ابو وليد البحيرى
2019-06-25, 10:12 PM
الحذف في الآيات الكونية في القرآن الكريم
ودوره في التماسك النصي
الباحث/ عبد الفضيل عبد العظيم عبد الفضيل محمد([·])
مقدمة:
يعد الحذف من الوسائل المهمة في دراسة النص؛ لأنه يؤدي إلى تماسك النص؛ فيصبح النص مفهوما واضحا في وقت قصير؛ فلا يصاب المتلقي بالملل، ولا يصاب النص بالخلل لأن الحذف لا يكون إلا بدليل وفي ذلك يقول ابن جني: "قد حذفت العرب الجملة والمفرد والحرف والحركة. وليس شيء من ذلك إلا عن دليل عليه. وإلا كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب في معرفته" ([1]).
إن اللغات الإنسانية تميل إلى الإيجاز، ولاسيما اللغة العربية، فالحذف" ظاهرة لغوية تشترك فيها اللغات الإنسانية؛ حيث يميل الناطقون إلى حذف بعض العناصر المكررة في الكلام، أو حذف ما قد يمكن للسامع فهمه اعتمادا على القرائن المصاحبة حالية كانت أو عقلية أو لفظية" ([2]) فلو قال كل إنسان ما يريد قوله لضاق عليه العمر ومل منه السامع.
أسباب اختيار الموضوع:
إن الحذف كما قال عنه الإمام عبد القاهر الجرجاني" باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر شبيه بالسحر، فإنك ترى ترك الذكر أفصح من الذكر والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن" ([3]). فلا شك أن العلاقة بينهما علاقة تفاعل، أخذ وعطاء، وتبادل تأثيري مستمر؛ فأراد الباحث أن يقف على بعض أسرار هذا الحذف قدر استطاعته.
الحذف يقوم بدور فعال في تماسك النص، وبخاصة النص القرآني الحكيم.
تنوع العناصر المحذوفة حتى قيل إنها شملت جميع عناصر بناء الجملة؛ "فنجد أنها تبدأ من حذف الحركة أو الصوت ثم الحرف ثم الكلمة ثم العبارة ثم الجملة ثم أكثر من جهلة" ([4]).
الوقوف على مظاهر الاتفاق والاختلاف بين دارسي الحذف في القديم والحديث.
محاولة تطبيق نظريات الحذف في نحو النص على النص القرآني المقدس ولاسيما أن نظريات هذا العلم يطبقها علماء نحو النص في الغرب على المقالات الصحفية والنشرات الإخبارية وغيرهما.
تحقيق متعة البحث بالوقوف على العناصر المحذوفة فتطمئن النفس ويقوى الفكر مع تعدد توجيهات العلماء في تقدير المحذوف كل حسب خلفيته المعرفية.
الهدف من هذه الدراسة:
ذكر الآيات الكريمة التي وقع فيها الحذف.
تقسيم المحذوفات إلى محذوفات اسمية وفعلية ومحذوفات الجملة.
بيان دور المتلقي في تقدير المحذوف وموضعه.
بيان دليل الحذف.
بيان مرجعية المحذوف سواء أكانت مرجعية خارجية أم داخلية سابقة أو لاحقة.
بيان أغراض الحذف في الآيات الكونية.
بيان أثر الحذف في تحقيق التماسك النصي.
وأحاول الوصول إلى هذه الأهداف من خلال المحاور الآتية:
تعريف الحذف لغة واصطلاحا.
أنواع الحذف.
أغراض الحذف.
دور الحذف في تحقيق التماسك النصي.
حذف العنصر الاسمي.
حذف العنصر الفعلي.
حذف الجملة.
أولا: الحذف في اللغة:
تتعدد معاني الحذف في اللغة ما بين:
الإسقاط.
الرمي بالشيء.
الإيجاز والإسراع في القول.
صغر الحجم.
جاء في المصباح المنير: "حذفته حذفا من باب (ضرَبَ): قطعته، وقال ابن فارس: "(حذفت) رأسه بالسيف قطعت منه قطعة، و(حذف) في قوله: أوجز وأسرع فيه، وحذف الشيء (حذفا) -أيضا-أسقطه منه، ويقال(حذف) من شعره ومن ذنب الدابة إذا قصر منه، و(حذَّف) بالتثقيل: مبالغة، وكل شيء أخذت من نواحيه حتى سويته فقد حذفته" ([5]).
وفي (تاج العروس): "حَذَف: حذفه يحذفه حذفا: أسقطه، وحذفه من شعره: إذا أخذه وكذا من ذَنَب. وحذفه حذفا: قطعه من طرفه، والحجام يحذف الشعر من ذلك... وحذف السلام حذفا: خففه ولم يطل القوم به" ([6]).
وجاء في (المغرب في ترتيب المعرب) أن: "الحَذْف: القطع والإسقاط ومنه فرَسٌ محذوف الذنب أو العُرْف: أي مقطوعه ويجعل عبارة عن ترك التطويل والتمطيط في الأذان والقراءة وهو من باب ضرب" ([7]).
فإذا نظرنا إلى ما ورد في (المصباح المنير): "وحذف في قوله أوجز وأسرع"، وفي (المغرب في ترتيب المعرب)" ويجعل عبارة عن ترك التطويل والتمطيط في الآذان والقراءة" فإن ذلك يعد لمحة-ولو يسيرة- إلى أن الحذف ورد في بعض المعاجم اللغوية بمعنى الإيجاز والاختصار، بل إن ما ورد في الفائق من قول:كأنها سميت حذفا: لأنها محذوفة عن مقدار الكبار يعد إشارة مجازية إلى الصغر واختصار الحجم.
ثانيا: الحذف في الاصطلاح
يمكن عرض الحذف الاصطلاحي على النحو التالي:
ابن جني( ت: 392 هـ)
عقد بابا في الخصائص بعنوان (باب في شجاعة العربية)، قال فيه: "اعلم أن معظم ذلك إنما هو الحذف، والزيادة، والتقديم، والتأخير، والحمل على المعنى والتحريف" ([8]).
فالحذف هو أول موضوع في شجاعة العربية عند ابن جني ثم يشير إلى أنواع الحذف عند العرب فيقول: "قد حذفت العرب الجملة، والمفرد، والحرف، والحركة، وليس شيء من ذلك إلا عن دليل عليه" ([9])، ثم يذكر أمثلة متعددة ومتنوعة لهذه الحذوف دون أن يقدم تعريفا للحذف.
عبد القاهر الجرجاني( ت: 482 هـ):
قال عن الحذف: "هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك تري به ترك الذكر، أفصح من الذكر والصمت عن الإفادة، أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبين" ([10]) فهو-رحمه الله-يشير إلى قيمة الحذف وأهميته، ثم يعرض أنواعا للحذف دون أن يذكر تعريفا له.
الزركشى( ت: 794 هـ):
يعرف الحذف بقوله: "إسقاط جزء الكلام أو كله لدليل" ([11]) فهو يشير في ذلك إلى حذف الجملة والجمل، والمفرد والحرف والحركة إذا اعتبرناها جزءا من الحرف، كما يربط هذا التعريف بالمعنى اللغوي للحذف وهو الإسقاط حيث ذكر في صدر الموضوع أن: "الحذف لغة: الإسقاط"([12]).
وفي العصر الحديث يعرف الأستاذ الدكتور علي أبو المكارم الحذف فيقول: "إسقاط لصيغ داخل النص التركيبي في بعض المواقف اللغوية، وهذه الصيغ يفترض وجودها نحويا، لسلامة التركيب وتطبيقا للقواعد ([13]).
إن استخدام لفظ (إسقاط) يشير إلى التلازم بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي على الأقل في المعنى العام الجامع بين الكلمتين.
