ابو وليد البحيرى
2019-06-28, 03:09 AM
أحكام الرخص الشرعية في السياحة (1)
عبد الله الخضيري
أحكام الرخص الشرعية في السياحة (1)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
المسألة الأولى: تعريف الرخصة لغة واصطلاحاً:
ذكر في معجم مقاييس اللغة(1) بأن الراء والخاء والصاد أصل يدل على لين وخلاف شدة فالرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه، ورخص له في الأمر: أذن له فيه بعد النهي، والاسم الرُّخصة.
ومن ذلك: رخُص السعر إذا سهل وتيسر، أو رخصه الله فهو رخيص ورخص الشارع لنا في كذا ترخيصاً وأرخص إرخاصاً: إذا يسره وسهله، وفي الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته"(2).
وأما الرُّخَصَه – بفتح الخاء: فو الشخص الآخذ بالرخصة.
فالرُّخْصَةُ – في الجملة – تدل على سهولة ويسر ومسامحة وطراوة.
ومن هذا المعنى اللغوي أخذت الرخصة اصطلاحاً عند الأصوليين، لأنها تدل على كل معنى في الدين جنح فيه إلى التيسير والتسهيل والبعد عن العنت والتشديد(3).
والرخصة تطلق في اصطلاح علماء الأصول مقابل العزيمة فهما اسمان متقابلان متلازمان مفهوماً وعملاً.
ولاختلاف الأصوليين في تعريف العزيمة اختلفوا أيضاً في تعريف الرخصة على أقوال متعددة(4) وهي وإن اختلفت في ألفاظها وعباراتها إلا أنها تتفق تقريباً في معناها والمقصود منها والناظر فيها يتبين لها ما يلي:
أولاً: أنه لا بد للأخذ بالرخصة من دليل يدل عليها.
ثانياً: ولا بد من وجود العذر في المكلف حتى يستطيع به أن يعدل عن الحكم الأصلي الذي هو العزيمة إلى حكم الرخصة.
ثالثاً: أن أحكام الرخصة ليست هي الأحكام الأصلية بل هي أحكام وضعها الشارع للتخفيف عن المكلفين ولرفع الحرج والضيق عنهم وقد نص كثير من الأصوليين في تعريفاتهم على ذلك(5).
ولعل من أجمع التعاريف ما ذكره البيضاوي بقوله: "الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر"(6)، فقد توفرت فيه الأمور الثلاثة السابقة إضافة إلى كونه جامعاً مانعاً سالماً مما ورد على غيره من اعتراضات.
شرح التعريف وبيان محترزاته:
قوله: (حكم): جنس.
وقوله: (الثابت): فيه إشارة إلى ما سبق ذكره أولاً من أن الترخص لا بد له من دليل وإلا لزم ترك العمل بالدليل السالم عن المعارض، فنبه عليه بقوله: (الثابت)، لأنه لو لم يكن لدليل لم يكن ثابتاً بل الثابت غيره.
وقوله: (على خلاف الدليل): احترز به عما أباحه الله تعالى من الأكل والشرب وغيرهما فلا يسمى رخصة، إذ لم يثبت على المنع منه دليل، وأطلق المصنف الدليل ليشمل ما إذا كان الترخيص بجواز الفعل على خلاف الدليل المقتضي للتحريم كأكل الميتة وما إذا كان بجواز الترك، إما على جواز الفعل المقتضي للوجوب كجواز الفطر في السفر، وإما على خلاف الدليل المقتضي للندب، كترك الجماعة بعذر المطر والمرض ونحوهما فإنه رخصة بلا نزاع.
وقوله: (العذر): يعني المشقة، والحاجة، واحترز به عن شيئين:
الأول: الحكم الثابت بدليل راجح، على دليل آخر معارض له.
الثاني: التكاليف كلها فإنها أحكام ثابتة على خلاف الدليل ومع ذلك ليست برخصة لأنها لم تثبت لأجل المشقة، وإنما قلنا: إنها على خلاف الدليل لأن الأصل عدم التكاليف، والأصل من الأدلة الشرعية(7).
وبهذا يتبين وضوح هذا التعريف واشتماله على التخفيفات والرخص في الأحوال والظروف الطارئة من مرض وسفر وإكراه وضرورة وغير ذلك من الأعذار، ولو لم تكن شاقة(8).
والسياحة سفر كما تقدم، فكانت من الأعذار المبيحة للترخص.
المسألة الثانية: شروط الترخص في سفر السياحة:
لا يترخص السائح برخص السفر إلا إذا تحققت فيه الشروط التالية:
الشرط الأول: القصد، فلا بد أن يعزم في الابتداء على قطع مسافة السفر لمقصد معلوم وهو محل اتفاق بين الفقهاء(9)، فمن شخص عن بلده ولا نية له في السفر فهو مقيم لا رخصة له، وذلك كالهائم على وجهه لا يدري أين يتوجه ومن خرج لرد ضالة إلا إذا بلغ مكاناً يكون رجوعه منه إلى بلده سفراً عرفاً، فحينئذ يشرع له الترخص، ومن علق سفره بلحاق قافلة بضاحية البلد إن حصل له ذلك وإلا فلا ولم يغلب على ظنه حصول مراده فهو باق على حكم الإقامة لعدم النية وكذلك التائه عن الطريق وهو في غير سفر وكذا الصياد يتبع الطريد والسائح في الأرض لا يقصد مكاناً معيناً فلا رخصة له لعدم القصد(10)، والأصل في هذا الحديث "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، ونظير هذا في الوقت الحاضر ما يعرف "بحجز الانتظار"(11) في وسائل المواصلات الحديثة من سفن وطائرات وقطارات وحافلات.
فإذا كان المطار أو صالة الانتظار للسفر خارج العمران أو في بلدة لا يعتبر الذهاب إليها سفراً، فليس له الترخص، لأن الأصل بقاء الإقامة فلا ينتقل عن ذلك إلا بيقين أو غلبة ظن(12).
واستثنى العلماء مما تقدم: من علم في ابتداء سفره أنه لن يدرك مطلوبه قبل المسافة المحددة للترخص فله أن يترخص لعزمه ابتداء على قطع المسافة، أما من لم يعلم ذلك فلا يترخص ولو طال سفره وتجاوز مسافة الترخص(13).
قال في الإقناع: "وإن شك في قصر المسافة أو لم يعلم قدر سفره كمن خرج في طلب آبق أو ضال ناوياً أن يعود به أين وجده لم يقصره حتى يجاوز المسافة"(14).
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "عن جواز الفطر والقصر للبدوي الذي ضاعت إبله وسافر يبحث عنها لا يقصد مكاناً معيناً ولا يعلم هل يستمر سفره إلى مسافة القصر أو يجدها دونه؟"
فأجاب: "من كان بهذه الصفة المسؤول عنها فلا يستبيح رخصا لسفر حال ما يخرج من بلده حتى يجاوز المسافة فإذا جاوزها ابتدأ استباحة رخص السفر"(15).
الشرط الثاني: مفارقة محل الإقامة (عمران بلدته)
فللسائح إذا سافر أن يترخص بعد الخروج من بلده ومفارقة جميع عمرانها وذلك باتفاق الفقهاء(16).
لكن العلماء اختلفوا في اشتراط المفارقة للترخص وجواز الفطر والقصر قبل ذلك وذلك على أقوال:
القول الأول: اشتراط المفارقة فليس لمن نوى السفر أن يترخص حتى يخرج من بيوت بلده ويفارق عمرانها، ويجعلها وراء ظهره.
وهذا قول الجمهور من الأئمة الأربعة والأوزاعي وإسحاق وغيرهم، واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم وأفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة(17).
القول الثاني: لا يشترط ذلك فللمسافر أن يترخص ولو كان في بلده إذا عقد العزم وتأهب للسفر وهو رواية عن أحمد ونقله ابن حجر عن بعض الكوفيين وحكي عن عطاء وغيره واختاره ابن القيم(18).
القول الثالث: أنه إذا خرج مسافراً لا يقصر يومه ذلك إلى الليل أو عكسه. وهو مروي عن مجاهد(19).
القول الرابع: أنه إذا جاوز حيطان داره فله القصر وهو مروي عن عطاء(20).
سبب الخلاف:
معارضة مفهوم الاسم وهو السفر لدليل الفعل فإنه يعد مسافراً إذا نوى السفر وشرع فيه لكن هذا معارض بدليل الفعل منه صلى الله عليه وسلم فقد كان لا يقصر إلا إذا فارق بيته بثلاثة أميال، فمن قال بالأول أجاز القصر بمجرد نيته والشروع فيه ومن قال بالآخر اشترط المفارقة للقصر(21).
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 – قوله سبحانه: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ.. الآية) (النساء: من الآية101).
وجه الدلالة: أن الله سبحانه علق القصر على الضرب في الأرض ولا يعد ولا يكون ضارباً في الأرض حتى يخرج عن بلده ويفارقه فالمقيم لا يسمى ضارباً(22).
2 – قوله سبحانه: (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) ولا يقال لمن كان داخل البلد إنه على سفر أو مسافر حتى يفارق البلد(23).
3 – حديث أنس رضي الله عنه "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً وبذي الحليفة ركعتين" فكان صلى الله عليه وسلم يترخص بالقصر إذا خرج من المدينة وارتحل وهذا ظاهر(24).
