ابو وليد البحيرى
2019-07-08, 12:33 PM
الطواف أنواعه وأحكامه (1)
أ.د. سليمان العيسى
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد
معنى الطواف وصفته وحكمة مشروعيته وفضله:
أولاً: معناه في اللغة:
جاء في الصحاح: طاف حول الشيء يطوف طوافاً وطوافاناً، وتطوف، واستطاف، كله بمعنى، ورجل طافٌ أي كثير الطواف... وطائف بلاد ثقيف، والطائف من الشيء قطعة منه... وتطوف الرجل، أي طاف، وطوَّف أي أكثر التطواف(1).
وجاء في القاموس المحيط: (طاف) حول الكعبة وبها طوْفاً وطوافاً وطوفاناً، واستطاف وتطوف وطوَّف تطويفاً بمعنى، والمطاف موضعه(2).
ثانياً: معناه في الشرع:
أما معناه في الشرع فهو الطواف سبعة أشواط حول الكعبة المشرفة بنية الطواف على صفة مخصوصة(3).
صفة الطواف:
صفة الطواف بالبيت هو أن يبتدأ طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود فيستقبله ويستلمه ويقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحجر فيمر جميع بدنه على جميع الحجر وذلك بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر، ويتحقق أنه لم يبق وراءه جزء من الحجر ثم يبتدئ طوافه ماراً بجميع بدنه على جميع الحجَر، جاعلاً يساره إلى البيت ثم يمشي طائفاً بالبيت ثم يمر وراء الحِجْر(4) ويدور بالبيت(5) فيمر على الركن اليماني ثم ينتهي إلى ركن الحَجَر الأسود وهو المحل الذي بدأ فيه طوافه فتم له بهذا طوافه واحدة ثم يفعل كذلك حتى يتمم سبعاً.
قال النووي – رحمه الله – في المجموع (فرع) في صفة الطواف الكاملة: وإذا دخل المسجد فليقصد الحجر الأسود وهو في الركن الذي يلي باب البيت من جانب المشرق ويسمى الركن الأسود ويقال له وللركن اليماني الركنان اليمانيان... ثم يبتدأ الطواف إلى أن قال وصفة الطواف أن يحاذي جميعه جميع الحجَر الأسود فيمر بجميع بدنه على جميع الحجَر وذلك بأن يستقبل البيت ويقف على جانب الحجر الذي إلى الركن اليماني بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر ثم ينوي الطواف لله تعالى ثم يمشي مستقبل الحجر ماراً إلى جهة يمينه حتى يجاوز الحجر فإذا جاوزه انفتل وجعل يساره إلى البيت ويمينه إلى خارج، ولو فعل هذا من الأول وترك استقبال الحجر جاز لكنه فاتته الفضيلة، ثم يمشي هكذا تلقاء وجهه طائفاً حول البيت كله فيمر على الملتزم وهو ما بين الركن الذي فيه الحجر الأسود والباب سمي بذلك لأن الناس يلزمونه عند الدعاء، ثم يمر إلى الركن الثاني بعد الأسود ثم يمر وراء الحِجْر – بكسر الحاء وإسكان الجيم – وهو في صوب الشام والمغرب فيمشي حوله حتى ينتهي إلى الركن الثالث ويقال لهذا الركن مع الذي قبله: الركنان الشاميان، وربما قيل المغربيان.
ثم يدور حول الكعبة حتى ينتهي إلى الركن الرابع المسمى بالركن اليماني ثم يمر منه إلى الحجر الأسود فيصل إلى الموضع الذي بدأ منه فيكمل له حينئذ طوفة واحدة ثم يطوف كذلك ثانية وثالثة حتى يكمل سبع طوافات فكل مرة من الحجر الأسود إليه طوفة والسبع طواف كامل، هذه هي صفة الطواف الذي إذا اقتصر عليه صح طوافه(6).
حكمة مشروعية الطواف وبيان فضله:
أولاً: في حكمة مشروعيته:
قبل أن نبدأ بذكر حكمة مشروعية الطواف، يجب أن نعلم تمام العلم وأن نعرف تمام المعرفة أن أصل عبادة الله هي طاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأن هذه هي العبادة هي التي أود الله الخلق لها قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56)، كما أنه سبحانه خلق الموت والحياة للابتلاء والامتحان.
قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك:1، 2).
إذا عرفنا هذا فيجب أن نعلم أيضاً أن كل عبادة جاءت بها الشريعة فلها معنىً وحكمة قطعاٍ ؛ لأن الشرع لا يأمر بالعبث ولا بما ليس فيه مصلحة، ومعنى العبادة وكنهها قد يفهمه المكلف، أو يفهم بعضه أو لا يفهمه، فمثلاً الحكمة من الصلاة التواضع والخضوع وإظهار الافتقار إلى الله تعالى، والحكمة من الصوم كسر النفس وقمع الشهوات، والحكمة من الزكاة مواساة المحتاج، والحكمة من الحج إقبال العبد على ربه أشعث أغبر من مسافة بعيدة إلى بيته تعالى، طاعةً لله وإقامةً لذكره، وهكذا في كل عبادة تعبد الله بها عباده، وما ذكرناه هو بعض الحكمة لتلك العبادات لأن المخلوق قاصر لا يدرك كنه وسر ما أمر الله به أو نهى عنه إلا ما أطلعه عليه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بسبب مما وهبه الله له من الفهم المقتبس منهما (سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة: من الآية32)، وما أوتيه المخلوق من العلم بجانب علم الله قليل، قال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (الإسراء: من الآية85).
هذا وإذا كان سر وجودنا في هذا الكون هو لتوحيد الله وطاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه كان الواجب علينا أن نلتزم ما أمرنا به ونجتنب ما نهينا عنه سواء ظهرت لنا الحكمة في ذلك أو خفيت علينا لأن أوامر هذا الدين ونواهيه قد جاءت من لدن حكيم عليم لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فله الحكمة البالغة في أمره ونهيه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان سلفنا الصالح وفي مقدمتهم الصحابة الكرام أسرع الناس إلى امتثال أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، واجتناب النواهي، ولم يتوقف عملهم بما أمروا به، واجتنابهم.. لما نهوا عنه على ظهور الحكمة، لعلمهم أن ما جاءت به الشريعة الإسلامية من أوامر ونواهي هو عين الحكمة لأنها من عند الله العليم الحكيم، ولعلمهم أن عقولهم قاصرة عن إدراك ذلك، فقد جاء في صحيح مسلم وغيره عن معاذة، قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، فقالت: أحرورية(7) أنت؟ فقلت لست بحرورية ولكني أسأل قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة(8)، فعائشة رضي الله عنها أحالت ذلك إلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو وجوب قضاء الصوم دون قضاء الصلاة، وكان بإمكانها وهي العالمة الفقهية أن تجيب بالفرق بين الصوم والصلاة، وهو أن الصلاة كثيرة تتكرر في اليوم خمس مرات، فيشق قضاؤها بخلاف الصوم فإنه إنما يجب في السنة مرة واحدة، ولكنها رضي الله عنها أرجعت ذلك إلى الأمر الشرعي الذي يجب امتثاله.
