مشاهدة النسخة كاملة : تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
ابو وليد البحيرى
2022-03-05, 12:03 AM
الحلقة (246)
- تفسير البغوى
الجزء الرابع
سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ
الاية23 إلى الاية 34
( وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام ( 23 ) ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ( 24 ) .
قوله عز وجل : ( وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام ) يسلم بعضهم على بعض ، وتسلم الملائكة عليهم .
وقيل : المحيي بالسلام هو الله عز وجل .
( ألم تر كيف ضرب الله مثلا ) ألم تعلم ، والمثل : قول سائر لتشبيه شيء بشيء . ( كلمة طيبة ) وهي قول : لا إله إلا الله ( كشجرة طيبة ) وهي النخلة يريد كشجرة طيبة الثمر . [ ص: 347 ]
وقال ظبيان ، عن ابن عباس هي شجرة في الجنة .
( أصلها ثابت ) في الأرض ( وفرعها ) أعلاها ( في السماء ) كذلك أصل هذه الكلمة : راسخ في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق ، فإذا تكلم بها عرجت ، فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله عز وجل . قال الله تعالى : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) ( فاطر - 10 ) .
( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ( 25 ) .
( تؤتي أكلها ) تعطي ثمرها ( كل حين بإذن ربها ) والحين في اللغة هو الوقت .
وقد اختلفوا في معناه ها هنا فقال مجاهد ، وعكرمة : الحين ها هنا : سنة كاملة ، لأن النخلة تثمر كل سنة .
وقال سعيد بن جبير ، وقتادة والحسن : ستة أشهر من وقت إطلاعها إلى صرامها . وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وقيل : أربعة أشهر من حين ظهورها إلى إدراكها .
وقال سعيد بن المسيب : شهران من حين تؤكل إلى حين الصرام .
وقال الربيع بن أنس : " كل حين " : أي : كل غدوة وعشية ، لأن ثمر النخل يؤكل أبدا ليلا ونهارا ، صيفا وشتاء ، إما تمرا أو رطبا أو بسرا ، كذلك عمل المؤمن يصعد أول النهار وآخره وبركة إيمانه لا تنقطع أبدا ، بل تصل إليه في كل وقت .
والحكمة في تمثيل الإيمان بالشجرة : هي أن الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء : عرق راسخ ، وأصل قائم ، وفرع عال ، كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء : تصديق بالقلب ، وقول باللسان ، وعمل بالأبدان . [ ص: 348 ]
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي ؟ قال عبد الله : فوقع الناس في شجر البوادي ، ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت ، ثم قالوا : حدثنا ما هي يا رسول الله ؟ قال : هي النخلة . قال عبد الله : فذكرت ذلك لعمر ، فقال : لأن تكون قلت هي النخلة كان أحب إلي من كذا وكذا " .
وقيل : الحكمة في تشبيهها بالنخلة من بين سائر الأشجار : أن النخلة شبه الأشجار بالإنسان من حيث إنها إذا قطع رأسها يبست ، وسائر الأشجار تتشعب من جوانبها بعد قطع رءوسها ، ولأنها تشبه الإنسان في أنها لا تحمل إلا بالتلقيح ، ولأنها خلقت من فضل طينة آدم عليه السلام ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أكرموا عمتكم " ، قيل : ومن عمتنا ؟ قال : " النخلة " ( ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) .
( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ( 26 ) .
( ومثل كلمة خبيثة ) وهي الشرك ( كشجرة خبيثة ) وهي الحنظل . [ ص: 349 ]
وقيل : هي الثوم .
وقيل : هي الكشوث وهي العشقة ( اجتثت ) يعني انقلعت ( من فوق الأرض ما لها من قرار ) ثبات .
معناه : وليس لها أصل ثابت في الأرض ، ولا فرع صاعد إلى السماء ، كذلك الكافر لا خير فيه ، ولا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح .
( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ( 27 ) .
قوله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) كلمة التوحيد ، وهي قول : لا إله إلا الله ( في الحياة الدنيا ) يعني قبل الموت ( وفي الآخرة ) يعني في القبر . هذا قول أكثر أهل التفسير .
وقيل : " في الحياة الدنيا " : عند السؤال في القبر ، " وفي الآخرة " : عند البعث .
