مشاهدة النسخة كاملة : أحكام خطبة الجمعة وآدابها*** متجدد
ابو وليد البحيرى
2019-06-23, 10:14 AM
أحكام خطبة الجمعة وآدابها
المبحث الأول: معنى الخطبة وحكمها
معنى الخطبة لغة: الخُطبة بضم الخاء، مأخوذة من خاطب يخاطب مخاطبة، وهي الكلام بين متكلم وسامع؛ الـخُطْبَةَ عندَ العَرَب: الكلامُ الـمَنْثُورُ الـمُسَجَّع، ونـحوهُ.. والـخُطْبَة مثلُ الرِّسَالَةِ، التـي لَهَا أَوَّلٌ وآخِرٌ([1]) وقيل: كلام منثور مؤلف يخاطِب به الفرد الجماعة.
وفي الاصطلاح: حمد وصلاة وتهليل وموعظة وذكر يسبق صلاة الجمعة
بعد الزوال([2]).
أو هي كلام منثور يُلقَى على جمع من الناس، تُذكَر فيه البسملة والحمد والثناء على الله سبحانه، والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحاجة([3]).
وأما حكمها فقد سبق وأن}بينا أنها شرط لصحة صلاة الجمعة باتفاق المذاهب الأربعة لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائمًا ثم يجلس، ثم يقوم، قال: كما تفعلون اليوم))([4]).
([1]) ينظر: "لسان العرب" (1/361). "القاموس المحيط" (ص81).
([2]) "حاشية الطحطاوي على الدر المختار" (1/342).
([3]) محمد رواس قلعجي، "معجم لغة الفقهاء" (174).
([4]) رواه البخاري (878) (1/311) ومسلم (861) (2/589).
ابو وليد البحيرى
2019-06-23, 10:16 AM
[size=6]أحكام خطبة الجمعة وآدابها
المبحث الثاني: شروط خطبة الجمعة
ذكر العلماء لخطبة الجمعة شروطًا كثيرة؛ ولكنهم اتفقوا على بعضها، واختلفوا على البعض الآخر.
أما الشروط المتفق عليها([1]) فخمسة، وإليك بيانها:
الشرط الأول: كونُها في الوقت:
اتفق الفقهاء([2]) على أن من شروط خطبة الجمعة أن تكون في الوقت، على خلاف بينهم في تحديد الوقت، كما سبق بيانه في شروط صحة الجمعة.
واستدلوا لهذا الشرط بعدة أدلة:
1- حديث السائب بن زيد رضي الله عنه الذي قال فيه: ((كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس، زاد النداء الثالث على الزوراء))([3]).
2- أنه لما كانت الخطبة شرطًا لصحة الجمعة، وجب أن يشترط لها ما اشترط في الجمعة، فلو خطب قبل الوقت لا تصح.
الشرط الثاني: أن تكون الخطبة قبل الصلاة:
اتفق العلماء([4]) على أن من شروط خطبة الجمعة كونها قبل الصلاة، ولا تصح بعدها، فإن أخرها أعيدت الصلاة إن قرب الزمن، وإن طال أعيدتا؛ لأنهما مع الصلاة كركعتين من الظهر.
واستدلوا على ذلك بما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم؛ حيث كانوا يقدمون الخطبة على الصلاة يوم الجمعة.
الشرط الثالث: أن تكون الخطبة بحضرة عدد ممن تنعقد بهم الجمعة:
سبق وأن بينا العدد الذي اشترطه الفقهاء لصحة الجمعة، وبينَّا خلافهم في هذا العدد، وقد شرطوا فيمن يعتبر لهذا العدد أن يكون ذكرًا حرًّا مكلفًا مستوطنًا، فهؤلاء هم الذين تنعقد بهم الجمعة، وقد اتفق الفقهاء على أن هذا العدد مشروط للخطبة، كما هو مشروط للصلاة؛ وذلك ليتحقق المعنى المراد من الخطبة.
الشرط الرابع: أن تكون الخطبة جهرًا وبصوت مرتفع:
وذلك أن المقصود من الخطبة الموعظة والتذكير، فلابد من الجهر بِها لكي يتحقق هذا المقصود ويتذكر الحاضرون([5]).
الشرط الخامس: أن يكون الخطيب ذكرًا، وأن تصح إمامته للقوم([6]):
وذلك متفق عليه بين الفقهاء؛ إذ الجمعة لا تجب على النساء، ولا تنعقد بهن.
أما الشروط المختلف فيها([7]) فإليك بيانها:
1- أن تكون خطبتان يجلل بينهما جلسة خفيفة، وإلى ذلك ذهب المالكية والشافعية والحنابلة([8]) لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الحنفية([9]) فذهبوا إلى أن خطبة واحدة تجزئ لصحة الجمعة.
2- أن تكون الخطبة باللغة العربية: وهذا هو قول جمهور العلماء([10]) خلافًا لأبي حنيفة([11]) الذي قال بجواز الخطبة بغير العربية، وذهب المالكية([12]) والشافعية([13]) إلى أنه إن لم يكن فيهم من يحسن العربية فلا تجب الخطبة عليهم لانتفاء هذا الشرط، وقيّد هذا القول بعضهم باعتباره في أركان الخطبة فقط دون غيرها([14])، وذهب الحنابلة([15]) إلى أنه إن لم يوجد من يحسن الخطبة بالعربية بينهم، فتصح حينها بغير العربية لحصول المقصود وهو الوعظ والتذكير وحمد الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ووافقهم في ذلك أبو يوسف ومحمد([16]) صاحبا أبى حنيفة، وأما قراءة القرآن فالراجح أنها لا تكون إلا بالعربية؛ لأنه ذكر مفروض، فشرط فيه العربية كالتشهد وتكبيرة الإحرام، ولأن ترجمة القرآن ليست قرآنًا.
3- القيام في الخطبة:
وهذا شرط عند الشافعية([17]) عند القدرة مستدلين بتواتر الروايات بأنه صلى الله عليه وسلم
كان يخطب قائمًا، وبقول الله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]، فإن
لم يقدر عليه استحب له أن يستخلف غيره، فإن خطب قاعدًا أو مضطجعًا للعجز جاز بلا خلاف كالصلاة.
وأما الحنفية والحنابلة([18]) فقالوا بأن القيام في الخطبة سُنَّة وليس بشرط، وذلك تأسيًا بسنته صلى الله عليه وسلم حيث كان يخطب قائمًا؛ ولكن ذلك لا يدل على الوجوب، فعثمان ومعاوية رضي الله عنهما لما كبرا خطبا قاعدين، ولم ينكر عليهما أحد، وأما المالكية([19]) فاختلفوا في المسألة بين الوجوب والسنية.
4- الجلوس بين الخطبتين:
ولم يقل بهذا الشرط سوى الشافعية([20]) مستدلين بما ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجلس بين الخطبتين جلسة خفيفة([21])، وذهب الجمهور([22]) إلى أن فِعْله صلى الله عليه وسلم يفيد الندب لا الوجوب.
5- طهارة الخطيب من الحدث:
وهي شرط عند الشافعية أيضًا، وقال به أبو يوسف من الحنفية([23])، وأما الجمهور([24]) فلم يشترطوا لصحة الخطبة الطهارة من الحدث الأصغر لكون الخطبة موعظة وذكر، والحدث مطلقًا لا يمنع من الذكر، وإن اتفق الجميع على أن الطهارة في كل ذلك أولى للاتباع.
وأما الحدث الأكبر فالمشهور عند المالكية عدم اشتراطه([25])، ونقل
ابن قدامة عن شيخه أن اشتراط الطهارة من الحدث الأكبر هو الأشبه بأصول مذهب الإمام أحمد([26]).
6- ستر العورة للخطيب:
اشترط الشافعية في القول الجديد ستر العورة في الخطبة([27])، خلافًا للجمهور.
7- إسماع أربعين كاملين ممن تنعقد بهم الجمعة:
اشترط كل من الشافعية والحنابلة([28]) أن يسمع الخطيب أربعين كاملين ممن تنعقد بهم الجمعة بناء على اشتراطهم حضور أربعين لصحة الجمعة، وفصل الحنابلة في ذلك فاعتبروا هذا الشرط فيما إذا كان عدم السمع بسبب خفض الصوت ونحوه، أما لو كان المانع نومًا أو غفلةً أو صممًا أو عجميةً فلا أثر لذلك.
وأما الحنفية والمالكية([29]) فلم يعدُّوا ذلك شرطًا.
8- الموالاة بين الخطبتين وبين أجزائهما وبين الصلاة:
وهو شرط عند الشافعية والحنابلة([30])، ولم يقل بشرطية ذلك غيرهم.
9- النية في الخطبة:
ولم ينص على شرطيتها سوى الحنابلة([31])، مستدلين بالحديث المشهور: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى …))([32]) الحديث، وأما الحنفية([33]) فقالوا بوجوبها في الخطبة، وذهب الشافعية([34]) إلى الندب.
([1]) ينظر: "فضائل الجمعة" لمحمد ظاهر أسد، (ص133).
([2]) ينظر: "بدائع الصنائع" (1/206). "بداية المجتهد" (1/189). "المجموع" (4/377). "كشاف القناع" (1/505).
([3]) أخرجه البخاري (870) (1/309).
([4]) ينظر: "بدائع الصنائع" (1/262). "بداية المجتهد" (1/231). "روضة الطالبين" (1/529). "مغني المحتاج" (1/549). "كشاف القناع" (1/510).
([5]) "حاشية ابن عابدين" (2/175). "بداية المجتهد" (1/192-194). "المجموع" (4/374). "نهاية المحتاج" (2/318). "المغني" (3/186). "الإنصاف" (2/390).
([6]) ينظر: "بدائع الصنائع" (1/589).
([7]) ينظر: "فضائل الجمعة" لمحمد ظاهر أسد، (ص136) ومابعدها.
([8]) ينظر "الذخيرة" (2/241). "روضة الطالبين" (1/529). "مغني المحتاج" (1/549). "كشاف القناع" (1/510).
([9]) ينظر: "بدائع الصنائع" (1/590). "البحر الرائق" (2/258).
([10]) ينظر: "روضة الطالبين" (1/531). "مغني المحتاج" (1/522). "كشاف القناع" (1/510).
([11]) ينظر: "حاشية ابن عابدين" (3/19).
([12]) "حاشية العدوي على الخرشي" (2/78).
([13]) ينظر: "المجموع" (4/319).
([14]) ينظر: "المنهاج بشرح المحلي مع حاشيتي القليوبي وعميرة" (1/278).
([15]) الإنصاف" (2/387).
([16]) ينظر: "بدائع الصنائع" (1/329).
([17]) ينظر: "المجموع" (4/383). "مغني المحتاج" (1/552).
([18]) ينظر: "بدائع الصنائع" (1/592). "حاشية ابن عابدين" (3/23). "المدونة" (1/144). "كشاف القناع" (1/514).
([19]) ينظر: "حاشية الخرشي" (2/253).
([20]) ينظر: "روضة الطالبين" (1/532). "مغني المحتاج" (1/552).
([21]) رواه البخاري (886) (1/314).
([22]) ينظر: "بدائع الصنائع" (1/591). "الذخيرة" (2/242). "كشاف القناع" (1/514).
([23]) ينظر: "بدائع الصنائع" (1/591). "روضة الطالبين" (1/532). "مغني المحتاج" (1/554).
([24]) "بدائع الصنائع" (1/591). "الذخيرة" (2/343). "المغني" (2/154). "كشاف القناع" (1/513).
([25]) ينظر: "منح الجليل" للشيخ عليش (1/267-268).
([26]) ينظر: "المغني" (2/184،2/154).
([27]) ينظر: "المجموع" (4/385).
([28]) ينظر: "روضة الطالبين" (1/533). "مغني المحتاج" (1/553). "كشاف القناع" (1/512).
([29]) ينظر: "بدائع الصنائع" (1/598). "حاشية ابن عابدين" (3/19). "المدونة" (1/139).
([30]) ينظر: "مغني المحتاج" (1/554). "المغني" (2/157). "كشاف القناع" (1/511).
([31]) ينظر: "كشاف القناع" (1/512).
([32]) رواه البخاري (1) (1/3).
([33]) ينظر: "بدائع الصنائع" (1/590). "حاشية ابن عابدين" (3/20).
([34]) ينظر: "روضة الطالبين" (1/535).
ابو وليد البحيرى
2019-06-25, 10:58 AM
[SIZE=6]أحكام خطبة الجمعة وآدابها
المبحث الثالث: أركان خطبة الجمعة
لم يذكر الحنفية والمالكية([1]) أركانًا للخطبة، فعند الإمام أبي حنيفة ركنها الأوحد عندهم مطلق الذكر من تحميد أو تسبيح أو تهليل بقصد الخطبة محتجًا بعموم قوله سبحانه وتعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]الآية، واشترط أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة ذكرًا طويلاً يسمى خطبة([2])، وأما المالكية فالركن عندهم خطبتين مما تسميه العرب خطبة ولو سجعتين([3]).
وأما الشافعية والحنابلة ([4]) فعددوا أركانًا للخطبة لا تصح إلا بها، اتفقوا على بعضها واختلفوا في البعض الآخر، وهذه الأركان هي:
1- الحمد والثناء على الله عز وجل:
واشترطوا تكرار الحمد في الخطبتين بذات لفظ (الحمد) لا بغيره، واستدلوا لذلك بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبدأ خطبته بحمد الله والثناء عليه. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: ((كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، يحمد الله ويثني عليه …))الحديث([5])، واستدلوا أيضًا بحديث أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل كلام لا يبدأ بالحمد الله فهو أجذم))([6]).
2- الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
واشترطوا فيها ما اشترطوا في الحمد من التكرار في الخطبتين مع تحتم لفظ الصلاة أو مشتقاته، وحجتهم في ذلك أن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله سبحانه وتعالى افتقرت إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم([7]).
3- الوصية بتقوى الله عز وجل:
وهي روح الخطبة وغايتها، والصحيح أنه لا يتعين لفظ الوصية بالتقوى، واشترطوا تكرارها في الخطبتين. قال إمام الحرمين الجويني: ((ولا خلاف أنه لا يكفي التحذير من الاغترار بالدنيا وزخارفها؛ لأن ذلك قد يتواصى به منكرو الشرائع، بل لابد من الحث على طاعة الله تعالى والمنع من المعاصي))([8]).
4- قراءة آية من القرآن:
وهي ركن عندهم في إحدى الخطبتين على الصحيح، ودليلهم في ذلك
حديث جابر رضي الله عنه الذي يقول فيه: ((كان للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكر الناس))([9]).
قال البهوتي: ((ولأنهما أقيما مقام ركعتين، والخطبة فرض، فوجب فيها القراءة كالصلاة، ولا تتعين آية بعينها))([10]).
5- الدعاء للمسلمين:
وقد عدَّه ركنًا الشافعية في قول، ومحله عندهم في الخطبة الثانية، وذهب الشافعية في قول آخر وافقهم فيه الحنابلة إلى أن الدعاء للمسلمين مندوب وليس بواجب([COLOR=black][11]). وكذلك الدعاء لأئمة المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق، والقيام بالعدل فمستحب بالاتفاق.
([1]) ينظر: "بدائع الصنائع" (1/590). "البحر الرائق" (2/261). "الذخيرة" (1/341).
([2]) ينظر: "المبسوط" (2/30).
([3]) ينظر: "بداية المجتهد" (1/193).
([4]) ينظر: "روضة الطالبين" (1/529). "مغني المحتاج" (1/548). "كشاف القناع" (1/511).
([5]) رواه مسلم (867) (2/592).
([6]) رواه ابو داود (4840) (4/261). وابن ماجه
([7]) ينظر: "المجموع" (4/385-386).
([8]) ينظر: "المجموع" للنووي (4/389). "مغني المحتاج" (2/314).
([9]) رواه مسلم (862) (2/589).
([10]) "كشاف القناع" (1/511).
([11]) "المجموع" (4/390). "نهاية المحتاج" (2/316). "المغني مع الشرح الكبير" (2/157).
ابو وليد البحيرى
2019-06-28, 10:28 PM
أحكام خطبة الجمعة وآدابها
المبحث الرابع: سنن خطبة الجمعة
لخطبة الجمعة سنن وآداب عديدة، منها:
1- أن تكون الخطبة على موضع مرتفع كمنبر أو غيره، لحديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى امرأة من الأنصار فقال لها: ((مري غلامك النجار يعمل أعوادًا أجلس عليها إذا كلمت الناس))([COLOR=black][1]). يقول ابن القيم: ((وكان منبره صلى الله عليه وسلم ثلاث درجات، وكان قبل اتخاذه يخطب إلى جذع يستند إليه، فلما تحوّل إلى المنبر، حنّ الجذع وسمع له الصحابة مثل صوت العشار، فنـزل إليه صلى الله عليه وسلم ووضع يده عليه([2]). قال أنس: حن لما فقد ما كان يسمع من الوحي، وفقد التصاق النبي صلى الله عليه وسلم))([3]).
2- سلام الخطيب على الحاضرين بعد صعوده المنبر، وهو مذهب الشافعية والحنابلة([4])، مستدلين بحديث جابر رضي الله عنه: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر سلَّم على القوم))([5])، وأما الحنفية والمالكية([6]) فقالوا بأنه يكتفى بسلام الخطيب حين دخوله المسجد، ولا يسلم إذا صعد المنبر.
3- الجلوس في أول الخطبة على المنبر حتى ينتهي المؤذن من الأذان لحديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهم أنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين؛ كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب))([7]).
4- أن يقبل الخطيب بوجهه على الناس، قال ابن القيم: ((وكان إذا جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم في غير الجمعة أو خطب قائمًا في الجمعة، استدار أصحابه إليه بوجوههم، وكان وجهه صلى الله عليه وسلم قِبَلهم في وقت الخطبة))([8]).
5- أن يعتمد الخطيب حال الخطبة على قوس أو عصا، لما جاء في حديث الحكم بن حزن أنه قال: ((وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة، أو تاسع تسعة… - إلى أن قال - فأقمنا بها أيامًا شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام متوكأ على عصى أو قوس، فحمد الله وأثنى عليه …))([9]) الحديث.
6- ومن السنن كذلك طهارة الخطيب من الحدث الأكبر والأصغر، قال بذلك الجمهور - عدا الحنابلة في الحدث الأكبر فقالوا بوجوب الطهارة منه - خلافا للشافعية الذين قالوا بوجوب الطهارة من الحدثين كما بينا([10]).
7- القيام في الخطبتين سنة عند الحنفية والحنابلة، وشرط عند المالكية والشافعية كما سبق بيانه([11]).
8- الجلوس بين الخطبتين سنة عند الجمهور، وشرط عند الشافعية([12]).
9- يسن كذلك الاختصار في الخطبة وعدم التطويل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنَّة من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة، وإن من البيان لسحرًا))([13]).
10- الدعاء لأئمة المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق، والقيام بالعدل ونحو ذلك.
11- يُسن أن يتولى الصلاة من تولى الخطبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك وخلفاؤه الراشدون من بعده رضي الله عنهم.
([1]) رواه البخاري (875) (1/310). ومسلم (544) (1/386).
([2]) رواه البخاري (6/444).
([3]) "زاد المعاد" (1/429).
([4]) ينظر: "المجموع" (4/396). "مغني المحتاج" (1/555). "كشاف القناع" (1/514).
([5]) رواه ابن ماجه (1109) (1/352) والبيهقي (5532) (3/204).
([6]) ينظر: "البحر الرائق" (2/259). "حاشية ابن عابدين" (3/23). "الذخيرة" (1/342).
([7]) رواه أبو داود (1092) (1/410). وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2/886).
([8]) "زاد المعاد" (1/340).
([9]) رواه أبو داود (1096) (1/411). باب الرجل يخطب على قوس. قال صاحب إرواء الغليل: (حسن)
رقم (616) (3/78).
([10]) ينظر: "بدائع الصنائع" (1/591). "الذخيرة" (2/343). "روضة الطالبين" (1/532). "المغني" (2/154). "كشاف القناع" (1/513), وانظر فيما سبق: الشروط المختلف فيها لصحة الخطبة.
([11]) الشروط المختلف فيها لصحة الخطبة.
([12]) سبق ذكره في الشروط المختلف يها لصحة الخطبة.
([13]) رواه مسلم (869) (2/594).
ابو وليد البحيرى
2019-07-12, 02:50 AM
خطبة الجمعة الاختيار والتجهيز والإلقاء
محمد محمود متولي
للخطابة منذ أقدم الأمم أثرها غير المنكور، عند اليونان والرومان والهنود والفرس والعرب، وقد كانت القبائل العربية قديماً تقيم الأفراح إذا نبغ فيها خطيب أو شاعر، فهو وسيلة إعلامها والمحامي عن شرفها، وكلما كان الخطيب أمهر، وعلاقته بربه إن كان مسلماً أوفر، أو بالمبدأ الذي يدعو إليه أكبر، كان تأثيره أكثر، لأن الدافع المحفِّز للخطابة يكون قوياً فيدفع الخطيب إلى شحذ قواه الروحية، وملكاته التأثيرية·
والخطابة في حقيقتها عمل قلب وعقل في مئات القلوب والعقول، أو آلافها، وكلما اتسعت آفاق هذا القلب وتراحب ذلك العقل، وعظمت همته، وزاد بما يدعو إليه تأثيره كلما كان تأثيره أكبر·
والمبادئ همٌّ مقيم في قلوب ورؤوس معتنقيها المخلصين لها، لذا تراهم في همِّ مقيم، لأنهم يريدون لها الذيوع والانتشار، فإذا لم يحدث مرادهم اغتموا، وربما زاد جهدهم، أو نكصوا على أعقابهم، وانظروا تصوير القرآن لمشاعر رسولنا - صلى الله عليه وسلم - تجاه صد الكافرين عن قبول رسالة الإسلام، قال - تعالى -: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) الشعراء: 3، (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) الكهف: 6·
وفي تنقله - صلى الله عليه وسلم - في موسم الحج وغيره من جمع إلى جمع، ومن قبيلة إلى قبيلة، دليل على عظيم اهتمامه بتبليغ الرسالة·
والخطابة ملكة موهوبة ترجع إلى التكوين الجسدي والروحي والنفسي والعقلي، وهذه هي الخطابة الفطرية، وقد تكتسب بحفظ خطب البلغاء والمرس على أساليبهم، وسماع الخطباء الجيدين، لكن الفطرية المصقولة أجدى وأنفع·
فأما ما يساعد على إجادتها فطرية كانت أو مكتسبة، فالاطلاع على علوم: التفسير والحديث واللغة والنفس والأخلاق والفقه والعقائد والأصول والسيرة والتاريخ والآداب والبلاغة وغيرها، مع حفظ الكثير من المنظوم والمنثور، ومن أساسياتها الزاد الوفير من القرآن والسنَّة·
خطبة الجمعة:
هي وسيلة من وسائل الهداية إلى الخير، ونشر الإسلام، والتوعية بما يجب أن يكون عليه المسلم من عمل بدين الله، والتحذير من آثار الانصراف عن منهج الله، ولذا يجب الاستعداد لها استعداداً جيداً، وتحضيرها تحضيراً ممتازاً، وهي لدى مجربيها عبء ثقيل، يحشدون له كل طاقاتهم وربما حرمهم الاستنفار لها من المنام والطعام وغيرهما، وقد سئل عبد الملك بن مروان عن ما عجل الشيب إلى رأسه؟ فقال: ألا ترون أني أعرض عقلي على الناس كل جمعة، لقد شيبته خطبة الجمعة، وهو العربي القح والخطيب الفذ، فكيف بغيره(1).
وأحب أن أشير هنا إلى أنه ليس معنى استنفار كل الطاقات، وحشد كل الملكات، والتنقيب في دواوين العلم والأدب أن الخطيب ناجح، فقد يجتمع له كل ذلك ولا ينجح، لأن هناك عاملاً أهم في إدراك النجاح، وهو الإخلاص لله، وقصد وجهه في هداية العباد إلى طريق الرشاد.
المراحل التي تمر بها خطبة الجمعة:
المرحلة الأولى: تخير الموضوع:
كثيراً ما يحدثنا علماء العقائد عن النبي والمتنبئ، والنائحة المستأجرة، والنائحة الثكلى، فالنبي يبذل أقصى ما وسعه في نشر الدعوة، وإن قتل، أو طرد أو أوذي أو شُرِّد، والمتنبئ قناص فرص، طالب منفعة، والنبي لا ينكص أبداً عن دعوته، ويصور حاله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه" والمتنبئ سريع النكوص وكذلك النائحة المستأجرة تأكل وتشرب، وإذا أضحكت ضحكت·
والخطيب المخلص يُعني نفسه في اختيار موضوعات خطبه، فنراه بين الناس يعيش بعين الناقد البصير، وبعقل الطبيب المداوي، وبقلب المصلح المحب الوامق، فيعمد إلى أكثر المنكرات الفاشية في المجتمع حسب رؤيته وسمعه، سواء في أعمال الناس ومعاملاتهم أو أحاديثهم، أو وسائل إعلامهم، أو مدارسهم، أو محاكمهم، فيختار أشدها ضرراً وأشدها فتكاً، فيجعله محور خطابته، وبذا يعايش الواقع، فلا يكون في واد والمجتمع الذي يعيش فيه في واد آخر·
وحين يتجمع لديه موضوعات عدة يرتبها حسب أهميتها، ويسجلها في دفتره حتى تحين فرصة تناولها واحداً بعد آخر، على أن يكون مستعداً دائماً للطوارئ التي تطرأ، فتجعله يغير موضوع خطبته في أي لحظة·
ثانياً: مرحلة دراسة موضوع الخطبة:
تمر مرحلة دراسة الموضوع في عقل الخطيب بمراحل منها:
1 ـ حدد الأضرار المتصلة بالعقيدة والأخلاق والاجتماع والصحة والاقتصاد والعبادة إذا كنت ستدخل في الترهيب، وحدد المنافع العائدة على الفرد والجماعة، إذا كانت في الترغيب وسجلها بقلمك، أو في ذهنك، والأولى أولى خاصة عند كبر السن، وحين تحتاج إلى المراجعة للتنقيح، أو التذكر، أو التأليف، وحتى لا تعني نفسك بالبحث مرة أخرى·
2 ـ استحضر ما جاء في الموضوع المراد جعله خطبة من آيات، وأحاديث صحيحة من حفظك أو من المعجم المفهرس للقرآن والسنَّة، وإذا ذكرت حديثاً ضعيفاً فكن على علم بحاله جيداً ومع آيات القرآن والأحاديث، استحضر بعض الآثار عن السلف.
وراجع الآيات والأحاديث في شروحها وتفاسيرها وبعض القواميس إن احتجت لذلك مع قليل من شعر الحكمة، وبعض القصص المقبول غير المخالف للكتاب والسنَّة والعقل مع المحافظة على شرط الإيجاز، وكن دائماً حريصاً على معرفة أسماء المراجع التي ترجع إليها، وأكثر من ذلك أن تعرف رقم الجزء الذي رجعت إليه، والصفحة والطبعة·
وحبذا لو بعدت عن الإسرائيليات ما أمكن.
3 ـ اكتب الموضوع كاملاً باختصار إذا كنت مبتدئاً، ثم احفظه، وذلك شاق على النفس، واكتب عناصره بعد تقسيمه إلى عناصر مرتبة ترتيباً منطقياً، المقدمة تسلم إلى الموضوع والعناصر يسلم بعضها إلى بعض، والخاتمة لبيان ضرورة العمل أو الترك حسب الموضوع، وقلل عدد العناصر ما أمكن، فهذا أعون على التذكر، وخصوصاً عند تقدم السن، وقد يلجأ المبتدئ إلى ديوان خطب، فيحفظ منه خطبة، ثم يلقيها، ويحسن اللجوء إلى الدواوين الموجزة كما لا يحسن أن يظل الخطيب معتمداً عليها، لأن ذلك سيمس موهبته، ويضيع شخصيته.
4 ـ تجنب الكتابة المسجوعة، والمحسِّنات البديعية فيما تكتب أو تحفظ، واجعل كلامك مرسلاً عادياً، فهذا أعون على التأثير في الناس·
واترك دائماً صفحات بيضاء في نهاية كل موضوع تكتبه لتضيف فيها بعض ما تلاقيه في أثناء الاطلاع، أو اكتب على صفحة، واترك الأخرى بيضاء.
5 ـ أجعل ذهنك يجول في الموضوع، وتأمل فيه، وانشغل به مركزاً ذهنك فيه، حتى يصير لديك تصور له، ولأفضل الترتيبات التي يكون عليها، وأحسن النتائج التي تترتب عليه وتخيل تأثيره على نفسك، لتعرف مدى تأثيره على غيرك، وحاول أن تلقيه على نفسك منفرداً، فأنت مثل من يسمعونك في تأثيرك وتأثرك·
ثالثاً: مرحلة الإلقاء
الإلقاء هو الثوب الذي ستلبسه الكلمات بعد اختيارها لأداء المعاني، ويمثل الإلقاء نصف عناصر النجاح، ولكل معنى ما يناسبه من الكلمات، وما يناسبه من الإلقاء، وهذه خاصية من خواص لغتنا، فالمعاني القوية تختار لها ألفاظاً قوية، والمعاني السهلة يُختار لها ألفاظ سهلة، وانظر في هذا مثلاً قوله - تعالى -: (أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس واستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقاً) الكهف: 31·
وانظر في المقابل: (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعاً· وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً· الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً) الكهف: 99 ـ 101·
ومما يجب النصح به الارتجال، فمن ليس عنده زاد كثير للإقلال من الوقت، ويحرص على ألا يلقي خطبته مكتوبة على ورقة، وأنا أرى أن القراءة في الورقة تُذْهِبْ سبعين في المئة من عناصر التأثير، وتبقي ثلاثين ولو وزعت على عوامل النجاح ما نال الخطيب القارئ من الورقة نصفها، لذا فإنه يعتبر ضعيفاً جداً·
ويجب ملاحظة ما يلي في مرحلة الإلقاء:
1 ـ وضوح العبارات، بحيث تستفيد منها كل المستويات الثقافية، مع رعاية مقتضى الحال، وتجنب التطويل الممل، والإيجاز المخل، قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: حدِّث الناس ما دحجوك بأبصارهم، وأذنوا لك بأسماعهم، ولحظوك بأبصارهم، وإذا رأيت منهم فترة فأمسك·(2)
2 ـ التجافي عن زخرفة الكلام وتنميقه، وعن ممجوجه وقبيحه، وعن محاكات كلام العامة والسفلة فوق المنبر، وعن التصريح بالأسماء والعائلات والوظائف، فهذا فضح للناس، وتنفير لهم، فالخطابة أدب، وتوجيه بالتي هي أحسن، وتحاشٍ للاستطراد، حتى لا يتخرق الموضوع، ويجب الحرص على وحدة الموضوع، حتى لا تشتت أفكار المستمعين.
3 ـ قصر المقاطع فهو أعون على المتابعة، وجذب الاهتمام، والتأثير في المستمع، لأن طول المقاطع يقلل الحماس والانتباه، وينوِّم المستمعين· فالقضايا المحتاجة إلى إقناع تحتاج إلى حمية الكلام، وهذا لا يكون إلا في الجمل القصيرة، ومثال هذا في القرآن المكي عموماً، ولذا كان من مزاياه قصر المقاطع، فقد كان يؤسس الجماعة ويبني عقائدها في الله ورسوله، واليوم الآخر.
4 ـ اختلاف نبرات الصوت عند الإلقاء، فلا يكون منخفضاً ميتاً، ولا يكون عالياً صاكاً للأسماع مؤذياً للسامعين، مختلطاً بتشنج الخطيب، وإنما يعلو وينخفض إذا استدعى الموقف ذلك، ففي موقف الشدة يشتد، وفي موقف اللين يلين، وهذا التنويع في طبقات الصوت يجب الحضور للسماع والمتابعة، ويريح الخطيب من متاعب علو الصوت، ويريح آذان المسلمين من تأثير مكبرات الصوت عليهم.
5 ـ ضبط العبارات نحوياً، فالخطأ في الإعراب كالجدري في الوجه، ومن لا يعرف النحو قد يخطئ في قراءة الآيات والأحاديث، ونطق آثار السلف، والحرص على إخراج الحروف من مخارجها مرققة أو مفخمة، كما يحرص على معرفة قواعد القراءة القرآنية، وذلك فيه احترام لنفسه، ولسامعيه، ولكتاب الله، وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما أن القراءة حسب أصولها تعطي المقروء جمالاً وكمالاً يجعل تأثيره على سامعيه أكثر، يقول الجاحظ: "ومتى سمعت ـ حفظك الله ـ بنادرة من كلام الأعراب فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها، ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيرتها بأن تلحن في إعرابها··· خرجت من تلك لحكاية، وعليك فضل كبير··· ثم اعلم أن أقبح اللحن لحن أصحاب التقعير والتشديق والتمطيط والجهورة والتفخيم"(3)·
6 ـ إظهار التأثر بما يقال بالتعايش مع الموعظة، فالوعظ نصاب زكاته الاتعاظ، والناس ليسوا أغبياء، والمخلص العامل موصل جيد للعظة، والكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان، وهذه المراحل التي يمر بها تكوين الخطبة هي ما يعبر عنه "بالإيجاد والتنسيق والتعبير"(4)، وهي مراحل يسلم بعضها إلى بعض، وقوة العناصر جميعاً تؤدي إلى خطابة قوية، وضعف أي عنصر من العناصر الثلاثة يؤدي إلى ضعف الخطابة، فعلى الخطيب الحرص على قوة خطبته بقوة عناصرها الثلاثة.
ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
الهوامش:
1 ـ راجع البيان والتبيين للجاحظ، ج1، ص135·
2 ـ الجاحظ في البيان والتبيين، ج1، ص104، تحقيق عبد السلام هارون، ط الخانجي، ط5، 1405هـ ـ 1985م·
3 ـ راجع البيان والتبيين، ج1، 145: 146·
4 ـ راجع الخطابة للشيخ علي محفوظ، ص28
ابو وليد البحيرى
2019-07-31, 02:53 AM
فن الوعظ أهميته وضوابطه
عبد الحكيم بن محمد بلال
مدخل:
في لسان العرب: الموعِظة: النصح والتذكير بالعواقب [1]، والوعظ هو: ذلك الأسلوب الذي يستخدمه الداعية إلى الله إذا أراد نصح الناس وتذكيرهم بالعواقب، فيرغبهم في الحسنة وثوابها، ويرهبهم من السيئة وعقابها، على الوجه الذي يرق له القلب ويبعث على العمل.
ولا غنى للداعية عن استخدام أسلوب الوعظ في دعوته للناس وتربيته لهم، فقد أمر الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - في دعوته، فقال - عز وجل -: (ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..)
(النحل: 125)، وقال - سبحانه وتعالى -: (.. وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (النساء: 63)، كما أمر تعالى- به رسله من قبل، فكان نهجهم في دعوتهم، قال تعالى-: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه: 44)، فالموعظة وسيلة الذكرى، وسبيل الخشية، والقرآن كله موعظة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين ) (يونس: 57).
فالوعظ أسلوب دعوي له أهمية بالغة في إصلاح القلوب، وتهذيب النفوس؛ ذلك أنه متعلق بطب الأرواح وعلاجها من أمراضها الفتاكة القاتلة، وإذا صلح القلب صلح الجسد كله، فانبعثت الأعضاء بالأعمال الصالحة مصداقاً على الإيمان.
وكم يكون لكلمة الواعظ من الأثر البالغ في نفوس سامعيها، خاصة إذا نظرنا لما تيسر في هذه الأزمان من وسائل وأدوات، تمكّن الواعظ المربي من إيصال كلمته إلى الآلاف المؤلفة ممن لا تتهيأ لهم رؤيته ولا لقاؤه.
ظهور الوعاظ:
نظراً لأهمية الوعظ فقد حرص عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- ، وكان يتخول أصحابه بالموعظة، ثم حرص عليه الصحابة رضي الله عنهم عند تفرقهم في الأمصار، وكثرة الداخلين في الإسلام، ثم شاع ذلك في عصر التابعين، وبرز منهم: الحسن البصري - رحمه الله -، فكان له مجلس يعظ الناس فيه.
ومع ظهور التأليف وُجد من اهتم بهذا الجانب وكتب فيه، كالإمام أحمد الذي ألف كتاباً في الزهد، ومثله ابن المبارك وهناد ابن السري وغيرهما، وخصص الإمام البخاري كتاباً في صحيحه أسماه: "الرقائق"، ومثله الإمام مسلم الذي ضَمّن صحيحه كتاباً بعنوان: "الزهد والرقائق".
واهتم به من المتأخرين جمّ من العلماء كابن الجوزي، وابن القيم، وابن رجب، وغيرهم كثير.
وفي أواخر عصر التابعين ظهر القصاص والوعاظ، ثم كثروا، وقلت عنايتهم بالسنة، واختلط الحابل بالنابل، وصار بعض الوعاظ كحاطب ليل لا يدري ما يقول، أصحيح أم باطل، صدق أم كذب؟!. كما ذكر ابن الجوزي: "أن الوعاظ كانوا في قديم الزمان علماء فقهاء... ثم خسّت هذه الصناعة، فتعرض لها الجهال، فبَعُد عن الحضور عندهم المميزون من الناس، وتعلق بهم العوام والنساء، فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلوا على القصص، وما يعجب الجهلة، وتنوعت البدع في هذا الفن" (2).
المخاطبون بالوعظ:
يحتاج الناس كلهم إلى المواعظ والتذكير، صغيرهم وكبيرهم، جاهلهم وعالمهم، فاجرهم وتقيهم، ولو كان أحد في غنية عنها لكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتعهدهم بالمواعظ، ويهذب نفوسهم بما يرقق قلوبهم، والشواهد من السنة متوافرة.
ولكن ينبغي أن يكون خطاب الناس على قدر عقولهم ومداركهم وعلومهم، فلا يكون الخطاب واحداً لكل أحد، وذلك لسببين:
الأول: تفاوت الناس في الدرجات، وبالتالي في الواجبات، فقد يجب على العالم ما لا يجب على الجاهل، ويجب على الغني ما لا يجب على الفقير، ويجب على القادر القوي ما لا يجب على العاجز الضعيف، وهكذا..
الثاني: أن بعض الحديث يكون فتنة إذا كان مما يُساء فهمه، ولذا قال علي -رضي الله عنه-: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!" (3)، أي: بما يفهمون، وفي بعض رواياته: "ودعوا ما ينكرون" أي: يشتبه عليهم فهمه، وقال ابن مسعود: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" (4).
أساليب الوعظ:
لا تظن أن الوعظ لا يكون إلا بخطب رنانة، أو كلام مطوّل يُجمع له الناس، ويتهيئون له، ثم تُطَأطأ الرؤوس ويبدأ الواعظ بسرد موعظته! فكل هذا غير لازم، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعظ أصحابه بالخطبة، وقد يعظهم بما يناسب الحال، فيذكرهم بحقارة الدنيا حين يرى جَدْياً أَسَكّ، ويذكرهم بنعيم الجنة حين يعجب أصحابه من حلة حرير، ويذكرهم برحمة الله حين يرى امرأة تبحث عن صبيّها في السبي، ثم تضمه وترضعه، وهكذا... فقد تكون الموعظة قصة تُسرد، أو مثلاً يُضرب، أو جملة تقال، أو فعلاً يحتذى به، بدون تكلف أو تقعر.
ضوابط الوعظ:
في هذا العصر كثر في الوعاظ الاعتماد على الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة التي تُذْكَر بصيغة الجزم، وكذا: الاعتماد على القصص المحكية التي لا زمام لها ولا خطام، كما نجد من يعتمد الوعظ أسلوباً وحيداً في الدعوة لا ثاني له، أو يُكثر من وَعْظ الناس كثرةً تملّهم...
فلهذه الأمور ونحوها تبرز الحاجة الملحة للتنبيه على بعض الضوابط التي ترد الأمر إلى نصابه، وتجعل الوعظ في صورته الشرعية البهيّة المؤثرة النافعة.
ومن هذه الضوابط ما يلي:
أولاً: الاعتماد على الكتاب والسنة:
يجب أن يكون اعتماد الواعظ في وعظه على كتاب الله تعالى-، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهما أصل كل موعظة، عن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتفرجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه، والصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله تعالى-، والأبواب المفتحة: محارم الله -تعالى-، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله - عز وجل -، والداعي فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم))(5).
والواعظ حين يحث الناس على أمر ويُحذّرهم من آخر ينبغي أن يبين لهم الدليل، ولا يجعل حديثه مجرد أوامر ونواهٍ مجردة عن الدليل، وعن ذكر المنافع أو المضار للشيء المأمور به أو المنهي عنه، وكل ذلك مُتضمن في الكتاب والسنة، بالتأمل والتدبر لنصوصهما، فإذا ما أراد الواعظ أن يُثري موعظته ويُبلغ كلامه فإن أمامه مواعظ يعجز الفصحاء عن مجاراتها، وينقطع الحكماء دون محاكاتها، وأين كلام الله من كلام البشر، وأين كلام من لا ينطق عن الهوى من كلام عامة البشر؟! وقد يعطي الله -تعالى- بعض خلقه لساناً فصيحاً وبياناً بليغاً، لكن الموعظة منه لا تكمل دون الاستشهاد بالكتاب والسنة؛ فإن لهما أثراً وهيمنة على القلوب.
ثانياً: في الصحيح غنية عن الضعيف:
وعند اعتماد الواعظ الكتاب والسنة، فإنه سيجد في تفسير القرآن كثيراً من الروايات الضعيفة، والإسرائيليات الموضوعة، وسيجد في كتب الحديث كثيراً من الأحاديث التي لا تثبت، وحينئذ: فإن عليه الحيطة والحذر بمراجعة كلام أهل العلم فيها، وهذا التحري دليل على صدق الواعظ؛ ففي حديث مسلم: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع))(6).
وقد كان حال الوعاظ في هذا الباب عجباً، فقد قلّ فيهم العلم، وصدق في بعضهم قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، وإن بعدكم زماناً كثير خطباؤه، والعلماء فيه قليل" (7)، وصار كثير منهم لا يهتمون بتمييز القصص والحكايات، فهمّهم الإتيان بالغريب من الأخبار، والعجيب من القصص، التي قد ينشدّ لها العوام والجهلة، وبلغ ببعضهم الحال إلى أن اقترن ذكره بالوضع في الحديث والكذب فيه، حسبة للأجر والثواب!، أو تكسباً واسترزاقاً، وعدّهم أهل الحديث في جملة الوضاعين (8).
وقد طفحت كتب المواعظ بالقصص المنكرة، والعجائب المختلقة، ولهذا حذر الأئمة من أخبار القصاص ورواياتهم، فألف ابن تيمية كتاباً سماه: "أحاديث القصاص"، وألف السيوطي كتاباً سماه: "تحذير الخواص من أكاذيب القصاص"، ولابن الجوزي: "القصاص والمذكرين" (*) ونحوها كثير.
ومن كتب الوعظ التي ينبغي الحذر منها، حيث كثر فيها الغث: "الروض الفائق في المواعظ والرقائق" لأبي مدين الحريفيش، "وروض الرياحين في حكايات الصالحين" لأبي السعادات اليافعي، و "قرة العيون ومفرح القلب المحزون، وبستان العارفين، وتنبيه الغافلين" كلها لأبي الليث السمرقندي، و "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي (**).
ولئن أجاز بعض السلف ذكر الحديث الضعيف في أبواب الفضائل، فإن هذا ليس على إطلاقه، فقد شرطوا له شروطاً ثلاثة:
1- ألا يكون الضعف شديداً.
2- أن يكون الحديث مندرجاً تحت أصل عام.
3- ألا يعتقد عند العمل به ثبوته (9).
ولا يخفى أن هناك فرقاً بين ذكر الحديث الضعيف والاحتجاج به، فإن ذكره لا يعني إثبات حكم شرعي به (10).
يتبع
ابو وليد البحيرى
2019-07-31, 02:54 AM
فن الوعظ أهميته وضوابطه
عبد الحكيم بن محمد بلال
ثالثاً: تعهد الناس بالموعظة:
النفس تمل وتسأم فيضعف أثر التذكير فيها؛ وربما كرهته فلم يُنتفع به حينئذ، لذا: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لخبرته بالنفوس يتعهد أصحابه بالنصح والتذكير، أياماً وأياماً، ولا يُكثِر عليهم؛ لئلاّ يملوا، وكذا كان صحابته الذين تربوا على يديه يمتثلون ذلك، بل ويوصون به:
فعن عكرمة عن ابن عباس قال: "حدّث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أبيت فثلاث مرات، ولا تُملّ الناس هذا القرآن، ولا ألْفينّك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم، فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه.. " الحديث (11).
وعن أبي وائل، قال: كان عبد الله يعني ابن مسعود يذكرّ الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن: لوددت أنك ذكّرتنا كل يوم، قال: "أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملّكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بها؛ مخافة السآمة علينا" (12).
فعلى الواعظ أن يتفرس في حال الموعوظين، ويتحيّّن نشاطهم ليقبلوا بقلوبهم، فينتفعوا بإذن الله – تعالى -، ولينظر الداعية في مدى تطبيقه لهذا المبدأ التربوي العظيم، الذي تُحفظ به الأوقات، والجهود، ويُؤْمَنُ به من نفرة الناس وضجرهم، وله في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير أسوة، فقد كان كما قال جابر بن سمرة: (لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هن كلمات يسيرات) (13)، وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحدث حديثاً لو عدّه العادّ لأحصاه" (14).
رابعاً: الحذر من المبالغة، والتهويل، وتقنيط الناس:
اجتهاداً في محبة الخير للناس والخوف عليهم يقوم الواعظ أحياناً بتضخيم جزاء السيئة، وعقوبة المعصية، فيزيد على الوارد فيها أحياناً، ويهول ويعظم أخرى، حتى يخيل لسامعه أن عذاب الله نازل به لا محالة، وأنه لا توبة له، وأن عمله الصالح لن ينفعه، وأنه لا حيلة له!.
وقد يحدث العكس أحياناً عند بعض الوعاظ، فيُهَوّنون من المعصية ويقللون من شأنها! والمنهج الشرعي الوسط: الموازنة بين الترغيب والترهيب، والخوف والرجاء، قال الله -تعالى-: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ) (الحجر: 49، 50).
ولهذا أثنى الله على عباده المؤمنين بجمعهم بين هاتين الصفتين الكريمتين، فقال: (.. وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ.. ) (الإسراء: 57)، وقالت عائشة -رضي الله عنها- لعبيد بن عمير: "إياك وإملال الناس وتقنيطهم" (15).
خامساً: البلاغة بلا تكلف:
كانت مواعظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بليغة غير متكلفة، فقد جاء في حديث العرباض -رضي الله عنه-: "وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب..." (16)، قال ابن رجب: "والبلاغة في الموعظة مستحبة؛ لأنها أقرب إلى القلوب واستجلابها، والبلاغة: هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها، وأفصحها وأحلاها للأسماع، وأوقعها في القلوب، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقصر خطبتها، ولا يطيلها، بل كان يبلغ ويوجز" (17)، وفي ظل اهتمام المتحدث ببلاغته في خطبته قد يجنح فيقع في التكلف، يظنه بلاغة!.
ومن صور التكلف:
أ- التقوّل لما لا يعلم:
عن مسروق قال: "دخلنا على عبد الله بن مسعود، قال: يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم؛ فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، قال الله - عز وجل - لنبيه: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِين َ) (18).
ب - السجع:
في قول ابن عباس المتقدم: "... فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب"، قال الغزالي: "المكروه من السجع هو المتكلف؛ لأنه لا يلائم الضراعة والذلة، وإلا ففي الأدعية المأثورة كلمات متوازية لكنها غير متكلفة" (19).
والحال في الموعظة بالنسبة للسجع كالحال في الدعاء، فإن فيه في الغالب تكلفاً مُذْهِباً لرونق الموعظة وخشوعها، إلا الحسن منه، وهو: ما خلا من التكلف والتكرار، وكانت الألفاظ المسجوعة حلوة المذاق.
ج - الثرثرة والتشدق والإطناب لغير حاجة:
الثرثرة تعني: كثرة الكلام تكلفاً وخروجاً عن الحق (20)، عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن من أحبكم إليّ وأقربكم مجلساً مني يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليّ، وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون... )) الحديث (21).
فينبغي للواعظ أن يراعي في وعظه الحال من جهة الإيجاز والإطناب، وإن كان الأصل: أن المواعظ تكون أميل إلى الإيجاز بعيداً عن التشدق والثرثرة، واقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي نهى عن ذلك، وأخذاً بمنهج السلف في ذلك، وقد تكون للإطناب حاجة من ضعف فهم السامعين، أو ظن الواعظ صعوبة فهم ما ألقاه عليهم.
سادساً: استغلال المناسبات والأحداث:
كان - صلى الله عليه وسلم - يستغل المناسبة أو الحدث ولو كان يسيراً قد لا يوقف عنده، ولا يؤبه به وينطلق من خلاله مربياً واعظاً، والشواهد كثيرة، منها: قوله لما دخلت العشر: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر.. ))(22).
قوله يوم النحر: ((أي شهر هذا؟... فأي بلد هذا؟... فأي يوم هذا؟.. )). ثم قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا؛ في بلدكم هذا، في شهركم هذا... ))(23).
أُهديت له - صلى الله عليه وسلم - حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها، ويعجبون من لينها، فقال: ((أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ خير منها... ))(24).
وهكذا ينبغي للواعظ؛ فلا يحدث الناس عن الزهد في الدنيا أو الموت وهو في مناسبة زواج! أو يحدثهم عن فضل الفقير الصابر وهم أغنياء في زمن سعة... ونحو ذلك كثير.
وكم يخسر الواعظ حين تمر به مناسبة أو حدث، ويكون قد هيأ في نفسه كلاماً من قَبْل ليعظ به الناس، فيلقي ذلك الكلام ويعرض عن استغلال تلك المناسبة! إنه يفوّت بذلك رصيداً من الفهم عند السامعين كان يمكنه تحصيله لو استغل تلك المناسبة أو ذلك الحدث.
ويتحقق ذلك في أبهى صوره عندما يجمع الواعظ بين العلم والحكمة، فيقدر لكل أمر قدره، ويعطيه ما يستحقه.
سابعاً: الهيمنة بالتأثير الوعظي على المخاطبين:
عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع، فبماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة... )) الحديث.
وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سبحانه وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هكذا بيده، ويحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر حتى قلنا: ليخرّن به!))(26).
"ولا يتصف الواعظ الداعية بهذه الهيمنة والتأثير إلا أن يكون مخلص النية، رقيق القلب، خاشع النفس... وإلا فالمسؤولية كبيرة عند رب العالمين:
روى ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: ((ما من عبد يخطب خطبة إلا الله سائله عنها يوم القيامة، ما أردت بها؟)) قال: فكان مالك إذا حدثني بهذا بكى، ثم يقول: أتحسبون أن عيني تقرّ بكلامي هذا عليكم، وأنا أعلم أن الله سائلي عنه يوم القيامة ما أردت به؟!، أنت الشهيد على قلبي، لو أعلم أنه أحب إليك، لم أقرأ على اثنين أبداً)) (27).
وفرق كبير بين داعية يتكلم بلسانه، وهو متصنع للكلام ليسبي به قلوب الرجال، وبين داعية مخلص مكلوم القلب على الإسلام يتكلم بنبضات قلبه، ولواعج حزنه وأساه) (28).
قال ذرّ لأبيه عمر بن ذر: يا أبت: ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد، فإذا تكلمت يا أبتي سمعت البكاء من هاهنا وهاهنا؟ فقال: يا بني: ليست النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى(29).
إن الموعظة المخلصة، إذا وجدت لها نفساً صافية، وقلباً متفتحاً متدبراً، فإنها أسرع للاستجابة، وأبلغ في التأثير، وهذا المعنى قد أكده القرآن في آيات كثيرة، كقوله تعالى-: (إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق: 37) وقال: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) (ق: 8).
ثامناً: الاستشهاد بالقصة الصحيحة المؤثرة:
ينبغي للواعظ استخدام القصص الهادفة المؤثرة، فهي تشدّ السامع، وتقرّب له الهدف، وهذا هو منهج القرآن، قال الله تعالى-: (نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (القصص: 3)، وهذه طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والسيرة مليئة بقصص من كانوا قبلنا مما حكاه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، كقصة الذين تكلموا في المهد، والثلاثة الذين أطبق عليهم الغار، وقصة أصحاب الأخدود، وغيرها كثير.
ومن المسلّمات التربوية: أن التربية بالقدوة لها أثر عظيم، بل إنها تفوق الكلام النظري بكثير، والقدوة قد تكون حاضرة مشاهدة، وقد تكون محكيّة بالقصص، فلا عجب أن تكثر القصص كثرة كاثرة في كتاب الله (تعالى) وسنة نبيه.
ولكن لابد من انتباه الواعظ إلى أمرين:
الأول: أن عليه كما سبق ذكره أن يتحرى الصحيح منها، ولا يذكر القصة لذيوعها وانتشارها بين الناس، بل لثبوتها.
الثاني: أن عليه ألا يقف عند جزئيات الحوادث التاريخية وتفاصيلها، ويهمل الدروس والعبر المستفادة منها، فإنها هي المقصودة من القصص، قال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ.. ) (يوسف: 111)، ولكن ينبغي أن تكون الاستفادة باستنباط الدروس والعبر بلا مبالغة ولا تهويل، بحيث لا يستنبط منها غير ما تنبئ عنه، وبذلك توضع القصة في موضعها الصحيح.
تاسعاً: الوعظ في موضعه الصحيح:
ركز بعض الناس على التربية بالوعظ تركيزاً شديداً، وظنّ أنّ الوعظ هو الوسيلة الوحيدة للبناء والتربية، والصحيح أن الوعظ باب مهم من أبواب التربية، ولكنه ليس الباب الوحيد، فأبواب الدين كثيرة ولله الحمد، كالعلم والتعليم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.. ونحوها، وهذه الأبواب تكوّن بمجموعها وحدة واحدة متآلفة، ويجب إعطاء كل باب حقه الشرعي، في وقته الشرعي دون إفراط أو تفريط.
كما أن الوعظ لا يعد نهاية المطاف، بل إن الهدف من الوعظ هو إعداد النفس وتزكيتها، لتَحَمّل تكاليف هذا الدين، وتَعلّمِ أحكامه، وحَمْلِ رسالته.
_____________
الهوامش:
(1) لسان العرب، م6 ص4874.
(2) انظر: تلبيس إبليس، ص 123.
(3) البخاري، كتاب العلم، باب 49.
(4) مسلم، المقدمة، ص 11.
(5) رواه أحمد، ج4 ص182، وانظر صحيح الجامع، ح 4887.
(6) مسلم، ح 5، وعند أبي داود ح 4992: (كفى بالمرء إثماً).
(7) أخرجه أبو خيثمة في كتاب العلم، ص 109.
(8) انظر شرح الألفية للسخاوي، ج1، ص283.
(9) السابق: ج1ص313.
(10) انظر الفتاوى، ج18 ص 66.
(11) رواه البخاري، ح 6337.
(12) رواه البخاري، ح 70.
(13) رواه أبو داود، ح 1107، وانظر: صحيح سنن أبي داود، ح 979.
(14) البخاري، ح 3567.
(15) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي، ج2 ص 128.
(16) صحيح سنن الترمذي، ح 1257.
(17) جامع العلوم والحكم، ج2 ص 111.
(18) رواه البخاري، ح 4809.
(19) الفتح، ج11 ص 143.
(20) لسان العرب، م1 ص 477.
(21) صحيح سنن الترمذي، ح 1642.
(22) رواه الترمذي، ح 757.
(23) رواه مسلم، ح 679.
(24) رواه البخاري عن البراء، ح 3802.
(25) رواه مسلم، ح 2957.
(26) وصحح أحمد شاكر إسناده، ح 5414.
(27) أخرجه في الصمت وآداب اللسان، ص295، رقم 514، وقال المنذري في الترغيب، ج1 ص 125: بإسناد جيد أهـ، والمرفوع في ضعيف الجامع، ح2502.
(28) تربية الأولاد في الإسلام، عبد الله ناصح علوان، ج2 ص 715.
(29) الحلية، لأبي نعيم، ج5 ص 110.
(*) وقد شحن ابن الجوزي كتبه الوعظية بالأحاديث الموضوعة، والقصص الباطلة، كما ذكر ذلك السخاوي (شرح الألفية، ج1 ص277) ومن هذه الكتب: المدهش، وذم الهوى، والمواعظ والمجالس.
(**) ذكر ابن تيمية كتاب (الإحياء) فأنصفه، كما هو منهج أهل السنة، فذكر أن فيه فوائد في أعمال القلوب والأدب، لكن فيه مواد مذمومة فاسدة: من كلام الفلاسفة وأغاليط الصوفية، وفيه أحاديث موضوعة كثيرة، ويمكن الاستفادة بالكتاب مع تخريج الحافظ العراقي، ولكن ينبغي ألا يشتغل به إلا ذوو القدم الراسخ في العلم الشرعي
ابو وليد البحيرى
2019-08-03, 06:17 PM
خطبة الجمعة والتوحيد
محمد بن إبراهيم السبر
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن العناية بطرق موضوعات التوحيد والعقيدة في خطبة الجمعة أمر مهم غفل عنه بعض الخطباء في غمرة الحديث عن الدنيا وما استجد فيها من مفاتن ومباهج وما طرأ من أحداث ونوازل، وقد كان تقرير ذلك وبيانه والعناية به من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وكذلك كانت خطبه - صلى الله عليه وسلم - إنما هي تقرير لأصول الإيمان من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيماناً وتوحيداً، ومعرفة بالله وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أموراً مشتركة بين الخلائق وهي النوح على الحياة والتخويف بالموت، فإن هذا أمر لا يحصل في القلب إيماناً بالله، ولا توحيداً له، ولا معرفة خاصة به، ولا تذكيراً بأيامه، ولا بعثاً للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة، غير أنهم يموتون وتقسم أموالهم، ويبلي التراب أجسامهم؛ فيا ليت شعري أي إيمان حصل بهذا؟ وأي توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل؟!.
ومن تأمل خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطب أصحابه، وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جلّ جلاله، وأصول الإيمان الكلية والدعوة إلى الله، وذكر آلائه - تعالى -التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم.
ثم طال العهد، وخفي نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر رسوماً تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها، وزينوها بما زينوها به، فجعلوا الرسوم والأوضاع سنناً لا ينبغي الإخلال بها، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصعوا الخطب بالتسجيع والفقر وعلم البديع، فنقص بل عدم حظ القلوب منها وفات المقصود بها" (1).
وكلام ابن القيم - رحمه الله تعالى- هذا ليس على ظاهره حتى لا يفهم أنه يهون من شأن هذه الأمور، لكنه ذكر ذلك واصفاً بعض الخطب في زمانه، حيث إن معظمها يكون هكذا، ويغلب عليها جانب التصوف ومجرد ذم الدنيا دون الاهتمام بالتوحيد وأصول الدين التي ينبغي أن يذكر بها الناس، والله أعلم (2).
تحريك القلوب
وقال سماحة العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية السابق - رحمه الله تعالى -: "ينبغي أن تكون الخطبة مشتملة على ذكر دعائم الدين وقواعده العظام، وكذلك ينبغي بل يجب أن يأتي بما يحرك القلوب. أما شيء لا يحركها فلا ينبغي ".
ثم الاقتصار على ذكر فناء الدنيا والموت لا يكفي، كما أنه لا يكفي الاقتصار على كلمات الحِكَم النافعة. لابد من موعظة وشيء يحرك القلوب. ثم أيضاً اعتماد التسجيع وكونه هو همّ الخطيب مرجوح ولا ينبغي؛ فإن أتى به مع إتيانه بالأمور المهمة فلا مانع" (3).
الخطبة عبر العصور
وكما كان هذا هو شأن إمام الأنبياء والمرسلين فهو شأن أصحابه وخلفائه من بعده وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين كانوا يولون جانب التوحيد جلّ اهتمامهم وغاية عنايتهم، وفي عصرنا الحاضر كانت العناية بهذا الباب الجانب الطاغي على خطب أئمة الدعوة السلفية من لدن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في خطبه المشهورة وتلاميذه من بعده ومن سار على منهجه.
ودعوته السلفية الحقة التي عمّ نفعها وآتت بفضل الله ثمارها وأمثل على ذلك بمثال واحد يدل على جهود علماء المسلمين في بلاد التوحيد بالخطابة عن التوحيد، وهو علامة القصيم الفقيه المفسر الشيخ/ عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله تعالى - فمن نظرة لفهرس ديوان خطبه نجد التركيز على القضايا الكلية وأصول الاعتقاد والعمل والأخلاق، حيث بلغت الخطب التي بيّن الشيخ أصول التوحيد ومنزلته وأهميته اثنتي عشرة خطبة، والخطب التي تحدث فيها الشيخ عن التوكل على الله أربع خطب، وعن حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته وشمائله خمس خطب، وعن التقوى وثمارها وعلاماتها خمس خطب، وعن نعم الله - تعالى - على خلقه سبع خطب... إلخ.
اثنتا عشرة خطبة في التوحيد فقط من أصل 160 تدل دلالة واضحة على عناية الشيخ ابن سعدي - رحمه الله - واهتمامه في خطبه بأمر التوحيد(4).
البدع الحولية
ومن هنا فلا بد للخطيب الموفق والداعية المسدد من:
- تخصيص خطب تُعنى بالتوحيد والعقيدة والتحذير من البدع والخرافات والمحدثات.
- التطرق للمناسبات والبدع الحولية كبدع الاحتفال بالمولد النبوي وليلة الإسراء والمعراج وإحياء ليلة النصف من شعبان.. إلخ.
- استغلال الأحداث المعاصرة والنوازل في ربط الناس بالتوحيد وإحياء معاني العقيدة والإيمان بالقضاء والقدر والتوكل على الله - تعالى -.. إلخ.
- استغلال الآيات الكونية والحوادث الأرضية من كسوف وزلازل وبراكين وفيضانات وأعاصير لتقرير معاني التوحيد.
____________
(1) زاد المعاد " 1/423".
(2) انظر الشامل في فقه الخطيب والخطب للشريم ص: 57.
(3) فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم: 3/20.
(4) انظر موضوعات خطبة الجمعة، د. عبدالرحمن اللويحق، ص: 77 (بتصرف)
ابو وليد البحيرى
2019-08-05, 05:43 AM
مراعاة مقتضى حال المخاطَب
يوسف بن عبد الله العليوي
إذا كان الداعية إلى الله مأموراً ببلاغة القول، وقد قال الله - عز وجل - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: (وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا) [النساء: 63]، فإن البلاغة مدارها على رعاية المتكلم في كلامه الفصيح لمقتضى الحال.
و (الحال) هي مجموعة الأمور التي تحيط بالكلام وتؤثِّر فيه، فتدعو إلى التكلم على وجه مخصوص؛ بحيث يكون للكلام خصوصية زائدة على أصل المراد، وهذه الخصوصية هي "مقتضى الحال"؛ فـ (الحال) في المخاطَب هي الإنكار، و "مقتضى الحال" هو تأكيد الكلام.
وللعرب وأهل العلم والبلاغة والأدب مقالات في شأن رعاية مقتضى الحال، من ذلك المقولة المشهورة عن العرب: "لكل مقام مقـال"، وفيهـا قال الحُطيئـة لعمـر بن الخطـاب - رضي الله عنه -:
تَحنَّـن علَيَّ هداك المليكُ *** فإنَّ لكلِّ مقامٍ مقالاً
وكلما كان المرء مراعياً في مخاطَباته وكتاباته لبلاغة الكلام ومقتضيات الأحوال كان أسَدَّ قولاً، وأكثر تأثيراً، وأقوى إقناعاً، وأقدر على التواصل، وأقرب للقبول، وأبعد عن عثرات الكلام وسقطاته. مع التنبيه إلى أن مطابقة مقتضى الحال أمر نسبي؛ فلا يمكن لبشر أن يحيط بالأحوال جميعها، بل لا يمكن في الحال الواحدة أن يحيط بها ويدرك تمامها؛ فإن هذا لا يكون إلا لله الخبير القدير.
قال - تعالى -: (ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَة ِ الْـحَسَنَةِ) [النحل: 125]. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "بالحكمة؛ أي: كل أحد على حسب حاله وفَهْمِه وقوله وانقياده"[1].
ويُلحَظ في خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لغيره مراعاته للعوامل المؤثرة في شخصية المخاطَب، ويَبرز منها: ديانته، ومستوى تديُّنه، وبيئته التي عاش فيها واكتسب طباعها، ومنزلته الاجتماعية أو الوظيفية التي تضفي عليه طابعاً معيَّناً، وجنسه "ذكراً أو أنثى" وعُمُره "كهلاً أو شاباً أو طفلاً"، وصفاته السلوكية التي يتصف بها.
1 - مستوى التدين:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُلين القول للأعراب، ثم هو قد يشتد في القول على بعض أصحابه الأقربين، ومن ذلك حديث أسامة - رضي الله عنه - الذي يقول فيه: بعثَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحُرَقَة فصبَّحنا القوم، فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قَدِمنا بلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يَا أُسَامَةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلا الله؟)) قلت: كان متعوذاً. وفي رواية قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا؟)) قال أسامة: فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم"[2]. قال القرطبي: "وتكرار ذلك القول إنكار شديد، وزَجْر وَكِيْد، وإعراض عن قبول عذر أسامة"[3].
ومن ذلك ما رواه جابر - رضي الله عنه - أن معاذاً - رضي الله عنه - كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة. فصلى ليلة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم أتى قومه فأمَّهم، فافتتح بسورة البقرة فانحرف رجل فسلَّم، ثم صلى وحدَه صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذاً، فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجلَ فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إنا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا، وإن معاذاً صلى بنا البارحة، فقرأ البقرة، فتجوزت، فزعم أني منافق، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معاذ، فقال: ((يَا مُعَاذُ! أَفَتَّانٌ أَنْت؟ أَوْ: «أَفَاتِنٌ؟)) ثَلاثَ مِرَارٍ، ((فَلَوْلا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى))[4].
ولعل توجيه الخطاب إلى معاذ - رضي الله عنه - مع تقديم النداء في مقام الإنكار، واختيار صيغة المبالغة (فَتَّان) في الرواية المشهورة، وتكرار القول ثلاث مرات، لعله ليوقع في نفس معاذ - رضي الله عنه - عِظَم ما ارتكبه، مع أمْـنِ جانب معـاذ - رضي الله عنه - أن يرتد أو يتردد، وهو من خاصة أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
2 - نوع الديانة:
يتـأثر الخطـاب بديانة المخاطَب التي يدين بهـا، ويظهـر - مثلاً - في خطـابه لليهـود تعظيـمُ الله - عز وجل - وتنزيهُـه، والتأكيـد على نبوته - صلى الله عليه وسلم - وصِدْق رسالته، وهذه المعاني يبرز خلافُها لدى يهود؛ فهم ينسبون النقائص والقبائح إلى الله - عز وجل - كقولهم: إن الله فقير ونحن أغنياء... وغيرها، - تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً-.
كما يراعي - صلى الله عليه وسلم - ما عليه يهود من صفات الكذب والمكر والخداع، التي صارت فيهم كالجبِلَّة والديانة، ويأتي الخطاب مع اليهود يحمل معه قوة الحق وقوة الأسلوب؛ لأن اليهود أهل عناد واستكبار.
ومن أمثلة ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لـمَّا دخل خيبر غازياً، وكان أهلها يهوداً قال لـمَّا رآهم: ((اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ. خَرِبَتْ خَيْبَرُ... ))[5] وجملة التكبير المكررة بهذه الصيغة الموجَزة التي تقدَّم فيها لفظ الجلالة (الله) لتُشعر بكمال التنزيه لله - سبحانه وتعالى - وتأكيده. ومن ذلك حديث البراء ابن عازب - رضي الله عنه - قال: مُرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بيهودي مُحمَّماً مجلوداً فدعاهم - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟)) قالوا: نعم! فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: ((أَنْشُدُكَ بِاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى؛ أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ » قال: لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أُخبِرك، نجده الرجم... )) الحديث[6].
ويُلحظ هنا الاختلاف بين خطاب العامة والعالِم؛ فالعالم سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سأل العامة؛ لكنه قدَّم بين يدي سؤاله له استنشاداً بالله - عز وجل - تذكيراً له ووعظاً، أما العامة فلم يستنشدهم؛ لأن العالم يردعه علمه عما يسوء إذا ذُكِّر ووُعِظ، خصوصاً أن علماء اليهود يدركون صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا اجتمع هذا وذاك في مثل هذا الموقف؛ فإنه يغلب أن هذا العالم سيرتدع عن الكذب، وقد حصل، فأجاب بالصدق.
أما في خطابه للنصارى؛ فنجد النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى العبودية ويؤكد لهم وحدانية الله وألوهيته، وعدم الإشراك به. وخطابه لهم فيه رقة لا تكون مع يهود، وقد يكون ذلك لِـمَا قاله الله - سبحانه - فيهم: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) [المائدة: 82 - 83].
ومن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للنصارى الذي تظهر فيه تلك الخصائص كتابه - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل وقومه، وفيه: ((بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ، إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلامٌ عَلَى مَن اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ؛ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ، فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأرِيسِيِّينَ.. . ))[7].
3 - البيئة:
للبيئة تأثير كبير في تكوين شخصية المرء، وتظهر رعاية النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا العامل المؤثِّر في اختياره - صلى الله عليه وسلم - الدعاء على كفار مكة في الحرم؛ لما للحرم من مكانة خاصة في نفوس أهل الجاهلية، ويرون أن الدعـوة فيه لا تُرَدُّ، كمـا روى عبـد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به، فنظر حتى سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وَضَعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئاً، لو كان لي منعة! قال: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحت عن ظهره، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه، ثم قال: ((اللَّهُمَّ! عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ)) ثلاث مرات، فشق عليهم؛ إذ دعا عليهم. قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة.
ومنذ أن بعث الله - عز وجل - رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمشركون يعادونه ويسبُّونه ومن معه من المسلمين؛ فما كان منـه - صلى الله عليه وسلم - إلا أن اختار أشد الكلام عليهم وقعاً وأنفذَه ذِكراً وسَيراً بين العرب؛ فدعا شعراء المسلمين وخاصة الأنصار إلى هجائهم، كما روت عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اهْجُوا قُرَيْشاً؛ فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْها مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ)) قال حسان: والذي بعثك بالحق! لأَفْرينَّهم بلساني فري الأديم... قالت عائشة: فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان: ((إِنَّ رُوْحَ الْقُدُسِ لا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحَتَ عَن اللهِ ورَسُولِه)) وقالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((هَجَاهُمْ حَسَّانُ، فَشَفَى وَاشْتَفَى))[8].
ولعله أَمَر الأنصار بهذه المهمة؛ لأنه لا يربطهم بقريش نَسَب فيضعفوا في هجائهم، كما أنهم هم الذين آووا الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستماتوا في نصرته؛ فنصروه بأيديهم؛ فحق لهم نصره بألسنتهم.
ومن مراعاة البيئة اختيار الألفاظ والتعبيرات منها؛ ويظهر هذا جلياً في الصور البيانية التي لا تخرج عن عناصر البيئة التي يعيش فيها المخاطَبون، ومن أمثلة ذلك:
تصوير حدود العبد في الحلال والحرام وما بينهما من المشتبهات بصورة الراعي مع الحمى، وتصوير القائم على حدود الله أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، والواقع فيها بصورة قوم في سفينة في البحر، والتصوير بجبل أُحُد في أكثر من صورة لبيان عِظَمِ الشيء، والتشبيه بالإبل.
ومن ذلك تخصيص المخاطَب ببعض المنهيات؛ لكونها مما اعتاده وكَثُر تعاطيه لها في بيئته التي يعيش فيها، ومن ذلك مبايعته - صلى الله عليه وسلم - لرهط قال لهم فيها: ((أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئاً، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلـوا أَوْلادَكُـمْ، وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَـهُ بَيْنَ أَيْدِيكُـمْ وَأَرْجُلِكُـمْ ، وَلا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ))[9].
ولما نزل قول الله - عز وجل -: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صعد الصفا، فهتف: ((يَا صَبَاحَاهْ!)) [10].
وصعود الجبل والنداء بمثل: (يا صباحاه!) عادة اعتادوها في الأمر الجلل، فصنع النبـي - صلى الله عليه وسلم - مثـل ما اعتادوه في بيئتهم، إشعاراً بخطر ما يريده ويدعوهم إليه؛ ولذا أقبلوا عليه واجتمعوا إليه.
ومما يُلحظ مراعاةً للبيئة أيضاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يراعي في خطابه طبيعة اللين والرِّقة لدى الأنصار، وطبيعة الغلظة والجفاء والجهل لدى الأعراب.
4 - المنـزلة:
منزلة المخاطَب - سواء أكانت سياسية أم وظيفية أم اجتماعية أم غيرها - لها أثر في رعاية المتكلم له في خطابه، وهذا جانب قرر القرآن الكريم رعايته. قال - سبحانه -: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا) [النور: 63].
ومن ذلك ما قاله الله - عز وجل - لموسى وهارون - عليهما السلام - حين أرسلهما إلى فرعون: (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 42 - 44]، فبيَّن الله - عز وجل - لهما حاله، وكيف يخاطبانه بما يناسب هذه الحال.
وفي رسائله - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك والرؤساء نلحظ تأثير هذا الجانب جلياً في وصفه للمرسَل إليهم، كما في رسالته إلى هرقل: ((مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ))[11]، وفي رسالته إلى المقوقس قال: ((مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الْـمُقَوقِسِ عَظِيمِ القِبْطِ)) قال النووي في رسالة هرقل: "لم يقل: إلى هرقل فقط، بل أتى بنوع من الملاطفة، فقال: (عظيم الروم) أي الذي يعظمونه ويقدِّمونه، وقد أمر الله - تعالى - بإلانة القول لمن يُدعى إلى الإسلام، فقال - تعالى -: (ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَة ِ الْـحَسَنَةِ) [النحل: 125] وقال - تعالى -: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا) [طه: 44] وغير ذلك)[12]، وقال ابن حجر: "لم يخلِّه من إكرام لمصلحة التألُّف"[13].
ويختار النبي - صلى الله عليه وسلم - في رسائله إلى الملوك الألفاظ التي تُشعِرهم بالاطمئنان على مُلْكهم إذا أسلموا ترغيباً لهم في الإسلام، ويظهر ذلك في رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل؛ حيث نلحظ معنى (السلام) يتكرر في نص الرسالة ست مرات بدءاً من مطلعها إلى ختامها (سلام، الإسلام، أسلم، تسلم، أسلم، مسلمون) وهذه الكلمات تصرِّح وتلمِّح وتوحي إلى هرقل بأن المقصود هو الإسلام، وأما مُلْكه فباق إن أسلم.
ومن ملاطفته - صلى الله عليه وسلم - ما خاطب به ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة حينما جيء به أسيراً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ورُبط في المسجد؛ فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمرُّ به ويقول له: ((مَـاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)) كرر ذلك ثلاث مرار في ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ)) فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد[14]. قال النووي: "قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)) وكرر ذلك ثلاثة أيام، هذا من تأليف القلوب، وملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خَلْق كثير"[15].
يتبع
ابو وليد البحيرى
2019-08-05, 05:43 AM
مراعاة مقتضى حال المخاطَب
يوسف بن عبد الله العليوي
5 - الجنس والعمر:
ومن ذلك: أنه حينما يخاطب النساء؛ فإنه يناديهن ويصفهن بما يدل على وَصْف الأنثى إذا كان الخطاب مختصاً بهن، من مثل قوله: ((يا معشر النساء!...))، ((يا نساء المسلمات!... )) ولما طلب النساء منه أن يجعل لهُنَّ يوماً يخصهن بالحديث، وَعَدَهُنَّ يوماً لقيهُنَّ فيه، فوعظهن وأمرهُنَّ، فكان مما قال لهن: ((مَا مِنْكُنَّ مِن امْرَأَةٍ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلا كَانُوا لَهَا حِجَاباً مِن النَّارِ))[16]، وهذا الحديث خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثله المسلمين عامة، والرجال خاصة؛ ففي البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا مِن النَّاسِ مِنْ مُسْـلِمٍ يُتَوَفَّـى لَـهُ ثَلاثٌ لَمْ يَبْلُغُـوا الْحِنْثَ إِلا أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ))[17]، قال ابن حجر في حديث النساء: "إنما خص المرأة بالذكر؛ لأن الخطاب حينئذٍ كان للنساء، وليس له مفهوم لما في بقية الطرق"[18].
ويراعي النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطابه حال الأنثى حين يحصل لها ما يختص به النساء من الحيض وما يصحبه من تغيُّرات واضطرابات لدى الأنثى، ومن ذلك ما ورد في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرجنا لا نرى إلا الحج، فلما كنا بسَرِف حضت، فدخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: ((مَا يُبْكِيْكِ؟)) فقلت: والله! لوددت أني لم أكن خرجت العام. قال: ((مَا لَكِ أَنَفِسْتِ؟!)) وفي رواية: ((مَا لَكِ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ)) قلت: نعـم! قـال: ((إِنَّ هَـذَا أَمْرٌ كَتَبَـهُ اللـهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضـي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي))[19]، وفي حديث أم سلمة قالت: بينما أنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضطجعة في الخميلة، إذ حضت فانسللت فأخذت ثياب حيضتي، فقال: ((مَا لَكِ أَنَفِسْتِ؟)) قلت: نعم! فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة[20].
في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((نَفِسْتِ)) عدول عن التعبير بـ (الحيض) إلى التعبير بـ (النفاس) مع أن التعبير المعدول عنه هو الأشهر عند المخاطبة في التعبير عن حالها، وهو تعبير القرآن أيضاً، وعبَّر به أيضاً النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث أُخْرى؛ لكنْ فَرْق بين خطاب موجَّه إلى امرأة حصل لها الحيض، وأخرى لم يحصل لها ويبيَّن لها أحكام الحيض مجردة عن أي حالة نفسية تقع فيها. أما التي حصل لها الحيض فهي تعيش حالة من التغيرات والاضطرابات النفسية والعقلية والجسدية تؤدي إلى هبوط نفسِيٍّ وعقليٍّ دون المستوى الطبعي، تكون المرأة فيه أشبه بالمريضة؛ فتحتاج إلى رعاية وعَطْف وحنان، وهذا الذي حصل من النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث خاطب زوجتيه بخطاب رقيق، فيستفهم بهمزة الاستفهام قائلاً: ((أَنَفِسْتِ؟)) أو تأتي العبارة بصورة الترجي توقعاً لحصول الأمر: ((لَعَلَّكِ نَفِسْتِ)) واختار لفظة تؤدي المعنى لكن من مادة أخرى تناسب الحال؛ إذ المادة (ن ف س) تتكون من حروف أسهل مخرجاً ونطقاً من حروف مادة (ح ي ض) فخروج اللفظة سيكون هادئاً رقيقاً، يُشعِر باللين واللطف، وربما كان لهذه اللفظة إيحاء بمعانٍ أخرى تشاركها في المادة كالتنفس والتنفيس... وغيرهما، وهي معاني إيجابية، لا توحي بها لفظة (الحيض) التي صارت لها دلالة مشهورة تأنف منها الأنثى كثيراً.
ويُتْبِع النبي - صلى الله عليه وسلم - استفهامه لعائشة - رضي الله عنها - بخبر مؤَكَّد يريد به تسليتها وتخفيف مصابها، فيقول: ((إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ؛ فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي))، ومن الألفاظ التي اختارها النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((بَنَاتِ آدَمَ)): أما (بنات) فلعله لأجل إضافتها إلى (آدم) أو لكون عائشة - رضي الله عنها - لا زالت شابة صغيرة، ولعل إضافة (بنات) بصيغة الجمع إلى (آدم) ليشمل جميع الخلق من النساء بلا استثناء نساء قوم أو دين، وهذا فيه تسلية لها؛ لأن النفس البشرية تتعزى وتتسلى حينما ترى من يشاركها مصابها وهمومها؛ فلا تكون وحيدة المصاب حينئذٍ.
ومع أن الغرض من خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لزوجيه - رضي الله عنهما - هو تسليتهما والتخفيف عنهما مما وقعتا فيه، إلا أنه يُلحظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختلف أسلوبه بين خطاب عائشة وخطاب أم سلمة، رضي الله عنهما؛ ولعل ذلك لأن أم سلمة لم يظهر منها جزع وبكاء كما حصل لعائشة، ولعل لفارق العمر بين الاثنتين أثراً في ذلك، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يُتْبِع قوله الرقيق لأم سلمة بفعل رقيق؛ فيدعوها لتضطجع معه في الخميلة، ويكفي هذا تسلية ولطفاً، والله أعلم.
ومن المعاني التي خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بها النساء: النهي عن التطيب إذا أرادت المرأة الخروج إلى الصلاة في المسجد، وخاصة في صلاة العشاء؛ ومع أن النهي عن خروج المرأة متطيبةً عامٌّ في كل الأوقات، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خص العشاء الآخرة بمزيد من النهي؛ ولعل ذلك لأن العطر يستثير الشهوة، ويستميل إلى المرأة، والليل وقت الظلمة وخُلوِّ الطريق؛ فكان الخوف عليهن في الليل أكثر، وقيل: لأن عادتهن استعمال البخور في الليل لأزواجهن، والله أعلم[21].
ومن تأثير عُمُرِ المخاطَب في أساليب النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ورد في خطابه مع الأطفال، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خُلُقاً، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير؛ فكان إذا جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآه قال: ((أَبَا عُمَيْر! مَا فَعَلَ النُّغَيْر؟)) نَغْر كان يلعب به، وفي رواية: ((يَا أَبَا عُمَيْرٍ!))[22].