إن هذا التعريف يشير إلى معنى الحذف، والموقف الذي يتم فيه الحذف، والهدف من تقدير هذا المنحذف وهو "سلامة التركيب وتطبيق القاعدة".
أما معجم المصطلحات الألسنية فيعرف الحذف بقوله: "أن نحذف صوتا أو مقطعا أو كلمة أو عبارة من تركيب ما، وذلك وفقا لما يسمح به نظام اللغة: كحذف الفعل أو الفاعل أو المفعول به إذا دلت عليه قرينة ما" ([14])، وهذا التعريف يذكر أنواع الحذف وفقا لنظام اللغة دون ذكر تعريف الحذف. ويخلص البحث من ذلك إلى أن الحذف هو: إسقاط عنصر أو أكثر من عناصر البنية التركيبية؛ لغرض ما في وجود قرينة دالة على هذا المنحذف.
أنواع الحذف:
إن الحذف سمة من سمات اللغات الإنسانية، وبخاصة اللغة العربية، لأنها لغة إيجاز، وقد تحدث النحاة عن أنواع الحذف وقسموها إلى ([15]):
الأول: حذف المسند: وهو الحكم الصادر من المتكلم منسوبا إلى المسند إليه، "نحو: [أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا] (الرعد 35) أي: كذلك" ([16]) حيث حذف الخبر لدلالة الأول عليه، ومن ذلك قول الأعشى ([17]): (المنسرح).
إذ محلا وإن مرتحلا
وإن في السفر إذ مضوا مهلا
حيث حذف الخبر، والتقدير: إن لنا محلا، والحذف هنا للعناية بذكر الخبر "وحسن حذف الخبر أن العناية منه إنما هي بإثبات المحل والمرتحل دون غيره" ([18]).
الثاني: حذف المسند إليه: وهو موضوع الكلام أو المتحدث عنه، ويسمى -أيضا-المحكوم عليه، ومن ذلك قول الشاعر ([19]): (الخفيف)
قال لي: كيف أنت؟ قلت عليل
سهر دائم وحزن طويل
ومعناه ظاهر، والشاهد فيه حذف المسند إليه للاحتراز عن العبث مع ضيق المقام، وهو قوله: عليل؛ أي أنا عليل" ([20]).
الثالث: حذف أحد متعلقات الفعل كالمفعول أو الحال أو التمييز:
ومن ذلك حذف المفعول به في قصة موسى-عليه السلام-: من باب التركيز على الفعل دون النظر إلى المفعول: "ومن بديع ذلك قوله-عز وجل-[وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)] (القصص 23- 24). فإن المفعول به قد حذف في هاتين الآيتين أربعة مواضع؛ إذ المعنى وجد أمة من الناس يسقون (مواشيهم) وامرأتين تذودان (مواشيهما) وقالتا لا نسقي(مواشينا) فسقى لهما (مواشيهما)؛ لأن الغرض أن يعلم أنه كان من الناس سقي ومن المرأتين ذود وأنهما قالتا: لا يكون منا سقى حتى يصدر الرعاء وأنه كان من موسى عليه السلام بعد ذلك سقي فأما كون المسقي غنما أو إبلا أو غير ذلك فخارج عن الغرض" ([21]).
الرابع: حذف الجملة ([22]) تحذف الجملة كثيرا مثل حذف جملة جواب الشرط في قوله-تعالى [وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ] (النور: 10) حيث حذف جواب الشرط للعلم به، والتقدير: لهلكتم.
الخامس: حذف أكثر من جملتين:
ويعرف هذا الحذف من خلال السياق الذي يرد فيه ومن ذلك قوله تعالى [وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ...] (يوسف 45-46) حيث حذف (فأرسلوه، فأتى يوسف- عليه السلام- فقال)، وهذا ما أكده الزمخشري بقوله :"المعنى فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه، فقال: [يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ]" ([23]).
ما ترك النحاة -رحمهم الله-عنصرا من عناصر بناء التركيب اللغوي إلا تحدثوا عنه، وقد كان حديثهم وافيا وشاملا، وتنوع بين الوجوب والجواز، واختلف بين الاطراد والشذوذ، وعلى الرغم هذا التنوع والاختلاف يبقى الحذف ظاهرة لغوية كبرى تكشف كثيرا من جوانب تفسير النص اللغوي حتى تكون الرسالة اللغوية واضحة بعيدة عن اللبس واختلال الفهم.
من أغراض الحذف:
إن أغراض الحذف هي الأهداف التي جعلت المتحدث باللغة يستخدم الحذف "فالأغراض هي الأهداف البعيدة التي يقصدها الناطق متى يجنح إلى حذف بعض العناصر" ([24]).
لقد اهتم النحاة بالحذف الذي تقتضيه صناعة النحو أما الحذف البلاغي، فكان اهتمام علماء البلاغة به أعظم وفي ذلك يقول ابن هشام: "الحذف الذي يلزم النحوي النظر فيه هو ما اقتضته الصناعة، وذلك بأن يجد خبرا بدون مبتدأ أو بالعكس، أو شرطا بدون جزاء أو بالعكس، أو معطوفا بدون معطوف عليه، أو معمولا بدون عامل، نحو: [لَيَقُولُنَّ اللَّهُ] (العنكبوت 61) ونحو [قَالُوا خَيْرًا] (النحل 30) ونحو: (خير عافاك الله) وأما قولهم في نحو [سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ] (النحل 81) إن التقدير والبرد، ونحو: [وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)] ( الشعراء ) أن التقدير: ولم تعبدني، فضول في النحو وإنما ذلك للمفسر، وكذا قولهم: يحذف الفاعل لعظمته وحقارة المفعول أو بالعكس أو للجهل به أو للخوف عليه أو منه أو نحو ذلك، فإنه تطفل منهم على صناعة البيان" ([25]).
لعل ما يعده ابن هشام تطفلا على صناعة البيان يراه الأستاذ الدكتور/ مصطفى ناصف في صميم علم النحو حيث يقول: "فالنحو ليس موضوعا يحفل به المشتغلون بالمثل اللغوية، والذين يرون إقامة الحدود بين الصواب والخطأ أو يرون الصواب رأيا واحدا، النحو مشغلة الفنانين والشعراء. والشعراء أو الفنانون هم الذين يفهمون النحو، أو هم الذين يبدعون النحو، فالنحو إبداع" ([26]) ومن أجل ذلك كان على البحث أن يبين لماذا يعمد الناطق باللغة إلى الحذف بل إن ابن هشام نفسه يذكر بعض أغراض الحذف البلاغية عند قوله:(يحذف الفاعل لعظمته وحقارة المفعول أو بالعكس أو للجهل به أو للخوف عليه أو منه أو نحو ذلك، فإنه تطفل منهم إلى صناعة البيان) كما ذكر كثير من النحاة ([27]) بعض الأغراض البلاغية للحذف، ومن أغراض الحذف ([28]):
الإيجاز والاختصار عند قيام القرائن نحو: الهلال والله، أي هذا، فحذف المبتدأ استغناء عنه بقرينة شهادة الحال، إذ لو ذكره كان عبثا من القول .
التخفيف لكثرة دورانه في الكلام، مثل حذف حرف النداء في نحو، قوله تعالى-: [رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] (البقرة:201)، ومن ذلك أيضا حذف نون (يكن) في نحو قوله-تعالى-: [يَا بُنَيَّ أنها إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ] (لقمان16) ومما يؤكد ذلك قول سيبويه: "هذا باب يحذف المستثنى فيه استخفافا وذلك قوله: ليس غير وليس إلا كأنه قال: ليس إلا ذاك وليس غير ذاك، ولكنهم حذفوا ذلك تخفينا واكتفاء بعلم المخاطب" ([29]).