4 – وخرج علي رضي الله عنه فقصر وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له هذه الكوفة فقال: "لا حتى ندخلها"، وفي لفظ" خرجنا مع علي بن أبي طالب فقصرنا الصلاة ونحن نرى البيوت ثم رجعنا فقصرنا الصلاة ونحن نرى البيوت"(25).
5 – وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم "أنه كان يقصر الصلاة حين يخرج من بيوت المدينة ويقصر إذا رجع حتى يدخل بيوتها"(26).
6 – وقال عبيد بن جبر: "كنت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع ثم قرب غذاؤه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة ثم قال: اقترب، قلت: ألست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل"(27).
7 – ومن المعقول: أنه لا يطلق على الشخص مسافر إلا إذا باشر السفر وفعله ولا يكون ذلك إلا بخروجه من البلد ومفارقته الدور(28).
8 – ولأنه لما وجب عليه الإتمام إذا دخل بنيان بلده عند قدومه من سفره إجماعاً وجب أن لا يجوز له القصر في ابتداء خروجه قبل مفارقة بنيان بلده(29).
9 – ولأن النية (القصد) شرط كما تقدم ولا بد من اقترانه بالفعل وهو الخروج والمفارقة وإلا فلا عبرة بمجرد النية دون ذلك لأن مجرد قصد الشيء من غير اقتران بالفعل يسمى عزماً ولا يسمى نية وفعل السفر لا يتحقق إلا بعد الخروج من المصر فما لم يخرج لا يتحقق قران النية بالفعل فلا يصير مسافراً(30).
واستدل أصحاب القول الثاني بحديث أبي بصرة السابق ذكره، وبما روي عن أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً وقد رُحِّلت له راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل، فقيل له: سنة؟ قال: سنة(31).
"ولأنه لما صار مقيماً بمجرد النية من غير فعل صار مسافراً بمجرد النية"(32).
المناقشة والترجيح:
ويمكن مناقشة ما استدل به أصحاب القول الثاني بأن استدلال الجمهور به أظهر من استدلالهم كما هو واضح من سياق النص فأبو بصرة لم يأكل حتى دفع وشرع وباشر السفر فهذا دليل للجمهور عليهم وقوله: "لم يجاوز البيوت" معناه – والله أعلم – لم يبعد منها، بدليل قول عبيد له: "ألست ترى البيوت"(33).
وأما الدليل الثاني فالحديث في سنده عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني وهو ضعيف(34)، وعلى فرض صحته فإن منزله رضي الله عنه كان في ظاهر البلد وكان عليه – في زمانهم – مشقة في الوقوف والنزول أثناء الطريق لتناول الأكل والطعام وهم حديثوا عهد بمسير وسفر فرأى أنهم يتزودون بالطعام قبل ركوبهم حتى يواصلوا المسير إلى الليل أو إلى آخر النهار دون انقطاع أو توقف، بخلاف ما عليه الحال في هذا الزمن فلا مشقة في التوقف للأكل بعد المسير(35).
وأما القياس على صيرورته مقيماً بمجرد النية فهذا قياس مع الفارق حيث إن الأصل في الإنسان هو الإقامة فيصير مقيماً بمجرد النية أما المسافر فيحتاج مع النية إلى المباشرة فافترقا(36).
وأما القولان الأخيران فقد قال ابن المنذر عن رأي مجاهد: "لم يوافقه عليه أحد"(37).
وقالا لنووي: "فهذان المذهبان – أي الثالث والرابع – فاسدان فمذهب مجاهد مناف للأحاديث الصحيحة في قصر النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة وحين خرج من المدينة ومذهب عطاء موافقيه منابذ لاسم السفر"(38).
وبهذا يترجح قول الجمهور لقوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة وضعف أدلة القول الثاني ومخالفة القول الثالث والرابع للأحاديث الصحيحة الصريحة والعرف المستقيم، ولا سيما ما يتعلق بإفطاره قبل مفارقة العمران لأن صيامه صحيح باتفاق وإفطاره مختلف فيه فالأحوط الانتظار حتى تتحقق المفارقة، ثم إن الفطر ليس هو الأفضل للمسافر مطلقاً وإنما الأفضل له فعل الأيسر في حقه ونظراً لتعدد وسائل النقل واختلاف طرق المفارقة في هذا العصر فإنه يحسن بيان المفارقة المعتبرة لكل من:
أ – أهل المدن والقرى:
تكون المفارقة في حقهم بمجاوزة جميع العمران من جهة مقصدهم حتى لا يبقى بيت متصل ولا منفصل مما هو معد للسكن واشترط الحنفية مفارقة ما كان من توابع محل الإقامة كربض المصر وهو ما حول المدينة من بيوت ومساكن والقرى المتصلة بالربض على الصحيح وأما الفناء المنفصل عن البلد المعد لمصالحه كمدافن الموتى وغيرها فلا يشترط مجاوزتها(39).
والخراب المتخلل للعمران معدود من البلد، أما المساكن الخربة في أطراف البلد فإن كانت خالية من السكان وليس ثمة عمران من ورائها فلا تشترط مجاوزتها لأنها أشبهت الصحراء(40).
لكن الشافعية اشترطوا مجاوزتها إذا كانت قائمة الحيطان ولم يحوط على العامر لإمكان السكنى فيها كما اشترطوا مجاوزة سور البلد ولو تعدد وتخلله مزارع وخراب لأن ما كان داخله فهو معدود من البلد ولو كان غير مكتمل أو بعضه منهدم والخندق في البلدة التي لا سور لها كالسور في هذا(41)، وأما الحنابلة فلا يشترط عندهم مجاوزة السور وإنما بيوت قريته العامرة سواء كانت داخل السور أو خارجه فيقصر إذا فارقها بما يقع عليه اسم المفارقة بنوع البعد عرفاً، ولا يشترط مفارقة الخراب عندهم ولو كانت حيطانه قائمة ما لم يله عامر(42).
وأما البساتين والمزارع المتصلة بالبلد فإنها لا تخلو:
1 – أن تكون غير معدة للسكن فلا يشترط مجاوزتها.
2 – أن تكون معدة للسكن ولو في بعض العام ففي اشتراط مجاوزتها خلاف على قولين:
الأول: عدم اشتراط ذلك، وهو قول الحنفية والشافعية.
الثاني: اشتراط ذلك، وهو مذهب المالكية والصحيح عند الحنابلة وقال به بعض الشافعية، ونظره النووي مع استظهاره عدم الاشتراط وقال المالكية لا يشترط مجاوزتها إلا إذا سافر من ناحيتها أو من غير ناحيتها وكان محاذياً لها وخالف بعضهم في الثانية فقال لا يشترط المجاوزة فيها، لأن غايتها أن تكون كجزء من البلد(43).
وعلل أصحاب القول الأول، بأنها ليست من البلد فلا تصير منه بإقامة بعض الناس فيها جزءاً من العام.
وعلل أصحاب القول الثاني بأنها صارت جزءاً من البلد بذلك(44).
والأقرب أن مكان ابتداء السفر هو الأرض الفضاء التي لا عمران فيها ومفارقة العمران مسألة عرفية فلا يدخل في ذلك الضياع والمزارع ولو كان الناس يقيمون فيها بعض الفصول، ومثل ذلك المعارض والمستودعات ومحطات الوقود وإن كانت مزدهرة فلا يشترط مجاوزتها.
لكن إذا كان عادة أهل البلد سكن مزارعهم بصفة دائمة كبعض أهل الأرياف فلا بد حينئذ من مجاوزتها لأنها ملحقة بالبلد ما دامت متصلة به والسكن فيها دائمة.
وإذا كان الراجح في المفارقة تقييدها بالعرف فإن من خرج من البلد يريد المطار فهو مسافر من حين خروجه وله الترخص إلا إذا كان من سكان المطار فلا لأنه لم يفارق بنيان بلده عرفاً.
وقد شاع عند بعض الناس في هذا الزمن الترخص في المطارات والموانئ ظناً منهم بأن من وصلها فقد شرع في السفر – إذا كان حجزه مؤكداً – وهذا العمل محل نظر فقد ضبط الفقهاء المفارقة المبيحة للترخص – كما تقدم – بمجاوزة عمران البلد مما يشمله اسم واحد وإن كان من مصالح البلد وتوابع الإقامة(45).
كما قال ابن عابدين "يشترط مفارقة ما كان من توابع موضع الإقامة كربض المصر وهو ما حول المدينة من بيوت ومساكن فإنه في حكم المصر... وأما الفناء وهو المكان المعد لمصالح البلد كمريض الدواب ودفن الموتى وإلقاء التراب، فإن اتصل بالمصر اعتبر مجاوزته وإن انفصل بمزرعة فلا"(46).
وعلى هذا يقال:
إن كان المطار والميناء خارج البلد منفصلاً عنه بحيث يعد الذهاب إليه خروجاً عن البلد وتحصل به مفارقة العمران فيجوز الترخص حينئذ.
أما إذا كان المطار أو الميناء متصلاً بالبلد وجزءاً منه ولا يعد الذهاب إليه خروجاً ومجاوزة ومفارقة للعمران عرفاً فلا يسوغ الترخص حينئذ والأمر مبناه على العرف كما تقدم.
ب – المسافر بحراً:
إذا كانت البلدة ساحلية وأراد المسافر الخروج في سفره بسفينة فيعتبر في مفارقته مجاوزة هذه السفينة وجريها ما لم يكن ذلك محاذياً للبلد فلا بد حينئذ من مجاوزة العمران.