وفي هذا الموقف ما راعى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - حال المخاطب وعُمُره وحاجته، ومن ذلك:
1 - أن موت النَّغْر قد لا يعني شيئاً للكبار، لكنه بالنسبة لهذا الصغير شيء محزن؛ فهو يرى لعبته جزءاً من حياته؛ فيحزن لفقدها. وحينما يحزن؛ فإننا ينبغي أن نعامله ونخاطبه من منطلق نظرته هو، لا من نظرتنا نحن؛ فنخضع لمشاعره ونحترم أحاسيسه ونشاركه عواطفه، ومن هنا كـان خطـاب النبـي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الفطيم الـذي قد لا يدرك من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه يُحِس بحزنه، ويشاركه ألمه، ويضفي عليه عَطْفه وحنانه. وبهذا نفسر نداء النبي - صلى الله عليه وسلم - للطفل: ((أَبَا عُمَيْرٍ)): إما بحذف حرف النداء، وإما - في الرواية الأخرى - بذكره وهو (يا) وقد يكون الحذف الأقرب إلى المقام ملاطفة للمخاطَب، وإشعاراً له بسرعة الاستجابة لمشاعره والقرب منه وزوال الحواجز النفسية بينهما، وهذان (الملاطفة والتقريب) من الأغراض التي يُحذَف لها حرف النداء[23].
2 - أن تصغير الأسماء (عمير) و(نغير) وهذا يتلاءم مع خطاب طفل صغير، ويأتي التصغير أيضاً ليحقق السجع، الذي يُحدِث تأثيـراً فـي النفـس؛ إذ هو يخـاطب الوجـدان والمشـاعـر أكثـر مـمـا يخـاطـب العقـول.
3 - ومما يلائم الصغير في هذا الخطاب: الإيجاز في التركيب مع وضوح الألفاظ؛ فخطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مكوَّن من جملتين: ندائية ((أَبَا عُمَيْرٍ)) واستفهامية ((مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟)) وكلتاهما موجزتان واضحتان، لم يتعدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهما الألفاظ التي يفهمها الطفل؛ لأن الطفل في مثل هذا السِّن لا يستوعب كل ما يقال له، وثروته اللفظية محدودة[24].
ومن مراعاة حال العُمُر في الخطاب النبوي البليغ، أَمْرُ الشباب بالزواج، أو ما يخفف حدَّة الشهوة، والنهي عن إتيان دواعيها، ومــن ذلـك مـا رواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - شباباً لا نجد شيئاً، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَن اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ))[25]، قال ابن حجر: "خص الشباب بالخطاب؛ لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح بخلاف الشيوخ"[26].
والأمر بالزواج هنا - لمن استطاع مؤنته - مقدَّم على الأمر بالصيام لمن لم يستطعها، تنبيهاً إلى أن الأصل في الشاب أن يُشبِع رغبته، لا أن يحسم مادتها، وأن الزواج هو الذي يُشبِع هذه الرغبة؛ فإذا بلغ الزواجَ فعليه أن يعْجَل به ويبادر إليه؛ ولذا جاء الأمر به في جواب الشرط مقروناً بالفاء، وجاءت صيغتا (الغضِّ والإحصان) في تعليل الأمر على أفعل التفضيل.
6 - الصفات السلوكية:
في خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يراعي مقتضى هذه الصفات والحالات التي تؤثر في الصفات، ومن شواهد ذلك ما رواه أبو هريرة من أن رجلاً دخل المسجد فصلى، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناحية المسجد، فجاء فسلم عليه، فردَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلام، وقال له: ((ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ!)) فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم، فرد - عليه السلام -، وقال: ((ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ!)) فقال: والذي بعثك بالحـق! ما أُحْسِن غيره، فعلِّمني! فقال: ((إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، وَاقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِن الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ وَتَطْمَئِنَّ جَالِساً، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِماً، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا))[27].
قال النووي في فوائد الحديث: "وفيه الرفق بالمتعلم والجاهل وملاطفته، وإيضاح المسألة، وتلخيص المقاصد، والاقتصار في حقه على المهم دون المكملات التي لا يحتمل حاله حفظها والقيام بها"[28].
وقد يقول قائل: إذا كان المخاطَب افتقد الطمأنينة في أفعال الصلاة عن جهل، وكان مقتضى حاله أن يوجز معه في ما يحتاج إليه؛ فلِمَ أطنب النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر إسباغ الوضوء واستقبال القبلة، وليسا من الصلاة؟
والجواب: إن هذا من الأسلوب الحكيم، وقد أشار إليه النووي؛ حيث قال في فوائد الحديث: (فيه أن المفتي إذا سئل عن شيء، وكــان هناك شيء آخر يحتاج إليه السائل ولم يسأله عنه، يُستحَب له أن يذكره له، ويكون هذا من النصيحة لا من الكلام في ما لا يعني، وموضع الدلالة أنه قال: "علمني يا رسول الله!" أي علمني الصلاة، فعلمه الصلاة، واستقبال القبلة والوضوء، وليسا من الصلاة، لكنهما شرطان لها"[29].
ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لـمَّا رأى استعجاله في الصلاة، ظن أنه يستعجل في غيرها مما هو شـرْط لهـا، فـلا يأتـي به علـى ما ينبغي؛ ولذا جاء الأمر بـ (إسباغ الوضوء) لا مجرد الوضوء.
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان يريد أن يعلم الرجل ترتيب الأفعال لربما اكتفى بقوله: اركع، فقم، فاسجد، فارفع، فاسجد فقم، لكنه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعلمـه الطمأنينة في أداء صلاته، ولم يكن تعليمه إياها ابتداءً؛ وإنما عن خطأ ناشئ من جَهْل، واستعجال قد يكون طبعاً في المخاطَب؛ ولذا لم يكتفِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بدلالة (ثم) وحدها وإلا قال: اركع ثم قم ثم اسجد ثم ارفع ثم اسجد... ولا بدلالة (حتى) وحدها وإلا قال: اركع حتى تقوم، فقم حتى تسجد، فاسجد حتى ترفع، فارفع حتى تسجد... ولا بدلالتهما معاً، بل نص على ما قصَّر فيه المخاطَب، وكرره ليتقرر لديه ويتأكد، ولم يكتفِ أيضاً بذلك، بل أتى بالحال التي تتعلق بالطمأنينة في كل فِعْل؛ ليزيد الأمر تأكيداً وتقريراً، والله أعلم.
ومن المواقف التي راعى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - الصفة السلوكية لدى المخاطَب، ما جاء من أن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - رأى أن له فضلاً على مَنْ دونه، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ ))[30].
ففي هذا الموقف ظن سعد - رضي الله عنه - أنه بشجاعته وقوَّته وماله لا يساوى في الغنيمة بمن دونه من الضعفاء والفقراء؛ فخاطبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخطاب فيه مراعاة لمقتضى حاله، فأعلى مِن شأن مَنْ يرى أنهم دونه، وأضعف ما في نفسه مما يُظن من الإعجاب والزهو، ومن ذلك:
1 - جاء الخطاب بأسلوب القصر، بطريق النفي والاستثناء، و (هل) هنا فيها معنى النفي؛ أي: ما تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم.
إن القصر هنا جاء مراعاة لمقتضى حال المخاطَب، الذي صدر عنه ما يُظن أنه احتقار للمقصور عليه وغفلة عن أهميته، وأن النصر لا يكون إلا بالشجاعة وكثرة المال؛ فقوبل ذلك بقصر يؤكد خلاف ما يظنه المخاطَب؛ فيعلي من شأن المقصور عليه، ويبيِّن أن الأسباب الأخرى متوقفة عليه، وجاء هذا القصر على النوع المسمى بـ (قصر القلب) لما فيه من قلب وتبديل لحُكْم المخاطَب كله بغيره، مبالغة في التأكيد على أهمية شأن الحُكْم الذي تضمنته جملة القصر، وحضاً للمخاطب على الاتصاف بالتواضع.
2- جاء القصر في رواية الصحيح بصيغة الاستفهام مراداً به النفي؛ لما في الاستفهام من معنى التقرير، وكأن الأمر حقيقة متقررة لدى المخاطَب، فيراد تذكيره بها وتأكيدها له.
3 - لم يُسنَد فِعْل النصر إلى المخاطَب، بل أُسنِد إلى غيره، فبُنِي لِـمَا لم يُسـمَّ فاعله، والفـاعـل هـو اللـه - عز وجل - كما جاء معلوماً في الرواية الأخرى، ولعل ذلك مقابل ما قد يكون في نفس المخاطَب من تعظيم أسباب القوة البشرية، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يذكِّــر المخـاطَــب بأن النصـر لا يكـون إلا من الله - عز وجل - الذي يقدِّره ويحدِّد أسبابه ويـيسرها؛ وأن القوة البشرية مهما بلغت، ما هي إلا سبب من أسباب النصر التي يريدها - سبحانه وتعالى - والله أعلم.
وبما سبق يتضح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من منهجه في خطاب الناس أن يراعي أحوالهم والعوامل المؤثرة فيها، وقد ظهر ذلك في اختيار الألفاظ والعبارات والمعاني والأساليب البلاغية واختيار الوسائل والقوالب التي تحمل تلك الألفاظ والمعاني والأساليب.
أسأل الله أن يرزقنا حُسْنَ الاتباع لهدي نبيه - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_______________
[1] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان.
[2] أخرجه البخاري: (4269 و6872)، ومسلم: (96).
[3] المفهم لما أشكل من كتاب مسلم.
[4] أخرجه البخاري: (705 و6106)، ومسلم: (465).
[5] أخرجه البخاري: (610)، ومسلم: (1365).
[6] أخرجه مسلم: (1700).
[7] أخرجه البخاري: (7 و2941 و4553)، ومسلم: (1773).
[8] أخرجه مسلم: (2490).
[9] أخرجه البخاري: (18 و6801)، ومسلم (1709).
[10] أخرجه البخاري: (4770 و4801)، ومسلم (208).
[11] أخرجه البخاري: (7)، ومسلم: (1773).
[12] شرح صحيح مسلم: 12/108.
[13] فتح الباري: 1/38.
[14] أخرجه البخاري: (462 و4372)، ومسلم: (1764).
[15] شرح صحيح مسلم: 12/89.
[16] أخرجه البخاري: (101 و102 و7310)، ومسلم: (2634).
[17] أخرجه البخاري: (1248).
[18] فتح الباري: 3/121.
[19] أخرجه البخاري: (294)، ومسلم: (1211). وسَرِف: بفتح السين، وكسر الراء، موضع قرب مكة، بين وادي فاطمة والتنعيم.
[20] أخرجه البخاري: (298)، ومسلم: (296).
[21] ينظر: الكاشف عن حقائق السنن: 3/30، وفيض القدير: 3/173، وحاشية السندي على سنن النسائي: 8/154و155، ومرقاة المفاتيح: 3/135.
[22] أخرجه البخاري: (6129 و6203)، ومسلم: (2150).
[23] ينظر: الكشاف: 2/444، وخصائص التعبير القرآني: 2/7، وعلم المعاني لـبسيوني فيود: 2/146.
[24] ينظر: من أساليب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التربية.
[25] أخرجه البخاري: (1905 و5066)، ومسلم: (1400).
[26] فتح الباري.
[27] أخرجه البخاري: (757 و793 و6667)، ومسلم: (397).
[28] شرح صحيح مسلم.
[29] شرح صحيح مسلم.
[30] أخرجه البخاري: (2896)
ابو وليد البحيرى
2019-08-05, 03:37 PM
آداب الخطيب وصفاته
الاولى( الإخلاص)
المقصود بالإخلاص هنا (صلاح الباطن وصفاء السريرة وتوجه القلب نحو الله سبحانه، وألا يكون للعبد في قوله وفعله أي مطمع سوى طاعة الله ومرضاته. وهو قوة فعالة في توجيه النفس البشرية وقيادة القلب الإنساني)([1]).
(فالواعظ يقصد بوعظه وجه الله عز وجل ولا يقصد توصلاً إلى غرض دنيوي لتحصيل مال أو جاه أو شهرة)([2]) (أو يحرص على مدح مادح أو تجنبًا لقدح قادح، فالله لا يقبل من العمل إلا ماكان خالصًا صوابًا)([3]) (وقد مدح الله المخلصين وأثنى عليهم في القرآن الكريم فقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالإخلاص مبينًا لهم أنه كمال الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم ((من أعطى لله تعالى ومنع لله تعالى وأحب لله تعالى وأبغض لله تعالى وأنكح لله تعالى فقد استكمل الإيمان))([4]) وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه ((أخلص دينك لله يكفك القليل من العمل))([5]) ([6]) (والخطيب الذي يتحلى بالإخلاص هو أقدر على التأثير في نفوس جمهوره وتوجيه قلوبهم وأذهانهم لأن كلامه ينبع من أعماقه.
وكم من خطيب شخصت فيه صفة الإخلاص وأشرقت استطاع أن يعالج أقسى القلوب وأن يؤثر في أعتى النفوس فينقل صاحبها- بإذن الله تعالى- من الظلام إلى النور)([7]).
عن أبي يوسف قال: (يا قوم أريدوا بعملكم الله، فإني لم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح)([8]) (وقال الإمام أبو جمال الدين الفرج ابن الجوزي: لقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يدي أكثر من مائتي نفس، وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل)([9]).
وعندما يتجرد الخطيب عن الإخلاص ويغلب الهوى وحب الشهرة وما إلى ذلك فإن الخطيب (لن يتمكن من الوصول إلى أعماق الناس والتأثير فيهم وتحريك مشاعرهم لأنه فقد المصباح المنير الذي به يضيء أرجاء القلوب وينير ساحات العقول وعلى هديه يعالج أوصاب النفوس)([10]) قال بعض السلف: (إن العالم إذا لم يرد بموعظته وجه الله، زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر على الصفا)([11]).
([1]) "خصائص الخطبة والخطيب" (ص 111).
([2]) "تحفة الواعظ" (ص 21)
([3]) "إرشادات لتحسين خطبة الجمعة" (ص 21).
([4]) رواه الحاكم في "المستدرك" (رقم2694) (2/178). وأبو داود (بدون $وأنكح لله))) رقم (46814/220). والطبراني في "الأوسط" (رقم9083) (9/41)، وقال في "مجمع الزوائد" (1/90)فيه صدقة بن عبد الله السمين وقد ضعفه البخاري وأحمد وغيرهما، وقال أبو حاتم، محله الصدق.
([5]) رواه المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/22). والبيهقي في "شعب الإيمان" (5/342) وقال حديث مرسل.
([6]) "خصائص الخطبة والخطيب" (ص 110) بتصرف.
([7]) "خصائص الخطبة والخطيب" (ص 111) باختصار.
([8]) "تحفة الواعظ" (ص 21).
([9]) المرجع السابق (ص 20).
([10]) "خصائص الخطبة والخطيب" (ص 112).
([11]) "تحفة الواعظ" (ص 18).
ابو وليد البحيرى
2019-08-17, 04:47 AM
فقه الوعظ
بسام الشطي
ما أحوجنا إلى الوعظ لانشغالنا بالدنيا، نسينا الآخرة فقست قلوبنا فأصابنا فتور وضعف في الإيمان، فالوعظ يحيي القلب ويحرره من الشيطان، قال -تعالى-: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله).
فالموعظة مزيج من الترغيب والترهيب والنصح وعلو الصوت والتذكرة بالآخرة والألوهية وحقيقة الإنسان، قال - تعالى -: (وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا).
- يحتاج المسلم إلى الموعظة بين الفينة والأخرى؛ لأنها شفاء للصدر، قال - تعالى -: (يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور)، فكان عبدالله بن مسعود يعظ في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبدالرحمن لوددت أنك ذكرتنا في كل يوم، فقال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بها مخافة السآمة علينا.
- فوائد الموعظة كثيرة، منها: تذكير الغافل، تعريف الخلق بالخالق، وتبصير الناس بشرائع الإسلام وحدوده، وتجديد الإيمان وتحريكه، وزجر العاصي، وتثبيت المهتدي، وكشف مكائد ومصائد شياطين الإنس والجن.
- وللواعظ آداب يتحلى بها: الإخلاص والعلم بما يعظ، والرفق على الناس والصبر على أذاهم، والعمل بما يأمر به الناس وينهاهم عنه، فصاحة اللسان وعذوبته، واتباع السنة وآثار السلف، الورع في مسائل الحلال والحرام.
- على الواعظ الالتزام بالسلوكيات الآتية:
اختيار أوقات مناسبة للناس، وعدم الإطالة في الكلمة، التركيز في الموضوع وتحديد معالمه عدم التوسع في القصص الغريبة والمبالغة في طرحها، وعدم الطعن في العلماء وغمز الولاة، وعدم تجريح السامعين والتهجم عليهم أو التهكم بهم، وعدم المبالغة في ضرب الأمثلة التافهة، والنزول إلى الأسلوب المفهوم وعدم التحدث بأسلوب التعالي أو غريب اللفظ، والحرص على جمع الكلمة وتأليف القلوب والإصلاح بين الراعي والرعية، ويرغبهم في التفقه في دين الله - عز وجل -.
- إلقاء الموعظة ارتجالا يؤثر أكثر.. فالواعظ يرفع صوته ويحرك يده ويتفاعل مع الكلام: "كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم"[رواه مسلم عن جابر]، وإذا نبع الكلام من القلب لامس شغاف القلوب وخالطها".
- تحفيز الأذهان من خلال طرح السؤال: فكان الرسول –صلى الله عليه وسلم- يطرح السؤال: ((أتدرون من المفلس؟))، ((أتدرون ما الغيبة)) ((أتدرون أي يوم هذا؟)) وتحفيزهم بذكر معلومة أو خبر مثال ذلك: رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، قيل من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة))[رواه مسلم].
- لا تحرض الرجل على أهله أو خدمه.. كأن يقول: أين الرجولة عن المرأة التي تتبرج وباستطاعته القول: أيها الغيورون شجعوا المرأة على الحجاب وأثنوا عليها إن تحجبت.. وغيرها من العبارات، واصبروا على الخادم حتى يتعلم.
- خاطبهم بأنهم إخوانك وارفق بهم ولا تتعالَ عليهم، وحرك ملكة الإبداع والاستنباط فيهم وأنزل الأحكام الشرعية على الواقع ولا تشعرهم باليأس والقنوط بل بالتفاؤل، وادفعهم ليقوم كل منهم نفسه ويحاسبها، واعمل تجربة عملية أمامهم، فقل نتوقف الآن وكل منا يستغفر الله مائة مرة فكان رسولنا –صلى الله عليه وسلم- يستغفر في اليوم مائة مرة رغم أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فمتى طبقنا هذا آخر مرة؟ وكم يأخذ تطبيق ذلك من الوقت؟.
- الموعظة تجعل المستمع متقيا بالعلامات الآتية: صدق الحديث، ووفاء بالعهد، وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلة المباهاة للناس، وحسن الخلق، وسعة الخلق فيما يقرب إلى الله. قالها الحسن البصري - رحمه الله -
ابو وليد البحيرى
2019-09-03, 04:36 PM
كيف تكون خطبتك مؤثرة ؟
محمد بن عبد الله الخضيري
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله ومن والاه إلى يوم الدين أما بعد:
فمضمون الخطبة هو الجانب الأهم في الخطبة، وهو الذي عليه مدار إصلاح القلوب والأعمال، والأخلاق والسلوك، تثبيتا للصواب، وتكثيراً له، وتحذيراً من الخطأ وتقليلا له، وهناك عدة معالم وأسس تنطلق منها الخطبة الهادفة وترتكز عليها:
الأولى:تقرير الأصول والأركان حيث يكون للخطيب عناية خاصة بتقرير مسائل الإيمان والعقيدة، ولا يأنف من ذكرها والتأكيد عليها بين الفينة والأخرى، ولا يستبد به الولع بالمستجدات أيا كانت، وتطغى عليه هذه النـزعة، فيهمل تلك الجوانب العظيمة، ولربما تركها أو تساهل فيها بعض الخطباء؛ اعتماداً على سبق معرفة المستمعين لها أو دراسته إياها، وهذا على فرض ثبوته، فإن لغة الخطيب قدسية المكان وعبودية الاستماع تختلف عن لغة التعليم والدراسة فهما، وتأثراً وتطبيقا، إضافة إلى أن في المستمعين ربما من لم يتعلم في التعليم النظامي، أو ليست هذه المسائل من ضمن فقرات المنهج، ولهذا كانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم مشتملة على هذه القضايا الأساسية .
يقول ابن القيم- رحمه الله- كما في زاد المعاد: ( كانت خطبه صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعده لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيماناً وتوحيدا..) ويقول أيضا: ( ومن تأمل خطب النبي- صلى الله عليه وسلم- وخطب أصحابه، وجدها كفيلة ببيان الهدي والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم )[1]
القضية الثانية:التنويع فالخطبة الناجحة النافعة هي التي ينوع الخطيب في موضوعاتها كل خطبة بما يناسب مقامها وظروفها الزمانية والمكانية، بحيث لا يكرر ولا يعيد، بل يرسم لنفسه خطاً بيانياً علميا يحاول أن يأتي عليه جميعا في فترة معينة يحددها؛ بحيث إن المستمع الذي لا يكاد يفارق هذا الخطيب؛ يطمئن إلى أنه استوعب واستمع إلى جميع ما يحتاجه في أمور دينه، ولم يفته منه شيء، وقد يعيد الخطيب بعض الموضوعات التي تتأكد الحاجة إليها، ولكن بأسلوب مغاير وعرض مختلف، وتهيئة الخطيب نفسه على تنويع الموضوعات حسب ما تقتضيه المناسبات أو الظروف والأزمات؛ يقضي على الرتابة عنده والتكرار الذي ربما لا يحس به، كمن يأسره مثلا موضوع معين أو أكثر أو تخصص معين ؛ فتجده لا ينفك عن طرحه إلا قليلا، وكان سيد الخطباء صلى الله عليه وسلم يراعي مقتضى الحال في خطبه، ويذكر عنه ابن القيم- رحمه الله-: ( وكان- صلى الله عليه وسلم- يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم).
ويقول أيضا: ( وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم) ومن هنا فإن على الخطيب أن يتناول في خطبته القضايا الإيمانية والعبادية والأخلاق والسلوكيات .
القضية الثالثة: العلمية: فالخطبة الناجحة المؤثرة؛ هي التي يعتمد فيها الخطيب على التأصيل العلمي؛ لأنه يتحدث من منبر شرعي، يحضره الناس لتلقي الطرح الشرعي المؤصل، وليس المنبر موقعاً خاصاً أو ديوانية أو وسيلة إعلامية تنسب للشخص ذاته، فعلى الخطيب أن يتقي الله فيما يطرح، فلا يخوض في القضايا بغير تأصيل وعلم وسبق تحر وبحث، وألا يكون طرحه للقضايا المهمة مبنياً على وجهة نظر شخصية عارية عن التنقيح أو التحقيق، ومهما كان للخطيب فصاحة وبلاغة وثقافة، فلا يغنيه ذلك عن التأصيل العلمي والرجوع إلى المحكمات دون المشتبهات، وإلى اليقينيات دون الظنيات، وإلى ما تثبت منه دون ما ظنه، أو اشتبه عليه، يقول أحد السلف: ( من أعجب برأيه ضل ومن استغنى بعقله زل ).
وقد أعجبني كلاماً للشيخ الطنطاوي- يرحمه الله- وهو يتحدث عن عيوب الخطبة في زمانه فيقول: ( ومن أعظم عيوب الخطبة في أيامنا؛ أن الخطيب ينسى أنه يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتكلم بلسان الشرع، وأن عليه أن يبين حكم الله فقط لا آراءه هو، وخطرات ذهنه، إلى أن يقول: ومن الخطباء من يأتي بأحكام غير محققة ولا مسلمة عند أهل العلم، يفتي بها على المنبر، ويأمر الناس بها، ولو اقتصر على المسائل المتفق عليها فأمر بها العامة، وترك الخلافية لمجالس العلماء لكان أحسن )
القضية الرابعة: الاستدلالية: فالخطبة المؤثرة ؛ هي التي يزينها الخطيب بكثرة الأدلة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ ليربط السامعين بمصادر التلقي الشرعية أولا، وليثبت القضية المطروحة ثانيا، ويحسن أن يكون الاستدلال بعد عرض المسألة وطرحها؛ لتتهيأ النفوس لسماع ما يثبت ذلك؛ فإذا سمعته بعد ذلك؛ وعته وعقلته وأحسنت ربط القضية بدليلها .
قال عمران بن حطان: خطبت عند زياد خطبة ظننت أني لم أقصر فيها عن غاية، ولم أدع لطاعة علة، فمررت ببعض المجالس فسمعت شيخاً يقول: هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القرآن[2].
وفي قضية الاستدلال: يجب على الخطيب أن يتحرى الأحاديث التي يلقيها في خطبته، فيتقي الله أن يأتي بأحاديث موضوعة أو منكرة أو ضعيفة، أو يتبع فيها غيره ممن يتساهل من مؤلفي دواوين الخطب القديمة أو الحديثة ورسائل التخريج، وتمييز الصحيح من غيره أصبحت ميسرة جدا بحمد لله ، سواء كان عن طريق البحث الموضوعي في أبواب كتب السنة عن طريق فهارسها، والحاسب الآلي والشبكة العنكبوتية، سهلت ذلك أكثر وأكثر فلا عذر في التقاعس والتقصير في التخريج أو في الحكم على الحديث.
خامسا: الوعظية: ولابد من اشتمال الخطبة الناجحة على عنصر الوعظ، كما كان هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وليس الوعظ قسيما للعلم، أو مقابلا له، كما قد يتصور الكثيرون ممن يقصرون معنى الوعظ على الجانب التخويفي أو الترغيب فقط، وهذا فهم قاصر؛ إذ الوعظ في اصطلاح القرآن أعم من مجرد الترغيب والترهيب؛ ولهذا جاء وصف القرآن كله بأنه موعظة: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين َ)) (يونس: 57).
وفي الأحكام قال تعالى: (( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنّ َ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً)) ( الطلاق: 2)
ومن هنا يتضح أن الموعظة وعاء، ومَرْكَب وقالب لجميع الموضوعات الإيمانية أو العبادية، أو الأخلاقية أو الاجتماعية، فلا تكون الخطبة مجرد عرض بارد أو تقرير هادئ، أو أخبار مسرودة، وإنما لابد أن تساق بسياق وعظي بالندب للفعل إن كان الموضوع علميا، والتحذير منه إن كان يتعلق بمحرم ومعصية، والتحفيز على ما وراء الخبر إن كان الموضوع خبرا أو قصص قرآني، وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمر وجهه وعلا صوته، حتى كأنه منذر حرب يقول صبحكم ومساكم، وهكذا مفهوم اللغة الوعظية في الخطبة، لا يتصور أن يفضَّل عليها أي مضمون .
سادسا: الاستباقية: لابد لكي تكون الخطبة ناجحة ومؤثرة علينا نناقش - إضافة إلى القضايا الحاضرة الراهنة وما يحتاج إليه المسلمون في كافة أمورهم ومسائلهم، أن نناقش أيضاً القضايا التي يتوقع وقوعها وحدوثها، أو الأحداث والفتن التي يخشى وقوعها، وذلك توضيحاً لأحكامها إن كانت مناسبات ومواسم، أو تحذيراً من أسبابها إن كانت مصائب وفتنا ومنكرات .
وهاهنا قاعدة شرعية تقول: ( الدفع أولى من الرفع)؛ لأن مدافعة الشيء قبل وقوعه تكون من حيث السهولة وقلة مفسدته.
يقول الغزال- رحمه الله- : ( إذا حدثت البدع الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة فلفقت لها شبه، وثبت لها كلام مؤلف صار ذلك المحظور بحكم الضرورة مأذونا فيه"[3] وإذا تأملنا بعض خطب النبي- صلى الله عليه وسلم- وجدناها على هذا النسق في مثل قوله: (( ويل للعرب من شر قد اقترب))[4] .
وقوله: (( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))[5].
وقوله: (( والله ما الفقر أخشى عليكم إنما أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم))[6].
وقوله: (( إن بين يدي الساعة سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ))[7].
______________________________ __________
[1] الزاد 1/423
[2] البيان والتبيين 1/ 77
[3] إحياء علوم الدين 1/ 22
[4] رواه البخاري رقم الحديث 3168
[5] رواه أحمد في مسنده رقم الحديث 23680
[6] رواه البخاري حديث 2988
[7] رواه ابن ماجه حديث 4036 وأحمد حديث 7899
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2019-09-07, 04:02 AM
خطبة الجمعة ... الواقع والمأمول
عمر غازي
على الرغم من التطور المذهل الذي لحق بوسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات، وما نتج عن ذلك من دخول وسائل اتصال جماهيري جديدة كالإنترنت والفضائيات ومن قبلها الإذاعة، لعبت ولا تزال دورا مهماً في حياة الناس وتشكيل أفكارهم والتأثير على سلوكياتهم وأفعالهم، إلا أن دور المنبر وخطيب الجمعة يظل الأقوى فاعلية في نفوس الناس والأقرب إلى قلوبهم ووجدانهم والأعظم تأثيراً في المجتمع ربما من جيوش حاشدة!! وذلك لكونه وسيلة إعلامية يقبل عليها الناس أداءً لفريضة دينية، الأمر الذي يضفي عليها صيغة القداسة، بخلاف أية أداة إعلامية أخرى، مما يجعل المتلقي أكثر استعداداً للقبول والاقتناع.
فإذا كان من المستحيل أن تجبر أي سلطة - مهما بلغت من القوة والجبروت- الناس على قراءة صحيفة أو مجلة أو مشاهدة برنامج تلفزيوني ما، فإن جميع فئات المجتمع على تنوعها رجالا ونساءً أطفالا وشبابا وكهولا تجتمع على صلاة الجمعة، كما تلتقي شرائح المجتمع على اختلاف ثقافاتها ومشاربها قادة وسياسيين وعلماء وأدباء وأطباء ومهندسين .. وكذلك العمال والزراع والصناع والتجار، أغنياء وفقراء، جميعهم إلى المنبر: تشرئب أنظارهم.. ولكلمات الخطيب تصغي آذانهم في سكينة ووقار.. وقد ملأ الرضا قلوبهم وتشوقت جوارحهم إلى ما عنده راغبين طائعين.
وفي الوقت الذي يتعين على جموع الحاضرين بعد انقضاء الجمعة الحديث عن فائدة ألموا بها أو مسألة فقهية تعلموها أو موعظة أثرت في نفوسهم... يكون الحديث غالباً عن خطيبهم الذي أطال متأففين ضجرين، في حين يكون الآخرون على النقيض متباهين مفتخرين مسرورين لأن خطيبهم حطم الأرقام القياسية في قصر الخطبة!! وما بين هؤلاء وهولاء تكمن المأساة وتقع اللائمة على كثير من الخطباء الذين لم يدركوا المقاصد الجليلة السامية من خطبة الجمعة ولم يستشعروا عظمة المهمة التي أسندت إليهم فلم يقتدوا بما كان عليه إمام الخطباء وخاتم الأنبياء والمرسلين نبينا صلوات ربي وسلامه عليه ومن بعده الخلفاء الراشدين ومن تبعهم.
فنلاحظ أن كثيراً من الخطباء يطيل الخطبة لدرجة أن يملها الحاضرون ويسأمونها فتجد الكثير منهم يتثآئبون وربما ثقلت رؤوسهم وأدركهم النعاس، وشعروا بالحنق والضجر تجاه خطيبهم، وانشغلوا بالتذمر والتأفف والضيق عن سماع خطبته، وإطالة الخطبة على هذا النحو مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم إذ يقول : { إِنَّ طول صلاة الرجل، وقصَر خطبته مَئِنةٌ – أي: علامة- من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا اَلخطبة، وإِنَّ من البيان لسحْرا } رواه مسلم.
فالواجب على الخطباء مراعاة أحوال المأمومين على اختلافهم ففيهم الشيخ المسن الهرم، والمريض، والصغير والضعيف، وصاحب الحاجة ومن يُطمَع في تأليف قلبه للطاعة والعبادة، وقصر الخطبة لا يعني بحال الإخلال بها فتخرج مفتقرة للهدف الذي جعلت من أجله كما يفعل البعض الآخر على النقيض.
كذلك من الأمور التي يجب مراعاتها لدى الخطيب تنوع موضوعات خطبه وملاءمتها لواقع أمته ومجتمعه فالخطيب الناجح لابد وأن يكون معايشاً لإخوانه في همومهم وأفراحهم وأتراحهم يشاركهم ويوجههم ويرشدهم ويذكرهم.
وممَّا يحز في النفس أن تجد خطيبًا قد اجتمع عنده الناس راغبين طائعين لله غير مجبرين ولا راهبين، وهو مع ذلك يوبخهم ويحذرهم في فظاظة وغلظة، بصوت مرتفع ونبرة نشاز، وكأنهم قد أساءوا الأدب معهم أو خالفوه في أمر ما!! وهذا الفعل مع ما فيه من مخالفة هدي الكتاب والسنة، فهو مدعاة للتنفير منه وعدم الاقتناع بما يدعوا إليه، وهو أيضا سبيل العاجز والله تعالى يقول: " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك".
ما سبق ليس هجوما على الخطباء ولا تنقصاً منهم بل هو محاولة لرصد الأخطاء وعلاجها ودعوة للتصدي لقلة قليلة لا تعي خطورة وعظمة الدور المناط بها. وإذا كان من عتب ولوم فإنه يقع في المقام الأول على كاهل الجهات المعنية في الدول الإسلامية من وزارات الشؤون الإسلامية ومن قبلها الجامعات خاصة الكليات المعنية (كليات أصول الدين والشريعة وغيرها)، التي لم تساهم في إعداد الخطيب على الوجه الأمثل، وكيف لها أن تفعل وهي في الغالب لا تضم إلا ضعاف الطلبة وأقلهم مجموعاً دون تمييز، ومن المعلوم أن الخطابة في الأساس موهبة فمهما درس الدارس وتعلم، فلن نستطيع أن نصنع من العيي خطيباً ولا من معقود اللسان فصيحاً طلقاً، فالكتب والمناهج والدراسات إنما هي كالسراج يضئ في العتمة ومعلوم أن السراج المنير لا يستفيد منه سوى المبصر، فلابد أن يكون هناك اختيار دقيق وعناية في اختيار الطلاب والراغبين في دراسة العلوم الشرعية سيما الخطابة والوعظ والإرشاد، كذلك يجب أن يكون هناك تدريب عملي على الخطابة والوعظ للخطيب وللدارس في الكليات المعنية ( أصول الدين – الشريعة ..وغيرها) طوال فترات دراسته مثلما يحدث في نظيراتها من الكليات الأخرى كالطب والهندسة، وبرأيي الخطيب والواعظ والداعية حاجته إلى التدريب وحسن الإعداد أحوج من غيره فبكلماته تتشكل العقول وتوقظ القلوب الميتة، وبسببه بإذن الله يبصر الغافلون ويرجع التائهون، وتنهض الأمة.
ابو وليد البحيرى
2019-10-21, 04:28 AM
ضوابط حكاية القصص في الموعظة
خالد بن سعود البليهد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
لا شك أن الموعظة من أعظم وسائل الدعوة والهداية التي لها أثر عظيم على العامة؛ قال - تعالى -: (وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً).
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخول أصحابه بالموعظة البليغة كما ثبت في حديث العرباض بن سارية: "وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون"[رواه الترمذي وصححه].
وتختلف أساليب الموعظة وتتنوع منها ما هو وارد في الشرع ومنها ما هو مكتسب ومنها ما هو صحيح معتبر ومنها ما هو فاسد مخالف للشرع وهذا يحتاج إلى تفصيل وبيان ليس هذا محله وإنما الضابط العام في هذا الباب يجوز استخدام أي أسلوب في الموعظة إذا كان مؤثرا صادقا لا يظهر فيه مخالفة صريحة للشريعة أو معارضة لأصل من أصولها أو يترتب عليه مفسدة أو يكون شعارا للكفار أو لأهل البدع أو يتخذ سنة يداوم عليه فإذا خلا من هذه المحاذير كان استعماله سائغا.
ولهذا تنوعت أساليب الموعظة وحصل لها تطور عند وعاظ المسلمين خلال تاريخ الوعظ وتسامح أهل العلم في ذلك ولم يشددوا في اشتراط التوقيف.
قال الحسن البصري: "القصص بدعة ونعمت البدعة كم من دعوة مستجابة وسؤال معطى وأخ مستفاد وعلم يصاب".
ومن أعظم ركائز الموعظة الوعظ بآيات القرآن وأحاديث الرسول والحكم النافعة والقصص الحسنة والقصائد الفصيحة والتجارب الناجحة.
ولا شك أن القصص لها تأثير عجيب وتشويق للنفوس وتحريك للقلوب وتقريب للمراد ولذلك اعتنى القرآن بذكر القصص للأمم السالفة لما في ذلك من العبرة والعظة البليغة؛ كما قال - تعالى -: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتني أيضا بإيراد القصص لمن مضى كما ثبت في السنة الصحيحة كثير من القصص النبوية امتثالا لقوله - تعالى -: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
وقد يكون حكاية الواعظ للقصة البليغة كفاية وغنية عن ذكر كثير من الكلام إذا أحسن الاختيار وأحسن العرض وراعى أحوال السامعين كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل في بعض المناسبات كحكايته قصة أهل الغار وقصة الثلاثة الذين امتحنوا في شكر النعمة وغيرها.
وقد قرر أهل العلم أن استعمال القصص في الموعظة أمر شرعي لا غبار عليه لدلالة القرآن والسنة وعمل السلف الصالح. فاستعمال القصص النافعة طريقة حسنة في الدعوة والموعظة.
وكان الواعظ يسمى في عرف العلماء قاصا لأنه غالبا يعظ الناس ويذكرهم بقصص التائبين من الأمم الخالية وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وأشرف القصص ما ورد في القرآن ثم ما ورد في السنة الصحيحة ثم ما ورد في الأحاديث الضعيفة ضعفا مقاربا مما خلا متنها من النكارة ثم ما حكاه الأئمة الثقات من المؤرخين والمحدثين والفقهاء ممن عرفوا بالتمييز والضبط. وأسوأ القصص ما ورد في الأحاديث الموضوعة ثم ما حكاه أهل البدع المتساهلين في الرواية كالرافضة والصوفية ثم ما تناقلته وسائل الإعلام من غير برهان ثم ما حكاه المجاهيل من آحاد الناس.
ومع أهمية القصص في باب الموعظة ألا أن ثمة ظاهرة سيئة تتابع عليه كثير من الوعاظ وهي التهاون والتساهل في استعمال القصص المنكرة وارتكابهم مخالفات ومحاذير في هذا الباب وقد وجدت هذه الظاهرة في زمن مبكر في القرن الثاني الهجري وتوارد ذم الأئمة للقصاص وذم مسالكهم كما قال الإمام أحمد لما سمع قاصا: (ما أنفعهم للعامة وإن كان عامة ما يتحدثون به كذبا).
ومر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - برجل يقص فقال: "أعرفت الناسخ والمنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت".
وهذا الذم محمول على من ارتكب المخالفات في باب الوعظ وروج للغرائب واستباح رواية الكذب في تخويف الناس وأعرض عن السنة وفتن الناس في حديثه كما قال ابن الجوزي: "ذم القصاص لأن الغالب منهم الاتساع بذكر القصص دون ذكر العلم المفيد ثم غالبهم يخلط فيما يورده وربما اعتمد على ما أكثره محال".
أما القاص الصدوق الورع الحريص على اتباع السنة فغير داخل في كلامهم ويحمدونه على فعله كما قال الإمام أحمد: "ما أحوج الناس إلى قاص صدوق لأنهم يذكرون الموت وعذاب القبر".
وقال أيضا: "القصاص الذي يذكر الجنة والنار والتخويف وله نية وصدق الحديث فأما هؤلاء الذين أحدثوا من وضع الأخبار والأحاديث فلا أراه".
وهذا يدل على أن الإمام أحمد كان يتوسط في باب القصص والمواعظ ولا يشدد كبعض الأئمة من السلف ومذهبه أصح لدلالة النصوص الخاصة والعامة والمقاصد الشرعية والمصلحة المرسلة والله أعلم.
وحكاية القصص المنكرة والغرائب داخل في نقل الشائعات والوعيد في هذا الباب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)[أخرجه مسلم].
ولذلك أحببت أن أذكر ضوابط حكاية القصص في الموعظة التي ينبغي على الواعظ مراعاتها والتحقق من توفرها في القصة المراد حكايتها في موعظته حتى يحقق المقصد الشرعي ويعظ الناس على بصيرة ولا يؤاخذ شرعا ولا تلحقه ملامة.
ضوابط حكاية القصص:
أولا: ألا تكون القصة مكذوبة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين))[رواه مسلم].
وفي صحيح البخاري: ((لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي فليلج النار)) فيحرم على الواعظ أن ينسب قصة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يعلم أنها كذب أو يغلب على ظنه أنها كذب أو يتساهل في حكايتها وهو يجهل مصدرها أما إذا كان مجتهدا ويظن أنها صحيحة ثم تبين خطأه فهو معذور ولا يدخل في هذا الوعيد. ولا يحل للواعظ مطلقا الاستدلال بقصة منكرة في السنة لغرض الدعوة لفضائل الأعمال فإن الحق لا يتوصل إليه بوسيلة باطلة.
ثانيا: ألا تكون القصة تتضمن فتنة على العامة بحيث لا تدركها أفهامهم وتسبب لهم شبهة وشك في إيمانهم لما في البخاري عن علي - رضي الله عنه - قال: "حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله".
وتفسيره ما جاء عن عبد الله بن مسعود: "ما من رجل يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم"[رواه البخاري].
فيجب على الواعظ أن يمسك عن القصة ولو كانت صحيحة إذا علم أن في حكايتها معنى خفيا أو شبهة قوية أو إثارة لمسألة مشتبهة أو حديثا عن دقائق باب الأسماء والصفات وغير ذلك مما لا تدركها عقول غير المتخصصين بالشريعة فيؤدي بهم ذلك إنكار الثوابت وتغلغل الشبه الفاسدة في قلوبهم فيسيؤا الظن بربهم ويهلكوا.
ثالثا: ألا تخالف دلالة القرآن والسنة والإجماع لأن ما خالف الحق فباطل. قال - تعالى -: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا). وقال ابن تيمية: "وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام، لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة".
فلا يحل للواعظ أن يحكي قصة فيها مخالفة ظاهرة للقرآن أو السنة أو الإجماع المحفوظ مهما كان راويها لأن الخرافات لا تبطل الشرع ومن المؤسف أن بعض الوعاظ يحكي قصة تشتمل على منكرات والواجب أن يطرحها ويكذبها ولا يلتفت إليها ويكون يقينه عظيما بصدق الشرع لا يتطرق إليه الشك بالواهيات.
رابعا: ألا تكون القصة تشتمل على قدح في اعتقاد أهل السنة من غلو وتزيين للشرك ووسائله لأن الشريعة جاءت بإبطال ومنع كل ما يمس جناب التوحيد.
فإذا كانت القصة تشتمل على الغلو بشيء معظم أو فيها تزيين لوسيلة من وسائل التأله لغير الله أو فيها تزهيد لحرمة التوحيد أو ثناء على الكفار والمشركين فلا يحل للواعظ حكايتها والاشتغال بها لأن التوحيد أعظم الحقوق على المسلم فإذا نقض أو خدش فلا خير في سائر الحقوق والفضائل.
ومن المحزن أن بعضهم يحكي قصصا فيها محاذير عقدية ويتساهل مع أن النصوص شددت في هذا الباب فلا ينبغي التساهل مهما ادعى المتحدث أن نيته صالحة وأن غرضه أخذ العبرة.
وإذا اضطر الواعظ لذكر حدث وكان فيه محذور وجب عليه أن يعلق ويبين وجه مخالفته للاعتقاد في نفس المجلس لتبرأ ذمته ولا يلتبس الحق بالباطل على السامعين.
ولما ذكرت أم سلمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور بين لها النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفة ذلك للتوحيد فقال: ((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله))[متفق عليه].
خامسا: ألا يكون فيها إغراء بالفاحشة وتزيين بالشهوات؛ لأن ذلك يدخل في قوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
فلا يحل للواعظ أن يتوسع في ذكر قصص أهل الفجور ويفصل في أحوالهم بما يمرض قلوب المؤمنين ويسبب لهم الفتنة ويفتح عليهم أبواب الشيطان بل عليه أن يجمل ويكني في ذكر ما يستحيا منه متبعا أدب القرآن والسنة في هذا الباب.
سادسا: ألا يكون فيها فضح لمسلم محترم وهتك لستره ولو كان في عداد الأموات لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالستر في جملة من الأحاديث كقوله: ((يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفضي الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله))[رواه أحمد].
فلا يحل للواعظ ذكر قصة لمسلم معين وفضحه بين الأشهاد ولو قصد التنفير من فعل المنكر إلا إذا كان هذا الشخص مجاهرا بالمعاصي مبارزا لله ورسوله يظهر عليه العناد والاستخفاف بالشعائر فلا كرامة له.
سابعا: ألا تكون القصة مخالفة للحس والواقع لا يقبلها العقل إلا ما ورد من طريق الشرع الثابت من المعجزات والكرامات للأنبياء والصديقين أما مالم يرد في الشرع ولم ينقل من طريق المعصوم وتناقلته العامة فينبغي إغلاق بابه وعدم حكايته والتساهل في قبوله لأن الكذب دخل كثيرا فيه واشتمل على مفاسد وصار مطية للغلو في الأولياء وعبادتهم ووصفهم بصفات الألوهية والنبوة ولا يمكن تمييزه وصار شعارا لأهل البدع.
والمحققون من أهل السنة يتحفظون في نقل الكرامات فلا ينقلون إلا ما ثبت منها وعرف عن أهلها الالتزام بالشرع واتباع السنة ولم تكن مخالفة لأصول الشرع ولذلك الكرامات المنقولة في أصولهم قليلة لم يتوسعوا فيها أما أهل البدع من المتصوفة والرافضة وغيرهم فيكثرون نقل كرامات أوليائهم ويتوسعون جدا في هذا الباب ويبنون دينهم على هذه الخرافات.
ثامنا: ألا تستغرق حكاية القصة جميع الموعظة أو أغلبها بحيث يغلب استعمال القصص على ذكر أدلة الكتاب والسنة لأن ذلك يشغل عن سماع الحق والتدبر فيه وكل ما يشغل ويصرف القلوب عن كلام الله وكلام رسوله فمذموم وداخل في هجر القرآن والإعراض عنه.
وهذا كحال بعض الوعاظ اليوم الذين لا يعظون إلا بالقصص ويكثرون منها في المحاضرة ويقصرون جدا في ذكر الكتاب والسنة وأقوال السلف فيقوم عنهم السامع ولم يستفد علما يذكر ويكون تأثره وقتيا يزول عما قريب.
تاسعا: ألا يكون في القصة إثارة لنعرة جاهلية أو انتقاص لأسرة أو قبيلة بعينها أو جنسية معينة أو عرق لأن ذلك من أمور الجاهلية التي نهى عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((إن الله - عز وجل - قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن))[رواه أبو داود].
فلا يليق بالواعظ أن يسخر من جنسية أو طائفة أو عرق أثناء حكاية القصة ولو كان غرضه الدعوة لفضيلة لأن ذلك يؤذي المؤمنين ويعرض نفسه للتهمة وتطاول السفهاء.
فإذا تحققت هذه الضوابط في القصة ساغ حكايتها في الموعظة وإن خلت من بعضها لم يسغ حكايتها في الموعظة لاشتمالها على مفسدة وتشويه للدين وتعدي على حدود الله وتلبيس الحق بالباطل.
ومن الأخطاء الشائعة لدى بعض الوعاظ حكاية غرائب القصص عن الأموات وأحوالهم في القبور فهذه القصص كثيرا منها كذب وما يثبت منها فيه فتنة للعامة وما صح مخالف لما أمر به الشارع من الستر على أهل الفجور.
وكذلك حكاية بعض الوعاظ قصص أهل الفجور والفواحش والتوسع في ذكر التفاصيل التي تهيج النفوس وتزين لها الباطل وتفسد حاجز الحياء وتشغل الفكر والواجب الكف عن هذا مطلقا.
وفي حكاية غرائب القصص والتساهل في رواية المنكرات فتنة عظيمة للواعظ حيث يلقى شهرة بين الناس بأسرع وقت وينال حظوة كبيرة وتشرأب له الأعناق ويشار إليه بالبنان ولكن بعد أن ينال هذه المنزلة ويكتشف الناس ضحالته في الوعظ وتساهله في الرواية وقلة غيرته على السنة سرعان ما يسقط من أعين الناس ويتكلم فيه الجاهل ويذهب سعيه ولا يبارك في عمله ويتناساه التاريخ ولا يلحق بالثقات من أهل الوعظ.
وثمة أسباب توقع الواعظ في التساهل في رواية الأكاذيب والغرائب:
1- كثرة الوعظ والارتباط ببرامج وعظية كثيرة بحيث يتزاحم عليه الوقت فلا يستطيع تنقيح القصص وحسن الاختيار.
2- ضعف التأصيل في منهج العلم فلم يتلق دراسة مؤصلة أو دورة علمية.
3- التربية على طريقة متساهلة لإحدى الجماعات الإسلامية التي تسهل وترخص في حكاية القصص دون قيود ومقاييس لأجل تحقيق غاية لمصلحة الجماعة كما هو شائع في جماعة الدعوة والتبليغ وغيرها.
4- الاستجابة لرغبات الجمهور وطلبات العامة فيصير همه إرضاء محبيه على حساب دينه.
5- السعي وراء بريق الشهرة بأقصر الطرق. قال إبراهيم النخعي: "من جلس ليجلس إليه فلا تجلسوا إليه".
وإن أعظم سبب يجعل الواعظ يغرب في القصص ويتساهل في حكاية المناكير عدم تلقيه منهج أهل السنة وتربيه على تعظيم السنة واتباع منهج السلف الصالح فينشأ في الجملة على حب الله والرسول - صلى الله عليه وسلم - والغيرة والحرص على الخير مع وجود خلل كبير في وعظه ودعوته وبيانه وهو قصور في تعلم السنة وضعف في الإتباع وقلة بصيرة في تمييز السنة ومعرفة الصحيح من الضعيف فيترتب على ذلك أمران:
1- عدم امتلاكه قدرة على تنقيح الخبر والتثبت والتأكد من صحة القصة.
2- عدم رغبته في اختيار الصحيح وتجنب الفاسد من القصص والمواعظ.
ويكون منهجه في الوعظ غالبا إيراد القصص والأحاديث التي تلقاها من الشيوخ الذين يعظمهم ومما يشتهر في بطون كتب المواعظ والتاريخ والقصص فحاله كحاطب ليل يجمع كل غث وسليم من غير تمييز كما قال ابن الجوزي: "ومعظم البلاء في وضع الحديث إنما يجري من القصاص لأنهم يزيدون أحاديث تثقف وترقق والصحاح يقل فيها هذا".
ولذلك كثيرا ما يروي الواعظ قصة غريبة فإذا سئل ما مصدر هذه القصة قال حدثني فلان عن فلان وهو ثقة فإذا فتش عن حال الرواة وجد أنهم مجاهيل.
ولذلك يجب على من يتصدر للوعظ ويرزق صوتا مؤثر وبيانا ساحرا أن يجتهد في تلقي قدرا من العلم ممن يوثق بعلمه ويؤصل نفسه في باب تمييز الأحاديث ونقل الأخبار ويكون عنده معرفة بالجملة في المصادر الصحيحة وكيفية البحث وفهم كلام النقاد واصطلاحاتهم فإن أشكل عليه شيء رجع إلى أهل العلم وتبين منهم. قال الذهبي: (الوعظ فن بذاته يحتاج إلى مشاركة جيدة في العلم ويستدعي معرفة حسنة بالتفسير وإكثارا من حكايات الفقراء والزهاد".
وينبغي على الواعظ أن يتحرى موافقة الشرع واتباع السنة والإخلاص في وعظه ولا يكن همه زيادة كثرة الأتباع ونيل المراتب والصيت الحسن وليجتهد على توطين نفسه على الورع في الموعظة فلا يتكلم إلا بما يستوثق من علمه ولا يحكي قصة إلا صحيحة ولا يكثر فيقع في المهالك وإنما تكون مواعظه عند تحقق المصلحة ودعاء الحاجة
ابو وليد البحيرى
2019-10-24, 11:31 AM
همسات للمبتدئين بإلقاء الكلمات
عبد الرزاق الشمري
معشر القراء الكرام..لا يخفى عليكم ما للكلمات والمحاضرات من دور بارز في الدعوة إلى الله، وقد كتبت مجموعة من الهمسات للمبتدئين أمثالي في إلقاء الكلمات الدعوية، هي من خلال تجربتي المتواضعة ومن كلام الإخوة ومن حضوري لبعض الدورات التدريبية، أراها مفيدة لي ولعلها بإذن الله تكون مفيدة لكم، أترككم مع الهمسات:
1- أعظم مطلب في هذا المجال هو الإخلاص لله - عز وجل -، فلا تبدأ لأجل أن تصل لشهرة أو لأجل أن يقال عنك شيخ أو ملقٍ بارع، وإنما ألقِ الكلمات بإخلاص ليكون لك في الآخرة الخلاص، واحرص على سلامة منهجك بطلب العلم و الرجوع للكتاب و السنة و اسأل ربك التوفيق.
2- ضبط العلم و تمكنك منه يعطيك ثقة في نفسك تجعلك تبدع في طرحك للكلمات فالاستعداد مطلب للانطلاق.
3- الدعوة ليس لها عمر معين، فبادر إن وجدت في نفسك القدرة و الكفاءة ولو بالقليل قبل أن تفوت الفرصة فتندم، وأذكر أن صاحباً قال لصاحبه: لا تتعجل في الدعوة فعمرك صغير! فقال له صاحبه وما هو السن المناسب برأيك؟ قال: بعد الأربعين، فقال صاحبه: موافق ولكن بشرط أن تضمن لي العيش حتى ذلك السن!.
4- الخذلان أيها المبارك أن تطلب العلم في المساجد أو تتخرج من كلية شرعية فيراك الناس داعية و يتلهفون لك ثم يكون لسان حالك: نفسي نفسي!
5- لا تجعل نفعك يقتصر على مسجدك أو مدينتك، بل اذهب ذات اليمين وذات الشمال، اذهب للقرى، سافر لمدن أخرى، فأهل مدينتك مهما كنت مبدعاً سيزهدوا بك أحياناً، فالناس تحب التجديد وكما قيل (أزهد الناس بالعالم أهله) و (زمار الحي لا يُطرب) و الواقع شاهد بذلك.
6- نسمع بدورات (فن التسويق) و(فن الإدارة) والداعية أحوج ما يحتاج إلى مثل هذه الفنون في الدعوة، فالدعوة بضاعة، أسلوبك يحدد انتشارها من عدمه، فاحرص على تطوير قدراتك ومهاراتك و أساليبك، فحضورك لدورة تعينك على الدعوة هي من الأمور التي تؤجر عليها.
7- إتقانك لفنون الإلقاء تعني نجاحك بإذن الله، فالدعوة أسلوب ولكل مقام مقال، فرفع الصوت و خفضه وحركات الوجه و اليدين كلها أمور يجدر بالداعية إتقانها إما بحضور محاضرات دورات أو سؤال المبدعين في إلقاء الكلمات.
8- راقب الناجحين في دعوتهم و في كلماتهم، فهم لم يأتوا بشيء لا تستطيع أنت فعله، قلدهم واستفد منهم و جدّد و أبدع، ولتكن لديك قاعدة: فما تراه حسناً من الدعاة خذه و ما تراه سلبياً اجتنبه.
9- لا يكن همك كم عدد الحضور، فالكثرة ليست معياراً، و إنما العبرة بإحياء مجلس ذكر ولو كان الحضور قليلاً.
10- كن ذا علاقة جيدة مع الناس، كوّن علاقات و اكسب صداقات، فكم من داعيةٍ كانت له صداقات مع الإخوة ففرقتهم الدنيا في الشمال و الجنوب و الشرق و الغرب، فكانوا سبباً في التنسيق معه من تلك الديار، التي لم يكن ببال الداعية الذهاب لها يوماً!.
11- لا يكن همك لبس العباءة (البشت) في كلماتك و خاصة أنك في البداية لأنه يجعل في النفس شيء، لكن إزهد و تواضع فالعبرة بالقلوب لا بالمظاهر، فالناس تنتقد ذلك، وكم رأينا من العلماء من لا يلبس البشت تواضعاً و شباباً للتو بدؤوا الدعوة لا تفارقهم عباءتهم!
12- احرص على مواعيد كلماتك و احمل معك مفكرة لتدوينها و إياك و كثرة الاعتذار، فكم من داعية سقط من أعين الناس لإخلافه الموعيد.
13- احرص على على الاعتذار مبكراً في حال عدم مقدرتك على الحضور، و اشكرهم على حسن ظنهم و عدهم بتعويضهم في أقرب وقت.
14- كن مهذباً في ردودك معهم و موافقتك أو اعتذارك و اجعل الفضل لهم و ادع لهم قبل الأمر و بعده.
15- لا تنتظر من ينسق لك حتى تلقي، بل بادر و استأذن من الإمام فإن أذن لك و إلا فالتمس له العذر.
16- لا تطل على الناس بكثرة الحديث و إنما أوجز ولتكن الكلمة من 5 - 8 دقائق، وإن اضطررت فلا تزد عن عشرة دقائق و ادع لهم في النهاية ولمن أتاح لك الفرصة.
17- تقبل النقد البناء من الآخرين و استفد منها، وقد كتبت مقالاً سابقاً بعنوان (شكراً لانتقادي) تكلمت فيه عن هذا الأمر.
18- لا تُغفِل فقه الأولويات، فإن كنت إماماً فرتب أمورك مع الكلمات دون تفريط بالمسجد لأن الإمامة مقدمة.
19- ربما يفضل في بدايات الإلقاء أن تتخير المساجد التي لا تُعرَف فيها و يقل عدد المصلين بها حتى تتدرب و تجتاز رهبة الإلقاء.
20. ربما يأتيك بعض الناس ليستفتيك فإياك والفتيا في أمر تجهله لا يفتننك الشيطان، وإنما قل: لا أدري.
21- إسأل عن الموضوع الذي يهم أهل الحي أو عن آخر كلمة ألقيت عندهم حتى لا تقع في التكرار.
22- اجعل في صدرك ومحفوظك مجموعة من العناوين التي تستحضرها وقت الحاجة مثل: الصلاة، الاستغفار، التوبة، صلة الرحم.. إلخ بحيث تكون مستعداً في أي وقت.
23- ربما تكون مقصراً في عبادة فتقول كيف أنصح الناس وأنا مقصر؟!.
فالجواب: وهل في الناس من ليس مقصراً؟ يقول الشاعر: لو لم يعظ في الناس من هو مذنبٌ: فمن يعظ العاصين بعد محمدِ! فربما لم يفتح الله عليك بقيام الليل لكن يجعلك سبباً للفتح على آخرين، وعليه فقس، لكن أن تكون مقصراً في التبكير للمسجد مثلاً و تلقي على أهل مسجدك عن التبكير فهذا خطأ، وإنما عالج نفسك ثم عظ غيرك، أو اذهب لمسجدٍ آخر و لتكن نصيحة ً لنفسك أولاً ثم لهم.
24- أطلب من الإمام أن يتلو آيات معينة لها صلة بموضوعك ثم علق عليها في كلمتك.
25- ليست العبرة بفصاحتك، فلربما تكون عند عوام لا يفهمون بعض الفصيح، فتنزل لهم وخاطبهم بعقولهم ولو بالعامية فلكل مقام مقال.
26- حين تعطي مواعيداً فحاول أن تتواجد في المكان مبكراً أو أن تفرغ نفسك و تذهب قبل الموعد، و جميل أن تكون مع الأذان أو قبله في المسجد، فهذا له أهمية في الارتياح النفسي و التهيؤ لإلقاء الكلمة.
27- خذ معك بعض الأحيان مبلغاً من المال أو بطاقات اتصال مسبوقة الدفع (سوا - موبايلي - زين) أو مما يخف حمله، و اسأل الأطفال والشباب في نهاية الكلمة وكافئهم وسترى للكلمة تأثيراً، وقد جربتها فوجدت لها قبولاً و أثراً نافعاً بحمد الله.
28- الكلمة لها سماتها و الخطبة لها سماتها فانتبه.
29- إن كنت حسن الصوت فرتل الآيات في الكلمة فإن لها وقعاً في النفس.
30- تجنب القصص التي لا يصدقها كثير من الناس وكأنها خيال، لئلا يكذبك الناس، و احرص على ما تقبله العقول.
31- لا تنزعج من انصراف الناس عنك و قيامهم أو قيام الإمام ـ مع أن الأولى جلوسه إكراماً لك ـ لكن ربما يكون منشغلاً و كذلك الناس فلا تيأس، إلا إن أطلت وأمللت فلا تلم الناس.
32- اتق الله حين تتصل بك النساء لتنسيق محاضرة أو استشارة، و احذر من أن تزين لها الكلمات و الدعوات، فكم سمعنا من أخواتٍ فاضلات تعلقن بدعاة و السبب انبساطهم بالأسلوب معهن، فلا تكن عوناً للشيطان على أخياتك.
ختاماً أسأل الله أن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخير مغاليق للشر وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ابو وليد البحيرى
2019-10-31, 04:36 PM
خطبة الجمعة بين الإطالة والإقصار
إبراهيم بن محمد الحقيل
من المعلوم ضرورةً في الإسلام أن صلاة الجمعة فريضة على الرجال بشروطٍ ذكرها الفقهاء، وأن هذه الشعيرة العظيمة هي من أظهر الشعائر وأجلِّها وأنفعها؛ ولذا كانت في يوم العيد الأسبوعي للمسلمين وأفضل الأيام؛ إذ اختُص عن سائر الأيام بخصائص كثيرة أفردها العلماء بكتبٍ وأبوابٍ في مصنفاتهم لكثرتها وأهميتها. وقد شرع الشارع الحكيم - جل وعلا - جملة من الواجبات والسنن ليوم الجمعة: من الاغتسال والطيب ولُبْس أحسن الثياب والتبكير للمسجد وغيرها، أحسب أن من مقاصدها تهيئة المصلين للاستماع إلى موعظة الخطيب؛ فإن التطهر والاغتسال والسواك والطيب ولُبْس النظيف من الثياب منعش لصاحبه، ويُسَرّ به سروراً كبيراً، ويكون متهيئاً للاستماع أكثر من غيره، وإن الروائح الكريهة تشغل صاحبها كما تشغل المجاورين له. والعجيب أن هذه السنن العظيمة في هذه الشعيرة الظاهرة بقيت في المسلمين على اختلاف بلدانهم وأجناسهم ولغاتهم رغم تقصيرهم في بعض الواجبات والفرائض: كصلاة الجماعة وغيرها. وأضحت عنايتهم بالاغتسال ليوم الجمعة والطيب ولبس النظيف من الثياب سمة ظاهرة في شتى بلاد المسلمين في الجملة. بل إن الشارع الحكيم جعل الاستماع للخطبة واجباً. ونُهي شاهد الجمعـة عـن الكـلام والعبـث والحـركة التـي لا حاجة لها، ومَنْ فعـل ذلـك ذهـب أجـر جمعتـه ولـو حضـرها؛ كما في حديث أَبَي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يوم الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ»[1]، وعنه أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا»[2] ورُتِّب على حضور الجمعة على الصفة التي أمر بها الشارع الحكيم مغفرةُ ذنوب الأسـبوع وزيادة؛ كما في حديث أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عن النبـي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اغْتَسَلَ ثُمَّ أتى الْجُمُعَةَ فَصَلَّى ما قُدِّرَ له، ثُمَّ أَنْصَتَ حتى يَفْرُغَ من خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي معه غُفِرَ له ما بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ»[3]. وصلاة الجمعة وخطبتها سُنة باقية، وشعيرة ظاهرة، منذ أن خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - أول جمعة إلى يومنا هذا، وإلى أن يشاء الله، تعالى. وهي في ازدياد، ومساجد الجمعة في ازدياد أيضاً، والله - تعالى - وحده يعلم كم من خطبة تُلقَى كلَّ جمعة في الأرض، ولم تتوقف خطبة الجمعة منذ شُرعت إلا في بعض الأمصار؛ لظروف طارئة كما توقفت الخطبة في المسجد الأقصى زهاء تسعين سنة أيام الاحتلال الصليبي، وفي مساجد بغداد أربعين يوماً أثناء الاجتياح التتري لها، ونحو ذلك، لكنها كانت قائمة في الأمصار الأخرى للمسلمين. ورغم اتصال خطبة الجمعة من العهد النبوي إلى يومنا هذا، فإنها تباينت بتباين الخطباء والجوامع والأمصار: في طولها وقِصَرها وموضوعاتها وبِنيَتها اللغوية والبلاغية، وطريقة إلقائها، واحتفَّ بها في بعض ديار المسلمين بدع ومُحْدَثات ما أنزل الله - تعالى - بها من سلطان، خُصت بأبواب في كتب إحصاء البدع والتحذير منها. وما هذا الاختلاف والتباين في خطبة الجمعة - مع أنها نُقلت بالتواتر المتصل الذي لم ينقطع أبداً من عهد النبوة إلى يومنا هذا - إلا لاختلاف عقول البشر، وثقافاتهم، وعلومهم، والأحداث السياسية والاقتصادية، والمتغيرات الاجتماعية المحيطة بهم. ومن أهم الموضوعات التي اختلف أهل العلم والدعوة والخطابة في ضبطها: مقدار طول الخطبة وقصرها، وهو موضوع هذه المقالة التي أسأل الله - تعالى - أن تكون نافعة. الأحاديث الواردة في ذلك: نُقِل إلينا أحاديث عدة تحث على إقصار خطبة الجمعة وإطالة صلاتها، ومن هذه الأحاديث: 1 - حديث أبي وَائِلٍ قال: «خَطَبَنَا عَمَّارٌ فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ؛ فلما نَزَلَ قُلْنَا: يا أَبَا الْيَقْظَانِ لقد أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ! فقال: إني سمعت رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ من فِقْهِهِ؛ فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ؛ وَإِنَّ من الْبَيَانِ سِحْراً»، وفي رواية: قال عمار - رضي الله عنه -: «أَمَرَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِإِقْصَارِ الْخُطَبِ»[4]. 2 - حديث جَابِرِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قال: «كنت أُصَلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْداً وَخُطْبَتُهُ قَصْداً» وفي رواية: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَا يُطِيلُ الْمَوْعِظَةَ يوم الْجُمُعَةِ؛ إنما هُنَّ كَلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ»[5]. 3 - حديث الْحَكَـمِ بن حَــزْنٍ الكلفـي - رضـي اللـه عنه - قال: «قَدِمْتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَابِعَ سَبْعَةٍ أو تَاسِعَ تِسْعَةٍ... قال: فَلَبِثْنَا عِنْدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَيَّاماً شَهِدْنَا فيها الْجُمُعَةَ. فَقَامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَكِّئاً على قَوْسٍ (أو قال: على عَصا) فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عليه كَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ»[6]. فكل هذه الأحاديث تدل على إقصار الخطبة وفي بعضها إطالة الصلاة، والإقصار هنا لم يرد حدٌّ لأقله، ونُقل عن الشافعي في القديم: أن أقل الخطبة كأقصر سورة في القرآن، وقال الماوردي: إنْ حَمِد الله - تعالى - وصلى على نبيِّه ووعظ أجزأه، ونُقِل عن ابن العربي أن أقلَّها: حمدُ الله والصلاة والسلام على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وتحذيرٌ وتبشيرٌ وقرآن[7].وقال البغوي - رحمه الله تعالى -: «وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة أن يحمد الله ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويوصي بتقوى الله. هذه الثلاث فرض في الخطبتين جميعاً، ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن، ويدعو للمؤمنين في الثانية؛ فلو ترك واحداً من هذه الخمس لا تصح جمعته عند الشافعي، رحمه الله»[8]. وأحال ابن جُزَي المالكي في مقدارها على عُرْف العرب، فقال: «وأقلُّ ما يسمى خطبة عند العرب، وقيل: حمدٌ وتصلية ووعظ وقرآن»[9]. وعامة الفقهاء على استحباب ما جاءت به الأحاديث من إقصار الخطبـة وعدم إطالتها[10] حتـى قال القرافي - رحمـه اللـه تعـالى -: «واتفـق الجميـع على اسـتحسـان قصر الخطبة»[11]، وساق الشوكاني جملة من الأحاديث في ذلك، ثم قـال: «وأحـاديث البـاب فيهـا مشـروعية إقصـار الخطبـة ولا خلاف فـي ذلك»[12]. وقال ابن عبد البر - رحمه الله تعالى -: «وأما قصر الخطبة فسُنة مسنونة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بذلك ويفعله»[13] وقال أيضاً: «وأهل العلم يكرهون من المواعظ ما ينسي بعضه بعضاً لطوله، ويسـتحبون من ذلك ما وقف عليه السامع الموعوظ فاعتبره بعد حفظه له وذلك لا يكون إلا مع القلة»[14]. ومن الفقهاء من يوجب إقصار الخطبة ويحرِّم إطالتها كابن حزم[15]. ولكن ليس في شيء من الأحاديث - فيما وقفت عليه منها - تحديد مقدار الخطبة؛ ولذلك اختلف العلماء في قَدْرها، وفي فهم معنى الإقصار المأمور به؛ إذ إن الإطالة والإقصار من الأمور النسبية التي لا يمكن تحديدها إلا بالنسبة لغيرها: 1 - فمن أهل العلم من رأى أن ذكر الصلاة مع الخطبة في بعض الأحاديث يقتضي المقارنة بينهما؛ بحيث تكون الخطبة أقصر من الصلاة؛ للأمر بإقصار الخطبة، وإطالة الصلاة. قال البيهقي - رحمه الله تعالى -: «وهكذا استحب الشافعي في القديم أن يكون كلامه خفيفاً وصلاته أطول من كلامه»[16] وقال زكريا الأنصاري - رحمه الله تعالى -: «القصر والطول من الأمور النسبية؛ فالمراد بإقصار الخطبة إقصارها عن الصلاة، وبإطالة الصلاة إطالتها على الخطبة»[17]. وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام؛ لأنه قال: «الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة»[18]. واعتمده كثير من طلاب العلم المعاصرين، ومنهم من حسب الصلاة بقراءة سورتي الجمعة والمنافقون مترسلاً فكانت قريباً من ثلث ساعة أو ربع ساعة؛ فيكون مقدار الخطبة ربع ساعة أو ثلث ساعة، وأعرف من إخواني الخطباء من يحرصون على إقصار الخطبة عن الصلاة لموافقة السُّنة[19]. قلت: هذا الفهم للحديث فيه نظر، كما أن تحديد الخطبة بزمن معيَّن ليس عليه دليل، وهو مبني على فهمٍ غير دقيقٍ لأحاديث الإقصار، وسيأتي بيان ذلك، إن شاء الله تعالى. 2 - ومن العلماء من ذكروا إقصار الخطبة لكن لم يحدُّوه بحد، ولم يجعلوه بالنسبة للصلاة. قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى -: «وكـان مع ذلـك مقتصداً فـي خطبتـه ولا يطيلها، بل كانت صـلاته قصـداً وخطبته قصداً»[20]. ومنهـم مـن نصَّ على عدم المبالغـة في إقصـارها كمـا نقل النـووي - رحمه اللـه تعـالى - عن فقهاء مذهب الشافعي - رحمه الله تعالى -: «قـال أصحـابنا: ويكـون قصـرها معتدلاً، ولا يبالَغ بحيث يمحقها»[21]. ومن هؤلاء من جعل الأصل هو الإقصار ولم يحدُّوه بحد، لكن أجازوا الإطالة إذا اقتضى الحال ذلك. قال الأذرعي من الشافعية: «وحَسَنٌ أن يختلف ذلك باختلاف أحوالٍ وأزمانٍ وأسباب، وقد يقتضي الحال الإسهاب: كالحث على الجهاد إذا طرق العدو - والعياذ بالله تعالى - البلاد، وغير ذلك: من النهي عن الخمر والفواحش والزنا والظلم؛ إذا تتابع الناس فيها»[22]. وهذه الإطالة الطارئة لا تُخرِج الخطيب عن مئنة الفقه؛ كما قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى -: «وأحيانا تستدعى الحال التطويل؛ فإذا أطال الإنسان أحياناً لاقتضاء الحال ذلك فإن هذا لا يخرجه عن كونه فقيهاً؛ وذلك لأن الطول والقصر أمر نسبي، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يخطب أحياناً بسورة (ق). وسورة (ق) مع الترتيل والوقوف على كل آية تستغرق وقتاً طويلاً»[23]. 3 - ومنهم من فهم منه أن الأمر بإقصار الخطبة بالنسبة لكونها خطبة، وللخطبة فكرة لا بد أن يوضحها الخطيب (طالت خطبته أم قصرت). كما كان عند العرب خطب طويلة، وكما حُفظ عن السلف خطب طويلة؛ فالمقصود إيفاء الموضع حقه، وإيصال فكرته للمنصت حتى يستفيد منه. وأما إطالة الصلاة فليست بالنسبة للخطبة وإنما بالنسبة لغيرها من الصلوات التي جاء الأمر بتخفيفها في الجملة، وليس معنى ذلك أن تكون الخطبة أقصر من الصلاة. قال سليمان الجمل في حاشيته: «قوله بالنسبة للصلاة أي: وإن كانت طويلة في نفسها»[24]، أي: الخطبة. بل يرى الشيخ ابن جبرين - رحمه الله تعالى - أن الخطبة ما قسمت يوم الجمعة إلى خطبتين إلا لطولها فاقتضى ذلك الجلوس للاستراحة بين الخطبتين، وحدَّ الطويلةَ بساعة فأكثر، وعدَّ من الخطب القصيرة أن تبلغ ساعة إلا ثلثاً[25]. وقال الشيخ عبد المحسن الزامل - حفظه الله تعالى -: «وليس المراد أن الصلاة تكون أطول من الخطبة، لا. المراد أن الخطبة بالنسبة إليها تكون قصيرة، وأن الصلاة تكون طويلة»[26]. والذي يظهر لي أن هذا القول هو الصحيح في فهم أحاديث الإقصار، وأنه لا حدَّ لطول الخطبة أو قصرها، وأن عدم التحديد كان مقصوداً للشارع الحكيم، وأن ذلك متروك لاجتهاد الخطباء، وتلمُّسهم لحاجات الناس، وترجيحي لهذا القول من أوجهٍ ثلاثة: الوجه الأول: أنه لم يرد في أي حديث من أحاديث الإقصار تحديد هذا الإقصار. ومن فَهِم من الحديث أن الخطبة تكون أقصر من الصلاة فقد أبعد النجعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: مِنْ فِقْه الرجل أن تكون خطبته أقصر من صلاته، وإنما ذكر طول الخطبة وقصر الصلاة، ولا يقتضي الجمع المقارنة بينهما، بل قصر الخطبة بالنسبة لكونها خطبة والعادة فيها الطول، وطول الصلاة بالنسبة لكونها صلاة والأصل فيها التخفيف لحديث: «أَيُّكُمْ أَمَّ الناس فَلْيُوجِزْ»[27] فتخرج صلاة الجمعة عن هذا الأصل لهذا الحديث، ويُطَوَّلُ فيها. الوجه الثاني: ما نُقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما ظاهره التطويل، وكذلك ما نقل عن عمر، رضي الله عنه. وكان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم؛ وهو مـا يدل على أنهـم ما فهموا من أحاديث إقصار الخطبة أن تكون أقل من الصلاة، ومن هذه الأحاديث: 1 - حديث بِنْت حَارِثَةَ بن النُّعْمَانِ - رضي الله عنها - قالت: «ما حَفِظْتُ (ق) إلا من فِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ بها كُلَّ جُمُعَةٍ»[28] ومعلوم أن سورة (ق) ليست بالقصيرة؛ فكيف إذا ضم إليها افتتاحه الخطبة بالحمد، وربما أنه ذكَّر ووعظ كما هو هديه - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة. 2 - حديث رَبِيعَةَ بن عبد الله بن الْهُدَيْرِ التَّيْمِيِّ: «أنه حضر عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَرَأَ يوم الْجُمُعَةِ على الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حتى إذا جاء السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ الناس حتى إذا كانت الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بها حتى إذا جاء السَّجْدَةَ قال: يا أَيُّهَا الناس إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لم يَسْجُدْ فلا إِثْمَ عليه ولم يَسْجُدْ عُمَرُ، رضي الله عنه»[29]. وظاهر الحديث أنه قرأ السورة كلها في الجمعتين كلتيهما، ومعلوم أن سورة النحل طويلة جداً. وبَعِيدٌ أن يطيل الصلاة أكثر من الخطبة وإلا لشق على الناس. وكانت خطبتاه بمحضر من الصحابة - رضي الله عنهم - ولم يُعرَف منكرٌ عليه هذا التطويل. مع ملاحظة أنه لم يكن ثمة ضرورة لقراءة سورة النحل فيما يظهر؛ حتى لا يقال: إن الضرورة دعت لهذا التطويل بسبب نازلة اقتضت ذلك؛ إذ بإمكان الفاروق - رضي الله عنه - أن يقرأها عليهم في غير الخطبة. 3 - حديث ابن عباس، رضي الله عنهما. وهو طويل وفيه قصة، والشاهد منه خطبة عمر، رضي الله عنه. وفيها قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: «فلما سَكَتَ الْـمُؤَذِّنُون َ قام فَأَثْنَى على الله بِمَا هو أَهْلُهُ ثُمَّ قال... إلخ» وساقها. وهي طويلة[30]. وما نقله ابن عباس - رضي الله عنهما - هو جزء من خطبة عمر، رضي الله عنه؛ لأن ابن عباس أشار إلى الحمد ولم يذكره، كما لم يذكر الخطبة الثانية؛ لأنه لم يذكر جلوساً. والأصل أن هذا المنقول من خطبتـه - رضـي الله عنه - كان متصلاً لم يقطعه كما يُفهَم من سياقها، وهذا الجزء من خطبة الفاروق - رضي الله عنه - أطول من سورتَي: الجمعة والمنافقون مجتمعتين بما يقارب الضعف، وهما أطول سورتين تُقرَآن في صلاة الجمعة؛ إذ بلغت خطبته بحساب برنامج الوورد (618 كلمة) بينما عدد كلمات الجمعة والمنافقون (363 كلمة)، والله أعلم. الوجه الثالث: أنَّ تَرْكَ تحديد الإقصار مقصود للشارع الحكيم، وبيان ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكث في المدينة عشر سنوات؛ فهاجر في ربيعٍ الأول من السنة الأولى، وتوفي في ربيعٍ الأول من السنة الحادية عشرة، وصلى الجمعة فور وصوله المدينة، فيكون قد خطب بالناس عشر سنوات، والسنة الواحدة فيها خمسون جمعة تقريباً؛ فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في المدينة منذ هجرته إلى وفاته ما يقرُب من (500) جمعة، فلو حذفنا منها مئة خطبة من خطبه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأسفاره وغزواته بل مئتين لبقي لنا ثلاث مئة، والصحابة متوافرون، ويحضر خطبته الجَمْع الكبير، وهم الحفاظ الذين حفظوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقواله وأفعاله وتقريراته مهما كانت طويلة؛ فروى جابر حجته - صلى الله عليه وسلم - من بدايتها إلى نهايتها، وروى كعب بن مالك قصة توبته، وروت عائشة حادثة الإفك وتفاصيلها، وغير ذلك كثير، ثم لا يُنقل إلينا خطبة جمعة كاملة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من بدايتها إلى نهايتها؛ مع حضور الجمع الكبير لخطبته، وتكرُّرها كل أسبوع طيلة عشر سنوات، وقد نُقل ما لم يتكرر مثل خطب عرفة ويوم النحر والكسوف، وهي خطبة واحدة، فكان أدعى أن يُنقَل إلينا كثيرٌ من خطبه المتكررة. ولا يردُّ على تقرير هذا بعض الأحاديث التي هي جزء من خطبته؛ لأن مرادي خطبة كاملة. الذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن عدم النقل كان مراداً للشارع الحكيم - سبحانه وتعالى - وأن تحديد خطبة الجمعة بمقدار معيَّن من الكلام أو بزمن معيَّن ليس مراداً له - جل وعلا - وأن ذلك تُرِك لأحوال الناس والزمان والمكان، وأُنيط باجتهاد الخطباء؛ بحيث يأتون بما ينفع الناس، مع مراعاة الأصل العام (وهو التخفيف)؛ لأنه مئنة الفقه، دون تحديد مقدار هذا التخفيف، وتكون الخطبة طويلة إذا كانت مملَّة غير نافعة ولو كانت قصيرة، وتكون ممتعة إذا كانت نافعة؛ ولو كانت أطول من غيرها. كذلك لم يُنقل مقدار الخطبة، وإنما وُصِفت بأنها يسيرة فقط، مع أن الصحابة حفظوا ما هو أقل شأناً من الخطبة، وقدَّروه بمقادير يمكن معرفة الزمن فيها على وجه التقريب؛ وذلك حتى لا يكون المنقول أو تحديدُه ميزاناً توزن به الخطب فلا تتعداها، وحينئذٍ لا تفي بحاجات الناس المختلفة عبر الزمان والمكان، فذُكِر الأصل وهو التخفيف، وتُرِك مطلقاً بلا تحديد؛ ليراعيه الخطيب، ولا يكون مقيِّداً له أو حُجة عليه؛ فلا يستوفي موضوعاته بسببه؛ وذلك شرع الحكيم العليم، جل في علاه. وهذا التخريج تجتمع به الأدلة، ولا يُضرب بعضها ببعض، ويبطل حجة من يقول: الخطباء يدعون الناس في خُطَبهم لاتزام بالسُّنة ثم يخالفونها هم في خطبهم. اختلاف أحوال لناس: من تأمَّل اختلاف أحوال الناس والجوامع والخطباء عبر الزمان والمكان والظروف المحيطة بهم تبيَّن له شيء من حكمة الشارع الحكيم - جل وعلا - في الأمر بالإقصار مع عدم تحديده : 1 - فبعض الناس يكونون في عمل ودراسة يوم الجمعة كما في المراكز الإسلامية في كل البلاد الكافرة، وهذا يقتضي مراعاة أحوالهم أكثر من غيرهم؛ لأنهم يقتطعون وقتاً من عملهم أو دراستهم لأجل الصلاة؛ فليس حالهم كحال من عندهم يوم الجمعة إجازة. 2 - وبعض الجوامع تكون مهيأة، والمصلون فيها مرتاحون؛ فهي ليست كالجوامع التي فيها حر شديد ولا وسائل فيها للتبريد، أو كان البرد فيها شديداً ولا وسائل للتدفئة. 3 - وبعض الأئمة يكون محسناً للموضوع الذي يتحدث فيه، وتكون أفكار خطبته مرتبة، وفيها فوائد جليلة، وودَّ الحاضرون أنه لا يسكت لكثرة الفوائد التي ينثرها عليهم؛ فهذا ليس كفاقد المعرفة الــذي لا يُلِمُّ بموضـــوع خطبته أو كانت معلوماته غير وافية في الموضوع المراد، فيمَل الناس حديثه. 4 - ومن الخطباء البليغ الممتع، ومنهم العيي المتأتئ، يعيد في الموضوع ولا يفيد؛ فالأول لو خطب ضِعف خطبة الثاني ما ملَّه الناس وملُّوا الثاني، وهذا مشاهَد؛ إذ يقوم رجل عقب الصلاة فيتحدث عشر دقائق ليس في موعظته موضوع محدد، ولا يدري الحاضرون ماذا يريد، كأنه تحدث لأجل الحديث فقط؛ فهذا ينصرف الناس عنه منذ أن تبين لهم حاله، ويأتي متحدث متمكِّن لديه موضوع مهم محدد، يجيد الكلام فيه فيمكث نصف ساعة لم يتحرك أحد من مكانه؛ فهذا لا يصدق عليه أنه أطال ولو أطال، والأول يصدق عليه أنه أطال ولو لم يزد على عشر دقائق؛ لأنه حبس الناس ولم يفدهم بشيء. 5 - وبعض المصلين يكونون على قدر من العلم والمعرفة، ويحبون بعض التفاصيل في الموضوعات التي يطرقها الخطباء، ولا يشبعهم الكلام العام؛ لأنهم يعرفونه في الأصل، وفي النوازل يريدون حكم أهل العلم فيها، فيقتضي ذلك شيئاً من الطول، وعكسهم من كانوا قليلي علم، ضعيفي إدراك فلا يَحْسُن لهم إلا الاختصار والتسهيل والتركيز؛ ليدركوا ما يقول الخطيب. 6 - وبعض البلاد تكثر فيها الأحداث والنوازل وتتزاحم الموضوعات على الخطيب فيضطر لاستيعاب كل موضوع على حدة؛ لأنه قد لا يعود إليه مرة أخرى، وبلاد أخرى (كالقرى والمدن الصغيرة) أحداثها أقل، ومشاكلها أصغر، فلا تُساوى بالأولى. ومع الانفتاح الإعلامي صارت الموضوعات تتجدد، والأحداث تتسارع، وكل الأحداث الكبرى في الأرض تُنقل للناس، فيؤمون المساجد يوم الجمعة لمعرفة الأحكام الشرعية فيما يستجد، وهذه قضية مهمة ما كانت موجودة عند الخطباء السابقين حينما كانت الحوادث محصورة على المكان الذي هم فيه، وقد أخطأ من ظن حصر الخطبة في الوعظ البحت فقط؛ فالخطبة تعليم وتوجيه ووعظ وإرشاد وبيان أحكام. 7 - والموضوعات الملقاة على الناس ليست واحدة: فمنها ما يكفي فيه الاختصار، ومنها ما يحتاج إلى شيء من طول للإيضاح؛ فليست على سنن واحدة في أهميتها وحاجة الناس إليها، ومعرفتهم بها. 8 - والزمان كذلك يختلف؛ فليست الخطبة في العشر الأواخر من رمضان مع سهر الناس للقيام كغيرها في سائر العام، وكذلك المكان فليست الخطبة في الحرم المكي وهو ممتلئ بالطائفين يوم النحر كمثلها في أوقات السعة. مقترحات تُعِين على إقصار الخطبة: 1 - تصوُّر الموضوع تصوراً صحيحاً: وذلك بجمع مادته قبل الكتابة وتقسيمها وترتيبها. 2 - معرفة زمن الخطبة بعدد الأوراق التي يكتبها حسب إلقائه في العادة: فيحد نفسَه بعدد من الصفحات يقصر عنه لكن لا يتجاوزه إلا لضرورة. 3 - إن اكتمل موضوعه وكانت الخطبة أقصر مما اعتاد عليه فَلْيُبقها كما هي عليه - إن لم يكن إقصارها مخلاً - ولا يلزم أن يزيد أي كلام ليصل إلى الحد الذي وضعه؛ لأن الإقصار أصل شرعي في الخطبة إذا لم يُخِل بالموضوع. 4 - إثراء الخطبـة بنصـوص الكتـاب والسـُنة، واختيار ما هـو قطعـي الدلالــة: فـلا قـول لأحـد مع قـول اللــه - تعالى - وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والخطيب يريد إقناع المنصـتين لخطبتـه، وهم مؤمنون بالوحي؛ فتدعيم الخطبة بالنصوص يكفي الخطيب مؤنة كلام كثير في الإقناع. 5 - اختيار الكلمات والجمل الجامعة والأمثال والحِكم، التي تغني عن كلام كثير، وقد أوتي النبي - صلى الله عليه وسلم - جوامع الكلم. 6 - اجتناب إطالة الوصف بالجمل المترادفة التي تؤدي معنىً واحداً: وهي آفة كثير من الخطباء الذين يحبون السجع ويتكلفونه؛ إلا إذا اقتضت الحاجة للوصف وذِكْر المترادف. 7 - الاقتصار على الشاهد من النص: فأحياناً تكون الآية أو الحديث أو الأثر طويلاً وموضع الشاهد منه قصير جداً، فيورد الخطيب كل الآية أو الحديث أو الأثر فيطيل على الناس ويربك تركيزهم، وأحياناً يسبق الحديث أو الأثر قصةٌ لا علاقة لها بموضوع الخطبة فيسوقها الخطيب ولا داعي لها. 8 - إذا تبيَّن للخطيب أن الموضوع طويل فالحل هنا قسمته إلى عدة موضوعات بدل الإطالة. 9 - الاكتفاء بذكر النص المستشهَد به - سواء كان آية أم حديثاً أم قولاً لأحد - عن ذكر معناه معه أو نتيجته: ومثال ذلك: بعض الخطباء في ذكر فضائل الجمعة يقول: وفيها ساعة إجابة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله - تعالى - شيئاً إلا أعطاه الله - تعالى - إياه؛ وهي آخر سـاعة من العصر؛ لما جاء في الحديث... ثم يسوق الحديث بتمامه؛ فهذا تكرار لا داعي له، وكان بالإمكان أن يوجز العبارة بقوله: وفيها ساعة إجابة أخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله... وأشد من ذلك أن يكرر في الكلام والأفكار لغير معنى يقتضي ذلك كالتأكيد ونحوه. 10 - إذا كان موضوع الخطبة عن طاعةٍ قصَّر الناس فيها، أو معصية وقعوا فيها، أو مشكلة حدثت فيهم، ومعلوم أن مثل ذلك: له أسباب وآثار وعلاج، وأحياناً تكون الآثار دينية ودنيوية وتكون طويلة؛ فلأجل الإقصار وعدم الإطالة أقترح أن يفرد الأسباب في خطبة، ويشير سريعاً للآثار والعلاج، ويضع أخرى للآثار ويشير فيها سريعاً للأسباب والعلاج، وثالثـة للعـلاج ويشير فيهـا للأسباب والآثار، ولا سيما في الموضوعات المهمـة، فيعـود بفـوائد عدة، منها: عدم الإطالة، وإعطاء الموضوع حقه، وتكريره على الناس بأساليب مختلفة. 11 - اجتناب الشرح الممل الـذي لا داعي له، أو إيضاح ما هو واضح، أو الإطالة في تخريج الأحاديث أو شرح الغريب؛ إذ محل ذلك الدروس والبحوث لا الخطب.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
[1] رواه البخاري:(892)، ومسلم: (851).