وجاء في صحيح مسلم أيضاً عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه قبل الحجر الأسود وقال إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك.
وفي رواية: أنه يقبله ويقول: إني لأقبلك وإني أعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك(9).
فانظر رحمك الله إلى سرعة امتثال سلفنا الصالح لأوامر الله وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسليمهم لذلك سواء ظهرت لهم الحكمة أو لم تظهر فعمر رضي الله عنه قد يدل قوله السابق على عدم ظهور الحكمة له في تقبيل الحجر الأسود ولكنه فعل ذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لولا ذلك لما فعل، وإنما قال رضي الله عنه وإنك لا تضر ولا تنفع لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام والذين ألفوا عبادة الأصنام وتعظيمها، ورجاء نفعها أن تقبيل الحجر ينفع بذاته لأنه لا قدرة له على جلب نفع أو دفع ضر فهو حجر مخلوق كسائر المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع، وليس معنى كلامه رضي الله عنه أنه لا نفع في تقبيله بل في ذلك امتثال لما شرع فيه ينفع بالجزاء والثواب ولهذا قال: ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، فمجرد امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا يحصل به الثواب والأجر من الله، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21).
هذا ومما تقدم نعلم أن أي أمر أو نهي جاءت به الشريعة الإسلامية يجب امتثاله ولو لم تظهر لنا الحكمة منه، لأن هذه الشريعة من عند الله الحكيم العليم، وليس معنى هذا أننا ننكر التماس الحكمة للأمر أو النهي، ولكننا ننكر توقف الامتثال أو الاجتناب على ظهورها لنا. وإذا عرفنا هذه المقدمة الجليلة بين يدي ذكر الحكمة فإليك بيان ما وقفت عليه من حكمة هذه العبادة أعني عبادة الطواف.
أولاً: هناك حكمة عامة للطواف، ولكل عبادة بل ولكل أمر أو نهي وهي طاعة الله فيما أمر به سبحانه في كتابه أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بفعله لوجوب الاقتداء به، ومن ذلك الطواف بالبيت فيكون الإتيان به طاعة لله يثاب عليها العبد، وهذا ما أشرنا إليه آنفاً.
ثانياً: الحكمة الخاصة بالطواف: من حكمة الطواف بالبيت أنه إقامة لذكر الله تعالى وهذه الحكمة قد نصت عليها السنة المطهرة فقد روى أبو داود في سننه قال: "حدثنا مسدد حدثنا عيسى ابن يونس، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعلا لطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله(10) فعلم من هذا الحديث أن حكمة الطواف هي من أجل إقامة ذكر الله تبارك وتعالى، ومن حكمة الطواف أنه طاعة قربة لله، قال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج: من الآية26)، فيكفي في فضل الطواف بالبيت إضافة هذا البيت الذي شرع الطواف حوله إليه سبحانه وهذه الإضافة تقضي وتستلزم علو مكانته ومنزلته عند الله تعالى بل إن الله لما فرض الحج على عباده أضافه إلى هذا البيت المطهر حيث يقول سبحانه: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: من الآية97)، وقد أجمع العلماء على عدم صحة من حج ولم يطف بهذا البيت، فالطواف ركنه الأعظم الذي لا يسقط بحال ومن عجز عنه طِيْفَ فيه محمولاً، ولقد أمر الله سبحانه بالطواف حوله بقوله تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج:29) كما أن في الطواف حوله تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي طاف حوله.
قال تعالى: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21)، هذا وبيت الله والطواف حوله هو أعظم مكان للتضرع والدعاء، ففيه يلتجئ الطائف إلى حمى الله تعالى ويقرع باب إحسانه يلتمس العفو عن السيئات ويسأله الفوز بالجنات فهو مكان تسكب فيه العبارت وتقال فيه العثرات وتتنزل فيه الرحمة على العباد من الرب الكريم.
ثانياً: في فضل الطواف:
الأدلة على فضل الطواف كثيرة نقتصر منها على ما يتناسب مع البحث:
قال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) (الحج: من الآية26)، وقال عز وجل: (وَلْيَطَّوَّفُ ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: من الآية29)، وقال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران:96).
وروى الترمذي قال: حدثنا قتيبة أخبرنا جرير عن عطاء بن السائب عن ابن عبيد بن عمير عن أبيه: أن ابن عمر كان يزاحم على الركنين فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنك تزاحم على الركنين زحاماً ما رأيت أ9حداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يزاحم عليه فقال إن أفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن مسحهما كفارة الخطايا وسمعته يقول: لا يضع قدماً ولا يرفع أخرى إلا حط عنه بها خطيئة وكتبت له بها حسنة.
قال أبو عيسى: وروى حماد بن زيد عن عطاء بن السائب عن ابن عبيد بن عمير عن ابن عمر نحوه ولم يذكر فيه عن أبيه وهذا حديث حسن(11).
وروى عبد الرزاق في مصنفه قال: أخبرنا ابن محرر قال: سمعت عطاء ابن أبي رباح يحدث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل حج وأكثر، أيجعل نفقته في صلة أو عتق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طواف سبع لا لغو فيه يعدل رقبة(12).
وروى عبد الرزاق أيضاً في قصة الرجلين اللذين أتيا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أحدهما من ثقيف والآخر من الأنصار فخيرهما الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسألا أو يخبرهما بما جاء يسألانه عنه فاختارا أن يخبرهما الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصاري جئت تسأل عن خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فتقول: ماذا لي فيه؟ إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: "وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة حسنة فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك"(13).
هذا وقد روي عن عدد من السلف أن التطوع بالطواف بالبيت للآفاقي أفضل من التطوع بالصلاة، فقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال: كنت أسمع عطاءً يسأله الغرباء: الطواف أفضل لنا أم الصلاة؟ فيقول: أمّا لكم فالطواف أفضل إنكم لا تقدرون على الطواف بأرضكم، وأنتم تقدرون هنا على الصلاة.
وروى أيضاً عن ابن جريج قال: أخبرت عن أنس بن مالك أنه قدم المدينة فكتب إلى عمر بن عبد العزيز يسأله، الصلاة أفضل للغرباء أم الطواف؟ فقال له أنس: بل الصلاة، والاستمتاع بالبيت أفضل.