والأول أصح .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، أخبرني علقمة بن مرثد قال : سمعت سعيد بن عبيدة ، عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فذلك قوله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) . [ ص: 350 ]
وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنبأنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة بهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) قال : نزلت في عذاب القبر يقال له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ، ونبيي محمد ، فذلك قوله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) الآية .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عياش بن الوليد ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا سعيد ، عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن العبد إذا وضع في قبره ، وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم ، أتاه ملكان فيقعدانه ، فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ، لمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأما المؤمن ، فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله . فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار ، قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، فيراهما جميعا " قال قتادة : وذكر لنا أنه يفسح له في قبره ، ثم رجع إلى حديث أنس قال :
وأما المنافق والكافر ، فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري ، كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال له : لا دريت ولا تليت ، ويضرب بمطارق من حديد ضربة ، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين " .
أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي ، حدثنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي ، أنبأنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ، حدثنا عبد الله بن سعيد ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا عنبسة بن سعيد بن كثير ، حدثني جدي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الميت يسمع حس النعال إذا ولى عنه الناس مدبرين ، ثم يجلس ويوضع كفنه في عنقه ثم يسأل " .
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان ، يقال لأحدهما : المنكر ، وللآخر النكير ، فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول : هو عبد الله ورسوله ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله ، فيقولان له : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ، ثم ينور له فيه ، ثم يقال : نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه ، حتى يبعثه الله تعالى ، وإن كان منافقا أو كافرا قال : [ ص: 351 ] سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله ، لا أدري ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه ، فتختلف أضلاعه ، فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك " .
وروي عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن وقال : " فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان له من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ [ فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد ، فينتهرانه ، ويقولان له الثانية : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ ] وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فيثبته الله عز وجل ، فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، قال : فذلك قوله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي ، حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء أبو إسحاق حدثنا هشام بن يوسف حدثنا عبد الله بن يحيى ، عن هانئ مولى عثمان قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال : " استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت ، فإنه الآن يسأل " .
وقال عمرو بن العاص في سياق الموت وهو يبكي : فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار ، فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم ، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي .
قوله تعالى : ( ويضل الله الظالمين ) أي : لا يهدي المشركين إلى الجواب بالصواب في القبر ( ويفعل الله ما يشاء ) من التوفيق ، والخذلان ، والتثبيت ، وترك التثبيت .
[ ص: 352 ] ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ( 28 ) جهنم يصلونها وبئس القرار ( 29 ) وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ( 30 ) .
قوله عز وجل : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس : [ في قوله تعالى ] ( الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) قال : هم والله كفار قريش .
وقال عمرو : هم قريش ومحمد صلى الله عليه وسلم نعمة الله .
( وأحلوا قومهم دار البوار ) قال : البوار يوم بدر ، قوله ( بدلوا نعمة الله ) أي : غيروا نعمة الله عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم حيث ابتعثه الله تعالى منهم كفرا كفروا به فأحلوا ، أي : أنزلوا ، قومهم ممن تابعهم على كفرهم دار البوار الهلاك ، ثم بين البوار فقال :
( جهنم يصلونها ) يدخلونها ( وبئس القرار ) المستقر .
وعن علي كرم الله وجهه : الذين بدلوا نعمة الله كفرا : هم كفار قريش نحروا يوم بدر .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أمية ، أما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين .
( وجعلوا لله أندادا ) أمثالا [ وليس لله تعالى ند ] ( ليضلوا ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بفتح الياء ، وكذلك في الحج ، وسورة لقمان ، والزمر : ( ليضل ) وقرأ الآخرون بضم الياء على معنى ليضلوا الناس ( عن سبيله قل تمتعوا ) عيشوا في الدنيا ( فإن مصيركم إلى النار ) [ ص: 353 ]
( قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ( 31 ) الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار ( 32 ) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار ( 33 ) . ( وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ( 34 ) .
( قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة ) قال الفراء : هو جزم على الجزاء ( وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ) مخاللة وصداقة . [ قرأ ابن كثير ، وابن عمرو ، ويعقوب : " لا بيع فيه ولا خلال " بالنصب فيهما على النفي العام . وقرأ الباقون : " لا بيع ولا خلال " بالرفع والتنوين ] .
( الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار ) ذللها لكم ، تجرونها حيث شئتم .
( وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ) يجريان فيما يعود إلى مصالح العباد ولا يفتران ، قال ابن عباس دءوبهما في طاعة الله عز وجل .
( وسخر لكم الليل والنهار ) يتعاقبان في الضياء والظلمة ، والنقصان والزيادة .
( وآتاكم من كل ما سألتموه ) [ يعني : وآتاكم من كل شيء سألتموه ] شيئا ، فحذف الشيء الثاني اكتفاء بدلالة الكلام ، على التبعيض .