[2] رواه مسلم: (857).
[3] رواه مسلم: (857)
[4] رواه مسلم: (869). والرواية الثانية لأبي داود: (1106). ونقل الشوكاني عن العراقي أن وقفَه أولى بالصواب، نيل الأوطار: 3/331. [5] رواه مسلم (866) والرواية الثانية لأبي داود(1107).
[6] رواه أبو داود: (1096)، وأحمد:4/212، وفي سنده شهاب بن خراش أبو الصلت مختلف فيه، ونقل الشوكاني تصحيح ابن خزيمة وابن السكن، وتحسين الحافظ للحديث. انظر: نيل الأوطار:3/330.
[7] الحاوي الكبير: 2/443.
[8] شرح السنة: 4/364.
[9] القوانين الفقهية: ص56.
[10] انظر: بدائع الصنائع: 1/263، شرح الخرشي على مختصر خليل: 2/82، والأوسط لابن المنذر: 4/60، والكافي لابن قدامة: 1/222، والمغني: 2/78.
[11] الذخيرة: 2/345.
[12] نيل الأوطار: 3/332.
[13] الاستذكار:2/363.
[14] الاستذكار:2/364.
[15] قال - رحمه الله تعالى -: ولا تجوز إطالة الخطبة. المحلى: 5/60.
[16] معرفة السنن والآثار: 2/61. وانظر: نهاية المحتاج: 2/326، وحاشية الجمل على شرح المنهج: 2/35.
[17] أسنى المطالب: 1/260.
[18] مجموع الفتاوى: 22/597.
[19] وقد نشرت بعض الصحف المصرية أن وزارة الأوقاف المصرية ألزمت الخطباء بأن لا يزيدوا في خطبهم على (ثلث ساعة) وحقَّقتْ مع سبعة خطباء؛ لأنهم تجاوزوا ذلك، وفي ظني أنها أخطأت في التحديد، وفي إلزام الخطباء بما لم يَرِد، كما أن الخطباء - إن كان دأبهم المشقة على الناس بالإطالة - فقد أخطؤوا.
[20] فتح الباري لابن رجب:5/490.
[21] المجموع:4/448.
[22] نهاية المحتاج: 2/326، حاشية الجمل على شرح المنهج: 2/35 .
[23] الشرح الممتع: 5/65.
[24] حاشية الجمل: 2/35.
[25] الموقع الرسمي للشيخ ابن جبرين على الإنترنت.
[26] موقع جامع شيخ الإسلام ابن تيمية على الإنترنت.
[27] رواه من حديث إبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -: البخاري (6740)، ومسلم: (466). [28] رواه مسلم: (873).
[29] رواه البخاري: (1027).
[30] رواه البخاري: (6442)، ورواه مسلم مختصراً.. (1691) .
ابو وليد البحيرى
2019-11-01, 04:19 PM
صــفـات الخطـيـــب
1- أول صفة وواجب على الخطيب الداعية: العلم بالقرآن والسنة.
2- العمل بعلمه فلا يكذب فعله قوله ولا يخالف ظاهره باطنه.
3- الحلم وسعة الصدر فكمال العلم في الحلم, ولين الكلام مفتاح الصدور قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ ﴾ (آل عمران 159).
4- وجوب الجهر بالحق وبالحكمة والموعظة الحسنة حتى لا يهاب أحدا في الجهر بالحق ولا تأخذه في نصرة الله لومة لائم, ففي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: ( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ) رياض الصالحين رقم 186.
5- ومن صفات الخطيب العفة واليأس مما في أيدي الناس فمن لم يفعل فقد باع دينه بدنياه.
6- القناعة في الدنيا والرضا منها باليسير.
7- قوة البيان وفصاحة اللسان: وإلا كان النفع بعيدا, قال الله تعالى على لسان سيدنا موسى: ﴿ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ (طه: 27-28)، رغبة منه عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام في غاية الإفصاح بالحجة والمبالغة في وضوح الدلالة.
9- لين العريكة وهناء النفس والتواضع.
10- أن يتصف ببذل الجهد لإعطاء الموعظة البعيدة التأثير وأن لا يبخل بما من الله عليه من العلم والمعرفة وأن يكون على جانب كبير من الهمة العالية صبورا لقوله تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ وأن لا يضع نفسه موضع التهمة تحسبا لإساءة الظن به.
منقول
ابو وليد البحيرى
2019-11-11, 02:54 PM
تجربة في الخطابة (الجزء الاول)
د. لطف الله خوجة
مضى على انتظامي في الخطابة أربعة عشر عاماً، وهي مدة كافية لتسجيل ما لدي من خبرة في هذه التجربة.
مهما تعلم المرء ودرس كيفية إعداد الخطبة، فلن يكون مثله مثل من نالها عن خبرة، ومكابدة، ومعالجة طويلة، وليس المعنى غلق باب الاستفادة من السابقين، كلا، لكن الفائدة لا تكمل ولا تحسن، ولا تتعمق إلا بالمكابدة، وحسب المستفيد من تجارب الآخرين أنه تقدم خطوات.
كيف تعد خطبة؟ سؤال مهم لأمرين:
الأول: كونه يتعلق بأمر شرعي؛ فقد أمر الله المؤمنين بإقامة خطبة الجمعة، وأوجبها وفرضها.
الثاني: كونه يتعلق بعملية لها تأثير كبير في صياغة التوجهات والعقول.
أولاً: مشروعية الخطبة.
شرع الله -سبحانه وتعالى- للمسلمين عيداً كل أسبوع، يجتمعون فيه للصلاة وسماع الذكر، وهم في أحسن هيئة، متطهرين متطيبين خاشعين، كافين أيديهم وألسنتهم، سامعين منصتين؛ كما جاء الأمر بذلك في نصوص معروفة، فاستماع الخطبة غاية، فإن الصلاة يجتمع لها كل يوم خمس مرات، لكن الجمعة امتازت بالخطبة، ومن هنا أمر الشارع وحث على حضور الخطبة، ورتب أجور كبيرة على التبكير؛ فقد روى أبو داود بسنده عن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغُ؛ كان له بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها" [في الطهارة، باب: الغسل يوم الجمعة]
وحُرِم من تأخر، فأتى بعد الشروع في الخطبة، من أن يكتب في صحيفة المسارعين.
فإذا تأملنا حرص الشارع على تهيئة الناس، وإعدادهم لسماع الخطبة؛ أدركنا أهمية العناية بأمرها، وإتقانها وأدائها على أحسن وجه ممكن، فقوم جاؤوا متطهرين متطيبين خاشعين، في أدب وإنصات، لا يتحقق مثله في غير هذا الموطن، من حقهم أن يحترموا ويقدروا، ولا يتحقق تقديرهم إلا بإسماعهم المفيد الجيّد الحسن من الذكر والعلم.
فقد أتوا طائعين، ولو شاءوا لكانوا من المتأخرين، فليس من المروءة والكرم مقابلتهم بكلام غير مفيد، أو كلام مملٍّ غير مرتب، لم يبذل فيه مجهود، وربما كتب قبل الجمعة بساعة!!..، فما أمر الله تعالى به يجب أن يتقن، فهو من القربات، وإتقان القربات يزيد في الحسنات.
ثانياً: أثر الخطبة في تقويم الناس.
أستطيع أن أقول- وبثقة-: إن المنابر هي المؤثِّر الأول في توجيه الناس.
ربما كان هناك من يرى وسائل الإعلام أشد أثرا، وأنا أوافقه على ذلك بقيد - ما إذا كان ما يعرض فيها من جنس ما يطرح في المنابر.
نعم حينذاك يكون لوسائل الإعلام أثرا كأثر المنابر، لكن إذا كان المعروض في وسائل الإعلام فاسد الفكر والخلق، فلا، بل الغلبة للمنابر بلا ريب؛ وذلك أن كل باطل فمصيره إلى الزوال ولا بد، ولا يبقى إلا الحق؛ قال تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [الرعد:17]، (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) [سـبأ: 48-49](بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء:18]
فالمنابر ليس فيها إلا الحق والإيمان، وهو الباقي، وأما غيرها فما فيها من باطل فلن يبقى، ولو اتبعه الناس فإلى حين.
أما ترى الناس إذا أرادوا الخير والنجاح والنجاة لأنفسهم في تفريج كربة، أو جواب سؤال، أو حل مشكلة؛ توجهوا إلى المساجد، وتركوا وسائل الإعلام وما فيها- إذا كان باطلاً- وراءهم ظهرياً؟
فهذا حال الناس، يبحثون عن اللهو واللعب في وسائل الإعلام، أما الجد والانطلاقة الصحيحة والإيمان، فإنهم إنما يبحثون عنها في بيوت الله تعالى، حيث المحاريب والمنابر، وكراسي العلم.
وهذه حقيقة ساطعة يجب أن نلتفت إليها؛ لندرك حقيقة أثر المنبر، فإنه المؤثر الأشد على قلوب الناس.
ولا أدل على هذه الحقيقة من نجاح هذه المنابر في توعية الناس، واستنقاذ قطاع عريض منهم من فساد كثير من وسائل الإعلام، حتى باتت مصدر قلق لكل من يعادي الإسلام. ولقد تمنى كبار النصارى أن يكون لهم منبر يجتمع الناس إليه كل أسبوع، كما للمسلمين.
إن الأثر الكبير للمنبر ينبع من كون ما يلقى فيه، ويتلى عليه، إنما هو كلام الله تعالى، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كلام يدور حول ذلك.
ومعلوم أن خطاب الشارع يلمس الفطر مباشرة بلا واسطة، ومن دون حجاب، ويخاطب العقل بحجة واضحة، فإذا كان الكلام يمس الفطر مباشرة، ويحج العقل بأدلته، فلا ريب أنه سيكون المؤثر الأقوى على النفوس، وهذا سر تأثير الخطب أكثر من غيرها.
إن فيها الصدق، وليس فيها الكذب.
فيها الأمانة، وليس فيها خيانة.
فيها حرارة الإيمان، وليس برودة الكفر.
فيها المحبة، وليس فيها الكراهية.
فيها الإرشاد إلى الخير، والتحذير والتبصير بحقيقة الشر.
فيها الفضيلة، وليس فيها رذيلة.
وكل ذلك يخترق الآذان، ويصل القلوب، ويخاطب النفوس بحساسية وشفافية.
ها قد عرفنا طرفاً من أهمية الخطبة، من حيث الشرع، ومن حيث أثرها، فإذا بان ذلك، فإن السؤال السابق يعود مرة أخرى ليطلب جوابه كيف تعد خطبة؟نعم كيف تعد خطبة؟
طريقة إعداد الخطبة:
أول ما يتبادر إلى الذهن عند طرح هذا السؤال, الطريقة التقليدية السائدة، وهي: تحديد الموضوع المراد، ثم حصر أدلته من الكتاب، ثم من السنة، ثم تتبع أقوال أهل العلم، ثم ترتيبه على هذا النحو، ثم بيان حقيقته وصوره وأهميته، وفوائد الامتثال لما جاء فيه، وسلبيات إهماله، مع مقدمة وخاتمة.
لو ضربنا مثلاً بموضوع الربا، فإن الطريقة المتبعة في الإعداد هي: إيراد أدلة تحريم الربا من القرآن، ثم من السنة، ثم أقوال أهل العلم، ثم بيان حقيقته وصوره، ثم الحكمة من تحريمه، وفائدة اجتنابه، وخطر التعامل به.
وهكذا في كل موضوع.. قد تختلف بعض النقاط، وقد تزيد وقد تنقص، ويقدم هذا ويؤخر هذا، بحسب الموضوع، لكن البنية الأساسية في جميعها واحد.
ووصف هذه الطريقة أنها تقليدية لا يعني بالضرورة ضعفها أو عدم جدواها، كلا، فقد تكون مفيدة، وقد لا يتيسر غيرها، وقد تكون في غاية التأثير؛ وذلك بحسب جودة الإعداد، ودقة العبارة، وحسن العرض، لكن هي على كل حال طريقة منطقية تقليدية، وترتيب سائد معروف عند أهل العلم وغيرهم.
وهي أحسن الطرق في استيفاء نقاط الموضوع، وإعطاء كل نقطة حقها من الكلام والعرض، لكن هل الخطبة مختصة بهذه الطريقة ضرورة؟.. وهل يجب أن يكون ما يطرح فيها مستوفى النقاط غير ناقص؟.
وهذا التساؤل سوف نجيب عنه في الحلقة القادمة -بإذن الله-.
ابو وليد البحيرى
2019-11-12, 05:46 PM
تجربة في الخطابة (الجزء الثانى)
د. لطف الله خوجة
في الحلقة الأولى ذكرنا أهمية العناية بأمر الخطبة، وكيف أن المنابر هي المؤثر الأول في توجيه الناس، وعرفنا أهمية الخطبة من مبدأ الشرع.
وذكرنا طريقة إعداد الخطبة (التقليدية) وتساءلنا: " هل الخطبة مختصة بهذه الطريقة ضرورة؟ وهل يجب أن يكون ما يطرح فيها مستوفى النقاط غير ناقص"؟
الجواب: يبدو أن ذلك ليس واجباً. وليست الخطبة مختصة بتلك الطريقة، بل هي طريقة من الطرق، ومن الجائز اتخاذ طرق أخرى غيرها، ما دامت خالية من أي محذور شرعي، والعلة في ذلك:
أن الخطبة لا يشترط فيها أن تكون درساً علمياً، يجب فيه الشرح والتفصيل والاستيفاء، بل قد تكون موعظة وتذكرة لا يشترط فيها إلا صحة الكلمة، وتحريك القلوب، لا يلزم فيها الاستيفاء والشرح، كما هو معلوم، فبالكلمة الواحدة والجملة والجملتين، قد تتحقق الموعظة ذات الأثر البالغ، ويحصل المقصود، وهذا مجرب معروف، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعظ في خطبه، كما كان يعلم، في كلمات معدودة، قصيرة لا تتجاوز بضعة دقائق، لكنها مؤثرة، محركة للقلوب، مقومة للسلوك، يلقيها النبي -صلى الله عليه وسلم- بصوت مسموع مرتفع، يشتد، وتحمر عيناه، كأنه منذر جيش، يقول: (صبحكم، ومساكم). [مسلم، الجمعة، باب: تخفيف الصلاة]
فنحن الآن بين نوعين من الخطب: الخطب العلمية، والخطب الوعظية.
وكلاهما مهم، والناس بحاجة إليهما، الخطب العلمية لها طريقتها الموصوفة بالتقليدية -كما بينا آنفاً- والوعظية لا يشترط فيها ما يشترط في العلمية..
وبكلا النوعين كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، وكانت خطبه تمتاز بالقصر، والكلمة الجامعة، ولم يكن يحرص على استيفاء نقاط ما يريد الكلام فيه، ولا اتباع طريقة الشرح والتحليل، بل كلمات معدودة جامعة.
إذن، إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتبع في خطبه طريقة الاستيفاء والشرح المفصل، فهذا دليل على عدم اشتراط تلك الطريقة، وهذا هو المطلوب.
لكن ههنا سؤال وهو:
- أليست تلك الخطب التقليدية خلاف هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبه؟
- وأليس من السنة قصر الخطبة، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "قصر خطبة الرجل، وطول صلاته مئنة من فقهه" [رواه مسلم، في الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة]، ومعنى مئنة: أي دالة على فقهه؟
فالجواب:
أولاً: قصر الخطبة من المستحبات، بمعنى أن التطويل ليس محرماً، وقد خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- بسورة ق.
ثانياً: المقصود بالخطبة هو الذكر والموعظة والتعليم، فإن حصل ذلك بخطبة قصيرة، وبكلمات معدودة، جامعة، يفهمها الناس، فهو الأولى والأحرى والأفضل، لموافقة الهدي النبوي، لكن:
ماذا لو أن الخطيب لا يملك الفصاحة والبلاغة، والقدرة على حصر المعاني واختصار ألفاظها؟
وماذا لو أن أذواق الناس وأفهامهم قد فسدت وتعطلت، حتى ما عادوا يفهمون إلا بالشرح والتبسيط؟..
يبدو أنه حينئذ لا مناص من الشرح والتفصيل والتبسيط، حيث إن المقصود من الخطبة هو حصول الموعظة والعلم، فإن كانت لا تحصل إلا بهذه الطريقة، فما حيلة المضطر إلا ركوبها، وعندئذ لا يبدو أن المطيل في خطبته، بالمقارنة بخطب النبي -صلى الله عليه وسلم-، مخالفاً للهدي النبوي، وذلك لأن الغاية والمقصود لا يتحقق إلا بها، وقد كانت الوسيلة في عهد النبوة الاختصار والقصر، لكون الناس على فهم صحيح، وخطيبهم أوتي جوامع الكلم، أما وقد تغير ذلك، فامتنع حصول المقصود من الخطبة إلا بالشرح والتفصيل، فلا أظن من الصواب تخطئة هذه الطريقة، خاصة إذا عرفنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب بسورة ق، والخطبة بها فيها شيء من الطول.
وتسويغ تطويل الخطبة عن الحد النبوي لا يعني التوسع في ذلك، بل ينبغي على الخطيب أن يجتهد في الاختصار قدر ما يمكنه، ويتخلص من داء التكرار المزعج، والشرح الممل حتى لما هو واضح.
ذلك من حيث قصر الخطبة وطولها، أما من حيث طريقتها، فإن الطريقة النبوية تقوم على طرح جزء من الموضوع والقضية المراد الحديث عنها، دون تقصٍ أو استيفاء، وهذا بخلاف الطريقة التقليدية القائمة على التقصي والاستيفاء.
- فهل هذه الطريقة كذلك تعد مخالفة للسنة؟.
الجواب أن يقال: الشارع لم يأمر باتخاذ طريقة معينة في إعداد الخطبة، لم يأمر بطريقة الاستيفاء، وكذا لم ينه عنه، ولم يأمر بطريقة طرح جزء من الموضوع، هو الأهم والمناسب للمقام والحال، ولم ينه عنه، بل أمر بإقامة الخطبة، وترك تحديد الطريقة، بحسب حال الخطيب، وحال السامعين، وقد كانت خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- قصيرة، ومن ثم لم يكن من الممكن بحال استيفاء الموضوع، وقد عرفنا أنه أوتي جوامع الكلم، والسامعون على قدر كبير من الفهم والإيمان والعلم، لكن الحال اليوم مختلف، الناس في قلة من العلم والإيمان، والناس محتاجون إلى معرفة كل ما يتعلق بالموضوع المطروح، لجهالتهم بكثير من أساسيات الدين، والمنبر كما أنه للوعظ كذلك هو للتعليم، فما الذي يمنع حينئذ من اتخاذ طريقة الاستيفاء؟
يبدو أنه لا مانع، خاصة وأنه ليس ثمة دليل يمنع من ذلك، غاية الأمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله، لظروف الحال في زمانه، حيث السلامة في الفهم والعلم والإيمان، فكان يكفيهم أن يذكرهم بأهم جزء في الموضوع بحسب المقام، لكن الناس اليوم بحاجة إلى طريقة الاستيفاء، كي يتعلموا ويتفقهوا، وبحاجة كذلك إلى طريقة العرض الجزئي لكيلا يملوا، فنحن إذن بحاجة إلى الطريقتين: طريقة الاستيفاء للتعلم، وطريقة العرض الجزئي للتذكرة ولفت الانتباه.
إذن الأمر واسع، وليس من السنة التضييق في شيء وسعه الله على العباد، ولم يأمر فيه بشيء.
قد عرفنا بما سبق أن الإعداد إما أن يكون بطريقة الاستيفاء، وإما بطريقة العرض الجزئي، وكل ذلك باعتبار أن الخطبة ذات موضوع واحد، لكن كيف لو كانت الخطبة أكثر من موضوع؟..
ذلك جائز وممكن، ولا يمكن فيها توفية كل موضوع حقه، ولا نستطيع أن نفاضل بين الخطبة ذات الموضوع الواحد وذات الموضوعات المتعددة، فنحن نحتاج إلى النوعين جميعاً، بحسب الأحوال والمقتضيات، فمرة قد يكون هذا أفضل، ومرة الآخر.
هذه الطريقة طريقة الإعداد: الاستيفاء، أو العرض جزئي. يحسن أن نسميها الطريقة العامة، وذلك لنفسح المجال لبيان الطريقة الخاصة للإعداد، وهي التي تصور شروط وأدوات إعداد الخطبة، كيف تكون؟
وأهم نقطة فيها هو:
- أن نفهم أن الإعداد الصحيح الجيد المؤثر المثمر، لا بد له من دافع يدفع إليه، ويغري به، ويعين عليه، بدونه تفقد الخطبة أثرها وتأثيرها، وتكون جسدا بلا روح.
هذا الدافع يقوم على فكرة: المعاناة.
ويفسرها المثل القائل: "ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة". [مجمع الأمثال لأحمد الميداني النيسابوري 2/200، المستطرف في كل فن مستظرف 69]
وأداتها: الملاحظة، والتأمل بعمق وتحليل، في الأخبار والحوادث والأحوال التي تمر بالخطيب، في كل مكان.
وشرح هذه الفكرة ما يلي:
إن الغرض من الخطبة هو: التأثير في القلوب والعقول، فمقصودها تحريك العاطفة وإعمال العقل.
والخطيب لا يمكن له أن ينجح في ذلك، ما لم ينفعل قبل بالأمر الذي يريد الحديث عنه.. لذا كان من الواجب عليه ألا يخطب إلا في أمر يشغل: قلبه، وعقله، ونفسه. حتى إنه ليتمثله في كل شيء يمر به، فيكون حديث نفسه، ونطق لسانه، فإذا كان ذلك فقد وضع قدمه على الطريق، وسهل عليه ما بعده.
قد يكون الخطيب مجيدا في اختيار الموضوع واستيفاء عناصره، لكن قد لا يكون لكلامه الأثر ما لم يعان موضوعه، ويعيش همومه وأحداثه، حتى ليمتنع لأجله من التمتع بالمباحات، لاشتغال الخاطر والذهن.
- لم كانت خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات تأثير فريد على القلوب والعقل؟
لأنه كان على يقين بما يقول، وعلى قناعة تامة بالدعوة التي عليها، وهمّ دائم لتحقيق هدف معين.
والإنسان إذا كان راسخ الإيمان بفكرة وعقيدة ما، فكل ما يصدر منه من كلام يشرح فيه فكرته وعقيدته، سيحمل معه سلطانه على القلوب، فيطرق أبوابها. لا، بل هي مفتحة تدخلها الكلمات بلا استئذان.
إن كلمات الواثق تزلزل قلوب الغافلين..
فليست العبرة بتنميق العبارات، إنما العبرة بالصدق والثقة، وذلك لا يكون إلا من قلب جرحته الحقائق، حتى تركت أثرها فيه مدى الدهر..
إن الجرح الغائر إذا كان في البدن لم يمكن إخفاؤه، فإن قدر على ستره، لم يقدر على كتم ألمه، فيبدو في وجهه وفي عينيه.. وكذلك القلب إذا جرح لم يمكن التكتم على ما فيه، ويستوي في هذا العامي والعالم، فهي ميزة تميز بها الإنسان خاصة، دون النظر إلى موقعه، ومنزلته، وشأنه..
ويستوي في أصله المجروح بحقائق الدنيا والمجروح بحقائق الآخرة، إنما يتميز المجروح بحقائق الآخرة بشرف ما جرح به، كالفرق بين من قاتل للمغنم، ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فكلاهما مسّه القرح، لكن فاز المخلص لله بالثواب، فلم يذهب ألمه سدى، بخلاف المبتغي للدنيا، فلا دنيا نالها، ولا آخرة حصل ثوابها، والخطيب بمنزلة من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وليس بمنزلة من قاتل للمغنم، فهو أولى بالمعاناة، لشرف ما يحمل، ولأنه يعلم من الحقائق ما لا يعلمه غيره من عامة الناس، روى الترمذي بسنده عن أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع، إلا وملك واضع جبهته، ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات، تجأرون إلى الله، لوددت أني كنت شجرة". [في الزهد، باب: لو تعلمون ما أعلم]
ونستكمل في الحلقة القادمة -بإذن الله- بقية الموضوع.
ابو وليد البحيرى
2019-11-13, 08:27 PM
تجربة في الخطابة (الجزء الثالث)
د. لطف الله خوجة
عرضنا في الحلقة السابقة أنواع الخطبة، وكيفية التعاطي من الخطبة التقليدية، والإيجاز والاستيفاء فيها، وعرّجنا على أدوات التأثير في الخطبة، وتوجهها للعقول والقلوب وكلمات الواثق في الخطبة، ونتابع في هذه الحلقة الأخيرة ما بدأناه عن تأثر النبي -صلى الله عليه وسلم- وصدقه وإيمانه فيما يقول ويخطب.
إذ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل هذا النوع من المعاناة، فقد تركت أثرها فيه، فبدت في كلماته، وحركاته، يقول الله -تعالى- يصف حاله مع المعاناة الإصلاحية:
"قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون* ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين* وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين* إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون".
ليست النائحة الثكلى، كالنائحة المستأجرة، وليس الخطيب الثكلان، كالخطيب المستأجر..
فمن أراد لكلماته الأثر في قلوب الناس، فليكن في كل ما يتكلم به:
- كالنائحة الثكلى..
- واليتيم الذي فقد أبويه..
- والمظلوم المهضوم..
- والمريض المتألم.
كل هؤلاء يشكون بمرارة، ويصفون حالهم بحرارة، حتى يغرق السامع معهم، فيعيش مأساتهم بنفسه، ويراها رأي العين، فكذلك يراد من الخطيب أن يكون، حتى يعيش الناس كلماته وموضوعاته، كأنهم يرونها رأي العين.
- قد يقول القائل: علمنا أهمية المعاناة لنجاح الخطبة، فكيف نولدها في نفوسنا؟
وهذا سؤال مهم، وجوابه: مختصر، ومفصل:
فأما المختصر فيقال فيه: إن الهم والمعاناة في القلب يتولد من اليقين بأمرين:
- الأول: اليقين بأمر الآخرة، من الموت، وما يتبعه من أهوال القيامة، والنعيم للمتقين، والجحيم للمجرمين.
- الثاني: اليقين بأمر الدعوة، بالعمل على استنقاذ الناس من عذاب الآخرة، شفقة، ورحمة، وخوفا عليهم.
فإذا تمكنا من القلب حضر الهم، وتحرك القلب، فنطق اللسان، وكتب القلم، وحصل الأثر.
وأما الجواب المفصل، فيقال فيه:
لا يخلو الإنسان من الهموم، والهم همان: هم الدنيا، وهم الآخرة. فمن سلم من أحدهما لم يسلم من الآخرة، والغافل من كانت همه الدنيا، أما العاقل فهو من كانت همه الآخرة، فالإنسان بين هذين الهمين ولا ثالث.
فإذا ثبت حصول الهم ولزومه للإنسان كان من العقل والحكمة أن يكون للآخرة، إذ هو المطلوب وصاحبه محمود مثاب، روى الإمام أحمد وابن ماجة بسنده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"من كانت همه الآخرة، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت همه الدنيا، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له".
وعن همّ الآخرة يتولد ويتفرع هم الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح الناس، إذ من شغلته آخرته بالرغبة في الجنة والرهبة من النار، وتعلم من دينه محبة الخير، وجد ميلاً إلى وصية الناس ونصحهم، حيث إن يقينه بالآخرة يشخصه في صورة النذير العريان، وفي صورة منذر الجيش، يقول: (صبحكم، ومساكم).
وحتماً لا بد أن يجد من يهمل وصيته، ومن يعرض عنه، ومن يجادله، ومن يعاديه، بجهل، وهذا حال البشر، لكن عنه يتولد ألم وهمّ في القلب، كالألم والهمّ يكون في قلب الأب من ضلال ولده وغوايته، فإذا صار كذلك، تكبد القلب المعاناة والحرقة، فحصل الأثر.
إذن، لمن أراد التأثير في الآخرين فعليه: أن يحمل هم دينه وآخرته، ويحمل كذلك تبعاً هم إصلاح الناس وإرشادهم، فإذا حصل له ذلك، تفقت له آفاق الكلمة، واقتدر على الإبداع بلا تكلف، فحصل التأثير المطلوب.
ذلك هو لب الموضوع، وأسّ الفكرة، ثم ما بعده إنما هي توجيهات يستكمل بها الموضوع، فمن ذلك:
1- دوام القراءة في القرآن، فإنه ينير القلب، ويزكي النفس، ويخرج الكلمات تحمل النور والزكاء.
2- متابعة أحوال المسلمين في العالم، ودوام الاطلاع على ما يستجد من الحوادث والأخبار، فهذه العناية لها أثر حسن على إعداد الخطبة، فمن المهم أن يكون الخطيب في دائرة الحدث…ومثله معرفته لأحوال المجتمع والحي الذي يقطن فيه، ومد الصلات بينه وبين السكان، والتعرف على مشكلاتهم، فإن هذا التعايش له أثر كبير في حسن إعداد الخطبة، خاصة إذا كانت تتعلق بمشكلة تتعلق بالحي، فليس الخبر كالمعاينة، ومن يتغلغل في أوساط الناس، فحديثه عنهم ليس كحديث المنعزل.
3- القراءة في تراجم الصالحين، من أنبياء وصحابة وتابعين ومن تبعهم بإحسان، فإن لها أثر كبير في خشوع النفس ورقة القلب وزيادة الإيمان، وهي قوت الأفكار والمعاني المؤثرة في القلوب.
4- ملك الخطيب أدوات الخطابة، من لغة سليمة، وعلم أصيل، فسلامة اللغة وصدق المعلومة أصل في إعداد الخطب، فاللغة السليمة لها جرس في الآذان، والمعلومة الصادقة تستقر في النفوس، وتزرع الثقة في القلوب.
5- القراءة في كتب الأدب القديمة والحديثة، القديمة، مثل: عيون الأخبار، وأدب الكاتب لابن قتيبة الدينوري، والبيان والتبيين للجاحظ، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والأمالي لأبي علي القالي، ومؤلفات الأدباء المعاصرين، كالرافعي والمنفلوطي والطنطاوي.
6- اجتناب الكتب الصعبة في ألفاظها وأسلوبها، فإن تعابير الإنسان بنات قراءاته، فإذا كانت قراءته في الكتب السهلة في أسلوبها، البليغة في عباراتها، كانت تعابيره كذلك، وإذا كانت قراءاته في الكتب الصعبة في أسلوبها، الغامضة في عباراتها، كانت تعابيره كذلك، والواجب أن تكون الخطبة سهلة العبارة، مفهومة قريبة المعنى.
7- أن تكون فكرة الخطبة واضحة كالنهار، وكذا التعبير عنها.
8- عرض الخطبة قبل إلقائها على المختصين للتأكد من سلامتها وسهولتها.
9- مراعاة التسلسل المنطقي للفكرة المطروحة، وميزانه: ألا تنفذ فكرة إلى أخرى إلا بوساطة وجسر صحيح، ومن الخطأ القفز من فكرة إلى فكرة بدون تلك الوساطة، فإن ذلك مما يغمض الكلام، ويبهم المعنى.
10- عدم التكرار في الأفكار، فإن كان ولا بد فمرتان، وضبط الجمل والبحث عن أخصر التعابير، والبعد عن الشرح الممل الطويل.
11- الخطبة تتألف من مقدمة وموضوع وخاتمة، وللمقدمة أهمية كبرى، وكذا الخاتمة، إذ هي المفتاح للدخول إلى الموضوع، فإذا أحسن كان الموضوع محل عناية الحاضرين واهتمامهم، وهنا نحن بحاجة إلى الإثارة الإعلامية، التي تجذب السامع، وطرق الجذب متعددة، مثل البدء بقصة، أو سؤال، أو التقاط أهم جملة في الموضوع والبدء به، وربما يكون بآية أو حديث أو قول لعالم، كل ذلك بحسب الأحوال، وعلى الخطيب أن يحسن اختيار مادة البدء.. وكذا الخاتمة، فإنها مهمة، ولعله من المناسب أن تكون بإعادة ذكر أهم جملة أو فكرة في الموضوع، أو بذكر ملخص شديد لما ورد في الخطبة، يستخدم فيها الحكم والأمثال أو الجمل عميقة المعنى.
وللخطبة بعد كتابتها كتابة أولية عدة مراجعات:
- فمراجعة أولى: ينظر في: جملها، وعباراتها، وصياغتها، فيعدل ويصلح ويحذف إن شاء، فهي لإعادة النظر في الصياغة.. وهي مراجعة لازمة، لكل كاتب.
- ومراجعة ثانية: يكون فيها التصحيح الإملائي والنحوي، وينصح الخطيب بالتشكيل، كي يجتنب نسيان القاعدة النحوية، ومن ثم اللحن.
- ومراجعة ثالثة: لوضع الفواصل والنقاط، ولمعرفة الوقفات، وعلامات الاستفهام والتعجب، وهذا الإعداد مهم في تيسير فهم الخطبة، فالإلقاء لا بد أن يكون محكوما بهذه القواعد، ليحصل بها الغرض، من: فهم الكلام، واستيعابه، وتصوره، ومن الخطأ إلقاء الخطب بدونها.
- ومراجعة رابعة: يعد فيها الخطيب نفسه ويدربها على طريقة الإلقاء، يلقي الخطبة عدة مرات، والأفضل أن يحفظها، ويتدرب على إلقائها مرتجلاً، ليس لأنه يلزم أن يلقيها من على المنبر كذلك، كلا، بل ليكون مدركا لما يأتي من الجمل التي يقرأها، فيفهم ما يقول قبل أن يقول، فذلك أدعى للتفاعل مع الخطبة.
تلك هي طائفة من الوصايا لإنتاج خطبة ناجحة، ولا أزعم أني أحطت بالموضوع، ولم يكن ذلك همي، وإنما همي فتح الطريق أمام راغب في: تعلم كيفية إعداد خطبة ناجحة.. والله الموفق.
ابو وليد البحيرى
2019-11-15, 05:03 AM
الخطيب المتكامل
محمود شمردن
يميل الكثير من الخطباء إلى نوعية معينة من الخطب يحبونها ويفضلونها على غيرها وتستهويهم ويحبون المتعة فيها، فنجد أحدهم يفضل الحديث في الروحانيات مثل: الموت وسكراته، والقبر وما فيه، وعلامات الساعة، ويوم القيامة وأهواله وأحداثه ومصير الناس فيه؛ إما إلى الجنة أو النار.
وهذا خطيب ثان يميل إلى الحديث عن الأخلاق الإسلامية وأنواعها، وثالث يتقن عرض السيرة النبوية من سرايا وغزوات ومواقف مرت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخر غالب كلامه وحديثه عن الأمور الفقهية، وهناك من يجيد الحديث عن الواقع والأمة وآماله، ويتعرض لمشكلات المجتمع الذي يعيش فيه مثل: الربا - المخدرات - الزنا - الغش - قطعية الأرحام - الطلاق - الغيبة - الحسد وغيرها إلخ ..
أي هؤلاء الخطباء أفضل وأحسن؟
ولعل الإجابة التي يرتاح إليها الإنسان هي أن الخطيب الذي يجيد التحدث في أكثر من فن من هذه الفنون هو أحسنهم وأعلاهم مكانة، أما الذي لا يعرف إلا لوناً واحداً من العلوم لا يجيد غيرها فهو غير قادر على مواجهة الأحداث التي تواجه المجتمع الذي يعيش فيه هذا الخطيب.
وبالتالي فالخطيب الذي يجيد الحديث في الإيمانيات والروحانيات والأسرة ومشكلاتها والعلاقات الاجتماعية والسيرة النبوية ولا ينسى الواقع الذي يحيا فيه - هو خطيب متميز تُوزن خطبه بالذهب ويرفعه الناس في منزلة رفيعة.
وعلى هذا فالخطيب الذي يحصر نفسه في زاوية ضيقة هو أقل منزلة ممن يجيد العديد من فنون الخطابة.
اختلاف معارف وثقافة الجمهور
فالخطيب عليه أن يتذكر دائماً أن المستمعين إليه ليسوا على درجة واحدة من الثقافة والمعرفة؛ فبعض الجمهور يحب الاستماع إلى الروحانيات؛ ليرق قلبه وتدمع عيناه، ونوعية أخرى تحب معرفة رأي الشرع في الواقع الذي لا يغيبون عنه، وفئة ثالثة تفضل الاستماع إلى السيرة النبوية، وطائفة رابعة تحب الجهاد والفتوحات الإسلامية وتحب الحديث عن عظمة الإسلام وهكذا.
وهذا يعنى أن الجمهور ليسوا غطاً واحداً أو أصحاب ثقافة واحدة وهذا يُلقي على الخطيب تبعة ثقيلة أن يشبع رغبات هذا الجمهور الذي تتنوع ثقافته ومعارفه فإذا استطاع أن يُسمع كل فئة ما يحبون فهذا هو عين النجاح والتوفيق.
أما الخطيب الذي يحبذ فناً واحداً فهو يكفي أنه يشبع رغبة فئة واحدة أما باقي الفئات فهي بعيدة عن تذوق العيش في الجو الذي يجيده الخطيب.
الخطيب أول الضحايا:
فالخطيب الذي يحصر نفسه في لون واحد من الخطب لا يجيد عنه شيئاً. عن هذا جهله الكبير بباقي الفنون والعلوم الأخرى، ومن ثم ستصبح ثقافته الشرعية محدودة وقاصرة بينما زميله الذي يجيد العديد من الفنون سيصير ذا ثروة عالية من العلوم الشرعية وبالتالي يجعله قادراً على الحديث في أي موضوع وأي مكان نظراً لمعارفه الواسعة التي جمعها من غالب هذه العلوم.
فالخطيب الذي يجيد فناً واحداً ستزداد مشكلته لو نُقل من مسجده إلى مسجد آخر وكان جمهور المسجد الجديد يحبون لوناً آخر غير اللون الذي يميل إليه الخطيب وهذا سيُلقي عليه عبئاً ثقيلاً في القراءة والاطلاع، وربما يحتاج إلى وقت وجهد ليجد الثمرة المرجوة.
تربية غير متكاملة:
فالخطيب الذي لا يعرف إلا لوناً واحداً من الموضوعات سيؤدى إلى إخراج شخصيات غير متكاملة من جميع الجوانب؛ الإيمانية، والأخلاقية، والسلوكية، وفي المعاملات مع الناس، بل سينجح في تغليب جانب واحد على باقي الأمور بصورة ليس فيها توازن ولا تناسب.
فقد يترتب على كثرة الحديث الدائم عن الدار الآخرة بصورة مبالغ فيها قد تؤدي إلى زهد الناس في الدنيا وعدم السعي للتمكين للإسلام ومجاهدة الباطل وقد يظنون أن التمتع بالطيبات من الرزق لا يتفق من كمال الإيمان.
وهذا يتنافى مع قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ …) الأعراف.
صورة غير متكاملة عن الإسلام:
فالإسلام دين شامل يشمل مظاهر الحياة فهو يتضمن: أخلاقاً، وسلوكاً، وعبادة، وعقيدة، ومعاملات، وإيمانيات، وسيرة، وتاريخ، وغيرها ..
فعندما يتحدث الخطيب باستمرار عن فن واحد يظن المستمع أن هذا هو الإسلام، وأما غيره فليست لربه علاقة.. وهذه صورة خاطئة عن الإسلام الذي تميز بشموله فهو عقيدة، وعبادات، وأخلاق، ومعاملات، بينما هذا الخطيب لا يعرف إلا شيئاً واحداً وهذا يمثل ظلماً لهذا الدين قد أساء هذا الخطيب في عرض شريعة الله تعالى للمستمعين.
في القرآن البيان والشفاء:
والناظر في آيات القرآن الكريم سيجد أن السورة الواحدة ربما اشتملت على العديد من الموضوعات مثل الحديث عن قدرة الله عز وجل، وعن آياته في الكون، وتناول الأنبياء السابقين وما جرى مع أقوامهم، وقد تتطرق للحديث عن بعض الأخلاق الإسلامية، وقد تشير إلى يوم القيامة وما يكون فيه.
فمثلاً لو أخذنا سورة الغاشية التي تتناول الحديث عن الآخرة وعن افتراق الناس إلى فريقين: أهل الجنة وما أُعد لهم ، وأهل النار وما ينتظرهم، ثم تأخذ الآيات إلى رحاب الكون الواسع والدعوة إلى التفكر في كون الله تعالى، وما حول الإنسان من الإبل والسماء والجبال والأرض، ثم الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأن مهمته قاصرة على البلاغ المبين، ثم بعد ذلك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ثم الله تعالى يتولى حساب الخلائق يوم القيامة، افتح المصحف واقرأ هذه السورة جيداً يقول الله تعالى : (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ * وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ * لاَ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ * وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ) الغاشية.
فالقرآن الكريم متكامل في عرضه للموضوعات والله تعالى يقول: (إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ …) الإسراء.
وفي السنة النبوية المباركة الحُجة والبرهان:
وإذا نظرنا إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم سنجد أنها عامرة بالعديد من الموضوعات التي يحتاجها الفرد والمجتمع؛ سواء في علاقته مع ربه أو مع الناس، ولن نجد فناً واحداً أو إطاراً محدداً تنحصر فيه السنة النبوية هذا ما يدفع الخطيب إلى الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمثلاً هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد، رضي الله عنه: عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".
فهذا يستطيع الخطيب أن يتحدث عن موضوع التقوى وثمراتها، وكذلك عن مآل الحسنات والطاعات وأجرها عند الله تعالى، وأخيراً الخلق الحسن عند معاملة الإنسان لغيره.
وبالتالي فهنا ثلاثة موضوعات يمكن للمتحدث أن يتناولها في خِطابه وهي متنوعة لتعلم الخطيب أن يتنوع في خطابه مع الناس.
وهكذا السنة تتناول العديد بل العشرات من الموضوعات وليس موضوعاً واحداً ويمكن لأي إنسان أن يعرف هذا دون بذل جهد كبير.
انفضاض الناس من حوله:
وإذا اعتاد الخطيب لوناً واحداً من الخطابة فقد يترتب على ذلك أن يفقد أعداداً كبيرة من مؤيديه ومحبيه الذين لا يجدون بُغيهم عنده أو ضآلتهم فيه، ويأخذون في البحث عن بديل آخر يشبع لهم رغبتهم؛ أما الخطيب الذي يجيد الحديث في أكثر من لون من فنون البيان فهذا سيزيد شعبيته بين الناس ويرفع أسهمه عند المستمعين.
وقد سمعنا وعاصرنا العديد من الخطباء الذين ملكوا قلوب الناس وردد الجمهور خطبهم؛ لأنهم تميزوا بقدرتهم على الحديث في كل موضوع يخدم الإسلام والمسلمين.
كلمة أخيرة لابد منها:
ليس معنى ذلك أن الخطيب الجيد هو الذي يتحدث في كل الأمور بدرجة واحدة من الكفاءة والإتقان، ولكنه قد يكون متميزاً في جانب على باقي الجوانب، ولكنه يمتلك القدرة على الحديث في العديد من الموضوعات.
أخي الخطيب رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة فهيا نبدأ من الآن الطريق نحو التميز في الخطابة. كيف الطريق: هذا ما سنكمله الحلقة التالية.
ابو وليد البحيرى
2019-11-15, 05:06 AM
حرفة الوعظ
فيصل يوسف العلي
لقد شاع في البلاد واشتهر فيما بين العِباد والعُبّاد اتخاذ الدعوة إلى الله حرفة ومكسبًا لجمع الدنيا وسبيلًا، يشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا، ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، فهم كحاطب ليل، لا يفرقون بين نفع وضر.
تعيب دنيا وناسًا راغبين لها وأنت أكثر منهم رغبة فيها
فالواجب على العاقل ألا يكون مفرطًا في الحرص على الدنيا فيصبح مذمومًا في الدارين، بل يكون قصده إقامة فرائض الله، ويكون لبغيته نهاية يرجع إليها، لأن من لم يكن لقصده منها نهاية آذى نفسه وأتعب بدنه.
لا تخضعن لمخلوقٍ على طمع فإن ذاك مضر منك بالدين
فطوبى لمن كان شعار قلبه الورع، ولم يُعْمِ بصره الطمع، ومن أحب أن يكون حرًّا فلا يهوى ما ليس له، لأن الطمع فقر، كما أن اليأس غنى، ومن طمع ذَلَّ وخضع، كما أن من قنع عف واستغنى.
ولا تطلب عوضًا على عمل لست له فاعلًا، ويكفي من الجزاء لك على العمل أن كان له قابلًا، لأن الذي يسَّرَ لك هذا العمل هو الله «والله خلقكم وما تعملون».
كيف تطلب العوض على عمل هو متصدق به عليك؟ أم كيف تطلب الجزاء على صِدقٍ هو مهديه إليك؟ «وما بكم من نعمة فمن الله».
والذي يدفعني إلى الحوار بهذه المشكاة ما يلقاه الإسلام اليوم من هزائم متتابعة لضعف المتحدثين عنه وكثرة الآكلين به والمرائين، نخاف على ديننا من متحدث جاهل، أو منافق عليم اللسان، أو سياسي يتخذ إلهه هواه!
«من كان يريد حرث الآخرة»، أي كسب الآخرة، والمعنى من كان يريد بعمله الآخرة «نزد له في حرثه» أي بالتضعيف، ونزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات له،«ومن كان يريد حرث الدنيا» يعني يريد بعمله الدنيا مؤثرًا لها على الآخرة «نؤته منها» أي ما قدر وقسم منها «وما له في الآخرة من نصيب» يعني لأنه لم يعمل لها.
وذلك أن الإحسان إلى الغير تارة يكون لأجل الله تعالى لا يريد به غيره، وهذا هو الإخلاص، وتارة يكون لطلب المكافأة وأخرى لطلب الحمد من الناس، وهذان القسمان مردودان لا يقبلهما الله تعالى، لأن فيهما شركًا ورياءً، فنفوا ذلك عنهم بقولهم «إنما نطعمكم لوجه الله».
أين الصحابة من أصحابنا؟ هيهات ما القوم من أضرابنا، ولا ثوابهم في الأخرى مثل ثوابنا، آثر الصحابة الفقر والمجاعة، واشتغلوا عن الدنيا بالطاعة، أفينا مثل أبي حنيفة ومالك أو كالشافعي الهادي إلى السالك؟ أفينا أعلى من الحسن وأنبل، أو ابن سيرين الذي بالورع تُقبِّل، أو كأحمد الذي بذل نفسه وسبّل؟
يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، أي يريدونه بأعمالهم، كانوا يصبرون على المجاعة، ويخلصون الطاعة، ولا يضيعون ساعة، فيا فخرهم إذا قامت الساعة!
وكان المنصور يعظم عمرو بن عبيد- لنا زهده وإخلاصه- فقال له عظني فوعظه، ثم قال يا أبا عثمان هل من حاجة؟ قال: لا تبعث إلي فقال المنصور يعظمه:
كلكم يمشي رويد
كلكم يطلب صيد
غير عمرو بن عبيد
وقال عبدالله بن المبارك واعظًا ابن عُليَّة:
يا جاعـل الــعلــم لـه بازيـا يصطاد أموال المساكين
احـتلـت لـلـدنيـا ولـذاتـهـا بحيلة تذهـب بـالـديـن
فصرت مجنونًا بها بعدما كـنـت دواء المـجــانـين
وأنت تدرك أن فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا لم يكن الداعية والواعظ موصولًا بالله فإن دعوته إلى الله لا تثمر ولا تنفع وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، لابد أن يكون فعلًا عاشقًا لدينه ولربه ولنبيه، ومحبًّا لنقل الخير إلى الناس بعشق ورغبة شديدة، وأما الصناعة فإنها قد تصلح في كل شيء إلا في الدعوة إلى الله.
ابو وليد البحيرى
2019-11-16, 05:17 AM
استدلال الخطيب بالقرآن في خطبة الجمعة
الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل
صلاة الجمعة من أعظم الطاعات التي تقرب إلى الله تعالى، والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يحرصون على أدائها أكثر من غيرها، ولا يفرطون فيها وإن كان كثير منهم يقصِّرون في الصـلوات الخمس الأخرى، حتى الأعاجم من المسلمين في البلاد العربية يحضرونها في المساجد وإن لم يفهموا إلا قليلاً مما يقوله الخطباء.
والمسلمون في البلاد الكافرة من غربية وشرقية يقيمونها في مراكزهم الإسلامية، ومن عجزوا عن إنشاء مسجد أو مركز أقاموها في دور بعضهم أو في الحدائق العامة أو غيرها، ولكنهم لا يتركونها - في الغالب - بحجة العجز عن مكان يجمعهم.
وما يكاد الخطيب يدعوهم عقب الصلاة إلى التبرُّع بشيء من المال لشراء موقع المسجد أو توسيعه أو سداد إيجاره إلا انصرفت أيديهم إلى جيوبهم للمساعدة على ذلك. والمراكز الإسلامية في البلاد الكافرة لا تكاد تنفك عن طلب التبرع في كل جمعة، ومع ذلك ما ضجر المسلمون من كثرة ذلك فتركوا حضورها، ولا أمسكوا أيديهم عن البذل عقب صلاة الجمعة لتشييد مساجد لإقامتها.
وكثيراً ما عجب الغربيون من الجاليات المسلمة حين يُقتِِِِّر أفرادها على أنفسهم وأولادهم لسداد إيجار المركز أو المسجد، أو شرائه، كما يعجبون أيضاً من تنامي المراكز والمساجد في بلاد الغرب، وكثرتها واتساعها شيئاً فشيئاً، ويعجبون أكثر حين يرون الزحام الشديد على هذه المراكز يوم الجمعة مع خلوِّ الكنائس يوم الأحد إلا من عدد قليل. وكل هذه دلائل على أهمية صلاة الجمعة في دين الإسلام، وعظيم مكانتها في قلوب المسلمين.
والخطيب حين يعتلي درجات المنبر ليلقي خطبته يمسك المصلون عن الصلاة وقراءة القرآن وسائر أنواع الذكر والقُرُبات، ويتوجهون بأبصارهم وقلوبهم إلى خطيبهم، ويصغون إليه بأسماعهم، وينتبهون لما يقول؛ فإن استطاع الخطيب أن يشدَّهم إليه باستهلاله البارع، ومقدماته الضافية واصلوا الاستماع إليه، وتأثروا بمقوله لهم، وإلا ملّـوه وضجروا من ضعفه وأسلوبه، وانصرفت قلوبهم إلى أودية أخرى.
والخطيب يلقي على الناس أفكار الخطبة، ويحاول إقناعهم بها، فيستدل لها بالمنقول وبالمعقول أو بأحدهما، وهو يأمرهم وينهاهم، والنفوس البشرية لا تحب الأمر والنهي، ولكنها قد تتخذه ديناً إذا علمت أن ذلك حكم الله - تعالى - وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فتحبه وتدين به رغم ما فيه من تكليف بواجبات فيها مشقة، أو حبس عن شهوات محبوبة.
• أهمية الاستدلال بالقرآن:
القرآن معظَّم عند المسلمين، لا يتطرق إليه الشك لدى المصلين، وهو أقوى ما يستدل به أيُّ متحدث في المجتمعات المسلمة: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 24].
وأوصاف القرآن المنثورة فيما يتلى من الآيات تشد النفوس إليه، وتحبِّب القلوب فيه، فلا يملك قارئ آياته إلا الإذعان له والانقياد، وذلك للأسباب التالية:
1 - فهو الهدى وما عارضه ضلال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2]، وفي الآية الأخرى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 581]، وهدايته تكون إلى ما هو أحسن وأفضل وأقوم في كل الأمور التي تهمُّ الناس في الدنيا والآخرة: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
2 - وهو النور وما عارضه ظلمات، ويُخرج المنقادين له من جميع أنواع الظلمات - ظلمات الكفر والنفاق والبدعة والجهل والظلم وغيرها - إلى النور: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 51 - 61]، وفي آية أخرى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَإنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحديد: 9]، وفي ثالثة: {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} [الطلاق: 11].
3 - وهو شفاء القلوب وطِبُّها من أدواء الكفر والنفاق والبدع والضلال وأنواع الشبهات والشهوات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّـمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين َ} [يونس: 75]، وفي أخرى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين َ وَلا يَزِيدُ الظَّالِـمِينَ إلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 28]، وفي ثالثة: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44].
4 - وهو السعادة فلا يشقى به قارئه ولا المنقاد له، العامـل به: {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2]، وفي أخرى: {فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى}. [طه: 321]
كما أن هجره والإعراض عنه سبب للشقاء في الدنيا والآخرة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 421 - 621].
5 - وهو من أعظم أسباب صلاح القلب، وخشوعه لله تعالى، وخشيته منه، ومحبته له: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَـمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 701 - 109], وفي الآية الأخرى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. [الحشر: 12]
كل هذه الأوصاف العظيمة للقرآن - وغيرها كثير - يقرؤها المسلم ويسمعها بين الحين والآخر حتى عَظُم القرآن في قلبه، ويكفيه عظمة عند المسلم أنه كلام الله تعالى؛ ولذلك لا يسمح أيُّ مؤمن في أبواب المجادلة والنقاش لأيِّ شخص كان أن يطعن في صدق كلام الله - تعالى - أو يسخر منـه أو يـدعـوه إلى عدم الإيمان به؛ لما للقرآن الكريم من مكانة عظيمة في نفوس المسلمين.
ولأجل ذلك يلجأ الكفار والمنافقون والزنادقة وأشباههم حين يريدون صرف المسلمين عن القرآن إلى تحريف معاني الآيات، ويتركون تكذيبهم لكلام الله - تعالى - أو التشكيك فيه أو الطعن في آياته مع أنهم في قرارة أنفسهم لا يؤمنون به. وما ذاك إلا لما يعلمونه من مكانة هذا الكتاب العزيز في قلوب المسلمين حتى استولى عليها محبةً له، واقتناعًا به، وتعبدًا بقراءته والاستماع إلى آياته تُتلى.
وإذا كان الأمر كذلك فحريٌّ بالخطباء أن يُولُوا الكتاب العزيز أهمية بالغة، فيكون هو المصدر الأول للخطبة كما كان هو المصدر الأول في جميع علوم الشريعة الإسلامية وفروعها.
• أقسام الآيات في الاستدلال من حيث الكثرة والقلّة:
لا تخلو الآيات التي جمعها الخطيب لإعداد خطبته من حالات ثلاث:
الأولى: أن تكون كافية في الاستدلال، متناسبة مع الخطبة؛ فلا هي كثيرة تطول الخطبة بها، ولا قليلة تؤدي إلى قِصَر مخلٍّ.
الثانية: أن تكون الآيات في موضوعه المختار قليلة.
الثالثة: أن تكون الآيات كثيرة جداً لا يمكنه حشدها كلها في خطبته.
فالحالة الأولى لا إشكال فيها. وأما الثانية وهي: أن تكون قليلة، بل قد لا يجد في موضوعه إلا آية أو آيتين، فبإمكانه تغيير الموضوع إلى آخر فيه من النصوص ما يخدم خطبته ويقوِّيها.
فإن كان موضوعه مهمًّا كنازلة حاضرة لا يسوغ إهمالها، فبإمكانه معالجة ذلك بخيارات عدة:
الخيار الأول: أن يجعل لموضوعه مدخلاً مناسبًا، تكون النصوص فيه متوافرة.
مثال ذلك: لو وقع زلزال مدمِّر، وأراد الخطيب أن يعرض لموضوع الزلازل فسيجد أن الزلازل لم يأت ذكرها في القرآن إلا في موضعين: أول سورة الحج: {إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]، وفي سورة الزلزلة، وهما في زلزلة يوم القيامة، لا في زلازل الدنيا. وجاء ذكر الزلزلة في موضعين آخرين على الاستعمال المعنوي لا الحسِّي، في البقرة: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 412]، وفي الأحزاب: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْـمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: 11].
ففي هذا المثال يستطيع الخطيب الحديث عن موضوعات عدة لها صلة بالزلازل، منها:
1 - زلزلة القيامة، والآثار الناجمة عنها مستدلاً بهذين الموضعين، ومستحضراً آثار تلك الزلزلة العظيمة بأوصافها المذكورة في سورة الواقعة: {إذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة: 4]، والتكوير والانفطار والانشقاق والقارعة، ثم يقارن بين ما خلَّفته الزلزلة التي شاهدها الناس من دمار جزئي في الأرض، وما ستخلِّفه زلزلة القيامة من دمار عام في الكون.
2 - الجبال وفائدتها، وكونها أوتاداً تثبِّت الأرض، ويجمع الآيات في ذلك، وهي كثيرة.
3 - قدرة الله - تعالى - على الخلق، وأنهم مهما بلغوا من القوة لا يستطيعون أن يردُّوا عذاب الله عز وجل، مستحضراً مـا وقـع مـن هـلاك المكـذبين السابقـين بأنواع العقوبات، مما حكاه القرآن من قصصهم.
4 - آثار الذنوب والمعاصي، وأنها سبب للعذاب والدمار في الأرض، والآيات فيها كثيرة.
الخيار الثاني: أن يقتصر على ما في موضوعه من آيات ولو كانت قليلة، ويدعم خطبته بالأحاديث والآثار، وهذا حَسَنٌ إن وجد في موضوعه نصوصاً في ذلك.
الخيار الثالث: أن يعوض النقص في ذلك بكلامه هو، ويطيل في الوصف والعرض بكلام إنشائي خالٍ من النصوص، ولستُ أحبِّذ هذه الطريقة وإن سلكها كثير من الخطباء لما يلي:
1 - أنها تحوِّل الخطبة إلى ما يشبه كلام الإعلاميين والإخباريين.
2 – أ ن على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية نوراً إذا كسا به الخطيب خطبته كانت مباركة، وإذا خلت الخطبة من نصوصهما نُزعت البركة منها.
3 – أ ن هذا يجعل خطبته مفيدة في كل زمان ومكان، ولو من النصوص التي جمعها، وإن تغيرت الصياغة والأفكار في ذلك.
و قد ينازع بعض المتخصصين في الخطابة وأساليبها وأبوابها محتجين بأن شخصية الخطيب تذوب في النصوص. وهذا غير صحيح؛ لأن قدرة الخطيب على جمع النصوص، وحسن عرضها في خطبته، وقوته في الاستدلال بها، وانتزاع ما يفيده منها؛ إن لم يكن أعلى من جودة الأسلوب في الدلالة على براعة الخطيب فليس بأقل منها.
وتصح المنازعة في ذلك لو كان الخطيب ضعيفاً في الاستنباط والاستدلال بحيث يضع النصوص في غير مواضعها، أو يتعسَّف في الاستنباط منها، ولا يحسن التعامل معها، أو يهمل قريب الدلالة ويورد بعيدها، ومن كان هذا حاله فالعلّة فيه لا في نصوص الوحيين.
وقد ثبت أن النبي - عليه الصلاة والسلام - خطب بسـورة (ق) كـما في حديث أم هشام بِنْتِ حَارِثَةَ بن النعمان - رضـي الله عنها - قـالت: «ما حَفِظْتُ (ق) إلا من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ بها كُلَّ جُمُعَةٍ»[1]، وكفى بها موعظة بليغة لمن ألقى السمع وهو شهيد، وسأفرد مقالة خاصة في الخطبة بآية أو آيات أو سورة - إن شاء الله تعالى. وجاء في حديث جَابِرِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قال: «كانت لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خطبتان يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُذَكِّرُ الناس»[2]، واستناداً إلى ذلك فإن من الأئمة من يشترطون لصحة الخطبة قراءة ولو آية فيها.
والخطبة خطاب شرعي محض، له أحكامه التوقيعية، فلا يُقاس بالأعمال الأدبية التي يُتَوَسَّع فيها، ويُظهر الكاتب شيئاً من بلاغته وفنِّه.
موضوعات لا نصوص فيها أو هي قليلة:
قد تكون بعض الموضوعات ملجئة للخطيب إلى عدم الإكثار من النصوص؛ كحديثه عن سِيَر الأعلام وقصص التاريخ والمغازي ونحوها، وهذه الموضوعات ونحوها بإمكان الخطيب أن يجد لها من النصوص ما يناسبها سواء في ثنايا القصة أو الغزوة أو في الدروس المستفادة منها. كذلك بعض القضايا المعاصرة قد تلجئ الخطيب إلى التقليل من النصوص بسبب تناول الخطيب الموضوع من جانب تاريخي أو عقلي يرى أنه مهمٌّ؛ كالحديث عن تاريخ بيت المقـدس أو تاريخ بعض الفِرَق، أو بعض المصطلحات الحادثة ونحو ذلك، ومثـل هـذه الموضوعات يُعذَر فيها الخطـيب، ولا سيما إذا دعت الحاجة إليها لنازلة فرضتها واقعاً، والناس يتحدثون فيها، وينتظرون تحريراً شرعياً لها من الخطباء. ولكن الخطيب يُعاتَب ويُؤاخَذ إذا كانت السمة الغالبة لخطبه فيها إعراضٌ عن النصوص، أو يقلل منها لحساب إنشـائه وبـيانه وبلاغـته، أو لحساب ما يعرضه من قصص أو أقوال أو حجج عقلية أو غير ذلك. ويشتد العتاب عليه إذا كان الموضوع الذي يختاره مملوءًا بالنصوص القرآنية والنبوية فيُعرض عنها إلى ما هو أدنى منها من حجج وقصص وأقوال ونقول.
وليعلم الخطيب أن من أهمِّ مهماته التي يرتقي درجات المنبر لأجلها: تربية الناس على تعظيم نصوص الوحيين، وتقديمها في الاستدلال على غيرها، والإذعان لها، والتسليم بها، وعـدم مـنازعـتها بـما هـو دونـها من حجـج أو قصص أو أقاويل أو نُقول ونحوها. فإذا كان الأمر كذلك فكيف يقبل الناس دعوة خطيب إلى تعظيم الكتاب والسنة، والتسليم بهما، وهم يرونه قليل الاستدلال بهما، مستبدلاً بهما غيرهما؟! وأحسب أن هذه اللوثة المستهينة بنصوص الكتاب والسنة تسرَّبت إلى الخطباء من المناهج العقلانية التي تُعنى بحجج العقل على حساب النص، أو من الاتجاهات الأدبية التي تُعْلي من شأن الإنشاء والأساليب البلاغية واللغوية وتقدمها على النصوص. كما أن انتشار لغة الصحفيين والإعلاميين في الآفاق أثَّر سلباً على بعض الخطباء فصاروا يحاكونهم في أساليبهم، ويستخدمون ما أحدثوه من مصطلحات ومفردات وعبارات بلا نظر في صحتها اللغوية، أو عدم مخالفتها الشريعة.
ولا ينبغي أن يُفهم من تقرير ذلك أن نصوص الكتاب والسنة تعارض الحجج العقلية أو الأساليب البلاغية؛ فالقرآن مملوء بتقرير ما يوافق العقول الصريحة، ويحوي كثيرًا من الآيات التي تُعْنى بمفردات العقل والبرهان والآية والدليل ونحوها، وهكذا السنَّة.
وكلام الله - تعالى - هو أبلغ الكلام، وكثير من قوانين اللـغة وقـواعـد الـبلاغـة إنما أُخـذت مـنه، ويستدل به لها أو عليها، وما عارضه من قواعد اللغة والبلاغة والبيان فليس بشيء، ولا يحتج به . والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أُوتي جوامع الكلم، وهو أفصح البشر وأبلغهم، وأحاديثه الجامعة للمعاني الكبيرة الغزيرة في كلمات قليلة تدل على ذلك.
بيدَ أن بعض الخطباء يتأثر بالمناهج الفلسفية الكلامية في الاستدلال، أو يجنح إلى أساليب أهل البلاغة والبيان على حساب نصوص الكتاب والسنة.
وأما الحال الثالثة وهي: أن تكون الآيات كثيرة جداً لا يمكنه حشدها كلها؛ كالخطبة عن التقوى فإنها جاءت ومشتقاتها في أكثر من أربعين ومئتي موضع من القرآن، والصبر جاء ذكره فيما يزيد على مئة آية؛ هذا عدا موضوعات التوحيد والترغيب والترهيب، وذكر الجنة والنار وغيرها.
وفي هذه الحالة للخطيب خياران:
الخيار الأول: أن يرتب ما يناسب للاستدلال من هذه الآيات على وحدات موضوعية، يضم الآية فيها مع نظيرتها، مثل: جمعه للآيات الآمرة بالتقوى، ويجمع آيات ثمرات التقوى، وآيات صفات المتقين... وهذه الطريقة وإن كان فيها مشقة فإنها تمكِّن الخطيب من صنع خطب عدة في الموضوع الواحد ليس فيها تكرار، وتزيد من قوته العلمية واستحضاره للآيات، ومعرفته طريقة القرآن في عرض الموضوعات.
الخيار الثاني: أن يختار من هذا الكمِّ الكبير من الآيات ما يراه مناسباً لخطبته.
وثمَّة أمر مهم وهو أن كثيرًا من الخطباء لا يطلعون على كل الآيات في الموضوع الذي سيخطبون فيه، وفي هذا شيء من القصور، وقد يؤدي إلى ترك الاستدلال بآيات هي أقوى في الدلالة على موضوعاتهم من الآيات التي اختاروها.
• ما يلزم مراعاته في الاستدلال بالآيات: لا في الاستدلال بالآيات القرآنية أرى أنه ينبغي للخطيب مراعاة أمور:
أولها: التأكد من كون الآية أو موضع الشاهد منها قد كتبه بشكل صحيح لا خطأ فيه؛ وذلك يكون بمراجعة المصحف، وعدم اعتماده على حفظه مهما كان قوياً؛ لأن بعض الآيات تشتبه بالأخرى، وقد يكون فيها زيـادة كلـمة أو حرف لا ينتبه له فيقع في الخطأ، أو في القَلْب بالتقديم والتأخير، أو إسقاط شيء منها؛ ولأن استحضار آية واحدة أو جزء منها أكثر احتمالاً للخطأ من القراءة المستمرة للسورة كلها أو جزء كبير منها.
وأرى أن الخطيب لا يعذر بخطئه في الآيات؛ لإمكانية عدم الوقوع في ذلك إذا وجد الحرص والاهتمام، وقد يترتب على ذلك مفاسد كالخطب التي تسجل أو التي تنقل على الهواء مباشرة في القنوات الفضائية، أو مواقع الشبكة العالمية، فتنتقل إلى الناس، وتنتشر في الآفاق بالخطأ الذي في بعض الآيات، ويكون ذلك أخطر إذا ترتب على الخطأ فساد المعنى.
ويُعذَر الخطيب في ذلك إذا كان يرتجل الخطبة؛ لأن الإنسان يسهو ويغفل ويخطئ، وتشتبه عليه النصوص في بعض الأحيان، ولكن إذا كثر ذلك منه حال ارتجاله بسبب ارتباكه أو ضعف حفظه فيجب عليه كتابة هذه النصوص، وقراءتها من الورقة.
ثانيها: التأكد من صحة استدلاله بالآية.
والخطأ في الاستدلال يكون من أوجه:
أ - قد يسوق الآية لمعنى يريده وهي لا تفيد ذلك المعنى، وسبب ذلك اعتماده على فهمه لظاهر الآية، وعدم مراجعته كتب التفسير.
ب - أو يكون في الآية أقوال عدة يختار أحدها - وقد يكون قولاً ضعيفاً أو شاذاً - فيحمل الآية عليه.
جـ - أو يكون في الآية أقوال أخرى متساوية، أو بعضها أقوى من بعض، أو هي من قبيل اختلاف التنوع، فيحصر معنى الآية في القول الذي اختاره وهي تدل على المعاني الأخرى أو الآية تحتملها.
ثالثها: التركيز على موضع الشاهد من الآية؛ فمن شأن ذكر كل الآية والشاهد جزء قليل منها؛ أن يشوش على المستمع، وقد يضيع منه موضع الاستشهاد ولا سيما إذا كانت الآية طويلة.
ورابعها: أرى أن لا يرتل الآية أو موضع الشاهد منها، أو يميزه عن سائر كلامه، كما هي طريقة بعض الدعاة والوعاظ والخطباء؛ لأنه ليس في محل القراءة والتعبد بها حتى يرتل الآيات، وإنما هو في موضع الاستشهاد وإثبات ما يقول بآيات القرآن، وللاستشهاد محله وطريقته كما أن للتلاوة محلها وطريقتها، ولا يحسن الخلط في ذلك. وكما أنه لا يسوغ لمن يقرأ القرآن إلا أن يرتله، ولا يقرأ بعض الآيات كما يقرأ كلاماً آخر غير القرآن؛ فكذلك لا يسوغ لمن يستشهد بالقرآن أن يسوقه مساق الترتيل.
خامسها: ينبغي له أن يرتب الآيات التي يستشهد بها حسب ترتيب سورها في القرآن؛ لأن الإجماع منعقد على أن ترتيب الآيات توقيفي، وأما ترتيب السور فقال قوم: إنه توقيفي، وقال آخرون: إنه اجتهادي، ولو قيل: إنه من اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم؛ فإن الأمة أجمعت على مصحف عثمان رضي الله عنه، وعلى ترتيب سوره. فإن كان ترتيب سوره توقيفياً فأُحب للخطيب أن يلتزم به، ولا يخالفه، وإن كان من اجتهاد الصحابة - رضي الله عنهم - فاجتهادهم خير من اجتهادنا، ثم إن انعقاد الإجماع على هذا الترتيب يجعله حجة.
وأرى أنه يحسن بالخطيب أن لا يخلَّ بترتيب الآيات في الاستشهاد عن ترتيب آيات المصحف وسوره إلا لمعنى يقتضي عدم الترتيب؛ كأن تكون الآية التي يقدمها نصاً فيما يريد، والآيات الأخرى تفيد المعنى ذاته، وآيات أخرى يستأنس بها، فيقدم ما يكون نصاً في قضيته على غيرها من الآيات لقوة دلالتها على ما يريد، ثم يتبعها بالآيات الموافقة لها في المعنى، ثم الآيات التي يستأنس بها.
سادسها: إذا كان عنده عدد من الآيات التي يستشهد بها، وبعض هذه الآيات واضح الدلالة للمستمع، وبعضها بعيد المنزع عما يريد، أو يتطرق إليه الاحتمال؛ فالأَوْلى أن يقتصر على الآيات الواضحة دون غيرها؛ لئلا يُحْدِث بذكر الآيـات المحتـمـلة تشويشاً على المـستمع، وتضعف في ذهنه القضـية الـتي استدل لهـا الخطـيب بهذا الدليل المـحتمل، أو بعيد الدلالة.
وإذا كانت القضية محل نزاع في المجتمع، وتتجاذبها أطراف شتى؛ كالحجاب والسفور، والاختلاط وعدمه، وخروج المرأة وقرارها في البيت، وقضايا الحرية والديمقراطية والانتخابات؛ فكل هذه القضايا ومثيلاتها محل نزاع بين التيارات العَلْمانية من جهة، والتيارات الإسلامية من جهة أخرى، وصوت الدعاة والعلماء فيها يكون في المساجد وعلى المنابر وعبر وسائل إعلام محدودة، وصوت العَلْمانيين فيها يكون في الصحف وأكثر المجلات والقنوات الفضائية والإذاعية، والناس يشهدون هذه المعارك الفكرية، ويعيشونها كل يوم، فأرى أن لا يكون استدلال الخطباء على ما يرونه حقاً في تلك القضايا إلا بالأدلة الواضحة التي لا ينازع فيها إلا مكابر؛ لأن من شأن الاستدلال بالأدلة المشتبهة أو المحتملة أو الضعيفة الدلالة أن يقضي على قضيته في أذهان الناس، ولو جاء بالأدلة الواضحة معها؛ لما يلي:
أولاً: إن الأدلة الواضحة على المعنى الذي يريده تفي بالمقصود، وهو يخاطب مسلمين مستسلمين - في أغلبهم - للنصوص الشرعية، ويكفيهم منها دليل واحد
واضح للقبول والانقياد عن عشرة أدلة ليست واضحة، أو في الاستدلال بها عسف وتكلف.
ثانياً: إن الأدلة المحتملة قد تنسي المصلين الأدلة الواضحة، وقد ينشغلون بالتفكير في مدى صحة الاستدلال بها أو الإيرادات التي ترد عليها عن الاستماع إلى الخطيب، فيصرفهم أو بعضَهم عنه، وهو يريد منهم الاستماع إليه.
ثالثاً: إن الخصوم يتعلقون بضعيف الدلالة ويجعلونه أصلاً في المناقشة، فتنقل القضية من أصلها إلى مناقشة دليل محتمل أو ضعيف، فيُحشَر الخطيب في زاوية الدفاع عن استدلاله، وتُنسى القضية الأصل، وللمنحرفين مكرٌ كُبَّار في ذلك، وبراعة في التشويش على العوام من هذا الباب، ولا سيما أن أكثرهم ممن إذا خاصم فجر. وحتى لو لم تجرِ مناقشة ذلك مع الخطيب في حينه؛ فليفترض الخطيب أن المصلين عقب الجمعة يناقشون في مجالسهم ما قاله الخطيب، وفي الغالب نجد أن مجالس الناس تجمع التيارين أو المتعاطفين مع أحدهما، فإذا أثبت المخاصم للناس ضعف استدلال الخطيب بدليل واحد من عشرة أدلة في قضيته التي ساقها فإنه يكسب بذلك أمرين:
1 - صرف نظر الناس عن موضوع الخطبة وأدلتها الأخرى إلى هذا الدليل الضعيف أو المحتمل.
2 - التشكيك في كل ما ذكره الخطيب من القضايا الأخـرى، بل التشكيك فيما سيلقيه مستقبلاً، ونزع ثقة الناس فيه.
سابعها: إذا أنهى الخطيب صلاته، ثم سئل عن معنى في آية استشهد بها، أو أورد أحد المصلين عليه إشكالاً في استدلاله، أو دليلاً آخر ينقض ما قرره في خطبته، فلا يخلو الخطيب من حالين:
الأولـى: أن يكــون عنـده جـواب لهـذا الإشكال، ويعلم ما قد يورد على استدلالاته من أدلة أخرى، ولديه أجوبة لها - ولا يتأتَّى ذلك للخطيب إلا بالتحضير الجيد - فَلْيُزِلْ تلك الإشكالات، ويُجِبْ عنها بما آتاه الله - تعالى - من علم وفقه وتحضير جيد لموضوعه.
الثانية: أن لا يكون عنده جواب لهذا الإشكال، ولا يعلم بالأدلة التي أوردت عليه، فلا يجوز له حينئذ أن يُخلِّص نفسه من هذا المأزق بالكذب، أو بنفي ما لا يعلم مع احتمال ثـبوته، ولا يَحِلُّ له أن يُصِرَّ على رأيه وهو غير متأكد مما أُورِد عليه، وسأورد مثالاً على ذلك - إن شاء الله تعالى - من السنَّة في مقال مستقل بعنوان (استدلال الخطيب بالسنة). ثم إن المناقشين لما في الخطبة من معلومات على أَضْرُبٍ ثلاثة:
الأول: أهـل العـلم والفـقه والفضـل ممن يـوقن الخطيب أو يغلب على ظـنه صـوابـهـم وخـطـؤه، وهـؤلاء يجب عليه أن يخـضـع لهـم، لا ويستفيد من علمهم، ويشكرهم على تعقُّباتهم له.