ظهور المعنى:
ومن ذلك إذا حذف الفاعل، وأسند الفعل إلى نائب الفاعل كقوله -تعالى-: [وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] (البقرة 203) فحذف الفاعل للعلم الواضح به وهو الله-تعالي.
ومن ذلك أيضا قوله -تعالي-: [وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] (البقرة 42) حيث حذف مفعول(تعلمون) "للعلم به، والتقدير: تعلمون الحق من الباطل" ([30]).
ومن ذلك أيضا قوله -تعالي-: [إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] (البقرة 173) "أي فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه، وإنما حذف للعلم به" ([31]).
وإذا فهم المعنى دون ذكر بعض عناصر الجملة فالحذف أولى من الذكر؛ لأنه "إذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عيا" ([32]).
تحقير شأن المحذوف: ومن ذلك قوله-تعالى-: [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ] (البقرة 18) فلم يذكر المولى-جل وعلا-هؤلاء الصم البكم العمي تحقيرا لشأنهم، ومن ذلك قولك: خائن لوطنه عميل فيقال لك من هو؟ فتقول: لا يستحق أن أذكر اسمه.
تشريف شأن المحذوف:
ومن ذلك قوله-تعالى: [قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .....] (الشعراء 23- 24)، حيث أضمر موسى -عليه السلام- في إجابته اسم الله -تعالى- تعظيما له في ثلاثة مواضع وهي (رَبُّ السَّمَاوَاتِ) و(رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ) و(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)؛ "لأنه -عليه السلام- استعظم حال فرعون وإقدامه على السؤال، وأضمر اسم الله -تعالى- تعظيما وتفخيما ([33])، وخاصة أن فرعون -عليه اللعنة- كان سؤاله استنكارا فاكتفى موسى -عليه السلام- بالإخبار وذكر صفات الرب الذي يسأل عنه فرعون.
إن أغراض الحذف سالفة الذكر قليل من كثير فهي تتعدد وتتنوع وفق التركيب اللغوي الذي يأتي فيه الحذف، وقد ألمح القزويني إلى ذلك حيث ختم أغراض الحذف بقوله: "وإما لاعتبار آخر مناسب لا يهدى إلى مثله إلا العقل السليم، والطبع المستقيم ([34])، فقد فتح بهذه العبارة الباب على مصراعيه أمام العقل السليم والطبع المستقيم لاستنباط العشرات من أغراض الحذف التي قد تتعدد حسب الموقف الذي تقال فيه، ثم أضاف قائلا "وقيام القرينة شرط في الجميع" ([35])؛ لأنه لا يصح الحذف إلا مع القرينة، واعتبار البلاغة إنما يكون بعد اعتبار الصحة اللغوية.
دور الحذف في التماسك النصي:
لقد تناول علماء نحو النص ظاهرة الحذف لأنها عنصر رئيس في بيان العلاقات الرابطة بين أجزاء التركيب اللغوي فينقل الدكتور محمد خطابي عن هاليداي ورقية حسن أن الحذف: "علاقة داخل النص وفي معظم الأمثلة يوجد العنصر المفترض في النص، السابق وهذا يعني أن الحذف علاقة قبلية" ([36])، فالحذف يرتبط بعنصر تركيبي في جملة سابقة ويقدر هذا المحذوف بناء على سياق المقال أو سياق الموقف.
والحذف الذي يحقق التماسك النصي هو الحذف الذي يدل عليه دليل قولي داخل النص "والذي يهمنا هو وجود هذا الدليل على مستوي أكثر من جملة فإذا كان المحذوف في جملة، والدال عليه مذكور في جملة أخرى سواء أكانت في هذا النص أم في نص غيره بشرط كون النصين من قائل واحد، فإن هذا يسهم في الحقيقة في تحقيق تماسك هاتين الجملتين أو هذه الجمل خاصة إذا كان المحذوف من لفظ المذكور، أو يترادف معه أو يتقابل" ([37]).
إن الحذف يعطي النص نوعا من التماسك وقوة التلازم بين عناصر التركيب اللغوي ف "الحذف وسيلة من وسائل الترابط الظاهر على سطح النص، يؤدي دوره المنوط به بجوار عناصر سبك النص الأخرى مثل: الإحالة والتكرار، مع احتفاظ كل من هذه الوسائل بطبيعة ووظيفة مميزة ومنفردة" ([38]). فالحذف إذا وسيلة تماسك وسبك لا وسيلة تباعد وفصل بين عناصر التركيب اللغوي.
ويرى الدكتور: سعد مصلوح أن الحذف هو" تكرار البني مع إسقاط بعض عناصر التعبير" ([39]) فالحذف علاقة داخل النص، لا نستطيع معرفة المحذوف وغرضه إلا من خلال السياق الذي تم فيه الحذف، "والحذف من مسببات التماسك النصي بين المحذوف والمذكور" ([40])، والحذف الذي يحدث تماسكا داخل النصي يكون بين جملتين أو أكثر داخل النص؛ "فإن أهمية دور الحذف في الاتساق ينبغي البحث عنه في العلاقة بين الجمل وليس داخل الجملة الواحدة" ([41]).
وعند دراسة دور الحذف في تحقيق التماسك النصي نقوم ب ([42]).
ذكر النماذج التي يراد تحليلها.
تحديد وظائف عناصر الجملة.
البحث عن المعلومات التي تهدينا إلى المحذوف، مثل: السياق المقامي والسياق اللفظي المتمثل في وجود دليل على المحذوف سابق أو لاحق؛ فأينما يوجد الحذف يوجد الدليل عليه.
صلة هذا الحذف بالتماسك النصي وذلك عبر محورين:
التكرار باللفظ نفسه، وبالمعنى فقط أو كليهما معا.
المرجعية سابقة أو لاحقة.
ويمكن تناول ظاهرة الحذف في الآيات الكونية في القرآن الكريم على النحو التالي:
أولا حذف العنصر الاسمي:
حذف المبتدأ:
يحذف المبتدأ من الكلام، ومن ذلك حذف المبتدأ من الآيات الكونية في القرآن الكريم فقد حذف أربع عشرة مرة ([43])، ومن ذلك:
قولهم: عز وجل [وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] (البقرة)
حيث حذف المبتدأ من قوله (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، والتقدير: (هو بديع السماوات)، وهذا الموضع "من المواضع التي يطرد فيها حذف المبتدأ القطع والاستئناف يبدؤون بذكر الرجل ويقدمون بعض أمره ثم يدعون الكلام الأول ويستأنفون كلاما آخر. وإذا فعلوا ذلك أتوا في أكثر الأمر بخبر من غير مبتدأ" ([44]) فقد بدأت الآية الكريمة بذكر (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وهذا دليل على المبتدأ المحذوف (هو) الذي تكرر بمعناه إذ يعود إلى لفظ الجلالة الذي ذكر في الآية السابقة، وذكر الدليل ومرجعية المبتدأ المحذوف يؤديان إلى التماسك النصي. وهذا يدل الحذف يدل على قدرة الله -تعالى- على خلق ما في السماوات وما في الأرض على غير مثال سابق.
ومن مواضع حذف المبتدأ حذفه بعد الاستفهام كما في قوله -عز وجل-: [وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)] (الطارق)
والتقدير: "هو: أي الطارق النجم الثاقب" ([45])، ودل على حذف المبتدأ (الطارق) مرجعيته في جملة الاستفهام "فقد تحقق التماسك النصي من خلال تكرار اللفظ نفسه بعد إعادة المحذوف (الطارق)، والمرجعية هنا داخلية سابقة، وقام الدليل على هذا المبتدأ المحذوف؛ لأنه جاء في جواب الاستفهام، وحذف المبتدأ "يكثر في جواب الاستفهام" ([46]) ف "ظهر التماسك على مستوى أكثر من جملة، وظهرت أهمية الدليل المذكور" ([47]). وحذف المبتدأ هنا للتشويق وإثارة الذهن خاصة بعد الاستفهام الذي يفخم شأن هذا الطارق الذي يأتي ليلا ويثقب الظلام بضوئه.