وقيل : هو على التكثير نحو قولك : فلان يعلم كل شيء ، وآتاه كل الناس ، وأنت تعني بعضهم [ ص: 354 ] نظيره قوله تعالى : ( فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) ( الأنعام - 44 ) .
وقرأ الحسن " من كل " بالتنوين ( ما ) على النفي يعني من كل ما لم تسألوه ، يعني : أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها .
( وإن تعدوا نعمة الله ) أي : نعم الله ( لا تحصوها ) أي : لا تطيقوا عدها ولا القيام بشكرها .
( إن الإنسان لظلوم كفار ) أي : ظالم لنفسه بالمعصية ، كافر بربه عز وجل في نعمته .
وقيل : الظلوم ، الذي يشكر غير من أنعم عليه ، والكافر : من يجحد منعمه .
ابو وليد البحيرى
2022-03-05, 12:04 AM
الحلقة (247)
- تفسير البغوى
الجزء الرابع
سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ
الاية35 إلى الاية 46
( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ( 35 ) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ( 36 ) .
قوله عز وجل : ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد ) يعني : الحرم ( آمنا ) ذا أمن يؤمن فيه ( واجنبني ) أبعدني ( وبني أن نعبد الأصنام ) يقال : جنبته الشيء ، وأجنبته جنبا ، وجنبته تجنيبا واجتنبته اجتنابا بمعنى واحد .
فإن قيل : قد كان إبراهيم عليه السلام معصوما من عبادة الأصنام ، فكيف يستقيم السؤال ؟ وقد عبد كثير من بنيه الأصنام فأين الإجابة ؟
قيل : الدعاء في حق إبراهيم عليه السلام لزيادة العصمة والتثبيت ، وأما دعاؤه لبنيه : فأراد بنيه من صلبه ، ولم يعبد منهم أحد الصنم .
وقيل : إن دعاءه لمن كان مؤمنا من بنيه .
( رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ) يعني ضل بهن كثير [ من الناس ] عن طريق الهدى حتى عبدوهن ، وهذا هو المقلوب ، نظيره قوله تعالى : ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ) ( آل عمران - 175 ) [ ص: 355 ] أي : يخوفهم بأوليائه .
وقيل : نسب الإضلال إلى الأصنام لأنهن سبب فيه ، كما يقول القائل : فتنتني الدنيا ، نسب الفتنة إلى الدنيا لأنها سبب الفتنة .
( فمن تبعني فإنه مني ) أي : من أهل ديني ( ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) قال السدي : معناه : ومن عصاني ثم تاب .
وقال مقاتل بن حيان : ومن عصاني فيما دون الشرك .
وقيل : قال ذلك قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك .
( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ( 37 ) .
قوله عز وجل : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي ) أدخل " من " للتبعيض ، ومجاز الآية : أسكنت من ذريتي ولدا ( بواد غير ذي زرع ) وهو مكة; لأن مكة واد بين جبلين ( عند بيتك المحرم ) سماه محرما لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن أيوب السختياني وكثير بن [ أبي كثير بن ] المطلب بن أبي وداعة - يزيد أحدهما على الآخر - عن سعيد بن جبير [ قال ] قال ابن عباس : أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل ، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم عليه السلام ، وبابنها إسماعيل ، وهي ترضعه ، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفل إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم ، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مرارا [ ص: 356 ] وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا ، ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه ، فقال : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ) حتى بلغ " يشكرون " .
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلبط أو قال يتلوى ، وانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات .
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فلذلك سعى الناس بينهما " .
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه - تريد نفسها - ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف .
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم " أو قال : " لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا " .
قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله ، يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله .
وكان موضع البيت مرتفعا من الأرض كالرابية ، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك ، حتى مرت بهم رفقة منجرهم - أو أهل بيت من جرهم - مقبلين من طريق كداء ، فنزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائرا عائفا ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ، ولعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم بالماء ، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء ، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ فقالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء ، قالوا : نعم .
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم ، وأنفسهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم . وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج [ ص: 357 ] إسماعيل يطالع تركته . . . ذكرنا تلك القصة في سورة البقرة .
قوله تعالى : ( ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس ) الأفئدة : جمع الفؤاد ( تهوي إليهم ) تشتاق وتحن إليهم .
قال السدي : معناه أمل قلوبهم إلى هذا الموضع .
قال مجاهد : لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم فارس ، والروم ، والترك ، والهند .