الثاني: المسترشدون، وهم غالباً ناصحون محبون للخير، متأثرون بالخطبة، ويريدون التطبيق والعمل، فيسألون عن بعض التفصيلات، أو انقدحت عندهم إشكالات مما ذكره الخطيب؛ لوجود مقررات سابقة لديهم، أو نصوص تعارض ما قاله خطيبهم. وهؤلاء يجب على الخطيب العناية بهم، والتلطف معهم، وإزالة ما لديهم من إشكالات. فإن قدر الخطيب على ذلك ساعة سؤاله فذاك، وإلا طلب منهم إمهاله حتى يبحث مسائلهم فيجيبهم عنها، وبحثه لها يفيده هو أكثرمما يفيدهم هم.
الثالث: المكابرون المتصيدون، وهم غالباً لا يكونون على وفاق مع منهج الخطيب وأفكاره، أو في قلوبهم ضغينة عليه، أو حسد له، فيريدون إسقاطه وإحراجه.
وأرى في تعامل الخطيب مع هؤلاء أن يدرأهم عنه قدر الإمكان، ويداريهم في الحق ما استطاع، ويجتنب جدالهم ومناقشتهم؛ لأنهم ليسوا طلاب حق. والمجادلة معهم تحقق غرضهم، وقد تصل بالخطيب إلى حد المماراة التي نهي عنها، والإعراض عنهم خير من مواجهتهم.
______________________________ __________
[1] أخرجه مسلم (873).
[2] أخرجه مسلم (862).
ابو وليد البحيرى
2019-11-18, 08:11 PM
الإشارة في الخطابة
مرشد الحيالي
تُعتبر الإشارةُ باليد مِن الوسائل الهامَّة النافِعة في تدعيم الفِكرة، وترسيخ المعلومة في الذِّهن، وتدخُل ضمنَ ما يُسمَّى بلُغة الجسد، ومعنى لغة الجسد: تلك "الحَرَكات التي يستخدِمها بعضُ الأفراد إراديًّا، أو غير ذلك؛ مثل الإشارة باليَد، ونبرة الصَّوْت، وهز الكَتِف أو الرأس، أو نفض اليد(1).
ونحو ذلك مِن أجْلِ تفهيمِ المخاطَب أو المدعو بشكلٍ آكد، ولها وسائلُ عِدَّة ليس الغرَضُ هنا بسطَها، أو تفصيل الكلام فيها، ولما كان لها مِن التأثيرِ في إيضاح المعنى جاءتِ السُّنة المطهَّرة بالاهتمام بها في بيانِ معاني الإسلام، واهتمَّ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - باستخدامها كثيرًا في خُطَبه ومواعظه؛ للتعبيرِ عن مشاعرِه، وعن معاني الدِّين، كما كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يفهمون ما يَرْمي إليه الرسولُ مِن رسائلَ من خلال إشاراته، ويُدركون معانيَها ودلالتها العظيمة، وحسبُنا أن نذكر بعضًا من النصوص النبوية التي استخَدَم فيها الإشارة باليدِ؛ لكونها ممَّا لها صلة بموضوعنا، وبعدَها نتكلَّم حولَ الضوابط العامة في الموضوع، ومِن الله التوفيق والإعانة.
1- الدَّلالة على الوَحْدة والائتلاف: وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيانِ، يشُدُّ بعضُه بعضًا، وشبَّك بيْن أصابعه))(2).
2- التحذير من بعضِ المحرَّمات: كحديثِ معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قلتُ: يا رسولَ الله، أخبِرْني بعملٍ يُدخلني الجنة، ويُباعِدني من النار، قال: ((لقدَ سألتَ عن عظيم، وإنَّه ليسيرٌ على مَن يسَّره الله عليه، تعبُد الله لا تُشرك به شيئًا، وتُقيم الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجُّ البيت، ثم قال: ألاَ أدلُّك على أبوابِ الخير؟ الصوم جُنَّة، والصدقة تُطفِئ الخطيئةَ كما يطفئ الماءُ النار، وصلاةُ الرجل مِن جوف الليل، ثم تلا (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ) (السجدة: 16)، حتى بلغ (يَعْمَلُونَ) ([السجدة: 17)، ثم قال: ((ألاَ أُخبرك برأسِ الأمر، وعموده، وذِروة سنامه؟)), قلت: بلى يا رسولَ الله، قال: ((رأسُ الأمرِ الإسلام، وعموده الصلاة، وذِروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألاَ أخبرك بمِلاك ذلك كله؟)) قلت: بلى يا رسولَ الله، فأخَذ بلسانه، قال: ((كُفَّ عليك هذا))، قلت: يا نبيَّ الله، وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟, فقال: ((ثكلتك أمُّك، وهل يَكبُّ الناسَ في النار على وجوههم - أو على مناخرهم - إلا حصائدُ ألسنتهم))؛ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح(3).
3-بيان معنًى مِن معاني العقيدة الإسلامية؛ حيث خطَب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمَّتِه يومَ عرفة، فقال لهم: ((ألاَ هل بلغت؟)) قالوا: نعم، فرفَع إصبعَه إلى السماء يقول: ((اللهمَّ اشهد))، فهذا الفعْل منه - صلى الله عليه وسلم - يدلُّ على علوِّ الله - عز وجل –(4).
4-بيان أشراطِ الساعة وما يَسبِقها مِن أحداث وفِتن: عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: ذكَر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اللهمَّ بارِكْ لنا في شامِنا، اللهمَّ باركْ لنا في يمننا))، قالوا: يا رسولَ الله, وفي نجْدِنا؟, قال: ((اللهمَّ بارِكْ لنا في شامِنا، اللهمَّ بارِكْ لنا في يمننا))، قالوا: يا رسولَ الله، وفي نجدنا؟, - فأظنُّه قال في الثالثة -: ((هنالك الزلازل والفتن، وبها يَطلُع قرْنُ الشيطان))؛ لفظ البخاري، في لفظ لمسلم: ((إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قام عندَ باب حفصةَ، فقال بيده نحوَ المشرِق: الفِتنة ها هنا من حيثُ يطلع قرْنُ الشيطان)) قالها مرَّتين أو ثلاثًا(5).
ولَمَّا كانتِ الإشارة باليد ممَّا يكثر استعمالُه للتعبيرِ عن المعاني، وخاصَّة مِن لدن الخطيب الذي يرْتَقي المِنبر، أو الواعِظ الذي يُلقي درسًا أو محاضرة؛ وجَب التنبيهُ على بعضِ الأمور، تجعَل الخطيب متوازنًا معتدلاً في تصرُّفاته وحركاته، كما هو مطلوبٌ منه أن يكون متوازنًا معتدلاً في كلامِه وطرْحه وأسلوبه، ومِن ذلك:
أولاً: عدَم الإكثار مِن الإشارة بدون سببٍ، فيكون حالُه كالممثِّل على خشبةِ المسرَح، بل يتمَّ توزيعُ ذلك باعتِدال تامٍّ أمامَ الحاضرين، والحرَكة الكثيرة هي مِن عادة بعضِ الخطباء ممَّا يجلب انطباعًا غير محمود، ولو كانتْ خطبته رنانة.
ثانيًا: أيضًا مِن غير المستحسَن أن يبقَى الخطيب جامدًا كأنَّه عمود لا يتحرَّك، فيبقَى طولَ الخُطبة لا يعبِّر بيده عمَّا يَجيش في صدْره، فيملّ الناس مِن موعظته(6).
ثالثًا:الالْتفا المعقول، والحِكمة في استعمالِ الإشارة، فلا يُشير إلى أحدٍ بعينه، أو طائفةٍ مِن النَّاس وهو يتكلَّم - مثلاً - عن المنافقين أو الكافرين؛ لئلاَّ يقعَ في سوء الظَّنِّ، ويكون ذلك سببًا لنفور الناس عنه، وإنْ لم يقصدْ هو ذلك.
رابعًا:أن يكون متحكِّمًا في انفعالاتِه ومشاعره مِن غضِبٍ وتألُّم، وتحسُّرٍ وتأسُّف، وحبٍّ، فتكون مبنيةً على أساسٍ قويم، ومنهجٍ سليم، تتناسَب مع المقامِ والحال، وظروف مَن يخاطبهم؛ ولذا مِن غير المستحسَن أن يتخبَّطَ في حركاته أمامَ مَن يخاطبهم، فيضرب بقوَّة على المِنبر، أو يجذب إليه (الميكرفون)، أو يضطرب في حركاتِه، أو نحو ذلك(7).
خامسًا: من المهمِّ جدًّا - كما سَبَق - أنْ تتناسب حركةُ يده مع كلماته، وأن "يناسِب بيْن الحرَكة والنطق، والإشارة والعِبارة، ويراعي ألاَّ يشعر المتحدِّث أنه ملزمٌ بالجمود في بقعة محدَّدة، أو أنَّ أعضاء جسمِه ممنوعةٌ مِن الحرَكة، فالمهم ألاَّ ننفرَ مِن استخدام الإيماءات ونوظِّفها بنجاح(8).
والمقصود أن يكونَ الخطيب ذا مهابة ووقار، وأن تكونَ له مهابةٌ في القلوب، فيستعمل خُلُقَ الورَع والخوف مِن الله، كما هو دَأب أوْلياءِ الله الصَّالِحين، حتَّى تعظِّمَه النفوس، وتنقاد إلى سماعِه الآذان، فلا يظهر بمظْهَر الهازل أمامَ مَن يدعوهم، وأعظم ما يُحقق له هذا المقصودُ هو تقوى الله، وترجمة ما يقوله إلى واقِعٍ ملموس، فإنَّ ما في الباطن يؤثِّر - بلا شكٍّ - على المظهر، ومَن خشَع قلبُه سَكَنتْ جوارحه، فلا يحتاج إلى التصنُّع أو المداهنة.
والأمر الثاني: دراسة سِيرة الرسول المكرم، وهديه في مواعظه وخُطَبه، ففي ذلك رصيدٌ لمن أراد أن يتصدَّى للوعْظ والموعظة.
فائدة:في سؤال وُجِّه إلى سماحة الشيخ العلاَّمة ابن جبرين - رحمه الله - سُئِل فيه ما يلي:
ما الحُكْم في إمامٍ يخطب الجُمُعة، ويُكثِر الحركَة على المنبر، ويتمايل كثيرًا أثناءَ الخُطبة، وكلَّ لحظة وأخرى يقول: وحِّدوا الله، وصلُّوا على رسولِ الله، ويطلب مِن الجالسين أن يرفعوا أصواتهم؟.
فأجاب: على كلِّ خطيب أن يؤدِّيَ الخُطبة المعتادة، وإذا تفاعَل وتحمَّس في الإلْقاء؛ ليثيرَ النفوس، ولا بأسَ بحرَكة الرأس والالْتِفات يمينًا وشمالاً عندَ الحاجة، فأمَّا الحاضرون فعليهم الإنصات، ولا يجوز لهم رفْع الصَّوْت بالكلام، ولا يكلّفهم الإمام بذلك، ويجوز لهم التأمينُ على الدُّعاء، ولهم أيضًا الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عندَ ذِكْرِه، أو نحو ذلك، والله أعلم(9).
وصلَّى الله على محمَّد، وآله وصحْبه أجمعين.
--------------------------------
الهوامش:
(1) من بحث موسَّع، نُشِر على (الموسوعة الحرة)، بعنوان "لغة الجسد".
(2) الحديث رواه البخاري عن الصحابي أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - برقم (6026).
(3) انظر: "السلسلة الصحيحة"؛ للشيخ الألباني - رحمه الله - رقم (3284) قال عنه: إسناده صحيح رجاله.
(4) الحديث رواه البخاري عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - رقمه (1742).
(5) رواه البخاري عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - رقمه 3279.
(6) بعضُ الخطباء يضع يدَه على صدره طيلةَ وقت الخطبة، يظنُّ أنَّ الحركة في الخُطبة تنافي الخشوع والتواضع، وهو مجانب للصواب.
(7) رأيتُ بعضًا مِن هؤلاء الخطباء - أصلحه الله - يجذب إليه (الميكرفون بقوة)، وبضرب على المنبر بشدَّة، حتى يخرجَ رذاذ البصاق مِن فمه، وكأنَّه في حلبة مصارعة، يريد أن يقتُلَ خصْمه، ولا يدري أنَّه يخاطب العقول والقلوب، فيحتاج إلى قدرٍ كبير من الحِكْمة والتعقُّل، والانفعال المعقول.
(8) من بحث بعنوان "نبرة الصوت والحركة" للأخ الفاضل عبدالغني مزهر، تجده على موقع (ملتقى الخطباء)، وموقع (الألوكة).
(9) من موقع سماحة الشيخ عبدالله بن جبرين - رحمه الله -.
ابو وليد البحيرى
2019-11-20, 05:17 AM
خُطب الجمعة
علي الطنطاوي
كان وفد من العلماء يزور واحدًا من كبار أولي الأمر من عهد قريب، يشكو إليه فساد الأخلاق، وانتشار المعاصي، وهذه المنكرات البادية، فقال لهم: "أنا أعجب من أمركم؛ عندكم هذه المنابر التي تستطيعون أن تصلحوا بها كل فاسد، وتقوِّموا كلَّ معوجٍّ، ثم تَشْكُون إليَّ ما تجدون! ".
وهي كلمة أجراها الله على لسانه لتقوم بها الحجة علينا مرتين: مرة لأنها كلمة حق، لا ينازع في صحتها منازع، ومرة لأنها جاءت موعظة منه هو لمن يتصدُّون لوعظ الناس! ولو كان عُشْر هذه المنابر في أيدي جماعة من الجماعات العاملة المنظمة؛ لصنعت بها العجائب؛ فما بالنا وهي في أيدينا لا نصنع بها شيئًا؟!
وما أذهبُ في الاستدلال إلى عرض أوجه الاحتمال، وعندي الواقع الذي ليس فيه جدال، هو منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه المنابر..
كان للرسول - صلوات الله عليه - منبر واحد: درجات من الخشب، ليس فيها براعة النقش، ولا فيها روعة الفن، ليس عليها قُبَّة، ولا لها باب، دعا منها فلبَّت الدنيا واستجاب العالم، وترك بها على الأرض أعظم أثرٍ عرفه تاريخ الأرض، وعندنا اليوم مائة ألف منبر، مبثوثة ما بين آخر أندونيسيا وآخر المغرب، كلها مزخرفٌ منقوشٌ، استنفد جَهْد أهل العمارة وعبقرية أهل الفن، وفيها المكبرات والإذاعات تحمل الصوت منها إلى آفاق الأرض؛ فيُسمع خطباؤها الملايين، ولا نرى لها مع ذلك أثرًا في إصلاحٍ ولا عملاً في نهضة؛ فما هو السر في تلك القوة، وفي هذا الضعف؟
تعالوا نفكر في ذلك جميعًا، نعرض أحوال هذه الخُطَب، ونفتِّش عن حالها، ولا يغضب مني أحدٌ، فما أريد الفضيحة ولا التشهير؛ إن أريد إلا الإصلاح، وأنا بعدُ واحدٌ من الخطباء، لستُ غريبًا عنهم ولا مبرَّأ من عيوبهم، وما يُقال فيهم يُقال مثله فيَّ أنا، ومن أجراكَ مجرى نفسه ما ظلمكَ.
ولو سألت مَنْ شئت من المصلين عن هذه الخُطَب؛ لسمعت منه طرفًا من عيوبها:
فمن عيوبها: هذا التطويل وهذا الإسهاب، حتى لتزيد الخطبة الواحدة - أحيانًا - إلى نصف ساعة، مع أنَّ السنَّة تقصير الخطبة وتطويل الصلاة، وألا تزيد الخطبة على سورة من أوساط المفصَّل؛ أي على صفحتين اثنتين فقط.
وهذه خطب الرسول المأثورة، وخطب الصحابة، منها ما هو صفحة واحدة أو أقل من ذلك، ويا ليت دائرة الإفتاء أو الأوقاف تُلزم الخطباء بألا تزيد أطول خطبة يلقونها عن ربع ساعة.
وأنا أخطب في مسجد جامعة دمشق؛ فلا تمرُّ ثُلُث ساعة، أو خمس وعشرون دقيقة على أذان الظهر - حتى تكون قد انتهت الخطبة والصلاة، ذلك لأننا تركنا هذه البدع التي تكون قبل الخطبة؛ فلا نقرأ ما يسمَّى (الصمديَّة)، ولا يجهر المؤذن بهذه الصلوات؛ بل نسمع أذان الظهر فنصلِّي السنَّة، ويصعد الخطيب المنبر فورًا.
وكذلك كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولا خير فيما لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن عيوبها: أنه ليس للخطبة موضوع واحد معين؛ بل تجد الخطيب يخوض في الخطبة الواحدة في كل شيء، وينتقل من موضوع إلى موضوع، فلا يوفِّي موضوعًا منها حقَّه من البحث، فإذا جاء الجمعة الثانية عاد إلى مثل ما كان منه في الجمعة الأولى؛ فتكون الخطب كلها متشابهة متماثلة، وكلها لا ثمرة له، ولا يخرج السامع له بنتيجة عمليَّة، ولو أن الخطيب اقتصر على موضوع واحد - جلَّ أو دَقَّ، كَبُرَ أو صغر - فتكلم فيه ولم يجاوزه إلى غيره؛ لكان لخطبته معنى، ولأخذ السامع منها عبرة، وحصَّل منها فائدة.
ومن عيوبها: أن الخطيب - أعني بعض مَنْ يخطب - يحاول أن يصلح الدنيا كلها بخطبة واحدة، فلا يخاطب الناس قَدْرَ عقولهم، ولا يكلِّمهم على مقتضى أحوالهم، ولا يسير بهم في طريق الصلاح خطوةً خطوة؛ بل يريد أن يبلغوا الكمال بقفزة واحدة، مع أن الطفرة في رأي علمائنا محالٌ.
ومن عيوبها: أنها صارت (كليشات) معيَّنة، ألفاظ تُردَّد وتُعاد، لاسيَّما في الخطبة الثانية، مع أن الخطبة الثانية لا تختلف في أصل السنَّة عن الأولى، وما يلتزمه الخطباء فيها من الصلاة الإبراهيمية، والترضِّي على الخلفاء والتابعين بأسمائهم - لم يلتزمه أحدٌ من السلف.
وخطبة الجمعة عند الحنفية لا يُشترط لصحَّتها إلاَّ أن تكون دينية، وأن يكون فيها تذكيرٌ بالشَّرع، وهذه (الكليشات) كلها ليست من شروط الخطبة.
والدعاء الذي يكون في آخر الخطبة ليس شرطًا، ولا كان السلف يواظبون عليه.
والدعاء مطلوبٌ، وهو مخُّ العبادة وروحها، ولكنَّ الدعاء المطلوب هو الذي يكون عن قلبٍ حاضر، ومراقبة الله، وثقةٍ بالإجابة، فإن كان الدعاء بالمأثور كان أحسن، أما أن يكون الغرض منه إظهار سَعَة الحفظ وبلاغة اللفظ؛ فلا.
والدعاء للسلاطين بأسمائهم بدعة، وقد نصَّ الحنفية على أنه مكروهٌ إن ذُكِرَ السلطان بالتعظيم، فإن قال عنه ما ليس فيه - كما كان بعض الخطباء في مصر يقولون عن فاروق - فكذبٌ وافتراءٌ.
وآية: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) [النحل: 90] التي يلتزمها الخطباء في آخر الخطبة، ويظنها العامَّة من شرائط الخطبة - ليست شرطًا فيها، فإن تلاها أو تلا غيرها، أو لم يتل في ختام الخطبة شيئًا - لم يكن عليه شيءٌ.
وكونهما خطبتَيْن والقعود بينهما سنَّة؛ فإن جعلها خطبةً واحدةً ولو جملاً معدودات فقالها ونزل - لا شيء عليه عند الحنفية.
ولما ولي عثمان الخلافة؛ صعد المنبر ليخطب أول جمعة فأُرْتِجَ[1] عليه ولم يستطع الكلام؛ فقال: "إنَّ مَنْ كان قبلي كان يُعِدُّ لهذا المقام كلامًا، وأنا إن أَعِشْ فستأتيكم الخطب على وجهها - إن شاء الله"، ونزل! وكانت هذه هي الخطبة ولم يعترض عليها أحدٌ من الصحابة.
ومن عيوبها: هذا التكلُّف في الإلقاء، وهذا التشدُّق في اللفظ، وهذه اللهجة الغريبة، وخير الإلقاء ما كان طبيعيًّا لا تكلُّف فيه، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد كره المتشدِّقين وذمَّهم.
ومن أعظم عيوب الخطبة في أيامنا: أن الخطيب ينسى أن يقوم مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتكلَّم بلسان الشَّرع، وأنَّ عليه أن يبيِّن حكم الله فقط لا آراءه هو وخطرات ذهنه، ويحرِّض على رضا الله وحده لا على رضا الناس، فلا يتزلَّف إلى أحد، ولا يجعل الخطبة وسيلةً إلى الدنيا، وسببًا للقبول عند أهلها.
ومن عيوبها: أن من الخطباء مَنْ يأتي بأحكام غير محقَّقة ولا مسلَّمة عند أهل العلم، يُفتي بها على المنبر، ويأمر الناس بها، ولو اقتصر على المسائل المتَّفق عليها وأمر بها العامَّة، وترك الخلافيَّات لمجالس العلماء - لكان أحسن.
ومنهم - وهذا كثير - من يأتي بالأحاديث الموضوعة أو الضعيفة المتروكة، مع أنه لا يجوز لأحد أن يُسنِد حديثًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يتوثَّق من صحَّته، بأن يصحِّحه أحد المحدِّثين الموثوق بهم؛ كأصحاب الكتب الستة - على اختلاف شروطهم في تصحيح الأحاديث - أو يعتمده فقهاء مذهب من المذاهب الأربعة، ويتفقوا على الأخذ به.
ومَنْ أخذ كل حديث يجده في كتاب، أو يسمعه من فم إنسان، فنسبه على المنبر إلى الرسول من غير أن يعرف درجته من الصحة، ومن غير أن يبحث عن مخرجه وراويه - أوشك أن يكون داخلاً تحت حديث: ((مَنْ كذب عليَّ متعمدًا؛ فليتبوَّأ مقعده من النار))، فليتنبَّه الخطباء إلى هذا؛ فإنه لمن أهمِّ المهمَّات.
ويا ليت خطيب كل مسجد يُعِدُّ لخطب الشهر برنامجًا يعلقه على باب المسجد، أو يبيِّن للناس على الأقل أن خطبة الجمعة القادمة موضوعها كذا، ومدتها كذا؛ ليكون المصلِّي على بيِّنة من أمره، ويجعل الخطبة الثانية مطلقةً، يتكلم فيها عمَّا يجد بعد إعلان موضوع الخطبة الأولى، أو يجعلها موعظة عمليَّة.
وأن يكون منهج الخطيب: أن يعمل لإصلاح الأفراد أولاً، ثم يتكلم عن إصلاح الأُسَر والبيوت، ثم يبحث في الإصلاح العام، وأن يبدأ بما بدأ به الشَّرع؛ فيصحِّح التوحيد أولاً، ثم يأمر باجتناب المحرَّمات، ويعددها، ويجعل لكل منها خطبةً: من آفات اللسان (كالكذب والغيبة والنميمة)، إلى السرقة، والزنا، والغشّ، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور وأمثالها.
ثم يأمر بالفرائض، ويجعل لكلٍّ منها خطبةً يبيِّن فيها أحكامها، لا بيان الفقيه الذي يعدِّد الشروط والأركان والسنن والمكروهات؛ بل بيان المُرْشِد الذي يبيِّن الأعمال، ويدل على طريق الإخلاص فيها، فيتكلم عن الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والأمر بالمعروف، وما إلى ذلك.
وعلى السامعين أن يعلموا أن سماع الخطبة ليس للبركة فقط؛ بل للاتعاظ بها، والعمل بما يتعلَّمه منها، والعاقل منهم مَن استفاد من صحة القول ولو شكَّ في حال القائل، والحكمة ضالَّةُ المؤمن؛ يأخذها من حيث وجدها.
هذه خواطرٌ في الموضوع، لم أقصد فيه لمَّ جوانبه، وجمع أطرافه، واستيفاء القول فيه؛ لأن الكلام فيه طويل، والمجال قليل، والقصد التنبيه.
ـــــــــــــــ ــــــــــــ
[1] أي:انسد عليه باب الكلام، والإرْتاجُ: الإغلاق، ومنه رتاج الباب.
ابو وليد البحيرى
2019-11-26, 05:46 AM
وصايا وخواطر في إلقاء الكلمات الدعوية
سلطان بن عبد اللّه العمري
أنا أريد أن ألقي كلمة في المدرسة أو في المسجد أو بين جماعتي، فما نصيحتك لي؟
الجواب: لابد من الحرص على ما يلي:
1ـ لابد من معرفة أصناف الناس الذين سوف تخاطبهم، هل هم كبار أو صغار وما هي مستوياتهم العلمية (جاهل، متعلم)؟
2ـ هل عندك علم تستطيع من خلاله دعوة هؤلاء، وأنا لا أقصد أن تكون محيطاً بجميع العلوم، وإنما قصدي " أن يكون عندك علم بالشيء الذي تدعو إليه".
3ـ احرص على تجديد النية لوجه الله - تعالى -.
4ـ احرص على جمال مظهرك وملبسك.
5ـ إذا بدأت فابدأ " ببسم الله ".
6ـ ادع للناس في بداية كلامك مثال: أسأل الله أن يجمعنا بكم في دار كرامته ـ أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الفردوس الأعلى...".
7ـ أخبرهم بأنك ستأخذ دقائق يسيرة وأنهم سيجدونها في ميزان حسناتهم.
8ـ أخبرهم بعنوان الكلمة، مثال" سأتحدث معكم عن فضل التوبة.... ".
9ـ استخدم عبارة "أيها الأحبة في الله ".
10ـ استخدم طريقة السؤال، مثال: هل سمعتم بقصة ذلك التائب الصادق؟.... ثم تبدأ بسرد القصة.
11ـ انظر للناس جميعاً حتى يتفاعلوا معك.
12ـ عليك باختيار الكلمة الواضحة المعنى، وبدون تكلف.
13ـ كن رفيقاً في طريقة كلمتك، حتى يحبك الناس.
14ـ ابتعد عن هذه الألفاظ:
1ـ كثير من الناس، وقل بعضاً من الناس.
2ـ وأصحاب المعاصي: وقل يا من يرتكب الذنوب.
3ـ ويسهرون على الأفلام الماجنة، وقل يسهرون على المحرمات...
15ـ لا بد من إيراد قصة في بداية الكلمة، وفي أثناءها، وفي نهايتها، لأن القصص محببة للنفس.
16ـ في أثناء الكلمة "ادع للناس" بدعوة تناسب الكلمة، فإذا كانت الكلمة عن الجنة، قل: اللهم اجمعنا فيها...".
17ـ لا بد من الاستدلال بالقرآن والسنة، مثال: آية، حديث، لأن فيها خير كثير، وهدى ونور، وأي كلمة ليس فيها أدلة، فهي جافة غير مباركة.
18ـ لا تطيل في الكلمة، حتى لو شعرت أن الناس مستفيدين، لأن النفوس تمل، كما يمل البدن، وما أجمل أن تنتهي والناس يريدون بقائك، أما أن تطيل والناس يتمنون أن تتوقف، فهذا لا نريده.
19ـ لا تخرج عن الموضوع الذي بدأت به، إلا لحاجة ضرورية.
20ـ كن حماسياً محرك للمشاعر والعواطف والهمم.
21ـ إياك والحديث عن النفس، مثال: لات ردد عبارة "أنا..... لي، وعندي... " فالناس يكرهون ذلك.
22ـ عليك باختيار بعض أقوال السلف ففيها بركة كبيرة.
23ـ حاول أن تذكر أسلوب الأرقام في كلماتك، مثال: هل سمعتم بفضل مجالس الذكر، إن فيها خمسة فضائل.. ".
24ـ اذكر حلول المشاكل التي تريد طرحها، مثال: عنوان الكلمة " قسوة القلب " فإذا انتهيت منها، اذكر علاج قسوة القلب، مثال آخر: عنوان الكلمة: فضل العلم " اذكر في النهاية: وسائل تحصيل العلم.
25ـ بعض الكلمات قد يناسب أن تدخل فيها بعض الطرائف والابتسامات، وبعضها لا يناسب، فكن حكيماً في ذلك.
26ـ كن حليماً في اختيار الألفاظ، واحذر من الكلمات التي تضرك، أو تضر الصحوة ونحو ذلك.
27ـ لا نريد الحماس الذي يحرك المستمعين للاندفاع إلى أعمال غير مدروسة، وغير متزنة بميزان الشرع، وإنما نطالب بالحماس المظبوط بالظوابط الشرعية.
28ـ احذر من سرعة الكلام، فالكلام السريع، لا يفهمه غالب الناس، وخاصة العامة، وما أجمل الهدوء المعقول، المقرون بالكلمات المعبرة.
29ـ ما أجمل أن تستشهد ببعض الأبيات الشعرية التي تحتوي على المعاني الراقية، و" إن من الشعر لحكمة".
30ـ تستطيع من خلال كلماتك أن تجعل الناس يتحركون إلى الخير ويندفعون إلى صالح الأعمال، وتستطيع أن تجعلهم يقنطون من أنفسهم ويخرجون وهم متشائمين، وهذا لا نريده.
31ـ ازرع التفاؤل والخير والدين في نفوس المستمعين.
32ـ اعلم أن المستمع ينصت لك، فاتق الله في كلماتك.
ابو وليد البحيرى
2019-12-04, 08:50 PM
الموعظة .. والطريق إلى القلوب
خالد رُوشه
للموعظة مكان معروف في قلوب الطيبين , تذكرهم بالخير , وتدعوهم إلى الاستقامة , تبشرهم وتنذرهم , ترغبهم في التوبة والعودة والإنابة إلى الله والمسارعة في الخيرات , والتربية الإيمانية تعتمد الوعظ طريقة تعليمية توجيهية مستوحاة من كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , قال سبحانه " ياايها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين " , ولكي نحصل على موعظة مثالية مؤثرة اقدم لك قارئي الكريم تلك الوقفات
اولا : الموعظة ترتكن ابتداء على إخلاص قائلها , فما خرج من القلب سيجد له طريقا إلى القلوب , وما اقتصر على كلمات اللسان فلن يجاوز الآذان , ولما سئل أحد الصالحين عن واعظ يعظ الناس طويلا ولا يؤثر فيهم وعن آخر يقل في موعظته لكنه يؤثر في الناس قال : ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة , فالأول مستأجر يؤدي دور ببرود , والثاني صادق ولو كان قليل الكلام
ثانيا : الموعظة إنما هي كلام طيب , لا سوء فيه ولا إساءة , فلا يصح فيها غيبة الناس ولا انتقاصهم , ولا يجوز فيها سوء الظن بهم , كما لايعتبر فيها الإساءة إلى العصاة الراغبين في التوبة والإنابة ولا ازدراء صاحب الغفلة , فإن الاستهانة بأهل الغفلة من رعونات النفوس ونقائصها , فالموعظة كلم طيب قائم على الترغيب بأحسن الاساليب والطفها أو الترهيب بأكثرها تاثيرا مما يذكر بالله وعظمته ولاينفر عاصيا أو بعيدا , بل يقربهم ويؤويهم ويحببهم في العودة إلى سبيل الله المستقيم
ثالثا : الموعظة تقوم اساسا على اللغة العربية , التي زينتها البلاغة وحسن اختيار الألفاظ والتعبيرات الجذابة , فلا موعظة بمهجور الكلمات , ولا بغريب الألفاظ , ولا موعظة بالكلام الركيك عديم القيمة , إنما الواعظ هو البليغ جذل اللفظ واضح البيان وإن قلت كلماته
رابعا : يظن الكثيرون أن الموعظة تقوم على رفع الاصوات وانقطاعها , واحمرار الوجوه واكفهرار الصورة , والعبوس والغضب , وهو ظن خاطىء سلبي , وهم يستدلون على صحة فعلهم بما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب أسمع , وأنه ربما كان يعلو صوته ويحمر وجهه كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ..
ومكمن خطئهم أنهم اعتبروا هذه الحالة المروية في الحديث إنما هي الحالة الأصلية التي يجب أن يكون عليها الواعظ , ونسوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكيما عليما , يضع الشىء موضعه , فلم يكن ليقسو في مواطن الرفق , ولا ليرفق في مواطن لقاء العدو ومواطن البلايا والفتن , فلكل مقام مقال , ولكل حالة اسلوب .
فربما كان الوعظ في بعض الموضوعات يناسبه الابتسام الرائق والصوت المنخفض أكثر مما يناسبه الصراخ والعبوس , كمثل أن يتحدث الواعظ عن الجنة ونعيمها أو يتحدث عن الأخلاق وشمائلها وهكذا
خامسا : يجب أن يختار الواعظون أوقات وعظهم , ولا يكثروا منه فتمل قلوب الناس و وفي الصحيح من قول عبد الله بن مسعود " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا "
سادسا : يجب أن ينشىء المتحدث والواعظ بينه وبين المستمع حالة من المحبة والشفقة والرحمة والعطف والرفق , لا أن يشعره بالقسوة والغلظة , فإنشاء الحالة الإيجابية يكون دافعا إيجابيا لقبول الموعظة وداعما قويا للتفاعل معها .
سابعا : لا موعظة بغير قدوة , ولئن وعظ الواعظون بصالح الأخلاق بينما سلوكياتهم تناقض ذلك فإن مواعظهم لن تجاوز أفواههم , فليهتم كل خطيب وواعظ بسيرته الذاتية طاعة لله سبحانه وإنابة له , وإلا فلا أثر لكلماته ولاقيمة لجهده , فالناس يريدون أن يروا الموعظة تطبيقيا في سلوك صاحبها حتى يتاثروا بها , فكم سمعوا من كلمات ومحاضرات وخطب , ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت : كان خلقه القرآن
ثامنا : ينبغي أن يعيش الواعظ الواقع الحقيقي , وألا يكون حديثه مجرد عظات جافة أو كلمات بعيدة عن الواقع , فينبغي عليه أن يضرب المثال الواقعي لتطبيق النصائح التي يقدمها , وينبغي عليه أن يضع يده على جروح المجتمعات وأمراض الناس وآفات الجماعات , كما ينبغي عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بكلماته , وألا يكون كوعاظ السلاطين يتحدثون بما يحبه أمراؤهم ويكتمون الحق عما يغضبهم , بل يقول كلمة الحق في الرضا والغضب , ويبلغ الدين , وينصح العالمين
يقول الغزالي رحمه الله :" وليس كل من ادعى العلم أو اعتلى المنابر اصبح واعظا , فالوعظ زكاة نصابها الاتعاظ , ومن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة ؟ وفاقد النور كيف يستنير به ؟! ومتى يستقيم الظل والعود أعوج ؟! "
ابو وليد البحيرى
2019-12-09, 05:57 PM
من قاموس مفردات الدعوة (العظة)
عبد اللّه بن إبراهيم الطريقي
ما أحوج الإنسان إلى من يخاطب عقله ووجدانه، أو قلبه ونفسه، ليكون سهل العريكة، لين الجانب.
وما أشد حاجة الداعي إلى فقه النفس الذي به يخاطب الآخرين، والإسلام جاء بأسلوب تربوي متكامل، يأخذ بكل أسباب التأثير ووسائله مما لا يتعارض مع محكمات الشرائع والعقول.
ولعل الموعظة من أهم الوسائل التربوية وأساليبها المشروعة والمرغب فيها في الإسلام.
فما مفهومها؟ وما منزلتها في القرآن العظيم وسنة النبي الكريم؟ ولدى رجال العلم والبيان والأدب؟
مفهوم الموعظة:
الموعظة اسم من وعظ يعظ وعظاً وعِظَة: التخويف والإنذار هذا رأي ابن فارس.
وقال الخليل: هو التذكير في الخير بما يرقق القلب.
وقال في الصحاح: الوعظ: النصح والتذكير بالعواقب.
والهاء في لفظة: العظة عوض عن الواو المحذوفة، إذ الأصل وعظ[1].
ذلك عن المفهوم اللغوي.
فإذا ما بحثنا عن المفهوم الشرعي أو الاصطلاحي، فإننا نجد المطابقة للمفهوم اللغوي، حيث لا اختلاف بينهما[2].
مادة العظة في القرآن الكريم:
جاءت مادة (وعظ) خمسًا وعشرين مرة في القرآن.
فقد وردت بالفعل الماضي، كقوله -تعالى-: (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ)[الشعراء: 136].
ووردت بالفعل المضارع، كقوله - تعالى -: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ)[البقرة: 231].
ووردت بفعل الأمر، كقوله - تعالى -: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ)[النساء: 63].
ووردت باسم الفاعل، كما في الآية السابقة: (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ)[الشعراء: 136].
كما وردت بالمضارع المبني للمجهول، كقوله - تعالى -: (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ)[الطلاق: 2].
وأخيرًا وردت بالمصدر، كقوله - تعالى -: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)[النحل: 125].
وجملة تقاصد هذه المادة هنا لا تخرج عن المعاني اللغوية المشار إليها آنفًا.
مادة العظة في السنة النبوية:
وردت مادة (وعظ) في السنة عشرات المرات.
سواء أكان ذلك في حديثه وكلمه، كما في قوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن في زيارتها عظة وعبرة"[3] وورودها هنا قليل.
أم كان ذلك في فعله والحكاية عنه، كما في حديث أبي سعيد الخدري قالت النساء للنبي "غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يومًا من نفسك فوعدهن يومًا لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن..."[4]؛ الحديث..
وقد وردت المادة هنا كثيرًا.
كما وردت كثيراً عن السلف. كقول ابن مسعود - رضي الله عنه - "الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره"[5].
وقول ابن عباس: "كفى بالشيب واعظًا"[6].
مادة العظة في لسان العرب:
وردت هذه المادة على لسان العرب كثيرًا ولاسيما في أمثالهم كقول أكثم بن صيفي: لم يضع من مالك ما وعظك[7].
ومن أمثال المولدين: ما وعظ امرأ كتجاربه[8].
ذلك من حيث ورود المادة ذاتها.
أما من حيث مضمونها ومقصودها فإننا نجد المواعظ متناثرة بين آي القرآن العظيم وفي السنة وفي كلام السلف وخطبهم.
لمحة عن العظة في القرآن والسنة والآثار:
أما القرآن الكريم فالموعظة هي من أعظم مقاصد أحكامه وقصصه وأمثاله فعندما تأتي الأوامر والنواهي الإلهية نجد الإشارة إلى العظة والتذكير كما في قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90].
وفي سورة آل عمران يقول الله - عز وجل - بعد أن أشار إلى تحريم الربا وأكله ووجوب طاعة الله ورسوله، والمسارعة إلى مغفرة الله، وذلك بفعل الأوامر واجتناب النواهي، يقول الله بعد ذلك كله: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران: 138].
وفي أول سورة الطلاق يبين الله - تعالى - كيفية الطلاق ووقته، وكيف تعامل المرأة المطلقة، ثم يقول - سبحانه -: (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ)[الطلاق: 2].
وعندما نأتي القصة في القرآن، نلحظ أنها كثيرًا تختم بالإشارة إلى غايتها وهدفها وهو العظة والعبرة.
فمثلاً حينما جاءت الإشارة إلى أصحاب السبت من بني إسرائيل وما عوقبوا به، وذلك في قول الحق - تعالى -: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)[البقرة: 65]. قال الله بعد ذلك: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)[البقرة: 66].
وفي خاتمة سورة يوسف التي احتوت تفصيل قصته، جاءت الإشارة الموجزة إلى الأنبياء ونهاية مواقفهم مع أقوامهم، ثم قال الحق - سبحانه -: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[يوسف: 111].
والعبرة: هي كما يقول ابن منظور: كالموعظة مما يتعظ به الإنسان ويعمل به ويعتبر ليستدل به على غيره[9].
أما في مقام الحوارات والجدل في القرآن فللموعظة مكان فسيح ومقام رفيع بصفتها أحد أساليب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يقول - سبحانه -: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل: 125].
ويقول: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13].
ويقول: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى)[سبأ: 46].
وفي قصة نوح مع ابنه الذي رفض الركوب في السفينة وأصر على الاعتزال ينادي نوح - عليه الصلاة والسلام - ربه مناجيًا وداعيًا أن ينقذ ابنه وألا يكون مع الهالكين.
بيد أن الله - تعالى - وله الحكمة البالغة وبيده الهدى والضلال - ينصح نوحًا بأن يكف عن ذلك وألا يتمادى في سؤال ما ليس له به علم ثم يقول - سبحانه -: (فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)[هود: 46].
وقصارى القول أن العظة في القرآن الكريم ذات منزلة واسعة وتكاد تبسط أجنحتها في كل سورة بل في كل آية.
ولذا يقول الحق - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ )[يونس: 57].
قال عبد الحق ابن عطية عند تفسير هذه الآية: "هذه آية خوطب بها جميع العالم، والموعظة: القرآن، لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف ويزجر ويرقق ويوعد ويعد، وهذه صفة الكتاب العزيز"[10].
بل ما أكثر ما يرد الأمر بالتقوى وهي موعظة وأي موعظة!!
تلك لمحة عن العظة في القرآن العزيز.
فإذا انتقلنا إلى السنة الشريفة أو السيرة العطرة فإننا نجد معالم العظة ظاهرة جلية في معظم الأحاديث.
لكن منها ما تأتي العظة فيها بطريق الإشارة.
كقوله: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها"[11]، ولعلك تلمح العظات في كل جملة من الحديث، وبالأخص آخرها.
وربما كان حديثه أو خطبته كلها موعظة، كما قال العرباض بن سارية - رضي الله عنه -: "وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد... الحديث" [12].
ونظراً لتنوع الأحاديث والسنة الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعالجتها - كشأن القرآن - لأمور الحياة أجمع، فقد صنفها أهل العلم من المحدثين وغيرهم في أبواب، بحسب موضوعاتها.
ونجد أبوابًا عديدة تتعلق بالعظة والتذكير مثل: باب الأمر بالتقوى، باب الزهد والرقائق، باب التوبة، باب النصح. وهكذا.
فإذا ما انتقلنا من دوحة القرآن والسنة إلى آثار العلماء والأدباء فسنجدها موشاة بحلية العظة في كثير من المقامات والمناسبات.
وعلى الأخص إذا كان ذلك في خطب أو وصايا، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر. ومن هنا نلحظ كتب الأدب لا تكاد تخلو من هذا النوع من الأساليب[13].
بل الشعر يتخذ من الموعظة غرضًا من أهم أغراضه في القديم والحديث، وأبو العتاهية قد ضرب بسهم وافر في هذا المجال، حتى ليستحق لقب واعظ الشعراء.
أما ما صنف في العظات وعن العظات فكثير كثير.
ولعل من أقدمها وأشملها كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي الذي عنى به كثير من العلماء تهذيبًا وتلخيصًا وتخريجًا لأحاديثه ويوجد به بعض الأخطاء والشطحات فيؤخذ منه ما كان موافقًا للكتاب والسنة.
وربما خص بعض المؤلفين في عظاته فئات معينة كالسلاطين والملوك ولابن الجوزي القدح المعلى في طرق باب العظة والتذكير، حيث نجد كثيرًا من مصنفاته متخصصة في هذا الموضوع، بل كان يعظ في دروسه العلمية وكان وعظه آية، يقول الإمام الذهبي: "وحصل له من الحظوة في الوعظ ما لم يحصل لأحد قط، وحضر مجالسه ملوك ووزراء، بل وخلفاء من وراء الستر ويقال: في بعض المجالس حضره مائة ألف فيما قيل"[14].
والله ولي والتوفيق.
_________________
[1] انظر: تاج العروس 20-289.
[2] ينظر: المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص 527.
[3] رواه الإمام أحمد في المسند 5-356.
[4] رواه البخاري في صحيحه. ك: العلم باب 36.
[5] رواه مسلم في صحيحه. ك: القدر ح/3.
[6] كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلوني 2-147.
[7] مجمع الأمثال للميداني 2-191.
[8] المرجع السابق 2-327.
[9] لسان العرب 4-531.
[10] المحرر الوجيز 9-56.
[11] رواه مسلم في صحيحه. ك: الطهارة ح/1.
[12] رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. ك: العلم باب 16. انظر مثلاً: عيون الأخبار لابن قتيبة. الجزء السادس كله.
[13] انظر مثلًا: عيون الأخبار لابن قتيبة، الجزء السادس كله.
[14] تذكرة الحفاظ 4-1344.
ابو وليد البحيرى
2019-12-17, 04:36 PM
موافقة قول الخطيب عمله
د. مصطفى عطية جمعة
حين يقف خطيب الجمعة أمام الناس متحدثاً؛ فهو يذكرهم ويعظهم، ويدلهم على ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، ويحـذرهـم ممـا يضرهم فيهـما، والأصـل أنه لا يبتغي من وراء ذلك جزاءً دنيوياً، ولا شكوراً من الناس، إنْ هو إلا مصلح يترسم خطى المرسلين - عليهم السلام - في دعواتهم، ويتأسى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته، ويقتبس هدي الصالحين من هذه الأمة سلفها وخلفها في أقوالهم وأفعالهم وسمتهم.
ولما كانت الحكمة من مشروعية الخطبة نفع الناس بها كان الأولى أن ينتفع الخطيب بما ألقاه على الناس قبل أن يلقيه؛ لعلمه به وقناعته بمضمونه؛ فإنه ما نصح به الناس إلا وفيه خير لهم، وهو أَوْلَى بهذا الخير من غيره.
ولكن النفس البشرية مطبوعة على الظلم والجهل إلا أن يتعاهدها صاحبها بالإيمان والتقوى والتوبة والاستغفار. ودليل ذلك كثرة ما يقع ممن يتصدرون للكلام في شؤون الناس الدينية والدنيوية من مخالفة أفعالهم أقوالَهم، وليس ذلك حكراً على الخطباء والدعاة والعلماء فحسب، بل حتى أهل السياسة والاقتصاد والطب والفكر والإعلام وغيرهم يكثر فيهم مخالفة أقوالِهم أفعالَهم؛ فيوصون الناس بأشياء لا يفعلونها هم، ويحذرونهم من أشياء يقعون هم فيها، ولكن هؤلاء لا يؤاخذهم الناس كما يؤاخذون أهل العلم والدعوة والخطابة، ولا يثرِّبون عليهم مثلهم؛ لأن الناس وضعوا أهل العلم والدعوة والخطابة قدوة لهم - وهذا حق وشرف ومسؤولية - فكانت مخالفة العالم أو الداعية أو الخطيب أقواله أفعاله أشد على الناس من مخالفة غيرهم؛ ولهذا فإنه يجب على العالم والداعية والخطيب أن يراعوا هذه الخصوصية لهم، ويحافظوا على هذه المنزلة التي بوأهم الله - تعالى - إياها، ويحفظوا مكانتهم في قلوب الناس بإتباع العلمِ العملَ، وعدم مخالفة القول الفعلَ؛ ليصدر الناس عنهم، ويقبل الناس منهم، ويكون لخطابهم وَقْعٌ في القلوب، وتأثير في النفوس.
ذم مخالفة القولِ الفعلَ:
تظاهرت نصوص الكتاب والسُّنة على ذم مخالفة قول الإنسان عملَه؛ لأن ذلك نوع من الكذب، ويدل على ضعف الإيمان، وهو طريق إلى النفاق. نعوذ بالله - تعالى - من ذلك، والنصوص الواردة في ذلك على أنواع:
النوع الأول: نصوص تثبت أن الأنبياء، عليهم السلام - وهم رؤوس المصلحين وأئمة الدعاة والخطباء - توافق أقولُهم أفعالهم؛ حتى إن المكذبين بهم من أقوامهم لم يرموهم بمخالفة أفعالهم أقوالَهم مع حاجتهم لمثل هذه التهمة في صرف الناس عن الدعوة، لكنهم لم يفعلوا ذلك؛ لعلمهم أن الناس لا يصدقونهم؛ لأنه من الكذب الظاهر.
ومن الأنبياء من صرح بذلك كما فعل شعيــب - عليه السـلام - حين وعـظ قـومه، فبين لهـم أنـه أول مـن يمتثـل ما يدعوهم إليه حين حكى الله - تعالى - عنه قوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88].
النوع الثاني: نصوص تفيد أن الله - تعالى - قد ذم بني إسرائيل على عدم إتْبَاع العلم العمل، فقال - سبحانه -: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]. فإنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وهم يعصونه، فعيَّرهم الله، تعالى[1].
النوع الثالث: نصوص تثبت الوعيد الشديد المتنوع في مخالفة الإنسان قولَه فعلَه:
1 - فصاحبه متوعَّد بمقت الله - تعالى - كما في قوله - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3].
2 - ومتوعد بالعذاب في النار كما في قول الله - تعالى -: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ* كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51].
قال الشنقيطي - رحمه الله تعالى -: «فيجب على المذكِر (بالكسر) والمذكَر (بالفتح) أن يعملا بمقتضى التذكرة وأن يتحفظا عن عدم المبالاة بها؛ لئلا يكونا حمارين من حُمُر جهنم»[2].
3 - وعذابه في النار يكون بطــريقة بشـعة منفِّــرة جاء تصويرها في حديث أســامة بــن زــيد - رضــي الــله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ! مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ»[3].
النوع الرابع: أن الخطباء جاء فيهم وعيد خاص إذا خالفت خطبهم أفعالَهم كما في حديث أَنَــسِ بْنِ مَــالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالاً تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ. قُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ : هَؤُلاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا يَعْقِلُونَ»[4].
وقد تمسَّك بهذه النصوص من يرى أن من كان مقارفاً للمعصية فلا يأمر ولا ينهى، وهاهنا ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: اشتراط أن يكون الخطيب أو الداعية خالياً من المعاصي وإلا لا يعظ الناس ولا يخطب فيهم، ولم أقف على أحد يقول بهذا، ولازم القول به تعطيل الأمر والنهي الشرعيين؛ لاشتراط العصمة من الذنوب في صاحبه.
ولهذا يجوز أن ينصح المفضولُ الفاضلَ، وأن يعظ الطالبُ العالمَ؛ لأنه لا أحد من البشر فوق النصح والموعظة مهما كانت منزلته، ومهما علا كعبه في العلم والفضل.
المسألة الثانية: اشتراط موافقة قولِه فعلَه فيما يخطب به، فلا يحل له الكلام إلا فيما وافق فيه قولُه فعلَه، وما خالف فيه قولُه فعلَه فلا يخطب به، وفي هذه المسألة قولان:
القول الأول: يشترط ذلك؛ لأن ظاهر النصوص السابقة تدل على تقبيح من خالف قولُه فعلَه؛ بمعنى أنه لا يأمر بما لا يفعل، ولا ينهى عما يفعل؛ لئلا يتناوله الوعيد الوارد في النصوص السابقة. قال أبو القاسم القشيري الصوفي: «فَشَرْطُ الأمرِ بالمعروف استعمالُ ما تأمر به والانتهاء عما تنهى عنه»[5]. ويتأيد هذا القول بالآثار التالية:
1 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه جاءه رجل فقال: «يا ابن عباس، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. قال: أَوَبلغت؟ قال: أرجو. قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله - عز وجل - فافعل. قال: وما هن؟ قال: قوله - عز وجل -: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فالحرف الثاني؟ قال: قوله - عز وجل -: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فالحـرف الثـالث؟ قال: قـول العبـد الصالح شعيب - عليه السلام -: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فابدأ بنفسك»[6].
2 - وقال النخعي - رحمه الله تعالى -: «ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: ٤٤] {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2][7].
3- وعن بعض السلف أنه قيل له: «حدثنا. فسكت ثم قيل له: حدثنا. فقال: أترونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله، تعالى»[8].
القول الثاني: لا يُشترَط في المتصدي للخطابة أن لا يعظ الناس إلا بما وافق فيه قولُه فعله، بل يعظهم بما يحتاجون ولو كان مخالفاً فيه، وهو قول عامة العلماء، ويُستدل له بما يلي:
1 - عموم أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، تعالى؛ إذ ليس في شيء منها منع من فرَّط في طاعة من الدعوة إليها، ولا منع من وقع في معصية من النهي عنها.
2 - قول الله - تعالى -: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79] فذمهم الله - تعالى - لأن بعضهم لم ينهَ بعضاً عما قارفوا من المنكرات.
3 - أن حكم الله - تعالى - في عباده كتابةُ حسناتهم وسيئاتهم، ومحاسبتهم على أعمالهم، وليس من لازم اكتساب السيئة بطلان الحسنة إلا ما كان محبطاً للعمل وهو الشرك. ودعوة الناس للخير وتحذيرهم من الشر حسنة يثاب العبد عليها، ووقوعه في المنكر سيئة يحاسب بها، فالجهة منفكة بين ميادين اكتساب الحسنات، وميادين اجتراح السيئات.
وهذا القول هو الراجح، وأما الجواب عن النصوص المنفرة من مخالفة القول الفعل فإن الذم فيها على المعصية مع العلم بها، وليس على النهي عنها، وعلى هذا المعنى اجتمعت كلمة المحققين من العلماء:
قال الجصاص - رحمه الله تعالى -: «من لم يفعل سائر المعروف ولم ينته عن سائر المناكير فإن فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقط عنه»[9].
وقال القرطبي - رحمه الله تعالى -: «اعلم - وفقك الله تعالى - أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر»[10].
وقال الشنقيطي - رحمه الله تعالى -: «فالحق أن الأمر بالمعروف غير ساقط عن صالح ولا طالح، والوعيد على المعصية لا على الأمر بالمعروف؛ لأنه في حد ذاته ليس فيه إلا الخير»[11].
وأما الآثار الواردة عن ابن عباس والنخعي وغيرهما فهي غير ثابتة، فإن ثبت شيء منها أو ثبت مثلها عن بعض السلف فتُحمَل على التشديد في إتباع العلمِ العملَ، والترهيب من مخالفة القول للفعل.
وقد نُقل عن السلف ما يقابل الآثار السابقة، ومن ذلك:
1 - قول أبي الدرداء - رضي الله عنه -: «إني لآمركم بالأمر وما أفعله ولكني أرجو فيه الأجر»[12].
ويُحمَل قوله - رضي الله تعالى - عنه على بعض المندوبات؛ لأن الإنسان مهما بلغ فلا يستطيع أن يأتي بالسنن كلها لا يفوته منها شيء، فكان يأمر بأنواع من المندوبات لا يتمكن من فعلها.
2 - قول عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى -: «لو أن المرء لم يعظ أخاه حتى يحكم نفسه ويكمل في الذي خُلِقَ له لعبادة ربه إذاً تواكل الناس بالخير، وإذاً يرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستُحلَّت المحارم وقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة في الأرض»[13].
3 - قول سعيد بن جبير - رحمه الله تعالى -: «لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحدٌ بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء؟»[14].
المسألة الثالثة: قد يتلبس الخطيب بمعصية مثل: ترك واجب كصلة الرحم، أو فعل محرَّم كقطيعتها؛ فهل له أن يؤجل الكلام عنها حتى يتوب من معصيته؛ لأنه متلبس بها أم يبادر إلى إنكارها ولو لم يتب منها؟
إن الذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن ذلك منوط بحاجة الناس، فإذا احتاجوا إلى العلم بها والتنبيه عليها فلا يؤخَّر الحديث عنها إلى أن يتوب؛ لما يلي:
1 - عموم نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، تعالى؛ فليس في شيء منها تأجيل الأمر والنهي الشرعيين لمخالفة الآمر والناهي ما يقول، وإنما فيها ذم من فعل ذلك كما مضى، وذمه لعدم انتفاعه بالخير الذي يدعو إليه لا لدعوته.
2 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - تعليقاً على الذي قتل نفسه في غزوة خيبر: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلا مُؤْمِنٌ وَإِنَّ الله لَيُؤَيِّدُ هذا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ»[15].
3 - أن الخطبة شرعت لمعالجة ما يحتاج الناس من موضوعات، فلا يعدل الخطيب عن حكمة ذلك لعلة فيه هو.
4 - أن دعوته إلى طاعة قصَّر هو فيها، أو نهيه عن معصية وقع هو فيها، طاعة وقربة تقرِّب إلى الله، تعالى؛ فلا يؤخر الطاعة؛ للأمر بالاستباق إلى الخيرات، ولعلها تكون كفارة لذنبه؛ فقد قال الله - تعالى -: {إنَّ الْـحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وفي الحديث: «وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا»[16] أو لعله يُرزَق بسببها التوبة من ذنبه؛ لما يقوم في قلبه من الخجل والحياء من الله - تعالى - أو لتأثره بما ألقى على الناس من موعظة، أو لتأثره بتأثير خطبته في الناس فيرى فضل الله - تعالى - عليه بانقياد الناس له في هذا الأمر، فتدعوه نفسه لأن يكون أول الممتثلين.
على الخطيب أن يجاهد نفسه على ما يلي:
1 - خشية الله - تعالى - بالغيب؛ فإن الخطيب مذكِّر بكلام الله - تعالى - وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فأولَى به أن يكون أوَّل متعظ به، وقد خاطب الله - تعالى - نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - فقال - سبحانه -: {إنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11].
2 - الحذر من معاصي السر، والإصرار عليها، فإنها سلَّم يهبط بالعبد إلى درك النفاق المظلم، وهي سبب لذهاب الحسنات؛ كما في حديث ثَوْبَانَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قال: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً من أُمَّتِي يَأْتُونَ يوم الْقِيَامَةِ بِحَسَنَــاتٍ أَمْثَــالِ جِبَـالِ تِهَــامَــةَ بِيضــاً فَيَجْعَلُهَــا اللــه - عز وجل - هَبَاءً مَنْثُوراً. قال ثَوْبَانُ يا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لنا، جَلِّهِمْ لنا أَنْ لَا نَكُونَ منهم وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قال: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ من اللَّيْلِ كما تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إذا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»[17].
3 - اللجوء إلى الله - تعالى - بالدعاء والإخبات والاستغفار، وسؤاله الثبات على الدين، مع الخوف الشديد من عاقبة ذنبه.
4 - الإكثـار مـن الأعمـال الصالحة المكفـرة. قـال اللـه - تعالى -: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إنَّ الْـحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
5 - وعلى الخطيب أن يحذر من كثرة مخالفة فعله لقوله، وتعدد ذنوبه، وإصراره عليها، واستهانته بها؛ لئلا يقع في النفاق، أو يرديه الشيطان إلى الانتكاس.
[1] جاء ذلك عن السدي وقتادة - رحمهما الله تعالى - كما في تفسير الطبري: 1/258.
[2] أضواء البيان: 1/463.
[3] رواه البخاري: (3094)، ومسلم: (2989).
[4] رواه ابن أبي شيبة: 8/446، وأحمد: 3/120، وعبد بن حميد: (1222) وحسنه البغوي في شرح السنة: (4159) والألباني في صحيح الجامع: (129).
[5] لطائف الإشارات: 2/55. وغالب الذين يتكلمون عن هذه المسألة ينسبون هذا القول للماوردي وأبي يعلى في الأحكام السلطانية لكل واحد منهما، وينسبونه لغيرهما ممن بحثوا أحكام الحسبة؛ لأنهم ذكروا في شروط المحتسب أن يكون عدلاًً، وفي ظني أن هذه النسبة غير دقيقة؛ لأن الذين تناولوا الحسبة وشرطوا هذا الشرط أرادوا والي الحسبة الذي يعيَّن من قِبَل ولي الأمر، كما هو ظاهر كلام الماوردي، ص271، وهذا لا يفيد أنهم يرون أن من وقع في معصية فلا ينهى عنها، ولا أن من قصر في طاعة لا يأمر بها، وحكى هذا القول ابن كثير في تفسيره لكنه لم ينسبه لمعيَّن، فقال: وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف.ا هـ: 1/86.
[6] رواه البيهقي في الشعب: (7569) والشجري في الأمالي: 2/320، وابن عساكر في تاريخه: 23/73، وهو أثر لا يصح، في سنده بشر بن الحسين الأصبهاني الهلالي يرويه عن الزبير بن عدي. قال أبو حاتم: يكذب على الزبير، وقال البخاري: فيه نظر، وقال الدارقطني: متروك. انظر: المغني في الضعفاء: 1/105، رقم (898) ولسان الميزان: 2/21.
[7] تفسير القرطبي: 18/80، ولم أقف عليه مسنداً.
[8] تفسير القرطبي: 18/80، ولم أقف عليه مسنداً أو منسوباً لمعين.
[9] أحكام القرآن للجصاص: 2/320.
[10] تفسير القرطبي: 1/366.
[11] أضواء البيان: 1/463.
[12] رواه ابن أبي شيبة: 7/111.
[13] رواه أبو نعيم: 5/276 - 277.
[14] تفسير القرطبي: 1/368، وتفسير ابن كثير: 1/86، ولم أقف عليه مسنداً.
[15] رواه البخاري: (6232)، ومسلم: (111).
[16] رواه الترمذي وقال: حسن صحيح: (1987) .
[17] رواه ابن ماجه: (4245).
ابو وليد البحيرى
2019-12-18, 10:52 AM
خطبة الجمعة بين الواقع والمأمول
د. عامر الهوشان
على الرغم من كون صلاة الجمعة فريضة تعبدية , إلا أن لها في الإسلام حكمة وغاية , شأنها في ذلك شأن سائر الفروض التعبدية الأخرى , ولعل أولى حكم صلاة الجمعة الألفة والمحبة واجتماع المسلمين , إضافة إلى التذكير بحقوق الله والالتزام بأوامره ونواهيه .
وعلى الرغم من أهمية صلاة الجمعة في الإسلام , وعظيم أثرها في تعليم المسلمين أمور دينهم , وتذكيرهم بربهم وآخرتهم , وتصحيح مفاهيمهم وأفكارهم المغلوطة عن الإسلام , وتقويم اعوجاجهم في سلوكهم وأخلاقهم , إضافة لفوائدها الاجتماعية الكبيرة والخطيرة , إلا أن أداءها على الوجه الأكمل كما طلب الإسلام ما زال دون المأمول , فهناك فجوة وبون شاسع بين الثمرة المرجوة من أداء هذه الفريضة على الفرد والمجتمع المسلم , وبين الواقع الذي يوحي بضعف تأثير صلاة الجمعة على المسلمين .
إن فضل الله تعالى ونعمته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم باختصاصهم بهذه الفريضة عظيمة وجليلة , فإن أعداء هذه الأمة طالما تمنوا اختصاصهم بهذه الفريضة عوضا عن المسلمين , وطالما صرحوا بعظيم ما كانوا سيفعلون لو كانت هذه الفريضة موجودة في دينهم , بعد أن اختلفوا بشأن يوم الجمعة فحرمهم الله منه واختصه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم , فقد ورد في الحديث عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ ) صحيح البخاري برقم876 .
ورغم أن الله اختص هذه الأمة وحدها بهذه العبادة ,إلا إن واقع خطبة الجمعة في عصرنا الحالي يضج بالملاحظات والهفوات التي كان لها كبير الأثر في عدم تحقيقها المأمول من تشريع الله لها , ولعل أهم هذه الملاحظات تتعلق بالخطيب وموضوع خطبة الجمعة والوقت .
1- أهم الملاحظات على الخطيب
أما بالنسبة للخطيب فأولى الملاحظات السلبية وأكثرها وضوحا وظهورا في كثير من الخطباء – إلا ما رحم ربك – هي اللغة العربية , حيث يشيع الخطأ واللحن فيها بشكل كبير وخطير , حتى يصل الأمر في اللحن والخطأ عند البعض إلى الخطأ في تلاوة الآية القرآنية أو ذكر الحديث النبوي أثناء الخطبة , وهو ما يعتبر خطأ فادحا وسلبية لا تغتفر, ناهيك عن الأخطاء الكثيرة أثناء الخطبة من خلال رفع المنصوب ونصب المرفوع وجر ما يلزم تسكينه .
ويمكن تجاوز هذه الملاحظة بالعودة إلى أصول اللغة العربية تعلما وممارسة , من خلال التدرب على عدم اللحن أثناء الكلام , وهذا يحتاج بلا شك إلى جهود شخصية من الخطيب , إضافة إلى جهود من المؤسسات الدينية بإقامة دورات تنمية مهارة سلامة التحدث باللغة العربية لغويا ونحويا .
وتأتي الملاحظة الثانية المختصة بالخطيب فيما يتعلق بالتأثير على الحضور المستمعين , فمع الاعتراف بدور خطبة الجمعة في تعليم الناس أمور دينهم , وإزالة الشبهات التي تحوم حول عقيدتهم , إلا أن ذلك لا يعني أن تتحول إلى محاضرة علمية بحتة , تخلو من الحالة الإيمانية الخشوعية المطلوبة .
والحقيقة أنه لا يمكن للخطيب أن يؤثر في الناس إيمانيا وعاطفيا إلا إذا كان حاضر القلب فيما يقول ويعظ , متأثرا ومتفاعلا مع الكلام الذي يلقيه على الناس , منفذا ومطبقا لما يقول قدر المستطاع , فلسال الحال أبلغ من لسان المقال كما هو معروف , والكلام الذي يخرج من القلب يصل إلى القلوب بلا استئذان , والكلام الذي يخرج من اللسان لا يتجاوز الآذان .
2- ملاحظات حول موضوع الخطبة
وفيما يتعلق بموضوع الخطبة فهناك الكثير من البعد عن واقع الناس وهمومهم والقضايا الساخنة التي تشغل بالهم , فبينما يتساءل الكثير من المسلمين في هذه الأيام عن مدى علاقة ما يحدث في العالم الإسلامي من أحداث جسام وحروب عظام بقرب ظهور علامات قيام الساعة الكبرى , كظهور المهدي والدجال , لا نرى كثيرا من الخطباء يتكلمون عن هذا الموضوع الحساس , وبيانه كما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة , حتى لا يختلط الأمر على المسلمين , ويكون بابا لدخول بعض الأساطير والخرافات إلى هذا الدين .
وبينما تتوالى أخبار اضطهاد المسلمين في معظم أرجاء العالم , قد نرى الكثير من المسلمين لا يعلمون شيئا عن ذلك , لأن خطيب مسجدهم لم يتناول هذا الأمر لا من قريب ولا من بعيد في اللقاء الأسبوعي الإسلامي .
وعلى الرغم من أن الساحة العالمية تعج بالأفكار الملحدة والمذاهب والتيارات المنحرفة , والتي تمثل شبهات خطيرة قد تودي بإيمان بعض المسلمين , لا نرى اهتماما ملحوظا بتناول هذه الأفكار والمذاهب والتيارات بالنقد والتمحيص في خطب الجمعة بالمستوى المطلوب والمأمول .
وفي حين تتزايد الشكاوى من ظاهرة فصل الدين عن حياة المسلمين اليومية , من خلال تناقض ظاهر وفاضح بين ممارسة بعض المسلمين لعباداتهم الشعائرية بانتظام - كأداة الصلاة والصيام والحج – بينما عباداتهم التعاملية والأخلاقية – كأداء الأمانة وإتقان العمل والبعد عن المال الحرام – فيها الكثير من الخلل والعوار , ومع هذا لا نلمس وجود تركيز على هذا الأمر في خطبة الجمعة , من خلال برنامج موضوعي لمعالجة هذه السلبيات بتناولها عبر سلسلة من الخطب المتتالية أو المتفرقة .
إن اختيار وانتقاء موضوع خطبة الجمعة يحتاج إلى كثير من العناية والاهتمام من الخطباء , حيث يقدم الموضوع الأهم حسب الزمان والمكان وحاجة المسلمين , ولعله ليس من المبالغة في شيء القول : بأن حسن أو سوء اختيار وانتقاء موضوع خطبة الجمعة من أهم أسباب نجاح الخطبة أو فشلها , خاصة إذا استوحى الخطيب المسؤولية أمام الله عن هذا المقام الكبير والخطير الذي أقامه الله فيه واختصه له .
3- وقت الخطبة بين التطويل والتقصير
على الرغم من أنه ورد في السيرة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطيل خطبته أحيانا ويقصرها أحيانا ، بحسب حاجة الناس وتغير الأحوال , إلا أن المشهور من سنته صلى الله عليه وسلم أنه يتوسط ويقصر الخطبة , ويؤكد ذلك حديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : ( كُنْتُ أُصَلِّى مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلَوَاتِ فَكَانَتْ صَلاَتُهُ قَصْدًا وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا) صحيح مسلم برقم 2040 .
وإذا أردنا أن نلتمس العذر لطول خطبة بعض الخطباء الذين يجيدون انتقاء الموضوع ويتقنونه , ويجذبون انتباه واهتمام المصلين من شدة تفاعلهم وحرصهم على نفع المسلمين والتأثير فيهم , فإن طول خطبة الكثير دون اتقان للموضوع ولا تفاعل أو شد لانتباه المصلين , مع تكرار بعض العبارات و الأفكار , إضافة لكثرة الأخطاء اللغوية وربما الشرعية , يثير الكثير من تذمر المصلين واستيائهم .
إن الالتزام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في التوسط بوقت خطبة الجمعة يساعد في معالجة ظاهرة تأخر كثير من المصلين عن أول وقت صلاة الجمعة بحجة أن الخطيب يطيل الخطبة – رغم عدم شرعية ذلك - كما أنه أدعى لاستيعاب مضمون الخطبة وفهمها ومن ثم تطبيقها , فإن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضا , وما قل وكفى خير مما كثر وأهلى .
ملاحظات يمكن تداركها , وهفوات يسهل اجتنابها , لنعيد لخطبة الجمعة رونقها ونحقق حكمة الله في فرضها , فهل إلى ذلك من سبيل
ابو وليد البحيرى
2019-12-20, 05:06 AM
من صفات الداعية والخطيب
مرشد الحيالي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، سيِّد الأوَّلين والمعلِّمين محمد بن عبدالله، أرسله الله بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا منيرًا.
وبعد:
فيقول علماء الأخلاق: إن البيئة التي يعيش فيها الفردُ لها تأثير عظيم في تكوينه النفسي والأخلاقي، فإن كان المجتمع الذي يعيش فيه الفرد صالحًا، انتقل ذلك إلى الأفراد من غير أن يشعروا، وكذلك الفرد الصالح يؤثِّر فيمن حوله، وهذه الحقيقة أشار إليها القرآن في قوله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ﴾ [الممتحنة: 4]؛ فالقدوةُ الحسَنة للخطيب وسيرتُه الطيبة وأخلاقه الزكية بين الناس لها تأثيرٌ في صلاح الناس، ويكون بذلك كالكتابِ المفتوح يقرأ الناسُ فيه معانيَ الحق فيؤمنون به، ويصدِّقونه، ويتأثرون به، ولقد آمَن الكثيرُ برسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد أنهم عرَفوا حاله، وسيرته العطرة، وأخلاقه الزكية، بل وكان يلقَّب بينهم بـ: (الصادق الأمين)، بل إن بعضَهم آمن به بمجرد أن رآه ونظر إليه؛ حيث قال ذلك الأعرابي البسيط: (والله ما هذا الوجه بوجهِ كذَّاب، ولا الصوت بصوت كذاب)[1]، فاستدل بضياء وجه الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ورنَّة صوته على صِدق ما يحمله ويدعو به، وينادي به من الحق، وقالت خديجه زوجته: (إنك لتصِلُ الرَّحِم، وتحمل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدوم، وتُعِين على نوائب الدهر)، إلى صفات أخرى ذكرَتْها تصديقًا له، وإيمانًا برسالتِه، وتطييبًا لقلبه الشريف.
والداعية والواعظ مِن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الدين، فوجَب عليه أن يطابق خُلقُه خُلقَ الرسول صلى الله عليه وسلم في الصبر، والجهاد، وتحمُّل الأذى، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة، والصفات الحسنة؛ ولهذا كان من أعظمِ ما ينبغي للخطيب أن يتحلى به أن يقتديَ برسول الله صلى الله عليه وسلم في أعماله وأخلاقه، وعقائده وآدابه وسُنَنه، وألا يخالفَ قولُه فِعلَه؛ لأن التأثُّر بالسلوك أبلغُ بكثير من التأثُّر بالقول فقط، والناس مجبولة على التأثُّر بمن يعمل وإن كان قليلَ العلم، أعظم ممن يخالف قوله فعله وإن كان علاَّمة زمانه، وقد قيل: "إن ما يخرج من اللسان لم يتجاوز الآذانَ، وما خرج من القلب وصَل إلى القلب.
ومن صفاتِ الداعية أو الخطيب العامة:
أن لا يخشى في الله لومةَ لائم، فلا يفعل ما يفعل ويترك ما يترك خشية الناس، أو خوفًا من قانون أو من جهة رسمية، بل يفعل الخير ويترك الشر ابتغاء مرضاةِ الله، فيُحِب ما يقرِّبُه إلى الله، ويُبغِض ما يُبعِده عن سبيله ومرضاته، ويُخلص لله في أمورِ الدعوة؛ لأن ذلك أساسُ النجاح، وأن لا يتطلعَ إلى مكاسبِ الدنيا وما في أيدي الناس، أو يجعل الوعظ وسيلةً لنيلِ مآربه وحاجاتِه الدنيوية، وإلا سقَط من أعينهم، وفشِل في دعوته.
وعلى الخطيب أو الداعية كذلك أن يجعل زادَه في الدعوة والإرشاد الصبرَ وتحمُّل الملامِ في ذات الله، فيكون ثابتًا لا يتقلَّبُ، ويستعذبُ المُرَّ في سبيل الله، ويتأسَّى بإمام الخطباء الذي قال: ((اللهم اغفِرْ لقومي فإنَّهم لا يعلمون))، ويتحلَّى بصفتينِ عظيمتين أساسيتين؛ قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].
ومِن صفات الداعية أن تكون له معرفةٌ قوية بأحوال الناس ونفسيَّاتهم، ويحرص على هدايتهم وإنقاذِهم مما هم فيه من جَهالة ومعصية، وينزل إلى واقعِهم، فيتكلَّم بما يناسب مستوياتهم ومداركهم، ويتفرَّس في وجوههم، وأي مرض يغلب عليهم، وأي شيء يحتاجونه أكثرَ من غيره فيبدأ به، ويربط ذلك بمعاني العقيدةِ والتوحيد، فإن (كانوا بحاجة إلى التخويف والترهيب لِما يلمِسُه فيهم من الجرأة والمخالَفات الشرعية، فيذكر لهم الآيات والأحاديث الواردة في تلك، ويخوِّفهم من طول الأمَل، وإن الحزم يقتضي المبادرةَ بأخذِ العُدَّة قَبْل حلول الأجل، والعُدَّة هي تقوى الله، وإنها خيرُ ما يَتزوَّد بها المسافر إلى الله؛ ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197]، وإن لذة المعصية - وهي قصيرة - تعقُبُها حرارةُ الندم والعذاب مدة طويلة، والعاقل مَن صبَّر نفسَه عن لذة حرامٍ لا تدومُ؛ ليظفر بلذة النعيم المؤبد، ولينجوَ من عذاب دائم مقيم، وإذا رأى في القوم الذين يخطُبُ فيهم شعورًا باليأس والقنوط، وصعوبة الرجوع إلى الله ذكَّرهم بعظيم رحمةِ الله، وأن الله يقبَل التائبين الصادقين...)[2].
والخطيبُ أو الداعي إلى الله رجلٌ حكيم سياسي[3] يدعو بالحِكمة والموعظة الحسنة، ويتسلَّل إلى قلوب الحاضرين، فيصِلُ إلى ما ينكرونه دون أن يشعُروا، فيشتد في مواضعِ الشِّدة، ويَلِين في موضعٍ آخر، وهو قادرٌ على أن يعِظَ الناسَ جميعًا على اختلافِ مشاربهم ومذاهبهم دون طائفة على حساب أخرى؛ لأنه رجلٌ داعية للناس أجمعين.
ومن الصفات الهامة للداعية:
أولاً: أن يكون عالِمًا بالعقيدة وما يناقضها من وسائل الشِّرك وأسبابه؛ كيلا يوجِّه الناس بغير علم، ولا يزيغ هو عن جادة الحق؛ لذا فعليه الاهتمامُ بمعاني العقيدة، مثل: الإيمان بالله، واليوم الآخر، وبالقدر خيرِه وشره، مستعينًا بآياتِ الكتاب، وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، وضَرْب الأمثال، ويشد الخَلق إلى غاية عظيمة جليلة، وهي ابتغاء مرضاة الله، وتقديم طاعة الله ورسولِه على طاعة ما سواهما، والتطلع إلى ما عند الله خير مما عند خَلقه، بحيث يجعل حبَّه وخوفَه ورجاءه لله وحده؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163]، والخطيب إذا كان جاهلاً بمعاني العقيدة، معتقدًا بالخرافات والخزعبلات والجهالات التي لا تمتُّ لدِين الإسلام بصلة، كان ما يفسد أكثرَ مما يصلح، بل ربما أفسَد عقائدَ المدعوين، وخرَّب عليهم دينهم.
ثانيًا: أن يكونَ الخطيبُ عالِمًا بسائر الأحكام الشرعية، ومسائل الخلاف بقدر الإمكان والاستطاعة، ومدارك العلماء، ومن أين أخذوا؛ كي يتمكَّنَ من إجابةِ الناس على بينة، ويردَّهم دائمًا إلى الطريق القويم في مسائل العبادات والمعاملات، ويبين أن الواجبَ عليهم بعد إيمانهم برسول الله نبيًّا هو تصديقُه بكل ما يخبر به عن الله، وطاعته في كل ما يأمر به عن الله، والانتهاء عن كلِّ ما نهى عنه، وقَبول ذلك بتسليم تامٍّ ورضا كامل، وأنه لا يجوز للمسلم تقديمُ أي قول لأحد من الناس كائنًا مَن كان على قول الله ورسوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [الحجرات: 1]، ولا يجوزُ عليه أن يحملَ الناس على رأي فلان أو مذهب فلان، فيخبط في الدين خَبْطَ عشواء.
ثالثًا: وينبغي كذلك عليه أن تكونَ له مهابةٌ في قلوب الناس، ويستعمل خُلُق الوَرَع والخوف من الله عز وجل، فلا يرتكب كبيرة، ولا يُصِرُّ على صغيرة؛ حتى تعظِّمَه النفوس، وتنقاد إلى سماع كلامه ووعظِه؛ قال ابن الحاج رحمه الله: (وينبغي أن يكونَ في خُطبته على حال الخشوع والتضرع؛ لأنه يعِظُ الناس، والمقصود من الموعظة حصولُ الخشوعِ والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى باتِّباعِ أمره، واجتناب نهيِه، والخوف منه، والخوف مما أوعَد به، وقوة الرَّجاء فيما عنده، وحُسْن الظن به سبحانه، فإذا كان الخطيب مستعمِلاً في نفسه ما ذُكِر، كان ذلك أدعى إلى قَبولِ ما يُلقيه على السامعين؛ لاتِّصافه بما يتصف به هو في نفسه، كما مر...، فيُبادر إلى فعل ما نادى إليه أولاً، فيكون أدعى إلى صلاح القلوب؛ لأن العلمَ إذا خرج من عاملٍ تشبَّث بالقلوبِ، وإذا خرَج من غيره، انساب عن القلوب)[4].
رابعًا: أن تكونَ له معرفة قوية باللغة العربية، مثل: علم الإعراب، وعلم الأساليب (المعاني والبيان)، وهذا إنما يحصُلُ بممارسةِ الكلام البليغ ومزاولته؛ حتى تكونَ له مَلَكَةٌ على تأليفِ الكلام وإنشائه، فيُعبِّر عن المعاني العديدة بألفاظٍ وجيزة بيِّنة، وقد كان سلفُنا الصالح يتكلَّمون بما يوافق القواعد قبل أن توضَعَ في الكتب، وهذه نقطة مهمة جدًّا، وهي أنه يجب على المسلمين - وخاصه العلماء منهم والوعَّاظ - إحياء اللغة العربية، وتحصيل مَلَكة الذوق العربي؛ لأن فَهْم القرآن وتدبُّر معانيه لا يكون إلا بفَهْم أساليب اللغة، وإني أعتقد أن المسلمين ما زال مُلكُهم العريض، وما سُلبت منهم السيادة والكرامة إلا حين اختلطت العُجمة باللسان حتى فسد اللسان، ومن المؤسف حقًّا أن نرى أو نسمع بعضَ الخطباء يُقِيم شعائر الإسلام العظيمة - كالأذان والخُطبة - بلغتهم ولسانهم، وقد أجمع علماء الأمة وفقهاؤُها على العمل على إقامةِ شعائر الإسلام بالعربية الفصحى، وإذا أردتَ أن تعرفَ أهمية اللغة في فهم القرآن وتعلقه والتأثر به، فإليك هذه الحكاية الطَّريفة، ومجمل الحكاية أن الأصمعيَّ كان يمشي فسمع بنتًا تُنشِد وتقول:
أستغفِرُ الله لذَنْبي كلِّه http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
قتلت إنسانًا بغيرِ حلِّه http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
مثل الغزال ناعمًا في دلِّه http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
انتصَف الليلُ ولَم أُصلِّه http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فقال لها: قاتلكِ الله ما أفصحكِ! فقالت: ويحَك أَوَيُعَدُّ هذا فصاحةً مع قول الله عز وجل: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]؛ فقد جمَع سبحانه في آيةٍ واحدة بين أمرينِ ونهيينِ وخبرين وبشارتين!
الخطيب والقرآن:
من الخطأ أن يكون رصيد الخطيب من كتاب الله وحفظه وتلاوته وقراءة تفسيره ضعيفًا، حتى إنك لتجدُ عوامَّ الناس أعظمَ اهتمامًا وتلاوة منه، بل تجد أن الخطيب بعد أن يسلك وظيفة الخطابة يقلُّ رصيدُه من حفظ كتاب الله؛ ولذا ينبغي على الهيئاتِ الرَّسمية في الدول الإسلامية[5] إجراءُ اختبارات سنوية لبيان مدى التزام الخطيب بكتاب الله وحِفظه، وتجويده وإتقان حروفه ومعانيه، وكذا دورات لفهم معاني القرآن وتفسيره بما يوافق مستوياتِ المدعوين، وأن يعود الخطيب على فهم القرآن واستنباط معانيه من خلال مراجعة كُتب التفسير المنوعة، من أجل أن يقرِّب معانيَه بأسلوب العصر، وترك التعصب والجمود في تفسير آيات القرآن وَفْق مفاهيم خاطئة، أو لا توافق عصرنا الحاضر، وتجنُّب تفاسير أهل البدع، ومحاولة تفسير القرآن على ضوء سنَّة الله في خَلقه، وبما كُشِف في ضوء العلم الحديث.