ومن المواضع التي حذف فيها المبتدأ في الآيات الكونية قوله -تعالى- [قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)] (الشعراء).
حيث حذف المبتدأ ثلاث مرات قبل الأخبار: التي جاءت جوابا على سؤال فرعون (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) و(رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ) و(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) وتحقق التماسك النصي من خلال التكرار بين كل من المذكور والمحذوف (رَبُّ الْعَالَمِينَ) في الفظ والمعنى، والمرجعية هنا داخلية سابقة وجاء الحذف هنا بعد القول في إطار الاستفهام حيث بين موسى عليه السلام بعض مظاهر القدرة الإلهية ليثبت عجز فرعون المخلوق عن فعل شيء من أفعال الخالق -جل وعلا- وهذا الموضع من المواضع التي يكثر فيها حذف المبتدأ وفي ذلك يقول السيوطي: "ويكثر بعد القول نحو: [وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ] (الفرقان 5)" ([48]).
ثانيا حذف الخبر:
يحذف الخبر إذا دل عليه دليل، وقد حذف الخبر في الآيات الكونية سبع مرات ([49]).
ومن ذلك حذفه في قوله -تعالى-: [أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)] ( النمل).
حيث حذف الخبر أربع مرات في هذه الآيات الكريمة دل على ذلك استخدام تركيب (أمن) المكون من [أمْ و مَنْ و(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ- جَعَلَ الْأَرْضَ- يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ- يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ- يَبْدَأُ الْخَلْقَ) الذي يحتاج إلى معادل يساوي ما تقدم ويكون تقدير هذا الخبر المحذوف في هذه الآيات على الترتيب: (كمن لم يخلق، كمن لم يجعل، كمن لم يجب، كمن لم يهد)، وتحقق التماسك من خلال المحذوف الذي يتقابل مع المذكور في المعنى فالمذكور مثبت والمحذوف اللفظ نفسخ لكنه سبق بأداة نفي، و المرجعية داخلية سابقة والحذف -هنا- يدل على قدرة الله تعالى إذا ما قورنت بعجز تلك الآلهة المزعومة التي لا تقدر على (خلق السموات والأرض، ولا جعل الأرض قرارا، ولا إجابة دعاء المضطر، ولا هداية السائرين في ظلمات البر والبحر، ولا بدء الخلق ولا إعادته)؛ لذا يجب الإيمان بالله القادر على كل شيء.
ومن ذلك -أيضا-قوله -تعالى-: [قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم ْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ..] (الرعد 16) حيث حذف الخبر، وتقديره: (قل الله رب السموات والأرض) وتحقق التماسك النصي من خلال التكرار بين المذكور والمحذوف (رب السموات والأرض)، والمرجعية داخلية سابقة بين جملة الاستفهام وجملة الجواب، حذف المفعول به يعرف الرضي المفعول به بقوله: "والأقرب في رسم المفعول به أن يقال: هو ما يصح أن يعبر عنه باسم مفعول غير مقيد مصوغ من عامله المثبت أو المجعول مثبتا" ([50]).
والمفعول به يحذف كثيرا، ومن المواضع التي يكثر حذفه فيها:
حذف المفعول به بعد أفعال المشيئة:
حذف المفعول به بعد أفعال المشيئة في الآيات الكونية في القرآن الكريم إحدى وثلاثين مرة ([51])، ومن ذلك قوله- تعالى-: [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ(4 3)] (النور 43) حيث حذف مفعول المشيئة، والتقدير: (فيصيب به من يشاء إصابته ويصرفه عن من يشاء صرفه)، والمفعول به المقدر من لفظ الفعل السابق، ودليل الحذف مقالي، والمرجعية داخلية سابقة فتحقق بذلك التماسك النص.
والإصابة والصرف بمقتضى حكمه الله وإرادته، وهذا الحذف للعلم به؛ لأن سياق الآية دال عليه.
ومن ذلك قوله تعالى: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)] (القصص)، حيث حذف مفعول المشيئة، والتقدير: (يخلق ما يشاء خلقه ويختار ما يشاء اختياره)، والمفعول به المقدر من لفظ الفعل السابق، ودليل الحذف مقالي، والمرجعية داخلية سابقة فتحقق بذلك التماسك النص والحذف هنا يفيد القدرة المطلقة لله- تعالى- في عموم الخلق والمشيئة؛ فالله- تعالى –"يخلق ما يشاء ممن يريد خلقهم ويختار من يشاء لما يشاء ممن يشاء من عباده لما يشاء من كمال أو نقصان. أما عبيده فليس لهم حق الاختيار وإنما عليهم السمع والطاعة" ([52]).
حذف العائد المنصوب:
لقد حذف العائد المنصوب في الآيات الكونية سبعا وأربعين مرة ([53]) ومن ذلك أيضا قوله-تعالى [وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)] (الذاريات)
حيث حذف العائد المنصوب، والتقدير: (وما توعدونه)، والضمير المحذوف عائد إلى(ما) وطابقها في التذكير والإفراد فأدى ذلك إلى التماسك داخل الجملة الواحدة، والمرجعية داخلية سابقة والحذف هنا للعموم؛ لأن الضمير المحذوف يقصد به "الجنة، أو هي النار، أو أمر الساعة، أو من خير وشر، أو من ثواب وعقاب، أقوال المراد بها التمثيل لا التعيين" ([54])؛ لذا كان الحذف ليذهب العقل في تقدير المحذوف كل مذهب.
حذف المفعول به بعد نفي العلم وما في معناه:
حذف المفعول به بعد نفي العلم وما في معناه في الآيات الكونية تسعا وعشرين مرة ([55])، ومن ذلك قوله تعالى [قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)] (القصص).
حيث حذف مفعول كل من الفعلين: (تسمعون، تبصرون)، والتقدير: "أفلا تسمعون الكلام المشتمل على التذكير بأن الله هو خالق الليل والضياء ...تبصرون الأشياء الدالة على عظيم صنع الله وتفرده بصنعها وهي منهم بمرأى الأعين" ([56]). ودليل الحذف لغوي؛ لأن الفعلين متعديان فكل منهما يحتاج إلى مفعول به، والمرجعية هنا خارجية، ودور المتلقي واضح في تقدير المفعولين حيث يرى الزركشي أن "الغرض إثبات المعنى الذي دل عليه الفعل لفاعل غبر متعلق بغيره" ([57]).
ومن ذلك أيضا قوله -تعالى-: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)] (البقرة).
حيث حذف مفعول الفعل (يعقلون)، والتقدير: (مظاهر الخلق) والمفعول المحذوف يتفق في المعنى مع ما ذكر من مظاهر الخلق قبلها، والمرجعية داخلية سابقة الناطقة بوحدانيته؛ والحذف هنا للتعريض بعقول من لا يؤمن بالله تعالى مع وجود هذه الأدلة القاطعة. "وهناك شبه ظاهرة في النص القرآني تتمثل في فواصل آياته؛ فأغلبها فواصل محذوف ما بعدها عناصر كثيرة، وذلك ليترك للمتلقي الفرصة لتقدير هذه المحذوفات، وهذا التقدير يجعله يتعامل مع دلالة النص، وعليه يتحقق فهمه وفك شفرته، وهذا هو الهدف من النص؛ الفهم ثم العمل" ([58]).