وروى أيضاً عن الثوري عن سالم قال: رأيت سعيد بن جبير يقول للغرباء إذا رآهم يصلون انصرفوا فطوفوا بالبيت(14).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل كل يوم على حجاج بيته الحرام عشرين ومائة رحمة ستين للطائفين وأربعين للمصلين وعشرين للناظرين". قال المنذري في الترغيب والترهيب رواه البيهقي بإسناد حسن(15).
هذا وقد ذكر النووي وغيره خلاف العلماء رحمهم الله فقال: اختلف العلماء في التطوع بالمسجد بالصلاة والطواف أيهما أفضل؟ فقال صاحب الحاوي الطواف أفضل، وظاهر إطلاق المصنف في قوله في باب التطوع (أفضل عبادات البدن الصلاة) أن الصلاة أفضل، وقال ابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير ومجاهد الصلاة لأهل مكة أفضل والطواف للغرباء أفضل(16). انتهى.
وقال الشنقيطي في أضواء البيان اختلف العلماء في صلاة النافلة في المسجد الحرام والطواف بالبيت أيهما أفضل؟ فقال بعض العلماء: الطواف أفضل وبه قال بعض الشافعية واستدلوا بأن الله قدم الطواف على الصلاة في قوله تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة: من الآية125).
وقال بعض أهل العلم الصلاة أفضل لأهل مكة والطواف أفضل للغرباء وبه قال ابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير ومجاهد كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب(17).
الترجيح:
قلت وما قاله ابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم من تفضيل الصلاة لأهل مكة والطواف للغرباء قوي متجه لأن غير المكي لا يحصل له الطواف في بلده بخلاف الصلاة كما تقدم في قول عطاء إلا أنني أرى أن تفضيل الطواف للغرباء على نوافل الصلاة ليس على إطلاقه بل نقول: الطواف أفضل للغرباء من نوافل الصلاة المطلقة، أما النوافل المقيدة كالرواتب التي قبل بعض الصلوات أو بعدها فهي أفضل، وكذا ما تشرع له الجماعة كصلاة التراويح مثلاً فهي أفضل حتى للغرباء لأن وقتها محدود بزمن بخلاف الطواف ولهذا لا أرى للغرباء ولا لغيرهم من باب أولى أن ينشغلوا عن ذلك بالطواف. أيضاً الصلاة أفضل من الطواف فيما إذا حصل ممن يتطوعون بالطواف مضايقة لمن يؤدون طواف الحج أو العمرة لأنهم أحق. والله أعلم.
أنواع الطواف وحكم كل نوع:
جملة أنواع الطواف ستة منها ثلاثة في الحج المفرد والقران، وهي طواف القدوم، وطواف الإفاضة، ويسمى طواف الزيارة، وطواف الوداع.
وفي العمرة لمن أداها من أهل الآفاق وجلس في مكة وأراد السفر إلى أهله طوافان:
الأول: طواف الفرض ويسمى طواف الركن لها.
الثاني: طواف الوداع لها.
والنوع السادس طواف عام وهو طواف التطوع المطلق.
أولاً: في حكم طواف القدوم:
طواف القدوم له خمسة أسماء: طواف القدوم، والقادم، والورود، والوارد، وطواف التحية، ويسمى أيضاً طواف اللقاء، وهو بمعنى القدوم(18).
طواف القدوم إنما يتصور في حق مفرد الحج وفي حق القارن إذا كانا قد أحرما من غير مكة ودخلا قبل الوقوف بعرفة، فأما المكي فلا يتصور في حقه طواف القدوم إذ لا قدوم له، وأما المحرم بالعمرة فلا يتصور في حقه أيضاً طواف القدوم بل إذا طاف للعمرة أجزأه عنهما ويتضمن القدوم كما تجزئ الصلاة المفروضة عن الفرض وتحية المسجد.
وأما من أحرم بالحج مفرداً أو قارناً ولم يدخل مكة إلا بعد الوقوف بعرفة فليس في حقه طواف قدوم بل الطواف الذي يفعله بعد الوقوف طواف الإفاضة.
حكم طواف القدوم:
اختلف الفقهاء رحمهم الله في حكم طواف القدوم على قولين:
القول الأول: أنه واجب يجب بتركه دم إن لم يكن تركه لضيق الوقت وهو قول المالكية: وهو رواية عند الحنابلة.
القول الثاني: أن طواف القدوم سنة لا يجب به شيء وهو قول جماهير أهل العلم، وبه قال الحنفية، كما أنه المشهور عند الشافعية والحنابلة.
الأدلة:
أدلة أهل القول الأول والذين يرون الوجوب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُ ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: من الآية29).
وجه الدلالة: أن الله أمر بالطواف بالبيت فدل على الوجوب والفرضية.
مناقشة الدليل السابق:
قال الكاساني في بدائع الصنائع: ولنا أنه لا يجب على أهل مكة بالإجماع ولو كان ركناً لوجب عليهم لأن الأركان لا تختلف بين أهل مكة وغيرهم كطواف الزيارة، فلما لم يجب على أهل مكة دل على أنه ليس بركن، والمراد من الآية طواف الزيارة لإجماع أهل التفسير، ولأنه خاطب الكل بالطواف بالبيت، وطواف الزيارة هو الذي يجب على الكل، فأما طواف اللقاء فإنه لا يجب على أهل مكة دل على أن المراد هو طواف الزيارة، وكذا سياق الآية دليل عليه لأنه أمر بذبح الهدايا بقوله عز وجل: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) (الحج: من الآية28)، وأمر بقضاء التفث وهو الحلق والطواف بالبيت عقيب ذبح الهدي لأن كلمة (ثم) للترتيب مع التعقيب فيقتضي أن يكون الحلق والطواف مرتبين على الذبح، والذبح يختص بأيام النحر لا يجوز قبلها فكذلك الحلق والطواف وهو طواف الزيارة، وأما طواف اللقاء فإنه يكون سابقاً على أيام النحر فثبت أن المراد من الآية الكريمة طواف الزيارة وبه نقول إنه ركن(19).
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وأما الاستدلال على الوجوب بالآية فقال شارح البحر: إنها لا تدل على طواف القدوم لأنها في طواف الزيارة إجماعاً(20).
الدليل الثاني: ما جاء في الصحيحين "أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما يبدأ به الطواف"(21).
وجه الدلالة: أن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعَلِّي لا أحج بعد حجتي هذه"(22).
أدلة القائلين بسنية طواف القدوم:
استدلوا بأن طواف القدوم تحية فلم يجب كتحية المسجد.