الخطيب وسنَّة رسولنا الكريم:
وكما يقال في علاقة الخطيب بكتاب الله يقال أيضًا في سنَّة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن تكونَ للخطيب معرفةٌ بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، والتقريرية؛ وذلك بقراءة كتب السيرة والحديث، ومن أعظمها نفعًا: (زاد المعاد في هدي خير العباد) لابن القيم رحمه الله، ودراسة مصطلح الحديث؛ ليتمكنَ من معرفةِ الصحيح من الواهي أو الموضوع، وتجنب الاستدلال بالضعيف ما أمكن، وإهمال الموضوع مطلَقًا.
الخطيب والفقه:
لا شك أن الخطيب لا بد أنَ يكون قد درس مسائل الفقه وأدلتها من الكتاب والسنَّة وأقوال الفقهاء، وأن يكون له حظٌّ وافر من مجالسة العلماء، والأخذ من أفواههم، وله اطلاع لا بأس به على كتب الفقه المنوَّعة؛ ليتمكن من الإجابة على الأسئلة الفقهية التي تعرض عليه، وفي الفتوى ينبغي له الرجوع إلى أهل الشأن؛ لأن الفتوى ليست من اختصاصه، وإنما هي من اختصاص العلماء الراسخين في العلوم الشرعية، وإنما وظيفته تعليم الناس وإرشادهم إلى ما فيه صلاح الدِّين والدنيا، بالحِكمة والموعظة الحسنة، وقد حصل من تدخل الخطباء في الفتوى - وخاصة في النوازل - بلاءٌ وشر مستطير، وخَلْط للأوراق، ونزاع، وقتال وتفرُّق، وقد سُئل الشيخ ابن باز رحمه الله عن أهمية الفتوى فأجاب:
أهل الفتوى هم الذين قد تفقَّهوا في كتاب الله وسنَّة رسوله عليه الصلاة والسلام، وحصلت لهم معرفةٌ جيدة بما أحلَّ الله وبما حرم الله وما أوجب الله، وشهِد لهم أهل العلم والفقه والخير بالمعرفة، وأنهم أهل لأن يُفتوا، ولا ينبغي أن يستفتى كل أحد، ولو انتسب إلى الدِّين أو إلى العبادة أو إلى العلم، حتى يسأل عنه أهل العلم، ويتبصر السائل بواسطة العارفين به، والذين يطمئن إليهم أنهم أهلُ علمٍ حتى يذكروا له أنه أهل للفتوى، وأهل لأن يفتيَ في الحلال والحرام، ونحو ذلك، المقصود أن هذا يحتاج إلى تثبُّت في الأمر، وعدم تساهل، فليس كل من انتسب إلى الدين أو إلى العبادة أو إلى العلم يصلح لذلك، بل لا بد من فقهٍ في الدين وتبصُّر، ولا بد من ورَعٍ وتقوى لله، ولا بد من حذر مِن تسارع في الفتوى، والجرأة عليها بغير علم وبغير حق، ولا حول ولا قوة إلا بالله)[6].
والحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الداعي الأمين، سيد الأنبياء والمرسَلين وآله والصحب، ومَن كان لهم متبعًا ومحبًّا إلى يوم الدين.
[1] عن زُرارةَ بن أبي أوفى، قال: حدثني عبدالله بن سلاَم قال: لما قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة، انجفَل الناس قِبَله، وقيل: قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدِم رسول الله، قدم رسول الله، ثلاثًا، فجئت في الناس لأنظرَ، فلما تبينتُ وجهه، عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذَّاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: ((يا أيها الناس، أفشُوا السلام، وأطعِموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنةَ بسلام))؛ سنن ابن ماجه، ت. الأرناؤوط (4/ 397)، باب: إطعام الطعام.
[2] أصول الدعوة للعلامة عبدالكريم زيدان رحمه الله، ص 471.
[3] ليس معنى السياسة الدهاء والمكر والخديعة على إخفاء الحقِّ، وإرضاء الناس بالباطل، بل معناه: الحكمة في مراعاة شؤون الناس ومعرفة أحوالهم.
[4] المدخل لابن الحاج ج2 ص 214.
[5] قامت الهيئة العامة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة الإمارات العربية المتحدة بإجراء اختبارات سنوية للأئمَّة والموظَّفين والعاملين في مساجد الدولة؛ لغرَض رفع مستوياتهم وكفاءتهم الوظيفية، وقد (انتهت الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف من تشكيل اللجنة المخوَّلة بإعداد الترتيبات اللازمة، لإجراء اختبارات حِفظ القرآن الكريم والموجهة للأئمة العاملين بالهيئة، وذلك بعد إقرار الهيئة إجراء امتحانات للأئمة للتأكد من مدى حِفظهم للقرآن الكريم.
وكانت الهيئة لاحظت أن بعضَ الأئمة عادة ما يأتون للدولة وهم يحفظون القرآن، إلا أنه بعد فترة يبدأ مستوى حِفظهم يتراجع؛ ولذلك ارتأت الهيئة إجراءَ تقييم سنوي للأئمة العاملين بالهيئة، وأنه تم إمهالُ الأئمَّة والوعَّاظ بالهيئة فترةً لمدارسة ومراجعة المصحف الشريف، والاستعداد للاختبارات) من موقع الهيئة.
[6] الموقع الرسمي لسماحة الشيخ ابن باز رحمه الله، برنامج: نور على الدَّرب.
ابو وليد البحيرى
2019-12-20, 05:12 AM
خطبة الجمعة أداة فعالة للتغيير، وطاقات مهدرة (1)
د. محمد بن لطفي الصباغ
يومُ الجمعة أفضلُ أيام الأسبوع، أكرَمنا اللهُ بأن هدانا إليه فجعله عيدًا لنا كل أسبوع، نؤدِّي فيه صلاة الجمعة، التي هي أجلُّ صلاةٍ فرَضها الله على المسلمين.
روى البخاري ومسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نحن الآخِرُون الأوَّلون يوم القيامة، بَيْدَ أنهم أُوتوا الكتابَ مِن قَبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرَض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، والناس لنا فيه تبع؛ اليهود غدًا، والنصارى بعد غد))؛ رواه البخاري برقم 876، ومسلم برقم 855.
وقال ابن القيم في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أَكثِرُوا من الصلاة عليَّ يومَ الجُمعة وليلة الجمعة)): "ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد الأنام، ويوم الجُمعةِ سيد الأيام، فلِلصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره، مع حكمة أخرى، وهي: أن كلَّ خير نالتْه أمته في الدنيا والآخرة فإنما نالته على يده - صلى الله عليه وسلم - فجمَعَ الله لأمته بين خيرَي الدنيا والآخرة، فأعظمُ كرامة تَحصُل لهم فإنَّما تَحصُل يومَ الجُمعة؛ فإنَّ فيه بَعْثَهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة، وهو يوم عيدٍ لهم في الدنيا، ويومٌ فيه يُسعِفُهم اللهُ تعالى بطَلِباتهم وحوائجهم، ولا يردُّ سائلهم، وهذا كله إنَّما عرَفوهُ وحصَل لهم بسببه وعلى يده، فمِن شُكرِه وحَمدِه وأداء القليل من حقه - صلى الله عليه وسلم -: أن نُكثِر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته"[1].
إنَّ يوم الجُمعةِ هو العيد الأسبوعي عند المسلمين، يتفرَّغون فيه لأداء صلاة الجُمعة وسَماع خطبتها، ولصِلة الأرحام وتفريح الأولاد من البنين والبنات، ولذِكر الله ودعائه والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والتضرُّع إليه وسؤاله من فضله[2].
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير يوم طلعتْ فيه الشمسُ يوم الجمعة؛ فيه خُلِق آدم، وفيه أُدخِل الجنة، وفيه أُخرِج منها))؛ رواه مسلم برقم 854، والترمذي برقم 488، وأبو داود 1046، والنسائي وغيرهم، وفي هذا اليوم ساعةٌ يُستَجابُ فيها الدعاء، وقد أخفاها الله؛ ليَجتهد المسلمُ اليوم كلَّه في طلبها، جاء في رواية للبخاري 935 ومسلم 852 وابن ماجه قال - صلى الله عليه وسلم -: ((وفيه ساعة لا يُوافِقها عبدٌ مسلم وهو قائم يصلي فيسأل الله شيئًا، إلا أعطاه إياه))، وفي رواية: ((يسأل الله خيرًا)).
هذا، وقد كتب ابن القيم في زاد المعاد فصلاً طويلاً في ذِكْر فضائل يوم الجمعة وخصائصه (1: 364 - 440) من طبعة الأرناؤوط، وكذلك الإمام المُنذري، وفي كتب السنَّة أبواب كثيرة في فضل هذا اليوم المبارك.
يَملِك الدعاة المسلمون وسيلة فعالة في الدعوة إلى دينِهم، والتمكين له، وشرحه وبيانه، لا يَملِكها غيرُهم؛ إنها خُطبة الجُمعةِ.
وفي المسلمين خُطباء مَوهوبون أوتوا علمًا وملَكةً تعبيرية فائقة وموهبةً عظيمةً، ولكن أكثرهم - لأسباب بعضُها يعود إليهم، وبعضها يعود إلى غيرهم - عن المنابر مُبعَدون، وقليلٌ منهم من يقوم بهذه المهمَّة الجَليلة.
لقد فرَض اللهُ على كل مسلم مُكلَّفٍ قادر مقيم أن يصلي صلاة الجمعة، وأن يستمع لخُطبتها، وأن يُنصِتَ مُصغيًا مدة إلقاء الخطيب خطبته، وهذه فرصة عظيمة للدعاة لبثِّ الوعي الديني، وتبصير الناس بالطريق السوي الذي يَحُلُّ لهم مشكلاتهم، ويُنقِذهم من عذاب أليم.
إن الملايين من المسلمين يَستمِعون في كل أسبوع إلى خطبة الجمعة، مهما كان رأيُهم في الخطيب، سواء أكانوا يُنكِرون عليه قوله ويَذمُّونه، أم كانوا به مَعجَبين، وله مُوافِقين، فلو كان هؤلاء الخُطباء أو أكثرهم على المستوى الجيد المطلوب يُدرِكون دورَهم العظيمَ في التوعية والإصلاح والتقويم، وكانوا يَعرفون دينهم معرفة سليمة دقيقة، وواقع أمَّتِهم وبلادهم وعصرهم، ويَمتلِكون موهبةَ البيان والتأثير، ويُحسِنون اختيار الموضوعات، ويُؤثِرون ما عند الله، ولا يخافون في الله لومة لائم.. لو كانوا كذلك لتغيَّر واقع المسلمين تغيُّرًا جذريًّا، ولانْتشَرَ دينُ الله في الأرض، ولقلَّت المُخالفات الشرعية، ولكنَّنا - وا أسفاه - لا نجد العددَ الكافي من الخُطباءِ الذين تتوافَرُ فيهم هذه الصفاتُ.
إن لكلمةِ الحق سلطانًا وتأثيرًا إن قيلتْ في الوقت المُناسِبِ والأسلوب المناسب، إن دعوات الرسُل وأتباعهم والمُصلحين جميعًا كانت في أول أمرِها كلمات حق، أحسَن حمَلَتُها في تبليغها الناس، فسادتْ وانتَشرتْ، وكانت آثارُها خيرًا وصلاحًا، وعدلاً وتقدُّمًا وفَلاحًا.
إن الذين تتوافَرُ فيهم هذه الصفات موجودون بعددٍ مَحدودٍ، وكثير منهم لا يَرتقون المنابر، وإننا لنرجو أن يَزيد عددُهم، وأن يتقدَّموا لهذه المهمَّة ويَنفعوا الناس بشيء ممَّا آتاهم الله من فضله، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[1] زاد المعاد (1: 376) ط الأرناؤوط.
[2] ويُؤسِفني أن يكون يوم العطلة الرسمية - أي: يوم العيد الأسبوعي للمسلمين - في بعض الدول الإسلامية يوم الأحد، ويكون يوم الجُمعة يوم عمل عِندهم، وأخبَرَني الأستاذ باسل حميدة أن المغرب وتونس ولبنان وباكستان وتركيا وإندونيسيا وعددًا من ولايات ماليزيا يُعطِّلون الأحد ويعملون يوم الجمعة، إن هذا الأمر عجيب! كيف يكون هذا وقد أخبرنا نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - أن الله هدانا لهذا اليوم وضلَّ عنه اليهود والنصارى؟! إنه والله لهو التقليد الأعمى الذي أخبرنا عنه سيدُنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((لتتبعُنَّ سننَ من كان قبلكم شبرًا بشبرٍ، وذِراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه))، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: ((فمَن إذًا؟!))؛ رواه البخاري برقم 7320 ومسلم 2669 وابن ماجه 3994.
قد يقول قائل منهم: إن البنوك في كل الدول تُعطل يوم الأحد، فنحن من أجل ذلك نُعطِّل، ونقول: ما لنا وللبنوك؟ إن الذين يتعاملون مع البنوك من المسلمين نسبة قليلة؛ لأن أكثر المسلمين فقراء، بل إن كثيرًا منهم لا يجدون لقمة العيش، وليس معهم ما يتعاطون به مع البنوك.
ابو وليد البحيرى
2021-06-18, 05:14 PM
خطباؤنا هل يحسنون اختيار موضوعاتهم؟
يعدُّ اختيار موضوع الخطبة من أهمِّ ركائز الخطبة، ولابدَّ أن يدرك الخطيب أهمية الاختيار وصعوبته في نفس الوقت، وقبل الحديث عن ضوابط الاختيار لابدَّ أن نشير إلى ضرورة تحديد الهدف ووضوحه في ذهن الخطيب، ولذلك أثَرُه الكبير في عملية الاختيار؛ فلكلِّ خطبةٍ هدفٌ عامٌّ وهدفٌ خاصٌّ.
أما الهدف العام؛ فيوضِّحه قول الإمام ابن القيِّم رحمه الله حيث يقول: "يُقصَد بها أي: خطبة الجمعة الثناء على الله وتمجيده، والشهادة له بالوحدانية ولرسوله بالرسالة، وتذكير العباد بأيامه، وتحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيَّتهم بما يقرِّبهم إليه وإلى جنابه، ونهيهم عمَّا يقرِّبهم من سَخَطِه وناره؛ فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع إليها".
وكُلَّما ابتعدت خطبة الجمعة عن هذا الهدف العام؛ صارت صورةً لا روح فيها، ويقلُّ أثرها أو ينعدم على المصلِّين.
إنَّ صعوبة الاختيار لِخُطبةِ الجمعة يَرجِعُ في كثير من الأحيان إلى عَدَمِ وُضوح الهدف العامّ من الخطبة، ورُبَّما كانت الأهداف الخاصَّة الصغيرة تطْغَى على الهدف العام وتقلِّل منه، فيقلُّ أثرُها تبعًا لذلك، وأشيرُ فيما يلي إلى بعض الضوابط لاختيار خطبة الجمعة:
1- معرفة هَدْي النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الخطبة؛ قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله: "وكذلك كانتْ خُطبَتُه صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما هي تقريرٌ لأصولِ الإيمان، من الإيمان بالله وملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه ولِقائِه، وذِكْر الجنَّة والنَّار، وما أعدَّ اللَّهُ لأوليائه وأهل طاعته، وما أعدَّ لأعدائه وأهل معصيته؛ فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا ومعرفةً بالله وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمورًا مشترَكة بين الخلائق، وهي النوح على الحياة والتَّخويف بالموت؛ فإن هذا أمر لا يحصل في القلب إيمانًا بالله ولا توحيدًا له، ولا معرفةً خاصةً به ولا تذكيرًا بأيامه، ولا بعثًا للنفوس على محبَّته والشَّوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدةً غير أنهم يموتون وتقسَّم أموالهم ويُبلِي التراب أجسامهم!! فيا ليتَ شِعْري؛ أيُّ إيمانٍ حصل بهذا؟! وأيُّ توحيدٍ ومعرفةٍ وعلمٍ نافعٍ حصل به؟!".
وقال أيضًا: "ومَنْ تأمَّل خطبَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذِكْر صفات الربِّ جلَّ جلاله، وأصول الإيمان الكليَّة، والدَّعوة إلى الله تعالى، وذكر آلائه التي تحبِّبه إلى خَلْقه، وأيامه التي تخوِّفهم من بأسه، والأمر بذِكْره وشكره الذي يحبِّبهم إليه؛ فيُذَكَّرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحبِّبه إلى خلقه، ويؤمَرون من طاعته وشكره وذكره ما يحبِّبهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبَّهم".
2- مراعاة نوع المصلِّين واهتمامهم واحتياجاتهم؛ فتختلف احتياجات المجتمع الزراعي عن المجتمع الصناعي، وتختلف الاحتياجات تبعًا للمستوى التعليمي والتركيب العُمْري، ولابدَّ للخطيب من مراعاة ذلك، وأن يكون الحُكْم للغالب.
3- مراعاة الزمن الذي تلقى فيه الخطبة، والعادات والأعراف، ويتعلق بذلك: مراعاة المناسبات كرمضان والأعياد والحج والإجازات، والظواهر الاجتماعية أو السلوكية الطارئة، والحوادث العارضة كالجفاف والزلازل والأمراض وغيرها.
4- ضرورة التَّنويع في الخطب؛ فلا تأخذ الخُطَبُ نَمطًا واحدًا؛ بل يكون للخطيب القدرة على التنويع في افتتاح الخطبة وموضوعاتِها واختتامها؛ لئلاَّ يَمَلَّ المصلُّون، ولأنَّ في التنويع تشويقًا وحَفْزًا على الاستماع والإنصات.
5- ضرورة التَّسلْسُل والارتباط في الخُطْبة؛ حيثُ إنَّ موضوع الخطبة قد يأخذ عدَّة عناصر؛ فلابدَّ من مراعاة تسلسلها وارتباطها ببعض؛ لئلاَّ يتشتَّت ذهن السامع.
6- ضرورة التَّكامل بين الخطيب وغيره من خطباء الحيِّ الواحد أو المدينة الواحدة، ولابد من التكامل أيضًا عند الخطيب في خُطَبِه؛ حيث تلبِّي احتياجات الفرد والمجتمع خلال فترة زمنية معينة، فلا يغلِّب جانبَ السلوك - مثلاً - ويُهْمِل جانب العقيدة، أو يتوسَّع في الأحكام حتَّى لا يبقى مجالٌ لِغيرها، فالتَّكامُل يعني أن يتولَّى الخطيب عرضَ المعلومات المناسبة في الجانب العَقَدِي والتَّشريعي والاجتماعي والسُّلوكي والأخلاقي.
وأخيرًا: فإن ممَّا يعين الخطيب على حسن اختيار الخطبة: توافر الصفات الأساسية من الفقه في الدِّين والعمل به، والثقة بالنفس، والاستشارة لأهل العلم والخبرة، ولا يعني اختيار الموضوع ألاَّ يتجاوز الخطيب موضوعَ الخطبة إلى غيره، ولا سيَّما عند وجود ما يستدعي ذلك من الحوادث العارضة.
أمَّا توثيق خطبة الجمعة؛ فحقه أن يُفرَد بالحديث، ولكن أوجز ما يتعلَّق به في أمرَيْن:
الأول: يختلف الخطباء في مسألة التوثيق؛ فبعضهم يتساهل حتى يورِد الأخبار الضعيفة والموضوعة، ويكتفي بِمُجرَّد النَّقل دون تمحيصٍ أو تحقيقٍ، وتكمن خطورة هذا الأمر في أنَّ كثيرًا من الناس يعدُّون الصواب ما قيل في المحراب.
وعلى النَّقيض من هذا الصِّنْف؛ هناك مَنْ يُسْهِب في التَّخريج والتَّوثيق، ورُبَّما قال: "رواه الطبراني في "الأوسط"، وقال الهيثمي في "المجمع": "وفيه بقيَّة بن الوليد، وهو مُدَلِّسٌ، وبقية رجاله ثقات..."! في كلامٍ يطول ويشتِّت أذهانَ المصلِّين، وقدرٌ من ذلك - أحيانًا - مطلوبٌ إذا اقتضته الحاجة والمصلحة لتصحيح مفهوم سائد أو إزالة شبهة، أما أن يكون المنبر ميدانًا للتَّوثيق العلمي؛ فهذا لا يسوغُ؛ لأن المستفيدين من الخطبة من عامَّة الناس.
الثَّاني: بعض الخطباء يعتمد في خطبة الجمعة على الكتب المؤلَّفة في هذا الشأن؛ فينقلها بنصِّها، دون زيادة أو تعديل، أو يقوم بتصويرها، وقد يقتضي ذلك أن يتشبَّع بما لم يُعْطَ، ويظنُّ عامَّة المصلين أنها من إعداده، وهي ليست كذلك، والسؤال هنا: هل يعدُّ هذا خطيبًا أم قارئًا للخُطَب؟
إنَّ مَنْ تكرَّم من العلماء بتأليف كتب تحوي مجموعةً من الخطب - إنما فعلوا ذلك لنشر الخير بين الناس، ولإعانة الخطباء على إعداد الخطبة، ولذلك فإنَّ هذه الكتب المؤلَّفة لَبِنَةٌ في طريق إعداد الخطيب، وليس كلُّ مَنِ امتلك عددًا من الكتب يكون خطيبًا! ولا شكَّ أنه ينبغي التَّفريق بين طالب العلم وغيره ممَّن لا يستطيع إعداد الخطبة، ولا يوجد مَنْ يقوم بها غيره.
______________________________ _________
الكاتب: د. عبدالله بن إبراهيم اللحيدان
يوسف بن سلامة
2021-06-19, 08:46 AM
هذه الأخطاء والطامات التى نراها من الكثير من الخطباء
أراها لعدم فهمهم لمعنى خطب وخطبة في اللغة العربية .
وأتصور لو فهم هذا المعنى جيداً لكان حاله أحسن وأوعى .
الله المستعان
جزيل الشكر لكم ،،،
ابو وليد البحيرى
2021-08-22, 11:09 AM
هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته
خطب صلوات الله وسلامه عليه على الأرض، وعلى المنبر، وعلى البعير، وعلى الناقة، وكان قبل اتخاذ المنبر يخطب إلى جذع يستند إليه، ثم صنع له المنبر من طرفاء الغابة، وكان ذا ثلاث درجات.
وكان إذا خطب احمرَّتْ عيناه، وعلا صوتُه، واشتَدَّ غضبه؛ كأنَّهُ مُنذِرُ جيش يقول: ((صبَّحكم ومسَّاكم))، ويقول: «بعثت أنا والساعة كهاتين»؛ ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: «أمَّا بعد؛ فإنَّ خَيْرَ الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتُها، وكل بدعة ضلالة».
وكان لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله، وأمَّا قول كثير من الفقهاء: إنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار، وخطبة العيد بالتكبير، فليس معهم فيه سُنَّة عن النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة، وسنته تقتضي خلافه، وهو افتتاح جميع الخطب بالحمد لله، وهو أحد الوجوه الثلاثة للإمام أحمد، وهو اختيار الحافظ ابن تيميَّة رحمه الله وكان يخطب قائمًا.
وكان إذا صعِدَ على المنبر أقبل بوجهه على الناس، ثم قال: «السلام عليكم»، وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك، وكان في خطبته يتشهد بعد الحمد والثناء، ويذكر فيها نفسه باسمه العلم، وصح عنه أنه قال: «كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء»- المقطوعة - وكان يقول بعد الثناء والتَّشهُّد: «أمَّا بعد»، وكان يَخْتِمُ خُطبَتَهُ بِالاستغفار.
وكان كثيرًا ما يَخطُب بالقُرآن، وفي صحيح مُسلم عن أمِّ هِشام بنت حارثة قالتْ: "ما أخذْتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقْرَؤُها كلَّ يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس ".
وكان مدار خطبه على حمد الله والثناء عليه بآلائه وأوصاف كماله ومحامده، وتعليم قواعد الإسلام، وذكر الجنة والنار، والمعاد، والأمر بتقوى الله، وتبيين موارد غضبه، ومواقع رضاه، وكان يقول في خطبه: «أيها الناس إنكم لن تطيقوا، [أو لن تفعلوا كل ما أُمِرْتُم به] ولكن سدِّدُوا وأبْشِروا» وكان يخطب في كلِّ وقْتٍ بِما تقتضيه حاجة المُخاطبين ومصلحتهم.
وكان إذا عرض له في خُطْبَتِه عارض اشتَغَلَ به، ثم رجع إلى خطبته؛ جاء سليك الغطفاني، وهو يخطُب، فجلس فقال له: «قم يا سليك فاركع ركعتين، وتجوز فيهما»، ثم قال وهو على المنبر: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوَّزْ فيهما»، ونَهى المتخطِّي رقاب الناس عن ذلك وأمره بالجلوس، وكان يدعو الرجل في خطبته، تعال اجلس يا فلان، وكان يأمر الناس بالدنو منه، والإنصات، ويخبرهم أن الرجل إذا قال لصاحبه: أنصت فقد لغا - عدل عن الصواب - واللغو الساقط من القول، وكل ما لا فائدة فيه، ويقول: «من لغا فلا خطبة له».
وكان يأمر بمقتضى الحال في خطبته، فإذا رأى منهم ذا فاقة أمرهم بالصدقة وحضهم عليها.
وكان يمهل يوم الجمعة حتى يجتمع الناس، فإذا اجتمعوا خرج إليهم وحده من غير شاوش يصيح بين يديه إذا خرج من حجرته، فإذا دخل المسجد سلم عليهم، فإذا صعِد المنبر استقبل الناس بوجهه وسلَّم عليهم، ثم يجلس ويأخذ بلال في الأذان فقط، ولم يَقُلْ شيْئًا قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ، فإذا أَخَذَ في الخُطْبَة لَمْ يَرْفَعْ أَحَدٌ صوتَهُ بِشَيءٍ ألبتة، لا مؤذن ولا غيره.
وكان إذا قام ليَخْطُبَ أخذ عصًا فتوكَّأ عَلَيْهَا، وهُوَ على المِنْبَرِ، كذا ذكره عنه أبو داود عنِ ابْنِ شهاب، وكان الخلفاءُ الثلاثة بعدَهُ يَفعلونَ ذلك، وكان أحيانًا يتوكَّأ على قَوْسٍ، ولَم يحفظ عنه أنه اعتمد على سيف ألبتة، وما يظنه بعض الناس أنه كان يعتمد على السيف دائمًا، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف، فهو جهل قبيح من وجهين:
أحدهما: أن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم توكأ على العصا وعلى القوس.
الثاني: أن الدين إنما قام بالوحي والحجة والبرهان، وأمَّا السيف فلِمَحْقِ أهل الضلال والشرك والقضاء على الفتنة؛ ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب فيها إنَّما فُتِحَتْ بِالقُرآنِ، ولَم تُفْتَحْ بِالسَّيف.
وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة.
وكان يَخطب لِلنِّساء على حِدَةٍ في الأعياد، ويحرضهن على الصدقة.
وكان يخطب في الجمعة قائمًا ووجهه قِبَل الناس، وكان بعد خطبته الأولى يجلس جلسة خفيفة، ثم يقوم فيخطب الثانية فإذا فرغ أخذ بلال في الإقامة.
وكان في العيدين يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، فيصلي أولاً، ثم يقوم مقابل الناس وهم جلوس على صفوفِهم، فيعظهم، ويوصيهم، ويأمرهم، وينهاهم، وإن كان يريد أن يقطع جيشًا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به.
ولم يكن هناك منبرٌ يرقى عليه، وإنَّما كان يَخْطُبهم قائمًا على الأرْضِ خارِجَ المدينة.
وكان يَستسْقِي بِهم إذا قحط المطر في خطبته.
وكانَتْ خُطَبُه صلوات الله وسلامه عليه بيانًا لأصول الإسلام، وأمهات الدين من الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، وذكر الجنة والنار، ولقاء الله تعالى، وما أعده لأوليائه، وأهل طاعته، وما توعد به أعداءه، وأهل معصيته، فيملأ القلوب بخطبته إيمانًا وتوحيدًا ومعرفة بالله وأيامه، لا كخطب غيره التي لا تفيد إلا أمورًا مشتركة بين الناس؛ كالنوح على الحياة والتخويف بالموت، فهذا لا يحصل في القلوب إيمانًا بالله، ولا توحيدًا ولا معرفة خاصَّة، ولا تذكيرًا بآياته، ولا بعثًا للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا سوى أنَّهم يَموتون وتقسم أموالهم، ويبلي التراب أجسامهم.
______________________________ _________________
الكاتب: الشيخ علي محفوظ
المصدر: كتاب "فن الخطابة".
ابو وليد البحيرى
2021-08-25, 01:03 PM
طريقة مختصرة في تحضير الخطبة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فإن الخطيبَ مسؤول مسؤولية عظيمة جدًّا أمام الله - عز وجل - فيما يُلقيه على الناس، "والخطابة مسؤولية عُظمى، لا يعلم حجم خطورتها إلا مَن يعلم أهميتها ودقَّة مسلكها، فهي منبر التوجيه والدعوة، وإحياء السنن، وقمع البدع، وقول الحق.
وفي المقابل إذا أُسِيء استعمالُها، انقلبتْ إلى الضِّدِّ؛ فقد تحيا مِن خلالها البدعُ، ويشاع الباطل، وتموت السُّنَّة، كما أنه قد ينتشر عبرها التضليل والتمويه، وما شابه ذلك؛ لذا كان لزامًا على الخطيب أن يستحضرَ هذا الأمرَ نصب عينيه، وأن يعلمَ أن كلامَه مُؤَثِّر، وأن هناك أصنافًا تستمع إلى خطبته، من بينهم العامَّة، الذين يأخذون كلام الخطيب أيًّا كان، صوابًا أو خطأ، فعلى الخطيب أن يتقي الله، فلا يخوض في نُصُوص الوحيين بغير حقٍّ، وألاَّ يقولَ على الله ورسوله ما لا يعلم، وألا يكونَ طرحُه للقضايا المهمة مبنيًّا على وجهة نظر شخصيَّة، عريَّة عن التنقيح أو التحقيق أو إصابة الصواب، أو القرب منه بعد الاجتهاد في تحصيله، وألا يكون منبعُ خطبته وما يُقَرِّره فيها مصادر مغشوشة؛ كحماس طائش، أو إعلام مضلل، أو ضغوط نفسية متعددة الجوانب، وألا يفتنَ الناسَ بأقوالِه المشتملة على القضايا الكاذبة والمقدمات الفاسدة، ولينظر إلى أي شيء هو يقوم، وإلى أية هُوة يقع بنفسه أو يوقع غيره، وإلى أية سُنَّة سيئة يسعى في إحيائها، شعر بذلك أو لم يشعر، ليكون عليه وزرُها ووِزْر مَن عمل بها إلى قيام الساعة.
ولا يَغُرَّنَّ أي خطيبٍ فصاحة لسانه، وحسن بيانه، وشهرة منبره، وإعجابه برأيه، ما لم يكن مؤصِّل العلم، واسع الرؤية، طالبًا للحق، حريصًا عليه، وسطًا منصفًا، أغرَّ لا يُسْتغفل.
ولقد ذكر ابن عبدالبر عن أحد السلف قوله: مَن أُعْجب برأيه ضلَّ، ومَن استغنى بعقله زلّ[1].
فعلى الخطيبِ أن يتقي الله سبحانه، وأن يحسنَ الطرح في خطبته، لا سيما في خُطَب النوازل، والأحداث العامة التي ينتَظِر فيها جمهورُ الناس ما يقولُه الخطباء ويرددونه، فضلاً عن صعوبة بعض النوازل واشتباكها، وعدم وضوح أبعاد معظمها، بل قد يكون بعضُها من الفتن التي يكون الماشي فيها خيرًا من الساعي، والقاعدُ خيرًا من الماشي، فعلى الخطيب أن يقولَ الحقَّ إن استطاع، وإلاَّ فليصمت، ولا يقولن الباطل؛ لأن مَن تدخل في مثل تلك النوازل الغامضة ربما كثر سقطه، ثم وقع فيما قال أبو حاتم البستي - رحمه الله -: "والسقط ربما تعدَّى غيره، فيهلكه في ورطة لا حيلة له في التخلُّص منها؛ لأنَّ اللسان لا يندمل جرحُه، ولا يلتئم ما قطع به، وكَلْمُ القول إذا وصل إلى القلب لم ينزع إلا بعد مدة طويلة، ولم يستخرج إلا بعد حيلة شديدة، ومن الناس من لا يكره إلا بلسانه، ولا يهان إلا به، فالواجبُ على العاقل ألاَّ يكون ممن يهان به". اهـ"[2].
لذلك ينبغي على الخطيب أن يتعلمَ كيفية تحضير الخطبة، ويهتم بها اهتمامًا عظيمًا، ويستشعرَ عِظَم الأمانة المُلقاة على كاهِله، ولا يحتقر أحدًا من المستمعين، ويقول: قد مرت الخطبة، وستمر غيرُها.
"ولا يظن أن تحضير الخطبة يدل على عجز الخطيب، أو على ضعفه العلمي؛ بل يفتخر بعض الخطباء إذا سُئل عن موضوع الخطبة قبلها - بقوله: الذي يفتح الله به! بل إن لتحضير الخطبة فوائد عظيمة؛ منها:
♦ أنه يكسب الخطيب الثقة الجيدة بنفسه، وبقدرته العلمية والخطابية، بخلاف ما لو لم يكن معدًّا لها إعدادًا جيدًا، فربما ارتبك وأرتج عليه، أو خشي منَ الخطأ أو نقص المعلومات.
♦ ومنها: كسب ثقة المستمعين وإعجابهم بالخطيب؛ لأنه أشعرهم بتقديره لهم واحترامهم، وحرصه على إفادتهم من خلال العناية الفائقة بالموضوع، اختيارًا وإعدادًا لمادَّتِه العلميَّة.
♦ ومنها: أن الإعداد الجيِّدَ للخطبة يتيح له فرصة العمق العلمي في تناول الموضوع.
♦ ومنها: أنه يتيح له تحديد وحصر أفكاره في نقاط وعناصر معينة تفيد الجميع، وهو أمر يساعده على عدم التشتت، وتَكرار العبارات من غير حاجة، فيستطيع أن يلمَّ بالموضوع دون إطالة ولا إرهاق للسامعين؛ مما يبعث في نفوسهم المَلَل والسآمة والضَّجَر"[3].
وهذه طريقة مختصرة - أحسبها نافعة، بإذن الله - لتحضير الخطبة:
1- الاستعداد النفسي والبدني، وتفريغ الذهن، وتوحيد الهَمِّ، والتركيز فيما سيلقيه على عباد الله المسلمين.
2- اختيار الموضوع المناسب الذي يهم المسلمين، ويحتاجون إليه بمشورة الإخوة والناصحين العالمين بواقع أمتهم.
3- جمع الآيات في هذا الموضوع، ومراجعة تفسيرها من التفاسير المعتمَدة عند أهل السنة؛ كتفسير الطبري، وابن كثير - رحمهما الله تعالى - وغيرهما، والرجوع إلى ما يحتاجه من تفاسير الأحكام، والمعاني مع الاحتراز مما يخالف اعتقاد الصدر الأول، والقرون الثلاثة المفضلة؛ وهو أمر لازم.
4- جمع الأحاديث في الموضوع، وتخريجها تخريجًا مُخْتَصَرًا، ومعرفة الصحيح منَ الضعيف؛ المقبول منها والمردود، فلا يلقي على المسلمين إلا الأحاديث المقبولة، ويتجنَّب المردود إلا في النادر؛ للطيفة معينة، ولا بد أن يبيِّن ضعفها.
5- جمع الآثار السلفية، والعبارات الذهبية، والانتقاء من أطايب كلامهم، كما يُنتقى أطايبُ الثَّمَر.
6- جمع الأمثلة والمواقف العملية والنماذج الحية التي تترجم الموضوع ترجمة حية؛ ليرتبط العلم بالعمل؛ فَهُما - العلم والعمل - وجهان لعملة واحدة، ولا ينفصلان في دين الله - تبارك وتعالى - ألبتة.
7- وعليه أن يحرص على الإفادة من مراكز المعلومات، والموسوعات العلمية، المطبوعة والإلكترونية، فهي توفِّر الجهد والوقت، وتساعد الخطيب على جمع مادة علميَّة متنوعة ومتميزة.
8- القَصَص النافع الهادف الذي يزيد الموضوع وضوحًا وترجمة، ويُسلي القوم مع الإفادة منه؛ {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
9- التعريف بالوسائل المعينة، والترغيب فيها، والحثّ عليها.
10- التعريف بالمعوقات، والترهيب منها، والحثّ على اجتنابها.
11- إن كان يتحدث عن مشكلة ما، فلا بد أن يبينَ مظاهرها في الواقع، وأن يذكر أسبابها، وأن يعرضَ الحل المناسب، ويُفَصِّل فيه بطريقة عملية مناسبة؛ فهو المقصود.
12- مراجعة القواميس العربية؛ كـ"لسان العرب"، و"القاموس المحيط"، و"مختار الصحاح"، و"المعجم الوسيط".
13- لا بد من توثيق كل معلومة، ونسبة كل قول إلى قائله قدر المستطاع.
14- إجمال الخطبة في كلمات معدودة، وتلخيص ما تحدَّث عنه؛ ليحفظه السامع ويتذكره؛ فمن البلاغة رد العَجُزِ على الصدر.
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.
وهذه بعض الكتب المساعدة:
1- "الخطابة وإعداد الخطيب"؛ لتوفيق الواعي، ط الثانية، دار اليقين، مصر، المنصورة 1417 هـ.
2- "منهج في إعداد خطبة الجمعة"؛ لصالح بن حميد، (وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، الرياض 1419 هـ).
3- "الشامل في فقه الخطيب والخطبة"؛ لسعود الشريم (ط الأولى، دار الوطن، الرياض 1423 هـ).
[1] "جامع بيان العلم وفضله" (1/142).
[2] انظر: "روضة العقلاء" ص (56، 225)، و"الشامل في فقه الخطيب والخطبة" تأليف: الدكتور/ سعود بن إبراهيم بن محمد الشريم، ص65 - 66، باختصار وتصرف.
[3] مستفاد من كتاب "خطبة الجمعة دراسة دعوية"؛ إعداد سليمان بن عبدالله بن منصور الحبس.
______________________________ _______
الكاتب: أ. رضا جمال
ابو وليد البحيرى
2021-09-04, 09:54 AM
كيف تختار موضوع الخطبة؟
يشتكي كثير من الخطباء من كيفية اختيار الموضوع، وبعضهم يرجع سبب ذلك إلى ندرة الموضوعات، التي يمكن أن يتناولها الخطيب وتناسب الناس، ولا سيما أن الخطبة متكررة كل أسبوع.
والسبب الرئيس لهذه النظرة عند الخطيب هي:
قلة علمه، ومحدودية اطّلاعه ومعلوماته، وضعف نظرته إلى واقع الناس. وإلا فإنَّ الخطبة لو كانت تتكرر يوميًّا لما استطاع الخطيب أن يعالج جميع الموضوعات، التي يحتاجها الناس في هذا العصر المنفتح؛ الذي ضعفت فيه الديانة في قلوب الناس، وكثرت الفتن، فهم يحتاجون إلى تقوية إيمانهم، وترسيخ توحيدهم، وتعليمهم أقسامه، وما يُخلّ به من معتقدات أو أقوال أو أفعال قد تناقضه بالكلية، أو تنقص كماله.. يحتاجون إلى تصحيح عباداتهم؛ فأخطاءُ كثيرٍ منهم فيها كثيرة.. يحتاجون إلى بيان الحكم الشرعي في كثير من المعاملات والعادات، التي يَتَجَدَّدُ منها كل أسبوع العشرات من الصور غير ما يَفِدُ إليهم من خارج مجتمعهم.. يحتاجون إلى الحثّ على مكارم الأخلاق والتنفير من مساوئها، وإلى ترقيق القلوب، والتذكير بالآخرة. والموضوعات كثيرة جدًّا..
ويمكن تقسيم الجمعات إلى قسمين:
القسم الأول: جمعات توافق مناسبات مهمة، وهذه المناسبات على نوعين:
أ- مناسبات طارئة: كحدثٍ حَدَثَ في الحي أو البلد، واشتهر وعرفه الناس؛ فهم ينتظرون من الخطيب رأيًا فيما حدث. ومنها أيضًا: قضايا المسلمين التي تشتعل بين حين وآخر؛ كقضايا بيت المقدس والشيشان وكوسوفا ونحوها.
وينبغي للخطيب أن يعالج مِثْلَ هذه الموضوعات مُعَالَجَةً شرْعِيَّةً، تُبَيِّنُ حجم القضية الحقيقي بلا مبالغة ولا تهوين، ومن ثم يبين موقف المسلم في هذه القضية، وما يجب عليه تجاهها، فلا يكفي مجرد عرضها.
ويلاحظ أن بعض الخطباء قد تطغى عليه الحماسة في ذلك؛ فيبالغ في الموضوع أو يكثر من تكراره والحديث عنه على نمط واحد، وبأسلوب واحد، وهذا فيه مفاسد منها:
1- فقدانه المصداقية ولاسيما إذا انكشفتْ مبالغاتُه للناس؛ وبالتالي يضعف أخذ الناس عنه، أو التأثر بما يقول؛ لأنهم عرفوا عنه المبالغة.
2- ملال الناس، وانصرافهم عن تلك القضيَّة، وكما قيل: كثرة الإمساس تقلل الإحساس.
3- أن تركيزه على قضية معينة، وتَكرار ذلك سيكون على حساب موضوعات وقضايا، قد تكون لها أهمية مثل قضيته التي يكررها، وربما تكون أهم منها.
ب- مناسبات متكررة بتكرُّرِ الأعوام: كرمضان والحج وعاشوراء، والتحذير من بدع المولد والإسراء ورجب ونحوها.
وهذه المناسبات مريحة عند كثير من الخطباء؛ إذ لا يحتاجون إلى إعداد خطب جديدة في موضوعاتها، ولربما حفظ الناس خطبهم فيها من كثرة ترديدها، وأصابهم الملال منها.
بيد أنَّ هذه المناسبات تُقْلِقُ من يهتمون بخطبهم، ويحبون التجديد في موضوعاتها، ويودن إفادة الناس بكل وسيلة ممكنة.
ولتلافي التَّكرار في كل عام يمكن تفتيت الموضوع الواحد إلى موضوعات عدة، في كل عام يطرق الخطيب منها موضوعًا. وأضرب مثلاً لذلك؛ فبالمثال يتضح المقال:
درج الخطباء في ثالث جمعة من رمضان على الحديث عن غزوة بدر الكبرى[1]، ويقدمون لها بمقدمة عن نصر الله – تعالى - لعبادِه، وكون رمضان شهرًا للانتصارات والأمجاد.. ويسردون عددًا من المعارك التي وقعتْ في رمضان: غزوة بدر، وفتح مكة، وعين جالوت، وفتح الأندلس ونحوها، ثم يخصصون الخطبة بكاملها عن غزوة بدر، وهكذا في كل عام.
ومن الممكن لتلافي التَّكرار جمع الغزوات والأحداث الكبرى التي وقعت في رمضان، واختيار واحدةٍ منها في كل عام للحديث المفصَّل عنها. ويمكن أيضًا تفتيت الغزوة الواحدة إلى عدة موضوعات؛ في كل عام يطرق جانبًا جديدًا منها.
فغزوة بدر مثلاً يمكن إنشاء خطب عدة منها، كل واحدة تتناول جانبًا مختلفًا، فتتكون مجموعةٌ من الخطب موضوعاتها كالتالي:
1. سرد أحداث الغزوة كما في كتب السير، وهذا يعمله أكثر الخطباء كل عام.
2. وصف حال المسلمين قبل الغزوة: (الهجرة - المطاردة - المحاصرة - الضعف - القلة - الخوف) وحالهم بعدها: (ارتفاع معنوياتهم بالنصر، عز الإسلام، قوة المسلمين، رهبة اليهود والمنافقين).
3. وصف حال الفريقين المتقابلين: حال المؤمنين: (الدعاء، الحماس للقتال، بوادر التضحية والفداء، التعلق بالله تعالى) حال المشركين: (الكبرياء، محادة الله ورسوله، الاعتداد بالنفس، الاغترار بالكثرة، ممارسة العصيان، شرب الخمر وغناء القينات، كما هو قول أبي جهل).
4. تأييد الله عزّ وجلَّ لعباده المؤمنين: (النعاس، المطر، قتال الملائكة معهم، وفيه عدة أحاديث صحيحة، الرَّبْط على قلوبهم، تقليل العدو في أعينهم..) وخذلان الكافرين.
5. الحديث عن مصير المستكبرين عن دعوة الأنبياء - عليهم السلام - ويكون صرعى بدر من المشركين نموذجًا على ذلك، بذكر مجمل سيرتهم الكفرية وعنادهم، ثم ما جرى لهم، وفيه قصص مبكية من السيرة.
فهذه خمسة مواضيع، كل واحد منها يصلح أن يكون خطبة مستقلة، وهذه الموضوعات الخمسة في غزوة واحدة! ومن تدبَّر فيها أكثر استخرج موضوعات أخرى!!
والكلام عن المولد النبوي مثلاً يمكن تقسيمه أيضًا إلى عدة موضوعات منها:
1. بيان حقيقة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها تكون باتّباعه لا بالابتداع، مع تقرير وجوب محبته من خلال نصوص الكتاب والسنة، وأقوال السلف الصالح، وبيان العلاقة بين محبته وتطبيق سنته. وهذا موضوعٌ ثري جدًّا، يمكن صنع خطبٍ عدة فيه.
2. تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي، وبيان أنه بدأ بعد القرون المفضَّلة في المائة الرابعة للهجرة على أيدي بني عُبَيْدٍ الباطِنِيّينَ، وظلّ قرنين من الزمن لا يعرفه أهل السنة، حتى انتقل إليهم في المائة السادسة على يد شيخ صوفي، استحسن هذه البدعة. وبيانُ أنَّ دوافع إحداث هذا العيد عند بني عبيد كانت سياسية، ولم تكن بدافع محبة النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته. ومع أهميَّة هذا البيان التاريخيّ في كشف حقيقة هذه البدعة النكراء، وتنفير الناس منها، فإنه قلّ أن سمِعْناه من خطبائنا ومحاضرينا.
3. ذكر المخالفات الشرعية في احتفالات المولد، من الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قد يَصِلُ إلى حدّ الشرك، إلى الأناشيد والأهاجيز الصوفية، إلى سائر المنكرات الأخرى كالاختلاط في بعضها، وكونها تنشد على أنغام الموسيقى أو الدفوف..
4. التنبيه على أنَّ الاشتغال بالبدعة يشغل عن السنة، وجعل المولد مثلاً لذلك، فما يُصْرَفُ فيه من جهد ووقت ومال، قد يَصْرِفُ عن كثير من السنن؛ بل ربما صرف عن الفرائض. وكثير ممن يحتفلون بتلك الموالد تظهر عليهم مخالفات شرعية، ويعلم من سيرة بعضهم تضييعُه للفرائض فضلاً عن المندوبات.
5. أخذ جانبٍ من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مولده أو بعثته أو غير ذلك، ثم التنبيه على بدعة الاحتفال بمثل هذه المناسبات.
فهذه خمسة موضوعات كل واحد منها يصلح لأن يكون خطبة مستقلة.
والكلام عن عاشوراء أيضًا يمكن استخراج موضوعات عدة منه، ولا سيما أنه متعلق بقصة نجاة موسى عليه السلام وغرق فرعون. وهي أكثر القصص ورودًا في القرآن، وفيها جوانب كثيرة يمكن أن تكون موضوعات، وفي نهاية كل خطبة منها يتم التنبيه على سنية صيام يوم عاشوراء، كذلك الحديث عن مراحل صوم عاشوراء، وأنه كان واجبًا، ثم نسخ الوجوب إلى السُنِّيَّة بعد فرض رمضان، ثم في آخر سَنَةٍ قصد النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة اليهود، وأمر بصيام التاسع مع العاشر، وذكر فضل صيام هذا اليوم، وفضل شهر الله المحرم.
وهكذا يقال في بقيَّةِ المَوْضُوعات، تُطْرَحُ مِنْ جَوَانِبَ متعددة، كل جانِبٍ فيها يكون خطبة؛ مما يكون سببًا في إثراء المشروع الخطابي للأمة، وإفادة السامعين، والتجديد في الموضوعات التي يلقيها الخطيب.
القسم الثاني: جمعات لا توافق مناسبات معينة:
وهذه هي الأكثر، ويستطيع الخطيب أن يضع لها مخطَّطًا يسير عليه، ويشتمل هذا المخطَّطُ على موضوعاتٍ عدَّةٍ، وفي فنونٍ مُخْتَلِفَةٍ، ومن فوائد ذلك:
1. عدم حيرته في اختيار موضوع الخطبة، ولا سيما إذا ضاق الوقت عليه.
2. نضج الموضوعات التي يطرحها؛ إذْ قد يمرّ عليه شهور وهي تدور في مخيلته، وكلَّما حصَّل ما يفيده فيها من مطالعاته وقراءاته قيَّده، أو استذكره.
3. سهولة بحثه عدة موضوعات إذا كانت في فن واحد، وتوفير كثير من الوقت؛ فمثلاً إذا كان في خطته خمسة موضوعات في العقيدة، فإنَّ جلسته لبحث واحد منها، كجلسته لبحثها كلها؛ إذ إن مصادرها واحدة، ومظانها متقاربة.
4. التنويع على المصلين وعدم إملالهم.
ويمكن تقسيم الموضوعات إلى أقسام كثيرة، يختار في كل جمعة منها قسمًا للحديث عن موضوع من موضوعاته ومن تلك الأقسام:
1. العقيدة وما يتعلق بها: وفيها موضوعات كثيرة، وكل موضوع منها يمكن استخراج عدد من الخطب فيه. ومن طالع المطولات من كتب العقيدة تبين له ذلك.
2. العبادات: وهي أيضًا باب واسع، وليس المعنى سرد الأحكام أو الإفتاء؛ ولكن المقصود تصحيح بعض الأخطاء فيها، وبيان فضائلها، والحث على المهجور منها... وهكذا.
3. المعاملات: وفيها موضوعات كثيرة أيضًا، ولاسيما أن كثيرًا من صورها يتجدد.
4. نص من الكتاب أو السنة، فيختار آية أو سورة قصيرة أو حديثًا ويذكر ما فيه من الفوائد، مع ربطه بواقع الناس ومعاشهم. ولا يكون مجرد سرد للفوائد، وقد لاحظت أنَّ لذلك أثرًا عظيمًا، حتى كأنَّ النَّاس لأوَّل مرة يستمعون إلى هذه السورة أو الآية، أو لأوَّل مرة يسمعون هذا الحديث مع أنه مشهور؛ ولكن لأنَّ فَهْمَهُمْ له كان خاطئًا، أو لأن الخطيب عرض لهم استنباطات جديدة، ومعانيَ مفيدة لم يعلموها من قبل.
5. الأخلاق والآداب: وهي باب طويل عريض، وفيه كتب متخصصة كثيرة، متقدمة ومتأخرة.
6. من قصص القرآن والسنة: ويمكن أن يلحق بفِقْرة (4) ويمكن أن يفصل عنها، ويكون هنا خاصًا بالقصص، وما سبق ذكره في غير القصص.
7. السير والتراجم: يختار شخصية بارزة، ويلقي الضوء على صاحبها، وأسباب بروزه واشتهاره، والاستفادة من أقواله وسيرته. سواء كان من الصحابة رضي الله عنهم أم من التابعين لهم بإحسان، أم من العلماء المشاهير قديمًا وحديثًا.
8. السيرة النبوية ومعارك الإسلام: يختار حدثًا أو معركة يتحدث عنها أو عن جانب منها، ويستخرج من ذلك الدروس والعبر.
9. موضوعات فكرية: ويذكر فيه المستجدَّات من الأفكار والمصطلحات والأحداث وموقف الشرع منها، كالديمقراطية والعلمانية والحداثة، والحضارة الغربية وموقف المسلم منها..
10. الفتن والملاحم وأشراط الساعة: وكل فتنة أو ملحمة أو علامة من علامات الساعة الكبرى، صالحة لأن تكون خطبة مستقلة؛ بل ربما أكثر من خطبة؛ لغزارة ما فيها من نصوص ومعلومات شرعية.
11. القيامة وأحوالها: وفيها من الموضوعات شيء كثير: الصراط، الميزان، البعث، الحساب، القنطرة، الحشر، الديوان... كذلك الجنة والنار، وفيهما موضوعات كثيرة: وصفهما، وصف أهلِهما، أعمال أهلهما، الطريق الموصلة إليهما.
12. المواعظ والرقائق: وهو باب واسع أيضًا.
هذه بعض الموضوعات الكلية، ويمكن تقسيم كل موضوع منها إلى موضوعات جزئية، في كل موضوع منها خطب كثيرة.
فالخطيب إذا عمل هذا التقسيم، ورتّبه في خطة محكمة بحيث يتعرض في كل جمعة لموضوع من هذه الموضوعات استفاد الفوائد التي ذكرتها آنفًا، إضافة إلى أنه يعلم الناس مجمل الشريعة، ويطلعهم على ما يحتاجون إليه في معادهم ومعاشهم. ويريح نفسه بحصر ذهنه عند الاختيار في موضوع واحد، بدل التشتت في موضوعات كثيرة.
والملاحظ:
أن كثيرًا من الخطباء - ممن لا يراعون مثل هذا التقسيم والتنظيم - تنحصر خطبهم في موضوعات قليلة. ولربَّما أن بعضهم لم يتعرض لموضوع من هذه الموضوعات الكلية المهمة طيلة حياته الخطابية، التي قد تمتد إلى عشرات السنوات. والسبب أن كثيرًا من الموضوعات قد تغيب عن باله إذا لم يكن لديه خطة مكتوبة يسير عليها.
ومن الملاحظ أيضًا:
أن كثيرًا من الخطباء يطرح موضوعات عامة، لا يتأثر بها المصلون، ولا يتفاعلون معها، ولربما كانت معلوماتهم فيها أثرى من معلومات الخطيب؛ فمثلاً في الحديث عن القيامة وأحوالها، تجد أن كثيرًا من الخطباء يريدون استيعاب يوم القيامة بأحواله وما يجري فيه في خطبة واحدة! وهذا غير ممكن، ويؤدي إلى التطويل والتشعب والمشقة على السامعين، كما يؤدي إلى العمومية والسطحية في الطرح، وضعف المعالجة كما هو مشاهد.
فيوم القيامة كألف سنة مما تَعُدُّون كما هو نص القرآن، فكيف يريد الخطيب أن يختزل الحديث عن أحداث ألف سنة في نِصْفِ ساعة أو أقل؟! لكن لو قسم أحواله وأهواله، وخصّ كل حال منها بخطبة؛ لكان أعمق في طرحه ومعالجته، وأوسع في معلوماته، وأكثر فائدة وتأثيرًا في السامعين، وهكذا يقال في بقية الموضوعات.
تتابع الخطب في موضوع واحد:
يحلو لبعض الخطباء التركيز على موضوع من الموضوعات العامة، وعمل خطب كثيرة فيه تطرح تباعًا لفترة تطول أحيانًا وتمتد إلى سنوات، وتقصر أحيانًا بحسب ما عنده من مادة علمية في الموضوع الذي يطرحه.
وكثير ممن يختطُّ هذه الطريقة ينوّه في آخر الخطبة بأنه سيكمل بقية الموضوع في الخطبة التالية، ويرى أصحاب هذا المسلك أنه مفيد من جوانب عدة:
1. تشويق السامعين إلى الجمعة القادمة.
2. ربط موضوعات الخطب بعضها ببعض.
3. أن طرح موضوع كلي بهذا التسلسل أنفع للناس؛ فتكون الخطبة درسًا علميًّا إضافة إلى كونها خطبة، وأعرِفُ مِنَ الخُطَبَاءِ مَنْ حَصَرَ خُطَبَهُ في التفسير فقط سنواتٍ عدة، قد تزيد على عشر سنوات، وغيره حصرها في السيرة النبوية وهكذا.
وبعضهم يأخذ جانبًا معينًا كموضوع تربية الأولاد، أو أشراط الساعة، أو نحو ذلك، ويخطب فيه عشر خطب متتابعة أو أكثر، ثم ينتقل إلى موضوع آخر.
والذي يظهر لي أن الجمود على فن من الفنون كالتفسير أو السيرة.. أو على موضوع من الموضوعات، بحيث تكون الخطب فيه متوالية ليس حسنًا لما يلي:
1. أنه غير مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم أقِفْ - فيما اطّلعت عليه من سنته - أنه كان يقول لأصحابه رضي الله عنهم: سنُكْمِلُ في الخُطْبَةِ القادِمَةِ، أو موضوع الخطبة القادمة كذا، أو كان يذكر موضوعاتٍ مُتَوالية في فنٍّ واحد؛ بل المحفوظ من هديه عليه السلام أنه يذكر ما يحتاج الناس إليه، وما يُصْلِحُ شؤونَهُم، وهذا يكون متنوعًا في الغالب؛ لأنَّ حاجات الناس مختلفة باختلاف أفهامهم واهتماماتهم وأعمالهم. قال ابن القيم رحمه اللهُ تعالى: "وكان يُعَلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه، ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض لهم أمر.. وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته؛ فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة أمرهم بالصدقة وحضَّهم عليها... ".
وقد يُعْتَرَضُ على هذا بأنَّ أساليب الخطبة ووسائلها، والطريقة التي يختارها الخطيب اجتهادية، وليست توقيفية حتى يشترط أن يكون كل شيء فيها مأثورًا، وهذا محتمل، ولا سيما أن الفقهاء - فيما أعلم - لم يشترطوا تَجَنُّبَ ذلك في الخطبة لما ذكروا أركان وشروط الجمعة والخطبة.
وقد يجاب عن هذا الاعتراض بأنَّ دواعِيَ ذلك موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، والقاعدة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا ترك شيئًا مع توافر دواعي العمل به عُلم أنه قَصَدَ تركه. ولعل الأمر واسع في هذه المسألة، ولها حظ كبير من الاجتهاد والنظر.
2. أنه قد يُؤَدّي إلى عكس ما أراده الخطيب من التشويق؛ لأنهم عرفوا الموضوع الذي سيخطب فيه سلفًا. والإنسان بطبعه يميل إلى اكتشاف المجهول، ويحب المفاجأة في مثل هذا الأمر.
3. أن هذه الطريقة تقيّد الخطيب، وتجعله محصورًا في فنٍّ واحد على حساب فنون أخرى يحتاج الناس إليها.
4. أن ما يستجد من أحداث يُربك خطة هذا النوع من الخطباء؛ فإما أن يخطبوا عما استجد، ويقطعوا سلسلتهم المتصلة في موضوع واحد، وإما أن يهملوا ما يحدث، وهذا غير مقبول عند السامعين.
5. أن من المصلين من لم يحضر الخطبة الماضية، وقد يكون فَهْمُ الخطبة الحاضرة مبنيًّا على حضور الماضية؛ فيقل انتفاع هؤلاء بالخطبة.
6. أن الخطيب قد يعرض له عارض من سفر أو مرض أو نحوه، فلا يستطيع الخطابة وإكمال الموضوع الذي ابتدأه؛ فيكون الموضوع مبتورًا.
لهذه الأسباب وغيرها أرى أن تلك الطريقة ليست حسنة، خاصة في المساجد العامة التي في المدن؛ لكن لو كان المسجد خاصًّا في مزرعة مثلاً أو قرية لا يحضر فيه غير أهلها فإنَّ كثيرًا من المفاسد المذكورة آنفًا قد ترتفع. ومع ذلك فلا أجد ميلاً لتلك الطريقة؛ لأنَّ الخطبة ليست درسًا، وبإمكان الخطيب أن يضع درسًا في مسجده، وتكون خطبه فيما يحتاجه الناس في معاشهم ومعادهم.
وما من موضوع يرى الخطيب أنه طويل ويريد تغطيته إلا ويستطيع تجزئته بطريقة أو أخرى بحيث لا يحتاج إلى جعله موضوعات متتابعة.
وبكل حال فإن حرص الخطيب، وجدّه في اختيار موضوعات خطبه، واستفادته من الخطباء الآخرين سيُعِينُهُ في هذا المجال كثيرًا. كما أنَّ اطلاع الخطيب، وغزارة علمه، واجتهاده في تحصيل العلم وطلبه، ومعرفته بأحوال الناس، وتلمُّس حاجاتهم، وقربه منهم؛ يجعله قريبًا من قلوبهم، عارفًا بهمومهم، قادرًا على معالجة مشاكلهم، في كل أسبوع يصعد درجات المنبر، ويخطب فيهم وهم له منصتون.
وإذا كان الخطيب كذلك فإن المصلين سيشتاقون إلى الجمعة، وينتظرون خطيبهم برغبة كبيرة، ويفرحون بإطلالته عليهم؛ مما يجعل الخطيب قريبًا من مستمعيه، وهذا حقيق بأن يجعل الخطبة تؤتي ثمارها، وتظهر فائدتها التي شرعت من أجلها.
[1] هذه حكاية للحال، ولا يعني ذلك عدم الحديث عن تلك الغزوة إلا في رمضان؛ بل ينبغي أن يكون الحديث عنها في رمضان، وفي غيره بحسب الحاجة إلى الحديث عنها، وهكذا كل الغزوات والمناسبات الأخرى، لا يظهر لي مانع من الحديث عنها في أي وقت، ويراعى في ذلك حاجة الناس إلى الموضوع. ومن غير المناسب الحديث عن المناسبة في غير وقتها؛ كالحديث عن فضائل شهر رمضان في شهر شوال!!
منقول
ابو وليد البحيرى
2021-10-08, 11:14 AM
الخطباء وأفكار المنبر
أحمد بن عبد المحسن العساف
البحثُ عنْ فكرةٍ لخطبةِ الجمعةِ منْ التحدِّياتِ التي تواجهُ كلَّ خطيبٍ يرجو ما عندَ الله؛ لأنَّ الخطبةَ المؤثرةَ الباهرةَ تحتوي على عنصرينِ مهمَّين هما: الفكرةُ والبيانُ ويزينُهما الأداءُ الخطابيُ المتقن. وإذا ما تخلَّفتْ الفكرةُ فالخطبةُ مجرَّدُ كلامٍ لا يؤثرُ طويلًا، وقدْ تكونُ الفكرةُ حاضرةً لكنْ ينقصُها البيانُ العذبُ والكلماتُ الفخمة، وكمْ منْ حقٍّ ضاعَ بسوءِ التعبيرِ وكمْ كمْ منْ باطلٍ سرى بطلاوةِ الكلامِ وحلوِ الحديث.
ولخطبةِ الجمعةِ مكانٌ سَنِيٌّ في تاريخِنا، وأثرٌ بَهِيٌّ على المجتمعِ المسلمِ حتى شَرِقَ بها المنافقونَ على اختلافِهم، وحاكوا لها الأكفانَ بدعواتِهم المشبوهةِ لتوحيدِ الخطبةِ أوْ تحديدِها أوْ جعلِها نشرةً محليةً لا يأبهُ لها أحد، إضافةً إلى ما يتعرَّضُ له الخطباءُ منْ رقابةٍ غليظةٍ ومحاسبةٍ دقيقةٍ منْ عدَّةِ جهاتٍ في عصرٍ يزعمُ كثيرٌ منْ أهلهِ أنَّه زمنُ حريةِ الرأيِ وتعدُّدِ وجهاتِ النَّظر.
وقدْ كتبَ عددٌ منْ العلماءِ والفضلاءِ فيما يخصُّ تحضيرَ الخطبةِ أوْ إلقائَها، وأَثْرَوُا الساحةَ حتى يستفيدَ حديثُ العهدِ ويتجدَّدَ الخبير، وكتبُهم ومقالاتُهم مطبوعةٌ متداولةٌ إنْ ورقيةً أوْ حاسوبية، وأمَّا الدِّراساتُ المعتنيةُ بصناعةِ فكرةٍ للخطبةِ فنادرة؛ ولعل َّهمَّةَ أحدِ الخطباءِ (المصاقعةِ) ترِدُ هذا الرَّوضَ الأُنُف؛ فالفكرةُ عزيزةُ المنالِ صعبةُ البلوغِ ولا تتأتي لأيِّ أحدٍ بيسرٍ بلْ قدْ تتمنَّعُ على الفطاحلِ الكبارِ والأساطينِ العظامِ لا عنْ عجزٍ واستحالةٍ؛ وإنَّما لصعوبةِ الموقفِ وهولِ المطلعِ فارتقاءُ المنابرِ والخطابةُ أمورٌ تشيبُ منها المَفارق.
والفكرةُ إمَّا أنْ تكونَ جديدةً لمْ يُسبقْ إليها، وقدْ تكونُ قديمةً لكنَّها تُبعثُ بطريقةٍ إبداعيةٍ أوْ منْ وجهٍ لمْ يطرقهُ أحد؛ وكمْ تركَ الأولُ للآخر، والموفقُ مَنْ أعانهُ اللهُ ورزقهُ النِّيَّةَ الصَّادقةَ الباعثةَ على الجدِّ والبحثِ والاستقصاء، لأنَّ الأفكارَ تُحدِثُ تغييرًا في المجتمعِ ولا بدَّ منْ معرفةِ كيفيةِ الحصولِ عليها وبثِّها كمفهومٍ قابلٍ للانتشارِ والبقاء؛ وما أعظمَ الفرقَ بينَ فكرةٍ خالدةٍ وأخرى بائدة.
ولصناعةِ فكرةٍ مناسبةٍ للمنبرِ عدَّةُ سُبُلٍ تنفعُ الخطيبَ والكاتبَ والمتحدِّثَ والمسوِّقَ ومصممي الإعلاناتِ وغيرِهم، وحديثُنا هنا مقصورٌ على الخطباء؛ وقدْ سبقَ كتابةُ مقالٍ للكتَّابِ بعنوانِ "صناعة الفكرة"، وهذا المقالُ عالةٌ عليهِ معْ بعضِ الزِّيادةِ والتطوير، ومنْ السبلِ المقترحةِ لصناعةِ فكرةٍ للخطبة:
1- التفكير:
وهو أكبرُ مصنعٍ لها؛ وبواسطتهِ تتولَّدُ الأفكارُ منْ الطرقِ التي بعدَه، ومنهُ التفكيرُ بصيغةِ المستقبلِ حيثُ أنَّ رؤيةَ مستقبلٍ غيرَ مرغوبٍ فيهِ - مثلًا - تقودُ إلى إصلاحِ الحاضرِ والمستقبل؛ فوجودُ نسبةٍ عاليةٍ منْ البطالةِ بينَ الشبابِ تعني – تلقائيًا - زيادةَ معدَّلِ الجريمة. ومنهُ التفكيرُ بصيغةِ "ماذا لو"؛ ومنْ الأمثلةِ على ذلكَ ماذا لوْ أنَّ المسلمينَ يحكمونَ العالم؟ ثمَّ يسردُ الخطيبُ وقائعَ تاريخيةً ثابتةً عنْ العدلِ الإسلامي الذي لمْ يحتجْ لمحكمةِ عدلٍ ولا هيئةِ أمم!
2- الملاحظةُ والتَّأمُّل:
وهما فرعٌ منْ التفكيرِ وإنَّما خصصتُهما بالذِّكرِ لقربِهما وسهولةِ استخدامِهما؛ وكمْ منْ شيءٍ أوْ مشهدٍ يمرُّ بنا كثيرًا ولو تدَّبرناه لظفرنا بفكرةٍ أوْ خاطرة. وقدْ حدَّثني أحدُ الأصدقاءِ أنَّ الشيخَ الفقيهَ عبدَ اللهِ بنَ قعودٍ - أنارَ اللهُ مرقدَه - قدْ خرجَ إلى البرِّ مستجمًا فلمَّا عادَ وصعدَ منبرَه خطبَ عنْ عظيمِ قدرةِ اللهِ في الغيثِ والزرعِ.
3- النَّظرُ منْ زوايا مختلفةٍ للموضوعِ الواحد:
فموضوعُ الزَّكاةِ - مثلًا - قدْ يوظفهُ إمامٌ للحديثِ عنْ مكانتِها، وآخرُ عنْ حكمِها، وثالثٌ يربطُها بالصَّلاة، ورابعٌ يُذَّكرُ بقتالِ المرتدِّينَ لأجلِها، وخامسٌ يوضحُ أثرَها في الماضي والحاضر، وسادسٌ يبينُ أحكامَ نوازلِها، وسابعٌ يقترحُ أفكارًا لمشروعاتٍ زكوية، وثامنٌ يقفُ على ما يعترضُها منْ مصاعب، وتاسعٌ يشرحُ أصنافَ الزَّكاة، وعاشرٌ يُصَّححُ الأخطاءَ في فهمِ وإخراجِ الزكاة.
4- الدُّخولُ منْ منافذَ غيرِ مألوفة:
فوفاةُ الشيخِ ابنِ جبرين- أكرمَ اللهُ وفادَته - بابٌ للحديثِ عنْ ضرورةِ إحياءِ الجوامعِ التي كانتْ معاهدَ علمٍ وتربية، كما يمكنُ تحليلُ التفاعلِ الإعلامي معْ وفاةِ الشيخِ، ولثالثٍ أنْ يهتكَ سترَ أهلِ الضلالةِ وموقفَهم منْ الشيخِ حيًّا ومريضًا وميتًا، ولوْ أعملنا هذهِ الطريقةَ معْ شهرِ رمضانَ الأغرِّ لانصرفَ أحدُ الخطباءِ عنْ ذكرِ فضائلهِ إلى التحذيرِ منْ مختطفيهِ ومنغصي قداسته.
5- الإنصات:
فسماعُ أحاديثِ النَّاسِ منجمٌ للأفكار؛ والأمرُ في حقِّ الخطيبِ أعظمُ؛ لأنَّهُ يعلِّمُ العامَّة، ويسعى في رفعِ الظلمِ عنهم، وأنَّى لهُ معرفةُ ما يحتاجهُ المستمعونَ بغيرِ إصغاء؟
6- أحداثُ الساعة:
وهيَ منْ أكثرِ المصادرِ استخدامًا وأيسرِها، وما أكثرَ الأفكارِ في الأحداث؛ فمن نظرةٍ شرعيةٍ لأنفلونزا الخنازيرِ إلى موقفٍ واجبٍ معْ أهلِ فلسطينَ أوْ الإيغورِ وانتهاءً بمباركةِ القراراتِ الحكيمةِ الأخيرةِ لكسرِ شوكةِ الليبراليةِ في المملكة.
7- الحوارُ والمناقشة:
وبخاصَّةٍ عندما يكونُ معْ شخصٍ مُلهِمٍ للأفكار؛ ومنْ أنفعِ الحواراتِ الحديثُ معْ التربويينَ وعلماءِ النَّفسِ والاجتماع، ومِنْ أَجَلِّهِ الجلوسُ بينَ يدي عالمٍ جليلٍ دوريًّا للإفادةِ منه؛ وممَّا ذُكِرَ في جدولِ أعمالِ الشيخِ ابنِ عثيمين - برَّدَ اللهُ مضجعَه - لقاءٌ دوريٌ معْ الخطباء.
8- استخدامُ الأفكارِ المتداولة:
بإعادةِ إنتاجِها اختصارًا أوْ زيادةً أوْ تعقيبًا، وهذا منْ أسهلِ ما يكون، ومن الأولويةِ بمكانٍ استفادةُ الخطباءِ منْ بعضِهم عبرَ لقاءٍ متعاقبٍ أوْ منْ خلالِ المواقعِ المتخصصةِ مثل موقع "ملتقى الخطباء"، وقدْ نقلَ لي زميلٌ عنْ أحدِ الخطباءِ أنَّهُ يرسلُ خطبتَه إلكترونيًا كلَّ أسبوع.
9- القراءة:
وأعني القراءةَ بأنواعِها وفي جميعِ الفنون؛ وعبرَ الكتابِ أوْ الموقعِ أوْ المجلةِ أوْ الصَّحيفةِ أوْ النَّشرة، وحريٌّ بالخطيبِ أنْ يكونَ قارئًا نهمًا مطَّلِّعًا بصيرًا ليزدادَ خيرُه وعطاؤه والأجرُ عندَ الله.
10- البحثُ في موضوعاتٍ خصبة:
كالأسماءِ الحسنى والصِّفاتِ العُلى، وسيرِ السلفِ الصَّالحِ، والتاريخِ الإسلامي، والأخلاقِ الكريمةِ، والظواهرِ الاجتماعيةِ التي يجدرُ بالخطباءِ الحديثُ عنها؛ كآثارِ العضْلِ والعُنوسةِ والطَّلاقِ والعُنفِ والبطالة.
وتبقى مسائلٌ لا مناصَ منْ الإشارةِ العاجلةِ إليها وهي:
• أهميةُ وضوحِ الفكرةِ حتى لا يعسرَ على المصلِّينَ التقاطُها.
• الأفضلُ ألَّا تتزاحمَ الأفكارُ في خطبةٍ واحدة، وأحسنُ الخطبِ ما اقتصرتْ على فكرةٍ واحدةٍ فقط.
• اختيارُ التوقيتِ المناسبِ والمنبرِ الأنسبِ للخطبة، ففرقٌ بينَ قريةٍ ومدينةٍ وحاضرةٍ وبادية.
• تدوينُ الأفكارِ كمشاريعَ لخطبٍ مستقبليةٍ حتى لا تضيع.
• تلخيصُ فكرةِ كلِّ خطبةٍ معْ نهايتِها حتى ترسخ.
• ألزمْ نفسكَ بأفكارٍ مبتكرةٍ للمناسباتِ المتكررة، وسلْ نفسك: هل هذه أفضلُ فكرةٍ يمكنُ الوصولُ إليها؟
• بعدَ ولادةِ الفكرةِ ينبغي التريثُ حتى تنضجَ على نارٍ هادئةٍ منْ الفكرِ المستنيرِ المتَّزنِ قبلَ نشرِها.
وإذا فرغنا منْ صناعةِ الفكرةِ فلا مفرَّ منْ صياغتِها على الوجهِ الذي يجلو البهاءَ، ويبينُ المحاسن؛ وإلقائِها بطريقةٍ تأخذُ بمجامعِ النَّفس، وإنَّ الصياغةَ والإلقاءَ مِنْ القضايا التي يعتني بها الخطباءُ حتى تكونَ كلماتُ الخطبةِ، وطريقةُ أدائِها ممَّا يُعِينُ على انتشارِ فكرتِها، وبقائِها حيةً في نفوسِ المستمعين؛ فالخطبةُ مجموعةُ كلماتٍ تُؤدَّى بنمطٍ ما؛ ونحنُ بالكلمةِ الصَّادقةِ، والأداءِ الرَّفيعِ، والفكرةِ الجذَّابةِ، والرُّؤى العمليةِ نواجهُ الطوفانَ الذي يجتاحُ بلادَ المسلمينَ غيرَ آبهٍ بمصلحةِ دنيا، أوْ صلاحِ آخرة.
ابو وليد البحيرى
2021-10-08, 11:19 AM
دور الخطباء في المجتمع
ظهرت في الآونة الأخيرة وجهات نظر في بعض عالمنا الإسلامي تؤيد فكرة إقامة دور للمسنين تقوم برعايتهم والعناية بهم، وجزء من هؤلاء المسنين ربما كان من الأمهات اللائي أنفقن ما أنفقن في سبيل رعاية وتربية الأولاد ذكورًا وإناثًا بقدر ما أوتين من القدرة على التربية والرعاية.
ويقول البعض: إنه ليس من الضرورة أن تكون دور المسنين لأولئكم الذين رزقوا بالأولاد، وإنما هي دور ترعى هؤلاء الذين لم يبقَ لهم في المجتمع إلا اللجوء إلى مؤسسات اجتماعية يبحثون فيها عن الستر والصون، وأعلم أن هناك شيخًا ضريرًا مسنًّا تقطعت به الأسباب المادية، ولكنه كان قوي العلاقة مع الله سبحانه وتعالى فيرزقه تعالى من يقدم إليه من مكان بعيد ويحمله معه في منزله وبين أولاده ويتردد به على الأطباء والمستشفيات، ولسان حال هذا الشيخ يلهج بالدعاء لابن الحلال حتى توفاه الله، فما خسر صاحبنا شيئًا، بل لعله فاز فوزًا لا يقدر بالجهد الذي بذله في سبيل العناية بهذا الشيخ الكبير.
وهذا هو منطلقنا في هذا المجتمع بخاصة وفي المجتمع المسلم عمومًا تجاه المسنين، ومنهم الأمهات، ومرة أخرى لن أعمد في هذا الحديث لأبين فضل الأم وما ورد في مقامها من آيات وأحاديث وأقوال للعلماء، فتلكم مهمة مؤكدة، فلقد درسنا في السنوات الأولى من الابتدائية: "كل ما في البيت عندي.. لا يفي أمي الجزاء".. ولا أدري هل لا تزال هذه القطعة في كتاب "المحفوظات" أم لا؟
ومرة أخرى كذلك أضع الأئمة والخطباء ورجال العلم مجالًا للحديث فيما يتعلق بموقف المجتمع عمومًا من الأم وموقف الأبناء - ذكورًا وإناثًا - منها، ولا بد من التأكيد هنا على هذا القانون العجيب في حياة الأمم الذي اختصر في عبارة جميلة: "اعمل ما شئت، كما تدين تدان"، وقد ذكره العامة بعبارة أخرى، مؤداها أن المرء إذا عمل للآخرين عملًا سيعمل له الآخرون كما هذا العمل، (ما سويت سوي بك)، وليس بالضرورة أن يكون هؤلاء الآخرون هم بأنفسهم مَن تلقوا المعاملة من الشخص، فالذي يعق والديه مثلًا يعقه أبناؤه، وتتردد قصص عربية وشعبية تؤيد هذا التعادل.
والرجال عمومًا أكثر خوفًا من العقوق لأمهاتهم؛ نظرًا لارتباطهم بزوجاتهم، ونظرًا لما يحصل من عدم انسجام بين الأم التي تتوقع شيئًا من الانتباه الأكثر من ابنها فِلذة كبدها، وبين الزوجة التي تشعر أن أم زوجها تنافسها في حبه في كثير من الأحيان وفي كثير من المواقف، كل ذلكم يمكن أن يتطور ويصل إلى حدود غير مرغوب فيها، إن لم يكن للوازع الديني أثر في هذه العلاقة، ولم يكن للابن "الزوج" أثر في توضيح العلاقة بينه وبين والدته وبينه وبين زوجه.
والأم حتمًا هي العامل المؤثر الأول في العلاقة، وتبقى مؤثرات أخرى تحدد العلاقة بين الأم وأبنائها، قد تكون علاقة الزوج بزوجته أو بأبنائه، أو بهما معًا، كما أن عامل الشباب لدى الأبناء له أثره على هذه العلاقة التي أوجبها الدين الحنيف حيال الأم حتى يتزوج الابن ويرزق بالأبناء، حينذاك يمكن أن يكون إدراكه أكثر واقعية، وقد يتجاهل البعض الآخر أن يكون هناك علاقة، ولعلنا سمعنا بما قيل من أن واجب الأم يتوقف عندما يصل الابن إلى درجة يستطيع فيها أن يعتمد على نفسه، ولنلاحظ أن هناك إيحاءً من قبل كثير من منظري علوم الاجتماع في الغرب وفي الشرق بأن ما تقوم به الأم إنما هو واجب عليها تجاه أبنائها، ولكننا قد لا نلحظ بالمقابل أي إيحاء بأن ما يجب أن يقوم به الأبناء تجاه أمهاتهم إنما هو من واجباتهم تجاه هذه الأمهات.
كيف يستطيع الخطباء ورجال العلم أن يركزوا فكرة "البر" بالوالدين في المجتمع؟ هل العصر يفرض أسلوبًا آخر أو شكلًا آخر من أشكال ترسيخ فكرة البر؟ هل يكفي أن يقف الخطباء ورجال العلم من موقف الأبناء من أمهاتهم موقف المدافع؟ فيبينون فضل الأم وما يجب لها من حقوق على أبنائها مع التعرض من قريب أو بعيد للمجتمعات الأخرى التي كثرت فيها مؤسسات رعاية المسنين، فأصبح المسنون آلة أو أداة ووسيلة للرزق، بل وللتجربة، وأصبح المسنون مجالًا للإيحاء بالمنَّة عندما تربت على أكتافهم الممرضة أو الاختصاصية الاجتماعية أو تتبسط معهم مديرة الدار، إن أمثلة العقوق كثيرة جدًّا، صبغت بأصباغ مختلفة، ولكن الجوهر واحد ينصب في مفهوم العقوق، وللعقوق جزاؤه عاجلًا وآجلًا، ولعل من المطلوب تبيانه أن الحياة - المؤقتة - لا يمكن أن تصفو لشخص ما دام يمارس في حياته طرقًا تتنافى أو تتعارض مع سنة هذه الحياة ومع سنة الله في تسيير هذا الكون.
ولا يريد أن يصل المرء إلى مقياس أن كثرة مؤسسات العناية بالمسنين إنما هي دليل صريح على كثرة العقوق في المجتمع، والذي يبدو أن المرء يكن أن يصل إلى هذا الافتراض وهو مطمئن، بل وربما ذهب إلى أكثر من هذا، بحيث يصل إلى مقياس أن كثرة مؤسسات العناية بالمسنين في بلاد الغرب والشرق إنما هي سبب في كثرة النوائب والنوازل التي تحل بتلك المجتمعات على مستوى الأفراد والجماعات، ولعل الخطباء ورجال العلم يستطيعون الربط بين هذا وذاك، كما استطاعوا الربط بين قلة المطر والإحجام عن دفع الزكاة، وكما استطاعوا الربط بين قدرة الخالق سبحانه وتعالى وبين النوازل الأخرى التي تحل بالعالم بالأمس واليوم وربما غدًا، بدلًا من التفسير المادي "العلمي" لهذه النوازل، وذلكم أيضًا مفهوم عام يحتاج إلى وقفة أخرى تناقش فيها فكرة "التفسير العلمي" عندما يراد به تفسيرًا ماديًّا للظواهر في مقابل التفسير الديني لها، وكأن هناك فصلًا قويًّا بين التفسير العلمي والتفسير الديني، بينما القدرة الإلهية هي الأساس المكين لكل مكتسبات الإنسان في هذا الكون، ولعقوق الوالدين أثر كبير في الوصول إلى تفسير النوازل.
إن مسؤولية العلماء والخطباء لا تتوقف عند ذكر الدليل، ولكنها تتطلب من هؤلاء الذين رضُوا بحمل هذه الأمانة أن يدخلوا إلى العقول والقلوب، فيرسخوا المفاهيم الإسلامية التي شملت وتشمل كل شيء، ولهذا الهدف مقوماته التي تعين على الوصول إليه، منها: قدرة الخطيب على الإحاطة الكاملة بعلوم الدين ومستجدات الحياة، وكان الله في عون الجميع!