يتبع
ودوره في التماسك النصي
الباحث/ عبد الفضيل عبد العظيم عبد الفضيل محمد([·])
مقدمة:
يعد الحذف من الوسائل المهمة في دراسة النص؛ لأنه يؤدي إلى تماسك النص؛ فيصبح النص مفهوما واضحا في وقت قصير؛ فلا يصاب المتلقي بالملل، ولا يصاب النص بالخلل لأن الحذف لا يكون إلا بدليل وفي ذلك يقول ابن جني: "قد حذفت العرب الجملة والمفرد والحرف والحركة. وليس شيء من ذلك إلا عن دليل عليه. وإلا كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب في معرفته" ([1]).
إن اللغات الإنسانية تميل إلى الإيجاز، ولاسيما اللغة العربية، فالحذف" ظاهرة لغوية تشترك فيها اللغات الإنسانية؛ حيث يميل الناطقون إلى حذف بعض العناصر المكررة في الكلام، أو حذف ما قد يمكن للسامع فهمه اعتمادا على القرائن المصاحبة حالية كانت أو عقلية أو لفظية" ([2]) فلو قال كل إنسان ما يريد قوله لضاق عليه العمر ومل منه السامع.
أسباب اختيار الموضوع:
إن الحذف كما قال عنه الإمام عبد القاهر الجرجاني" باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر شبيه بالسحر، فإنك ترى ترك الذكر أفصح من الذكر والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن" ([3]). فلا شك أن العلاقة بينهما علاقة تفاعل، أخذ وعطاء، وتبادل تأثيري مستمر؛ فأراد الباحث أن يقف على بعض أسرار هذا الحذف قدر استطاعته.
الحذف يقوم بدور فعال في تماسك النص، وبخاصة النص القرآني الحكيم.
تنوع العناصر المحذوفة حتى قيل إنها شملت جميع عناصر بناء الجملة؛ "فنجد أنها تبدأ من حذف الحركة أو الصوت ثم الحرف ثم الكلمة ثم العبارة ثم الجملة ثم أكثر من جهلة" ([4]).
الوقوف على مظاهر الاتفاق والاختلاف بين دارسي الحذف في القديم والحديث.
محاولة تطبيق نظريات الحذف في نحو النص على النص القرآني المقدس ولاسيما أن نظريات هذا العلم يطبقها علماء نحو النص في الغرب على المقالات الصحفية والنشرات الإخبارية وغيرهما.
تحقيق متعة البحث بالوقوف على العناصر المحذوفة فتطمئن النفس ويقوى الفكر مع تعدد توجيهات العلماء في تقدير المحذوف كل حسب خلفيته المعرفية.
الهدف من هذه الدراسة:
ذكر الآيات الكريمة التي وقع فيها الحذف.
تقسيم المحذوفات إلى محذوفات اسمية وفعلية ومحذوفات الجملة.
بيان دور المتلقي في تقدير المحذوف وموضعه.
بيان دليل الحذف.
بيان مرجعية المحذوف سواء أكانت مرجعية خارجية أم داخلية سابقة أو لاحقة.
بيان أغراض الحذف في الآيات الكونية.
بيان أثر الحذف في تحقيق التماسك النصي.
وأحاول الوصول إلى هذه الأهداف من خلال المحاور الآتية:
تعريف الحذف لغة واصطلاحا.
أنواع الحذف.
أغراض الحذف.
دور الحذف في تحقيق التماسك النصي.
حذف العنصر الاسمي.
حذف العنصر الفعلي.
حذف الجملة.
أولا: الحذف في اللغة:
تتعدد معاني الحذف في اللغة ما بين:
الإسقاط.
الرمي بالشيء.
الإيجاز والإسراع في القول.
صغر الحجم.
جاء في المصباح المنير: "حذفته حذفا من باب (ضرَبَ): قطعته، وقال ابن فارس: "(حذفت) رأسه بالسيف قطعت منه قطعة، و(حذف) في قوله: أوجز وأسرع فيه، وحذف الشيء (حذفا) -أيضا-أسقطه منه، ويقال(حذف) من شعره ومن ذنب الدابة إذا قصر منه، و(حذَّف) بالتثقيل: مبالغة، وكل شيء أخذت من نواحيه حتى سويته فقد حذفته" ([5]).
وفي (تاج العروس): "حَذَف: حذفه يحذفه حذفا: أسقطه، وحذفه من شعره: إذا أخذه وكذا من ذَنَب. وحذفه حذفا: قطعه من طرفه، والحجام يحذف الشعر من ذلك... وحذف السلام حذفا: خففه ولم يطل القوم به" ([6]).
وجاء في (المغرب في ترتيب المعرب) أن: "الحَذْف: القطع والإسقاط ومنه فرَسٌ محذوف الذنب أو العُرْف: أي مقطوعه ويجعل عبارة عن ترك التطويل والتمطيط في الأذان والقراءة وهو من باب ضرب" ([7]).
فإذا نظرنا إلى ما ورد في (المصباح المنير): "وحذف في قوله أوجز وأسرع"، وفي (المغرب في ترتيب المعرب)" ويجعل عبارة عن ترك التطويل والتمطيط في الآذان والقراءة" فإن ذلك يعد لمحة-ولو يسيرة- إلى أن الحذف ورد في بعض المعاجم اللغوية بمعنى الإيجاز والاختصار، بل إن ما ورد في الفائق من قول:كأنها سميت حذفا: لأنها محذوفة عن مقدار الكبار يعد إشارة مجازية إلى الصغر واختصار الحجم.
ثانيا: الحذف في الاصطلاح
يمكن عرض الحذف الاصطلاحي على النحو التالي:
ابن جني( ت: 392 هـ)
عقد بابا في الخصائص بعنوان (باب في شجاعة العربية)، قال فيه: "اعلم أن معظم ذلك إنما هو الحذف، والزيادة، والتقديم، والتأخير، والحمل على المعنى والتحريف" ([8]).
فالحذف هو أول موضوع في شجاعة العربية عند ابن جني ثم يشير إلى أنواع الحذف عند العرب فيقول: "قد حذفت العرب الجملة، والمفرد، والحرف، والحركة، وليس شيء من ذلك إلا عن دليل عليه" ([9])، ثم يذكر أمثلة متعددة ومتنوعة لهذه الحذوف دون أن يقدم تعريفا للحذف.
عبد القاهر الجرجاني( ت: 482 هـ):
قال عن الحذف: "هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك تري به ترك الذكر، أفصح من الذكر والصمت عن الإفادة، أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبين" ([10]) فهو-رحمه الله-يشير إلى قيمة الحذف وأهميته، ثم يعرض أنواعا للحذف دون أن يذكر تعريفا له.
الزركشى( ت: 794 هـ):
يعرف الحذف بقوله: "إسقاط جزء الكلام أو كله لدليل" ([11]) فهو يشير في ذلك إلى حذف الجملة والجمل، والمفرد والحرف والحركة إذا اعتبرناها جزءا من الحرف، كما يربط هذا التعريف بالمعنى اللغوي للحذف وهو الإسقاط حيث ذكر في صدر الموضوع أن: "الحذف لغة: الإسقاط"([12]).
وفي العصر الحديث يعرف الأستاذ الدكتور علي أبو المكارم الحذف فيقول: "إسقاط لصيغ داخل النص التركيبي في بعض المواقف اللغوية، وهذه الصيغ يفترض وجودها نحويا، لسلامة التركيب وتطبيقا للقواعد ([13]).
إن استخدام لفظ (إسقاط) يشير إلى التلازم بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي على الأقل في المعنى العام الجامع بين الكلمتين.