وإذا لم تكن السفينة راسية على الساحل واحتيج إلى زورق ينقل إليها فيجوز الترخص بمجرد مغادرة الزورق إليها بشرط أن تكون المغادرة إليها هي الأخيرة أما ما دام يذهب ويعود فلا يجوز حينئذ لمن به ولا لمن بالسفينة أن يترخص(47).
ج – المسافر جواً:
اعتبر العلماء فيمن صعد جبلاً أن يفارق المكان المحاذي لرؤوس الحيطان واعتبر العلماء فيمن هبط جبلاً أن يفارق المكان المحاذي لأساس الحيطان لأنه لما اعتبر مفارقة البيوت إذا كانت محاذية اعتبر هنا مفارقة سمتها.
ويلحق المسافر بالطائرة بذلك فتكون المفارقة في حقه بمجرد مجاوزة الطائرة المكان المحاذي لسمت البنيان، وفي الهبوط لا يزال مسافراً حتى تحاذي الطائرة سمت البينان.
ولا يشترط للمفارقة هنا الخروج عن المجال الجوي للبلد كما قد يتوهمه البعض(48).
وهذا إذا كان المطار داخل البلد أما إذا كان منفصلاً عن البلد بحيث يعتبر الذهاب له سفراً فالمفارقة حينئذ حصلت بالخروج من البلد للمطار كما تقدم.
د – المقيم بالصحراء والخيام:
فإذا كان مقيماً في الصحراء فيشترط لترخصه مفارقته للبقعة التي فيها رحله وتنسب إليه، فإن سكن وادياً وسار في عرضه فلا بد من مجاوزة عرضه إذا كان هذا العرض معتاداً فإن أفرطت سعته لم يشترط إلا مجاوزة القدر الذي يعد موضع نزوله أو موضع الحلة التي هو منها، كما لو سافر في طول الوادي فيكفيه ذلك القدر.
وإذا كان مقيماً في خيام فيشترط لترخصه مفارقته لها جميعاً مجتمعة كانت أو متفرقة إذا كانت حلة واحدة وهي بمنزلة أبينة البلد كما صرح بذلك المالكية والشافعية والحنابلة ويشترط مع مجاوزتها مرافقها كمطرح الرماد وملعب الصبيان ومراحل الإبل، لأنها من موضع إقامتهم(49).
الشرط الثالث: مسافة السفر:
فلا بد للأخذ برخص السفر من أن تكون المراد قطعها مسافة سفر حتى إن أهل اللغة عرفوا السفر بأنه "قطع المسافة"(50)، وقد اختلف الفقهاء في تحديدها، فمنهم من حدها بطول معين أو بزمن معين ومنهم من لم يقدر مسافة للسفر وحدها بالعرف لإطلاق النصوص والأقوال في ذلك كثيرة أوصلها بعضهم إلى عشرين قولاً(51).
سبب الخلاف: معارضة المعنى المعقول للفظ المنقول.
ومرد ذلك إلى إطلاق السفر في القرآن دون تحديده بمسافة معينة، وكذلك اختلاف المسافات والمدد التي قصر فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فمن نظر إلى إطلاق النصوص، اعتبر كل من جاز إطلاق اسم مسافر عليه قد قطع مسافة السفر وجاز له الترخص، والقائلون بهذا اختلفوا في الحد الأدنى لما يعد سفراً.
ومن نظر إلى المعنى المعقول من اللفظ، قال: إن تأثير السفر في القصر هو المشقة الموجودة فيه فكل ما وجد فيه هذا المعنى فهو سفر يترخص فيه ثم اختلف هؤلاء في تحديد المسافة التي تحصل بها هذه المشقة التي يترخص بها(52).
والأقوال في ذلك كما يلي:
القول الأول: ليس للسفر مسافة محددة ويجوز الترخص في طويل السفر وقصير وهو قول الظاهرة وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن قدامة المقدسي وكثير من المعاصرين ومنهم الشيخ محمد بن إبراهيم وابن عثيمين(53).
القول الثاني: مسافة السفر المبيحة للترخص: أربعة برد، وهو ما يساوي ثمانية وأربعين ميلاً أو ستة عشر فرسخاً(54)، وهو قول ابن عمر وابن عباس والحسن وإسحاق وغيرهم وهو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة واختاره الشيخ ابن باز(55).
القول الثالث: مسافة السفر المبيحة للترخص: مسيرة ثلاثة أيام بلياليها بسير الإبل ومشي الأقدام وهو قول عثمان بن عفان وابن مسعود والثوري وابن سيرين وغيرهم، وهذا مذهب الحنفية، ولا يعتبر عندهم – على الصحيح – بالفراسخ.
وقال أبو يوسف: يومان وأكثر الثالث، وهي رواية الحسن عن أبي حنيفة(56).
القول الرابع: أقل مسافة للترخص ثلاثة أميال ونسب هذا للظاهرية(57).
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 – قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً) (النساء:101)، فالآية مطلقة والتقدير تقييد لمطلق الكتاب ولا يجوز ذلك إلا بدليل، وظاهر الآية يدل على إباحة القصر لكل من ضرب في الأرض دون تقييد بمسافة معينة، وقد سقط شرط الخوف بخبر يعلى بن أمية فبقي ظاهر الآية متناولاً كل ضرب في الأرض(58).
2 – عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في الحضر"(59).
3 – عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيك صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة"(60).
4 – عن عمر رضي الله عنه قال: "صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد"(61).
5 – عن جبير بن نفير قال: "خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلاً فصلى ركعتين، فقلت له فقال: رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين فقلت له، فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل"(62).
وجه الدلالة: أنه لم يخص الله سبحانه ولا رسوله ولا المسلمون سفراً من سفر فليس لأحد أن يخصه إلا بنص أو إجماع متيقن(63).
كما قال شيخ الإسلام: "السفر مطلق في الكتاب والسنة فليس يخصان بسفر دون سفر، لا بقصر ولا بفطر، ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم مسافة القصر بحد زماني ولا مكاني والواجب أن يطلق ما أطلقه صاحب الشرع ويقيد ما قيده"(64).
فهذه الأدلة وغيرها مما ورد في إباحة الترخص بالسفر مطلقة في كل سفر، والتحديد بمسافة معينة أو مدة أو زمن معين تقييد لمطلق الكتاب والسنة ولا يجوز ذلك إلا بدليل، كما لا يجوز التفريق بين متماثلين إلا بدليل.
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 – ما نق عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أنهما كانا يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخاً(65).
2 – وأخرجه مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في مسيره ذلك قال مالك: وذلك نحو من أربعة برد(66).
3 – وأخرج مالك عنه أن أباه ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك قال مالك: وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد(67).
3 – وعن عطاء قال: سئل ابن عباس: "أقصر في الصلاة إلى عرفة؟ قال: لا ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف"(68).
واستدل أصحاب القول الثالث بما يلي:
1 – حديث ابن عمر مرفوعاً: "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم"، فجعل السفر ثلاثة أيام ولم يجعل الأقل من ذلك سفراً يوجب عليها اصطحاب المحرم فكذلك الصلاة وسائر الرخص لا تكون فيما دون ذلك، فإنه لو لم تكن مدة السير مقدرة بالثلاث لما كان للتخصيص بها معنى(69).
2 – وعن شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله، فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه فقال: "جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم"(70).
وجه الدلالة: قالوا: "فقد عمت الرخصة الجنس ومن ضرورته عموم التقدير(71) فالألف واللام للجنس فكل مسافر يمسح ثلاثة أيام فلو كان السفر أقل من ذلك لكان من المسافرين من لا يمكنه مسح ثلاثة أيام ولا يعد هذا مسافراً شرعاً(72).
3 – أن الثلاثة أقل الكثير وأكثر القليل ولا يجوز له القصر في قليل السفر فوجب أن يكون أقل الكثير (الثلاث) حداً له(73).
واستدل أصحاب القول الرابع:
بما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ (شعبة الشاك) صلى ركعتين"(74).
فدل على أن ذلك هو أقل مسافة يترخص فيها، حيث لم يصح أقل من ذلك(75).
المناقشة والترجيح:
نوقشت أدلة القول الأول بما يلي:
1 – اعترض الأحناف على الاحتجاج بالآية لأن الضرب في الأرض لغة عبارة عن السير فيها مسافراً لا مطلق السير والكلام هنا هل يصيرا لضارب في الأرض مسافراً بسير مطلق من غير اعتبار المدة؟ والنزاع في تقديره، والآية ساكتة عن ذلك فلا حجة فيها، وقد ورد الحديث بالتقدير فوجب العمل به، لأنه لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم وقد أوتي بيان القرآن أنه قصر الصلاة في أقل من مرحلتين(76).
وأجيب عن ذلك:
بما ذكره ابن حزم في قوله: "السفر هو البروز عن محل الإقامة وكذلك الضرب في الأرض، هذا الذي لا يقول أحد من أهل اللغة – التي بها خواطبنا وبها نزل القرآن – سواه، فلا يجوز أن يخرج عن هذا الحكم إلا ما صح النص بإخراجه(77)، وقال تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: من الآية185) فلم يخص الله سفراً من سفر.
ونوقشت أدلة القول الثاني بما يلي:
1 – أن الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم كثيرة ومتعارضة في تحديد مسافة السفر وما ذكروه من أقوال الصحابة معارضة بمثلها فلا حجة فيها مع الاختلاف فالذي يظهر أنهم رضي الله عنهم لم يجعلوا السفر قطع مسافة محدودة أو زمان محدود يشترك فيه جميع الناس، بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل، فمن رأوه مسافراً أثبتوا له حكم السفر ومن لا فلا، ولذا اختلف كلامهم في مقدار الزمان والمكان(78).