______________________________ _____________
الكاتب: أ. د. علي بن إبراهيم النملة
ابو وليد البحيرى
2021-12-12, 11:49 AM
الأمن الفكري.. واجب الخطباء
يوسف سليمان الهاجري
تتنوع معاني الأمن التي يحتاجها المجتمع، فهناك الأمن النفسي والاستقرار الأسري، وهناك ما يسمى بالأمن الغذائي وأمن الصحة الوقائي، وكذلك الأمن البيئي والزراعي؛ مما يوفر حياة سليمة من الأمراض المعدية، وعلى صعيد آخر هناك الأمن العقدي، والدعوي، والفكري، والعقلي، والعلمي، والاقتصادي، وكذلك الأمن العسكري، والسياسي. فالحاجة إلى الأمن بكافة صوره وأشكاله من أهم الحاجات الفطرية التي لا يمكن أن يكون سلوك الإنسان سويا بدونها، وكما أنه لا حياة للبدن إلاّ بإشباع حاجاته الفطرية، كذلك لا حياة ولا سرور ولا قرار ولا استقرار للقلب والنفس والروح إلا بهذا الأمن.
نعمة الأمن
بيد أن هذا الأمن نعمة وعد الله تعالى بها عباده الذين يعبدونه ويوحدونه ويذبون عن دينه ويحمون حماه؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَ ّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَ ّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}، كما أن رسول الله [ حرص على بيان هذا المعنى فعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله [: «من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا».
قواعد الإيمان
ولقد أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل وأنزل الكتب لإرساء قواعد الإيمان الصحيح الذي يقوم على سلامة الاعتقاد والقول والعمل، ولا يكون ذلك إلا بسلامة القلب الذي هو بيت الفكر والإرادات والمشاعر وسلطان الجوارح، ولن يكون القول سليماً مرضياً ولا العمل صحيحاً مقبولاً إلاّ إذا كان القلب سالماً لله عز وجل، سليماً من الآفات والعلل ورديء الهمم والعزائم؛ قال تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم} ورسول الله [ يقول: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
الأمن الفكري
إن الأمن الفكري حالة تُشعر الفرد والمجتمع بالطمأنينة على ثقافته ومعتقداته وأعرافه ومكونات أصالته ومنظومته الفكرية المستمدة من الكتاب والسنة من أن يصيبها التشويه أو التشويش أو الاختراق أو الضبابية أو التعتيم، وإن الأمن الفكري هو السبيل الوحيد لبلوغ الأمة عزها ومجدها وإحرازها خيريتها واستخلافها وتمكينها أيما تمكين؛ فوحدة الفكر على عقيدة الإسلام تثمر وحدة الشعور بالمسؤولية والواجب، وتحيي الضمائر وتدفع إلى المعالي؛ فيتحقق للأمة سعادتها وفلاحها وعزها وكرامتها، وإذا كان الشباب هم عماد النهضة وأمل المستقبل فبالأمن الفكري نحميهم ونصونهم من الشبهات وضبابيات الأفكار المنحرفة.
دور الخطيب
وواجب تعزيز الأمن الفكري بالمجتمع على الجميع من علماء ودعاة وخطباء ومعلمين ومربين ومصلحين وأولياء الأمور...إلا أنني أخصص بحديثي هنا الخطيب ودوره في جانب تعزيز هذا الأمن الفكري؛ حيث يحظى الخطيب بمكانة كبيرة بين أوساط المجتمع المسلم، ويرتبط المسلمون معه كل أسبوع باستمرار ويستمعون إليه بإنصات بالغ؛ ولذلك كان لابد له من بذل جهد مضاعف في تحقيق هذا الهدف في المجتمع ولاسيما الشباب؛ فينبغي على الخطيب أن يختار بعناية فائقة موضوع خطبته وعناصرها مع كيفية توصيل هذا الموضوع إلى الناس في هذا الوقت الوجيز، ولا يغفل طريقة المعالجة بشكل صحيح؛ لكيلا يقع الناس في الفهم غير الصحيح أو الناقص.
القيم الدينية
كما ينبغي على الخطيب أن يحرص حرصا شديدا على غرس القيم الدينية والعقدية والفكرية والأخلاقية في نفوس الناس؛ لكي تكون لديهم مناعة ذاتية ضد أي انحراف أو لوثة تقابلهم أو تصادفهم، ولاسيما في هذا الزمن الذي انفتحت فيه وسائل الإعلام على الناس من كل صوب، ومن المهم مراعاة جميع الانحرافات من إفراط أو تفريط وغلو أو تساهل، ثم معرفة القيم التي تعالج هذه الانحرافات.
ويجب أن يراعي الخطيب الظروف التي تمر بالمجتمع وتحتاج منه إلى وقفة تجاهها كالتفجيرات والأعمال التخريبية والمفسدة أو قضايا المخدرات والقتل وغيرها، فيعالجها مباشرة ولا يتأخر، ويبين للناس المنهج الصحيح في مثل هذه القضايا، مع ذكر الأدلة الصحيحة الشرعية، والخطيب الموفق هو الذي يأسر قلوب الناس بنصحه الصادق وكلماته الواضحة وأدلته القاطعة وبيانه الساطع وعلمه الواسع.
أسأل الله أن يديم علينا نعمة الأمن والأمان، وأن يحفظ ولاة أمرنا ووطننا من كل سوء ومكروه، والله يرعاكم.
ابو وليد البحيرى
2021-12-29, 11:33 AM
باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك
محمد بن صالح العثيمين
♦ عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا))؛ رواه البخاري.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامًا فصلا، يفهمه كل من يسمعه))؛ رواه أبو داود.
قَالَ سَماحةُ العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:
قال المؤلف - النووي رحمه الله تعالى-: (باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك)؛ والمعنى أنه ينبغي للإنسان إذا تكلم وخاطب الناس أن يكلمهم بكلام بيِّن لا يستعجل في إلقاء الكلمات، ولا يدغم شيئًا في شيءٍ ويكون حقه الإظهار، بل يكون كلامه فصلا بينا واضحًا حتى يفهم المخاطب بدون مشقة وبدون كلفةفبعض الناس تجده في الكلام ويأكل الكلام حتى إن الإنسان يحتاج إلى أن يقول له: ماذا تقول؟ فهذا خلاف السنة، فالسنة أن يكون الكلام بينًا واضحًا، يفهمه المخاطب وليس من الواجب أن يكون خطابك باللغة الفصحى.
فعليك أن تخاطب الناس بلسانهم وليكن بينًا واضحًا كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه فقوله: (حتى تفهم عنه) يدل على أنها إذا فهمت بدون تكرار فإنه لا يكررها، وهذا هو الواقع فإن الرسول عليه الصلاة والسلام نسمع عنه أحاديث كثيرة يقولها في خطبة وفي المجتمعات ولا يكرر ذلك، لكن إذا لم يفهم الإنسان بأن كان لا يعرف المعنى جيدًا فكرر عليه حتى يفهم أو كان سمعه ثقيلا لا يسمع أو كان هناك ضجة حوله لا يسمع فهنا يستحب أن تكرر حتى يفهم عنك.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثًا؛ معناه أنه كان لا يكرر أكثر من ثلاث، يسلم مرة فإذا لم يجب سلم الثانية فإذا لم يجب سلم الثالثة فإذا لم يجب تركه. وكذلك في الاستئذان كان صلى الله عليه وسلم يستأذن ثلاثًا؛ يعني إذا جاء للإنسان يستأذن في الدخول على بيته يدق عليه الباب ثلاث مرات فإذا لم يجب انصرف، فهذه سنته عليه الصلاة والسلام أن يكرر الأمور ثلاثًا ثم ينتهي.
وهل مثل ذلك إذا دق جرس الهاتف ثلاث مرات؟ يحتمل أن يكون من هذا الباب، وأنك إذا اتصلت بإنسان ودق الجرس ثلاث مرات وأنت تسمعه وهو لم يجبك، فأنت في حل إذا وضعت سماعة الهاتف ويحتمل أن يقال: إن الهاتف له حكم آخر وأنك تبقى حتى تيأس من أهل البيت لأنهم ربما لا يكونون حول الهاتف عند اتصالك، فربما يكونون في طرف المكان ويحتاجون إلى خطوات كثيرة حتى يصلوا إلى الهاتف؛ فلذلك قلنا باحتمال الأمرين.
ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كلامه فصلًا؛ يعني مفصلًا، لا يدخل الحروف بعضها على بعض ولا الكلمات بعضها على بعض، حتى لو شاء العاد أن يحصيهلأحصاه من شدة تأنيه صلى الله عليه وسلم في الكلام، وهكذا ينبغي للإنسان أن لا يكون كلامه متداخلًا؛ بحيث يخفي على السامع لأن المقصود من الكلام هو إفهام المخاطب، وكلما كان أقرب إلى الإفهام كان أولى وأحسن ثم إنه ينبغي للإنسان إذا استعمل هذه الطريقة يعني إذا جعل كلامه فصلا بينًا واضحًا وكرره ثلاث مرات لمن لم يفهم، ينبغي أن يستشعر في هذا أنه متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يحصل له بذلك الأجر وإفهام أخيه المسلم، وهكذا جميع السنن اجعل على بالك أنك متبع فيها لرسول صلى الله عليه وسلم حتى يتحقق لك الاتباع.
المصدر: «شرح رياض الصالحين» (4/64-67)
ابو وليد البحيرى
2022-02-04, 10:17 AM
فن اختيار الوقت في الموعظة
يُشكِّل اختيارُ الوقت ومناسبته للحال عاملاً مهمًّا في نجاح الواعِظ في دروسه مِن نواحٍ عدَّة، منها:
1- اختيار الوقت المناسِب للوعْظ والإرشاد، فليس كلُّ وقت يصلح لوعْظ الناس وإرشادهم.
2- ومِن ناحية الموضوع ومناسبته للحال، فليس كلُّ ما يُعلم يُقال، ولا كلُّ ما يُقال يناسِب الحال.
3- ومِن ناحية استعداد المدعُوِّين نفسيًّا لسماع ما يُلقَى عليهم مِن دروسٍ ومواعظَ، لا بدَّ مِن مراعاة ذلك، مِن خلال التفرُّس في وجوه مَن يَحضُرون الدرس.
ولهذا سنبيِّن - أولاً - منهجَ الرسول الداعي الأوَّل - صلَّى الله عليه وسلَّم - في استغلاله لعامِل الوقْت في الدعْوة إلى الله في مناسبات عِدَّة، تتعلَّق بمعاش العِباد، وأمور حياتهم ومعادهم، وما كان الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتَّبعه مِن أساليبَ في إيصال الحقِّ إلى الناس، ثم نبيِّن ما على الداعي إلى الحقِّ من أساليبَ ناجحة، تُمكِّنه من أن يؤثِّر فيمن يدعوهم ويعلِّمهم، ومِن الله التوفيق والسداد.
منهج الرسول في اختياره للوقت في الدعوة:
ويكمن ذلك المنهج السديد في نِقاط عدَّة، منها:
1- عدم إطالة الموعِظة؛ خشيةَ الملل والسآمة:
وهو ممَّا كان يحرِص عليه الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد قال ابنُ مسعود - رضي الله عنه -: "إَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانَ يَتخَوَّلُنا بالموْعِظَةِ في الأيَّامِ؛ كراهِيَةَ السَّآمةِ عليْنا"[1]، ولم يكن مِن هديه إعطاءُ دروسٍ في جميع الأيام؛ ذلك لأنَّ دعوته تأخذ أشكالاً مختلفة، تارةً بالقول، وأخْرى بالسلوك والقُدوة الحسنة.
2- استغلال الحَدَث والموقِف في التعليم والتربية:
فقد جاء في الحديثِ عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه قال: "خرجْنا مع النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في جنازة رجلٍ من الأنصار، فانتهَيْنا إلى القبر، فجلَس رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وجلسْنا حوله، كأنَّ على رؤوسنا الطيرَ، وفي يدِه عُودٌ ينكت به في الأرض، فرفَع رأسه فقال: «استعيذوا بالله مِن عذاب القبر..»[2]، والموعظة عندَ القبر كان يفعلُها - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحيانًا.
وجاء في حديث قدوم تجَّار البحرين، حيث رأى مِن حرْصهم، فاستغلَّ الموقف في توجيه نصيحةٍ تربوية انطوتْ على تحذيرٍ من فِتنة الدنيا، وتبشير للأمَّة بالرخاء المادي، فقال: «فأبشِروا وأمِّلوا ما يَسرُّكم، فواللهِ لا الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسَطَ عليكم الدنيا، كما بُسطِت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلككم كما أَهْلكتهم»[3].
3- إطالة الموعظة أحيانًا لطارئٍ أو حادثٍ مهم:
وممَّا يدلُّ على ذلك موعظتُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن أمور جِسام ستَقع في الأمَّة، حتى طالتْ موعظتُه فوقَ العادة، ففي صحيح مسلم عن عمرِو بن أخطبَ - رضي الله عنه - أنَّه قال: "صلَّى بنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الفجرَ، ثم صعِد المنبر فخطَبَنا حتى صلاة الظهر، ثم نزَل فصلَّى بنا الظهر، ثم صعِد المنبر فخطَبَنا حتى صلاةِ العصر، ثم نزَل فصلَّى العصر، ثم صعِد المنبر فخطبَنا حتى المغرب، فما ترَك شيئًا مما يكون إلاَّ أخْبر به أصحابَه، حفِظَه مَن حفِظه، ونسِيَه مَن نسيه، يقول: فأعْلَمُنا أحفَظُنا"[4].
4- تحيُّن الموعظة عندَ إقبال السامِع وفراغِه ونشاطه، وتَرْكها عند انشغالهم، فهو أدْعَى إلى القَبول:
ومِن ذلك: أمرُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - المدعوين بالانصراف إلى أهلِهم؛ لما رأى من تشوُّقهم إليهم؛ فعن أبي سليمان مالكِ بن الحويرث - رضي الله عنه - قال: "أتَيْنا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ونحن شبَبَةٌ متقاربون، فأقمْنا عندَه عشرين ليلة، وكان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رحيمًا رفيقًا، فظنَّ أنَّا قد اشتقْنا أهلنا؛ فسَألْنا عمَّن تركْنا من أهلنا، فأخبرْناه، فقال: «ارْجعوا إلى أهلكم، فأقيموا فيهم، وعلِّموهم وبرُّوهم، وَصَلُّوا كذا في حين كذا، وصلُّوا كذا في حين كذا؛ فإذا حضرتِ الصلاة فليؤذِّن فيكم أحدُكم، وليؤمَّكم أكبرُكم»[5]
5- مناسبة المقال لمقتضَى الحال:
فقد كانت مواعِظُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - واختياره الأمثل لمقتضَى الحال، مما له أبلغُ الأثر في المدعوِّين في حالة الفَرَح أو الحزن وغيرها مِن الأحوال في عامَّة مواعظِه وإرْشاده - صلَّى الله عليه وسلَّم.
6- توجيه الأنظار للتدبُّر والتفكُّر:
كان الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يستغلُّ عامِل الوقت والزمن؛ لأجْل صرْف العقول للتدبُّر في خلْق الله، وعجائب قدرته، مثْل وقت كسوف الشمس، وخسوف القمر وهبوب الرِّياح، فقد قال عندما وقَع الكسوف: «إنَّ الشمس والقمر آيتان مِن آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله تعالى يُخوِّف بها عباده»[6].
7- أوقات إقبال القلْب على ربِّه أدْعى لقَبول النُّصح والإرشاد، خاصَّة بعد صلاة الفجْر، وفي الحديث عن أبي نَجيح العِرْباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظَنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - موعظةً بليغة، وجلتْ منها القلوب، وذرفَتْ منها العيون، فقلنا: يا رسولَ الله، كأنَّها موعظة مودِّع، فأوصِنا، قال: «أُوصيكم بتقوى الله، والسَّمْع والطاعة، وإنْ تأمَّر عليكم عبدٌ حبشي، وإنَّه من يعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومُحْدَثاتِ الأمور، فإنَّ كل بدعة ضلالة»[7]، وكان ذلك بعدَ صلاة الفجْر، وهو وقتٌ تكون فيه النفوس بعيدةً عن الشواغِل والملهيات.
8- الترغيب في العمل الصالِح في أوقات ومناسَبات معروفة؛ مثل: صيام يوم عاشوراء ورمضان، وشوَّال وذي الحجَّة، وصلاة الاستسقاء، وما يناسِب تلك الحال مِن موعظة وإرشاد.
9- الحثّ على التوبة في وقْت الاحتضار:
وهي لحظةُ انتقال الإنسان إلى عالَم جديد، يتقرَّر فيه مصيرُه؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان غلامٌ يهوديٌّ يخدُم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فمَرِض، فأتاه يعوده، فقعَد عند رأسه، فقال له: «أسْلِم»، فنَظَر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطِعْ أبا القاسم، فأسلَمَ، فخرج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يقول: «الحمد لله الذي أنْقذَه مِن النار»[8].
لقد حقَّقت دعوة الرسول الكريم انقلابًا عجيبًا في كيان الإنسان، بفضْل ما كان يمتلكه من وسائلَ فعَّالة ناجحة في الدعْوة إلى الله، فقد تحوَّل ذلك الإنسانُ مِن محبٍّ عاشِق للدنيا يموت ويحَيا مِن أجلها، لا يُفكِّر أبعد مِن شهوته وبطنه، إلى إنسانٍ يفكِّر ويجول نظره في الكون الفسيح، إلى ما وراء ذلك مِن الشوق إلى نعيمِ الآخِرة ولذَّتها، يحمل هَمَّ الدعوة والجهاد في سبيل الله، وإخراج مَن حوْله مِن البشر مِن ظُلم العباد إلى عدْل الإسلام ومساواته، ومِن عبادة الحجَرِ والبشر إلى عبادة الديَّان الذي لا يموت.
وما في قصص الصحابة الأوائل مما عجَز التاريخُ عن تفسيره، إلا بفِعْل الإيمان والتربية الحقَّة التي تلقَّوْها من المربِّي الأول، والمعلِّم الكريم محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ما ينبغي على الداعي مراعاته:
ينبغي على الداعي أن يُراعيَ عامِلَ الوقت؛ حتى يكونَ ناجحًا في مواعظه، وإلا ملَّتْه النفوسُ، وسَئِمت مِن سماعه، ومن ذلك:
أولاً: ليس كلُّ وقت يصلُح لوعْظ الناس وإرشادهم، فليس مِن الحِكمة - مثلاً - موعظةُ الناس بعْد صلاة الظهر، وهو وقتُ انشغال الناس بأعمالهم وأمور معاشِهم، أو وقت انصرافِ الناس إلى نومِهم وراحتهم في اللَّيْل، وهو مِن أخطاء بعض الوعَّاظ، يُريد أن يُلْقي مواعظَه دون إعطاء أهميَّة لحالِ مَن يدعوهم، وكأنَّه لا يخاطِب بشَرًا، لهم مشاعِرُ وأحاسيس.
ثانيًا: مناسبة الموعظة للحال، والبعض منهم يُلقي دروسًا في الصبر على البلاء، والفِتن الواقعة في الأمَّة، وتحمُّل المصائب والنكبات في يومِ فرَح الناس وأعراسهم، حتى يُحوِّل الفرح إلى عزاء ومصيبة، ومِن الحكمة استغلالُ تلك المناسبة في موعِظة عن الشُّكر، وبيان هَدْي الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الأعراس والمناسبات.
ثالثًا: على الداعي أن يتفرَّسَ في وجوه الحاضرين، ومدَى استعدادهم لتلقِّي ما يُقال لهم، فالموعظةُ الغرضُ منها هو أن يستفيدَ الحاضرون، والبعضُ من الوعَّاظ يرى تملْمُلَ الناس من درْسه وترْكهم لمجلسه، ومع ذلك تراه يستمرُّ في درسه ووعْظه، ويطيل الكلام ويُكرِّر الموعظة، وكأنه يطلب إعادةَ الثقة به، وهذا له نتائجُ عكسية تمامًا، وقد كان مِن هديه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه يُحدِّث بالحديث لو عدَّه العادُّ لأحصاه؛ لذا فمِن الحكمة قطعُ الموعظة إن لم يكن فيها مرغِّب أو مشوق آخر.
رابعًا: عدم توفُّر الوقت الملائم لإلْقاء الموعظة، وليس مِن الضروري إلْقاء الموعظة وكأنَّها حِمْل على كاهله يريد التخلُّص منه، بل الموعظة دُررٌ وفوائدُ أثمنُ مِن المال، لا بدَّ من تحيُّنِ فرصة مناسبة؛ ليُنتفعَ منها، وتقعَ موقعها في النفوس، فتدعوهم للعمل الصالح، وترْك ما أَلِفوه من المنكرات، ويحصُل ذلك عندما يتهيَّأ الداعي إلى إلْقاء موعظته، فيحدُث أمرٌ مفاجئ؛ لذا عليه أن يدَّخِر الموعظة لوقتٍ مناسب آخر.
خامسًا: خيرُ الكلام ما قلَّ ودلَّ: إنَّ إطالة المواعِظ لتتعدَّى أحيانًا ساعة وأكثر، هي مشكلةُ بعض الوعَّاظ، وليعلمْ هؤلاء أنَّ طاقة ذهْن الإنسان محدودةٌ لا يمكن في العادة أن تتابعَ الكلام بتركيز وانتباه لأكثرَ مِن رُبع ساعة، وبعدَها يُصاب الذِّهن بالشرود والتعب؛ ولهذا مِن الأفْضل على الواعظ أن يتَّخذ بعضَ التدابير، مثل: تدوين رؤوس الدرس والخطوط العامَّة منه في ورقة صغيرة؛ لئلاَّ يتحرَّج فيخلط في الكلام، أو يستطرد في أمْر لا علاقة له بصُلب الموضوع، كما يُشاهَد على بعض القنوات الفضائية مِن مواعظَ تتجاوز مدتها الزمنية السَّاعة والساعتين.
ومِن الأخطاء أيضًا في هذا الجانب أنَّ بعض الوعَّاظ يضع له مواعظَ مُقسَّمة على الأيام والشهور، وكأنَّها قوالِب لوضع المستمعين والمدعوين فيها، وهو خطأٌ منهجي في الدعوة، والمنهجُ السليم أن تكون الموعظةُ مما يتلاءَم مع حال المدعوين، فينظر الداعي أيَّ مرَض أو آفة اجتماعية تغلُب على قومِه أو مجتمعه، فيتحدَّث فيها، ويُحذِّر منها، وقد قيل في تعريف الحِكمة هي: فِعْل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي.[9]
إلقاء الدرس قبْلَ وبعْد صلاة الجمعة:
سُئِل عن ذلك فضيلةُ العلاَّمة الألْباني، فأجاب - رحمه الله تعالى -: "الذي نعتقِده ونَدين الله به أنَّ هذه العادة التي سَرَت في بعض البلاد العربية، وهي: أن ينتصبَ أحدُ المدرِّسين أو الخُطباء ليلقيَ درسًا، أو كلمةً، أو موعظةً، قبل أذان الجمعة بنِصْف ساعة أو ساعة من الزَّمان، هذا لم يكن مِن عمل السلف الصالح - رضي الله عنهم - هذا مِن جهة.
ومِن جهة أخرى، فمن المعلوم لدَى علماء المسلمين قاطبةً أنَّ هناك أحاديثَ صحيحةً تأمُر المسلمين بالتبكير للحضور إلى المسْجد الجامع يومَ الجمعة، كمثل قوله - عليه الصلاة والسلام -: «مَن راح في الساعة الأولى فكأنَّما قرَّب بَدنةً، ومَن راح في الساعة الثانية فكأنَّما قَرَّب بقَرةً...، وهكذا حتى ذكَر الكبش والدجاجة والبيضة»، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ حَضَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المسلمين على التبكير في الرواح يومَ الجمعة إلى المسجد الجامع ليس هو لسماعِ الدَّرْس وإلْقائه، وإنَّما هو للتفرُّغِ في هذا اليوم لعبادة الله - عزَّ وجلَّ - ولذِكْـره، وتلاوة كتابه، وبخاصَّة منه سورة الكـهف، والجلوس للصـلاة على النبـيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تحقيقًا لقوله في الحديث الصحيح، والمروي في السُّنن وغيرها ألاَ وهو قوله - عليه السلام -: «أكْثِروا عليَّ مِن الصلاة يومَ الجمعة؛ فإنَّ صلاتَكم تبلُغني»، قالوا: كيف ذلك وقد أَرِمْت؟! قال: «إنَّ الله حَرَّم على الأرض أن تأكلَ أجساد الأنبياء.....».
أما بعْدَ الصلاة، فقد قال - رحمه الله تعالى -: "إنْ كان أحدٌ يريد أن يُدرِّس فبعْدَ الصلاة؛ حيث يتفرَّغ الناس لسماع مَن شاء منهم، ومَن شاء القضاء، أمَّا أن ينتصبَ المدرس قبلَ صلاة الجمعة فيَفْرِض نفسه على الناس فرضًا، وفيهم المصلِّي والتالي والذاكر، فهذا هو الإيذاءُ للمؤمنين، فلا يجوز"[10].
أمثلة على ما مَرَّ:
الأمثلة في هذا الباب كثيرة، وعلى الداعي أنْ يتعود تدبر سيرة المصطفى والأحوال والظروف التي مر بها[11]، وهديه في موعظة الناس وإرشادهم؛ ليكون على بصيرة من دعوته.
ثم الاستفادة من تجارب الآخرين؛ ليضيف إلى رصيده في الدعوة إلى الله، وهذه أمثلة عامة تناسب أحوال عامة:
1- في بداية شهر رمضان يناسب إلقاء موعظة عن أحكام الشهر الفضيل، وما يَجوز وما ينبغي تجنبه، وفي شهر ذي الحجة ما يتعلق بأحكام الحج وأركانه، والترغيب فيه، وفي ليلة العيد - الأضحى والفطر - ما ينبغي فعله للمسلم من سنن وأعمال صالحة من صِلَةِ رحم وغير ذلك، مع تقديم الدروس مقرونة بالترغيب والترهيب، وفي ليلة الجمعة ما ينبغي على المسلم عمله للحصول على أجر وثواب الجمعة.
2- يناسب في أيام الأفراح والأعراس التحدُّث عن الترغيب في الزواج، وبيان فضائله، وشكر نعمة الله على نعمة العِفَّة والإحصان، وفضل إدخال السُّرور على قلب المسلم، والصلح بين الإخوان.
3- في يوم العزاء وفَقْد الأحبة الحث على الصبر، وتحمُّل المصائب، وثواب الصابرين، وما يترتب عليه من أجر وأهمية الإيمان بالقدر والقضاء، وأن الموت يَجري على كل نفس، وبيان عظم الجزاء للصابرين، والحذر من الجزع والتسخط، وأنَّه لا يأتي بنتيجة، بل يستوجب غضب الله ومقته، وبيان أهمية مواساة المسلم في المصيبة.
4- في وقت حدوث نزاع أو قتال أهمية الصلح بين المسلمين، وأنَّه أفضل درجة من الصيام والقيام، وأن الساعي إليه من أفضل عباد الله، وأن المسلمين إخوة متحابون، وأن الساعي للفتنة من شر عباد الله، وخاصَّة الفتنة بين الزوجين والأحبة، والتفريق بينهما، وأنه من أقرب الناس للشيطان.
5- في وقت احتلال بلاد الإسلام، وانتهاك دياره وحرماته، وسلب خيراته - الحث على الجهاد - النفس والعدو - وأنَّه عز المسلمين وسبب لنصرهم، وأنَّ التخاذُل يوجب تسلط الأعداء، والواجب على كل مسلم إعانة المجاهدين، ولو بالكلمة، وأن من لم يحدث بالغزو مات ميتة جاهلية، ويتم ذلك وَفْقَ مشورة أهل العلم والرأي الصائب؛ كي تؤتي ثمارها.
6- في وقت انشغال الناس بالدنيا وملذاتها، وغفلتهم عن معاني الآخرة وأهوالها، والاستعداد لها - التذكير بأحوال الموتى، وما يلاقيه كل من المؤمن والكافر من نعيم أو عذاب في القبر، وربطه بمعاني التوحيد والعقيدة الإسلامية، وما بعد الموت من نعيم مقيم أو عذاب أليم، والحساب على الصغيرة والكبيرة وَفْقَ ميزانٍ دقيق لا يظلم فيه أحد من عباد الله، والاستشهاد الجيد بالآيات، والأحاديث، والتنوع ما بين حديث وآية وشعر، وقول مأثور، وحكمة جليلة.
7- في وقت وقوع الزلازل والكوارث، ووقوع القتل والفتن، وتكالب الأعداء - الحث على الاعتصام بحبل الله والتوبة، والخروج من المظالم، والتضرع إلى الله، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ما يقع هو بسبب ذنوب بني آدم وفسادهم، والواجب على كل مسلم التوبة والرُّجوع وعدم التسويف، بل المبادرة والإقلاع عن المعاصي.
8- في وقت الحاجة والفقر، وانتشار العوز في بلاد الإسلام - الحث على الإنفاق في سبيل الله، وأنَّ المال هو وديعة بيد المسلم، وأنَّ الواجب تقديمُ الدعم المادي لإخوة الإسلام في أيِّ مكان مهما اختلفت أشكالُهم وألوانهم، وكذا في وقت نشر الأفكار الهدَّامة ودعمها من قبل المؤسسات الغربية، وغيرها، الواجب تذكير الأمة بأهمية التصدي للباطل، إما بالكلمة أو بالمال؛ لئلا يستشري الباطل، وتضل الأمة عن الطريق القويم، وأنَّ من لم يقم بواجبه فلا يَلومَنَّ إلا نفسه.
9- في وقت خروج الفئات الباغية على شرع الله، ومنازعة أولي الأمر، وقيامهم بأعمال تضر بالمجتمع المسلم من قتل للأبرياء، وسَفْكٍ للدماء - الواجب التحذير منهم ومن أفعالهم، وبيان ما يعتقدونه من أفكار باطلة، وأنه الواجب طاعة أولي الأمر؛ لئلا ينفلت وتكون فوضى في بلاد الإسلام؛ مما يوجب العبث، وتسلُّط الكفرة على ديار المسلمين، ومثله التصدي لأفكار من ينتسب إلى الإسلام في الظاهر وهو يُخالفه في الاعتقاد كالرافضة، فالواجب بيان عقائدهم وضلالهم، وأنَّهم يستعملون التقيَّة في نشر الباطل، فالواجب الاعتصام بين المسلمين، والتصدي لترويج باطلهم وإفكهم.
10- في وقت يرى فيه الداعية أنَّ المسلمين قد هجروا كتاب ربهم، وتدبر آياته، والعمل به - لا بُدَّ من بيان فضل تلاوته، وأنَّه حبل الله المتين، ونجاة المسلم في الدنيا والآخرة، وأنَّه يشفع لقارئه، وأنَّ هجرانه يعني ظلام القلوب والبيوت، والبُعد عن رحمة الله، وبيان فضائله من الآيات والأحاديث، وهذا مِمَّا ينبغي التذكير به في كل مناسبة.
جامع ينبغي التذكير به دومًا:
ينبغي ربط كل موعظة وإرشاد بالأصل العظيم، وهو طاعة الله وطاعة رسوله، وأن نجاة المسلمين وسعادتهم في كل زمان ومكان تكمُن في تحقيق هذين الأمرين، وأي موعظة تخلو من التذكير بهذا الأصل القويم سيكون تأثيرها مؤقتًا، وتصل الموعظة إلى القلوب هامدة ميتة؛ ولهذا ينبغي التذكير بالهدف والغاية التي خلق من أجلها الخلق، ألاَ وهي عبادة الله وحدَه لا شريك له والعمل على مرضاته، وطاعة رسوله الكريم، والتطلع إلى ما عند الملك الكريم من الجزاء العاجل في الدنيا من الاطمئنان، والسعادة الحَقَّة وفي الأجل من الفوز بنعيم الجنة، وما أعَدَّ الله لأهلها من الكرامة والنعيم المقيم، وقد أخبر الله أنَّ أهلَ طاعة الله وطاعة الرسول هُم من أهل الرحمة؛ قال - تعالى -: {وَالْمُؤْمنون وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]، وفي الدار الآخرة أخبر بما أعده للمؤمنين والمؤمنات من الخيرات، والنعيم المقيم في جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدًا، فقال - تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72].
وصَلَّى الله على محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــ
[1] "صحيح البخاري"، (يتخول): يتعاهد، (السآمة): الملل والضجر.
[2] أخرجه أبو داود وغيره مطوَّلاً ومختصرًا من حديث البراء - رضي الله عنه.
وللأخ بلقسام عبدالدائم بحثٌ حول الموعظة عند القبر، وقد خلص إلى ما أشرْنا إليه، تجده على موقِع أهل الحديث.
[3] حديث صحيح أخرجه الشيخان.
[4] رواه مسلم ح (2892).
[5] أخرجه البخاري (5661).
[6] متفق عليه.
[7] العرباض بن سارية في سنن الترمذي - رقم (2676)، وهو حسن صحيح.
[8] الحديث رواه البخاري في صحيحه، وفي رواية للبيهقي: ((الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)).
[9] مدارج السالكين (2/479).
[10] من كتاب "الأنباء بأخطاء الخطباء" (ص: 60 - 78) بقلم سعود بن ملوح سلطان العنزي، قدَّم له الشيخ سُلَيم بن عيد الهلالي.
[11] كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد"، لابن القيم، وكتاب "الرحيق المختوم" بحث في السيرة النبوية من أفضل الكتب التي تفيد الواعظ، وتجعله مهتديًا مقتديًا بسنة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.
______________________________ ________________________
الكاتب: مرشد الحيالي
ابو وليد البحيرى
2022-05-13, 02:34 PM
كيف يتعامل الخطيب المبتدئ مع الخوف والارتباك..
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:
فإن سكون النفس، وطمأنينة القلب ثمرة لحسن الظن بالله، وقوة التوكل عليه، وتمام الثقة به جل وعلا، وكثرة ذكره: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، ومن أيقن يقينًا راسخًا أن الله تعالى معه، وأنه أرحم به من أمه، فسيحسن الظن بربه، ولن يتشاءم بالسوء أو يفكر في الفشل والإخفاق، ولن يحزن على العواقب مهما ساءت، لأنه راضٍ عن الله وما يأتي منه، ولا شك أن فقد هذه الأشياء أو نقصها سيثير الخوف والارتباك، وسيقود إلى الإخفاق، مما يعطل الطاقات، ويوقف الإنجازات، وأكثر الناس إنما يُؤْتَون من قِبل أنفسهم؛ وصدق من قال: "ما يبلغ الأعداء من جاهل، ما يبلغ الجاهل من نفسه".
فكم من الإنجازات أحبطت! وكم من المشاريع تعطلت! وكم من الناس توقفت بسبب الخوف والانهزام النفسي، وعدم إدراك الشخص مقدارَ ما أودع الله فيه من طاقات وقدرات فائقة، وإمكانيات عالية متنوعة، ومهارات مذهلة رائعة، لو استعان بالله تعالى وأحسن توظيفها واستثمارها لحقق ما يريد، ولجاء بالمدهش العجيب!
أما بعد:
فإلى كلِّ من عزم على السير في هذا الطريق النوراني المبارك:
اعلم - أخي الكريم - أن الخوف من خوض التجارب الجديدة أمر "طبيعي"، يشعر به الجميع؛ تأمل: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67]، وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]، لكن هذا الخوف "الطبيعي" يتفاوت من شخص لآخر، فيبلغ عند البعض الحد الذي يبث فيه حماس التحدي، ويحفزه للاستعداد، وهذا هو الخوف الإيجابي النافع، ويبلغ بآخرين درجةً تجعله يؤثر الهروب والانسحاب، وهذا هو الخوف السلبي الضار، والذي عطل الكثيرين عن نفع أنفسهم وأمتهم.
إذًا؛ فالخوف الذي يعتري الجميع قبيل لقاء الجماهير هو خوف طبيعي، وأمر إيجابي مفيد، إن كان سيولد في الإنسان طاقةً وحماسًا يدفعانه لأن يستعد جيدًا، وأن يبذل قصارى جهده لتطوير نفسه، وليؤدي المهمة على أحسن وجه، أما إذا تجاوز هذا الخوف حده (الطبيعي)، فسيتحول إلى قيد يكبل صاحبه، ويجعله يتراجع وينسحب، ثم اعلم - وفقك الله لكل خير - أن للخوف السلبي عدة مصادر:
الأول: هو الخوف من تكرار تجارب أليمة حدثت في الماضي، تجعله يخاف وينسحب؛ لكيلا يتكرر معه نفس الألم، ومثاله: الخوف من أسلاك الكهرباء، ومن الأشياء الحارة والمواد الحادة، ومن المرتفعات والمنحدرات، وغيرها من الأشياء الخطرة.
والثاني: هو الخوف من المجهول وخشية الوقوع فيما لا يستطيع الإنسان مواجهته، ومثاله: الخوف من الظلام والأمكنة المهجورة.
وهناك مصدر ثالث للخوف: وهو الخوف من النقد وكلام الآخرين - وهذا أمر لا يسلم منه أحد - لكن الموفق هو من يستفيد من النقد الإيجابي، ويتغافل عن النقد السلبي.
وعلى كل حال: فالخوف نعمة من الله وفضل، فبه ندافع عن أنفسنا، وبه نشعر بالخطر؛ فنحتاط ونسلم، إنه طاقة إيجابية تساعدنا على البقاء؛ وسببه إفراز أجسامنا لهرمون الأدرينالين بمجرد شعورنا بوضع غير آمن، فطب نفسًا أنك تمتلك مثل هذا الهرمون الرائع النافع.
وإذا كان من الطبيعي كما ذكرنا أن يشعر الجميع بشيء من الخوف والتوتر خصوصًا في البدايات، فلا شك أن هناك وسائل وأساليب مجربة، يمكنها - بفضل الله تعالى - أن تقضي على الخوف والتوتر، أو أن تخفف منه بدرجة كبيرة، وذلك بحسب درجة الأخذ بهذه الأساليب والوسائل:
الوسيلة الأولى: رسائل التفاؤل الإيجابية: فنحن نعلم من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه كان يعجبه الفأل، وفي أثر جميل: "تفاءلوا بالخير تجدوه"، فعلى الخطيب المبتدئ أن يعطي نفسه دفعةً قوية من التفاؤل وحسن الظن، وأن ينظر نظرةً إيجابيةً كلها استبشار وأمل، وأن يبتعد كليًّا عن التشاؤم وزعزعة الثقة وسوء الظن، وأن يحذر من الرسائل السلبية المحبطة: "أنا لا أستطيع أن ألقي أمام الآخرين"، "أنا لا يمكنني أن أعتلي المنبر"، "أنا لن أجرؤ على النظر في وجوه الناس"، إلى آخر هذه الأوهام والمبالغات، بل عليه أن يتخيل نفسه وقد أتم الإلقاء بكل نجاح، ويتخيل وجوه الناس وقد ارتسمت عليها مشاعر الإعجاب، ويرى نظرات الرضا تملأ وجوههم، ويسمع كلمات الثناء والدعاء، ويشعر بأيديهم وهي تصافحه وتسلم عليه، وهو مبتسم، فرِح، مسرور؛ إلخ.
وهكذا، فعلى كل مبتدئ بالذات، أن يعيش تلك المشاعر الإيجابية بخياله، وأن يترك عنه المشاعر السلبية المحطمة، فمن المعلوم أن الإنسان هو أول من يهزم نفسه.
الوسيلة الثانية: التدرج في الحديث أمام الأعداد الكبيرة، فيبدأ وحده أمام المرآة، ثم أمام اثنين، ثم خمسة، ثم عشرة، ثم عشرين، وهكذا حتى يتمكن من الحديث أمام الجمهور الكبير.
الوسيلة الثالثة: أن يختار الخطيب المبتدئ المواضيع السهلة (إعدادًا وإلقاءً)؛ كالحديث عن فضائل الأخلاق، ونعيم الجنة، وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو المواضيع التي يحبها الخطيب ويسهل عليه التعامل معها، وعليه أن يكثر من القصص الهادفة، فهي محبوبة عند كل الناس، قوية التأثير، سهلة التذكر، سهلة الإلقاء.
الوسيلة الرابعة: التغافل: فقد يخفى على البعض أن الخطيب المتوتر لا ينتبه له أحد، إلا إذا لفت هو الانتباه لنفسه، ولو استحضر الملقي حين إلقائه أن كل الحاضرين ينظرون له نظرةً أخويةً ودودة، وأنهم جميعًا يتمنون له التوفيق والنجاح، لسكنت نفسه، ولمرت الأمور بخير وسلام، دون أن يلاحظ أحد ما يعتلج في صدره من توتر وقلق.
أمر آخر مهم جدًّا، وهو أن جزءًا كبيرًا من الخوف والتردد سببه نقص الخبرة والتجربة، وليس نقص المهارة والمقدرة؛ بمعنى: إننا نخاف من الإلقاء ليس لأننا لا نستطيع أن نلقي، بل لأننا لم نمارسه ولم نتعود عليه، وهذا هو السبب فيما يسمى بالخوف الوهمي؛ حيث تؤكد دراسات كثيرة أن 90% من مخاوفنا مجرد أوهام وتخيلات، لا وجود لها إلا في عقولنا فقط، ولولا خشية الإطالة لذكرت بعض هذه الدراسات العجيبة، وعليه فلن يهزم الخوف والإحجام، إلا الجرأة والإقدام.
نعم أخي الفاضل، تأكد تمامًا أن السبيل الوحيد لتجاوز ما قد تشعر به من خوف طبيعي، هو أن تقتل وحش الخوف وهو صغير، وأن تحاول وتحاول، وأن تستمر وتواصل، وأن تكرر المحاولة حتى تنجح وتصل، ولا سبيل بغير ذلك.
تأمل جيدًا فالأسد، ومثله بقية السباع المفترسة، التي تعتمد في غذائها على الصيد، فهم لا ينجحون إلا في ربع أو خمس محاولاتهم للصيد فقط، ويفشلون في بقية المحاولات، ومع ذلك فإنهم لا يتوقفون عن تكرار المحاولة؛ لأنه لا سبيل للبقاء إلا بذلك.
ولو تأملت ما يجري في لعبة كرة القدم وما شابهها من الألعاب، فستجد أن نسبة الهجمات الناجحة؛ أي: التي تثمر أهدافًا، لا تتجاوز الثلاثة في المائة، بينما يمكن أن نطلق على بقية الهجمات بأنها فاشلة، ومع ذلك فإن طوفان الهجمات الفاشلة هذا، لا يتوقف أبدًا، لأنه لا سبيل للفوز إلا بذلك.
وهكذا يكون المشاركون في كل المسابقات الأخرى (السباحة والجري وركوب الخيل وسباق السيارات وغيرها كثير)، كلها تتدنى فيها نسب النجاح إلى حد كبير، ومع ذلك فلم يتوقف أحد عن المشاركة فيها بحجة الخوف من الفشل؛ لأنه لا سبيل للفوز والنجاح إلا بذلك، فإذا أردت أن تفوز وتحقق هدفك، فهذا هو قانون اللعبة: (واصل حتى تصل، وكرر محاولاتك، حتى تنجح وتحقق هدفك).
ذكر أن قائدًا عسكريًّا انهزم في إحدى الجولات الحربية، فانهارت معنوياته وقرر أن ينسحب ويلوذ بالفرار، ولكنه قبل أن يعلن انسحابه، شاهد من مكانه نملةً تحاول أن تحمل حبة طعام فتعجز، وكلما حملتها وسارت بها خطوةً أو خطوتين سقطت منها، ولكنها وبإصرار عجيب، كانت تعاود المحاولة من جديد، فتحمل الحبة ثانيةً وثالثةً ورابعةً، حتى أحصى لها أكثر من تسعين محاولةً، دون أن تستسلم أو تتوقف، وإلى أن تكللت مهمتها بالنجاح أخيرًا، وهنا التفت القائد المهزوم إلى نفسه قائلًا: وهل النملة أقوى مني إرادةً وعزيمةً؟ ثم عاد إلى جيشه المنهزم بنفسية أخرى، وأخذ يبث فيهم الحماس، والإصرار على الصمود، فكان يخسر جولةً ويكسب أخرى، وكلما خسر جولةً تذكر معلمته النملة وصمودها العجيب، ومحاولاتها المتكررة، فيحاول من جديد، ويكرر المحاولة مرةً بعد أخرى، حتى تحقق له النصر أخيرًا، وكسب الحرب كلها.
فلا تنسَ - أخي الخطيب - هذه المعلمة الـملهمة، وتذكر أنه لا يوجد شيء اسمه (فشل)، إنما يوجد شيء اسمه استسلام أو انسحاب أو توقف؛ لأنك عندما تكرر المحاولة، فقد تخطئ وقد تصيب، أما عندما تنسحب وتتوقف عن المحاولة، فلا مجال لأن تصيب أبدًا، وهذا هو الفشل الحقيقي.
ولأنك عندما تكرر المحاولة، فإما أن يتحقق لك النجاح والظفر، وإما أن تتعلم وتتطور، وتقترب من النجاح أكثر وأكثر، كرماة السهام، كلما صوبت أكثر، اقتربت من هدفك أكثر وأكثر.
إذًا، فواصل واستمر، ولا تخشَ الفشل ولو تكرر، فالفشل هو مدرسة النجاح، وكل الناجحين تخرجوا من مدرسة الفشل، وما ثَمَّ معصوم إلا الرسل، فمن الذي ما أخطأ قط، ومن له الحسنى فقط.
واصل واستمر، وكرر محاولاتك بلا يأس ولا استسلام، فكل النجاحات جاءت في المحاولة الأخيرة، ولو يعلم المنسحب، كم كان قريبًا من النجاح! لما استسلم ولما توقف.
واصل واستمر، ولا تحتقر نفسك وقدراتك، فأنت جوهرة حقيقية، والجوهرة لا تفقد قيمتها مهما تكرر سقوطها على الأرض.
واصل واستمر، وإن تعثرت فقُم، فإنما يتعثر الماشي فقط، أما الجالس فلا يتعثر، والماشي يوشك أن يصل إلى هدفه، أما الجالس فلن يبرح مكانه.
واصل واستمر، وإن قال لك المثبطون: لن تستطيع، فقل لهم: سأحاول، وإن قالوا: صعب ومستحيل، فقل لهم: سأجرب، وإن قالوا: جربت وفشلت، فقل لهم: طالما أستطيع المحاولة، فسأكرر حتى أنجح.
واصل واستمر، واعلم أن الوقت لم يفت بعد، لكي تكون ما ينبغي لك أن تكون، لكن ذلك يتطلب منك أن تبذل قصارى جهدك، وأن تبذل كل ما في طاقتك ووسعك، وأن تستثمر كل ما تمتلكه من إمكانيات، ومواهب وقدرات، فإذا فعلت ذلك فأبشر بعون الله وهدايته؛ فهو القائل سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
______________________________ _______________________
الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة
ابو وليد البحيرى
2022-06-18, 11:35 PM
دواعي قوة الخطيب
تنقسم دواعي قوة الخطيب إلى قسمين: أساسي، وفرعي.
القسم الأساسي منها كالآتي:
1 - استعداده الفطري: ويمكن له أن يقوي هذا الاستعداد وينمِّيه بالتدريب، وكثرة مزاولة الخطابة.
2 - اللسَن والفصاحة: ومنه حسن المنطق، وصحة إظهار الحروف، ثم قوة التعبير، واختيار الألفاظ.
3 - التزود بالعلوم من شتى الفنون: وهذا يساعده على الذي قبله ويمده في كل موقف وعلاج كل موضوع.
4 - حضور البديهة: وهي الَّتي تعينه على مواجهة الطوارئ حسَب مقتضيات المواقف المختلفة.
5 - معرفة نفسيَّة السَّامعين: ليتجاوب معهم ما أمكن؛ ولهذا العنصر أهمية كبرى؛ لأنه آذان السامعين، والنافذة الَّتي ينفذ منها إلى القلوب.
6 - العواطف الجياشة بمعاني الموضوع الذي تتناوله الخطبة: وإيمان الخطيب بفكرته، وثقته بنجاحه.
والعاطفة خاصة هي الطاقة الَّتي تحركه، والقوة الَّتي تدفعه، كما أن إيمان الخطيب بفكرته هو الأساس الذي يرتكز عليه، والدعامة الَّتي يقوم عليها بين الجماهير، وثقته بالنجاح هي الرابطة بين موضوعه وشعور الجماهير.
أما العوامل الفرعية، فهي عوامل شكلية تكسب الخطيب هيبةً ووقارًا تدعم موقفه منها:
1 - حُسن سَمْتِه: مما يَلفِت الأنظار إليه ويُعلِي قدره قبل تحدثه.
2 - رَوعة إلقائه: وتكييف نبرات صوته، وحُسْن جَرسِه مما يستولي على أسماع الحاضرين.
3 - حسن إشارته: ومجيئها في مواضعها عند الحاجة.
4 - إخلاصه، وسمو أخلاقه، وحسن سيرته: وخاصَّة في الخطابة الدينية، وقد سمع الحسَن البصري رحمه الله خطيبًا، ولم يتأثر به فقال: "يا هذا، إن بقلبك لشرًّا أو بقلبي".
وأخيرًا؛ مراعاة كل ما يلزم قبل الإقدام على الخطابة.
عيوب الخطابة، وما ينبغي للخطيب تجنُّبه
تنقسم العيوب في الخطابة إلى قسمين:
1 - قسم خَلْقي: في الخطيب يتعلق بالنطق، كاللثغ، والفأفاة، والتأتأة.
أ - واللثغ: هو تغيير بعد الحروف كالراء ينطقها غينًا أو ياء أو بينهما، ويرى كبار العلماء أنه أخفها بل ويستعذبها بعض الناس ويعدها الجاحظ من (محاسن النبلاء والأشراف)، وواصل بن عطاء من كبار الخطباء وكان ألثغ في الراء، فكان يحاول مجانبتها باستعمال كلمات خالية من الراء بدلاً مما هي فيها.
ومن طريف ما ينقل عنه في بشار بن برد يرد عليه قال: "أما لهذا الأعمى الملحد المشنَّف المكنَّى بأبي معاذ مَن يقتله، أما والله، لولا أن الغيلة سجيَّة من سجايا الغالية لبعثت إليه من يَبْعَج بطنه على مضجعه، ويقتله في جوف منزله أو في حفله"، فتراه قد جانب الراء في (بشار)، وفي (المرعث)، وفي (ابن برد) واستبدلها بأوصافه المشنَّف، أبي معاذ، واستعمل (الملحد) بدلاً من (الكافر)، واستعمل (بعثت) بدلاً من (أرسلت)، و(يبعج) بدلاً من (يبقر)، و(مضجعه) بدلاً من (فراشه)، و(منزله) بدلاً من (داره).
ومثل ذلك ما حُكِيَ من أن بعض الناس أراد إحراجه وهو يخطب فناوله ورقةً مكتوب فيها: "أمَرَ أمِيرُ المؤمِنِين بِحفر بئر على قارعة الطريق؛ ليرِدَه الجائي والرائح"، فتناولها وعلم المقصود منها لكثرة الراء فيها، فقال: "حكم الخليفة بشق جب على جانب السبيل ليتزود منه الجائي والغادي"، ومثل ذلك وإن كان لا يخلو من الصنعة إلاَّ أنه يعطي صورة لمحاولة تجنُّب اللثغة في الخطابة.
ب - والفأفأة: كثرة ظهور الفاء في الكلام لثقل في اللسان، ومثلها التأتأة، وبعض الناس يظهر ذلك في نطقه العادي، فإذا أخذ في الخطابة، قل ظهوره في كلامه، إما لحماسة، أو لسرعة إلقائه، أو لشدة عنايته.
2 - وقسم عارض أثناء الخطابة: كالحصر، والإعياء، والاستعانة.
أما الحصر: وهو احتباس اللسان عن الكلام، فقد يطرأ على الخطيب بسبب الدهشة مما يفجأ نظره أو سمعه، أو بالحيرة مما يواجهه أو يتوهمه، قال أبو هلال العسكري: "الحيرة والدهشة، يورثان الحبسة والحصر، وهذا من أخطر المواقف على الخطيب، سرعان ما تظهر آثاره على وجهه، فيشحب لونه، ويتصبَّب عرقه، ويجف ريقه، وربما دارت رأسه، وطنَّت أذنه، وخارت قواه، وقل أن يوجد لهذه الأزمة حلٌّ إلاَّ جَلَدَ الخطيب وقوة شخصيته، وخير وسيلة لتدارك موقفه، إما بالجلوس وتناول شيء من الماء، أو طلبه إن لم يكن موجودًا، ولو لم تكن لديه شدة حاجة، وإما بتناوله كتابًا أو جريدةً أو أوراقًا يقلب صفحاتها، أو قلما يتأمل فيه، أو أي شيء يتشاغل به نسبيًّا، حتى تذهب عنه الدهشة، وهو في أثناء ذلك يعالج بفكره افتتاح الكلام، ولو أن يقرأ فاتحة الكتاب، ومن هنا كانت قوة شخصية الخطيب وإعداده للخطبة أقوَى عدة لنجاح الخطابة.
وقد يسعف الخطيب عبارة موجزة تغطي الموقف فيكتفي بها، وكأنه ما أراد إلاَّ هي فيحسن التخلُّص من المأزق بها.
صور من ذلك:
1 - في أول خلافة عثمان رضي الله عنه صعد المنبر ليخطب الناس فأرتج، فقال: "أيها الناس، إن أول مركب صعب، وإن أَعِشْ تأتكم الخطب على وجهها، وسيجعل الله بعد العسر يسرًا"[1]، هكذا يروي علماء الأدب، وابن كثير يقول: "لم أجد ذلك بسند تسكن النفس إليه"[2].
2 - ما ينقل عن ثابت بن قطنة على منبر سجستان يوم الجمعة، وقد أحصر، فقال: "سيجعل الله بعد عسر يسرًا، وبعد عِيٍّ بيانًا، وأنتم إلى أميرٍ فعالٍ أحوج منكم إلى أميرٍ قوَّال:
فَإنْ لا أكُنْ فِيكُمْ خَطِيبًا فَإنَّنِي ♦♦♦ بِسَيْفِي إذَا جَدَّ الْوَغَي لَخَطِيبُ
فكان اعتذاره أبلغ من خطابة غيره، حتى قال خالد بن صفوان لما بلغه خبره: "والله ما علا ذلك المنبر أخطب منه في كلماته هذه".
3 - وقال المبرد: حُدِّثْتُ أن أبا بكر رضي الله عنه ولَّى يزيد بن أبي سفيان رَبْعًا من أرباع الشام، فرقي المنبر فتكلم فأُرْتِجَ عليه، فاستأنف فأرتج عليه، فقطع الخطبة، فقال: "سيجعل الله بعد عسر يسرًا، وبعد عي بيانًا، وأنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال"، فبلغ كلامه عمرو بن العاص، فقال: "هن مخرجاتي من الشام، استحسانًا لكلامه".
4 - وقد يسعف الخطيب نفسه بحسن تصرفه في مال أو نحوه، كما فعل عبدالله بن عامر بالبصرة، لما أرتج عليه يوم العيد، فقال: "والله، لا أجمع عليكم عيًّا ولؤمًا، من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها علي".
وعلى الخطيب أن يحتال ليخلص نفسه ولا يُرمَى بما يجري على لسانه بدونه أن يزنه، فقد يوقع نفسه في أسوأ مما هو فيه، كما وقع من مصعب بن حيان، دُعي ليخطب في نكاح فأرتج عليه، فقال: "لقنوا موتاكم (لا إله إلاَّ الله)"، فقالت أم الجارية: "عجل الله موتك، ألهذا دعوناك".
وقريب منه ما وقع لعبدالله العشري لما أرتج عليه، وهو على المنبر، فقال: "أطعموني ماء"، فعُيِّر بذلك؛ لاستعماله أطعموني بدل اسقوني.
أما الاستعانة، فهي: ما يتحيَّل به الخطيب لاستجداء فكره وكلامه، وقد يصبح عادة، وهو لا يدري.
من ذلك أن يعبث بأصابعه أو مسبحته أو أنفه أو لحيته أو عمامته... إلخ، أو أن يأتي بعبارات ليست ذات معنى جديد: إما إعادة لعبارات مضت، أو قوله كمثل: "علمتم، أيها الناس، اسمعوا ما أقول، أفهمتم ما مضى؟" قال رجل للعتابي: ما البلاغة؟ فقال: كل ما أفهمك حاجته من غير إعادة، ولا حبسة ولا استعانة، فهو بليغ، قال: قد عرفت الإعادة والحبسة، فما الاستعانة؟ قال: أن يقول عند مقاطع كلامه: يا هناه، ويا هذا، ويا هيه، واسمع مني، واستمع إلي.
قال المبرد (1/ 19): أما ما ذكرناه من الاستعانة فهو: أن يدخل في الكلام ما لا حاجة بالمستمع إليه؛ ليصحح به نظمًا أو وزنًا إن كان في شعر، أو ليتذكر به ما بعده إن كان في كلام منثور، كنحو ما تسمعه في كثير من كلام العامة، مثل قولهم: ألست تسمع؟ أفهمت؟ أين أنت؟ وما أشبه هذا، وربما تشاغل العيِيُّ بفتل أصابعه، ومس لحيته، وغير ذلك من بدنه، وربما تنحنح، وقد قال الشاعر يعيب بعض الخطباء:
مَلِيءٌ بِبَهْرٍ وَالْتِفَاتٍ وَسَعْلَةٍ ♦♦♦ وَسَمْحَةِ عَثْنُونٍ وَفَتْلِ الأصَابِعِ
وقال رجل من الخوارج يصف خطيبًا منهم بالجبن، وأنه مجيد لولا أن الرعب أذهله:
نَحْنَحَ زَيْدٌ وَسَعَلْ *** لَمَّا رَأى وَقْعَ الأسَلْ
وَيْلُمِّهِ إذَا ارْتَجَـلْ *** ثُمَّ أطَالَ وَاحْتَفَـلْ
قوله (ويلمه)، أي: ويل لأمه، عبارةُ تعجب، أي: إذا ارتجل كان فصيحًا وأطال واحتفل، ولكنه نحنح وسعل لما رأى وقع السلاح.
وقد يتعود الخطيب بعض تلك الأشياء، فتصبح ملازمة له بدون حاجة، فليحذر المتكلم التعود عليها، وأحسن طريق لتجنُّب هذه العيوب، هو حسن التحضير، والإيجاز في التعبير، والتمهُّل في الإلقاء، حتى يكون كلامه بقدر ما يسعفه تفكيره.
[1] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 62)، وضعَّفه مشهور سلمان في كتابه (قصص لا تثبت 2/ 72) بأن في إسناده الواقدي وهو متروك.
[2] البداية (7/ 148)، (حاشية في الأصل).
______________________________ ____________________
الكاتب: الشيخ عطية محمد سالم
المصدر: كتاب: "أصول الخطابة والإنشاء".
ابو وليد البحيرى
2022-06-30, 11:36 PM
مميزات الخطيب الناجح (1/2)
الخطابة فنٌّ قديم، نشأ قبل الإسلام، ولها من التأثير ما هو أقوى من تأثير الكلمة المقروءة، وقد كان النَّاس في الجاهليَّة يتجمَّعون في سوق عكاظ، ويتبارى الشعَراء والوعاظ في إلقاء ما عندهم من شعرٍ ونثرٍ، ولَمَّا جاء الإسلام زادَها جمالاً، واشترط لها شروطًا، وأوجب حضورها على كل مسلم مكلَّف، وألزم المسلمين بالإنصات لها، واشترط لها الوقت، إلى غير ذلك من أمور موجودة في كتب الفقه[1].
ولما كانت الخطابة بهذه المثابة والأهمية، فإن ثمَّة ملاحظاتٍ يجب على الواعظ ملاحظتُها في حال خطبتِه؛ ليصل إلى ما يصبو إليه، وهي ما يأتي:
أولاً: الإكثار من الآيات القرآنية؛ ففيها الوعْظ والشِّفاء، ثم الاستدلال بالمأثور من الأحاديث الصحيحة، وتجنُّب الأحاديث المَوْضُوعة، ففي دواوين المسلمين مثل: "صحيح البخاري"، و"مسلم"، و"الترمذي"، و"النسائي"، وغيرهم، المرغِّبة في الجنة، والمخوِّفة من النار - ما يغني عن رواية الأحاديث الموضوعة، ولقول سيِّدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - : «مَن كذب علي متعمدًا، فلْيَتَبَوَّأ مقْعده من النار» [2].
ثانيًا: الاستعانة بالقصص الواردة في القرآن والسنَّة وربطها بالواقع؛ مثل: قصَّة إبراهيم الخليل مع أبيه، وقصَّة أصحاب الكهف وما فيها من العبر والعظات، وفي الحديث: مثل قصَّة الذي قَتَل مائة نفس في باب التوبة، وغيرها من القصص، ولا بأس من الاستعانة بضرْب الأمثال وتصوير المعاني بأشياء محسوسة من الواقع من أجل تقريب المعاني إلى الأذهان؛ مثل: تمثيل رحمة الله بالعبد، وأنه - سبحانه - أرْحَم منَ الوالدة على ولدها[3]؛ ولذلك دعاه للتوبة وقبلها منه، وأنه لو شاء أخذه بذنبه، وعجَّل له العقوبة في الدنيا، ولكنه - سبحانه - يمهل ولا يهمل.
ثالثًا: عدم إطالة الخطبة؛ لأنها تورِث المَلَل والسآمَة، وإطالة الخطبة في الغالب تنشأ مِن أمرَيْن:
الأول: إعجاب الخطيب بنفسه، وأنه قد أضاف شيئًا إلى معلوماتهم.
والثاني: السهْو والنِّسيان، ولكن يجب أن نذكِّر بأنَّ الأمَّة الإسلامية قد طالتْ مِحنتها، وحاجتها إلى كلام قليل مؤثِّر أعظم من حاجتها إلى الكلام الطَّويل، وليس هناك أعظم مَوْعِظة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أوتيَ جوامع الكلم، ورغْم ذلك فقد ثبت عنْه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: «إنَّ طول صلاة الرَّجل وقصر خطبته مئنَّة من فقهه» [4]، وفي الحديث: "وعظنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا بعد صلاة الغداة موعِظة بليغة، ذرفت منها العُيون ووجلت منها القُلوب، فقال رجل: إنَّ هذه موعِظة مودِّع ......."[5].
والبلاغة - كما قال العُلماء -:
هي التوصُّل إلى إفهام المعاني المقصودة وإيصالها إلى قلوب السَّامعين، بأحسن صورة من الألْفاظ الدالَّة عليْها، وأفصحها وأجلّها لدى الأسماع، وأوْقعها في القلوب، ولكن ترى ما هي الموْعظة البليغة القصيرة التي أثَّرت في قلوب الصَّحابة، فذرفت لها عيونُهم ووجلت لها قلوبهم؟ لقد قال لهم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أُوصيكم بتقْوى الله والسَّمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنَّه مَن يعِش منكم بعدي فسيرى اختِلافًا، فعليْكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين من بعدي، تَمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومحْدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعة وكلَّ بدعة ضلالة» [6].
لقد دلَّت موْعِظة رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - على شيءٍ أقره العلم النفسي الحديث، وهي أنَّ الطَّاقة الذهنيَّة للإنسان محْدودة، لا يمكن في العادة أن تُتابع الكلام بانتباه طويل لأكثر من 15 دقيقة، وبعدها تُصاب بالشُّرود والتَّعب، ويتمنَّى المستمع حينئذٍ أن يستريح ذهنُه حتَّى يجد أمرًا، أو مشوقًا آخَر.
فينبغي أن يكون كلام الخطيب جامعًا موجزًا، صادرًا من قلْب صادق، وتفكيرٍ هادئ، وألا يحول بيْنه وبين المستمِعين أي حائل نفسي سوى مراقبة الله والخوف منه؛ ولهذا ينبغي عليه قبل الشُّروع في الخطبة وارْتقاء المنبر تصفية نفسِه ممَّا علق بها من شوائب وأكْدار، وتَهذيبها من العلائق، والدُّعاء بصدقٍ أن يوفِّقه الله في وعْظِه، وأن يسدِّد كلامه، وأن يكون له وقْع طيب في الأسماع والقلوب.
رابعًا: من المستحْسن أن تبدأ الخُطبة بما يجلب انتِباه السَّامعين، من حادثٍ مهمٍّ وخبر ذي فائدة، ثمَّ يرْبطه بمعاني القرآن والسُّنن الكونيَّة، ثمَّ على الخطيب بعد ذلك أن يَمضي مسترْسِلاً في وعْظه، ويقرن بين التَّبشير والإنذار، ويتخيَّر من الحوادث ما يكون محْور وعظِه، ومدار خطبته، ثمَّ يخرج بعد ذلك العرض بحلٍّ شرْعي ممَّا استجدَّ من حوادث، وما حلَّ بالمسلمين من ضِيقٍ وبلاء، ويذكِّرهم دائمًا بأنَّ المخرج من ذلك كلِّه هو طاعة الله وطاعة رسولِه وأولي الأمر، فهو سببٌ لسَعادة الدُّنيا والآخرة.
خامسًا: من المهمِّ جدًّا أن يكون موضوعُ الخُطبة واضحًا في ذهن الخطيب، وأن تكون المادَّة العلميَّة التي يُراد طرْحها وتعْريف النَّاس بها حاضرةً في الذِّهن قبل الشُّروع في الخطبة، ويُمكن اتِّخاذ الوسائل والتَّدابير لذلك، مثل تدْوين رُؤوس المسائل والخطوط العامَّة في "ورقة صغيرة" يرْجع إليْها عند الحاجة؛ حتَّى لا يتحرَّج فيخْلط بعدها في كلامه، أو يستطْرِد في أمرٍ لا علاقةَ له بصلب الموضوع، فيفقد هيْبته في القلوب.
سادسًا: على الخطيب أن يَحذر من ذِكْر ما يُساء فهمه من الآيات والأحاديث، دون أن يُلْقِي عليْها الضَّوء من شرْحٍ أو تعْليق ليزول[7] الإشْكال، مثْل ذِكْر الأحاديث الَّتي فيها أنَّ الله أدْخل الجنَّة مَن سقى الكلْب[8] - وكان صاحب معصية كبيرة - فغفر له، فيظن الظَّانُّ أنَّ مجرَّد هذا العمل يدخِل الجنة دون توبة أو رجوع إلى الله.
سابعًا: هناك أمور ينبغي على الخطيب الانتِباه إليها، وهي إن كانت بسيطة لكنَّها هامَّة تجعل الخطيب يَملك زمام الأمور، ويأخُذ بناصية المواقف، وتَمنحه قوَّة الشَّخصية:
مثل هندسة الصَّوت، فلا يرفع صوته لغير حاجه، ولا يكون بطيئًا فتملّه الأسْماع.
ومنها أيضًا عدَم الإكثار من الإشارة بدون سببٍ، فيكون حالُه كالممثِّل على خشبة المسرح، بل يتمَّ توزيع ذلك باعتِدال تامٍّ أمام الحاضرين.
ومنها الالتفات المعقول، فلا يشير إلى أحد بعينه أو طائفةٍ من النَّاس وهو يتكلَّم مثلاً عن المنافقين أو الكافرين؛ لئلاَّ يقع في سوء الظَّنّ.
وهناك أمور تتعلَّق بالخطيب نفسه وما ينبغي أن يكون عليه من صفات وأخلاق، نشير إليها بإيجاز، ومنْها:
• أن يدْعو بالحِكْمة والموعظة الحسنة، ويتسلَّل إلى قلوب الحاضرين، فيصِل إلى ما يُنْكِرون من حيث لا يشْعرون، فيشتدّ في مواضع الشدَّة، ويلين في مواضع اللين.
• أن يكون الخطيب عالمًا بسائر الأحكام الشرعيَّة، ومسائل الخلاف ومدارك العلماء، ومن أين أخذوا؛ ليتمكَّن من الإجابة على أسئِلة النَّاس على بيِّنة، خاصَّة في مسائل العبادات والمعاملات.
• أن تكون له مهابةٌ في القلوب، فيستعمل خلق الورَع والخوف من الله كما هو دأب أوْلياء الله الصَّالِحين، فلا يرتكِب كبيرةً أو يصرّ على صغيرة؛ حتَّى تعظِّمه النفوس وتنقاد إلى سماعِه الأبدان.
• أن تكون له معرفة قويَّة باللُّغة العربيَّة، مثل علم الإعراب، وعلم الأساليب (المعاني والبيان والبديع)، وهذا يَحصُل بِممارسة الكلام البليغ ومزاولتِه؛ حتَّى تكون له ملَكة على تأليف الكلام وإنشائه، فيعبِّر عن المعاني العديدة بألْفاظ وجيزة.
لقد كانت عمليَّة الخطابة عند فقهائِنا الأجلاَّء تسدُّ أكثر الثَّغرات في المجتمع المسلم، وتُعالج معظم الانحِرافات العقديَّة والاجتِماعيَّة، بفضل ما كان عليه علماؤُنا من خلُق ودين وورَع، ولما كان الخطيب نفسه يتمتَّع به من شخصيَّة مؤثِّرة في قلوب مَن يُخاطِبهم.
مقترحات وتوصيات:
في بلاد الإسلام - ولله المنُّ والفضل - آلافُ المساجد يَحضُرها كمٌّ هائل من المصلِّين، فلو فكَّرت وزارات الأوْقاف في تلك البلاد في تهْيئة كادر من الخُطباء والوعَّاظ، تتوفَّر فيهم الصِّفات المؤهّلة لشغل تلك الوظيفة الهامَّة، وبعد تفكيرٍ رأيتُ أنَّ أسلم طريق، وأنْجح وسيلة في تكوين الخُطَباء هي اتِّباع ما يلي:
أوَّلاً: أن تقوم تلك الهيْئات الرَّسميَّة بتربية الخطيب، من خِلال حثِّ الخطباء على إتقان القرآن على يدِ مقْرئ متْقن، وبعد تحصيل العلوم الأوَّلية التي تنمِّي الموهبة، وتنشط العقل، وتفتق الذِّهن.
ثانيًا: توجيه الخُطباء إلى قراءة ما يتعلَّق بكتُب الأدَب - وخاصَّةً الشعرَ والنثر - وإجادة الخط العربي؛ لما لذلك من أهمية في شخصيَّة الخطيب وتأثيره على المستمعين.
ثالثًا: الاهتِمام بقواعد اللُّغة العربيَّة من النَّحو مع التَّطبيق العملي لآيات القرآن؛ إذْ لا يحسُن بالخطيب أن تظهَر منه أخطاء لغويَّة وهو يعتلي المنبر ويوجِّه النَّاس.
رابعًا: أن يطلب من الخطيب أن يُكْثِر من تِلاوة القرآن، مع الاستِعانة بفهْم القرآن وتدبُّر معانيه، ومِن خلال قراءة كتُب التَّفسير المعتمَدة، ثمَّ يعوَّد على الاستقلالية في الفهْم والتَّصوُّر المبني على الكِتاب والسنَّة؛ من أجل تقْريب معاني القرآن إلى أذْهان النَّاس وبأسلوب العصر.
خامسًا: على الخطيبِ أن يُضيف إلى رصيدِه المعرفة التَّامَّة بسيرة الرَّسول الأعظم وسنَّته القوليَّة والفعليَّة، وذلك من خِلال قراءة ما يتعلَّق بكتُب السِّيرة، ومِن أعظمِها نفعًا كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم - رحِمه الله تعالى - ودراسة ما يتعلَّق بمصطَلح الحديث؛ ليتمكَّن من معرفة صحَّة الحديث، مع دِراسة فقْه الحديث من كتاب "بلوغ المرام شرح أحاديث الأحكام"؛ ليتمكَّن من الإجابة على الأسئِلة التي تعرض عليه.
سادسًا: دِراسة أحوال البشر، فقد بيَّن الله في كِتابه كثيرًا من أحْوال الخلق وطبائِعهم، والسُّنن الربَّانيَّة في البشَر وتقلُّبات الأحوال، يقول محمَّد رشيد رضا: "فلا بدَّ للنَّاظر في هذا الكتاب – أي: القرآن - من النَّظر في أحوال البشَر في أطوارهم وأدْوارهم، وما ينشأ من اختِلاف أحْوالهم من ضعف وقوَّة، وعزَّة وذُل، وعلم وجهْل، وإيمان وكفر"[9]، كلُّ ذلك من أجل أن يتمكَّن الخطيب من اقْتِلاع الأمراض القلبيَّة والاجتِماعية من نفوس المجتمع، ولا بأس مع ذلك من أن يتعلَّم بعض الظَّواهر الكونيَّة، وذلك بدِراسة العلوم الَّتي تبصِّره بنظام الكوْن وسنته، فيستدلُّ بآيات القرآن على وحدانيَّة الله وربوبيَّته للخلق.
سابعًا: إعداد خُطباء مهمَّتهم تذكير النَّاس في الميادين العامَّة والمتنزهات الجامعة؛ لأنَّ قصر الخطبة على أيَّام الجمع يكون قليلَ الفائدة، وقد كان من هدْي الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أن يخطب في غير أيَّام الجمع ما دعت إليْه الحاجة، أو حصول أمرٍ مهمّ يُحب التَّنبيه إليْه أو التَّحذير منْه.
ثامنًا: أن تقومَ تلك الهيْئات بِمتابعة الخُطَباء في مساجِدِهم، والاستِماع إلى شكْواهم، والاستِماع إلى مواعظِهم والتنبُّه لأخطائهم، ويؤمروا ألاَّ يتكلَّموا بِما يعلو أذهان النَّاس، أو لا يناسب مستوياتِهم وواقعهم، فالخُطبة إنَّما شرعتْ لتذكير النَّاس بشؤون المعاد والآخِرة، ولا بأس من التطرُّق إلى مواضيع تخصُّ حياة النَّاس العمليَّة والمعيشيَّة، ومعالجتها على ضوْء القرآن والسنَّة.
[1] انظر: "توضيح الأحكام من بلوغ المرام" جزء 2 ص561، وما بعدها.
[2] صحيح رواه البخاري (1291)، ومسلم (4)، وروي الحديث بغير هذا اللفظ، انظر رقم: 2142 في صحيح الجامع.
[3] المصدر: "مجموع الفتاوى"، الصفحة أو الرقم: 16/ 299، والحديث: صحيح.
[4] الحديث رواه عمار بن ياسر، المحدث: مسلم، المصدر: المسند الصحيح، الصفحة أو الرقم: 869.
[5] الترمذي، المصدر: سنن الترمذي، الصفحة أو الرقم: 2676 والحديث: حسن صحيح.
[6] المرجع السابق.
[7] استفدت بعض الشيء من كتاب "أصول الدعوة" للدكتور عبدالكريم زيدان، ص471، في النقاط الأخيرة الخامسة والسادسة.
[8] البخاري، المصدر: "الجامع الصحيح"، الصفحة أو الرقم: 3467 الحديث: [صحيح].
[9] تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا:ج 1-ص 23.
______________________________ ________
الكاتب: مرشد الحيالي
ابو وليد البحيرى
2022-07-16, 11:27 PM
كيف تحضر خطبة ؟
قبل البدء في تحضير الخطبة لا بد من اعتبارات تمهيدية:
أولاً: اعرف مستمعيك:
أول خطوة في التخطيط للخطبة هي معرفة جمهور المستمعين فعليك مثلاً أن تعي طبيعة المجموعة التي ستتحدث إليها والقضايا التي تهم الحاضرين، ومن تحدث إليهم قبلك، وما مواقف المستمعين تجاه موضوع الحديث كما ينبغي التعرف على أي عناصر مشاكسة موجودة بين الحاضرين والعناصر الصديقة أو المتعاطفة مع آراء المتحدث.
ولتحقيق جو من الألفة والتواصل مع جمهور المستمعين، على المتحدث أن يصل مكان الاجتماع مبكراً، وأن يكون بين آخر المنصرفين هذا من شأنه أن يمكن المتحدث من التعرف على بعض الحاضرين واكتشاف العناصر الحليفة بينهم كما يوفر فرصة للتحدث إلى المعارضين والتعرف عليهم بصفة شخصية إذا دعت الحاجة إلى الإشارة إليهم بالاسم أثناء الحديث وإلى آرائهم كنوع من إبداء التقدير والاحترام لهم، ويمكن الاستفادة من ذلك لتعزيز وتقوية بعض النقاط التي سترد في الخطبة أو الحديث.
ثانياً: أكد مصداقيتك:
يستجيب الجمهور المستمع للمتحدث إذا اقتنع بمصداقيته ولتأكيد هذه المصداقية فإن على المتحدث أن يكون على دراية تامة بالموضوع الذي يتناوله، وأن يكون بإمكان مستمعيه أن يصدقوه فيما يطرح من أفكاره، وأن بكسبه تصرفاته حب الجمهور وإقباله عليه.
فعندما آن الأوان لأن يجهر رسول الله _عليه السلام_ لأهل مكة ببعثته وأن يبلغهم رسالة ربه وقف على جبل الصفا ودعاهم للتجمع ليخطب فيهم بأن قال: «يا معشر قريش، لو أخبرتكم أن جيشاً يوشك أن يظهر عليكم من وراء هذا الجبل فهل كنتم مصدقي» ؟ فقالوا: نعم، وذلك لأنهم لم يعرفوا عليه الكذب طوال أربعين عاماً، وبعد أن أكّد مصداقيته لديهم قال لهم: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب يوم شديد».
إعداد الخطبة:
نقدم فيما يلي أنموذجاً عاماً للخطبة، وقد لا يكون مناسباً في جميع الحالات، إذ قد تملي مناسبة خاصة أو يفرض موضوع ذو ملامح معينة أنموذجاً مختلفاً، ولكن الهدف يجب أن يكون دائماً هو إعداد خطبة متكاملة تنقل أفكار المتحدث بوضوح مع العناية بجذب اهتمام المستمعين وحسن إنصاتهم وتركيزهم.
1 – اختر الموضوع المناسب لخطبتك:
وحدِّد عنوانه وعناصره بدقة، وضع خطة شاملة له، مستحضراً الأسباب التي تجعلك تعتقد بأن هذه القضية هامة للمستمعين متيقناً ضرورة طرحها أمام الرأي العام، مع توضيح مرامي الخطبة.
2 – حلل الموضوع:
اشرح الخلفية التاريخية واذكر دروس الماضي، وَضَعْ الموضوع في إطاره العملي والواقعي، إن من أنجع الوسائل ترتيب المادة حسب المواضيع وليس على أساس زمني أو تاريخي، كما أنه من المهم أن يعرف الجمهور بوضوح لماذا أصبحت هذه القضية هامة في هذا الوقت خاصة.
3 – عرض الأمثلة:
اضرب أمثلة محددة إذا توافرت من الماضي الإسلامي وغير الإسلامي، أو قصصاً تصويرية أو لغزاً أو شعاراً، وناقش ما اقترح من حلول لوقائع تاريخية مشابهة وما حققته تلك الحلول من نجاح أو إخفاق أما إذا كانت القضية جديدة تماماً فناقش أوجه الشبه أو التباين بينها وبين حالات سابقة.
4 – شخص المشكلة واقترح الحلول:
ابدأ بتشخيص المشكلة بشكل إبداعي مستشهداً بالآيات القرآنية التي تعين في التحدث عن الحل، وارجع إلى السنة الشريفة لمزيد من التوضيح، افحص إمكان تطبيق المبادئ القرآنية في واقع المسلمين اليوم، وخذ في حسابك ما طرح من اجتهادات في تفسيرها كمحاولة للتوصل إلى الحل، وقدم اقتراحات لحلول جديدة في إطار مقاصد الشريعة الغراء حين لا توجد النصوص المباشرة في القضية محل البحث.
5 – الخاتمة:
هناك فرعان للخاتمة، أحدهما: علمي منهجي، والثاني: تربوي، يشتمل الأول على:
- تلخيص أساسيات الموضوع في نقاط محددة لا تتجاوز الخمس كي يسهل استيعابها واستذكارها.
- أهم النتائج العلمية والعملية التي تمخضت عنها الخطبة.
- فتح آفاق جدية للبحث والتأمل.
أما الثاني التربوي فهو أن تختتم حديثك بثلاث نقاط:
- التواضع وهو تاج الحكمة والاعتراف بقصور العلم البشري مهما اتسع.
- التفاؤل والتأكيد على أن الله _سبحانه وتعالى_ قد جعل لكل شيء سبباً ولكل داء دواء وأن الأمة قادرة على اكتشاف تلك الأسباب والأدوية وإقامة مجتمع أفضل.
- التقدم بالشكر والتحية للمنظمين وللمستمعين.
______________________________ __________________
الكاتب: إسلام داود
ابو وليد البحيرى
2022-08-14, 11:54 AM
فن الإلقاء
نتناول في موضوعنا هذا فنَّ الإلقاء، ونُجمِل عناصره في نقاط ثلاث:
1-الثقة بالنفس: الثقة بالنفس لازمة في كل الميادين، إنما هي في فن الإلقاء أهم وألزم؛ لأنها هي التي تمنح مُلقي الخطاب راحة تامة، وتُشعره أنه مسيطر على موضوعه بشكل كامل، ويحس أنه قادر على المضي في موضوعه بثقة وثبات.
2-إجالة النظر:للإلقاء فنيَّات، أهمها إجالة النظر في الحاضرين، والنظر في أعينهم؛ لأن هذا يشعرهم أن لهم قيمة لدى مُلقي الخطاب، وأنه يتوجه إليهم بالكلام، وأنه يشعرهم أن فَهْمَ ما يقول أساسي وضروري إلى حدٍّ بعيد.
3-المادة العلمية:إن لم يملك مُلقي الخطاب مادة علمية محترمة، فإن لا قيمة لخطابه؛ لأن الحاضرين يلتمسون منه الحصول على معلومات، والخروج بالفائدة المرجوَّة من الجلسة، فالتحضير الجيِّد وتسجيل الملاحظات وترتيب الأفكار أساسي في إراحة مُلقي الخطاب، وتقديمه لمادته العلمية.
لإلقاء الخطاب فنيَّات، تناولنا صورًا عنها، والأكيد أن تنمية جوانب الشخصية، ومن أهمِّها "الثقة بالنفس" حاسمٌة بشكل كبير فيها.