إن هذا التعريف يشير إلى معنى الحذف، والموقف الذي يتم فيه الحذف، والهدف من تقدير هذا المنحذف وهو "سلامة التركيب وتطبيق القاعدة".
أما معجم المصطلحات الألسنية فيعرف الحذف بقوله: "أن نحذف صوتا أو مقطعا أو كلمة أو عبارة من تركيب ما، وذلك وفقا لما يسمح به نظام اللغة: كحذف الفعل أو الفاعل أو المفعول به إذا دلت عليه قرينة ما" ([14])، وهذا التعريف يذكر أنواع الحذف وفقا لنظام اللغة دون ذكر تعريف الحذف. ويخلص البحث من ذلك إلى أن الحذف هو: إسقاط عنصر أو أكثر من عناصر البنية التركيبية؛ لغرض ما في وجود قرينة دالة على هذا المنحذف.
أنواع الحذف:
إن الحذف سمة من سمات اللغات الإنسانية، وبخاصة اللغة العربية، لأنها لغة إيجاز، وقد تحدث النحاة عن أنواع الحذف وقسموها إلى ([15]):
الأول: حذف المسند: وهو الحكم الصادر من المتكلم منسوبا إلى المسند إليه، "نحو: [أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا] (الرعد 35) أي: كذلك" ([16]) حيث حذف الخبر لدلالة الأول عليه، ومن ذلك قول الأعشى ([17]): (المنسرح).
إذ محلا وإن مرتحلا
وإن في السفر إذ مضوا مهلا
حيث حذف الخبر، والتقدير: إن لنا محلا، والحذف هنا للعناية بذكر الخبر "وحسن حذف الخبر أن العناية منه إنما هي بإثبات المحل والمرتحل دون غيره" ([18]).
الثاني: حذف المسند إليه: وهو موضوع الكلام أو المتحدث عنه، ويسمى -أيضا-المحكوم عليه، ومن ذلك قول الشاعر ([19]): (الخفيف)
قال لي: كيف أنت؟ قلت عليل
سهر دائم وحزن طويل
ومعناه ظاهر، والشاهد فيه حذف المسند إليه للاحتراز عن العبث مع ضيق المقام، وهو قوله: عليل؛ أي أنا عليل" ([20]).
الثالث: حذف أحد متعلقات الفعل كالمفعول أو الحال أو التمييز:
ومن ذلك حذف المفعول به في قصة موسى-عليه السلام-: من باب التركيز على الفعل دون النظر إلى المفعول: "ومن بديع ذلك قوله-عز وجل-[وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)] (القصص 23- 24). فإن المفعول به قد حذف في هاتين الآيتين أربعة مواضع؛ إذ المعنى وجد أمة من الناس يسقون (مواشيهم) وامرأتين تذودان (مواشيهما) وقالتا لا نسقي(مواشينا) فسقى لهما (مواشيهما)؛ لأن الغرض أن يعلم أنه كان من الناس سقي ومن المرأتين ذود وأنهما قالتا: لا يكون منا سقى حتى يصدر الرعاء وأنه كان من موسى عليه السلام بعد ذلك سقي فأما كون المسقي غنما أو إبلا أو غير ذلك فخارج عن الغرض" ([21]).
الرابع: حذف الجملة ([22]) تحذف الجملة كثيرا مثل حذف جملة جواب الشرط في قوله-تعالى [وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ] (النور: 10) حيث حذف جواب الشرط للعلم به، والتقدير: لهلكتم.
الخامس: حذف أكثر من جملتين:
ويعرف هذا الحذف من خلال السياق الذي يرد فيه ومن ذلك قوله تعالى [وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ...] (يوسف 45-46) حيث حذف (فأرسلوه، فأتى يوسف- عليه السلام- فقال)، وهذا ما أكده الزمخشري بقوله :"المعنى فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه، فقال: [يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ]" ([23]).
ما ترك النحاة -رحمهم الله-عنصرا من عناصر بناء التركيب اللغوي إلا تحدثوا عنه، وقد كان حديثهم وافيا وشاملا، وتنوع بين الوجوب والجواز، واختلف بين الاطراد والشذوذ، وعلى الرغم هذا التنوع والاختلاف يبقى الحذف ظاهرة لغوية كبرى تكشف كثيرا من جوانب تفسير النص اللغوي حتى تكون الرسالة اللغوية واضحة بعيدة عن اللبس واختلال الفهم.
من أغراض الحذف:
إن أغراض الحذف هي الأهداف التي جعلت المتحدث باللغة يستخدم الحذف "فالأغراض هي الأهداف البعيدة التي يقصدها الناطق متى يجنح إلى حذف بعض العناصر" ([24]).
لقد اهتم النحاة بالحذف الذي تقتضيه صناعة النحو أما الحذف البلاغي، فكان اهتمام علماء البلاغة به أعظم وفي ذلك يقول ابن هشام: "الحذف الذي يلزم النحوي النظر فيه هو ما اقتضته الصناعة، وذلك بأن يجد خبرا بدون مبتدأ أو بالعكس، أو شرطا بدون جزاء أو بالعكس، أو معطوفا بدون معطوف عليه، أو معمولا بدون عامل، نحو: [لَيَقُولُنَّ اللَّهُ] (العنكبوت 61) ونحو [قَالُوا خَيْرًا] (النحل 30) ونحو: (خير عافاك الله) وأما قولهم في نحو [سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ] (النحل 81) إن التقدير والبرد، ونحو: [وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)] ( الشعراء ) أن التقدير: ولم تعبدني، فضول في النحو وإنما ذلك للمفسر، وكذا قولهم: يحذف الفاعل لعظمته وحقارة المفعول أو بالعكس أو للجهل به أو للخوف عليه أو منه أو نحو ذلك، فإنه تطفل منهم على صناعة البيان" ([25]).
لعل ما يعده ابن هشام تطفلا على صناعة البيان يراه الأستاذ الدكتور/ مصطفى ناصف في صميم علم النحو حيث يقول: "فالنحو ليس موضوعا يحفل به المشتغلون بالمثل اللغوية، والذين يرون إقامة الحدود بين الصواب والخطأ أو يرون الصواب رأيا واحدا، النحو مشغلة الفنانين والشعراء. والشعراء أو الفنانون هم الذين يفهمون النحو، أو هم الذين يبدعون النحو، فالنحو إبداع" ([26]) ومن أجل ذلك كان على البحث أن يبين لماذا يعمد الناطق باللغة إلى الحذف بل إن ابن هشام نفسه يذكر بعض أغراض الحذف البلاغية عند قوله:(يحذف الفاعل لعظمته وحقارة المفعول أو بالعكس أو للجهل به أو للخوف عليه أو منه أو نحو ذلك، فإنه تطفل منهم إلى صناعة البيان) كما ذكر كثير من النحاة ([27]) بعض الأغراض البلاغية للحذف، ومن أغراض الحذف ([28]):
الإيجاز والاختصار عند قيام القرائن نحو: الهلال والله، أي هذا، فحذف المبتدأ استغناء عنه بقرينة شهادة الحال، إذ لو ذكره كان عبثا من القول .
التخفيف لكثرة دورانه في الكلام، مثل حذف حرف النداء في نحو، قوله تعالى-: [رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] (البقرة:201)، ومن ذلك أيضا حذف نون (يكن) في نحو قوله-تعالى-: [يَا بُنَيَّ أنها إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ] (لقمان16) ومما يؤكد ذلك قول سيبويه: "هذا باب يحذف المستثنى فيه استخفافا وذلك قوله: ليس غير وليس إلا كأنه قال: ليس إلا ذاك وليس غير ذاك، ولكنهم حذفوا ذلك تخفينا واكتفاء بعلم المخاطب" ([29]).