وقال سعيد بن جبير : لحجت اليهود والنصارى والمجوس ، ولكنه قال : " أفئدة من الناس " وهم المسلمون .
( وارزقهم من الثمرات ) ما رزقت سكان القرى ذوات الماء ( لعلهم يشكرون ) .
( ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ( 38 ) الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ( 39 ) .
( ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن ) من أمورنا . وقال ابن عباس ومقاتل : من الوجد بإسماعيل وأمه حيث أسكنتهما بواد غير ذي زرع . ( وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ) قيل : هذا صلة قول إبراهيم .
وقال الأكثرون : يقول الله عز وجل : ( وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ) .
( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر ) أعطاني ( إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ) قال ابن عباس : ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة .
وقال سعيد بن جبير : بشر إبراهيم بإسحاق وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة .
[ ص: 358 ] ( رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ( 40 ) ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ( 41 ) ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ( 42 ) .
( رب اجعلني مقيم الصلاة ) يعني : ممن يقيم الصلاة بأركانها ويحافظ عليها ( ومن ذريتي ) يعني : اجعل من ذريتي من يقيمون الصلاة .
( ربنا وتقبل دعاء ) أي : عملي وعبادتي ، سمى العبادة دعاء ، وجاء في الحديث : " الدعاء مخ العبادة " .
وقيل : معناه : استجب دعائي .
( ربنا اغفر لي ولوالدي ) فإن قيل : كيف استغفر لوالديه وهما غير مؤمنين ؟ قيل : قد قيل إن أمه أسلمت .
وقيل : أراد إن أسلما وتابا .
وقيل : قال ذلك قبل أن يتبين له أمر أبيه ، وقد بين الله تعالى عذر خليله صلى الله عليه وسلم في استغفاره لأبيه في سورة التوبة .
( وللمؤمنين ) أي : اغفر للمؤمنين كلهم ( يوم يقوم الحساب ) أي : يبدو ويظهر . وقيل : أراد يوم يقوم الناس للحساب ، فاكتفى بذكر الحساب لكونه مفهوما .
قوله عز وجل : ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ) الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور ، والآية لتسلية المظلوم وتهديد للظالم . [ ص: 359 ]
( إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ) أي : لا تغمض من هول ما ترى في ذلك اليوم ، وقيل : ترتفع وتزول عن أماكنها .
( مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ( 43 ) وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ( 44 ) .
( مهطعين ) قال قتادة : مسرعين .
قال سعيد بن جبير : الإهطاع النسلان كعدو الذئب .
وقال مجاهد : مديمي النظر .
ومعنى " الإهطاع " : أنهم لا يلتفتون يمينا ولا شمالا ولا يعرفون مواطن أقدامهم .
( مقنعي رءوسهم ) أي : رافعي رءوسهم .
قال القتيبي : المقنع : الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه .
وقال الحسن : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء ، لا ينظر أحد إلى أحد .
( لا يرتد إليهم طرفهم ) أي : لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر ، وهي شاخصة قد شغلهم ما بين أيديهم .
( وأفئدتهم هواء ) أي : خالية . قال قتادة : خرجت قلوبهم عن صدورهم ، فصارت في حناجرهم ، لا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها ، فالأفئدة هواء لا شيء فيها ، ومنه سمي ما بين السماء والأرض هواء لخلوه .
وقيل : خالية لا تعي شيئا ولا تعقل من الخوف .
وقال الأخفش : جوفاء لا عقول لها ، والعرب تسمي كل أجوف خاو هواء .
وقال سعيد بن جبير : " وأفئدتهم هواء " أي : مترددة ، تمور في أجوافهم ، ليس لها مكان تستقر فيه .
وحقيقة المعنى : أن القلوب زائلة عن أماكنها ، والأبصار شاخصة من هول ذلك اليوم .
( وأنذر الناس ) خوفهم ( يوم ) أي : بيوم ( يأتيهم العذاب ) وهو يوم القيامة ( فيقول الذين ظلموا ) أشركوا ( ربنا أخرنا ) أمهلنا ( إلى أجل قريب ) هذا سؤالهم الرد [ ص: 360 ] إلى الدنيا ، أي : ارجعنا إليها ( نجب دعوتك ونتبع الرسل ) فيجابون :
( أولم تكونوا أقسمتم من قبل ) حلفتم في دار الدنيا ( ما لكم من زوال ) عنها أي : لا تبعثون . وهو قوله تعالى : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ) ( النحل - 38 ) .
( وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ( 45 ) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ( 46 ) .