______________________________ _____________
الكاتب: أسامة طبش
ابو وليد البحيرى
2022-08-26, 08:47 PM
أخطاء الإلقاء
د. نزار نبيل أبو منشار
الكلام كثير، واللغة العربية ثرية بمفرداتها، ومع ذلك، ليس كل من جمع الكلمات خطيباً، ولا يقال عن كل قائل: مؤثر.
المتحدثون من غير ذوي الخبرة، أو الذين يمارسون الخطابة فجأة، يقعون في مجموعة من الأخطاء يجدر التنبه لها.
١. عدم الاستعداد، فمن باب إنزال الناس منازلهم كما أمرنا بشريعتنا أن تستعد لكل لقاء، وأن تتعب في انتقاء مفردات كلامك أمام الناس والجمهور الذي يستعد لسماعك. على أقل تقدير كن مستعداً لمن جاء مستعداً لك.
بادل الناس الاهتمام، لأنهم لو شعروا بإهمالك وعدم جاهزيتك فأنت تضع نفسك طوعاً في دائرة الشخصيات غير المرغوب بها في أذهان الناس، أو في إطار المتحدثين الذين يضيعون وقت الناس بما لا يجدي.
٢. العبوس: أنا لست مجبراً على الاستماع لشخص لا يبتسم في وجهي، أو أراه فأخاف من عبوسه، حتى بافتراض أن لسانه ينطق الحكم والدرر، فإن عبوسه يقول للجمهور: لا تكترث. والبسمة التي هي صدقة في ديننا، هي رسالة تآلف مع الجمهور أيضاً، وبها يتم طرق أبواب القلوب.
٣. عدم التعامل المنطقي مع حركات الجسد. كالتركيز على مكان دون آخر في مجال نظرك، وإكثار حركة اليدين بما لا يتطلبه المقام، وعدم الاهتمام بالزي الرسمي في جمهور يهمه ذلك. ونحو هذه الأمور مما يتصل بشخصية المتحدث والبعد النفسي عند المخاطبين.
٤. التركيز على أحد جناحي الطائر. وأعني بذلك التركيز على الصياغة اللفظية والبديع والجناس والطباق والمحسنات اللفظية على حساب القيم والمفاهيم المشمولة أو المقصودة في الخطاب، أو العكس تماماً؛ كالتركيز على القيم والمضامين الجامدة دون تقديمها للجمهور بقوالب مشجعة على الاستماع إليها وإعمال العقل فيها.
الوسطية والاعتدال، والصياغة الاحترافية، تعتمد بالمطلق على التوازن الفعلي بين هذا الجناح وذاك الجناح ليحلق طائر الخطبة.
٥. الإطالة المملة.. فكثير من المتحدثين يتبارون في قدرتهم على خطاب الجماهير لساعات طويلة، ولكنهم يتناسون أن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضا، وخير الكلام ما قلّ ودلّ.
وعلى المتحدث أن يعي بحق؛ أن أمامه شيخاً كبيراً، وامرأة لديها متطلبات في بيتها، وطفلاً يحب اللعب ولا يطيق الانتظار، ومريضاً لا يقوى على الجلوس كثيراً، وأناسا لديهم أعمالهم ومسؤولياتهم ولا يمكن أن ينشغلوا عنها كثيراً، فإذا اختصرت واختزلت مقولتك، فهموك وأحبوك، وإن أطلت عليهم سئموا منك ومن أفكارك.
٦. عدم التجديد، والاعتماد على الروتين. فهذا المتحدث قصصه معروفة والآيات التي يحفظها معلومة ومنذ خمس سنوات لم يخرج خارج هذه الأفكار، لماذا سيذهب إليه الناس؟
التجديد هنا؛ أن يقوم المتحدث بتجديد شخصيته ومقدرات خطابه ويحشد أفكاره الجديدة ويصوغ ذلك كله بمقدمة وعرض وخاتمة لم يسمعها الناس، حتى ولو من خلال تنميق وتغيير الصياغات، فالناس تمل التكرار، وتحب التغيير والتعرف على كل جديد.. ولذلك قيل: كن طازجاً تحفظ مكانك في السوق.
٧. عدم الخروج عن نطاقات الواقع المعروف.
لنفترض أن خطيب جمعة أو سياسي ما يقف بين الناس ويخاطبهم منذ سنوات بقضايا الواقع ويطرح رأيه فيه، أيهما أجدى برأيك؛ أن يجلب لهم شواهد السابقين وحكايات التاريخ وآثار الأقوام الأخرى أم يبقى في دائرة خطاب محصورة، كل ما فيها هو وصف ما يعيشه المتحدث والمخاطبون على حد سواء. هذا لعمري كما قال أحدهم قديما: وفسر الماء بعد الجهد بالماء، فما تشاهده يشاهده غيرك، وما سمعته سمعوه هم أيضاً .
٨. عدم تلوين لهجة الخطاب. الناس تحب أن تستمع لما يفيدها، أو يلبي لديها حاجة داخلية أو ميولاً معيناً، وهم ينظرون إلى كل متحدث بنظرة تشخيصية ناقدة تماماً كما يتابع الناقد السينمائي أحداث الفيلم وتسلسلها ومنطقيتها وشخصيات الفيلم وتفاصيله الدقيقة.
هنا، أنت مطالب بتجديد لسانك كل دقيقة، حدثهم عن فكرتك بآية، وادعمها بحديث، واروها ببيتين من الشعر، ودعّم أركانها بالأمثال والقصص، وداعب وجدان جمهورك بالحكمة، واقتنصهم بشواهد من التاريخ، وحدّق في عيونهم، فإذا شعرت بمللهم فاقذفهم بطرفة قصيرة. هكذا يتم جذب الجمهور إليك وإلى فكرتك، وهكذا يتم التأثير فيهم بقوة.
٩. طول الختام. كلنا يستمع للمتحدثين.. هناك بعض المتحدثين من يعلق الناس في نهاية خطابه كأن أعناقهم ملفوفة بحبل مشنقته حتى ينهي.. لن أطيل عليكم.. اعذروني للإطالة.. لا أريد ان أكون ثقيل الظل.. ويتحدث بعد ذلك لفترات طويلة والناس قد أعدت أذهاننا لوداعه، وبعد هذه العبارات لن تفهم منه شيئاً، فقد ودع الناس ذهنياً لا جسدياً.
نحن نقول.. كلام مختزل وخاتمة قصيرة موجزة واستعداد جيد، فإذا وصلت الخاتمة فلا تعد العرض أبدًا.. عوّد جمهورك أنك رائع ملتزم صاحب تصور للخطابة، وعلم غيرك كيف يحترمون عقول الناس وحضورهم.
١٠. عدم الدقة وأخطاء اللغة القاتلة وعدم التثبت.
عندما تقول: قال تعالى، كن كزين العابدين رضي الله عنه، فقد كان إذا سمع الأذان تغير لونه، يقول أتدرون من أقابل الآن؟؟.. وعندما تتحدث في حديث تذكر " فبلغه كما سمعه " واحمل الأمانة. نعم أنها الأمانة، أمانة العلم والمعلومة، أمانة الثقة الشعبية بك وثقة الجمهور الذي لم يضربك بالحجارة لمجرد رؤيتك، فأنت تعني له الكثير وقد منحك فرصة، فلا تهدرها بضعف إعدادك وأخطائك في كتاب الله وسنة نبيه، وجهلك لروي الشعر وقافيته.
كن قوياً متجدداً، إذا قلت كلمة صدقك الناس لعلمهم أنك تتعب وتسأل وتتحرى عن معلوماتك، فإذا تغير الواقع تغيرت نظرتهم إليك، واحترامهم لك، وتفاعلهم معك ومع أفكارك.
بالطبع هناك العديد من الأخطاء الأخرى ولكن حسن تفاعلك مع نفسك واستشعارك لمكانة المتحدث وثقتك بأنك قادر على إبلاغ المعلومة الموثقة وحسن استعدادك نفسياً سيؤثر في الناس بلا أدنى شك.
ابو وليد البحيرى
2022-09-30, 06:33 PM
كيف تتحدث ببراعة وثقة أمام الجمهور؟
ترجمة: مها مدحت
هل تشعر بالقلق والخوف عندما تضطر للحديث أمام جمهور من الناس؟
هل يصيبك الارتباك والتلعثم إذا ألقيت كلمة أمام جمع لا تعرفه؟
التحدث إلي الجماهير يتطلب علم وفن في نفس الوقت, فمحتوي الخطبة يعتمد على العلم والثقافة, بينما طريقة إلقاء الخطاب وحركاتك أثناء الحديث هو ما يحتاج إلي فن ومهارة, وهذه بعض الخطوات الهامة لتتحدث بطلاقة دون خوف أو ارتباك, وحتى يكون حديثك ناجحا ينصت له الجميع.
أعد محتوى جيد
يجب أن يكون خطابك كالقصة التقليدية التي تتألف من مقدمة- واضحة المعالم- ووسط ونهاية, ولابد أن تكون المقدمة مشوقة ولافتة للانتباه تستولى على أذهان الحاضرين, ولعمل ذلك حاول أن تبدأ دائما باقتباس أحد الأقوال المشهورة أو البدء بفكاهة أو غير ذلك مما يشد الانتباه.
ولابد أن يحمل الجزء الأوسط من الخطاب المزيد من الحجج المقنعة وشرح مختصر ومحدد عن الموضوع, أما النهاية فلابد أن تكون قاطعة وغير محيرة للجمهور, ولابد من ذكر النتائج النهائية لهذا البحث أو المقال, وحاول أن تكون العبارات النهائية واضحة ومختصرة لكي تثبت في الأذهان.
محذورات
تجنب دائما تشويه الحقائق أو المبالغة من أجل جذب أنظار الجماهير, حتى لا ينتهي بك الأمر فاقدا للحقيقة والمصداقية أيضا، فالناس عمومًا يشعرون بعدم تصديق من يبالغ في حديثه، وينفرون ممن يركز على تشويه الآخر، أو السخرية من أفكارهم ومعتقداتهم.
الفكاهة
حاول جاهدا تضمين حس الفكاهة في خطابك, فالنفس تمل وتفقد القدرة على الإنصات بعد دقائق معدودة, لذا فالفكاهة تخرج النفس من الملل وتلفت الانتباه للحديث مرة أخرى.
لا للتوتر
حاول أن تكون هادئا بقدر الإمكان, وتجنب العصبية والحركات المبالغ فيها, انظر دائما إلي عيني من تحدث, فهذا يعطي شعورًا بالقوة والسيطرة, فالكثير من المحاضرين يخطؤون بالتركيز على المروحة أو حتى النظر خارج النافذة, حيث يفقد المستمعون الاهتمام ولا يستطيعون التركيز.
الدقة والوضوح
حاول أن تجعل المحتوى دائما بسيطًا وفعالًا, وتجنب استخدام الكلمات المعقدة والتراكيب الغريبة, فالبساطة ستساعد الجماهير على استيعاب الفكرة والتركيز أيضا.
مفردات اللغة
أنجح الأشخاص في الأحاديث العامة هم الأكثر قراءة واطلاعا, فالقراءة توسع مدارك الإنسان, فاجعل من المعجم صديقًا لك, لتتعلم أكبر قدر من المفردات اللغوية.
نبرات الصوت
وأخيرا اجعل صوتك واضحا ومسموعًا للجميع, ارفع الصوت واخفضه تبعا لأهمية الجمل التي تلقيها, وحاول أن تتدرب أمام المرآة قبل إلقاء الحديث, فالتدريب سيساعدك كثيرا في إلقاء خطاب ناجح وفعال.
ابو وليد البحيرى
2022-12-24, 06:19 AM
تجربة في الخطابة
مضى على انتظامي في الخطابة أربعة عشر عاما، وهي فترة كافية لتسجيل ما لدي من خبرة في هذه التجربة.
مهما تعلم المرء ودرس كيفية إعداد الخطبة، فلن يكون مثله مثل من نالها عن: خبرة، ومكابدة، ومعالجة طويلة. وليس المعنى غلق باب الاستفادة من السابقين، كلا، لكن الفائدة لا تكمل، ولا تحسن، ولا تتعمق إلا بالمكابدة، وحسب المستفيد من تجارب الآخرين أنه تقدم خطوات.
كيف تعد خطبة؟.
سؤال مهم لأمرين:
الأول: كونه يتعلق بأمر شرعي، فقد أمر الله المؤمنين بإقامة خطبة الجمعة، وأوجبها وفرضها.
الثاني: كونه يتعلق بعملية لها تأثير كبير في صياغة التوجهات والعقول.
أولاً: مشروعية الخطبة.
شرع الله سبحانه وتعالى للمسلمين عيدا كل أسبوع، يجتمعون فيه للصلاة وسماع الذكر، وهم في أحسن هيئة، متطهرين، متطيبين، خاشعين، كافين أيديهم وألسنتهم، سامعين، منصتين، كما جاء الأمر بذلك في نصوص معروفة، فاستماع الخطبة غاية، فإن الصلاة يجتمع لها كل يوم خمس مرات، لكن الجمعة امتازت بالخطبة، ومن هنا أمر الشارع وحث على حضور الخطبة، ورتب أجور كبيرة على التبكير، فقد روى أبو داود عن بسنده عن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع، ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها» (في الطهارة، باب: الغسل يوم الجمعة).
وحرم من تأخر، فأتى بعد الشروع في الخطبة، من أن يكتب في صحيفة المسارعين.
فإذا تأملنا حرص الشارع على: تهيئة الناس، وإعدادهم لسماع الخطبة. أدركنا أهمية العناية بأمرها، وإتقانها، وأدائها على أحسن وجه ممكن. فقوم جاءوا متطهرين، متطيبين، خاشعين، في أدب وإنصات، لا يتحقق مثله في غير هذا الموطن، من حقهم أن يحترموا، ويقدروا، ولا يتحقق تقديرهم إلا بإسماعهم المفيد الجيد الحسن من الذكر والعلم. فقد أتوا طائعين، ولو شاءوا لكانوا من المتأخرين، فليس من المروءة والكرم مقابلتهم بكلام غير مفيد، أو كلام ممل، غير مرتب، لم يبذل فيه مجهود، وربما كتب قبل الجمعة بساعة !!..، فما أمر الله تعالى به يجب أن يتقن، فهو من القربات، وإتقان القربات يزيد في الحسنات.
ثانيا: أثر الخطبة في تقويم الناس.
أستطيع أن أقول وبثقة: إن المنابر هي المؤثر الأول في توجيه الناس.
ربما كان هناك من يرى وسائل الإعلام أشد أثرا، وأنا أوافقه على ذلك، بقيد:
- ما إذا كان ما يعرض فيها من جنس ما يطرح في المنابر.
نعم حينذاك يكون لوسائل الإعلام أثرا كأثر المنابر، لكن إذا كان المعروض في وسائل الإعلام فاسد الفكر والخلق، فلا، بل الغلبة للمنابر بلا ريب، وذلك: أن كل باطل فمصيره إلى الزوال، ولا بد، ولا يبقى إلا الحق، قال تعالى:
- "فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".
- "قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب * قل جاء الحق وما يبديء الباطل وما يعيد".
"بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق".
فالمنابر ليس فيها إلا الحق والإيمان، وهو الباقي، وأما غيرها فما فيها من باطل فلن يبقى، ولو اتبعه الناس فإلى حين.
أما ترى الناس إذا أرادوا الخير والنجاح والنجاة لأنفسهم، في: تفريج كربة، أو جواب سؤال، أو حل مشكلة. توجهوا إلى المساجد، وتركوا وسائل الإعلام وما فيها، إذا كان باطلا، وراءهم ظهريا؟.
فهذا حال الناس، يبحثون عن اللهو واللعب في وسائل الإعلام، أما الجد والانطلاقة الصحيحة والإيمان، فإنهم إنما يبحثون عنها في بيوت الله تعالى، حيث: المحاريب، والمنابر، وكراسي العلم. وهذه حقيقة ساطعة يجب أن نلتفت إليها لندرك حقيقة: أثر المنبر. فإنه المؤثر الأشد على قلوب الناس.
ولا أدل على هذه الحقيقة من: نجاح هذه المنابر في توعية الناس، واستنقاذ قطاع عريض منهم، من فساد كثير من وسائل الإعلام، حتى باتت مصدر قلق لكل من يعادي الإسلام، ولقد تمنى كبار النصارى أن يكون لهم منبر يجتمع الناس إليه كل أسبوع، كما للمسلمين.
إن الأثر الكبير للمنبر ينبع من: كون ما يلقى فيه، ويتلى عليه، إنما هو كلام الله تعالى، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كلام يدور حول ذلك.
ومعلوم أن خطاب الشارع يلمس الفطر مباشرة بلا واسطة، ومن دون حجاب، ويخاطب العقل بحجة واضحة، فإذا كان الكلام يمس الفطر مباشرة، ويحج العقل بأدلته، فلا ريب أنه سيكون المؤثر الأقوى على النفوس، وهذا سر تأثير الخطب أكثر من غيرها:
- إن فيها الصدق، وليس فيها الكذب.
- فيها الأمانة، وليس فيها خيانة.
- فيها حرارة الإيمان، وليس برودة الكفر.
- فيها المحبة، وليس فيها الكراهية.
- فيها الإرشاد إلى الخير، والتحذير والتبصير بحقيقة الشر.
- فيها الفضيلة، وليس فيها رذيلة.
- وكل ذلك يخترق الآذان، ويصل القلوب، ويخاطب النفوس بحساسية وشفافية.
* * *
ها قد عرفنا طرفا من أهمية الخطبة، من حيث الشرع، ومن حيث أثرها، فإذا بان ذلك، فإن السؤال السابق يعود مرة أخرى ليطلب جوابه: كيف تعد خطبة؟.
نعم كيف تعد خطبة؟..
طريقة إعداد الخطبة.
أول ما يتبادر إلى الذهن عند طرح هذا السؤال: الطريقة التقليدية السائدة وهي:
- تحديد الموضوع المراد، ثم حصر أدلته من الكتاب، ثم من السنة، ثم تتبع أقوال أهل العلم، ثم ترتيبه على هذا النحو، ثم بيان حقيقته، وصوره، وأهميته، وفوائد الامتثال لما جاء فيه، وسلبيات إهماله، مع مقدمة وخاتمة.
لو ضربنا مثلا بموضوع الربا، فإن الطريقة المتبعة في الإعداد هي: إيراد أدلة تحريم الربا من القرآن، ثم من السنة، ثم أقوال أهل العلم، ثم بيان حقيقته وصوره، ثم الحكمة من تحريمه، وفائدة اجتنابه، وخطر التعامل به.
وهكذا في كل موضوع.. قد تختلف بعض النقاط، وقد تزيد وقد تنقص، ويقدم هذا ويؤخر هذا، بحسب الموضوع، لكن البنية الأساسية في جميعها واحد.
ووصف هذه الطريقة أنها تقليدية لا يعني بالضرورة ضعفها أو عدم جدواها، كلا، فقد تكون مفيدة، وقد لا يتيسر غيرها، وقد تكون في غاية التأثير، وذلك بحسب جودة الإعداد، ودقة العبارة، وحسن العرض، لكن هي على كل حال: طريقة منطقية، تقليدية، وترتيب سائد معروف عند أهل العلم وغيرهم. وهي أحسن الطرق في استيفاء نقاط الموضوع، وإعطاء كل نقطة حقها من الكلام والعرض. لكن:
هل الخطبة مختصة بهذه الطريقة ضرورة؟.. وهل يجب أن يكون ما يطرح فيها مستوفى النقاط غير ناقص؟.
الجواب: يبدو أن ذلك ليس واجبا. وليست الخطبة مختصة بتلك الطريقة، بل هي طريقة من الطرق، ومن الجائز اتخاذ طرق أخرى غيرها، ما دامت خالية من أي محذور شرعي، والعلة في ذلك:
أن الخطبة لا يشترط فيها أن تكون درسا علميا، يجب فيه الشرح والتفصيل والاستيفاء، بل قد تكون موعظة وتذكرة لا يشترط فيها إلا صحة الكلمة، وتحريك القلوب، لا يلزم فيها الاستيفاء والشرح، كما هو معلوم، فبالكلمة الواحدة والجملة والجملتين، قد تتحقق الموعظة ذات الأثر البالغ، ويحصل المقصود، وهذا مجرب معروف، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعظ في خطبه، كما كان يعلم، في كلمات معدودة، قصيرة لا تتجاوز بضعة دقائق، لكنها مؤثرة، محركة للقلوب، مقومة للسلوك، يلقيها النبي صلى الله عليه وسلم بصوت مسموع مرتفع، يشتد، وتحمر عيناه، كأنه منذر جيش، يقول: (صبحكم، ومساكم). (مسلم، الجمعة، باب: تخفيف الصلاة)
فنحن الآن بين نوعين من الخطب: الخطب العلمية، والخطب الوعظية.
وكلاهما مهم، والناس بحاجة إليهما، الخطب العلمية لها طريقتها الموصوفة بالتقليدية، كما بينا آنفا، والوعظية لا يشترط فيها ما يشترط في العلمية..
وبكلا النوعين كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وكانت خطبه تمتاز بالقصر، والكلمة الجامعة، ولم يكن يحرص على استيفاء نقاط ما يريد الكلام فيه، ولا اتباع طريقة الشرح والتحليل، بل كلمات معدودة جامعة.
إذن، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يتبع في خطبه طريقة الاستيفاء والشرح المفصل، فهذا دليل على عدم اشتراط تلك الطريقة، وهذا هو المطلوب.
لكن ههنا سؤال وهو:
- أليست تلك الخطب التقليدية خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه؟.
- وأليس من السنة قصر الخطبة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «قصر خطبة الرجل، وطول صلاته: مئنة من فقهه» (رواه مسلم، في الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة)، ومعنى مئنة: أي دالة على فقهه؟.
فالجواب:
أولاً: قصر الخطبة من المستحبات، بمعنى أن التطويل ليس محرما، وقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم بسورة ق~.
ثانياً: المقصود بالخطبة هو الذكر والموعظة والتعليم، فإن حصل ذلك بخطبة قصيرة، وبكلمات معدودة، جامعة، يفهمها الناس، فهو الأولى والأحرى والأفضل، لموافقة الهدي النبوي، لكن:
ماذا لو أن الخطيب لا يملك الفصاحة والبلاغة، والقدرة على حصر المعاني واختصار ألفاظها؟.
وماذا لو أن أذواق الناس وأفهامهم قد فسدت وتعطلت، حتى ما عادوا يفهمون إلا بالشرح والتبسيط؟..
يبدو أنه حينئذ لا مناص من الشرح والتفصيل والتبسيط، حيث إن المقصود من الخطبة هو حصول الموعظة والعلم، فإن كانت لا تحصل إلا بهذه الطريقة، فما حيلة المضطر إلا ركوبها، وعندئذ لا يبدو أن المطيل في خطبته، بالمقارنة بخطب النبي صلى الله عليه وسلم، مخالفا للهدي النبوي، وذلك لأن الغاية والمقصود لا يتحقق إلا بها، وقد كانت الوسيلة في عهد النبوة الاختصار والقصر، لكون الناس على فهم صحيح، وخطيبهم أوتي جوامع الكلم، أما وقد تغير ذلك، فامتنع حصول المقصود من الخطبة إلا بالشرح والتفصيل، فلا أظن من الصواب تخطئة هذه الطريقة، خاصة إذا عرفنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب بسورة ق~، والخطبة بها فيها شيء من الطول.
وتسويغ تطويل الخطبة عن الحد النبوي لا يعني التوسع في ذلك، بل ينبغي على الخطيب أن يجتهد في الاختصار قدر ما يمكنه، ويتخلص من داء التكرار المزعج، والشرح الممل حتى لما هو واضح.
ذلك من حيث قصر الخطبة وطولها، أما من حيث طريقتها، فإن الطريقة النبوية تقوم على طرح جزء من الموضوع والقضية المراد الحديث عنها، دون تقصٍ أو استيفاء، وهذا بخلاف الطريقة التقليدية القائمة على التقصي والاستيفاء.
- فهل هذه الطريقة كذلك تعد مخالفة للسنة؟.
الجواب أن يقال: الشارع لم يأمر باتخاذ طريقة معينة في إعداد الخطبة، لم يأمر بطريقة الاستيفاء، وكذا لم ينه عنه، ولم يأمر بطريقة طرح جزء من الموضوع، هو الأهم والمناسب للمقام والحال، ولم ينه عنه، بل أمر بإقامة الخطبة، وترك تحديد الطريقة، بحسب حال الخطيب، وحال السامعين، وقد كانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم قصيرة، ومن ثم لم يكن من الممكن بحال استيفاء الموضوع، وقد عرفنا أنه أوتي جوامع الكلم، والسامعون على قدر كبير من الفهم والإيمان والعلم، لكن الحال اليوم مختلف، الناس في قلة من العلم والإيمان، والناس محتاجون إلى معرفة كل ما يتعلق بالموضوع المطروح، لجهالتهم بكثير من أساسيات الدين، والمنبر كما أنه للوعظ كذلك هو للتعليم، فما الذي يمنع حينئذ من اتخاذ طريقة الاستيفاء؟.
يبدو أنه لا مانع، خاصة وأنه ليس ثمة دليل يمنع من ذلك، غاية الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، لظروف الحال في زمانه، حيث السلامة في الفهم والعلم والإيمان، فكان يكفيهم أن يذكرهم بأهم جزء في الموضوع بحسب المقام، لكن الناس اليوم بحاجة إلى طريقة الاستيفاء، كي يتعلموا ويتفقهوا، وبحاجة كذلك إلى طريقة العرض الجزئي لكيلا يملوا، فنحن إذن بحاجة إلى الطريقتين: طريقة الاستيفاء للتعلم، وطريقة العرض الجزئي للتذكرة ولفت الانتباه.
إذن الأمر واسع، وليس من السنة التضييق في شيء وسعه الله على العباد، ولم يأمر فيه بشيء.
* * *
قد عرفنا بما سبق أن الإعداد إما أن يكون بطريقة الاستيفاء، وإما بطريقة العرض الجزئي، وكل ذلك باعتبار أن الخطبة ذات موضوع واحد، لكن كيف لو كانت الخطبة أكثر من موضوع؟..
ذلك جائز وممكن، ولا يمكن فيها توفية كل موضوع حقه، ولا نستطيع أن نفاضل بين الخطبة ذات الموضوع الواحد وذات الموضوعات المتعددة، فنحن نحتاج إلى النوعين جميعا، بحسب الأحوال والمقتضيات، فمرة قد يكون هذا أفضل، ومرة الآخر.
* * *
هذه الطريقة طريقة الإعداد: الاستيفاء، أو العرض جزئي. يحسن أن نسميها الطريقة العامة، وذلك لنفسح المجال لبيان الطريقة الخاصة للإعداد، وهي التي تصور شروط وأدوات إعداد الخطبة، كيف تكون؟.
وأهم نقطة فيها هو:
- أن نفهم أن الإعداد الصحيح الجيد المؤثر المثمر، لا بد له من دافع يدفع إليه، ويغري به، ويعين عليه، بدونه تفقد الخطبة أثرها وتأثيرها، وتكون جسدا بلا روح.
هذا الدافع يقوم على فكرة: المعاناة.
ويفسرها المثل القائل: "ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة". (مجمع الأمثال لأحمد الميداني النيسابوري 2/200، المستطرف في كل فن مستظرف 69)
وأداتها: الملاحظة، والتأمل بعمق وتحليل، في الأخبار والحوادث والأحوال التي تمر بالخطيب، في كل مكان.
وشرح هذه الفكرة ما يلي:
إن الغرض من الخطبة هو: التأثير في القلوب والعقول، فمقصودها تحريك العاطفة وإعمال العقل.
والخطيب لا يمكن له أن ينجح في ذلك، ما لم ينفعل قبل بالأمر الذي يريد الحديث عنه.. لذا كان من الواجب عليه ألا يخطب إلا في أمر يشغل : قلبه، وعقله، ونفسه. حتى إنه ليتمثله في كل شيء يمر به، فيكون حديث نفسه، ونطق لسانه، فإذا كان ذلك فقد وضع قدمه على الطريق، وسهل عليه ما بعده.
قد يكون الخطيب مجيدا في اختيار الموضوع واستيفاء عناصره، لكن قد لا يكون لكلامه الأثر ما لم يعان موضوعه، ويعيش همومه وأحداثه، حتى ليمتنع لأجله من التمتع بالمباحات، لاشتغال الخاطر والذهن.
- لم كانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم ذات تأثير فريد على القلوب والعقل؟.
لأنه كان على يقين بما يقول، وعلى قناعة تامة بالدعوة التي عليها، وهمّ دائم لتحقيق هدف معين.
والإنسان إذا كان راسخ الإيمان بفكرة وعقيدة ما، فكل ما يصدر منه من كلام يشرح فيه فكرته وعقيدته، سيحمل معه سلطانه على القلوب، فيطرق أبوابها. لا، بل هي مفتحة تدخلها الكلمات بلا استئذان.
إن كلمات الواثق تزلزل قلوب الغافلين..
فليست العبرة بتنميق العبارات، إنما العبرة بالصدق والثقة، وذلك لا يكون إلا من قلب جرحته الحقائق، حتى تركت أثرها فيه مدى الدهر..
إن الجرح الغائر إذا كان في البدن لم يمكن إخفاؤه، فإن قدر على ستره، لم يقدر على كتم ألمه، فيبدو في وجهه وفي عينيه.. وكذلك القلب إذا جرح لم يمكن التكتم على ما فيه، ويستوي في هذا العامي والعالم، فهي ميزة تميز بها الإنسان خاصة، دون النظر إلى موقعه، ومنزلته، وشأنه..
ويستوي في أصله المجروح بحقائق الدنيا والمجروح بحقائق الآخرة، إنما يتميز المجروح بحقائق الآخرة بشرف ما جرح به، كالفرق بين من قاتل للمغنم، ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فكلاهما مسّه القرح، لكن فاز المخلص لله بالثواب، فلم يذهب ألمه سدى، بخلاف المبتغي للدنيا، فلا دنيا نالها، ولا آخرة حصل ثوابها، والخطيب بمنزلة من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وليس بمنزلة من قاتل للمغنم، فهو أولى بالمعاناة، لشرف ما يحمل، ولأنه يعلم من الحقائق ما لا يعلمه غيره من عامة الناس، روى الترمذي بسنده عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع، إلا وملك واضع جبهته، ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات، تجأرون إلى الله، لوددت أني كنت شجرة». (في الزهد، باب: لو تعلمون ما أعلم)
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل النوع من المعاناة، فقد تركت أثرها فيه، فبدت في كلماته، وحركاته، يقول الله تعالى يصف حاله مع المعاناة الإصلاحية:
{قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون* ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين* وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين* إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون}.
ليست النائحة الثكلى، كالنائحة المستأجرة، وليس الخطيب الثكلان، كالخطيب المستأجر..
فمن أراد لكلماته الأثر في قلوب الناس، فليكن في كل ما يتكلم به:
- كالنائحة الثكلى..
- واليتيم الذي فقد أبويه..
- والمظلوم المهضوم..
- والمريض المتألم.
كل هؤلاء يشكون بمرارة، ويصفون حالهم بحرارة، حتى يغرق السامع معهم، فيعيش مأساتهم بنفسه، ويراها رأي العين، فكذلك يراد من الخطيب أن يكون، حتى يعيش الناس كلماته وموضوعاته، كأنهم يرونها رأي العين.
* * *
- قد يقول القائل: علمنا أهمية المعاناة لنجاح الخطبة، فكيف نولدها في نفوسنا؟.
وهذا سؤال مهم، وجوابه: مختصر، ومفصل:
فأما المختصر فيقال فيه: إن الهم والمعاناة في القلب يتولد من اليقين بأمرين:
الأول: اليقين بأمر الآخرة، من الموت، وما يتبعه من أهوال القيامة، والنعيم للمتقين، والجحيم للمجرمين.
الثاني: اليقين بأمر الدعوة، بالعمل على استنقاذ الناس من عذاب الآخرة، شفقة، ورحمة، وخوفا عليهم.
فإذا تمكنا من القلب حضر الهم، وتحرك القلب، فنطق اللسان، وكتب القلم، وحصل الأثر.
وأما الجواب المفصل فيقال فيه:
لا يخلو الإنسان من الهموم، والهم همان: هم الدنيا، وهم الآخرة. فمن سلم من أحدهما لم يسلم من الآخرة، والغافل من كانت همه الدنيا، أما العاقل فهو من كانت همه الآخرة، فالإنسان بين هذين الهمين ولا ثالث.
فإذا ثبت حصول الهم ولزومه للإنسان كان من العقل والحكمة أن يكون للآخرة، إذ هو المطلوب وصاحبه محمود مثاب، روى الإمام أحمد وابن ماجة بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«من كانت همه الآخرة، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت همه الدنيا، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له».
وعن همّ الآخرة يتولد ويتفرع هم الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح الناس، إذ من شغلته آخرته بالرغبة في الجنة والرهبة من النار، وتعلم من دينه محبة الخير، وجد ميلا إلى وصية الناس ونصحهم، حيث إن يقينه بالآخرة يشخصه في صورة النذير العريان، وفي صورة منذر الجيش، يقول: (صبحكم، ومساكم).
وحتما لا بد أن يجد من يهمل وصيته، ومن يعرض عنه، ومن يجادله، ومن يعاديه، بجهل، وهذا حال البشر، لكن عنه يتولد ألم وهمّ في القلب، كالألم والهمّ يكون في قلب الأب من ضلال ولده وغوايته، فإذا صار كذلك، تكبد القلب المعاناة والحرقة، فحصل الأثر.
إذن، لمن أراد التأثير في الآخرين فعليه: أن يحمل هم دينه وآخرته، ويحمل كذلك تبعا هم إصلاح الناس وإرشادهم، فإذا حصل له ذلك، تفقت له آفاق الكلمة، واقتدر على الإبداع، بلا تكلف، فحصل التأثير المطلوب.
* * *
ذلك هو لب الموضوع، وأسّ الفكرة، ثم ما بعده إنما هي توجيهات يستكمل بها الموضوع، فمن ذلك:
(1) دوام القراءة في القرآن، فإنه ينير القلب، ويزكي النفس، ويخرج الكلمات تحمل النور والزكاء.
(2) متابعة أحوال المسلمين في العالم، ودوام الاطلاع على ما يستجد من الحوادث والأخبار، فهذه العناية لها أثر حسن على إعداد الخطبة، فمن المهم أن يكون الخطيب في دائرة الحدث…ومثله معرفته لأحوال المجتمع والحي الذي يقطن فيه، ومد الصلات بينه وبين السكان، والتعرف على مشكلاتهم، فإن هذا التعايش له أثر كبير في حسن إعداد الخطبة، خاصة إذا كانت تتعلق بمشكلة تتعلق بالحي، فليس الخبر كالمعاينة، ومن يتغلغل في أوساط الناس، فحديثه عنهم ليس كحديث المنعزل.
(3) القراءة في تراجم الصالحين، من أنبياء وصحابة وتابعين ومن تبعهم بإحسان، فإن لها أثر كبير في خشوع النفس ورقة القلب وزيادة الإيمان، وهي قوت الأفكار والمعاني المؤثرة في القلوب.
(4) ملك الخطيب أدوات الخطابة، من لغة سليمة، وعلم أصيل، فسلامة اللغة وصدق المعلومة أصل في إعداد الخطب، فاللغة السليمة لها جرس في الآذان، والمعلومة الصادقة تستقر في النفوس، وتزرع الثقة في القلوب.
(5) القراءة في كتب الأدب القديمة والحديثة، القديمة مثل: عيون الأخبار وأدب الكاتب لابن قتيبة الدينوري، والبيان والتبيين للجاحظ، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والأمالي لأبي علي القالي، ومؤلفات الأدباء المعاصرين، كالرافعي والمنفلوطي والطنطاوي، وكذا الدعاة البارزين الذين لهم كلمات عميقة المعنى في باب الدعوة
(6) اجتناب الكتب الصعبة في ألفاظها وأسلوبها، فإن تعابير الإنسان بنات قراءاته، فإذا كانت قراءته في الكتب السهلة في أسلوبها، البليغة في عباراتها، كانت تعابيره كذلك، وإذا كانت قراءاته في الكتب الصعبة في أسلوبها، الغامضة في عباراتها، كانت تعابيره كذلك، والواجب أن تكون الخطبة سهلة العبارة، مفهومة قريبة المعنى.
(7) أن تكون فكرة الخطبة واضحة كالنهار، وكذا التعبير عنها.
(8) عرض الخطبة قبل إلقائها على المختصين للتأكد من سلامتها وسهولتها.
(9) مراعاة التسلسل المنطقي للفكرة المطروحة، وميزانه: أن لا تنفذ فكرة إلى أخرى إلا بوساطة وجسر صحيح، ومن الخطأ القفز من فكرة إلى فكرة بدون تلك الوساطة، فإن ذلك مما يغمض الكلام، ويبهم المعنى.
(10) عدم التكرار في الأفكار، فإن كان ولا بد فمرتان، وضبط الجمل والبحث عن أخصر التعابير، والبعد عن الشرح الممل الطويل.
(11) الخطبة تتألف من مقدمة وموضوع وخاتمة، وللمقدمة أهمية كبرى، وكذا الخاتمة، إذ هي المفتاح للدخول إلى الموضوع، فإذا أحسن كان الموضوع محل عناية الحاضرين واهتمامهم، وهنا نحن بحاجة إلى الإثارة الإعلامية، التي تجذب السامع، وطرق الجذب متعددة، مثل البدء بقصة، أو سؤال، أو التقاط أهم جملة في الموضوع والبدء به، وربما يكون بآية أو حديث أو قول لعالم، كل ذلك بحسب الأحوال، وعلى الخطيب أن يحسن اختيار مادة البدء.. وكذا الخاتمة، فإنها مهمة، ولعله من المناسب أن تكون بإعادة ذكر أهم جملة أو فكرة في الموضوع، أو بذكر ملخص شديد لما ورد في الخطبة، يستخدم فيها الحكم والأمثال أو الجمل عميقة المعنى.
* * *
وللخطبة بعد كتابتها كتابة أولية عدة مراجعات:
- فمراجعة أولى: ينظر في: جملها، وعباراتها، وصياغتها. فيعدل ويصلح ويحذف إن شاء، فهي لإعادة النظر في الصياغة.. وهي مراجعة لازمة، لكل كاتب.
- ومراجعة ثانية: يكون فيها التصحيح الإملائي والنحوي، وينصح الخطيب بالتشكيل، كي يجتنب نسيان القاعدة النحوية، ومن ثم اللحن.
- ومراجعة ثالثة: لوضع الفواصل والنقاط، ولمعرفة الوقفات، وعلامات الاستفهام والتعجب، وهذا الإعداد مهم في تيسير فهم الخطبة، فالإلقاء لا بد أن يكون محكوما بهذه القواعد، ليحصل بها الغرض، من: فهم الكلام، واستيعابه، وتصوره، ومن الخطأ إلقاء الخطب بدونها.
- ومراجعة رابعة: يعد فيها الخطيب نفسه ويدربها على طريقة الإلقاء، يلقي الخطبة عدة مرات، والأفضل أن يحفظها، ويتدرب على إلقائها مرتجلا، ليس لأنه يلزم أن يلقيها من على المنبر كذلك، كلا، بل ليكون مدركا لما يأتي من الجمل التي يقرأها، فيفهم ما يقول قبل أن يقول، فذلك أدعى للتفاعل مع الخطبة.
تلك هي طائفة من الوصايا لإنتاج خطبة ناجحة، ولا أزعم أني أحط بالموضوع، ولم يكن ذلك همي، وإنما همي فتح الطريق أمام راغب في: تعلم كيفية إعداد خطبة ناجحة.. والله الموفق.
منقول
ابو وليد البحيرى
2023-01-13, 11:32 AM
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خُطبته
اختص النبي صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، وتلألأت من ثنايا كلامه بدائع الحكم، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «بعثت بجوامع الكلم»، فكانت أحاديثه وخطبه تمتاز بسهولة الألفاظ، وجودة الأسلوب، وكانت تتفرد بالعبارات القليلة، التي تجمع المعاني العظيمة، بعيدة عن التكلف في الألفاظ، أو الإطناب في العبارات، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُحَدِّث حديثاً لو عدَّه العادُّ لأحصاه " (رواه البخاري).
وبتتبع منهجه صلوات الله وسلامه عليه في خطبه، نجد أن خطبه كانت تتسم بالقصر دون الطول، بل كان صلى الله عليه وسلم يقول: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة» (رواه مسلم).
فقصر الخطبة علامة على فقه الرجل لكونه مطلعاً على جوامع الألفاظ، فيعبر باللفظ الموجز البليغ عن الألفاظ الكثيرة، فهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك هو الاعتدال في خطبته بين التطويل الممل والتقصير المخل، وفي هذا يقول جابر بن سمرة رضي الله عنه: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قصداً، وخطبته قصداً، يقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس ) (رواه أبو داوود)، ومعنى (قصداً): أي متوسطة بين الطول والقصر.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في إلقاء الخطبة، أنه إذا اعتلا المنبر استقبل الناس وسلم عليهم، ثم يجلس، وبعد أذان بلال ، يقوم ويفتتح خطبته بالحمد والثناء على الله سبحانه والتشهد، ثم يذكر الناس بنعم الله عليهم، ويصف جابر رضي الله عنه حال النبي أثناء الخطبة قائلاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ويقول «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (رواه مسلم).
وكان ينتقي في خطبه جوامع الكلم، فيعلم أصحابه قواعد الإسلام وشرائعه العظام، وكان يوصيهم بما يقربهم إلى الله سبحانه وتعالى وإلى ما أعده لهم من النعيم المقيم في جنته، وينهاهم عما يقربهم من سخطه وناره.
وكانت خطبه عليه الصلاة والسلام لا تخلو من الآيات القرآنية، فصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ على المنبر {ونادوا يا مالك} [سورة الزخرف:77]، (رواه البخاري)، وكان دائماً يضمن خطبه آيات التقوى، وصح عنه أنه كان يخطب بالقرآن حتى قرأ ذات مرة سورة ق كاملة على المنبر.
وكان صلى الله عليه وسلم يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم، فعن عمرو بن أخطب قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا " (رواه مسلم).
وكان صلى الله عليه وسلم يراعي أحوال الناس في خطبته، فتارة يقصر في الخطبة وهو الغالب، وتارة أخرى يطيل الخطبة عند حاجة الناس، كما ورد عنه ذلك في خطبة الوادع، حيث أطال فيها لما كان فيه من المصلحة، واجتماع الناس وتلقيهم.
وكان من كمال هديه صلى الله عليه وسلم أثناء الخطبة، أنه ربما قطعها لحاجة، كإرشاد لأمر معين، أو توجيه أو نصح لمخالف، فقطع خطبته ذات مرة تنبيهاً على ضرورة صلاة ركعتين فعن جابر رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، إذ جاء رجل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أصليت يا فلان» ؟ ) قال: لا، قال: «قم فاركع ركعتين» (رواه البخاري و مسلم)، وربما قطع خطبته رعاية لشعور الأطفال كما حصل له صلى الله عليه وسلم حينما نزل من المنبر ليحمل الحسن والحسين.
ثم إن من هديه صلى الله عليه وسلم في خطبه أنه كان يخطب بخطبتين يجلس بينهما، ولا يتكلم في هذا الجلوس، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، ثم يقعد قعدة لا يتكلم، ثم يقوم فيخطب خطبة أخرى ) (رواه النسائي).
وكان إذا انتهى من الخطبة دعا للمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة والرحمة، ثم ينهي خطبته بالاستغفار.
وكان من هديه عليه الصلاة والسلام في ذلك أنه يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الأعلى والغاشية، وتارة يقرأ بسورة الجمعة والمنافقون.
ومما يلحق بهذا الشأن أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يقتصر على إلقاء الخطبة في يوم الجمعة، بل كانت له خطب في يومي العيدين والاستسقاء، وربما خطب الناس في غير تلك المواطن بحسب الحاجة والمصلحة، والله أعلم.
منقول
ابو وليد البحيرى
2023-02-24, 05:02 PM
أريد أن أتعلم الخطابة وأتقنها
جمال علي يوسف فياض
الحمد لله، وبعد:
يتلخَّص هذا في أمور:
أولًا: الاستعانة بالله تبارك وتعالى.
ثانيًا: الصدق في الدعوة إلى الله تعالى والحرص الشديد على هداية الناس، وأن تكون الدعوة رسالةً تؤديها؛ لا وظيفة تأكل منها فحسب.
ثالثًا: الاهتمام بحفظ القرآن الكريم وإتقانه، وحفظ قَدْرٍ جيِّد من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
رابعًا: القراءة في خُطَب الخطباء المتميِّزين المفوَّهين، والسماع لهم.
خامسًا: أن تسجل خطبة لك وتعرضها على بعض المشايخ المميزين في الخطابة؛ للنظر فيها، فيُقِرُّك على ما أحسنت فيه، ويرشدك إلى ما ينبغي تركُه أو تعديله منها.
سادسًا: الإعداد الجيد للخطبة، ويتمثَّل في نقاط:
أ- اختيار الموضوع المناسب زمانًا ومكانًا وجمهورًا.
ب- تحديد عناصر للموضوع مرتبطة ببعضها مثلًا ( التوبة، عناصرها: حاجتنا إلى التوبة، فضل التوبة، كيف نتوب؟ وهكذا).
ج- اختيار الآيات القرآنية والأحاديث النبويَّة المناسبة للموضوع الذي تريد الحديث فيه، ومن خير الكتب التي تخدمك في هذا (الترغيب والترهيب للمنذري، ورياض الصالحين للنووي).
د- مراجعة تفسير الآيات التي تستشهد بها من كتب التفسير ومن أفضلها (تفسير الإمام ابن كثير)، ومراجعة شرح الأحاديث من كتب الشروح، ومن أفضلها (كتاب فيض القدير) وهناك تطبيق اسمه (الكتب التسعة وشروحها) ممتاز في هذا الباب، ويُسهِّل عليك هذا التطبيق أيضًا معرفة صِحَّة الحديث أو ضعفه.
هـ- كتابة الخطبة بعد كل ذلك ومراجعتها حتى تحفظ.
سابعًا: عدم الإطالة في الخطبة طولًا يمل الحضور، وخير الأمور الوسط.
ثامنًا: الاهتمام باللغة العربية خاصةً علم النحو؛ ليستقيم لسانك في نطق الكلمات.
تاسعًا: الحرص على أن يخرج الناس من خطبتك بشيء عملي يعملونه ينفعهم في دينهم، فاحرص على توجيههم لأشياء يعملونها على أرض الواقع.
عاشرًا: ممَّا يُساعدك في إتقان الخطابة أيضًا القراءة في كتب فَنِّ الخطابة، ومن أفضلها كتاب (الخطابة في موكب الدعوة).
والأمر سهل ويسير على مَنْ يسَّرَه الله عليه، وبالتدرُّب يسهل الأمر بإذن الله، فاستعن بالله ولا تعجز، وفَّقَني الله وإياك لما يحب ويرضى.
ابو وليد البحيرى
2023-02-24, 05:03 PM
كيف تخاطب جمعا من الناس دون خوف؟
أسامة طبش
لا بدَّ خلال مسيرة حياتنا أن نُوضع في مواقف نخاطب فيها غيرنا، فتكون الأعين مركزة علينا ونستأثر بالاهتمام، ما يُولِّد لدينا شعورًا بالقلق والتوجس، تزداد وتيرته باقتراب الموعد، فنرتبك لتَضيع فرص سانحة، كنا مؤهلين لاقتناصها لولا هذا العائق العارض، وسنَقترح عبر هذا الموضوع حلولًا جالبة للسكينة والطمأنينة، لأن الأمر يتعلق في جانبه الأكبر بالأحاسيس والمشاعر:
♦ تَمكَّن جيدًا من الموضوع الذي ستعرضه، وادرسه وتابع تفاصيله، وتَوقَّع الأسئلة التي ترِد بشأنه، حتى تكتسب سرعة البديهة، فتتعامل معها بالشكل الأمثل.
♦ رَدِّد بصوت جهوري النص الذي ستُلقيه، ودَرِّب نفسك على فترات التوقف، ثم واصل الكلام، وكأنك تُحاكي الموقف الحاسم الذي ستَعيشه.
♦ اختر مجموعة من الأشخاص الذين لك علاقة وطيدة بهم، وخُض هذه التجربة معهم، فلن تُحسَّ بالإحراج، فتكون قد خَطوتَ خُطوة في سبيل التحضير.
♦ تَكلَّم بحماس، وانقل هذا الإحساس إلى الآخرين، فأبرز وسيلة لإثارة اهتمامهم، طاقتك ورغبتك في تحفيزهم، ولذلك أَثَرٌ عليهم، ما سيُحرِّرك من قيود خوفك.
♦ خُذ بين الفينة والأخرى نفسًا عميقًا، وتَذكَّر الأشياء الإيجابية، والمواقف التي خُضتها فنجحت فيها، هذا ما سيُقلِّل منسوب التوجس لديك.
♦ اربط علاقات حبيَّة مع من تتواصل معهم، ولو بالمزاح والبسمة، وامنحهم الانطباع بأن يَتقبَّلوا هفواتك، فهم يعلمون أن الموقف الذي وُضعت فيه صعب على غالبيتهم.
♦ خاطبهم ونظرك يجول عبر أرجاء القاعة، واستعمل الإيماءات، أَتذكَّر موقفًا خَبرْتُه، حيث انتابني القلق في البداية، لكنني بادرت وبدأت بالحديث، وأنا أنظر إلى الحضور كيف هي آذانهم صاغية، فأحسست بالنشوة وازدادت ثقتي بنفسي، وفي آخر الكلمة، أُعجبوا بطريقة الإلقاء، حيث نجحت في احتوائهم.
هذه المواقف غير سهلة على أغلبنا لأنها تُثير الحرج، والقلق بشأنها معقول، إنما يجب أن لا يكون عائقًا يحول دون الوصول إلى الأهداف، بالأخص وأنها مطلوبة في مجال العمل، والمقابلات التي تُجرى قبل التوظيف، فالتدرب على حلول التغلب على صعوباتها سبيلٌ إلى النجاح.
ابو وليد البحيرى
2023-02-24, 05:04 PM
بعض الملاحظات في خطب الجمع
في حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه» وفي هذا الحديث دلالة على الأمر بتقصير الخطبة.
يتململ بعض المصلين أثناء الخطبة ويفقد الكثير منهم التركيز وبالتالي تنصرف قلوبهم عن الخطبة ويفوّتون جلّها وربما لو سألت بعضهم بعد انقضاء الصلاة بساعات عن موضوعها وأهم نقاطها لما أفادك بشيء، ويكمن السبب في مقدمة الخطبة الطويلة جداً والمتكررة في كل خطبة جمعة، فتجد المصلي يسرح بخيالة بعيداً عن أجواء الخطبة ولا يعود إليها إلا وقد فات عليه جزء مهم منها وبعضهم قد لا يعود، ولتفادي ذلك يفضل اختصار المقدمة والاكتفاء بالحمد والثناء على الله والصلاة والسلام على رسوله والشروع في موضوع الخطبة مباشرة، كذلك فإن قراءة الخطبة من ورقة أو من جهاز وعدم ارتجالها يجعلها تشبه السرد بدون تفاعل بين المُلقي والمتلقي، وأفضل من ذلك، ارتجال الخطبة بعد التحضير لها تحضيراً جيداً ولا يمنع ذلك من تسجيل نقاط في ورقة أو جهاز قد يعود لها الخطيب من حين لآخر، كذلك فإن عدم تفاعل الخطيب مع ما يحدث أحياناً في المسجد يفقده خاصية مهمة جداً كفلها له الشرع وهي إدارة شئون الجامع وتنظيمه، فمن حقة توجيه شخص أو مجموعة لعمل معين أو الامتناع عن فعل معين كالحديث أو الانشغال بالجوال أو شرب الماء أثناء الخطبة، اقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام عندما وجه الصحابي لأداء سنة المسجد أو الجلوس وعدم تخطي الرقاب.
ومن الثغرات ايضاً ميل بعض الخطباء لاستخدام الترهيب دون الترغيب وفي هذا جفاء للمصلين وعدم اقتداء بالنص القرآني الكريم الذي دائماً ما يردف الترهيب بالترغيب وآيات الوعيد بالعذاب بآيات البشرى بالمغفرة والرحمة.
كذلك وقوع بعض الخطباء في مشكلة تشخيص مكمن الداء، ولكن بدون وصفٍ للدواء، فيخرج المصلي خالي الوفاض الا من الحسرة والندم على تلك المشكلة التي يراها في نفسه ولا يعرف لها حلاً ناجعاً.
وحتى لا أقع في نفس المعضلة التي أتحدث عنها هنا، سأختم بقصة قرآنية فيها دروس وعبر وعظات وردت في سورة الكهف، وهي قصة نبي الله موسى مع الخضر، فقد أكتفى الله تبارك وتعالى بثلاثة أمثلة فقط في كامل القصة مع العلم بأن موسى قد واجه صعوبات ومشقة حتى وصل إلى العبد الصالح، فالثلاث أمثلة أعطت الدلالة الكاملة لمضمون الابتلاء الذي وقع فيه موسى عليه السلام والتعليم الذي تلقاه، ولو أراد الرب تبارك وتعالى ضرب مزيداً من الأمثلة لما أعياه ذلك، ولكنه مثال حي للاختصار ودرس لذوي الألباب، فما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا أرى ذلك العبد الصالح إلا القدر تجسّد على شكل بشر وجرت الأقدار على يديه ليكون ذلك أدعى للفهم من موسى عليه السلام ولمن خلفه، ثم إن الحق تبارك وتعالى شرح لموسى عليه السلام على يد العبد الصالح الأسباب التي دعت لوقوع تلك الأحداث التي رأى موسى عليه السلام في ظاهرها الظلم ولكن في حقيقة باطنها الرحمة والمصلحة لمن وقعت لهم تلك الأحداث.
______________________________ ______________________________ __
الكاتب: أبو عمرو حامد سعيد عابد
ابو وليد البحيرى
2023-04-28, 02:15 PM
أدلة خطيب الجمعة لإقناع المصلين
أصول الخطابة ثلاثة: الإيجاد، والتنسيق، والتعبير.
والأول: هو إعمال الفكر في استنباط الوسائل الجديرة بإقناع السامع، والوسائل الأدلة، ولا بدَّ مع الأدلة من توافر الآداب الخطابية، والعلم بالأهواء والميول النفسانية، وذلك أن مقصود الخطيب:
أولاً: إنارة العقول، وتنبيه الأذهان، وحملها على الإذعان، وذلك لا يتم إلا بالأدلة.
ثانيًا: التأثير في الأرواح وجذب القلوب، وذلك يكون بتوافر الآداب في الخطيب.
ثالثًا: استمالة النفوس إلى ما يطلب منها بإثارة عواطفها، وذلك يكون بمعرفة الأهواء والغرائز، وطرق تهييجها أو تسكينها، ولكل من هذه الثلاثة مبحث يخصه.
في الأدلة:
الدليل في اللغة: المرشد، وفي اصطلاح الحكماء: ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، وهو قطعي وظني، فالقَطْعِي: ما أوجب التصديق اليقيني، ويسمى برهانًا، وهو ما تألف من اليقينيات السِّتِّ:
1 - أوليَّات: وهي القضايا التي يُدْرِكُها العقل بِمُجَرَّدِ تَصَوُّر الطرفين كقولك: الواحد نصف الاثنين، والكُلُّ أَعْظَمُ من الجزء.
2 - مشاهدات: وهي القضايا التي يدركها العقل بالحس الظاهر.
3 - مجرَّبات: وهي ما يُدْرِكُها العقل بواسطةِ تَكرارٍ يُفِيدُ اليقين؛ كقولنا: السقمونيا مسهلة للصفراء.
4 - حدسيَّات: وهي القضايا التي يُدْرِكُها العقل بواسطة حدس يفيد العلم؛ كقولك: نور القمر مستفاد من نور الشمس.
5 - متواترات: وهي ما يُدْرِكُها العقل بواسطة السماع عن جَمع يُؤْمَنُ تواطُؤُهُم على الكذب.
6 - قضايا قياساتُها هي القضايا التي قياساتُها معها: وهي ما يدركها العقل بواسطة لا تغيب عن الذهن عند تصوُّر الطَّرَفَيْنِ؛ كقولك: الأربعة زوج، فإن العقل يدرك ذلك بواسطة لا تَغيبُ عنِ الذِّهْنِ عند تصوُّر الطَّرفيْنِ، وهي أنَّ الأربعة تنقسم إلى متساويَيْنِ، وكلُّ مُنْقَسم إلى متساويين زوج.
والبرهان لا يُستَعْمَل في الخطابة، قال في "المناهج الأدبيَّة": والأقوال الصادقة يقينًا لا تقع في الخطابة من حيثُ إنَّها خطابة، فإن ألَمَّ بِها الخطيبُ فقد عدل بالخطابة عن أصلها، والظني ما أفاد الظَّنَّ فقط، ويتألف من غير اليقينيات، وهي ست أيضًا مشهورات مسلمات، والمؤلَّف منها يُسمَّى جدلاً؛ كقولنا: الظلم قبيح، وكُلُّ قبيحٍ يَشِينُ، والإحْسَانُ خيرٌ وكُلُّ خَيْرٍ يَزين، وقولك: خبر زيد خبر عدل، وكل ما هو كذلك يعمل به، ومظنونات مَقبولات والمؤلف منها يُسمَّى خطابة، مخيلات والمؤلف منها يُسمَّى شِعرًا، ووهْمِيَّات والمؤلف منها يسمى سفسطة، كقولك في أمة شرقية: هذه أمة تُساسُ بِإِرادتِها؛ لأنَّ لها مَجلسًا نيابيًّا ينظر في شؤونها، فإنه استدلال خطابي مؤلف من أقوال مظنونة إذ الشأن في الأمم ذات المجالس النيابية أن تكون مسوسة بإرادتها، وليس هذا دليلاً قطعيًّا لجواز أن تتغلب عوامل الهوى عند الانتخاب، فلا يكون صحيحًا؛ كقولك لمن تأخذه العزَّة بالإثم حينما تنكر عليه قوله أو عمله: لا تستنكف أن ينكر عليك قولك أو عملك، فقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما بويع بالخلافة: "فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فردُّونِي"، فإنَّه أيضًا استدلالٌ خِطابِي قام على أقوال مقبولة صَدَرَتْ من تقي يعتقد صدقه؛ وكقول أرسطو للإسكندر: إن الناس إذا قدروا أن يقولوا قدروا أن يفعلوا، فاحترس من أن يقولوا: تسلم من أن يفعلوا، فإنَّ مبناه غلبة الظن لجواز أن يكون القادر على القول عاجزًا عن الفعل، وأن يوجد الاحتراس ولا توجد السلامة من أفعال الناس، وباقي الأمثلة لا تخفى على بصير.
وتؤخذ أدلَّةُ الخَطابة من التَّأمُّل في موضوعِ البَحْثِ وإمعان النظر في أحواله، وتسهيلاً لاستخراج هذه الأدِلَّة، قد وضع الأقْدَمون من اليونان جدولاً لما يُمكن استعماله منها، وأطلق العرب عليه اسم مواضع؛ قال ابن سينا: إن الحجج في الجدل والخطابة تؤخذ من المواضع، فمن طلب الإقناع وهو لا يَعلمُها كان كحاطب ليل يسعى على غير هداية لا لبخل في الموضوع؛ بل لنقصان في الاستعداد، فالمواضع مصادر الأدِلَّة العامَّة التي يمكن للخطيب استعمالها في كل مقام، إمَّا لإثبات قوله وتأييد رأيه، أو توسيع المعاني بحسن البيان، وهي نوعان ذاتية وعرضية:
فالذَّاتيَّة ما تستفاد من ذات الموضوع وهي كثيرة:
منها: تعريفه بِذِكْرِ خواصِّه اللازمة؛ أي البينة والثبوت له والانتفاء عن غيره؛ كقول الإمام علي - كرم الله وجهه - لكميل بن زياد النخعي: يا كميل، العلم خير من المال، العلم يَحرُسك وأنت تَحرس المال، والعلم حاكمٌ والمالُ مَحكومٌ عليْهِ، والمال تنقصه النفقة والعلم يَزكو على الإنفاق، مات خُزَّان الأموال وهم أحياء، والعُلماءُ باقونَ ما بَقِيَ الدَّهْرُ، أعيانُهم مفقودة وأمثالُهم في القلوب موجودة.
ومنها: شرح الأعراض التي تختصُّ جُملَتُها به؛ فإنَّه في معرفَتِها إعانةٌ على كمال معرفة ما هي له، فالتحلِّي بِها كَقَوْلِ الحسن البصري لعمر بن عبدالعزيز في وصف الإمام العادل: اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الرفيق الذي يرتاد لها أطيب المرعى، ويذودها عن مراتع المهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحرِّ والقرِّ، وكالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغارًا ويعلِّمُهم كِبارًا يَكْتَسِبُ لَهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته؛ وكالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها حملته كرهًا، ووضعته كرهًا، وربته طفلاً تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بِعافِيَتِه وتغتمُّ بِشكايَتِه، وكالقَلْبِ بَيْنَ الجوانح تصلح الجوانحُ بِصلاحِه وتَفْسُدُ بِفَسادِه.
ومِنْهَا: تعريف الشيء بذكر آثاره، فإنَّ حقائق الأمور خفيَّة، وإنَّما تظهَرُ بِفَوائِدِها وآثارِها، فإذا أردتَ إثبات حكم لأمر أو نفيَه عنه فعدِّدْ آثارَهُ الحسنة أوِ السيِّئة التي يستدل منها على صلاح علتها أو فسادها، إذ حال المعلومات تابع لحالِ عِلَلِها، ثُمَّ ابْنِ حكمك على ذلك في مقام الترغيب فيها أو الترهيب منها، كقولك في الصوم مثلاً: إن للصوم آثارًا حسنة وفوائد عظيمة:
1 - إنه يضبط النفس ويطفئ شهوتَها، فإنَّها إذا شبِعَتْ تَمرَّدَتْ وطَلَبَتِ الشهوة، وإذا جاعت خضعتْ وامْتَنَعَتْ عمَّا تَهوى قال صلوات الله وسلامه عليه: «يا معشر الشباب منِ اسْتَطَاعَ مِنْكُم الباءةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فإنَّه أغضُّ لِلبَصَرِ وأَحْصَنُ لِلفَرْجِ، ومَنْ لَم يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بالصوم فإنه له وجاء»؛ (متَّفق عليه)، فكان الصوم ذريعة إلى كف النفس عن المعاصي.
2 - إنه وسيلة إلى تربية النفوس وتَهذيبِها؛ لأنَّها إذا انقادت للامتناع عن الحلال الذي لا غنى لها عنه طلبًا لمرضاة الله تعالى، وخوفًا من أليم عذابه، فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام الغنية عنه فكان سببًا في اتقاء المحارم، وقوة العزيمة وإليه الإشارة بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
3 - إنَّه وسيلةٌ إلى شُكْرِ النِّعمةِ إذْ هُو كفُّ النَّفس عنِ الأكل والشرب، ومباشرة الحليلة، وهِيَ من جلائل النعم، والامتناع عنها زمانًا معتبرًا يعرف الإنسان قدرها، إذ لا يُعْرَفُ فَضْلُ النعمة إلا بعدَ فَقْدِها، فيبعثه ذلك على القيام بِشُكْرِها وشُكْرُ النِّعْمة واجبٌ وإلَيْهِ الإشارةُ بِقَوْلِه تعالى {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
4 - إنه يبعث في الإنسان فضيلةَ الرَّحْمة بالفقراء، والعطف على المساكين، فإنَّهُ إذا ذاق أَلَمَ الجوع في بعض الأوقات تذكَّر به مَنْ هو ذائقُه في جَميع الأوقات، فيسارع إلى رحمته والإحسان إليه.
5 - إنَّهُ يُنَقِّي الجسم من الفضلات الرديئة، والرطوبات المعوية، ويشفي من اضطرابات الأمعاء المزمنة، والبول السكري، وزيادة الضغط الذاتي، والتهاب الكلى الحاد والمزمن، وأمراض القلب المصحوبة بورم، وما إلى ذلك منَ المَزايا الصِّحِّيَّة الَّتِي شهد بها العدو قبل الصديق.
وقِسْ على ذلك آثار تناوُلِ المسكرات وتعاطي المخدرات ومضارها البدنية والعقلية والمالية والاجتماعية، واعلَمْ أنَّ التَّشْبِيهَ المعروفَ عند البيانيِّين، وإن كانت الغاية منه حسن البيان إلاَّ أنَّه يأْتِي أيْضًا للإقْناع، وكثيرًا ما يتوسَّلُ بِهِ الخُطباءُ إلى مقاصِدِهِمْ؛ لأنَّه يَزِيدُ المعنى وضوحًا، ويكسبه تأكيدًا، ولِهذا جاء كثيرًا في الكتب السماوية وأطبق عليه جميع المتكلمين من العرب والعجم، ولم يستغنِ أحدٌ مِنْهُم عنه، وقد جاءَ عن القُدَماء وأهل الجاهلية من كل جيل ما يستدل به على شرفه وفضله وموقعه من البلاغة بكل لسان؛ كقوله تعالى ترغيبًا في بذل الأموال في الجهاد لإعلاء كلمة الله، ووجوه الخير: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بِالحُمَّى والسَّهَرِ»؛ (رواه الجماعة)، وقول ابن المقفع: "الدنيا كالماء الملح كلما ازداد صاحبه شربًا ازداد عطشًا، وكالكأس من العسل في أسفله السم للذائق منه حلاوة عاجلة وفي آخره الموت الزعاف أي السريع وكأحلام النائم التي تفرحه في منامه فإذا استيقظ ذهب الفرح".
أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَأَحْلاَمِ نَائِــــمِ ** وَمَا خَيْرُ عَيْشٍ لاَ يَكُونُ بِدَائِمِ
تَأَمَّلْ إِذَا مَا نِلْتَ بِالأَمْسِ لَذَّةً ** فَأَفْنَيْتَهَا هَلْ أَنْتَ إِلاَّ كَحَالِـــمِ
فإنَّه شبَّه الدنيا ولذَّاتِها في سرعة الانقضاء بالحلم، ومنها: المثل ولضرب الأمثال في الخطابة مزايا لا يستهان بها، فإنها ألطف ذريعة إلى القلوب الغبية، وأقوى وسيلة إلى تسخير العقول الأبية، ذلك لأنها تصوير للمعقول بصورة المحسوس، وإيراد لأوابد المعاني في هيئة المأنوس، وبذلك تبقى صور المعاني راسخة في الأذهان، لا تذهب بطول الزمان، ولا يأتي عليها النسيان، وهي أنواع مفترضة ممكنة، وهي ما نسب فيها النطق والعمل إلى عاقل كالأمثال النبوية، وتختلف عن الحكاية من وجهين:
1 - أن لها مغزى.
2 - كونها غير واقعية وإن كانت في حيز الإمكان، ومخترعة مستحيلة، وهي ما جاءت على ألسنة الحيوانات والجمادات، فيعزى لها النطق والعمل لإرشاد الإنسان؛ كأمثال كليلة ودمنة، ومختلطة وهي ما دار فيها الكلام والعمل بين الناطق وغيره، وكثيرًا ما يكون ضرب المثل على وجه التَّشابُه والحكم؛ كما قال ابن المقفع في "مودَّة الصالحين والأشرار": المودَّة بين الصالحين سريعٌ اتِّصالُها، بطيءٌ انْقِطاعُها كآنيةِ الذَّهَبِ، بطيئة الانكسار، هينة الإعادة، والمودة بين الأشرار سريع انقطاعُها، بطيءٌ اتصالها كآنية الفخار، يكسرها أدنى شيء، ولا وصل لها أبدًا، وقوله: يبقى الصالح من الرجال صالحًا حتى يصاحب فاسدًا.
فإذا صاحبه فسد؛ مثل مياه الأنهار تكون عذبة حتى تخالط ماء البحر، فإذا خالطته ملحت، وملح من بابَيْ دخل وسهل، ومن الصور الوهمية التي يخترعها الوهم، والأمور الفرضية التي يبتدعها الخطباء وسيلة إلى المقصود قول ابن المقفع: مخترعًا صورة حسية لتبيان قصر الحياة ولذاتها الزائلة، وعدم خلوها من المخاطر والمنغصات، التمست للإنسان مثلاً فإذا مثله مثل رجل لجأ من خوف فيل هائج إلى بئر فتدلى فيها، وتعلق بغصنين كانا على سمائها فوقعت رجلاه على شيء في طي البئر، فإذا حيات أربع قد أخرجن رؤوسهن من أجْحارِهِنَّ، ثُمَّ نظر في قاع البئر فإذا فيه تنِّينٌ فاتِحٌ فاهُ مُنْتَظِرٌ له لِيَقَعَ فيأخذه، فرفع بصرَهُ إلى الغصنين فإذا في أصلهما جرذان أسود وأبيض، وهما يقرضان الغصنين دائبين لا يفتران؛ فبَيْنَمَا هُو فِي النظر لأمره والاهتمامِ لِنَفْسِه إذْ أبْصَرَ قريبًا منه كوارة[1] فيها عسل نَحْلٍ فذاق العسل فَشَغَلَتْهُ حلاوتُه وألْهَتْهُ الفِكْرَةُ في شيء من أمره، وأن يلتمس الخلاص لنفسه، ولم يذكر أن تحت رجليه حيات أربع، لا يدري متى يقع عليها، ولم يذكر أن الجرذين دائبان في قطع الغصنين.
ومتى انقطع وقع على التنين فلم يزل لاهيًا غافلاً مشغولاً بتلك الحلاوة حتى سقط في فم التنين فهلك، فشبهت بالبئر الدنيا المملوءة آفات وشرورًا، ومخافات وعاهات، وشبهت بالحيات الأربع الأخلاط الأربعة التي في البدن، فإنها متى هاجت أو أحدها كانت كحمة الأفاعي والسم المميت، وشبهت بالغصنين الأجل الذي لا بد من انقطاعه، وشبهت بالجرذين الأسود والأبيض الليل والنهار اللذين هما دائبان في إفناء الأجل، وشبهت بالتنين المصير الذي لا بد منه، وشبهت بالعسل هذه الحلاوة القليلة التي ينال منها الإنسان فيطعم وينظر، ويسمع ويشم، ويلمس ويتشاغل عن مآله، ويلهو عن شأنه، ويصد عن سبيل قصده ا هـ؛ أي إن الإنسان في الدنيا مشغول بلذاتها الحقيرة الفانية عن الاهتمام بمصير أمره وطلب النجاة لنفسه في تلك الحياة ليظفر بنعيمها العظيم الباقي.
وعلى الجملة فلضرب الأمثال أحسن موقع في الخطابة قال ابن المقفع: إذا جعل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق، وآنق للسمع، وأوسع لشعوب الحديث، وقال إبراهيم النظام وقد خص بقوله: الأمثال السائرة في المثل أربع لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة؛ كقولهم "الصيف ضيعت اللبن" لمن يقصر في طلب الشيء في أوانه، ثم جاء يطلبه في غير أوانه.
والأدلة العرضية ما تؤخذ من مصادر خارجة عن الموضوع يحتج بها الخطيب لإثبات قضيته، وتأييد رأيه، وتلك المصادر نوعان: إلهية وبشرية؛ فالإلهية ما كانت عن وحي كالكتب المنزلة، والبشرية سنن الأنبياء والرسل وأقوال مشاهير الأئمة، وحكم الفلاسفة، ومألوف عادات الأمم؛ كقوله تعالى في إثبات فضل العلم ترغيبًا فيه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [2]، فشهادته تعالى بتوحيده هي إعلامه على لسان رسله أو بيانه بنصب الأدلة القاطعة لذلك في الآفاق، وفي نفوس البشر وشهادة الملائكة وأولي العلم بالتوحيد هي إقرارهم به، خص تعالى أولي العلم بالذكر من بين الآدميين تنبيهًا على أنهم هم المعتبرون، وشهادتهم هي الموثوق بها، أما غيرهم فهمل لا اعتداد به، ولا وزن لشهادته، وكفى بذلك شاهدًا بفضل العلم وأهله، وهذا أحد الوجوه التي تشير إلى فضل العلم والعلماء مما تضمنه هذا التنزيل الحكيم.
وثانيها: اقتران شهادتهم بشهادته تعالى، فإن من المقطوع به أن شهادته تعالى كافية: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79]، لأنها من عليم خبير بدقائق خلقه وأسرار كونه، فقرنه تعالى شهادة العلماء بشهادته إعلام منه تعالى بأنها حق ناشئة عن علم وخبرة، وكفى بذلك فضلاً للعمل والعلماء؛ وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»؛ (متفق عليه)، أي يجعله فقيهًا في الدين، والمراد العلم المستلزم للعمل، وفي حديث أبي الدرداء: «إن العلماء ورثة الأنبياء»؛ (أخرجه أبو داود)، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم، ومعلوم أنه لا رتبة فوق النبوة، ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة العالية، وقال البيهقي: سمعت سعيد بن داود يقول:
سألت ابن المبارك: من الناس؟ فقال العلماء، قلت: فمن الملوك؟ قال: الزهاد، قلت: فمن السفلة؟ قال: الذين يعيشون بدينهم. والسفلة بكسر السين وسكون الفاء، ولم يجعل غير العالم من الناس؛ لما روي عن ابن مسعود: الناس رجلان: عالم ومتعلم، ولا خير فيما سواهما؛ لأن الخاصية التي بها يتميز الإنسان عن غيره هي العلم، فإذا فقدت فقد منه شرف الإنسان، والتحق بالبهائم، إذ لم يبق معه إلا القدر المشترك بينه وبين سائر الدواب، وهو الحيوانية المحضة؛ لأن نطقه حينئذ كلا نطق، فلم يبق فيه فضل على العجماوات؛ بل قد يكون شرًّا منها؛ كالجهال الذين استهوتهم الزخارف فارتكبوا المنكرات، وخالطوا الشهوات فسلبت عقولهم، وأفسدت حالهم، وقد ضرب الله لهم في كتابه مثلاً بقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [3]، وكانوا شر البهائم لإبطالهم ما ميزوا به وفضلوا لأجله.
وكقول المسعودي مرغبًا في حب الوطن والمحافظة عليه، فأورد كثيرًا من الأدلة للوصول إلى غرضه: إن من علامة الرشد أن تكون النفس إلى ولدها مشتاقة، وإلى مسقط الرأس تواقة، وقد ذكر أن من علامة وفاء المرء ودوام عهده حنينه إلى إخوانه، وشوقه إلى أوطانه، وبكاءه على ما مضى من زمانه، قال ابن الزبير: ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم، وقال بعض حكماء العرب: عمر الله البلدان بحب الأوطان، وقال بعض حكماء الهند: حرمة بلدتك عليك مثل حرمة والديك، لأنَّ غذاءَك منهما وغذاءهما منها، وقال بقراط: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه؛ لأن الطبيعة تتضلَّعُ بِهوائِها وتنزع إلى غذائها، وقال أفلاطون: غذاء الطبيعة من أنفع أدويتها.
[1] الكوارة والكوار: بيت يتخذ للنحل من قضبان ضيق المدخل تعسل فيه.
[2] سورة آل عمران الآية: 18.
[3] سورة الأنفال الآية 22.
______________________________ ______________________
الكاتب: الشيخ علي محفوظ
ابو وليد البحيرى
2024-05-24, 11:28 PM
طريقة إعداد خطبة الجمعة مع وصايا للخطباء
إن إعداد خطبة الجمعة من الأمور المهمة للخطيب الذي يصعد المنابر في كل أسبوع؛ ولذلك اجتهدت في جمعِ بعضِ الوصايا والأمور المهمة التي ينبغي على الخطباء مراعاتها عند إعداد خطبة الجمعة، وإلقائها على الناس، فأقول وبالله سبحانه وتعالى التوفيق:
الحكمة من خطبة الجمعة والعيدين
الله سبحانه وتعالى شرع خطبة الجمعة والعيدين لحِكَمٍ عظيمة، ونستطيع أن نوجزها في الأمور الآتية:
(1) تصحيح عقيدة الناس.
(2) تذكير الناس بالـجنة والنار، ولقاء الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، ومحاسبته لهم على ما قدَّموا من أعمال.
(3) تعليم المسلمين أمور دينهم ومعرفة الحلال والحرام.
(4) ترغيب المسلمين فيما عند الله تعالى من النعيم المقيم، وحثهم على الزهد في الدنيا والإكثار من ذكر الله سبحانه، لتكون القلوب حية دائمًا، وقريبة من خالقها ورازقها سبحانه وتعالى.
(5) اجتماع المسلمين والتأليف بين قلوبهم، ومساعدة بعضهم لبعض في أمور الدين والدنيا.
وصايا للخطباء الكِرام:
تعتبر خطبة يوم الجمعة درسًا أسبوعيًّا لترسيخ العقيدة الصحيحة في قلوب المسلمين، وتهذيب أخلاقهم، وتحذيرهم من المنكرات؛ ولذلك ينبغي على الخطباء الكرام عند إعداد خطبة الجمعة وإلقائها مراعاة الأمور التالية:
(1) إخلاص العمل لله سبحانه وتعالى.
• قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].
• روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه»؛ (مسلم، حديث: 2985).
• روى الشيخانعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»؛ (البخاري، حديث: 1، مسلم، حديث: 1907).
(2) التوسل إلى الله تعالى بالدعاء للتوفيق في إعداد الخطبة.
• قال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
(3) الدعوة إلى الله تعالى شرف كبير، فيجب على الخطيب أن يشكر الله تعالى الذي جعله ينال هذا الشرف، وهذه المنزلة العالية.
(4) معرفة فضل وثواب الدعوة إلى الله تعالى.
• قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
• روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من دعا إلى هدًى، كان له من الأجر مثل أجور من تبِعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا»؛ (مسلم، حديث: 2674).
• روى الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لعلي بن أبي طالب يوم خيبر: «والله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خيرٌ لك من أن يكون لك حـُمْـرُ النَّعَم»؛ (البخاري، حديث: 4210، مسلم، حديث: 2406).
• قوله: «حـمـر النعم»؛ أي: الإبل العظيمة، وهي أعزها وأنْفَسُها عند العرب؛ (مرقاة المفاتيح، علي الهروي، ج: 9، ص: 3934).
(5) يجب على الخطيب أن يتذكر أن الله سبحانه وتعالى سوف يسأله عن أقواله وأفعاله يوم القيامة.
قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]؛ قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قوله: {مَا يَلْفِظُ} ؛ أي: ابن آدم، {مِنْ قَوْلٍ} ؛ أي: ما يتكلم بكلمة، {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ؛ أي: إلا ولها من يراقبها معتد لذلك يكتبها، لا يترك كلمةً ولا حركةً؛ كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12]؛ (تفسير ابن كثير، ج: 7، ص: 398).
(6) ينبغي على الخطيب الكريم الاقتداءُ بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقدر استطاعته، ولا يكلف الله سبحانه وتعالى نفسًا إلا وسعها.
• قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
• وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
• وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
• وقال جل شانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7].
(7) ضرورة عدم مخالفة قول الخطيب لفعله؛ لأن ذلك له أثـــر كبير في قلوب الناس.
• قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].
• وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3].
• روى الشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه»؛ (البخاري، حديث 3267، مسلم، حديث 2989).
• روى مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستجاب لها»؛ (مسلم، حديث 2722).
• قال الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله: "لا يرضين الناس قول عالم لا يعمل، ولا عامل لا يعلم"؛ (اقتضاء العلم العمل، للخطيب البغدادي، ص: 166).
• قال الإمام مالك بن دينار رحمه الله: "العالـم الذي لا يعمل بعلمه بمنزلة الصفا - الـحجر الأملس - إذا وقع عليه القَطْرُ زلِق عنه"؛ (اقتضاء العلم العمل، للخطيب البغدادي، ص: 192).
طريقة إعداد الخطبة:
نستطيع أن نوجز خطوات إعداد خطبة الجمعة في الأمور الآتية:
(1) حسن اختيار موضوع الـخطبة؛ بحيث يتناسب مع أحوال الناس، والقضايا المعاصرة التي تهمُّهم.
(2) تقسيم الـخطبة إلى عناصر.
(3) الاهتمام بذكر الأدلة على من القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، وأقوال سلفنا الصالح، واجتناب الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
(4) الاهتمام باستخدام اللغة العربية السهلة التي تتناسب مع أفهام الناس.
(5) كتابة مصادر إعداد الـخطبة وخاصة الأمور الفقهية، فربما يحتاج إليها.
(6) يستطيع الخطيب كتابة عناصر الـخطبة بإيجاز في ورقة صغيرة، ويحملها معه؛ لكي يتذكرها إذا نسِيَ منها شيئًا.
(7) ضرورة اهتمام الخطيب بمظهره الشخصي، مع حرصه على ارتداء أفضل ثيابه.
(8) يحرص على الذهاب إلى المسجد مبكرًا، وخاصة إذا كان المسجد بعيدًا عنه، ولكي يتمكن من مراجعة الـخطبة مرة أخرى.
(9) اختيار مقدمة قصيرة ومناسبة لموضوع الـخطبة؛ مراعاةً للوقت.
(10) يبدأ الخطيب خطبته بالحديث عن العناصر المهمة، ويراعي إعطاء كل عنصر الوقت المناسب له.
(11) استخدام الحكمة والموعظة الحسنة عند إرشاد الناس ونصحهم.
• قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ} [النحل: 125].
• وقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ} [آل عمران: 159].
• روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه»؛ (مسلم، حديث 2594).
(12) يجب أن يكون الخطيب متواضعًا مع الناس، ويعلم أنه قد يكون بين المستمعين لخطبته مَن هو أكثر منه علمًا.
(13) الاهتمام برفع صوته، وخاصة عند الرغبة في تأكيد أمر معيـن، وتنبيه الناس له.
(14) بيان معاني الكلمات الصعبة الموجود في الآيات أو الأحاديث النبوية الشريفة.
(15) الاهتمام بنسبة الأقوال المأثورة إلى أصحابها؛ لأن هذا يؤدي إلى زيادة الثقة في كلام الخطيب.
(16) الاهتمام بتصحيح أمور العقيدة أثناء إلقاء الـخطبة.
(17) عدم إثارة الأمور الفقهية الخلافية على المنبر؛ حتى لا تحدث فتنة بين الناس.
(18) عدم التكلف عند أداء الخطبة، واجتناب السرعة عند الكلام.
• روى الترمذي عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والـمتشدِّقون والـمُتَفَيْهِق ُون»، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والـمتشدقون، فما الـمتفيهقون؟ قال: «الـمتكبرون»؛ (حديث صحيح، صحيح الترمذي، للألباني، حديث 1642).