ظهور المعنى:
ومن ذلك إذا حذف الفاعل، وأسند الفعل إلى نائب الفاعل كقوله -تعالى-: [وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] (البقرة 203) فحذف الفاعل للعلم الواضح به وهو الله-تعالي.
ومن ذلك أيضا قوله -تعالي-: [وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] (البقرة 42) حيث حذف مفعول(تعلمون) "للعلم به، والتقدير: تعلمون الحق من الباطل" ([30]).
ومن ذلك أيضا قوله -تعالي-: [إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] (البقرة 173) "أي فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه، وإنما حذف للعلم به" ([31]).
وإذا فهم المعنى دون ذكر بعض عناصر الجملة فالحذف أولى من الذكر؛ لأنه "إذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عيا" ([32]).
تحقير شأن المحذوف: ومن ذلك قوله-تعالى-: [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ] (البقرة 18) فلم يذكر المولى-جل وعلا-هؤلاء الصم البكم العمي تحقيرا لشأنهم، ومن ذلك قولك: خائن لوطنه عميل فيقال لك من هو؟ فتقول: لا يستحق أن أذكر اسمه.
تشريف شأن المحذوف:
ومن ذلك قوله-تعالى: [قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .....] (الشعراء 23- 24)، حيث أضمر موسى -عليه السلام- في إجابته اسم الله -تعالى- تعظيما له في ثلاثة مواضع وهي (رَبُّ السَّمَاوَاتِ) و(رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ) و(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)؛ "لأنه -عليه السلام- استعظم حال فرعون وإقدامه على السؤال، وأضمر اسم الله -تعالى- تعظيما وتفخيما ([33])، وخاصة أن فرعون -عليه اللعنة- كان سؤاله استنكارا فاكتفى موسى -عليه السلام- بالإخبار وذكر صفات الرب الذي يسأل عنه فرعون.
إن أغراض الحذف سالفة الذكر قليل من كثير فهي تتعدد وتتنوع وفق التركيب اللغوي الذي يأتي فيه الحذف، وقد ألمح القزويني إلى ذلك حيث ختم أغراض الحذف بقوله: "وإما لاعتبار آخر مناسب لا يهدى إلى مثله إلا العقل السليم، والطبع المستقيم ([34])، فقد فتح بهذه العبارة الباب على مصراعيه أمام العقل السليم والطبع المستقيم لاستنباط العشرات من أغراض الحذف التي قد تتعدد حسب الموقف الذي تقال فيه، ثم أضاف قائلا "وقيام القرينة شرط في الجميع" ([35])؛ لأنه لا يصح الحذف إلا مع القرينة، واعتبار البلاغة إنما يكون بعد اعتبار الصحة اللغوية.
دور الحذف في التماسك النصي:
لقد تناول علماء نحو النص ظاهرة الحذف لأنها عنصر رئيس في بيان العلاقات الرابطة بين أجزاء التركيب اللغوي فينقل الدكتور محمد خطابي عن هاليداي ورقية حسن أن الحذف: "علاقة داخل النص وفي معظم الأمثلة يوجد العنصر المفترض في النص، السابق وهذا يعني أن الحذف علاقة قبلية" ([36])، فالحذف يرتبط بعنصر تركيبي في جملة سابقة ويقدر هذا المحذوف بناء على سياق المقال أو سياق الموقف.
والحذف الذي يحقق التماسك النصي هو الحذف الذي يدل عليه دليل قولي داخل النص "والذي يهمنا هو وجود هذا الدليل على مستوي أكثر من جملة فإذا كان المحذوف في جملة، والدال عليه مذكور في جملة أخرى سواء أكانت في هذا النص أم في نص غيره بشرط كون النصين من قائل واحد، فإن هذا يسهم في الحقيقة في تحقيق تماسك هاتين الجملتين أو هذه الجمل خاصة إذا كان المحذوف من لفظ المذكور، أو يترادف معه أو يتقابل" ([37]).
إن الحذف يعطي النص نوعا من التماسك وقوة التلازم بين عناصر التركيب اللغوي ف "الحذف وسيلة من وسائل الترابط الظاهر على سطح النص، يؤدي دوره المنوط به بجوار عناصر سبك النص الأخرى مثل: الإحالة والتكرار، مع احتفاظ كل من هذه الوسائل بطبيعة ووظيفة مميزة ومنفردة" ([38]). فالحذف إذا وسيلة تماسك وسبك لا وسيلة تباعد وفصل بين عناصر التركيب اللغوي.
ويرى الدكتور: سعد مصلوح أن الحذف هو" تكرار البني مع إسقاط بعض عناصر التعبير" ([39]) فالحذف علاقة داخل النص، لا نستطيع معرفة المحذوف وغرضه إلا من خلال السياق الذي تم فيه الحذف، "والحذف من مسببات التماسك النصي بين المحذوف والمذكور" ([40])، والحذف الذي يحدث تماسكا داخل النصي يكون بين جملتين أو أكثر داخل النص؛ "فإن أهمية دور الحذف في الاتساق ينبغي البحث عنه في العلاقة بين الجمل وليس داخل الجملة الواحدة" ([41]).
وعند دراسة دور الحذف في تحقيق التماسك النصي نقوم ب ([42]).
ذكر النماذج التي يراد تحليلها.
تحديد وظائف عناصر الجملة.
البحث عن المعلومات التي تهدينا إلى المحذوف، مثل: السياق المقامي والسياق اللفظي المتمثل في وجود دليل على المحذوف سابق أو لاحق؛ فأينما يوجد الحذف يوجد الدليل عليه.
صلة هذا الحذف بالتماسك النصي وذلك عبر محورين:
التكرار باللفظ نفسه، وبالمعنى فقط أو كليهما معا.
المرجعية سابقة أو لاحقة.
ويمكن تناول ظاهرة الحذف في الآيات الكونية في القرآن الكريم على النحو التالي:
أولا حذف العنصر الاسمي:
حذف المبتدأ:
يحذف المبتدأ من الكلام، ومن ذلك حذف المبتدأ من الآيات الكونية في القرآن الكريم فقد حذف أربع عشرة مرة ([43])، ومن ذلك:
قولهم: عز وجل [وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] (البقرة)
حيث حذف المبتدأ من قوله (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، والتقدير: (هو بديع السماوات)، وهذا الموضع "من المواضع التي يطرد فيها حذف المبتدأ القطع والاستئناف يبدؤون بذكر الرجل ويقدمون بعض أمره ثم يدعون الكلام الأول ويستأنفون كلاما آخر. وإذا فعلوا ذلك أتوا في أكثر الأمر بخبر من غير مبتدأ" ([44]) فقد بدأت الآية الكريمة بذكر (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وهذا دليل على المبتدأ المحذوف (هو) الذي تكرر بمعناه إذ يعود إلى لفظ الجلالة الذي ذكر في الآية السابقة، وذكر الدليل ومرجعية المبتدأ المحذوف يؤديان إلى التماسك النصي. وهذا يدل الحذف يدل على قدرة الله -تعالى- على خلق ما في السماوات وما في الأرض على غير مثال سابق.
ومن مواضع حذف المبتدأ حذفه بعد الاستفهام كما في قوله -عز وجل-: [وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)] (الطارق)
والتقدير: "هو: أي الطارق النجم الثاقب" ([45])، ودل على حذف المبتدأ (الطارق) مرجعيته في جملة الاستفهام "فقد تحقق التماسك النصي من خلال تكرار اللفظ نفسه بعد إعادة المحذوف (الطارق)، والمرجعية هنا داخلية سابقة، وقام الدليل على هذا المبتدأ المحذوف؛ لأنه جاء في جواب الاستفهام، وحذف المبتدأ "يكثر في جواب الاستفهام" ([46]) ف "ظهر التماسك على مستوى أكثر من جملة، وظهرت أهمية الدليل المذكور" ([47]). وحذف المبتدأ هنا للتشويق وإثارة الذهن خاصة بعد الاستفهام الذي يفخم شأن هذا الطارق الذي يأتي ليلا ويثقب الظلام بضوئه.