ولا يوجد ما يترجح به الاعتماد على رأي ابن عباس وابن عمر في تحديد المسافة بأربعة برد دون بقية ما ثبت عنهما وعن غيرهما من النصوص المعارضة، لأن النقل عن ابن عمر مختلف.
قال ابن حجر رحمه الله: "وقد اختلف عن ابن عمر في تحديد ذلك اختلافاً غير ما ذكر فروى "أن ابن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة فيه مال له بخيبر" وبين المدينة وخيبر ستة وتسعون ميلاً، وروى.. أنه قال: "يقصر من المدينة إلى السويداء"، وبينهما اثنان وسبعون ميلاً، وروى.. "أنه سافر إلى ريم فقصر الصلاة".. وهي على ثلاثين ميلاً من المدينة وروى [عنه أنه قال] (لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة)، إسناد كل منها صحيح وهذه أقوال متغايرة جداً، فالله أعلم"(79).
وعلى هذا فلا متعلق لهم ولا حجة لهم فيما ذكروه من التحديد بناء على ما رواه ابن عمر لأنه خالفه في روايات أخرى صحيحة، كما أنه معارض بما روي عن الصحابة رضي الله عنهم كما في حديث أنس وشرحبيل.
قال ابن قدامة: "لا أرى لما صار إليه الأئمة حجة، لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة ولا حجة فيها مع الاختلاف، وقد روى عن ابن عمر وابن عباس خلاف ما احتج به أصحابنا ثم لو لم يوجد ذلك لم يكن في قولهم حجة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وإذا لم تثبت أقوالهم امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكروه لوجهين: أحدهما: أنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي رويناها، ولظاهر القرآن، لأن ظاهره إباحة القصر لمن ضرب في الأرض لقوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ... الآية) (النساء: من الآية101)، وقد سقط شرط الخوف بالخبر المذكور عن يعلى بن أمية فبقي ظاهر الآية متناولاً كل ضرب في الأرض"(80).
2 – أن التقدير بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد لا سيما أنه ليس له أصل يرد إليه ولا نظير يقاس عليه(81).
3 – وأما حديث ابن عباس المرفوع ففي سنده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير وهو متروك ومجمع على شدة ضعفه ونسبه النووي إلى الكذب وقال الأزدي لا تحل الرواية عنه وإسماعيل بن عياش وهو ضعيف أيضاً فلا حجة فيه(82)، وقال شيخ الإسلام في الجواب عنه: "وهذا ما يعلم أهلا لمعرفة بالحديث أنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هو من كلام ابن عباس أفترى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حد مسافة القصر لأهل مكة دون أهل المدينة التي هي دار السنة والهجرة والنصرة، ودون سائر المسلمين؟"(83).
4 – وأما التعليل بكون هذه المسافة تجمع مشقة السفر فهو معارض بالأدلة المنقولة في إثبات القصر في أقل من هذه المسافة(84).
ونوقشت أدلة القول الثالث بما يلي:
1 – أنه لا دلالة في حديث ابن عمر على تحديد مسافة السفر للروايات الأخرى السابق ذكرها بمنعها من السفر بلا محرم مسيرة يوم وليلة ويومين وبريداً وثلاثة أيام وتقدم توجه ذلك(85).
قال الماوردي: "فقد روي مسافة يوم وروي مسافة يومين، فلما اختلفت فيه الروايات لم يجز الاستدلال به"(86) ولا تلازم بين مسافة السفر ووجوب المحرم(87)، وقال ابن حزم: "ويلزم من تعلق من الحنفيين بحديث: "لا تسافر المرأة" أن لا يرى القصر والفطر في سفر معصية، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبح لها – بلا خلاف – سفر المعصية أصلاً، وإنما أباح لها – بلا شك – أسفار الطاعات، وهذا مما أوهموا فيه من الأخبار أنهم أخذوا به وهم مخالفون له"(88).
2 – أن ابن عمر راوي هذا الحديث صح عنه القصر فيما هو دون ذلك فلو كان يراه لبيان أقل مسافة القصر لما خالفه، فتمسكهم بهذا الحديث يتعارض مع قاعدتهم في أن العبرة بما رأى الصحابي لا بما روي فلو كانا لحديث عنده لبيان أقل مسافة القصر لما خالفه(89).
3 – ليس في حديث شريح أنه لا بد أن يسافر ثلاثة أيام بل غاية ما يفهم منه أن للمسافر أن يمسح على الخف مدة ثلاثة أيام، فجاء لبيان أكثر مدة المسح ولا يقتضي أن ذلك أقل السفر كما أذن للمقيم أن يمسح يوماً وليلة، وهو لا يقتضي أن ذلك أقل الإقامة.
فلا حجة في الحديث على ما ذكروه فإنه يقدر على مسح الثلاث في مسافة يوم وليلة إذا ما سارها في ثلاث فالحاصل أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد تحديد ما يقع عليه السفر، وإنما أطلقه على ثلاثة أيام، ويومين، ويوم، وليلة، وبريد. فدل على أن الجميع يسمى سفراً(90).
وأما تعليلهم بأن الثلاث أقل الكثير فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أن الثلاث في الشرع معتبرة بحكم مادونها لا بحكم ما زاد عليها كشرط الخيار فاقتضى أن يعتبر بها في السفر ما دونها.
الثاني: أن اعتبار الثلاث فيما يتعلق بالزمان والاعتبار في السفر بالسير لا بالزمان فلا وجه لاعتباره في الثلاث(91).
ونوقشت أدلة القول الرابع:
بأن المراد بالحديث المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غايته(92).
ولا يخفى بعد هذا الحمل فإن البيهقي ذكر في روايته عن يحيى بن يزيد أنه قال: "سألت أنساً عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة – يعني من البصرة – فأصلي ركعتين حتى أرجع فقال أنس..." الحديث(93).
فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبدأ القصر منه فالصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة بل بمجاوزة البلد التي يخرج منها(94).
واعترض على الحديث بأنه مشكوك فيه(95) وبين مسلم في صحيحه بأن الشك من الراوي شعبة.
وقال ابن حجر عنه: "وهذا أصح شيء ورد في بيان ذلك وأصرحه"(96).
وهذا الحديث وإن كان فيه تحديد لمسافة القصر لكنه حكاية لفعله صلى الله عليه وسلم ولا ينفي لزوم القصر فيما دونه لوجود سببه من السفر، فليس فيا لحديث تحديد الترخيص بهذه المسافة والشارع علق صحة القصر بوجود سببه وهو السفر أخذاً من مجموع الأدلة ولا فرق بين قليله وكثيره فدلالة الحديث على التحديد للمسافة لو سلم من الاعتراضات غير قطعية(97)، فتعين العمل بالقول الذي تنتظم فيه الأدلة والأقوال بتنوع الأزمان وهو التحديد بالعرف ودلالة الحديث عليه أولى من دلالته على التحديد لأنه صلى الله عليه وسلم علق القصر على مطلق السفر ولو كان ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ فصار دليلاً لنا لا علينا.
وبهذا يترجح القول الأول لقوة أدلتهم وسلامتها مما ورد عليها من المناقشة، وضعف أدلة المخالف والجواب عنها ولكونها غير صريحة في تحديد المسافة ولإطلاق النصوص في الكتاب والسنة ولا مقيد لها، ولعمومها ولا مخصص لها وما ورد من التقييد فهو متعارض لا تقوم به حجة، ولأن التقدير بابه التوقيف وما ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه هو العرف كما قال شيخ الإسلام: "كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف، فما كان سفراً في عرف الناس فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم" وقال: "السفر لم يحده الشارع وليس له حد في اللغة فرجع فيه إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه، فقد يكون مسافراً في مسافة بريد، وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافراً، فلا بد أن يكون له ما يعد به في العرف سفراً مثل أن يتزود له ويبرز للصحراء... وبالجملة فالمسافر لم يكن مسافراً لقطعه مسافة محدودة ولا لقطعه أياماً محدودة، بل كان مسافراً لجنس العمل الذي هو السفر"(98).
وجميع ما استدل به المحددون لا ينهض استدلالاً، إما لضعفه أو لكونه غير صريح في مورد النزاع، فقد أطلق الكتاب والسنة السفر ولم يرد ما يخص سفراً من سفر فليس المسافر مسافراً لقطعه مسافة محدودة أو زمناً معيناً وإنما كان كذلك لجنس عمله الذي هو سفر مما يعرفه الناس بعاداتهم باختلاف أزمانهم وأحوالهم(99).
ولا شك أن في هذا ما يدل على مرونة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان فأعراف الناس تتغير بتغير الأزمان والأحوال والأماكن كما أنه يتفق مع سهولة الشريعة ويسرها وتخفيفها على العباد كما قال سبحانه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78)، وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185).
والظاهر من كلام الفقهاء أنهم قدروا المسافة بما يتلاءم مع زمنهم وعرفهم كما يؤيد ذلك ما نقل عنهم من أن المسافر لو قطع مسافة السفر المحددة في زمن أقل لاستعماله وسيلة أسرع فإنه يترخص لأنه مسافر في عرفهم ما دام قطع تلك المسافة التي تعد لديهم سفراً ومن أقوالهم في ذلك: "من كان يقطع المسافة بسفره قصر ولو كان يقطعها في لحظة بطيران ونحوه"(100).