• قوله: (الثرثارون): الثرثار: هو الكثير الكلام بتكلُّفٍ.
• قوله: (والـمتشدقون): الـمتشدق هو: الذي يتكلم بملء فمه تفاصحًا وتفخمًا وتعظيمًا لكلامه.
• قوله: (الـمتفيهقون): الـمتفيهق: هو الإنسان الذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسع فيه؛ تكثرًا وارتفاعًا، وتكبرًا وإظهارًا لفضله على غيره من الناس؛ (عون المعبود، محمد أشرف آبادي، ج: 13، ص: 91).
• قال الإمام النووي رحمه الله: "يكره التفاخر في الكلام بالتشدُّق، وتكلف السجع والفصاحة، والتصنع بالـمقدمات التي يعتادها الـمتفاصحون من زخارف القول، فكل ذلك من التكلف الـمذموم، وكذلك التحري في دقائق الإعراب، ووحشي اللغة في حال مخاطبة العوام، بل ينبغي أن يقصد في مخاطبته إياهم لفظًا يفهمونه فهمًا جليًّا، ولا يدخل في الذم تحسين القادر للخطب والمواعظ، إذا لم يكن فيها إفراط وإغراب؛ لأن المقصود منها تهييج القلوب إلى طاعة الله تعالى، ولحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر؛ (مرقاة المفاتيح، علي الهروي، ج: 7، ص: 3019).
(19) استخدام القصص الصحيحة من حياة الأنبياء والصالحين والدروس المستفادة منها؛ لأن الأسلوب القصصي في الخطبة له تأثير كبير على الناس.
(20) الحرص على عدم ذكر أحدٍ بعينه من أصحاب المعاصي، وأن يجعل النصيحة عامة.
• روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، فاشتد قوله في ذلك، حتى قال: لينتهنَّ عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم»؛ [البخاري، حديث: 750].
(21) عدم إطالة وقت الـخطبة؛ حتى لا يمل الناس.
(22) إذا أراد الخطيب توضيح بعض الأمور بالتفصيل، فينبغي عليه أن يجعل ذلك بعد الصلاة مع مراعاة عدم إطالة الدرس؛ لأن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضًا.
• روى مسلم عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنَّةٌ - علامة - من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الـخطبة، وإن من البيان سحرًا»؛ (مسلم، حديث: 896).
أسأل الله تعالى بأسمائه الـحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكـــــرام، وآخــر دعوانا أن الـحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لـهم بإحسان إلى يوم الدين.
______________________________ ____________________ __
الكاتب: الشيخ صلاح نجيب الدق
ابو وليد البحيرى
2024-05-24, 11:30 PM
بنك الخطيب للموضوعات
مما يشكو منه كثيرٌ من الخطباء اليوم قلة المواضيع التي عليهم طرحها على الناس، فكلما فكر الخطيب في عنوان لخطبته يتذكر أنه قد تم طرحه على الناس وهكذا فيظل حائراً، ومن هنا يظهر أنّ مسألة اختيار موضوع الخطبة عقبة تواجه الخطيب، ذلك أنه لا يُطلب منه أن يختار موضوعاً واحداً في السنة وإنما عنده في كل أسبوع موضوعاً، وهذا يعني أنه يحتاج في العام تقريباً إلى اثنين وخمسين موضوعاً هي عدة الخطب في العام الواحد، وإذا استمر أكثر من ذلك ؛ فإنه يحتاج إلى المئات وأكثر من هذه الموضوعات، ولا شك أنه يحرص على أنه لا يكرر الموضوعات مرة بعد مرة، وإن كرر فإن التكرار لا يكون إلا في موضوعات المناسبات.
أخي الخطيب:
بين يديك مجالات ومواضيع تستطيع أن تختار منها موضوعاً لخطبتك لتعيش طوال الأسبوع باحثاً جامعاً حول هذا الموضع،مُجددا ً لخطبتك،مشوقاً لسامعيك،مراعيا واقع الناس ومشاكلهم ومناسباتهم.
الخطيب الناجح :
هو الذي يراعي ضرورة التنويع في الخطب فلا تأخذ الخطب نمطاً واحداً، بل يكون للخطيب القدرة على التنويع في افتتاح الخطبة وموضوعاتها واختتامها، لئلا يمل المصلون، ولأن في التنويع تشويقاً وحفزاً على الاستماع والإنصات.
وقد تجد البعض من الخطباء يركز على جانب الوعظ دون سواه والآخر على الجانب السياسي والثالث على الجوانب الاجتماعية وهكذا.
إن هناك فئة غير قليلة من المسلمين لا يتلقون العلم إلا من خلال خطبة الجمعة، وإن تحقيق التكامل والتنوع في موضوعات الخطبة يُهيئ لهؤلاء حداً أدنى من الثقافة الشرعية.
ودعونا ندخل وإياكم إلى هذا البنك الذي لا بد لكل خطيب أن يكون له رصيد فيه:
أول: القرآن الكريم:
القرآن زادٌ عظيم مبارك للمواضع،يمكن أن يكون موضوع الخطبة آية قرآنية يجعل الموضوع يدور حولها وحول تفسيرها، وحول معانيها وما قال العلماء عنها، ويربطها بواقع الأمة وواقع الناس واحتياجاتهم اليومية،ومثال على ذلك قول الله تعالى: ( {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} ) [الإسراء9]
وقوله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد11
وغيرها من الآيات.
و هناك آيات في القرآن تصلح أن تكون سلسلة طويلة من الموضوعات يحصل بها النفع والفائدة، كما يحصل بها استقرار نفسي لمدى معين بالنسبة للخطيب.
من أمثلة المواضيع القرآنية
1 ـ الآيات التي تتكلم عن صفات عباد الرحمن ؛ فإنها يمكن أن تكون موضوعاً لسبعة أسابيع أو عشرة أسابيع ولأكثر من ذلك.
2 ـ آيات الوصايا مثل وصايا لقمان لابنه والوصايا العشر في سورة الأنعام، والوصايا في سورة الإسراء.
3 ـ القصص القرآني، فيمكن أن تأخذ قصة نوح - عليه السلام - وتأتي بأحداثها ودروسها وعبرها في أربعة خطب إلى غير ذلك.
ثاني: السنة النبوية:
قد يكون موضوع الخطبة زهرة واحدة من بستان النبوة،حديث يعيش الخطيب في ظلاله ويتأمل الدروس والعبر وأقوال العلماء فيه.
ومن ذلك حديث ابن عباس "احفظ الله يحفظك"،حديث جبريل "مراتب الدين "،حديث أبي ذر"اتق الله حيثما كنت"وغيرها من الأحاديث.
ثالث: العقائد والإيمان:
1. الإيمان بالله «الربوبية – الألوهية – الأسماء – الصفات »
2. أهمية الإيمان بالله: «وجوبه، ثماره في الفرد والمجتمع ».
3. حقيقة الإيمان وبيان أنه اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالجوارح وأنه يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان.
4. العلم طريق الإيمان: أهميته، فضله ثمرته.
5. التفكر في مخلوقات الله.
6. أدلة الإيمان وبراهينه من النفس والآفاق.
7. الإيمان بالملائكة :
أ. وظيفتهم، وصفاتهم، حقيقتهم.
ب. أثر الإيمان بالملائكة في حياة المسلم.
ج. الفرق بين عالم الملائكة وعالم الجن.
8. الإيمان بالكتب :
أ. الإيمان بالكتب السابقة وبيان ما طرأ عليها من تحريف.
ب. القرآن المعجزة الخالدة والمهيمنة على الكتب السابقة وبيان معجزاته.
9. القرآن وواجب الأمة نحوه.
10.الإيمان بالرسل :
أ. التعريف بهم وبيان صفاتهم ومعجزاتهم.
ب. حاجة الناس إلى الرسل.
ج. مكانة الرسل وعصمتهم.
11.دروس من حياة الرسل.
12.محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.«دروس من حياته»
13. مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزاته.
14.أهمية الإيمان باليوم الآخر في حياة المؤمن.
15. الموت « كفى بالموت واعظاً ». عذاب القبر ونعميه.
16. البعث والنشور والحساب وأهوال يوم القيامة.
17.الجنة ونعيمها والنار وعذابها.
18.الإيمان بالقدر خيره وشره وبيان مراتبه
أ. حقيقته وأهميته وأثره في حياة الفرد والمجتمع.
ب. الأخذ بالأسباب جزءاً من الإيمان بالقدر.
19. أمثلة من تقدير الله للمخلوقات: المقادير، الأرزاق، الأعمار ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾.
شعب الإيمان وهي بضع وسبعون شعبة.يعني سبعة وسبعون موضوع.
20- الشرك وخطره وبيان أنواعه.
21- الولاء و البراء.
22- عالم الجن وأثر الإيمان بهم والوقاية من مكرهم.
23- النفاق والمنافقين.
رابع: العبادات:
1- مفهوم العبادة في الإسلام وشموليتها :
أ. بيان معنى العبادة وأنواعها وشموليتها لجميع نواحي الحياة.
ب. التفريق بين العبادات والعادات.
ج. بيان خطأ من يحصر العبادات على جوانب معينة.
د. فهم السلف الصالح للعبادة.
هـ عبادته صلى الله عليه وسلم ومنهج الشمول فيها.
و. أثر العبادة في حياة الفرد وتنمية الروح.
أنواع العبادات : قلبية مثل : الإيمان والحب والإخلاص والتوكل.. الخ وبدينه مثل: الصلاة والجهاد... ومالية مثل: الزكاة – الصدقات.
1- الطهارة:
أ. طهارة الظاهر والباطن – طهارة البدن والمكان – طهارة القلوب والجوارح.
ب. النظافة مظهر حضاري يدعونا الإسلام إليه.
ج. سنن الفطرة مقرونة بالإعجاز العلمي.
2-الصلاة :
أ. أهمية المحافظة على الصلاة جماعة في المسجد وعدم تأخيرها عن وقتها.
ب. التحذير من تركها أو التكاسل عنها مع بيان حكم ذلك.
ج. تربية الأهل والأولاد على أداء الصلاة ومحاسبتهم يومياً على ذلك ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾.
د. دعوة الغافلين عنها إلى أدائها خاصة في الأسواق.
هـ. حث الناس على الانتهاء عن الفحشاء والمنكر لأن ذلك من أهداف الصلاة.
و. بيان أثر الصلاة في حياة الفرد والمجتمع والاستقرار النفسي عند المصلين.
ز. الحث على الإخلاص في أدائها والخشوع فيها والالتزام بآدابها.
ح. الحث على النوافل كقيام الليل والسنن الراتبة.
ط. الحث على صلاة الجمعة والمسارعة إليها وبيان أحكامها والتحذير من تركها.
ي. الحث على صلاة الجنازة والاستسقاء والكسوف والخسوف وبيان فضل تكثير المصلين فيها والحديث عن حكمها وأحكامها.
ك.أخطاء يقع فيها بعض المصلين.
ل. صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وضرورة الإقتداء به : «« صلوا كما رأيتموني أصلي »»
3-الزكاة:
أ. بيان أحكامها ومقاديرها ومصارفها وأنواعها.
ب. بيان حكمتها وآثارها في تقوية الروابط الاجتماعية وإزالة الضغائن بين الفقراء والأغنياء.
ج. التحذير من تركها أو صرفها في غير مصارفها أو أداء جزء منها فقط.
د. الحث على الإخلاص في أدائها والرضا بأدائها عن طيب نفس.
هـ. الحث على الصدقات مثل كفالة الأيتام والأعمال الخيرية المختلفة.
و. بيان عقوبة مانع الزكاة.
ز. فضل إخراج الزكاة.
ح. تخصيص بند من بنود صرفها لدعوة إلى الله عز وجل ونشر العلم والدين فكل ذلك داخل في سبيل الله.
4-الصيام:
أ*. فوائد الصوم وأسراره وفضله وحكمه.
ب*. أهداف الصيام.
ج. بيان أخلاقيات الصائم.
د. الحث على قيام الليل في رمضان وتحري ليلة القدر وقراءة القرآن وخاصة في العشر الأواخر.
هـ كيفية استقبال شهر رمضان.
و. الآثار التربوية للصيام على الأفراد.
ز. بيان كيف كان السلف الصالح يتعاملون مع رمضان.
ح. الحث على صيام النوافل.
ط. تدريب الأبناء على الصيام.
ك. الجود والإنفاق والإكثار من أعمال الخير في رمضان.
5-الحج:
أ*. فضل الحج وحكمه وأسراره ودلالاته وكيف يستفيد المسلمون من اجتماعهم في الحج.
ب*. صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
ت*. الحث على سرعة أداء هذه الفريضة عند الاستطاعة والتحذير من التساهل في أدائها أو تركها.
ث*. الحث على العمرة والموازنة بين الصدقة وتكرار الحج أو العمرة بعد أداء الفريضة.
ج*. مفاهيم خاطئة عن الحج والعمرة كالذي يعمل الذنوب ويؤخر الحج حتى يكمل ما عنده.
ح*. دروس وعبر من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
خامساً : القصص والغزوات والمعارك :
ومن ذلك :
1- الصحابة الكرام : ومنهم أبو هريرة،معاذ بن جبل، مصعب بن عمير،سلمان الفارسي غيرهم.
2- التابعين : ومنهم عطاء بن أبي رباح،سعيد بن المسيب،عبد الله بن المبارك،وغيرهم
3- القادة والفاتحين : خالد بن الوليد،سعد بن أبي وقاص،طارق بن زياد،عبد الرحمن الغافقي،صلاح الدين الأيوبي وغيرهم.
4- غزوات الرسول تصلح أن تكون سلسلة مباركة مع الدروس والعبر المباركة.
5- معركة القادسية،اليرمو ك،الجسر،حطين،عي ن جالوت وغيرها.
سادس: واقع الأمة :
الخطيب الناجح : يربط المنبر بواقع الناس، فهناك أحداثاً مستجدة، والمطلوب من الخطيب أن لا المنبر مكاناً لنشرة الأخبار أو لاستعراض الأحداث بذاتها، ولكن لاستخراج الدروس والعبر، وتوضيح بعض الحقائق المهمة من ضرورة الولاء لله ولأوليائه والبراءة من أعداء الله، وبيان تكالب الأعداء على أمَّة الإسلام، وغير ذلك.
سابع: الآداب والأخلاق
* الآداب :
1.الأدب مع الله سبحانه وتعالى.
2.الأدب مع القرآن الكريم.
3. الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
4. الأدب مع النفس.
5.الآداب مع الخلق وينقسم إلى:
أ. الأدب مع الوالدين.
ب. الأدب مع الناس وهم العلماء والحكام
ج. الأدب مع الأولاد.
د. الأدب مع بقية الخلق.
هـ. الأدب مع الزوجات.
و. آداب حسن الجوار.
1.آداب طالب العلم.
2.آداب التعارف والتآلف.
3.آداب الحديث والحوار.
4.آداب اللباس.
5.آداب الأكل والشرب.
6.آداب الاستئذان.
* الأخلاق الفاضلة:
1.الأخلاق وأهميتها في الإسلام.
2.الأخلاق الفاضلة وتشمل :
1-أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مثل : الحلم، الصبر، الشجاعة، الكرم، البساطة، التواضع، التيسير، الزهد.
2-الحب في الله. 5-التواضع. 8- الإيثار.
3-الصدق. 6-الشجاعة. 9- الحلم الصبر.
4-الأمانة. 7-الكرم. 10- الغيرة
الأخلاق الذميمة :
1- الكذب. 10-الخيانة. 18- الغضب.
2- القسوة والغلظة. 11-الطمع والجشع. 19- الفرقة
3-الحقد والحسد. 12-البخل. 20- سوء الجوار
4-الكبر 13-الظلم 21حب الذات
5-الجبن 14-الغدر 22- الغيبة
6-النميمة 15-سوء الظن 23-السخرية
7-الغش 16-الغرور 24- اتباع الهوى
8-السفور والتبرج 17- العصبية الجاهلية 25-النفاق
9-الجدال والمراء
ثامن: الدعوة إلى الله تعالى :
1. وجوب الدعوة إلى الله.
2. فضل الدعوة إلى الله.
3. عالمية الدعوة إلى الله.
4. شمولية الدعوة إلى الله.
5. محمد صلى الله عليه وسلم الداعية الأول «صفات الداعية، أسس الدعوة »
6. أساليب الدعوة.
7. المسجد ودوره الدعوي والتعليمي.
8. وسائل الدعوة إلى الله :
ميادين الدعوة «المسجد – البيت – المدرسة – الجامعة – المجتمع – النادي »
فقة الحركة لهذا الدين :
1. مراحل الدعوة إلى الله
2. دخول الإسلام اليمن.
3. المستقبل لهذا الدين.
4. الإيجابية في حياة الفرد المسلم.
تاسع: الجانب الإجتماعي :
1.إصلاح ذات البين.
2 الوحدة والإتحاد.
3 حقوق الآباء.
4 حقوق الأبناء
5حق للزوج على زوجته
6.حق الزوجة على زوجها.
7.حقوق الجار.
8.حق غير المسلم في المجتمع المسلم.
9.دور المرأة في المجتمع.
10.تيسير الزواج
11.إحياء رسالة المسجد وتفعيل دوره في الجانب الاجتماعي
12.معالجة الجريمة والتحذير منها.
13.الأسرة المسلمة والاهتمام بها.
14.الاهتمام بالشباب دورهم في رفعة الأمة.
15.أثر الذنوب والغفلة على الأفراد والشعوب.
16.التكافل ودوره في المجتمع.
أ*- دعوة للإطعام ودور الكفارات.
ب*- فضل الصدقات والإنفاق.
ت*- دعوة التجار والأغنياء إلى المساهمة في التكافل.
ث*- نماذج من التكافل في حياة
ج*- الآثار الطيبة التي نجنيها من القيام بالتكافل.
ح*- أمور تعامليه تحقق التكافل.
عاشر: الجانب الاقتصادي:
1. تعريف الاقتصاد وأهميته :
2. الاقتصاد قبل الإسلام.
3. الاقتصاد الرأسمالي واستعباد الفرد.
4. الاقتصاد الاشتراكي وقتل الإبداع.
5. الاقتصاد الإسلامي «تعريفه – مميزاته – ضرورته لحل مشاكل العالم » وذلك في ضوء :
أ. القرآن الكريم – السنة – الفقه الإسلامي.
6. الزكاة أهميتها وثمارها وأنواعها.
7. مصارف الزكاة ودورها في حل المشكلات الاقتصادية.
8. الكفارات والصدقات والنذور والوقف والهبات وأهميتها وأثرها في المجتمع.
9. الحث على الكسب الحلال وفوائده والنهي عن الأكل الحرام والسرقة والغش.
11.التوازن والاعتدال في الإنفاق والنهي عن الإسراف والتبذير والنهي عن البخل والتقتير.
12.التجارة في الإسلام وصفات التاجر المسلم والنهي عن الاحتكار.
13.التوكل في طلب الرزق والقناعة والرضا بما قسم الله.
14.خيرات الأرض أنواعها كيفية استغلالها.
15.الجهاد في سبيل الله من أوسع أبوب الرزق.
16.النهي عن البطالة والحث على العمل.
17.النهي عن الرشوة والتطفيف في الكيل والوزن.
18.النهي عن السؤال وتكفف الناس والتسول.
19.النهي عن الربا وأضراره وأنواعه وحكمه.
20.لبنوك الإسلامية والشركات الاستثمارية ودورها في بناء الاقتصاد.
21.بنوك الربوية وأثرها على الاقتصاد.
22الوقف ودورة في بناء الاقتصاد.
23.لعولمة وأثرها على الاقتصاد.
الحادي عشر: الجانب السياسي :
1. الحاكمية في الإسلام وفيها :
أ. أهمية الحكم
ب. مواصفات الحاكم
و. موقف الإسلام من التسلط الفردي.ج. واجبات الحاكم
ز. حق الأمة في الحسبة على الحاكم.
د. طرق الوصول إلى الحكم.
2. شمولية الإسلام.
أ. علاقة الإنسان بالله والكون والحياة.
ب. العلاقة الإنسانية مع المسلم ومع غير المسلم.
ج. حقوق وواجبات المسلم.
د. العدل وأثره في الأمة.
ه. الحرية في الإسلام والمساواة.
و. الشورى في الإسلام.
الثاني عشر: الجانب الفكري والثقافي :
1. الحلول الاقتصادية في الإسلام.
2. كيف عالج الإسلام مشكلة الجنس.
3. الإسلام دين القوة.
4. العلم طريق الإيمان.
5. النظافة من الإيمان.
6. الإعلام وأثره في الهدم والبناء.
7. الغزو الفكري ماهيته وأضراره.
8. القنوات الفضائية وسبل المعالجة والإصلاح.
9. خطر السفور والإباحية.
10.يصوغ عقول أبنائنا.
11.سنن الله في حياة الأفراد والشعوب.
12.الصحوة الإسلامية ثمارها ومستقبلها.
13.واجب الأمة في حمل الدعوة.
14.المستقبل لهذا الدين.
15.الله المقيت الرزاق.
16.العلمانية وخطرها على الأمة.
17.فشل التيارات المخالفة للفطرة.
18.الإستشراق وتشويه الإسلام.
19.العولمة مفهومها وحقيقتها.
20.الحاكم العادل.
21.لماذا أفلحوا.
22.طريق النصر.
وفي الأخير أسأل الله بمنه وكرمه ورحمته وعفوه أن يجعل هذا العمل صالحاً ولوجهه خالصاً،وان ينفع به،ويجعله ذخراً لنا يوم المعاد،إنه ولي ذلك والقادر عليه،وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
______________________________ ____________________ __________
أخوكم/أمير بن محمد المدري
ابو وليد البحيرى
2024-06-13, 02:22 AM
مكانة خطبة الجمعة في الإسلام
خطبة الجمعة: تلك الخطبة التي تلقى على المنبر يوم الجمعة قبل صلاة الجمعة، وهي شرط لصحة الجمعة، وبه قال الأئمة أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد - رحمهم الله تعالى -.
ولخطبة الجمعة في الإسلام منزلة عظيمة، يتبين ذلك من خلال ما يأتي:
أولاً: كان تشريع خطبة الجمعة في أعظم أيام الأسبوع، وجعلها أيضاً قرينة لصلاة الجمعة، وسابقة لها، بل ونسبتها إلى هذا اليوم الفضيل، وتسميتها بخطبة الجمعة من أول الدلائل التي تدل على مكانة هذه الشعيرة العظيمة، بل عد الإمام ابن القيم - رحمه الله - خطبة الجمعة من خصائص هذا اليوم الكريم، فلا خلاف بين العلماء أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، و أنه خير يوم طلعت فيه الشمس، فعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم عليه السلام، و فيه أدخل الجنة، و فيه أخرج منها،و لا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» (رواه مسلم).
ثانياً: أن خطبة الجمعة شرط - على الصحيح - لصحة الجمعة كما قدمنا.
ثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى ندب لها، وذم من انشغل عنها بغيرها، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[9] فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[10] وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [11]} [الجمعة / 9 - 11]، فقد رجح الإمام القرطبي وغيره أن المراد بذكر الله في الآية: خطبة الجمعة، حيث قال في تفسير قول الله سبحانه:إلى ذكر الله): أي الصلاة، وقيل الخطبة والمواعظ، قاله سعيد بن جبير، بن العربي والصحيح أنه واجب في الجميع، وأوله الخطبة، وبه قال علماؤنا....
رابعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار أن يتولى خطبة الجمعة بنفسه، فالإمامة والخطابة مهام اختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولاها بنفسه، وهذه مزية لخطبة الجمعة أيضاً، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، ثم يقعد، ثم يقوم كما تفعلون) (رواه البخاري ومسلم).
بل تعدت خطب النبي صلى الله عليه وسلم التي خطبها في أصحابها الألفي خطبة، وبذلك صرح الصحابي الجليل جابر بن سمرة رضي الله عنه فقد أخبر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً. فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة) (رواه مسلم).
ثم إن من اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالجمعة قبل أن يصل المدينة في هجرته المباركة، حيث أرسل صاحبه مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة ليعلمهم الدين، وهناك استقر عند أسعد بن زرارة رضي الله عنه وعنده أقيمت أول صلاة للجمعة في المدينة، فعندما بلغوا الأربعين شخصاً أمَهم مصعب رضي الله عنه، فقد روي أنه كتب له رسول الله صلى الله وسلم أن يجمع بهم.
ثم بعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم: ورثها من بعده خلفاؤه الراشدون، وهم أركان البلاغة، ودعائم البيان، وسادات الفصاحة، ثم من بعدهم ملوك بني أمية وعمالهم، ثم خلفاء بني العباس، ثم اتسعت حتى أصبحت في العلماء والمشايخ، إلى أن اتسع نطاقها لما هو أبعد من ذلك حتى أصبح في مصرٍ واحدٍ في هذا العصر أكثر من ألفي جامع، ولله الحمد والمنة.
خامساً: إن المتتبع لمقاصد خطبة الجمعة يجد كثيراً من المقاصد السامية ومن ذلك:
1. أن خطبة الجمعة من الدعوة إلى الله، قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ} [النحل / 125].
2. وهي من البلاغ المأمور به، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بلغوا عني ولو آية..» (الحديث رواه البخاري).
3. وخطبة الجمعة فيها تمثل لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران / 104].
4. والتذكير مقصد آخر من مقاصد خطبة الجمعة، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات/ 55].
5. التعليم والنصح مقصدان عظيمان من مقاصد خطبة الجمعة، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «إن الله و ملائكته، حتى النملة في جحرها، و حتى الحوت في البحر، ليصلون على معلم الناس الخير».
وغير ذلك من المقاصد العظيمة من الدلالة إلى الخير، والتحذير من الشر، والاجتماع، والتعاون على البر والتقوى، والإصلاح، والتربية، وغير ذلك كثير، فخطبة الجمعة محضن عظيم، تتضمن كل ما فيه صلاح المسلم في دينه ودنياه.
سادساً: مكانة الخطبة الرفيعة من مكانة المسجد في الإسلام، فالخطب في المسجد الجامع، والمسجد له مكانته العظيمة في الإسلام، فالمساجد أفضل بقاع الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: «خير البقاع المساجد..» الحديث، ومنها انطلق نور الإسلام للبشرية، وكانت ومازالت لله الحمد دور العبادة، والطاعة، والعلم، والدعوة.
سابعاً: وإن من مكانة خطبة الجمعة، أن نُدب المسلم للتبكير للاستماع لها، والتهيئة لذلك، فقد رتب الشارع الحكيم على التبكير للحضور يوم الجمعة أجراً عظيماً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر».
كما أن الشارع الحكيم حث على الإنصات للخطبة، وحذر من التهاون في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا»، وقال صلى الله عليه وسلم «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت» (رواه البخاري ومسلم).
ثامناً: ومن المعاني التي تستشعر فيها مكانة خطبة الجمعة في الإسلام، أن جعل النبي صلى الله عليه وسلم لها مكاناً محدداً، ومنبراً خاصاً، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ منبراً، وخطب عليه.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل، يا رسول الله، ألا نجعل لك منبراً، قال «إن شئتم»، فجعلوا له منبراً فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر...) (الحديث، رواه البخاري).
وقد دلت أحاديث كثيرة على ذلك، حتى حكى الإمام النووي الإجماع على ذلك فقال رحمه الله:
أجمع العلماء على أنه يستحب كون الخطبة على منبر؛ للأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها؛ ولأنه أبلغ في الإعلام؛ ولأن الناس إذا شاهدوا الخطيب كان أبلغ في وعظهم.
______________________________ ____________________ ____
الكاتب: د.محمد بن عدنان السمان
ابو وليد البحيرى
2024-08-27, 09:29 AM
دور الخطيب في مواجهة الانحرافات الفكرية
الفرقان
الخطابة في الإسلام من أهم أدوات البلاغ وبيان الدين وتذكير الناس بأمور دينهم وعقيدتهم؛ فالخطابة نافذة واسعة لعرض الإسلام بنصاعته الكاملة، وتوعية المسلمين بالمرحلة التي يعيشونها، وبالأخطار والتحديات التي تحيط بهم، وهي الوسيلة المهمة في توصيل الرسالة المحمدية، وهداية الناس، وتربية الأمة بعمومها، وتوعية المجتمع بشتى أطيافه، وصياغة الإنسان الإيجابي الصالح المصلح.
وحتى يستثمر الخطيب منبر الجمعة الاستثمار الأكمل، عليه أن يطرح المواضيع التي تمس إليها الحاجة ضمن منهج متوازن شامل، يغطي المعاني والأفكار، ويترجم منهج الإسلام في صورة القيم النبيلة والمثل الرفيعة والأخلاق الفاضلة التي تصل من القلب إلى القلب، فتنتعش الروح، ويتجدد الإيمان، وتتسع المدارك، ويتعمق الوعي إزاء قضاياه المعاصرة.
ترجمة للواقع
ويوم أن يفقد الخطيب قدرته على ترجمة واقع الناس، وقراءة مشكلاتهم القراءة الصحيحة التي تمكنه من انتقاء المواضيع التي تهمهم، وتعرفهم رأي الإسلام فيها، عندها ينصرف الناس عن سماع هذا الخطيب، ويزهدون في بضاعته، وحتى لو حضروا خطبته حضروها كالأموات، أجساداً بلا أرواح ولا قلوب ولا عقول.
رسالة الخطيب
فرسالة الخطيب عظيمة، وأمانة التبليغ ثقيلة، وذلك من منطلق أن الخطيب الناجح أو مقومات الخطبة الناجحة هي التي تمس واقع الناس وتتصل بالعصر، وتنفتح على قضاياه الشاغلة، وتتجاوب مع آلامهم ومشكلاتهم وما يتعرضون إليه كل يوم من مستجدات وأفكار وأطروحات ومناهج، وكلها نوازل يقف الناس أمامها حيارى، كيف يتفاعلون معها، فيتلهفون وقتها إلى خطاب أصيل وعصري، يقبس من مشكاة الوحي، ويتابع خطوات الحياة، ويجيب عن موقف المسلم تجاه تلك النوازل والمستجدات بروح من وسطية الإسلام وشموليته وأصالته.
أساسيات نجاح الخطيب
ومن ثم كان من أساسيات نجاح الخطيب في تأدية رسالته المقدسة، قدرته على وضع استراتيجية متوازنة في التعامل مع نوازل الأمة ومستجداتها، وعرضها من خلال منبر الجمعة من غير إفراط ولا تفريط، ولا إخلال ولا تطويل، ولن يتأتى ذلك للخطيب إلا من خلال الجمع بين ضرورتين متلازمتين:
- الأولى: ضرورة المعرفة الصحيحة الشاملة للإسلام النقي دينا ومنهج حياة متكامل، ونظاما فكريا وعقائديا متفردا يمتلك الإجابة الشافية عن كل تساؤلات البشر القديمة والحديثة.
- الثاني: ضرورة معرفة ظروف العصر ومتطلباته، والتفريق بين ما هو ناشئ عن التطور العلمي والصناعي، وبين ظواهر الانحراف وأسباب الفساد والانحطاط.
ثقافة الخطيب
وهذا يستدعي ألَّا تنحصر ثقافة الخطيب في حدود تحصيله للعلم الشرعي فحسب، وإنما تتجاوزه إلى الإلمام بثقافة العصر والاطلاع على ما أمكنه من مستجدات زمانه ونوازله الملحة التي يبحث عن حقيقتها عموم الناس، وليسوا المتلبسين بها وحدهم؛ ليكون ذلك كله مكملا لثقافته الشرعية، ومعينًا على استكمال متطلبات القيام بواجب الخطابة والوعظ والإرشاد والدعوة إلى الإسلام العظيم.
سلاح الداعية والخطيب
وثقافة مواجهة النوازل عامة، والفكرية خاصة، والوعي بها وسبر أغوارها والوقوف على حقيقتها وحكمها وموقف الإسلام منها، ستكون سلاح الداعية والخطيب الذي يواجه به حيرة الناس إزاء هذه النوازل، وجهلهم بقيم الإسلام وأحكامه، وانشغالهم المفرط بشؤون دنياهم عن أمور دينهم، وغفلتهم عن اتخاذ الإسلام أساسًا لإصلاح الواقع وبناء المستقبل، وستكون هذه الثقافة عونًا له على حسن النظر في التسارع اللاهث لنمط الحياة الحديثة الذي تتلاحق فيه أنفاس الحياة، وتتعاقب فيه المستجدات والمتغيرات، وتدور فيه عجلة الأحداث بسرعة لا تمهل حملة الدعوة وصناع الرأي وفرسان المنابر من صناعة التوعية والتذكير.
مقدمة في فقه النوازل
من المعلوم أن القرآن الكريم قد نزل منجماً تبعاً للحوادث والمستجدات التي تعرض للأمة على مدار ثلاث وعشرين سنة، ومن ثم كان هذا هو النهج النبوي في البيان والبلاغ، كلما عرض للمسلمين أمر جديد وطرأ عليها طارئ ومستجد لم يعهدوه من قبل هرعوا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم -لبيان موقف الشرع منه.
النوازل والانحرافات الفكرية
النوازل والانحرافات الفكرية هي تلك المستجدات من الأفكار والمناهج والأطروحات والأيديولوجيات المعاصرة والحديثة، التي نشأت في الغرب ثم غزت بلاد الإسلام مع عصر الانفتاح الثقافي والإعلامي، ولاقت رواجاً وقبولاً عند الكثيرين من أبناء الإسلام، وتأثروا وفتنوا بها، وتحتاج لبيان الحكم الشرعي منها، وموقف الإسلام وتقييمه لها.
- مثال ذلك: الحداثة، الليبرالية، العلمانية، العصرانية، التغريب، الاستشراق، الإلحاد، النسوية، الجندرية، إلى آخر القائمة الطويلة من مستجدات العقل البشري البعيد عن نور الوحي.
استراتيجية الخطيب في تناول النوازل الفكرية
مهمة الخطيب في مواجهة النوازل الفكرية بالغة الأهمية، وتحتاج إلى الإعداد الجيد، والدراسة المستفيضة من أجل الإحاطة الكاملة بتلك النوازل، وأهم أسس الخطيب في تناول النوازل الفكرية ما يلي:
أولاً: القراءة المستفيضة عن هذه النازلة
ويتم ذلك بالاحاطة الكاملة عن حقيقتها ونشأتها وبيئتها وواضعها وروافدها وأصولها ومبادئها وأهم أهدافها، وأهم رجالها ودعاتها في بلاد الإسلام، وعدد المتأثرين بها وشرائحهم، ومدى نفوذها، وتاريخ دخولها إلى بلاد الإسلام. وكل ذلك انطلاقاً من القاعدة الأصولية: «الحكم على شيء فرع عن تصوره»، وهذا التصور الصحيح يمكن الخطيب من تعريتها وكشف زيفها ونزع الهالات الراقة التي تصاحب الدعاية لها؛ فما من نازلة فكرية إلا كالسم المدسوس في العسل، لا يأتي إلا في أبهى هيئة وأشهى مذاق، فينخدع الكثيرون ويقعون في حبائلها.
ثانياً: دراسة بيئة النازلة وواقعها
فليس كل النوازل والانحرافات الفكرية على قدم السواء في الأثر والانتشار، فبعض النوازل الفكرية مثل النسوية والجندرية لا تلقى الرواج الذي تلقاه العلمانية والليبرالية والقومية والديمقراطية، ومن ثم فمعرفة بيئة النازلة وواقعها ومداها وأثرها تجعل الخطيب يحدد أولوياته، ويرسم استراتيجيته ويبني خططه. قال ابن القيم-رحمه الله-: «فإنه لا يمكن من الحكم في النازلة إلا بنوعين من الفهم:
- أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.
- والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر».
ثالثاً: عرض النازلة على مصادر التشريع
فالحكم على النازلة لن يكون من خلال الهوى والتشهي، ولكن من خلال الأصول الشرعية والقواعد الكلية للدين. فتعرض النازلة الفكرية على الكتاب والسنة والإجماع والقياس وأقوال الصحابة والنظر والعقل الصحيح والفطرة السليمة وأعراف الناس الموافقة للشرع والمقارنة مع المناهج المتشابهة مع النازلة في القديم والمعاصر، ومن خلال هذه الأصول والمصادر الكلية للشريعة يستطيع الخطيب بناء رؤية متكاملة عن رأي الشرع في هذه النازلة.
رابعاً: بيان نظرة الإسلام ورؤيته
فكما قلنا في تعريف النوازل والانحرافات الفكرية أنها تقدم نظرة خاصة عن الحياة والأخلاق والمعاملات بعيدة تماماً عن نظرة الإسلام. فالعلمانية مثلاً ترى الحياة بلا أي مؤثر ديني أو أثر سماوي وتنزع سلطة التشريع من الله -تعالى- وتضعها بيد البشر، ومن ثم توجب على الخطيب بيان نظرة الإسلام عن دور الدين في الحياة وأهمية التحاكم إلى شرع الله. والليبرالية مثلاً تري الحياة منفتحة دون أدنى قيود باسم الحرية والدفاع عن الحقوق، ومن ثم توجب على الخطيب بيان المفهوم الحقيقي للحرية في الإسلام وحدودها، فكما قالت العرب من قبل «وبضدها تتمايز الأشياء».
خامساً: عرض النازلة على مقاصد الشريعة
وذلك أن عرض النازلة على كليات الشريعة ودلالاتها يضبط مسيرة الحكم عليها من الانحراف إليها أو الوقوع في معارضتها دون أدلة واضحة. مع التنبيه أن هذا الإدراك هو ميدان تمايز العلماء وإنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.
ابو وليد البحيرى
2024-08-27, 09:30 AM
خطب الجمعة وعظ أم تعليم؟
لو أن خَطِيبينِ للجمعة خَطَبَا عن أوقات الصلاة، أحدهما عرض أحكامها عرضًا علميًّا، وآخر لم تكن خطبته علمية بحتة، بل كانت موعظة تخاطب القلب لا العقل، فمَنِ المصيب في ظنِّك؟
حتى يكون الجواب علميًّا؛ علينا أن نحتكم إلى تعريف الخطبة، وقد تعددت تعريفاتها، وهذا التعدد لم يضر كثيرًا بأساسها؛ من مشافهة، وجمهور، وإقناع، ومن هذه التعريفات ما جاء في التعريفات للشريف الجرجاني (ت: 816) يقول عنها: "قياس مركب من مقدمات مقبولة، أو مظنونة، من شخص معتقَد فيه، والغرض منها ترغيب الناس فيما ينفعهم من أمور معاشهم ومعادهم"[1]، ويقول الطاهر بن عاشور (ت: 1339) إنها: "كلام يحاوَل به إقناع أصناف السامعين بصحة غرض يقصِده المتكلم لفعله أو الانفعال به"[2]، ويقول حازم القرطاجني (ت: 684) وهو من أعلام النقد في القرن السابع في معرِض حديثه عن الشعر والخطابة، وبيان ما هو أصل فيهما: "وينبغي ألَّا يستكثر في كلتا الصناعتين مما ليس أصيلًا فيها؛ كالتخييل في الخطابة، والإقناع في الشعر، بل يؤتى في كلتيهما باليسير من ذلك على سبيل الإلماع"[3].
بقليل من التأمل تجد أن التأثير والإقناع ركنٌ أصيل في الخطبة، فثمة حديث عن انفعال، وأحاسيس، واستمالة، وهذه ألفاظٌ منطقةُ عملِها القلبُ لا العقل، أما الخطاب العلمي البحت، فليس هذا محله.
وإذا رجعنا إلى الخطابة في العصر الجاهلي وما بعده، وجدنا أن من أغراضها الدعوة إلى الحرب أو السلم، والنصح والإرشاد والفخر، فالتأثير ملازم لها، والتعليم بعيد عنها، وانتماء الخطبة إلى الأدب وتاريخه عبر العصور حُجَّة ثابتة؛ فهي منتسبة إلى الأدب ذي الصبغة الأدبية، المبايِن للصبغة العلمية.
ومما يَحسُن بيانه: سمات الأسلوب العلمي؛ ومنها:
• نقل المعارف والأحكام وحشدها.
• التراكيب التي تخاطب العقل والفكر، لا العاطفة والشعور.
• البعد عن الإثارة والانفعال.
• طول الجُمل، والبعد عن الجرس الصوتي[4].
ومما يُكوِّن هذه السمات العلمية بُعد الخطيب عن الأساليب الإنشائية، فتجد خطيبنا الأول، صاحب العرض العلمي سيقول: يدخل وقت صلاة الصبح بطلوع الفجر، ويخرج بطلوع الشمس، ولربما ناقش أفضل وقت لصلاة الصبح مع عرض لأقوال الأئمة في التغليس، أما خطيبنا الثاني سيقول: يا عبدالله، كيف تهنأ بنوم وقت صلاة الصبح، ومنادي الرحمن قد ناداك، والله أنعم عليك وآواك؟ فلا تكُنْ ممن آثر دنياه على آخرته، فلا يقوم إلا بعد طلوع الشمس تاركًا حقَّ ربه، حريصًا على دنياه، فالمسلم الحق يقدم الآخِرَةَ على الأُولى، والباقية على الفانية.
فالأول اعتمد على الأخبار ومخاطبة العقل، والثاني لم يعتمد الأخبار في خطابه، بل مزج بين الخبر والإنشاء؛ فتجد النداء والاستفهام والنهي، وهي من الإنشاء الطلبي، الذي هو أقدر على إثارة السامع؛ فالنداء يطلب استجابة، والاستفهام يطلب جوابًا، والنهي يطلب الكَفَّ، فالجُمل الإنشائية تتناوب على المخاطب، وتتزاحم على الظَّفَرِ بقلبه وسمعه، أما سرد الأحكام والأخبار فيكون معه الغفلة؛ فالنفس تسكن عند توالي الأمر الواحد فتهدأ، وربما تهجَع.
فمن حضر خطبة الأول أضاف إلى حصيلته المعرفية علمًا، والمفترض أن من حضر عند الثاني أن يتغيَّرَ سلوكه، وأن يبادر إلى الصلاة في وقتها، مع أنه قد لا يُحصِّل كثيرَ علمٍ، لكنه ذُكِّر فتذكر.
ورحِم الله علماء البلاغة حين عرَّفوها بأنها: مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته[5]، فقضية المقام، ومطابقة الكلام له، هو فيصلٌ في الحكم بالبلاغة، وعليه فالمعوَّل عليه في الحكم ببلاغة موضوع خطبة الجمعة ما جاء في الشرع.
وقد جاء عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه، حتى كأنه منذرُ جيشٍ، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، ويقول: بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين، ويَقْرِنُ بين إصبعيه السبابة والوسطى))[6]، وعن العرباض بن سارية، قال: ((وَعَظَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرَفت منها العيون، ووجِلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظةُ مودِّعٍ، فماذا تعهَّد إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدٌ حبشي، فإنه من يَعِشْ منكم يرى اختلافًا كثيرًا، وإياكم ومحدَثات الأمور؛ فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ))[7].
تبدو سمات المخاطِب صلى الله عليه وسلم وتفاعله في الحديث الأول قاطعةً بأنه لم يكن خطابًا علميًّا، وفي الحديث الثاني تصريح بنوع الخطاب، وأنه وعظيٌّ، مع أن سمات تفاعل المخاطَبين قاطعة وشاهدة بأنه كان خطابًا وعظيًّا؛ فغرق العيون دمعًا، ووجل القلب خوفًا إنما هو أثر لِوَعْظٍ.
وقد جاء عن بنتٍ لحارثة بن النعمان، قالت: ((ما حفظِتُ ﴿ ق ﴾ [ق: 1]، إلا مِن فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخطب بها كل جمعة))[8]، علَّق النووي (ت: 676) شارحًا؛ فقال: "قال العلماء سبب اختيار ﴿ ق ﴾ [ق: 1]، أنها مشتملة على البعث والموت، والمواعظ الشديدة، والزواجر الأكيدة، وهذا صريح أن موضوع الخطبة الوعظ والتأثير لا التعليم.
وما دام الحديث عن موعظة وزواجر، فمما شاع أن الوعظ محصور بذكر الموت والقبر، وهو خطأ قديم؛ يقول ابن القيم (ت: 751): "كانت خطبته صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان؛ من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وذِكْرِ الجنة والنار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا، ومعرفة بالله وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمورًا مشتركة بين الخلائق؛ وهي النوح على الحياة، والتخويف بالموت ..."[10] ، وهذا نص ثريٌّ في موضوع الخطب، وشاهِدُنا أنه أكَّد على موضوع خُطَبِهِ صلى الله عليه وسلم، وأنها في دائرة الموعظة، ومن المهم التنبيه على قوله: "فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا ..."؛ فهي خطاب تأثيري يخاطب القلب ويعالجه، وصلاح هذه الْمُضْغَة مقصد شرعي؛ فصلاحها صلاح للجوارح.
ربما ظنَّ ظانٌّ أنه يتوجب على الخطيب نبذُ التعليم، وبيان الأحكام في الخطبة، والحق أنه لا يُعدَل إلى الترجيح ما أمكن الجمعُ، وما دام أنه يمكن أن يَعرِض الأحكام، ويُذكِّر بحق الله فيها، مع ترغيب وترهيب فهذا عين الصواب، وهو منهج قرآني؛ فأنت واجد الآيات من السورة في الأحكام الخالصة، ثم تجد الخطاب الوعظي يسري فيها؛ ففي قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237]، هذه الآية قبلها أكثر من عشر آيات كلها في بيان أحكام النكاح والطلاق؛ حيث سردت هذه الآيات أحكامًا متعددة، فهي أحكام بحتة إلا أنك تجد الوعظ ركنًا رئيسًا فيها، ولا يغيب بين تفاصيلها، كما هو جليٌّ في الشاهد السابق، فبعد أن بيَّن عز وجل حكمَ الزوجة غير المدخول بها، وأن لها نصف المهر، وَعَظَ الزوجين وحثَّهما على العفو، ورغَّب فيه بذكر المعروف، ثم خُتمت الآية ببيان كمال علمه عز وجل، وفيه حثٌّ لكلٍّ منهما على الخوف منه سبحانه وتعالى، فقد حضر الوعظ بعد بيان الحكم، ولم يكن ذلك خارجًا عن سياق الخطاب، وهذا ما فهِمه سلف هذه الأمة، أما الفصل الحاد بين التعليم والوعظ، فلم يكن في القرون الأولى، بل حادث؛ يقول ابن الجوزي (ت: 597): "كان الوُعَّاظ في قديم الزمان علماء فقهاء"[11].
ومن المسائل الفقهية التي تُناقَش: أركان خطبة الجمعة، وهو نقاش طويل أكتفي بنقل شيء من كلام الشوكاني (ت: 1250)، فقد بيَّن أن روح الخطبة الموعظة الحسنة من قرآن أو غيره، وأن المراد من الخطبة الوعظ، وهو آكَد من غيره وأدخل في المشروعية[12].
ومن الموعظة تبيين الأحكام والأوامر والنواهي؛ يقول محمد الأمين الشنقيطي (ت: 1393): "ضابط الوعظ: هو الكلام الذي تلين له القلوب، وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء أوامرُ ربهم ونواهيه؛ فإنهم إذا سمِعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله، وطمِعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله ..."[13] ، فاذكر - أخي الخطيب - قول الشيخ ولا تُغفِل مطلعه؛ ففيه التأكيد على أن هذا الخطاب يُليِّن القلوب.
هذا الحديث كله عن خطبة الجمعة وموضوعها، فكيف إذا أخبرتك أنِّي سبرتُ عشرات الخطب للصحابة رضي الله عنهم في موضوعات متباينة فوجدت الوعظ قرينها؟ حتى خطبهم السياسية لم تكن تخلو غالبًا من موعظة، فبُهداهُمُ اقْتدِهِ.
[1] التعريفات: الشريف الجرجاني: 99، تحقيق: جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1403هـ.
[2] أصول الإنشاء والخطابة: 33، محمد الطاهر بن عاشور، ت: ياسر بن محمد المطيري، دار المنهاج، الرياض، الطبعة الأولى، 1433ه.
[3] منهاج البلغاء وسراج الأدباء: 362، حازم القرطاجني، ت: محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثالثة، بيروت، 1986م.
[4] انظر: علم الأسلوب في الدراسات الأدبية والنقدية: 15، عبدالعظيم المطعني، مكتبة وهبة، الطبة الأولى، 1422ه.
[5] انظر: الإيضاح: 1/ 41، الخطيب القزويني، ت: محمد عبدالمنعم خفاجي، دار الجيل، بيروت، الطبعة الثالثة.
[6] رواه مسلم، برقم: 867.
[7] رواه الترمذي، برقم: 2676، وقال: حديث حسن صحيح.
[8] رواه مسلم، برقم: 873.
[9] شرح النووي على مسلم: 6/ 398، ت:خليل مأمون شيحا، دار المعرفة،، بيروت، الطبعة الثامنة عشرة، 1431ه.
[10] زاد المعاد في هدي خير العباد: 1/ 409، ابن القيم، مؤسسة الرسالة، بيروت، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت،
الطبعة السابعة والعشرون ، 1415هـ.
[11] تلبيس إبليس: 111، أبو الفرج ابن الجوزي، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1421هـ.
[12] انظر: السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار: 1/ 299، محمد بن علي الشوكاني، ت: محمود إبراهيم زايد، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405ه.
[13] أضواء البيان: 2/ 438، محمد الأمين الشنقيطي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، لبنان، 1415ه.
______________________________ ____________________ __
الكاتب: د. أحمد بن محمد عبيري
ابو وليد البحيرى
2024-08-27, 09:31 AM
أسباب تراجع تأثير خطبة الجمعة
خطبة الجمعة من أعظم شعائر الإسلام، فهي التي تعطي المسلم الدفعة الإيمانية التي يسير بها في حياته اليومية خلال الأسبوع حتى تأتي الجمعة التي تليها، وورد بالشرع الحنيف نصوص قرآنية وأحاديث نبوية ترغب المسلم وتحثه على المسارعة والسعي إلى ذكر الله والصلاة يوم الجمعة وترك البيع واللهو، فإذا انقضت الصلاة عاد المسلم ليمارس عمله المعتاد الذي أباحه الله له " {وابتغوا من فضل الله} ".
لكن هذه الأيام التي نعيشها شهدت تراجعًا ملحوظًا في تأثير خطبة الجمعة، وكثير من المسلمين يشكوا من أساليب الوعاظ والخطباء، والخطباء بدورهم يرفضون أن يلقى عليهم وحدهم مسئولية هذا التراجع، إذ ثمة عوامل أخرى أوجدت هذه المشكلة. يحاول هذا التحقيق تشخيص المشكلة وأسبابها الحقيقية، لنحاول وضع أيدينا على حل لها... والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- لا شك أن خطبة الجمعة فرصة يتلاقى فيها الدعاة مع أفراد المجتمع، ولهذه الخطبة تأثير وأيما تأثير - إذا أحسن استعمالها على الوجة الذي ينبغي أن يكون-، مما جعل العلمانيين يتحسرون لعدم وجود تلك الفرصة لهم، ويحسدون الخطباء عليها.
وأضاف عفيفي: الناس يأتون مختارين مبكرين فينبغي لمن يتصدر للتحدث إليهم أن يحترم عقولهم وأوقاتهم وأن يقدم لهم النصيحة التي تعود عليهم بالنفع في دينهم ودنياهم، وأن يعد نفسه جيدًا. وللأسف الشديد فإن بعض من يتصدرون للخطبة أصبح يؤديها على أنها وظيفة وليست رسالة، وكأنه يملأ فراغ المنبر بالتالي سيقول أي كلام لا مضمون ولا لغة ولا أداء.
وأردف الدكتور عفيفي: وأحيانا تتدخل بعض الجهات في منع أو إيقاف أي خطيب لمجرد اختلافه معهم وبالتالي يمنع الأكفاء، مما يفسح المجال لأناس غير مؤهلين، وهي أمانة عظيمة.
-: إن رسالة المنبر تتكون من ثلاثة عناصر مرسل ومستقبل وموضوع، فإذا اكتملت هذه الثلاث أثمرت الخطبة وآتت أكلها، وأنتجت خيرًا عميمًا ينفع الله به الناس في حياتهم ومماتهم. ولكن الخلل يبدأ من المرسل –وهذا لا يعني تبرئة باقي عناصر الخطبة- إلا أن المرسل (الواعظ ، الملقي، الخطيب، أيا كان اسمه) هو العنصر الأول والأساس، فبقدر ملئه لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخلاصه في نيته، وثبات قدمه ورسوخه في العلم والفقه، وحسن الإلقاء، وجودة الكلمات وسلامتها، وحسن الصياغة، وفهمه لواقع الناس، ومعرفة ما يحتاجونه... إلخ بقدر ما يؤثر فيهم ويجذبهم ويعلمهم وينفع الله به العباد والبلاد ويكون بركة على أهله.
-: يشعر الكثير من المسلمين ــ وأنا منهم ــ أن يوم الجمعة وخطبة الجمعة هي من أبرز سمات قوة هذه الأمة، وأنها فرصة نادرة للتأثير في المجتمع المسلم نحو الخير إن أحسن الاستفادة منها. لكن بعض خطباء الجمعة لا يجيدون الاستفادة من تلك الفرصة.. بل للأسف.. أصبح بعضهم سبباً لتنفير الناس ومللهم من السماع لخطيب الجمعة رغم حرصهم على الطاعة وتلبية النداء.
ؤأي آخر- الطرف الثاني (المستقبل أو المستمع) قد يأتي للجمعة فقط لإسقاط الفرض، فلا يرغب في الاستماع وإذا أسهب الواعظ أحيانا؛ ضاق صدره ومل فربما خرج بذهنه خارج المسجد أو نام، والغالب على هؤلاء عدم التأثر فربما يتحدث الواعظ في موضوع التدخين وتجد بعض المصلين بعد الجمعة على أبواب المسجد يتسامرون ويضحكون والدخان في أيديهم وأفواههم، وربما نبه الواعظ لمصائب بعض الأفراح الحديثة وما فيها من اختلاط ومساوئ وتجد الشخص المصلي للجمعة يصنع نفس هذه الأفراح لأولاده من ثلاثين عامًا؛ لذلك فبعض الناس يحضرون الجمعة عادة تعودوا عليها لإسقاط الفرض ولكن ليس همّ أحدهم التعلم والعمل ومن ثم فلا يتأثرون.
رأي آخر: أنا لا أجد الخطيب الذي يجذبني لأنتبه إلى الخطبة، وفي كثير من الأحيان أنام في أثناء الخطبة، علاوة على طول الخطبة التي قد تزيد على الساعة الكاملة، يعيد فيها الخطيب ويكرر ما قاله وكأن الناس لن يفهموا من أول مرة. يقول محمد سعيد –سائق شاحنة-: الخطيب في مسجد قريتنا لا يجيد غير أحاديث النار وينسى الجنة دائمًا، ويعتمد على التخويف ولا يرغبنا وكل حاجة عنده حرام!. وقد يكون "سعيد" مبالغًا في وصفه؛ لكن الأمر لا يسلم من وجود خلل في ميزان الترغيب والترهيب لدى كثير من الخطباء، إذ يعمد أحدهم إلى خطب يكثر فيها من أحاديث الوعد والترغيب ورفع الحرج ليصل إلى قلوب الناس –حسب تفسيره- بينما يذهب خطيب آخر للجهة المقابلة وإلى أحاديث الوعيد والتخويف وكما قال القائل: نفوس الناس بيوت مقفلة لا تفتح إلا لمن يطرقها بلطف.
رأي آخر: ضرورة التمسك بهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة الجمعة، فهو الذي كان أفصح الناس لسانا وأبلغهم وأقواهم بيانا، وأوتي جوامع الكلم ؛ فكان مثالاً فريداً في الخطابة التي تنشرح لها القلوب وتتفتح العقول وتستجيب الجوارح. ويقول الشيخ: الخطبة مهما كانت فهي صناعة الخطيب وصياغته، في مضمونها وشكلها وطريقة تبليغها، وإن كان مطلوباً فيها صحة المضمون، وقوة تأثيره وإقناعه، ومناسبته للزمان والمكان والمخاطبين. ولاشك أن وضعية الناس وما يحيط بهم من ظروف وأجواء وعوامل التحفيز أو التثبيط، كل ذلك مؤثر إيجابا أو سلبا في علاقتهم بالمنبر والخطيب، ونسبة تجاوبهم مع الخطبة، خاصة في ظروف عصرنا الذي يعج بالفتن من جهة، وبوسائل الاتصال والإعلام المتطورة بتقنياتها وإمكاناتها الباهرة من جهة ثانية. وهذا مما يضاعف اليوم مسؤولية الخطيب ومأموريته، ويفرض العمل على تطوير آليات فنه الخطابي حتى يواكب متطلبات العصر. ويردف الشيخ السبيكي: من ثقافة الخطيب الضرورية فقه الواقع والحياة، ومواكبة تطورات العصر، ولابد أن يغذي خطبه الأسبوعية بما يقنع الناس بحيوية المنبر وتفاعله مع الواقع والحياة وإلا فقد حجة الواقع فيما يخاطب به الناس.
رأي آخر: من أهم أسباب تراجع تأثير خطبة الجمعة تفادي أكثر الخطباء الموضوعات الحساسة المؤثرة في الواقع نظرا للضغوط الأمنية، إضافة إلى يأس أكثر المستمعين من جدوى أو نتائج الخطب لكثرة التجارب التي أخفقت في تغيير الواقع.
رأي آخر: من الأسباب كذلك عدم وجود رؤية موحدة عند الخطباء يجيشون الأمة نحوها فصار المستمع معلقًا على وجهات نظر الخطباء فحسب وكأن هدف الخطيب أخذ موافقة على فكرة يروج لها، كما أن الرموز الكبيرة تراجع خطابها بحيث صار مجاملاً للأنظمة متبرمًا من الحركات الإسلامية فصار المستمعون لا يلوون على شيء.
رأي آخر: لاشك أن خطبة الجمعة في الفترات الأخيرة لم تعد تتمتع بالتأثير القوي والفاعل في النفس مثلما كان عليه الحال في السابق، وذلك أنها تستهدف بشكل أساسي إحداث حالة من يقظة الوعي الإيماني فهي أشبه بجرس الإنذار الذي يعمل كل أسبوع على تذكير المؤمن بثوابته العقائدية ويحثه على تجديد العهد مع ربه. ومن الأسباب القوية التي تقف وراء تراجع تأثير خطبة الجمعة هو ميل العديد من الخطباء إلى تكرار المعاني والأطروحات وليت التكرار وقف عند حد طبيعة المضمون وإنما امتد إلى أسلوب وحرارة الأداء فأصبحت خطب الجمعة في غالب الأحيان تتسم بالرتابة وتؤدي إلى حالة من الملل لدى جمهور المصلين نظرًا لخلوها من العاطفة الجياشة التي يمكن في كثير من الأحيان أن تعوض ضعف المضمون.
رأي آخر: من الأهمية بمكان تذكير خطباء الجمعة بأهمية الالتزام بتجديد المضامين التي يتم عرضها في الخطبة مع الحفاظ على جاذبية العرض وقوة الطرح مع تنويع الموضوعات هذا بالإضافة إلى عدم إغفال أهمية أن تكون الخطبة تذكيرًا حقيقيًا للمسلم بربه والدار الآخرة.
منقول
ابو وليد البحيرى
2024-10-08, 07:42 PM
فقـــه الوعــظ
ما أحوجنا إلى الوعظ لانشغالنا بالدنيا، نسينا الآخرة فقست قلوبنا فأصابنا فتور وضعف في الإيمان، فالوعظ يحيي القلب ويحرره من الشيطان، قال تعالى: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله}. فالموعظة مزيج من الترغيب والترهيب والنصح وعلو الصوت والتذكرة بالآخرة والألوهية وحقيقة الإنسان، قال تعالى: {وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا}.
- يحتاج المسلم إلى الموعظة بين الفينة والأخرى؛ لأنها شفاء للصدر، قال تعالى: {يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور}، فكان عبدالله بن مسعود ] يعظ في كل خميس فقال له رجل يا أبا عبدالرحمن لوددت أنك ذكرتنا في كل يوم، فقال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله [ يتخولنا بها مخافة السآمة علينا.
- فوائد الموعظة كثيرة منها: تذكير الغافل، تعريف الخلق بالخالق، وتبصير الناس بشرائع الإسلام وحدوده، وتجديد الإيمان وتحريكه، وزجر العاصي، وتثبيت المهتدي، وكشف مكائد ومصائد شياطين الإنس والجن.
- وللواعظ آداب يتحلى بها: الإخلاص والعلم بما يعظ، والرفق على الناس والصبر على أذاهم، والعمل بما يأمر به الناس وينهاهم عنه، فصاحة اللسان وعذوبته، واتباع السنة وآثار السلف، الورع في مسائل الحلال والحرام.
-على الواعظ الالتزام بالسلوكيات الآتية:
اختيار أوقات مناسبة للناس، وعدم الإطالة في الكلمة، التركيز في الموضوع وتحديد معالمه عدم التوسع في القصص الغريبة والمبالغة في طرحها، وعدم الطعن في العلماء وغمز الولاة، وعدم تجريح السامعين والتهجم عليهم أو التهكم بهم، وعدم المبالغة في ضرب الأمثلة التافهة، والنزول إلى الأسلوب المفهوم وعدم التحدث بأسلوب التعالي أو غريب اللفظ، والحرص على جمع الكلمة وتأليف القلوب والإصلاح بين الراعي والرعية، ويرغبهم في التفقه في دين الله عز وجل.
- إلقاء الموعظة ارتجالا يؤثر أكثر.. فالواعظ يرفع صوته ويحرك يده ويتفاعل مع الكلام: «كان النبي [ إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم» رواه مسلم عن جابر، وإذا نبع الكلام من القلب لامس شغاف القلوب وخالطها» .
- تحفيز الأذهان من خلال طرح السؤال: فكان الرسول [ يطرح السؤال: «أتدرون من المفلس؟»، «أتدرون ما الغيبة» «أتدرون أي يوم هذا؟» وتحفيزهم بذكر معلومة أو خبر مثال ذلك: رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، قيل من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة» رواه مسلم.
- لا تحرض الرجل على أهله أو خدمه.. كأن يقول: أين الرجولة عن المرأة التي تتبرج وباستطاعته القول: أيها الغيورون شجعوا المرأة على الحجاب وأثنوا عليها إن تحجبت.. وغيرها من العبارات، واصبروا على الخادم حتى يتعلم.
- خاطبهم بأنهم إخوانك وارفق بهم ولا تتعالَ عليهم، وحرك ملكة الإبداع والاستنباط فيهم وأنزل الأحكام الشرعية على الواقع ولا تشعرهم باليأس والقنوط بل بالتفاؤل، وادفعهم ليقوم كل منهم نفسه ويحاسبها، واعمل تجربة عملية أمامهم، فقل نتوقف الآن وكل منا يستغفر الله مائة مرة فكان رسولنا [ يستغفر في اليوم مائة مرة رغم أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فمتى طبقنا هذا آخر مرة؟ وكم يأخذ تطبيق ذلك من الوقت؟.
- الموعظة تجعل المستمع متقيا بالعلامات الآتية: صدق الحديث، ووفاء بالعهد، وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلة المباهاة للناس، وحسن الخلق، وسعة الخلق فيما يقرب إلى الله. قالها الحسن البصري رحمه الله.
اعداد: د.بسام خضر الشطي
ابو وليد البحيرى
2024-10-08, 07:43 PM
أدب التناصح والخطابة
منال محمد أبو العزائم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
لقد أمرنا الله تعالى بالتناصح لبعضنا البعض، كما أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبديله ما استطعنا. قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)[i]. وقال الله تعالى: {(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)} [ii]. فلأن تنصح أخاك في الدنيا خير ليه من أن يصير إلى حساب عسير في الآخرة. حتى وإن تضايق منك وأسمعك ما لا يرضيك فإنه سيرجع إلى كلامك ويعيد حساباته فيما بعد فيتوب وينتهي. وتكون بذلك نفعته وأسديت له معروفا لا ينساه لك. وتنال دعاءه بظهر الغيب. ولك الأجر من الله على النصح، والصبر على الأذى وحب الخير للناس. قال صلى الله عليه وسلم: (خيرُ الناسِ أنفعُهم للناسِ)[iii]. كما تكون بذلك حققت أمر الله تعالى بخلافتة في الأرض وكونك جزء من الأمة الوسط الشهيدة على الناس. قال تعالى: {(وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)} [iv].
أدلة حث الإسلام على التناصح:
لقد وردت نصوص كثيرة تحث على التناصح في القرآن والسنة، منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الدين النصح)[v].
وقول الله تعالى: {(لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)} [vi].
وما رُوي عن جرير بن عبد الله أنه قال: «(بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم)» [vii].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «(نضر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه زاد فيه علي بن محمد ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم إخلاص العمل لله والنصح لأئمة المسلمين ولزوم جماعتهم)» [viii].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «(إذا نصح العبد سيده، وأحسن عبادة ربه كان له أجره مرتين)» [ix]. وقوله في حديث آخر: (عرض عليّ أول ثلاثة يدخلون الجنة شهيد وعفيف متعفف وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه)[x].
أهمية التناصح
كل هذا الكم من الأدلة والنصوص يدل على أهمية التناصح في الإسلام. ولو تُرِك الناس دون تناصح لإنتشر الفساد والمعاصي وجهالات الناس وتماديهم في الغي والفجور. ونرى هذا بوضوح في مجتمعات الكفار، بل حتى في مجتمعات المسلمين التي يغيب فيها التناصح. وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابين. فكلنا نذنب، ولكن عندما نسمع موعظة أو نصح نرجع ونتوب ونستغفر بفضل الله تعالى. وهذا ليس عيب، ولكن العيب التمادي في المعاصي وترك التناصح وتجاهل الأوامر والنواهي الربانية. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى، أنه قال: "يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم)[xi]. والتناصح خير ما يقدمه المرء لأخيه. فالنفس تغفل وينتبه غيرها، وتنسى ويذكرها غيرها، وتعصي وينصحها غيرها. كما يتشجع المسلمون على الطاعة مع بعضهم البعض. ولذا حث الإسلام على إلتزام الجماعة، وأمر بصلاة الجماعة، ونهى عن كل ما يجلب الفرقة والشتات. قال تعالى: {(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)} [xii]. قال صلى الله عليه وسلم: (ما من ثلاثة في قرية، ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب القاصية)[xiii]. أي أن الشيطان أقدر على الذي يخالف الجماعة وينفرد.
النصح عند الأنبياء عليهم السلام
وكان الأنبياء عليهم السلام ينصحون أممهم. وعلى النصح والموعظة قامت دعوتهم. ومن ذلك:
نصح نوح عليه السلام لقومه في قوله تعالى: {(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)} [xiv]. وقوله: {(وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ۚ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)} [xv].
نصح صالح عليه السلام لقومه في قوله تعالى: { (فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)} [xvi].
نصح شعيب عليه السلام لقومه في قوله تعالى: ( {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ۖ فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ)} [xvii].
نصح هود عليه السلام لقومه في قوله تعالى: {(وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ)} [xviii].
آداب النصح
وعلى الناصح أن يتبع مجموعة من الآداب حتى لا يثير بنصحه النفور والضرر لمن نصحه، ومن ذلك:
ألا يكون النصح على رؤوس الأشهاد، ولا بتسمية المنصوح أو إحراجه أمام الناس.
وتكون النية فيه طاعة الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف على حدود الله وكسب الأجر والنجاة في الآخرة وإرادة الخير والنجاة لمن أسدى له النصح. ولا تكون النية فيه أذى الناس أو تجريحهم أو التقليل من قدرهم. كما لا يكون من أجل الكسب في المنافسة أو أي غرض شخصي أو دنيوي. وعلى الداعي أن يستحضر النية الصالحة ويجعلها نصب عينيه. حتى لا يكون تعبه في هذا النصح سدىً وينقلب عليه. ولذا كانت العناية بالنية من أهم ما أمر به الإسلام. قال صلى الله عليه وسلم: «(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)» [xix].
ولا يكون النصح بكلمات جارحة أو أسلوب قاسي أو موقف مؤذي، بل يكون بأسلوب لين. وذلك بإتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والذي قال الله تعالى في شأنه: {(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ)} [xx]. فالرفق بالناس في النصح من أفضل أساليب الدعوة. ومعظم الناس لا تأتي بالشدة في أمور الدين. فلا يمكن أن ندعو ناس وتنصحهم بالصراخ أو الأذى، لأنهم سيتركوننا أو يقابلونا بمثله. وأرى بعض أئمة المساجد يصرخون ويعلون الأصوات في خطب الجمعة وغيرها. ولو أنهم خفضوا أصواتهم وتكلموا برفق لسمع منهم الناس بآذان صاغية دون أن يتأذوا.
أن يستعمل الحكمة والعقل وأساليب الإقناع الجيدة، مثل ضرب المثل. قال تعالى: {(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ)} [xxi]. وهناك علم كامل أُلِّفت في الكتب والمجلدات عن أساليب الدعوة. فينبغي على الناصح أو الداعية أن يطلع على بعضها ليعرف كيف يصل لقلوب الناس وتثمر دعوته وينال الأجر الكبير.
ألا ينصح الإنسان أخاه بترك فعل هو يفعله، أو بفعل أمر هو لا يفعله. وهذا غير مقبول في الإسلام، بل وفي كل الأعراف بين الناس حتى ولو كانوا على غير ملة الإسلام. قال تعالى: {(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)} [xxii].
ألا ينصحه بما يصعب عليه القيام به ولا يحمله فوق طاقته. فالإسلام دين اليسر. قال صلى الله عليه وسلم: «(يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وسَكِّنُوا ولا تُنَفِّرُوا)» [xxiii].
على الناصح الصبر على أذى الناس في الدعوة وإحتساب الأجر عند الله. فمعظم الناس لا يحبون النصح ولا يقبله جهالهم. وقد روى عن بعض السلف أنه قال: (من نصح جاهلا عاداه)[xxiv].
إستخدام أسلوب التعليم والإستدلال بالنصوص.
كظم الغيظ والسكوت عند الغضب وعن جهالات الناس. قال تعالى: { (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)} [xxv]. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا غضِب أحدُكم فلْيسكُتْ)[xxvi].
إستخدام التيسير دون العسير، قال صلى الله عليه وسلم: « (علِّموا ويسِّروا ولا تعسِّروا وإذا غضِب أحدُكم فلْيسكُتْ)» [xxvii].
إلتزام ما أجمعت عليه الأمة وتفادي إستخدام الفتاوى المفردة، وترك ما يجلب الفرقة والشقاق. قال تعالى: {(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)} [xxviii].
تخير الأوقات المناسبة للنصح. فلا يصلح أن تنصح من هو مشغول بشاغل يمنعه الإستماع أو التركيز أو قد يقوده للتشتت أثناء القيادة أو ركوب طائرة أو حضور مخاضرة في جامعة أو نحوه.
الغيرة على محارم الله
الغيرة على محارم الله وحقوق العباد من العدل في المؤمن، ولا يجدها في قلبه إلا إنسان طيب، يحب الخير للناس ولا يرضى لهم الظلم. وهي صفة يحبها الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم: «(ما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش)» [xxix]. وقال القائل "الساكت عن الحق شيطان أخرس". وهي عبارة منتشرة بين الناس، لم أجدها في حديث، ولكن معناها يتماشى مع موقف الشريعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكذلك مع تحريم كتم العلم، وتحريم شهادة الزور، وتحريم الظلم والكذب وأكل مال الغير وأذى المسلمين. ومن يدافع عن الناس لحفظ حقوقهم يفك بذلك كربهم وينال الأجر من الله.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لقد أمر الإسلام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله تعالى: {(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)} [xxx]. وهي مهمة جليلة تخدم إصلاح المجتمع وبث الأمن الديني والإجتماعي والتشريعي. وبه يتطهر المجتمع من براثن الجريمة وهتك الأعراض وسرقة الأموال وغيرها من الجرائم التي تعج بها البلاد التي ليس بها أي نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي من أسس الرسالة والتعاليم الإسلامية. وقد وردت نصوص كثيرة تحث على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن والسنة، مثل قوله تعالى: {(وَالْمُؤْمِنُو نَ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)} [xxxi]. وقوله: { (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)} [xxxii] [xxxiii]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «(أنصر أخاك ظالما أو مظلوما. فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما، كيف أنصره؟ قال: تحجزه -أو تمنعه- من الظلم؛ فإن ذلك نصره)» [xxxiv].
آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إخلاص النية لله تعالى. ولتكن النية في القيام بهذه المهمة طاعة الله تعالى والإصلاح وإقامة شرائع الله وحدوده. قال صلى الله عليه وسلم: ( «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)» [xxxv].
أن يقوم بتلك المهمة فرقة من المسلمين، وذلك لقوله تعالى: { (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)} [xxxvi].
ويجب أن تتصف هذه الفرقة بالعلم والتقوى والإخلاص. فلا يقوم بها عاصي أو مقصر. وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمر بالمعروف دون عمله والنهي عن المنكر وعمله. وبين أن ذلك من أسباب عذاب القبر في قوله صلى الله عليه وسلم: « (مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟، من هؤلاء؟، قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤن كتاب الله ولا يعملون به)» [xxxvii].
يفضل تدخل الدولة في هذه المهمة لإنجاحها. فالناس تستمع لموظفى الدولة أكثر من الأفراد. كما أن تدخل الدولة في هذا السياق ينظم الأمر ويجعله أكثر جدية وتوثيق.
يستن دعوة الناس بالرفق والرحمة. قال تعالى: { (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)} [xxxviii].
الصبر على القيام بهما، وتحمل مشاقها. قال تعالى: {(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)} [xxxix].
عدم الأذى والتجريح للناس. ولا ينبغي رفع الصوت والتهديد والصراخ، ولا يكون الأمر بالقوة والجبروت. قال تعالى: {(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ)} [xl].
التناصح في الخطابة
إن التناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرا ما يكون عن طريق الخطابة في خطب الجمعة أو العيدين أو غيرها. حيث يقف الخطباء سوى كانوا من أئمة المساجد أو من علماء الأمة أو القراء أو العموم المتفقهون في الدين ويلقون الخطب المنبرية. وهي مصدر جيد للتعليم خاصة في بلاد الغرب. حيث يحرص كثير من المسلمين سواء كانوا رجالاً أو نساءً أو أطفالاً لحضور خطبة الجمعة. وتكون بمثابة المصدر الرئيسي للعلم لكثير من المسلمين الجدد الذين يحتاجون من يدلهم ويرشدهم الطريق. فتكون أكثر تلك الخطب مترجمة وبلغة سهلة يفهمها المستجدين في الإسلام. كما تكون كإجتماع إسبوعي للمسلمين في بلاد الغربة يجتمعون فيه وتناقش فيه قضايا تهمهم. ولذا ينبغي أن يكون الخطباء متمكنين من الخطابة ليستطيعوا إلقاء الخطب المنبرية الجيدة. وتبدأ الخطبة عادة بالإستعاذة والإستعانة بالله ثم الصلاة والسلام على رسول الله وصحبة وآله. ثم يتلوها خطبتين، واحدة تلو الأخرى. يقول فيها الخطيب مواعظ ونصح وتوجيهات على شكل مختصر وجذاب يدخل لعقول الناس دون الحوجة لكثير من التركيز أو الإنتباه. فهي من السهل الذي قل ودل. ولذا قد أفرد العلماء الخطابة كعلم له أصوله وآدابه التي أُلِّفت فيها الكتب والمصنَّفات. وهي من أقوى وسائل التناصح، حيث يتهيأ المستمعين وينصتوا لما يقوله الخطيب ويتلقونه بصدور رحبة نتيجة لتلك التهيئة المسبقة. ولذا على الخطيب تخير الكلمات التي تصيب سهامها القلوب وتحقق المرجو منها. قال صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان سحرا)[xli].
ما ينبغي توفره في الخطيب
عليه إخلاص النية لله تعالى. فلا يتولى هذه المهمة منافق أو مرائي. بل توكل للعلماء المخلصين.
عليه أن يكون سوى العقيدة، فلا يتبع أي من الملل المنحرفة في باب العقيدة كالشيعة والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم. ولا يسعه إلا إتباع أهل الفرقة الناجية المنصورة، أهل السنة والجماعة.
على الخطيب أن يكون متمكن من الخطابة ليستطيع إلقاء الخطب المنبرية.
عليه الإلمام باللغة العربية وتصريفاتها وإعرابها. كما يستحسن إلمامه بموضوعات البلاغة من إستعار وكناية ومجاز وغيره. كما عليه الإلمام بالأساليب اللغوية المختلفة.
عليه الإلمام بالعلوم الشرعية، فلا ينبغي أن يكون الخطيب جاهلاً أو مبتدئاً فيها.
عليه أن يكون سوى النطق، ولا يستحي من الوقوف أمام الناس للإلقاء.
عليه أن يحسن فن التعامل مع الناس ويخالقهم بخلق حسن. فلا ينبغي أن يكون الخطيب ضيق الخلق سريع الغضب، ينفر منه لناس لسوء خلقه. قال صلى الله عليه وسلم: « (خالق الناس بخلق حسن)» [xlii].
عليه الصبر على الردود السخيفة والإنتقادات. كما عليه أن يحسن الرد عليها وتفنيد الأقوال الفاسدة.
عليه أن يحسن فن الكتابة، والأفضل له أن يحضر خطبه بنفسه بدلاً عن نقلها من غيره. فذلك أدعى له أن يتذكر الخطبة أكثر ممن نقلها من غيره. وإن كان لا بأس بالنقل إن لم يستطيع الكتابة، أو خلط هذا وذاك.
على الخطيب الحرص على نظافته وطهارته، حتى يدخل المسجد ليصلى بالناس وهو نظيفاً طاهراً. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ تعالى طيبٌ يُحِبُّ الطيبَ، نظيفٌ يُحِبُّ النظافةَ، كريمٌ يُحِبُّ الكرَمَ، جوَادٌ يُحِبُّ الجودَ، فنظِّفوا أفنيتَكم، ولا تشبَّهوا باليهودِ)[xliii].
يجب ألا تكون رائحته كريهة. فلا ينبغي أن يخطب في الناس ورائحته تفوح عرقاً وتؤذي المصلين.
عليه تجنب أكل البصل والثوم والكراث والبقلة[xliv]. وذلك لرائحتهم الكريهة. قال صلى الله عليه وسلم: «(من أكل من هذه الشجرة يريد الثوم فلا يغشنا في مسجدنا)» [xlv]. وفي رواية: «(من أكل من هذه البقلة، الثوم، وقال مرة: من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)» [xlvi].
عليه إتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في غسل الجمعة. وكذلك سنن الفطرة من قص الأظافر وغيرها.
على الخطيب أن يحسن ثيابه ومنظره، فلا يلقى الناس بثياب بالية أو ممزقة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب من الثياب الحبرة، وهي الثوب الجميل.
وأختم كلامي بالتأكيد على أهمية التناصح، إبتغاء الأجر من الله. وكذلك بهدف إصلاح الأمة ونشر الخير وطرد الرذيلة والمنكرات من المجتمع. والتوصية بإتباع آداب التناصح والخطابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإخلاص النية، وتجويد الخطب، وإتباع أساليب الدعوة المجدية للوصول إلى المبتغى، والإستعانة بالله تعالى في كل ذلك. هذا فإن أصبت فمن الله وبتوفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المراجع والمصادر
القرآن الكريم.
الموسوعة الحديثية، الدرر السنية.
مختار الصحاح.
[i] مسلم 55.
[ii] آل عمران 110.
[iii] أخرجه ابن حبان في ((المجروحين)) (2/1)، والقضاعي في ((مسند الشهاب)) (1234) واللفظ لهما، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5787) مطولاً.
[iv] البقرة 143.
[v] صححه الألباني في صحيح الجامع (2324).
[vi] التوبة 91.
[vii] البخاري 1401.
[viii] صححه الألباني في صحيح ابن ماجه (188).
[ix] البخاري 2550، ومسلم 1664.
[x] أخرجه الترمذي (1642) واللفظ له، وأحمد (9492) مطولا.
[xi] مسلم 2577.
[xii] المائدة 2.
[xiii] ذكره شعيب الأرناؤوط في تخريج سنن أبي داود (547)، وقال إسناده حسن.
[xiv] الأعراف 62.
[xv] هود 34.
[xvi] الأعراف 79.
[xvii] الأعراف 93.
[xviii] الأعراف 65-68.
[xix] البخاري 1.
[xx] آل عمران 159.
[xxi] النحل 125.
[xxii] البقرة 44.
[xxiii] أخرجه البخاري (6125)، ومسلم (1734).
[xxiv] اللؤلؤ المرصوع 202.
[xxv] آل عمران 134.
[xxvi] أخرجه أحمد (2136) واللفظ له، والبزار (4872) باختلاف يسير، والطبراني (11/33) (10951) مطولاً.
[xxvii] أخرجه أحمد (2136) واللفظ له، والبزار (4872) باختلاف يسير، والطبراني (11/33) (10951) مطولاً.
[xxviii] آل عمران 103.
[xxix] البخاري 5220.
[xxx] آل عمران 110.
[xxxi] التوبة 71.
[xxxii] الأعراف 157.
[xxxiii] موضوعات القرآن، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[xxxiv] البخاري 6952.
[xxxv] مسلم 49.
[xxxvi] آل عمران 104.
[xxxvii] الجامع الصحيح للسنن والمسانيد، من أسباب عذاب القبر، الأمر بالمعروف وعدم إتيانه والنهي عن المنكر وإتيانه، 2/119.
[xxxviii] الأعراف 199.
[xxxix] لقمان 17.
[xl] آل عمران 159.
[xli] أخرجه البخاري (5767)، وأبو داود (5007)، والترمذي (2028)، وأحمد (5687) واللفظ له.
[xlii] أخرجه الترمذي (1987)، وأحمد (21392).
[xliii] صححه السيوطي في الجامع الصغير (1742).
[xliv] البَقْلُ معروف، الواحدة بَقْلَةٌ. والبَقْلَةُ أيضاً: الرِجْلَةُ، وهي البَقْلَةُ الحمقاء. والمَبْقَلَةُ: موضع البَقْلِ. ويقال: كلُّ نبات اخضرّت له الأرضُ فهو بَقْلٌ. مختار الصحاح.
[xlv] أخرجه البخاري (854)، ومسلم (564).
[xlvi] أخرجه البخاري (854) مختصرا، ومسلم (564).
Powered by vBulletin® Version 4.2.2 Copyright © 2025 vBulletin Solutions، Inc. All rights reserved.