكفر، وسب الله أو سب الرسول ليس كفراً، وإنما هو دليل على ما في القلب، ودليل على الكفر، والسجود للصنم ليس كفراً بذاته، لكنه دليل على الكفر.

والصواب أن نفس السب كفر ونفس السجود للصنم كفر، فالتلازم وربط الكفر بالقلب مذهب المرجئة، فإنهم يقولون: إنه لا يكفر بالعمل بل لا بد من التلازم بينه وبين القلب.
والصواب أن الكفر بالقلب بالاعتقاد، ويكون بالقول باللسان، ويكون بالعمل، كالسجود للصنم، ويكون بالإعراض والترك والرفض لدين الإسلام، فلا يتعلمه ولا يعمل به، فإذا رفض دين ورفض أن يعبد الله كفر بهذا الرفض والترك
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]، وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22] فالرفض والترك والإعراض عن دين الله بعدم تعلمه وعدم العمل به كفر ولو لم يعتقد ذلك بقلبه، ولا يلزم أن يعتقد ذلك بقلبه، فمجرد الرفض والإعراض عن دين الله كفر وردة، والسجود للصنم كفر وردة ولو لم يعتقد ذلك بقلبه، وسب الله أوالرسول كفر وردة، ولو لم يعتقد ذلك بقلبه

فالسب كفر مستقل، واعتقاده بالقلب كفر مستقل، فاعتقاد الكفر كفر مستقل، وعمل الكفر كفر مستقل، وقوله الكفر باللسان كفر مستقل، والإعرض عن دين الله والرفض والترك له كفر مستقل.