يتبع
عبد الله الخضيري
أحكام الرخص الشرعية في السياحة (1)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
المسألة الأولى: تعريف الرخصة لغة واصطلاحاً:
ذكر في معجم مقاييس اللغة(1) بأن الراء والخاء والصاد أصل يدل على لين وخلاف شدة فالرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه، ورخص له في الأمر: أذن له فيه بعد النهي، والاسم الرُّخصة.
ومن ذلك: رخُص السعر إذا سهل وتيسر، أو رخصه الله فهو رخيص ورخص الشارع لنا في كذا ترخيصاً وأرخص إرخاصاً: إذا يسره وسهله، وفي الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته"(2).
وأما الرُّخَصَه – بفتح الخاء: فو الشخص الآخذ بالرخصة.
فالرُّخْصَةُ – في الجملة – تدل على سهولة ويسر ومسامحة وطراوة.
ومن هذا المعنى اللغوي أخذت الرخصة اصطلاحاً عند الأصوليين، لأنها تدل على كل معنى في الدين جنح فيه إلى التيسير والتسهيل والبعد عن العنت والتشديد(3).
والرخصة تطلق في اصطلاح علماء الأصول مقابل العزيمة فهما اسمان متقابلان متلازمان مفهوماً وعملاً.
ولاختلاف الأصوليين في تعريف العزيمة اختلفوا أيضاً في تعريف الرخصة على أقوال متعددة(4) وهي وإن اختلفت في ألفاظها وعباراتها إلا أنها تتفق تقريباً في معناها والمقصود منها والناظر فيها يتبين لها ما يلي:
أولاً: أنه لا بد للأخذ بالرخصة من دليل يدل عليها.
ثانياً: ولا بد من وجود العذر في المكلف حتى يستطيع به أن يعدل عن الحكم الأصلي الذي هو العزيمة إلى حكم الرخصة.
ثالثاً: أن أحكام الرخصة ليست هي الأحكام الأصلية بل هي أحكام وضعها الشارع للتخفيف عن المكلفين ولرفع الحرج والضيق عنهم وقد نص كثير من الأصوليين في تعريفاتهم على ذلك(5).
ولعل من أجمع التعاريف ما ذكره البيضاوي بقوله: "الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر"(6)، فقد توفرت فيه الأمور الثلاثة السابقة إضافة إلى كونه جامعاً مانعاً سالماً مما ورد على غيره من اعتراضات.
شرح التعريف وبيان محترزاته:
قوله: (حكم): جنس.
وقوله: (الثابت): فيه إشارة إلى ما سبق ذكره أولاً من أن الترخص لا بد له من دليل وإلا لزم ترك العمل بالدليل السالم عن المعارض، فنبه عليه بقوله: (الثابت)، لأنه لو لم يكن لدليل لم يكن ثابتاً بل الثابت غيره.
وقوله: (على خلاف الدليل): احترز به عما أباحه الله تعالى من الأكل والشرب وغيرهما فلا يسمى رخصة، إذ لم يثبت على المنع منه دليل، وأطلق المصنف الدليل ليشمل ما إذا كان الترخيص بجواز الفعل على خلاف الدليل المقتضي للتحريم كأكل الميتة وما إذا كان بجواز الترك، إما على جواز الفعل المقتضي للوجوب كجواز الفطر في السفر، وإما على خلاف الدليل المقتضي للندب، كترك الجماعة بعذر المطر والمرض ونحوهما فإنه رخصة بلا نزاع.
وقوله: (العذر): يعني المشقة، والحاجة، واحترز به عن شيئين:
الأول: الحكم الثابت بدليل راجح، على دليل آخر معارض له.
الثاني: التكاليف كلها فإنها أحكام ثابتة على خلاف الدليل ومع ذلك ليست برخصة لأنها لم تثبت لأجل المشقة، وإنما قلنا: إنها على خلاف الدليل لأن الأصل عدم التكاليف، والأصل من الأدلة الشرعية(7).
وبهذا يتبين وضوح هذا التعريف واشتماله على التخفيفات والرخص في الأحوال والظروف الطارئة من مرض وسفر وإكراه وضرورة وغير ذلك من الأعذار، ولو لم تكن شاقة(8).
والسياحة سفر كما تقدم، فكانت من الأعذار المبيحة للترخص.
المسألة الثانية: شروط الترخص في سفر السياحة:
لا يترخص السائح برخص السفر إلا إذا تحققت فيه الشروط التالية:
الشرط الأول: القصد، فلا بد أن يعزم في الابتداء على قطع مسافة السفر لمقصد معلوم وهو محل اتفاق بين الفقهاء(9)، فمن شخص عن بلده ولا نية له في السفر فهو مقيم لا رخصة له، وذلك كالهائم على وجهه لا يدري أين يتوجه ومن خرج لرد ضالة إلا إذا بلغ مكاناً يكون رجوعه منه إلى بلده سفراً عرفاً، فحينئذ يشرع له الترخص، ومن علق سفره بلحاق قافلة بضاحية البلد إن حصل له ذلك وإلا فلا ولم يغلب على ظنه حصول مراده فهو باق على حكم الإقامة لعدم النية وكذلك التائه عن الطريق وهو في غير سفر وكذا الصياد يتبع الطريد والسائح في الأرض لا يقصد مكاناً معيناً فلا رخصة له لعدم القصد(10)، والأصل في هذا الحديث "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، ونظير هذا في الوقت الحاضر ما يعرف "بحجز الانتظار"(11) في وسائل المواصلات الحديثة من سفن وطائرات وقطارات وحافلات.
فإذا كان المطار أو صالة الانتظار للسفر خارج العمران أو في بلدة لا يعتبر الذهاب إليها سفراً، فليس له الترخص، لأن الأصل بقاء الإقامة فلا ينتقل عن ذلك إلا بيقين أو غلبة ظن(12).
واستثنى العلماء مما تقدم: من علم في ابتداء سفره أنه لن يدرك مطلوبه قبل المسافة المحددة للترخص فله أن يترخص لعزمه ابتداء على قطع المسافة، أما من لم يعلم ذلك فلا يترخص ولو طال سفره وتجاوز مسافة الترخص(13).
قال في الإقناع: "وإن شك في قصر المسافة أو لم يعلم قدر سفره كمن خرج في طلب آبق أو ضال ناوياً أن يعود به أين وجده لم يقصره حتى يجاوز المسافة"(14).
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "عن جواز الفطر والقصر للبدوي الذي ضاعت إبله وسافر يبحث عنها لا يقصد مكاناً معيناً ولا يعلم هل يستمر سفره إلى مسافة القصر أو يجدها دونه؟"
فأجاب: "من كان بهذه الصفة المسؤول عنها فلا يستبيح رخصا لسفر حال ما يخرج من بلده حتى يجاوز المسافة فإذا جاوزها ابتدأ استباحة رخص السفر"(15).
الشرط الثاني: مفارقة محل الإقامة (عمران بلدته)
فللسائح إذا سافر أن يترخص بعد الخروج من بلده ومفارقة جميع عمرانها وذلك باتفاق الفقهاء(16).
لكن العلماء اختلفوا في اشتراط المفارقة للترخص وجواز الفطر والقصر قبل ذلك وذلك على أقوال:
القول الأول: اشتراط المفارقة فليس لمن نوى السفر أن يترخص حتى يخرج من بيوت بلده ويفارق عمرانها، ويجعلها وراء ظهره.
وهذا قول الجمهور من الأئمة الأربعة والأوزاعي وإسحاق وغيرهم، واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم وأفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة(17).
القول الثاني: لا يشترط ذلك فللمسافر أن يترخص ولو كان في بلده إذا عقد العزم وتأهب للسفر وهو رواية عن أحمد ونقله ابن حجر عن بعض الكوفيين وحكي عن عطاء وغيره واختاره ابن القيم(18).
القول الثالث: أنه إذا خرج مسافراً لا يقصر يومه ذلك إلى الليل أو عكسه. وهو مروي عن مجاهد(19).
القول الرابع: أنه إذا جاوز حيطان داره فله القصر وهو مروي عن عطاء(20).
سبب الخلاف:
معارضة مفهوم الاسم وهو السفر لدليل الفعل فإنه يعد مسافراً إذا نوى السفر وشرع فيه لكن هذا معارض بدليل الفعل منه صلى الله عليه وسلم فقد كان لا يقصر إلا إذا فارق بيته بثلاثة أميال، فمن قال بالأول أجاز القصر بمجرد نيته والشروع فيه ومن قال بالآخر اشترط المفارقة للقصر(21).
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 – قوله سبحانه: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ.. الآية) (النساء: من الآية101).
وجه الدلالة: أن الله سبحانه علق القصر على الضرب في الأرض ولا يعد ولا يكون ضارباً في الأرض حتى يخرج عن بلده ويفارقه فالمقيم لا يسمى ضارباً(22).
2 – قوله سبحانه: (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) ولا يقال لمن كان داخل البلد إنه على سفر أو مسافر حتى يفارق البلد(23).
3 – حديث أنس رضي الله عنه "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً وبذي الحليفة ركعتين" فكان صلى الله عليه وسلم يترخص بالقصر إذا خرج من المدينة وارتحل وهذا ظاهر(24).
4 – وخرج علي رضي الله عنه فقصر وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له هذه الكوفة فقال: "لا حتى ندخلها"، وفي لفظ" خرجنا مع علي بن أبي طالب فقصرنا الصلاة ونحن نرى البيوت ثم رجعنا فقصرنا الصلاة ونحن نرى البيوت"(25).