كما استدلوا أيضاً على عدم وجوبه بسقوطه عن أهل مكة بالإجماع، قالوا ولو كان واجباً لم يسقط عنهم(23).
وأجابوا عن فعله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يدل على الوجوب.
الترجيح:
قلت والذي يترجح لي والعلم عند الله تعالى هو القول بوجوب طواف القدوم لمن دخل مكة مفرداً بالحج أو قارناً بينه وبين العمرة(24)، وذلك لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم له مع قوله: "خذوا عني مناسككم" يستلزم الوجوب، وقد فعل ذلك الصحابة رضي الله عنهم، فقد روى البخاري في صحيحه عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي أنه سأل عروة بن الزبير فقال: قد حج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته عائشة رضي الله عنها أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم حج أبو بكر رضي الله عنه فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة، ثم عمر رضي الله عنه مثل ذلك، ثم حج عثمان رضي الله عنه فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم معاوية وعبد الله بن عمر، ثم حججت مع أبي – الزبير بن العوام – فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثم لم تكن عمرة، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ثم لم ينقضها عمرة، وهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدؤون بشيء حتى يضعوا أقدامهم من الطواف بالبيت ثم لا يحلون، وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان ولا تبتدئان بشيء أول من البيت تطوفان به ثلم لا تحلان(25)، وقد رواه مسلم أيضاً بلفظ أطول من هذا(26) هذا وما استدل به أهل القول الأول من قياس غير المكي على المكي قياس مع الفارق كما هو ظاهر، إذ لا بد في القياس من موافقة المقيس للمقيس عليه في العلة والحكم كذلك في قياس الآفاقي على المكي، هذا وقد رجح القول بالوجوب ابن تيمية والشوكاني.
قال ابن تيمية رحمه الله بعد ذكره لرواية الوجوب عن أحمد: وهذه رواية قوية لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده لم يزالوا إذا قدموا مكة طافوا قبل التعريف ولم ينقل أن أحداً منهم ترك ذلك لغير عذر، وهذا خرج منه: امتثالاً لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (آل عمران: من الآية97)، وقوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) (البقرة: من الآية196)، وبياناً لما أمر الله به من حج بيته كما بين الطواف الواجب بسبعة أشواط، فيجب أن تكون أفعاله في حجة كلها واجبة إلا أن يقوم دليل على بعضها أنه ليس بواجب وقد قال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"(27)، ولم يُردْ أن نأخذها عنه علماً، بل علماً وعملاً، كما قال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) (الحشر: من الآية7)، فتكون المناسك التي أمر الله بها هي التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم(28).
وقال الشوكاني في نيل الأوطار بعد عرضه لخلاف أهل العلم في طواف القدوم: والحق الوجوب لأن فعله صلى الله عليه وسلم مبين لمجمل واجب هو قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (آل عمران: من الآية97)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"، وقوله: "حجوا كما رأيتموني أحج" وهذا الدليل يستلزم وجوب كل فعل فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حجه إلا ما خصه الدليل، فمن ادعى عدم وجوب شيء من أفعاله في الحج فعليه الدليل على ذلك، وهذه كلية فعليك بملاحظتها في جميع الأبحاث التي ستمر بك(29).
وقال في إرشاد الفحول حول حكم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ما نصه:
القسم السابع: الفعل المجرد عما سبق: فإن ورد بياناً كقوله صلى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني مناسككم، وكالقطع من الكوع بياناً لآية السرقة، فلا خلاف أنه لا دليل في حقنا وواجب علينا، وإن ورد بياناً لمجمل كان حكمة ذلك المجمل من وجوب وندب كأفعال الحج وأفعال العمرة وصلاة الفرض وصلاة الكسوف.
فرع: في حكم وجوب الدم على من ترك طواف القدوم.
على القول بوجوب طواف القدوم فهل يجب بتركه لغير عذر دم؟ والجواب أنه محل خلاف بين القائلين بوجوب هذا الطواف فقال ابن القاسم من المالكية بوجوب الدم، وقال أشهب لا عليه.
قال الباجي في المنتقى: فصل وإنما سمى طواف الورود الطواف الواجب لأنه واجب على الوارد، وليس يجب بمجرد الحج، ولو كان من أركان الحج لما سقط عمن أحرم من مكة ولا على المراهق(30)، فإن أخره الوارد المدرك فقد قال ابن قاسم عليه دم، وقال أشهب لا شيء عليه، وجه قول ابن القاسم أن هذا نسك قد وجب عليه في حجة فإذا فات مع القدرة عليه، فعليه دم أصل ذلك رمي الجمار، ووجه قول أشهب أن كل ما لا يجب بتركه الدم على من أحرم من مكة فإنه لا يجب به الدم على من أحرم من غير مكة أصل ذلك طواف الوداع(31) قلت والقول في عدم وجوب الدم قوي متجه، والعلم عند الله تعالى.
ثانياً: طواف الإفاضة:
حكمه:
طواف الإفاضة له خمسة أسماء: طواف الإفاضة – وطواف الزيارة – وطواف الفرض – وطواف الركن – وطواف الصَدَر – بفتح الصاد والدال، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه ركن من أركان الحج لا يصح الحج إلا به، استناداً إلى قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُ ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: من الآية29)، وقد أجمعوا على أن المراد بهذا الطواف: طواف الإفاضة.
هذا وقد نقل الإجماع على فرضية هذا الطواف غير واحد من أهل العلم.
قال الكاساني: وأما طواف الزيارة.. فالدليل على أنه ركن قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُ ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: من الآية29) والمراد منه طواف الزيارة بالإجماع(32).
وقال القرطبي: قال إسماعيل بن إسحاق: والطواف الواجب الذي لا يسقط بوجه من الوجوه هو طواف الإفاضة الذي يكون بعد عرفة، قال الله تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج:29) قال فهذا هو الطواف المفترض في كتاب الله عز وجل وهو الذي يحل به الحاج من إحرامه كله، قال الحافظ أبو عمر: ما ذكره إسماعيل في طواف الإفاضة هو قول مالك عند أهل المدينة، وهي رواية ابن وهب وابن نافع وأشهب عنه، وهو قول جمهور أهل العلم من فقهاء الحجاز والعراق(33).
وقال النووي في المجموع: واعلم أن طواف الإفاضة ركن لا يصح الحج إلا به، وقال أيضاً: وهذا الطواف ركن من أركان الحج لا يصح إلا به بإجماع الأمة(34).
وقال ابن قدامة في المغني: والأطوفة المشروعة ثلاثة: طواف الزيارة وهو ركن الحج لا يتم إلا به بغير خلاف(35).