ومن المواضع التي حذف فيها المبتدأ في الآيات الكونية قوله -تعالى- [قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)] (الشعراء).
حيث حذف المبتدأ ثلاث مرات قبل الأخبار: التي جاءت جوابا على سؤال فرعون (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) و(رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ) و(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) وتحقق التماسك النصي من خلال التكرار بين كل من المذكور والمحذوف (رَبُّ الْعَالَمِينَ) في الفظ والمعنى، والمرجعية هنا داخلية سابقة وجاء الحذف هنا بعد القول في إطار الاستفهام حيث بين موسى عليه السلام بعض مظاهر القدرة الإلهية ليثبت عجز فرعون المخلوق عن فعل شيء من أفعال الخالق -جل وعلا- وهذا الموضع من المواضع التي يكثر فيها حذف المبتدأ وفي ذلك يقول السيوطي: "ويكثر بعد القول نحو: [وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ] (الفرقان 5)" ([48]).
ثانيا حذف الخبر:
يحذف الخبر إذا دل عليه دليل، وقد حذف الخبر في الآيات الكونية سبع مرات ([49]).
ومن ذلك حذفه في قوله -تعالى-: [أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)] ( النمل).
حيث حذف الخبر أربع مرات في هذه الآيات الكريمة دل على ذلك استخدام تركيب (أمن) المكون من [أمْ و مَنْ و(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ- جَعَلَ الْأَرْضَ- يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ- يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ- يَبْدَأُ الْخَلْقَ) الذي يحتاج إلى معادل يساوي ما تقدم ويكون تقدير هذا الخبر المحذوف في هذه الآيات على الترتيب: (كمن لم يخلق، كمن لم يجعل، كمن لم يجب، كمن لم يهد)، وتحقق التماسك من خلال المحذوف الذي يتقابل مع المذكور في المعنى فالمذكور مثبت والمحذوف اللفظ نفسخ لكنه سبق بأداة نفي، و المرجعية داخلية سابقة والحذف -هنا- يدل على قدرة الله تعالى إذا ما قورنت بعجز تلك الآلهة المزعومة التي لا تقدر على (خلق السموات والأرض، ولا جعل الأرض قرارا، ولا إجابة دعاء المضطر، ولا هداية السائرين في ظلمات البر والبحر، ولا بدء الخلق ولا إعادته)؛ لذا يجب الإيمان بالله القادر على كل شيء.
ومن ذلك -أيضا-قوله -تعالى-: [قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم ْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ..] (الرعد 16) حيث حذف الخبر، وتقديره: (قل الله رب السموات والأرض) وتحقق التماسك النصي من خلال التكرار بين المذكور والمحذوف (رب السموات والأرض)، والمرجعية داخلية سابقة بين جملة الاستفهام وجملة الجواب، حذف المفعول به يعرف الرضي المفعول به بقوله: "والأقرب في رسم المفعول به أن يقال: هو ما يصح أن يعبر عنه باسم مفعول غير مقيد مصوغ من عامله المثبت أو المجعول مثبتا" ([50]).
والمفعول به يحذف كثيرا، ومن المواضع التي يكثر حذفه فيها:
حذف المفعول به بعد أفعال المشيئة:
حذف المفعول به بعد أفعال المشيئة في الآيات الكونية في القرآن الكريم إحدى وثلاثين مرة ([51])، ومن ذلك قوله- تعالى-: [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ(4 3)] (النور 43) حيث حذف مفعول المشيئة، والتقدير: (فيصيب به من يشاء إصابته ويصرفه عن من يشاء صرفه)، والمفعول به المقدر من لفظ الفعل السابق، ودليل الحذف مقالي، والمرجعية داخلية سابقة فتحقق بذلك التماسك النص.
والإصابة والصرف بمقتضى حكمه الله وإرادته، وهذا الحذف للعلم به؛ لأن سياق الآية دال عليه.
ومن ذلك قوله تعالى: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)] (القصص)، حيث حذف مفعول المشيئة، والتقدير: (يخلق ما يشاء خلقه ويختار ما يشاء اختياره)، والمفعول به المقدر من لفظ الفعل السابق، ودليل الحذف مقالي، والمرجعية داخلية سابقة فتحقق بذلك التماسك النص والحذف هنا يفيد القدرة المطلقة لله- تعالى- في عموم الخلق والمشيئة؛ فالله- تعالى –"يخلق ما يشاء ممن يريد خلقهم ويختار من يشاء لما يشاء ممن يشاء من عباده لما يشاء من كمال أو نقصان. أما عبيده فليس لهم حق الاختيار وإنما عليهم السمع والطاعة" ([52]).
حذف العائد المنصوب:
لقد حذف العائد المنصوب في الآيات الكونية سبعا وأربعين مرة ([53]) ومن ذلك أيضا قوله-تعالى [وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)] (الذاريات)
حيث حذف العائد المنصوب، والتقدير: (وما توعدونه)، والضمير المحذوف عائد إلى(ما) وطابقها في التذكير والإفراد فأدى ذلك إلى التماسك داخل الجملة الواحدة، والمرجعية داخلية سابقة والحذف هنا للعموم؛ لأن الضمير المحذوف يقصد به "الجنة، أو هي النار، أو أمر الساعة، أو من خير وشر، أو من ثواب وعقاب، أقوال المراد بها التمثيل لا التعيين" ([54])؛ لذا كان الحذف ليذهب العقل في تقدير المحذوف كل مذهب.
حذف المفعول به بعد نفي العلم وما في معناه:
حذف المفعول به بعد نفي العلم وما في معناه في الآيات الكونية تسعا وعشرين مرة ([55])، ومن ذلك قوله تعالى [قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)] (القصص).
حيث حذف مفعول كل من الفعلين: (تسمعون، تبصرون)، والتقدير: "أفلا تسمعون الكلام المشتمل على التذكير بأن الله هو خالق الليل والضياء ...تبصرون الأشياء الدالة على عظيم صنع الله وتفرده بصنعها وهي منهم بمرأى الأعين" ([56]). ودليل الحذف لغوي؛ لأن الفعلين متعديان فكل منهما يحتاج إلى مفعول به، والمرجعية هنا خارجية، ودور المتلقي واضح في تقدير المفعولين حيث يرى الزركشي أن "الغرض إثبات المعنى الذي دل عليه الفعل لفاعل غبر متعلق بغيره" ([57]).
ومن ذلك أيضا قوله -تعالى-: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)] (البقرة).
حيث حذف مفعول الفعل (يعقلون)، والتقدير: (مظاهر الخلق) والمفعول المحذوف يتفق في المعنى مع ما ذكر من مظاهر الخلق قبلها، والمرجعية داخلية سابقة الناطقة بوحدانيته؛ والحذف هنا للتعريض بعقول من لا يؤمن بالله تعالى مع وجود هذه الأدلة القاطعة. "وهناك شبه ظاهرة في النص القرآني تتمثل في فواصل آياته؛ فأغلبها فواصل محذوف ما بعدها عناصر كثيرة، وذلك ليترك للمتلقي الفرصة لتقدير هذه المحذوفات، وهذا التقدير يجعله يتعامل مع دلالة النص، وعليه يتحقق فهمه وفك شفرته، وهذا هو الهدف من النص؛ الفهم ثم العمل" ([58]).
يتبع