5 – وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم "أنه كان يقصر الصلاة حين يخرج من بيوت المدينة ويقصر إذا رجع حتى يدخل بيوتها"(26).
6 – وقال عبيد بن جبر: "كنت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع ثم قرب غذاؤه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة ثم قال: اقترب، قلت: ألست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل"(27).
7 – ومن المعقول: أنه لا يطلق على الشخص مسافر إلا إذا باشر السفر وفعله ولا يكون ذلك إلا بخروجه من البلد ومفارقته الدور(28).
8 – ولأنه لما وجب عليه الإتمام إذا دخل بنيان بلده عند قدومه من سفره إجماعاً وجب أن لا يجوز له القصر في ابتداء خروجه قبل مفارقة بنيان بلده(29).
9 – ولأن النية (القصد) شرط كما تقدم ولا بد من اقترانه بالفعل وهو الخروج والمفارقة وإلا فلا عبرة بمجرد النية دون ذلك لأن مجرد قصد الشيء من غير اقتران بالفعل يسمى عزماً ولا يسمى نية وفعل السفر لا يتحقق إلا بعد الخروج من المصر فما لم يخرج لا يتحقق قران النية بالفعل فلا يصير مسافراً(30).
واستدل أصحاب القول الثاني بحديث أبي بصرة السابق ذكره، وبما روي عن أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً وقد رُحِّلت له راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل، فقيل له: سنة؟ قال: سنة(31).
"ولأنه لما صار مقيماً بمجرد النية من غير فعل صار مسافراً بمجرد النية"(32).
المناقشة والترجيح:
ويمكن مناقشة ما استدل به أصحاب القول الثاني بأن استدلال الجمهور به أظهر من استدلالهم كما هو واضح من سياق النص فأبو بصرة لم يأكل حتى دفع وشرع وباشر السفر فهذا دليل للجمهور عليهم وقوله: "لم يجاوز البيوت" معناه – والله أعلم – لم يبعد منها، بدليل قول عبيد له: "ألست ترى البيوت"(33).
وأما الدليل الثاني فالحديث في سنده عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني وهو ضعيف(34)، وعلى فرض صحته فإن منزله رضي الله عنه كان في ظاهر البلد وكان عليه – في زمانهم – مشقة في الوقوف والنزول أثناء الطريق لتناول الأكل والطعام وهم حديثوا عهد بمسير وسفر فرأى أنهم يتزودون بالطعام قبل ركوبهم حتى يواصلوا المسير إلى الليل أو إلى آخر النهار دون انقطاع أو توقف، بخلاف ما عليه الحال في هذا الزمن فلا مشقة في التوقف للأكل بعد المسير(35).
وأما القياس على صيرورته مقيماً بمجرد النية فهذا قياس مع الفارق حيث إن الأصل في الإنسان هو الإقامة فيصير مقيماً بمجرد النية أما المسافر فيحتاج مع النية إلى المباشرة فافترقا(36).
وأما القولان الأخيران فقد قال ابن المنذر عن رأي مجاهد: "لم يوافقه عليه أحد"(37).
وقالا لنووي: "فهذان المذهبان – أي الثالث والرابع – فاسدان فمذهب مجاهد مناف للأحاديث الصحيحة في قصر النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة وحين خرج من المدينة ومذهب عطاء موافقيه منابذ لاسم السفر"(38).
وبهذا يترجح قول الجمهور لقوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة وضعف أدلة القول الثاني ومخالفة القول الثالث والرابع للأحاديث الصحيحة الصريحة والعرف المستقيم، ولا سيما ما يتعلق بإفطاره قبل مفارقة العمران لأن صيامه صحيح باتفاق وإفطاره مختلف فيه فالأحوط الانتظار حتى تتحقق المفارقة، ثم إن الفطر ليس هو الأفضل للمسافر مطلقاً وإنما الأفضل له فعل الأيسر في حقه ونظراً لتعدد وسائل النقل واختلاف طرق المفارقة في هذا العصر فإنه يحسن بيان المفارقة المعتبرة لكل من:
أ – أهل المدن والقرى:
تكون المفارقة في حقهم بمجاوزة جميع العمران من جهة مقصدهم حتى لا يبقى بيت متصل ولا منفصل مما هو معد للسكن واشترط الحنفية مفارقة ما كان من توابع محل الإقامة كربض المصر وهو ما حول المدينة من بيوت ومساكن والقرى المتصلة بالربض على الصحيح وأما الفناء المنفصل عن البلد المعد لمصالحه كمدافن الموتى وغيرها فلا يشترط مجاوزتها(39).
والخراب المتخلل للعمران معدود من البلد، أما المساكن الخربة في أطراف البلد فإن كانت خالية من السكان وليس ثمة عمران من ورائها فلا تشترط مجاوزتها لأنها أشبهت الصحراء(40).
لكن الشافعية اشترطوا مجاوزتها إذا كانت قائمة الحيطان ولم يحوط على العامر لإمكان السكنى فيها كما اشترطوا مجاوزة سور البلد ولو تعدد وتخلله مزارع وخراب لأن ما كان داخله فهو معدود من البلد ولو كان غير مكتمل أو بعضه منهدم والخندق في البلدة التي لا سور لها كالسور في هذا(41)، وأما الحنابلة فلا يشترط عندهم مجاوزة السور وإنما بيوت قريته العامرة سواء كانت داخل السور أو خارجه فيقصر إذا فارقها بما يقع عليه اسم المفارقة بنوع البعد عرفاً، ولا يشترط مفارقة الخراب عندهم ولو كانت حيطانه قائمة ما لم يله عامر(42).
وأما البساتين والمزارع المتصلة بالبلد فإنها لا تخلو:
1 – أن تكون غير معدة للسكن فلا يشترط مجاوزتها.
2 – أن تكون معدة للسكن ولو في بعض العام ففي اشتراط مجاوزتها خلاف على قولين:
الأول: عدم اشتراط ذلك، وهو قول الحنفية والشافعية.
الثاني: اشتراط ذلك، وهو مذهب المالكية والصحيح عند الحنابلة وقال به بعض الشافعية، ونظره النووي مع استظهاره عدم الاشتراط وقال المالكية لا يشترط مجاوزتها إلا إذا سافر من ناحيتها أو من غير ناحيتها وكان محاذياً لها وخالف بعضهم في الثانية فقال لا يشترط المجاوزة فيها، لأن غايتها أن تكون كجزء من البلد(43).
وعلل أصحاب القول الأول، بأنها ليست من البلد فلا تصير منه بإقامة بعض الناس فيها جزءاً من العام.
وعلل أصحاب القول الثاني بأنها صارت جزءاً من البلد بذلك(44).
والأقرب أن مكان ابتداء السفر هو الأرض الفضاء التي لا عمران فيها ومفارقة العمران مسألة عرفية فلا يدخل في ذلك الضياع والمزارع ولو كان الناس يقيمون فيها بعض الفصول، ومثل ذلك المعارض والمستودعات ومحطات الوقود وإن كانت مزدهرة فلا يشترط مجاوزتها.
لكن إذا كان عادة أهل البلد سكن مزارعهم بصفة دائمة كبعض أهل الأرياف فلا بد حينئذ من مجاوزتها لأنها ملحقة بالبلد ما دامت متصلة به والسكن فيها دائمة.
وإذا كان الراجح في المفارقة تقييدها بالعرف فإن من خرج من البلد يريد المطار فهو مسافر من حين خروجه وله الترخص إلا إذا كان من سكان المطار فلا لأنه لم يفارق بنيان بلده عرفاً.
وقد شاع عند بعض الناس في هذا الزمن الترخص في المطارات والموانئ ظناً منهم بأن من وصلها فقد شرع في السفر – إذا كان حجزه مؤكداً – وهذا العمل محل نظر فقد ضبط الفقهاء المفارقة المبيحة للترخص – كما تقدم – بمجاوزة عمران البلد مما يشمله اسم واحد وإن كان من مصالح البلد وتوابع الإقامة(45).
كما قال ابن عابدين "يشترط مفارقة ما كان من توابع موضع الإقامة كربض المصر وهو ما حول المدينة من بيوت ومساكن فإنه في حكم المصر... وأما الفناء وهو المكان المعد لمصالح البلد كمريض الدواب ودفن الموتى وإلقاء التراب، فإن اتصل بالمصر اعتبر مجاوزته وإن انفصل بمزرعة فلا"(46).
وعلى هذا يقال:
إن كان المطار والميناء خارج البلد منفصلاً عنه بحيث يعد الذهاب إليه خروجاً عن البلد وتحصل به مفارقة العمران فيجوز الترخص حينئذ.
أما إذا كان المطار أو الميناء متصلاً بالبلد وجزءاً منه ولا يعد الذهاب إليه خروجاً ومجاوزة ومفارقة للعمران عرفاً فلا يسوغ الترخص حينئذ والأمر مبناه على العرف كما تقدم.
ب – المسافر بحراً:
إذا كانت البلدة ساحلية وأراد المسافر الخروج في سفره بسفينة فيعتبر في مفارقته مجاوزة هذه السفينة وجريها ما لم يكن ذلك محاذياً للبلد فلا بد حينئذ من مجاوزة العمران.