( وسكنتم ) في الدنيا ( في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ) بالكفر والعصيان قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وغيرهم . ( وتبين لكم كيف فعلنا بهم ) أي : عرفتم عقوبتنا إياهم ( وضربنا لكم الأمثال ) أي : بينا أن مثلكم كمثلهم .
( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم ) أي : جزاء مكرهم ( وإن كان مكرهم ) قرأ علي وابن مسعود : ( وإن كان مكرهم ) بالدال ، وقرأ العامة بالنون .
( لتزول منه الجبال ) قرأ العامة لتزول بكسر اللام الأولى ونصب الثانية .
معناه : وما كان مكرهم .
قال الحسن : إن كان مكرهم لأضعف من أن تزول منه الجبال .
وقيل : معناه إن مكرهم لا يزيل أمر محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ثابت كثبوت الجبال .
وقرأ ابن جريج ، والكسائي : " لتزول " بفتح اللام الأولى ورفع الثانية ، معناه : إن مكرهم وإن عظم حتى بلغ محلا يزيل الجبال لم يقدروا على إزالة أمر محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال قتادة : معناه وإن كان شركهم لتزول منه الجبال ، وهو قوله تعالى : ( وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا ) ( مريم - 19 ) .
ويحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في معنى الآية : أنها نزلت في نمرود الجبار الذي حاج إبراهيم في ربه ، وذلك أنه قال : إن كان ما يقول إبراهيم حقا فلا أنتهي حتى أصعد السماء فأعلم ما فيها ، فعمد إلى أربعة أفرخ من النسور فرباها حتى شبت واتخذ تابوتا ، وجعل له بابا من أعلى وبابا من أسفل ، وقعد نمرود مع رجل في التابوت ، ونصب خشبات في أطراف التابوت ، وجعل على رءوسها اللحم ، وربط التابوت بأرجل النسور ، فطرن وصعدن طمعا في اللحم ، حتى مضى يوم وأبعدن في الهواء ، فقال نمرود لصاحبه : افتح الباب الأعلى ، وانظر إلى السماء هل قربناها ، ففتح [ ص: 361 ] [ الباب ونظر ] فقال : إن السماء كهيئتها ثم قال : افتح الباب الأسفل وانظر إلى الأرض كيف تراها ؟ ففعل ، فقال : أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان ، فطارت النسور يوما آخر ، وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران ، فقال لصاحبه : افتح البابين ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها ، وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة ، فنودي : أيها الطاغية أين تريد ؟
قال عكرمة : كان معه في التابوت غلام قد حمل معه القوس والنشاب ، فرمى بسهم فعاد إليه السهم متلطخا بدم سمكة قذفت نفسها من بحر في الهواء - وقيل : طائر أصابه السهم - فقال : كفيت شغل إله السماء .
قال : ثم أمر نمرود صاحبه أن يصوب الخشبات وينكص اللحم ، ففعل ، فهبطت النسور بالتابوت ، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور ، ففزعت وظنت أنه قد حدث حدث من السماء ، وأن الساعة قد قامت ، فكادت تزول عن أماكنها ، فذلك قوله تعالى : ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) .
ابو وليد البحيرى
2022-03-05, 12:05 AM
الحلقة (248)
- تفسير البغوى
الجزء الرابع
سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ
الاية46 إلى الاية 52
( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ( 47 ) يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ( 48 ) .
( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ) بالنصر لأوليائه وهلاك أعدائه ، وفيه تقديم وتأخير ، تقديره : ولا تحسبن الله مخلف رسله وعده ( إن الله عزيز ذو انتقام ) .
قوله عز وجل : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ) .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن يوسف ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا خالد بن مخلد ، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير ، حدثني أبو حازم بن دينار ، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد " . [ ص: 362 ]
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن خالد - هو ابن يزيد ، - عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر ، نزلا لأهل الجنة " .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه في هذه الآية قال : تبدل الأرض بأرض كفضة بيضاء نقية لم يسفك فيها دم ولم تعمل فيها خطيئة .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : تبدل الأرض من فضة ، والسماء من ذهب .
وقال محمد بن كعب ، وسعيد بن جبير : تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه .
وقيل : معنى التبديل جعل السماوات جنانا وجعل الأرض نيرانا .