يتبع
أ.د. سليمان العيسى
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد
معنى الطواف وصفته وحكمة مشروعيته وفضله:
أولاً: معناه في اللغة:
جاء في الصحاح: طاف حول الشيء يطوف طوافاً وطوافاناً، وتطوف، واستطاف، كله بمعنى، ورجل طافٌ أي كثير الطواف... وطائف بلاد ثقيف، والطائف من الشيء قطعة منه... وتطوف الرجل، أي طاف، وطوَّف أي أكثر التطواف(1).
وجاء في القاموس المحيط: (طاف) حول الكعبة وبها طوْفاً وطوافاً وطوفاناً، واستطاف وتطوف وطوَّف تطويفاً بمعنى، والمطاف موضعه(2).
ثانياً: معناه في الشرع:
أما معناه في الشرع فهو الطواف سبعة أشواط حول الكعبة المشرفة بنية الطواف على صفة مخصوصة(3).
صفة الطواف:
صفة الطواف بالبيت هو أن يبتدأ طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود فيستقبله ويستلمه ويقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحجر فيمر جميع بدنه على جميع الحجر وذلك بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر، ويتحقق أنه لم يبق وراءه جزء من الحجر ثم يبتدئ طوافه ماراً بجميع بدنه على جميع الحجَر، جاعلاً يساره إلى البيت ثم يمشي طائفاً بالبيت ثم يمر وراء الحِجْر(4) ويدور بالبيت(5) فيمر على الركن اليماني ثم ينتهي إلى ركن الحَجَر الأسود وهو المحل الذي بدأ فيه طوافه فتم له بهذا طوافه واحدة ثم يفعل كذلك حتى يتمم سبعاً.
قال النووي – رحمه الله – في المجموع (فرع) في صفة الطواف الكاملة: وإذا دخل المسجد فليقصد الحجر الأسود وهو في الركن الذي يلي باب البيت من جانب المشرق ويسمى الركن الأسود ويقال له وللركن اليماني الركنان اليمانيان... ثم يبتدأ الطواف إلى أن قال وصفة الطواف أن يحاذي جميعه جميع الحجَر الأسود فيمر بجميع بدنه على جميع الحجَر وذلك بأن يستقبل البيت ويقف على جانب الحجر الذي إلى الركن اليماني بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر ثم ينوي الطواف لله تعالى ثم يمشي مستقبل الحجر ماراً إلى جهة يمينه حتى يجاوز الحجر فإذا جاوزه انفتل وجعل يساره إلى البيت ويمينه إلى خارج، ولو فعل هذا من الأول وترك استقبال الحجر جاز لكنه فاتته الفضيلة، ثم يمشي هكذا تلقاء وجهه طائفاً حول البيت كله فيمر على الملتزم وهو ما بين الركن الذي فيه الحجر الأسود والباب سمي بذلك لأن الناس يلزمونه عند الدعاء، ثم يمر إلى الركن الثاني بعد الأسود ثم يمر وراء الحِجْر – بكسر الحاء وإسكان الجيم – وهو في صوب الشام والمغرب فيمشي حوله حتى ينتهي إلى الركن الثالث ويقال لهذا الركن مع الذي قبله: الركنان الشاميان، وربما قيل المغربيان.
ثم يدور حول الكعبة حتى ينتهي إلى الركن الرابع المسمى بالركن اليماني ثم يمر منه إلى الحجر الأسود فيصل إلى الموضع الذي بدأ منه فيكمل له حينئذ طوفة واحدة ثم يطوف كذلك ثانية وثالثة حتى يكمل سبع طوافات فكل مرة من الحجر الأسود إليه طوفة والسبع طواف كامل، هذه هي صفة الطواف الذي إذا اقتصر عليه صح طوافه(6).
حكمة مشروعية الطواف وبيان فضله:
أولاً: في حكمة مشروعيته:
قبل أن نبدأ بذكر حكمة مشروعية الطواف، يجب أن نعلم تمام العلم وأن نعرف تمام المعرفة أن أصل عبادة الله هي طاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأن هذه هي العبادة هي التي أود الله الخلق لها قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56)، كما أنه سبحانه خلق الموت والحياة للابتلاء والامتحان.
قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك:1، 2).
إذا عرفنا هذا فيجب أن نعلم أيضاً أن كل عبادة جاءت بها الشريعة فلها معنىً وحكمة قطعاٍ ؛ لأن الشرع لا يأمر بالعبث ولا بما ليس فيه مصلحة، ومعنى العبادة وكنهها قد يفهمه المكلف، أو يفهم بعضه أو لا يفهمه، فمثلاً الحكمة من الصلاة التواضع والخضوع وإظهار الافتقار إلى الله تعالى، والحكمة من الصوم كسر النفس وقمع الشهوات، والحكمة من الزكاة مواساة المحتاج، والحكمة من الحج إقبال العبد على ربه أشعث أغبر من مسافة بعيدة إلى بيته تعالى، طاعةً لله وإقامةً لذكره، وهكذا في كل عبادة تعبد الله بها عباده، وما ذكرناه هو بعض الحكمة لتلك العبادات لأن المخلوق قاصر لا يدرك كنه وسر ما أمر الله به أو نهى عنه إلا ما أطلعه عليه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بسبب مما وهبه الله له من الفهم المقتبس منهما (سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة: من الآية32)، وما أوتيه المخلوق من العلم بجانب علم الله قليل، قال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (الإسراء: من الآية85).
هذا وإذا كان سر وجودنا في هذا الكون هو لتوحيد الله وطاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه كان الواجب علينا أن نلتزم ما أمرنا به ونجتنب ما نهينا عنه سواء ظهرت لنا الحكمة في ذلك أو خفيت علينا لأن أوامر هذا الدين ونواهيه قد جاءت من لدن حكيم عليم لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فله الحكمة البالغة في أمره ونهيه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان سلفنا الصالح وفي مقدمتهم الصحابة الكرام أسرع الناس إلى امتثال أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، واجتناب النواهي، ولم يتوقف عملهم بما أمروا به، واجتنابهم.. لما نهوا عنه على ظهور الحكمة، لعلمهم أن ما جاءت به الشريعة الإسلامية من أوامر ونواهي هو عين الحكمة لأنها من عند الله العليم الحكيم، ولعلمهم أن عقولهم قاصرة عن إدراك ذلك، فقد جاء في صحيح مسلم وغيره عن معاذة، قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، فقالت: أحرورية(7) أنت؟ فقلت لست بحرورية ولكني أسأل قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة(8)، فعائشة رضي الله عنها أحالت ذلك إلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو وجوب قضاء الصوم دون قضاء الصلاة، وكان بإمكانها وهي العالمة الفقهية أن تجيب بالفرق بين الصوم والصلاة، وهو أن الصلاة كثيرة تتكرر في اليوم خمس مرات، فيشق قضاؤها بخلاف الصوم فإنه إنما يجب في السنة مرة واحدة، ولكنها رضي الله عنها أرجعت ذلك إلى الأمر الشرعي الذي يجب امتثاله.