وإذا لم تكن السفينة راسية على الساحل واحتيج إلى زورق ينقل إليها فيجوز الترخص بمجرد مغادرة الزورق إليها بشرط أن تكون المغادرة إليها هي الأخيرة أما ما دام يذهب ويعود فلا يجوز حينئذ لمن به ولا لمن بالسفينة أن يترخص(47).
ج – المسافر جواً:
اعتبر العلماء فيمن صعد جبلاً أن يفارق المكان المحاذي لرؤوس الحيطان واعتبر العلماء فيمن هبط جبلاً أن يفارق المكان المحاذي لأساس الحيطان لأنه لما اعتبر مفارقة البيوت إذا كانت محاذية اعتبر هنا مفارقة سمتها.
ويلحق المسافر بالطائرة بذلك فتكون المفارقة في حقه بمجرد مجاوزة الطائرة المكان المحاذي لسمت البنيان، وفي الهبوط لا يزال مسافراً حتى تحاذي الطائرة سمت البينان.
ولا يشترط للمفارقة هنا الخروج عن المجال الجوي للبلد كما قد يتوهمه البعض(48).
وهذا إذا كان المطار داخل البلد أما إذا كان منفصلاً عن البلد بحيث يعتبر الذهاب له سفراً فالمفارقة حينئذ حصلت بالخروج من البلد للمطار كما تقدم.
د – المقيم بالصحراء والخيام:
فإذا كان مقيماً في الصحراء فيشترط لترخصه مفارقته للبقعة التي فيها رحله وتنسب إليه، فإن سكن وادياً وسار في عرضه فلا بد من مجاوزة عرضه إذا كان هذا العرض معتاداً فإن أفرطت سعته لم يشترط إلا مجاوزة القدر الذي يعد موضع نزوله أو موضع الحلة التي هو منها، كما لو سافر في طول الوادي فيكفيه ذلك القدر.
وإذا كان مقيماً في خيام فيشترط لترخصه مفارقته لها جميعاً مجتمعة كانت أو متفرقة إذا كانت حلة واحدة وهي بمنزلة أبينة البلد كما صرح بذلك المالكية والشافعية والحنابلة ويشترط مع مجاوزتها مرافقها كمطرح الرماد وملعب الصبيان ومراحل الإبل، لأنها من موضع إقامتهم(49).
الشرط الثالث: مسافة السفر:
فلا بد للأخذ برخص السفر من أن تكون المراد قطعها مسافة سفر حتى إن أهل اللغة عرفوا السفر بأنه "قطع المسافة"(50)، وقد اختلف الفقهاء في تحديدها، فمنهم من حدها بطول معين أو بزمن معين ومنهم من لم يقدر مسافة للسفر وحدها بالعرف لإطلاق النصوص والأقوال في ذلك كثيرة أوصلها بعضهم إلى عشرين قولاً(51).
سبب الخلاف: معارضة المعنى المعقول للفظ المنقول.
ومرد ذلك إلى إطلاق السفر في القرآن دون تحديده بمسافة معينة، وكذلك اختلاف المسافات والمدد التي قصر فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فمن نظر إلى إطلاق النصوص، اعتبر كل من جاز إطلاق اسم مسافر عليه قد قطع مسافة السفر وجاز له الترخص، والقائلون بهذا اختلفوا في الحد الأدنى لما يعد سفراً.
ومن نظر إلى المعنى المعقول من اللفظ، قال: إن تأثير السفر في القصر هو المشقة الموجودة فيه فكل ما وجد فيه هذا المعنى فهو سفر يترخص فيه ثم اختلف هؤلاء في تحديد المسافة التي تحصل بها هذه المشقة التي يترخص بها(52).
والأقوال في ذلك كما يلي:
القول الأول: ليس للسفر مسافة محددة ويجوز الترخص في طويل السفر وقصير وهو قول الظاهرة وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن قدامة المقدسي وكثير من المعاصرين ومنهم الشيخ محمد بن إبراهيم وابن عثيمين(53).
القول الثاني: مسافة السفر المبيحة للترخص: أربعة برد، وهو ما يساوي ثمانية وأربعين ميلاً أو ستة عشر فرسخاً(54)، وهو قول ابن عمر وابن عباس والحسن وإسحاق وغيرهم وهو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة واختاره الشيخ ابن باز(55).
القول الثالث: مسافة السفر المبيحة للترخص: مسيرة ثلاثة أيام بلياليها بسير الإبل ومشي الأقدام وهو قول عثمان بن عفان وابن مسعود والثوري وابن سيرين وغيرهم، وهذا مذهب الحنفية، ولا يعتبر عندهم – على الصحيح – بالفراسخ.
وقال أبو يوسف: يومان وأكثر الثالث، وهي رواية الحسن عن أبي حنيفة(56).
القول الرابع: أقل مسافة للترخص ثلاثة أميال ونسب هذا للظاهرية(57).
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 – قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً) (النساء:101)، فالآية مطلقة والتقدير تقييد لمطلق الكتاب ولا يجوز ذلك إلا بدليل، وظاهر الآية يدل على إباحة القصر لكل من ضرب في الأرض دون تقييد بمسافة معينة، وقد سقط شرط الخوف بخبر يعلى بن أمية فبقي ظاهر الآية متناولاً كل ضرب في الأرض(58).
2 – عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في الحضر"(59).
3 – عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيك صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة"(60).
4 – عن عمر رضي الله عنه قال: "صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد"(61).
5 – عن جبير بن نفير قال: "خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلاً فصلى ركعتين، فقلت له فقال: رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين فقلت له، فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل"(62).
وجه الدلالة: أنه لم يخص الله سبحانه ولا رسوله ولا المسلمون سفراً من سفر فليس لأحد أن يخصه إلا بنص أو إجماع متيقن(63).
كما قال شيخ الإسلام: "السفر مطلق في الكتاب والسنة فليس يخصان بسفر دون سفر، لا بقصر ولا بفطر، ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم مسافة القصر بحد زماني ولا مكاني والواجب أن يطلق ما أطلقه صاحب الشرع ويقيد ما قيده"(64).
فهذه الأدلة وغيرها مما ورد في إباحة الترخص بالسفر مطلقة في كل سفر، والتحديد بمسافة معينة أو مدة أو زمن معين تقييد لمطلق الكتاب والسنة ولا يجوز ذلك إلا بدليل، كما لا يجوز التفريق بين متماثلين إلا بدليل.
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 – ما نق عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أنهما كانا يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخاً(65).
2 – وأخرجه مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في مسيره ذلك قال مالك: وذلك نحو من أربعة برد(66).
3 – وأخرج مالك عنه أن أباه ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك قال مالك: وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد(67).
3 – وعن عطاء قال: سئل ابن عباس: "أقصر في الصلاة إلى عرفة؟ قال: لا ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف"(68).
واستدل أصحاب القول الثالث بما يلي:
1 – حديث ابن عمر مرفوعاً: "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم"، فجعل السفر ثلاثة أيام ولم يجعل الأقل من ذلك سفراً يوجب عليها اصطحاب المحرم فكذلك الصلاة وسائر الرخص لا تكون فيما دون ذلك، فإنه لو لم تكن مدة السير مقدرة بالثلاث لما كان للتخصيص بها معنى(69).
2 – وعن شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله، فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه فقال: "جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم"(70).
وجه الدلالة: قالوا: "فقد عمت الرخصة الجنس ومن ضرورته عموم التقدير(71) فالألف واللام للجنس فكل مسافر يمسح ثلاثة أيام فلو كان السفر أقل من ذلك لكان من المسافرين من لا يمكنه مسح ثلاثة أيام ولا يعد هذا مسافراً شرعاً(72).
3 – أن الثلاثة أقل الكثير وأكثر القليل ولا يجوز له القصر في قليل السفر فوجب أن يكون أقل الكثير (الثلاث) حداً له(73).
واستدل أصحاب القول الرابع:
بما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ (شعبة الشاك) صلى ركعتين"(74).
فدل على أن ذلك هو أقل مسافة يترخص فيها، حيث لم يصح أقل من ذلك(75).
المناقشة والترجيح:
نوقشت أدلة القول الأول بما يلي:
1 – اعترض الأحناف على الاحتجاج بالآية لأن الضرب في الأرض لغة عبارة عن السير فيها مسافراً لا مطلق السير والكلام هنا هل يصيرا لضارب في الأرض مسافراً بسير مطلق من غير اعتبار المدة؟ والنزاع في تقديره، والآية ساكتة عن ذلك فلا حجة فيها، وقد ورد الحديث بالتقدير فوجب العمل به، لأنه لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم وقد أوتي بيان القرآن أنه قصر الصلاة في أقل من مرحلتين(76).
وأجيب عن ذلك:
بما ذكره ابن حزم في قوله: "السفر هو البروز عن محل الإقامة وكذلك الضرب في الأرض، هذا الذي لا يقول أحد من أهل اللغة – التي بها خواطبنا وبها نزل القرآن – سواه، فلا يجوز أن يخرج عن هذا الحكم إلا ما صح النص بإخراجه(77)، وقال تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: من الآية185) فلم يخص الله سفراً من سفر.
ونوقشت أدلة القول الثاني بما يلي:
1 – أن الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم كثيرة ومتعارضة في تحديد مسافة السفر وما ذكروه من أقوال الصحابة معارضة بمثلها فلا حجة فيها مع الاختلاف فالذي يظهر أنهم رضي الله عنهم لم يجعلوا السفر قطع مسافة محدودة أو زمان محدود يشترك فيه جميع الناس، بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل، فمن رأوه مسافراً أثبتوا له حكم السفر ومن لا فلا، ولذا اختلف كلامهم في مقدار الزمان والمكان(78).