وقيل : تبديل الأرض تغييرها من هيئة إلى هيئة ، وهي تسيير جبالها ، وطم أنهارها ، وتسوية أوديتها ، وقطع أشجارها ، وجعلها قاعا صفصفا ، وتبديل السماوات : تغيير حالها بتكوير شمسها ، وخسوف قمرها وانتثار نجومها ، وكونها مرة كالدهان ، ومرة كالمهل .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا علي بن مسهر ، عن داود - وهو ابن أبي هند ، - عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل : " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات " فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله ؟ فقال : " على الصراط " . [ ص: 363 ]
وروي عن ثوبان أن حبرا من اليهود سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض ؟ قال : " هم في الظلمة دون الجسر " .
وقوله تعالى : ( وبرزوا ) خرجوا من قبورهم ( لله الواحد القهار ) الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
( وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد ( 49 ) .
( وترى المجرمين يومئذ مقرنين ) مشدودين بعضهم ببعض ( في الأصفاد ) في القيود والأغلال ، واحدها صفد ، وكل من شددته شدا وثيقا فقد صفدته .
قال أبو عبيدة : صفدت الرجل فهو مصفود ، وصفدته بالتشديد فهو مصفد .
وقيل : يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة ، بيانه قوله تعالى : ( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ) ( الصافات - 22 ) ، يعني : قرناءهم من الشياطين .
وقيل : معناه مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد والقيود ، ومنه قيل للحبل : قرن .
( سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ( 50 ) .
( سرابيلهم ) أي : قمصهم ، واحدها سربال . ( من قطران ) هو الذي تهنأ به الإبل .
وقرأ عكرمة ، ويعقوب " من قطر آن " على كلمتين منونتين والقطر : النحاس ، والصفر المذاب ، والآن : الذي انتهى حره ، قال الله تعالى : ( يطوفون بينها وبين حميم آن ) ( الرحمن - 44 ) .
( وتغشى وجوههم النار ) أي : تعلو .
( ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب ( 51 ) هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب ( 52 ) .
( ليجزي الله كل نفس ما كسبت ) من خير وشر ( إن الله سريع الحساب ) .
( هذا ) أي : هذا القرآن ( بلاغ ) أي : تبليغ وعظة ( للناس ولينذروا ) وليخوفوا ( به وليعلموا أنما هو إله واحد ) أي : ليستدلوا بهذه الآيات على وحدانية الله تعالى : ( وليذكر أولو الألباب ) أي : ليتعظ أولو العقول .
ابو وليد البحيرى
2022-03-05, 12:06 AM
الحلقة (249)
- تفسير البغوى
الجزء الرابع
سُورَةِ الْحِجْرِ
الاية1 إلى الاية 20
[ سُورَةِ الْحِجْرِ ]
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ( 1 ) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ( 2 ) .
( الر ) قِيلَ : مَعْنَاهُ : أَنَا اللَّهُ أَرَى ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ) أَيْ : هَذِهِ آيَاتُ الْكِتَابِ ( وَقُرْآنٍ ) أَيْ : وَآيَاتُ قُرْآنٍ ( مُبِينٍ ) أَيْ : بَيَّنَ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ وَالْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ ذَكَرَ الْكِتَابَ ثُمَّ قَالَ ( وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ) وَكِلَاهُمَا وَاحِدٌ ؟
قُلْنَا : قَدْ قِيلَ كُلُّ وَاحِدٍ يُفِيدُ فَائِدَةً أُخْرَى ، فَإِنَّ الْكِتَابَ : مَا يُكْتَبُ ، وَالْقُرْآنُ : مَا يُجْمَعُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ : التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ ، وَبِالْقُرْآنِ هَذَا الْكِتَابُ .
( رُبَمَا ) قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ ، وَنَافِعٌ ، وَعَاصِمٌ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا ، وَهُمَا لُغَتَانِ ، وَرُبَّ لِلتَّقْلِيلِ وَكَمْ لِلتَّكْثِيرِ ، وَرُبَّ تَدْخُلُ عَلَى الِاسْمِ ، وَرُبَمَا عَلَى الْفِعْلِ ، يُقَالُ : رُبَّ رَجُلٍ جَاءَنِي ، وَرُبَمَا جَاءَنِي رَجُلٌ ، وَأَدْخَلَ مَا هَاهُنَا لِلْفِعْلِ بَعْدَهَا . ( يَوَدُّ ) يَتَمَنَّى ( الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَالِ الَّتِي يَتَمَنَّى الْكَافِرُ فِيهَا الْإِسْلَامَ .
قَالَ الضَّحَّاكُ : حَالَةُ الْمُعَايَنَةِ . [ ص: 368 ]
وَقِيلَ : يَوْمُ الْقِيَامَةِ .
وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ حِينَ يُخْرِجُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّارِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ ، وَمَعَهُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، قَالَ الْكَفَّارُ لِمَنْ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ : أَلَسْتُمْ مُسْلِمِينَ ؟ قَالُوا بَلَى ، قَالُوا : فَمَا أَغْنَى عَنْكُمْ إِسْلَامُكُمْ وَأَنْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ ؟ قَالُوا : كَانَتْ لَنَا ذُنُوبٌ فَأُخِذْنَا بِهَا ، فَيَغْضَبُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ [ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ ] فَيَأْمُرُ بِكُلِّ مَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فِي النَّارِ فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا ، فَحِينَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ قَالَ " رُبَمَا " وَهِيَ لِلتَّقْلِيلِ وَهَذَا التَّمَنِّي يُكْثِرُ مِنْهُ الْكُفَّارُ ؟
قُلْنَا : قَدْ تُذْكَرُ " رُبَمَا " لِلتَّكْثِيرِ ، أَوْ أَرَادَ : أَنَّ شُغْلَهُمْ بِالْعَذَابِ لَا يُفَرِّغُهُمْ لِلنَّدَامَةِ إِنَّمَا يَخْطُرُ ذَلِكَ بِبَالِهِمْ أَحْيَانًا .
( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ( 3 ) .
( ذرهم ) يا محمد ، يعني : الذين كفروا ( يأكلوا ) في الدنيا ( ويتمتعوا ) من لذاتهم ( ويلههم ) يشغلهم ( الأمل ) عن الأخذ بحظهم من الإيمان والطاعة ( فسوف يعلمون ) إذا وردوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا ، وهذا تهديد ووعيد .
وقال بعض أهل العلم : " ذرهم " تهديد ، وقوله : " فسوف يعلمون " تهديد آخر ، فمتى يهنأ العيش بين تهديدين ؟ والآية نسختها آية القتال .
[ ص: 369 ] ( وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ( 4 ) ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ( 5 ) وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ( 6 ) لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ( 7 ) ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين ( 8 ) إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( 9 ) .
( وما أهلكنا من قرية ) أي : من أهل قرية ( إلا ولها كتاب معلوم ) أي : أجل مضروب لا يتقدم عليه ، ولا يأتيهم العذاب حتى يبلغوه ، ولا يتأخر عنهم .
( ما تسبق من أمة أجلها ) " من " صلة ( وما يستأخرون ) أي : الموت لا يتقدم ولا يتأخر ، وقيل : العذاب المضروب .
( وقالوا ) يعني : مشركي مكة ( يا أيها الذي نزل عليه الذكر ) أي : القرآن ، وأرادوا به محمدا صلى الله عليه وسلم ( إنك لمجنون ) وذكروا تنزيل الذكر على سبيل الاستهزاء .
( لو ما ) هلا ( تأتينا بالملائكة ) شاهدين لك بالصدق على ما تقول ( إن كنت من الصادقين ) أنك نبي .
( ما ننزل الملائكة ) قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر بنونين " الملائكة " نصب ، وقرأ أبو بكر بالتاء وضمها وفتح الزاي " الملائكة " رفع ، وقرأ الباقون بالتاء وفتحها وفتح الزاي " الملائكة " رفع . ( إلا بالحق ) أي : بالعذاب ولو نزلت يعني الملائكة لعجلوا بالعذاب ( وما كانوا إذا منظرين ) أي : مؤخرين ، وقد كان الكفار يطلبون إنزال الملائكة عيانا فأجابهم الله تعالى بهذا . ومعناه : إنهم لو نزلوا أعيانا لزال عن الكفار الإمهال وعذبوا في الحال .
( إنا نحن نزلنا الذكر ) يعني القرآن ( وإنا له لحافظون ) أي : نحفظ القرآن من الشياطين أن [ ص: 370 ] يزيدوا فيه ، أو ينقصوا منه ، أو يبدلوا ، قال الله تعالى : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) ( فصلت - 42 ) والباطل : هو إبليس ، لا يقدر أن يزيد فيه ما ليس منه ولا أن ينقص منه ما هو منه .
وقيل الهاء في " له " راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم أي : إنا لمحمد لحافظون ممن أراده بسوء كما قال جل ذكره : ( والله يعصمك من الناس ) ( المائدة - 67 ) .
( ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين ( 10 ) وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ( 11 ) كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ( 12 ) لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين ( 13 ) ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ( 14 ) .
قوله تعالى : ( ولقد أرسلنا من قبلك ) أي : رسلا ( في شيع الأولين ) أي : في [ الأمم والقرون الماضية ] .