وجاء في صحيح مسلم أيضاً عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه قبل الحجر الأسود وقال إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك.
وفي رواية: أنه يقبله ويقول: إني لأقبلك وإني أعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك(9).
فانظر رحمك الله إلى سرعة امتثال سلفنا الصالح لأوامر الله وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسليمهم لذلك سواء ظهرت لهم الحكمة أو لم تظهر فعمر رضي الله عنه قد يدل قوله السابق على عدم ظهور الحكمة له في تقبيل الحجر الأسود ولكنه فعل ذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لولا ذلك لما فعل، وإنما قال رضي الله عنه وإنك لا تضر ولا تنفع لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام والذين ألفوا عبادة الأصنام وتعظيمها، ورجاء نفعها أن تقبيل الحجر ينفع بذاته لأنه لا قدرة له على جلب نفع أو دفع ضر فهو حجر مخلوق كسائر المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع، وليس معنى كلامه رضي الله عنه أنه لا نفع في تقبيله بل في ذلك امتثال لما شرع فيه ينفع بالجزاء والثواب ولهذا قال: ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، فمجرد امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا يحصل به الثواب والأجر من الله، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21).
هذا ومما تقدم نعلم أن أي أمر أو نهي جاءت به الشريعة الإسلامية يجب امتثاله ولو لم تظهر لنا الحكمة منه، لأن هذه الشريعة من عند الله الحكيم العليم، وليس معنى هذا أننا ننكر التماس الحكمة للأمر أو النهي، ولكننا ننكر توقف الامتثال أو الاجتناب على ظهورها لنا. وإذا عرفنا هذه المقدمة الجليلة بين يدي ذكر الحكمة فإليك بيان ما وقفت عليه من حكمة هذه العبادة أعني عبادة الطواف.
أولاً: هناك حكمة عامة للطواف، ولكل عبادة بل ولكل أمر أو نهي وهي طاعة الله فيما أمر به سبحانه في كتابه أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بفعله لوجوب الاقتداء به، ومن ذلك الطواف بالبيت فيكون الإتيان به طاعة لله يثاب عليها العبد، وهذا ما أشرنا إليه آنفاً.
ثانياً: الحكمة الخاصة بالطواف: من حكمة الطواف بالبيت أنه إقامة لذكر الله تعالى وهذه الحكمة قد نصت عليها السنة المطهرة فقد روى أبو داود في سننه قال: "حدثنا مسدد حدثنا عيسى ابن يونس، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعلا لطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله(10) فعلم من هذا الحديث أن حكمة الطواف هي من أجل إقامة ذكر الله تبارك وتعالى، ومن حكمة الطواف أنه طاعة قربة لله، قال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج: من الآية26)، فيكفي في فضل الطواف بالبيت إضافة هذا البيت الذي شرع الطواف حوله إليه سبحانه وهذه الإضافة تقضي وتستلزم علو مكانته ومنزلته عند الله تعالى بل إن الله لما فرض الحج على عباده أضافه إلى هذا البيت المطهر حيث يقول سبحانه: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: من الآية97)، وقد أجمع العلماء على عدم صحة من حج ولم يطف بهذا البيت، فالطواف ركنه الأعظم الذي لا يسقط بحال ومن عجز عنه طِيْفَ فيه محمولاً، ولقد أمر الله سبحانه بالطواف حوله بقوله تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج:29) كما أن في الطواف حوله تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي طاف حوله.
قال تعالى: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21)، هذا وبيت الله والطواف حوله هو أعظم مكان للتضرع والدعاء، ففيه يلتجئ الطائف إلى حمى الله تعالى ويقرع باب إحسانه يلتمس العفو عن السيئات ويسأله الفوز بالجنات فهو مكان تسكب فيه العبارت وتقال فيه العثرات وتتنزل فيه الرحمة على العباد من الرب الكريم.
ثانياً: في فضل الطواف:
الأدلة على فضل الطواف كثيرة نقتصر منها على ما يتناسب مع البحث:
قال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) (الحج: من الآية26)، وقال عز وجل: (وَلْيَطَّوَّفُ ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: من الآية29)، وقال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران:96).
وروى الترمذي قال: حدثنا قتيبة أخبرنا جرير عن عطاء بن السائب عن ابن عبيد بن عمير عن أبيه: أن ابن عمر كان يزاحم على الركنين فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنك تزاحم على الركنين زحاماً ما رأيت أ9حداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يزاحم عليه فقال إن أفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن مسحهما كفارة الخطايا وسمعته يقول: لا يضع قدماً ولا يرفع أخرى إلا حط عنه بها خطيئة وكتبت له بها حسنة.
قال أبو عيسى: وروى حماد بن زيد عن عطاء بن السائب عن ابن عبيد بن عمير عن ابن عمر نحوه ولم يذكر فيه عن أبيه وهذا حديث حسن(11).
وروى عبد الرزاق في مصنفه قال: أخبرنا ابن محرر قال: سمعت عطاء ابن أبي رباح يحدث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل حج وأكثر، أيجعل نفقته في صلة أو عتق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طواف سبع لا لغو فيه يعدل رقبة(12).
وروى عبد الرزاق أيضاً في قصة الرجلين اللذين أتيا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أحدهما من ثقيف والآخر من الأنصار فخيرهما الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسألا أو يخبرهما بما جاء يسألانه عنه فاختارا أن يخبرهما الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصاري جئت تسأل عن خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فتقول: ماذا لي فيه؟ إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: "وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة حسنة فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك"(13).
هذا وقد روي عن عدد من السلف أن التطوع بالطواف بالبيت للآفاقي أفضل من التطوع بالصلاة، فقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال: كنت أسمع عطاءً يسأله الغرباء: الطواف أفضل لنا أم الصلاة؟ فيقول: أمّا لكم فالطواف أفضل إنكم لا تقدرون على الطواف بأرضكم، وأنتم تقدرون هنا على الصلاة.
وروى أيضاً عن ابن جريج قال: أخبرت عن أنس بن مالك أنه قدم المدينة فكتب إلى عمر بن عبد العزيز يسأله، الصلاة أفضل للغرباء أم الطواف؟ فقال له أنس: بل الصلاة، والاستمتاع بالبيت أفضل.