ولا يوجد ما يترجح به الاعتماد على رأي ابن عباس وابن عمر في تحديد المسافة بأربعة برد دون بقية ما ثبت عنهما وعن غيرهما من النصوص المعارضة، لأن النقل عن ابن عمر مختلف.
قال ابن حجر رحمه الله: "وقد اختلف عن ابن عمر في تحديد ذلك اختلافاً غير ما ذكر فروى "أن ابن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة فيه مال له بخيبر" وبين المدينة وخيبر ستة وتسعون ميلاً، وروى.. أنه قال: "يقصر من المدينة إلى السويداء"، وبينهما اثنان وسبعون ميلاً، وروى.. "أنه سافر إلى ريم فقصر الصلاة".. وهي على ثلاثين ميلاً من المدينة وروى [عنه أنه قال] (لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة)، إسناد كل منها صحيح وهذه أقوال متغايرة جداً، فالله أعلم"(79).
وعلى هذا فلا متعلق لهم ولا حجة لهم فيما ذكروه من التحديد بناء على ما رواه ابن عمر لأنه خالفه في روايات أخرى صحيحة، كما أنه معارض بما روي عن الصحابة رضي الله عنهم كما في حديث أنس وشرحبيل.
قال ابن قدامة: "لا أرى لما صار إليه الأئمة حجة، لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة ولا حجة فيها مع الاختلاف، وقد روى عن ابن عمر وابن عباس خلاف ما احتج به أصحابنا ثم لو لم يوجد ذلك لم يكن في قولهم حجة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وإذا لم تثبت أقوالهم امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكروه لوجهين: أحدهما: أنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي رويناها، ولظاهر القرآن، لأن ظاهره إباحة القصر لمن ضرب في الأرض لقوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ... الآية) (النساء: من الآية101)، وقد سقط شرط الخوف بالخبر المذكور عن يعلى بن أمية فبقي ظاهر الآية متناولاً كل ضرب في الأرض"(80).
2 – أن التقدير بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد لا سيما أنه ليس له أصل يرد إليه ولا نظير يقاس عليه(81).
3 – وأما حديث ابن عباس المرفوع ففي سنده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير وهو متروك ومجمع على شدة ضعفه ونسبه النووي إلى الكذب وقال الأزدي لا تحل الرواية عنه وإسماعيل بن عياش وهو ضعيف أيضاً فلا حجة فيه(82)، وقال شيخ الإسلام في الجواب عنه: "وهذا ما يعلم أهلا لمعرفة بالحديث أنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هو من كلام ابن عباس أفترى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حد مسافة القصر لأهل مكة دون أهل المدينة التي هي دار السنة والهجرة والنصرة، ودون سائر المسلمين؟"(83).
4 – وأما التعليل بكون هذه المسافة تجمع مشقة السفر فهو معارض بالأدلة المنقولة في إثبات القصر في أقل من هذه المسافة(84).
ونوقشت أدلة القول الثالث بما يلي:
1 – أنه لا دلالة في حديث ابن عمر على تحديد مسافة السفر للروايات الأخرى السابق ذكرها بمنعها من السفر بلا محرم مسيرة يوم وليلة ويومين وبريداً وثلاثة أيام وتقدم توجه ذلك(85).
قال الماوردي: "فقد روي مسافة يوم وروي مسافة يومين، فلما اختلفت فيه الروايات لم يجز الاستدلال به"(86) ولا تلازم بين مسافة السفر ووجوب المحرم(87)، وقال ابن حزم: "ويلزم من تعلق من الحنفيين بحديث: "لا تسافر المرأة" أن لا يرى القصر والفطر في سفر معصية، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبح لها – بلا خلاف – سفر المعصية أصلاً، وإنما أباح لها – بلا شك – أسفار الطاعات، وهذا مما أوهموا فيه من الأخبار أنهم أخذوا به وهم مخالفون له"(88).
2 – أن ابن عمر راوي هذا الحديث صح عنه القصر فيما هو دون ذلك فلو كان يراه لبيان أقل مسافة القصر لما خالفه، فتمسكهم بهذا الحديث يتعارض مع قاعدتهم في أن العبرة بما رأى الصحابي لا بما روي فلو كانا لحديث عنده لبيان أقل مسافة القصر لما خالفه(89).
3 – ليس في حديث شريح أنه لا بد أن يسافر ثلاثة أيام بل غاية ما يفهم منه أن للمسافر أن يمسح على الخف مدة ثلاثة أيام، فجاء لبيان أكثر مدة المسح ولا يقتضي أن ذلك أقل السفر كما أذن للمقيم أن يمسح يوماً وليلة، وهو لا يقتضي أن ذلك أقل الإقامة.
فلا حجة في الحديث على ما ذكروه فإنه يقدر على مسح الثلاث في مسافة يوم وليلة إذا ما سارها في ثلاث فالحاصل أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد تحديد ما يقع عليه السفر، وإنما أطلقه على ثلاثة أيام، ويومين، ويوم، وليلة، وبريد. فدل على أن الجميع يسمى سفراً(90).
وأما تعليلهم بأن الثلاث أقل الكثير فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أن الثلاث في الشرع معتبرة بحكم مادونها لا بحكم ما زاد عليها كشرط الخيار فاقتضى أن يعتبر بها في السفر ما دونها.
الثاني: أن اعتبار الثلاث فيما يتعلق بالزمان والاعتبار في السفر بالسير لا بالزمان فلا وجه لاعتباره في الثلاث(91).
ونوقشت أدلة القول الرابع:
بأن المراد بالحديث المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غايته(92).
ولا يخفى بعد هذا الحمل فإن البيهقي ذكر في روايته عن يحيى بن يزيد أنه قال: "سألت أنساً عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة – يعني من البصرة – فأصلي ركعتين حتى أرجع فقال أنس..." الحديث(93).
فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبدأ القصر منه فالصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة بل بمجاوزة البلد التي يخرج منها(94).
واعترض على الحديث بأنه مشكوك فيه(95) وبين مسلم في صحيحه بأن الشك من الراوي شعبة.
وقال ابن حجر عنه: "وهذا أصح شيء ورد في بيان ذلك وأصرحه"(96).
وهذا الحديث وإن كان فيه تحديد لمسافة القصر لكنه حكاية لفعله صلى الله عليه وسلم ولا ينفي لزوم القصر فيما دونه لوجود سببه من السفر، فليس فيا لحديث تحديد الترخيص بهذه المسافة والشارع علق صحة القصر بوجود سببه وهو السفر أخذاً من مجموع الأدلة ولا فرق بين قليله وكثيره فدلالة الحديث على التحديد للمسافة لو سلم من الاعتراضات غير قطعية(97)، فتعين العمل بالقول الذي تنتظم فيه الأدلة والأقوال بتنوع الأزمان وهو التحديد بالعرف ودلالة الحديث عليه أولى من دلالته على التحديد لأنه صلى الله عليه وسلم علق القصر على مطلق السفر ولو كان ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ فصار دليلاً لنا لا علينا.
وبهذا يترجح القول الأول لقوة أدلتهم وسلامتها مما ورد عليها من المناقشة، وضعف أدلة المخالف والجواب عنها ولكونها غير صريحة في تحديد المسافة ولإطلاق النصوص في الكتاب والسنة ولا مقيد لها، ولعمومها ولا مخصص لها وما ورد من التقييد فهو متعارض لا تقوم به حجة، ولأن التقدير بابه التوقيف وما ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه هو العرف كما قال شيخ الإسلام: "كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف، فما كان سفراً في عرف الناس فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم" وقال: "السفر لم يحده الشارع وليس له حد في اللغة فرجع فيه إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه، فقد يكون مسافراً في مسافة بريد، وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافراً، فلا بد أن يكون له ما يعد به في العرف سفراً مثل أن يتزود له ويبرز للصحراء... وبالجملة فالمسافر لم يكن مسافراً لقطعه مسافة محدودة ولا لقطعه أياماً محدودة، بل كان مسافراً لجنس العمل الذي هو السفر"(98).
وجميع ما استدل به المحددون لا ينهض استدلالاً، إما لضعفه أو لكونه غير صريح في مورد النزاع، فقد أطلق الكتاب والسنة السفر ولم يرد ما يخص سفراً من سفر فليس المسافر مسافراً لقطعه مسافة محدودة أو زمناً معيناً وإنما كان كذلك لجنس عمله الذي هو سفر مما يعرفه الناس بعاداتهم باختلاف أزمانهم وأحوالهم(99).
ولا شك أن في هذا ما يدل على مرونة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان فأعراف الناس تتغير بتغير الأزمان والأحوال والأماكن كما أنه يتفق مع سهولة الشريعة ويسرها وتخفيفها على العباد كما قال سبحانه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78)، وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185).
والظاهر من كلام الفقهاء أنهم قدروا المسافة بما يتلاءم مع زمنهم وعرفهم كما يؤيد ذلك ما نقل عنهم من أن المسافر لو قطع مسافة السفر المحددة في زمن أقل لاستعماله وسيلة أسرع فإنه يترخص لأنه مسافر في عرفهم ما دام قطع تلك المسافة التي تعد لديهم سفراً ومن أقوالهم في ذلك: "من كان يقطع المسافة بسفره قصر ولو كان يقطعها في لحظة بطيران ونحوه"(100).
يتبع