وروى أيضاً عن الثوري عن سالم قال: رأيت سعيد بن جبير يقول للغرباء إذا رآهم يصلون انصرفوا فطوفوا بالبيت(14).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل كل يوم على حجاج بيته الحرام عشرين ومائة رحمة ستين للطائفين وأربعين للمصلين وعشرين للناظرين". قال المنذري في الترغيب والترهيب رواه البيهقي بإسناد حسن(15).
هذا وقد ذكر النووي وغيره خلاف العلماء رحمهم الله فقال: اختلف العلماء في التطوع بالمسجد بالصلاة والطواف أيهما أفضل؟ فقال صاحب الحاوي الطواف أفضل، وظاهر إطلاق المصنف في قوله في باب التطوع (أفضل عبادات البدن الصلاة) أن الصلاة أفضل، وقال ابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير ومجاهد الصلاة لأهل مكة أفضل والطواف للغرباء أفضل(16). انتهى.
وقال الشنقيطي في أضواء البيان اختلف العلماء في صلاة النافلة في المسجد الحرام والطواف بالبيت أيهما أفضل؟ فقال بعض العلماء: الطواف أفضل وبه قال بعض الشافعية واستدلوا بأن الله قدم الطواف على الصلاة في قوله تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة: من الآية125).
وقال بعض أهل العلم الصلاة أفضل لأهل مكة والطواف أفضل للغرباء وبه قال ابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير ومجاهد كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب(17).
الترجيح:
قلت وما قاله ابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم من تفضيل الصلاة لأهل مكة والطواف للغرباء قوي متجه لأن غير المكي لا يحصل له الطواف في بلده بخلاف الصلاة كما تقدم في قول عطاء إلا أنني أرى أن تفضيل الطواف للغرباء على نوافل الصلاة ليس على إطلاقه بل نقول: الطواف أفضل للغرباء من نوافل الصلاة المطلقة، أما النوافل المقيدة كالرواتب التي قبل بعض الصلوات أو بعدها فهي أفضل، وكذا ما تشرع له الجماعة كصلاة التراويح مثلاً فهي أفضل حتى للغرباء لأن وقتها محدود بزمن بخلاف الطواف ولهذا لا أرى للغرباء ولا لغيرهم من باب أولى أن ينشغلوا عن ذلك بالطواف. أيضاً الصلاة أفضل من الطواف فيما إذا حصل ممن يتطوعون بالطواف مضايقة لمن يؤدون طواف الحج أو العمرة لأنهم أحق. والله أعلم.
أنواع الطواف وحكم كل نوع:
جملة أنواع الطواف ستة منها ثلاثة في الحج المفرد والقران، وهي طواف القدوم، وطواف الإفاضة، ويسمى طواف الزيارة، وطواف الوداع.
وفي العمرة لمن أداها من أهل الآفاق وجلس في مكة وأراد السفر إلى أهله طوافان:
الأول: طواف الفرض ويسمى طواف الركن لها.
الثاني: طواف الوداع لها.
والنوع السادس طواف عام وهو طواف التطوع المطلق.
أولاً: في حكم طواف القدوم:
طواف القدوم له خمسة أسماء: طواف القدوم، والقادم، والورود، والوارد، وطواف التحية، ويسمى أيضاً طواف اللقاء، وهو بمعنى القدوم(18).
طواف القدوم إنما يتصور في حق مفرد الحج وفي حق القارن إذا كانا قد أحرما من غير مكة ودخلا قبل الوقوف بعرفة، فأما المكي فلا يتصور في حقه طواف القدوم إذ لا قدوم له، وأما المحرم بالعمرة فلا يتصور في حقه أيضاً طواف القدوم بل إذا طاف للعمرة أجزأه عنهما ويتضمن القدوم كما تجزئ الصلاة المفروضة عن الفرض وتحية المسجد.
وأما من أحرم بالحج مفرداً أو قارناً ولم يدخل مكة إلا بعد الوقوف بعرفة فليس في حقه طواف قدوم بل الطواف الذي يفعله بعد الوقوف طواف الإفاضة.
حكم طواف القدوم:
اختلف الفقهاء رحمهم الله في حكم طواف القدوم على قولين:
القول الأول: أنه واجب يجب بتركه دم إن لم يكن تركه لضيق الوقت وهو قول المالكية: وهو رواية عند الحنابلة.
القول الثاني: أن طواف القدوم سنة لا يجب به شيء وهو قول جماهير أهل العلم، وبه قال الحنفية، كما أنه المشهور عند الشافعية والحنابلة.
الأدلة:
أدلة أهل القول الأول والذين يرون الوجوب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُ ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: من الآية29).
وجه الدلالة: أن الله أمر بالطواف بالبيت فدل على الوجوب والفرضية.
مناقشة الدليل السابق:
قال الكاساني في بدائع الصنائع: ولنا أنه لا يجب على أهل مكة بالإجماع ولو كان ركناً لوجب عليهم لأن الأركان لا تختلف بين أهل مكة وغيرهم كطواف الزيارة، فلما لم يجب على أهل مكة دل على أنه ليس بركن، والمراد من الآية طواف الزيارة لإجماع أهل التفسير، ولأنه خاطب الكل بالطواف بالبيت، وطواف الزيارة هو الذي يجب على الكل، فأما طواف اللقاء فإنه لا يجب على أهل مكة دل على أن المراد هو طواف الزيارة، وكذا سياق الآية دليل عليه لأنه أمر بذبح الهدايا بقوله عز وجل: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) (الحج: من الآية28)، وأمر بقضاء التفث وهو الحلق والطواف بالبيت عقيب ذبح الهدي لأن كلمة (ثم) للترتيب مع التعقيب فيقتضي أن يكون الحلق والطواف مرتبين على الذبح، والذبح يختص بأيام النحر لا يجوز قبلها فكذلك الحلق والطواف وهو طواف الزيارة، وأما طواف اللقاء فإنه يكون سابقاً على أيام النحر فثبت أن المراد من الآية الكريمة طواف الزيارة وبه نقول إنه ركن(19).
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وأما الاستدلال على الوجوب بالآية فقال شارح البحر: إنها لا تدل على طواف القدوم لأنها في طواف الزيارة إجماعاً(20).
الدليل الثاني: ما جاء في الصحيحين "أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما يبدأ به الطواف"(21).
وجه الدلالة: أن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعَلِّي لا أحج بعد حجتي هذه"(22).
أدلة القائلين بسنية طواف القدوم:
استدلوا بأن طواف القدوم تحية فلم يجب كتحية المسجد.
كما استدلوا أيضاً على عدم وجوبه بسقوطه عن أهل مكة بالإجماع، قالوا ولو كان واجباً لم يسقط عنهم(23).
وأجابوا عن فعله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يدل على الوجوب.
الترجيح:
قلت والذي يترجح لي والعلم عند الله تعالى هو القول بوجوب طواف القدوم لمن دخل مكة مفرداً بالحج أو قارناً بينه وبين العمرة(24)، وذلك لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم له مع قوله: "خذوا عني مناسككم" يستلزم الوجوب، وقد فعل ذلك الصحابة رضي الله عنهم، فقد روى البخاري في صحيحه عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي أنه سأل عروة بن الزبير فقال: قد حج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته عائشة رضي الله عنها أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم حج أبو بكر رضي الله عنه فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة، ثم عمر رضي الله عنه مثل ذلك، ثم حج عثمان رضي الله عنه فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم معاوية وعبد الله بن عمر، ثم حججت مع أبي – الزبير بن العوام – فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثم لم تكن عمرة، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ثم لم ينقضها عمرة، وهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدؤون بشيء حتى يضعوا أقدامهم من الطواف بالبيت ثم لا يحلون، وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان ولا تبتدئان بشيء أول من البيت تطوفان به ثلم لا تحلان(25)، وقد رواه مسلم أيضاً بلفظ أطول من هذا(26) هذا وما استدل به أهل القول الأول من قياس غير المكي على المكي قياس مع الفارق كما هو ظاهر، إذ لا بد في القياس من موافقة المقيس للمقيس عليه في العلة والحكم كذلك في قياس الآفاقي على المكي، هذا وقد رجح القول بالوجوب ابن تيمية والشوكاني.
قال ابن تيمية رحمه الله بعد ذكره لرواية الوجوب عن أحمد: وهذه رواية قوية لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده لم يزالوا إذا قدموا مكة طافوا قبل التعريف ولم ينقل أن أحداً منهم ترك ذلك لغير عذر، وهذا خرج منه: امتثالاً لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (آل عمران: من الآية97)، وقوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) (البقرة: من الآية196)، وبياناً لما أمر الله به من حج بيته كما بين الطواف الواجب بسبعة أشواط، فيجب أن تكون أفعاله في حجة كلها واجبة إلا أن يقوم دليل على بعضها أنه ليس بواجب وقد قال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"(27)، ولم يُردْ أن نأخذها عنه علماً، بل علماً وعملاً، كما قال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) (الحشر: من الآية7)، فتكون المناسك التي أمر الله بها هي التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم(28).
وقال الشوكاني في نيل الأوطار بعد عرضه لخلاف أهل العلم في طواف القدوم: والحق الوجوب لأن فعله صلى الله عليه وسلم مبين لمجمل واجب هو قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (آل عمران: من الآية97)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"، وقوله: "حجوا كما رأيتموني أحج" وهذا الدليل يستلزم وجوب كل فعل فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حجه إلا ما خصه الدليل، فمن ادعى عدم وجوب شيء من أفعاله في الحج فعليه الدليل على ذلك، وهذه كلية فعليك بملاحظتها في جميع الأبحاث التي ستمر بك(29).
وقال في إرشاد الفحول حول حكم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ما نصه:
القسم السابع: الفعل المجرد عما سبق: فإن ورد بياناً كقوله صلى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني مناسككم، وكالقطع من الكوع بياناً لآية السرقة، فلا خلاف أنه لا دليل في حقنا وواجب علينا، وإن ورد بياناً لمجمل كان حكمة ذلك المجمل من وجوب وندب كأفعال الحج وأفعال العمرة وصلاة الفرض وصلاة الكسوف.
فرع: في حكم وجوب الدم على من ترك طواف القدوم.
على القول بوجوب طواف القدوم فهل يجب بتركه لغير عذر دم؟ والجواب أنه محل خلاف بين القائلين بوجوب هذا الطواف فقال ابن القاسم من المالكية بوجوب الدم، وقال أشهب لا عليه.
قال الباجي في المنتقى: فصل وإنما سمى طواف الورود الطواف الواجب لأنه واجب على الوارد، وليس يجب بمجرد الحج، ولو كان من أركان الحج لما سقط عمن أحرم من مكة ولا على المراهق(30)، فإن أخره الوارد المدرك فقد قال ابن قاسم عليه دم، وقال أشهب لا شيء عليه، وجه قول ابن القاسم أن هذا نسك قد وجب عليه في حجة فإذا فات مع القدرة عليه، فعليه دم أصل ذلك رمي الجمار، ووجه قول أشهب أن كل ما لا يجب بتركه الدم على من أحرم من مكة فإنه لا يجب به الدم على من أحرم من غير مكة أصل ذلك طواف الوداع(31) قلت والقول في عدم وجوب الدم قوي متجه، والعلم عند الله تعالى.
ثانياً: طواف الإفاضة:
حكمه:
طواف الإفاضة له خمسة أسماء: طواف الإفاضة – وطواف الزيارة – وطواف الفرض – وطواف الركن – وطواف الصَدَر – بفتح الصاد والدال، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه ركن من أركان الحج لا يصح الحج إلا به، استناداً إلى قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُ ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: من الآية29)، وقد أجمعوا على أن المراد بهذا الطواف: طواف الإفاضة.
هذا وقد نقل الإجماع على فرضية هذا الطواف غير واحد من أهل العلم.
قال الكاساني: وأما طواف الزيارة.. فالدليل على أنه ركن قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُ ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: من الآية29) والمراد منه طواف الزيارة بالإجماع(32).
وقال القرطبي: قال إسماعيل بن إسحاق: والطواف الواجب الذي لا يسقط بوجه من الوجوه هو طواف الإفاضة الذي يكون بعد عرفة، قال الله تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج:29) قال فهذا هو الطواف المفترض في كتاب الله عز وجل وهو الذي يحل به الحاج من إحرامه كله، قال الحافظ أبو عمر: ما ذكره إسماعيل في طواف الإفاضة هو قول مالك عند أهل المدينة، وهي رواية ابن وهب وابن نافع وأشهب عنه، وهو قول جمهور أهل العلم من فقهاء الحجاز والعراق(33).
وقال النووي في المجموع: واعلم أن طواف الإفاضة ركن لا يصح الحج إلا به، وقال أيضاً: وهذا الطواف ركن من أركان الحج لا يصح إلا به بإجماع الأمة(34).
وقال ابن قدامة في المغني: والأطوفة المشروعة ثلاثة: طواف الزيارة وهو ركن الحج لا يتم إلا به بغير خلاف(35).
يتبع