والشيعة : هم القوم المجتمعون المتفقة كلمتهم .
( وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ) كما فعلوا بك ، ذكره تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم .
( كذلك نسلكه ) أي : كما سلكنا الكفر والتكذيب والاستهزاء بالرسل في قلوب شيع الأولين ، كذلك [ نسلكه : ندخله ] ( في قلوب المجرمين ) يعني : مشركي مكة قومك . وفيه رد على القدرية .
( لا يؤمنون به ) يعني : لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ( وقد خلت ) مضت ( سنة الأولين ) أي : وقائع الله تعالى بالإهلاك فيمن كذب الرسل من الأمم الخالية ، يخوف أهل مكة .
( ولو فتحنا عليهم ) يعني : على الذين يقولون لو ما تأتينا بالملائكة ( بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ) أي : فظلت الملائكة يعرجون فيها ، وهم يرونها عيانا ، هذا قول الأكثرين . [ ص: 371 ]
وقال الحسن : معناه فظل هؤلاء الكفار يعرجون فيها أي : يصعدون . والأول أصح .
( لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ( 15 ) . ( ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين ( 16 ) .
( لقالوا إنما سكرت ) سدت ( أبصارنا ) قاله ابن عباس .
وقال الحسن : سحرت .
وقال قتادة : أخذت .
وقال الكلبي : عميت .
وقرأ ابن كثير " سكرت " بالتخفيف ، أي : حبست ومنعت النظر كما يسكر النهر لحبس الماء . ( بل نحن قوم مسحورون ) أي : عمل فينا السحر فسحرنا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قوله عز وجل ( ولقد جعلنا في السماء بروجا ) والبروج : هي النجوم الكبار ، مأخوذة من الظهور ، يقال : تبرجت المرأة أي : ظهرت .
وأراد بها : المنازل التي تنزلها الشمس ، والقمر ، والكواكب السيارة ، وهي اثنا عشر برجا : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت .
وقال عطية : هي قصور في السماء عليها الحرس . [ ص: 372 ]
( وزيناها ) أي : السماء بالشمس والقمر والنجوم ( للناظرين ) .
( وحفظناها من كل شيطان رجيم ( 17 ) إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين ( 18 ) .
( وحفظناها من كل شيطان رجيم ) مرجوم . وقيل : ملعون .
قال ابن عباس : كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات وكانوا يدخلونها ، ويأتون بأخبارها فيلقون على الكهنة ، فلما ولدعيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات أجمع ، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب ، فلما منعوا من تلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس ، فقال لقد حدث في الأرض حدث ، قال : فبعثهم فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن ، فقالوا : هذا والله ما حدث .
( إلا من استرق السمع ) لكن من استرق السمع ( فأتبعه شهاب مبين ) والشهاب : الشعلة من النار .
وذلك أن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء الدنيا ، ويسترقون السمع من الملائكة ، فيرمون بالكواكب فلا تخطئ أبدا ، فمنهم من تقتله ، ومنهم من تحرق وجهه أو جنبه أو يده أو حيث يشاء الله ، ومنهم من تخبله فيصير غولا يضل الناس في البوادي .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، قال : سمعت عكرمة يقول : سمعت أبا هريرة يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها [ ص: 373 ] خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحق ، وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض - ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع أحدهم الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر ، أو الكاهن ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن أبي مريم ، حدثنا الليث ، حدثنا ابن جعفر ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الملائكة تنزل في العنان ، وهو السحاب ، فتذكر الأمر الذي قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان ، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم " .
واعلم أن هذا لم يكن ظاهرا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكره شاعر من العرب قبل زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما ظهر في بدء أمره وكان ذلك أساسا لنبوته عليه السلام .
وقال يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق : إن أول من فزع للرمي بالنجوم هذا الحي من ثقيف وإنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج ، وكان أهدى العرب ، فقالوا له : ألم تر ما حدث في السماء من القذف بالنجوم ؟ قال : بلى ، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس من معايشهم هي التي يرمى بها فهي - والله - طي الدنيا وهلاك الخلق الذي فيها ، وإن كانت [ ص: 374 ] نجوما غيرها ، وهي والله ثابتة على حالها فهذا الأمر أراده الله تعالى بهذا الخلق .
قال معمر قلت للزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية ؟ قال : نعم ، قلت : أفرأيت قوله تعالى : ( وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ) [ الآية - 6 ] الجن ؟ قال : غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن قتيبة : إن الرجم كان قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - ولكن لم يكن [ مثله ] في شدة الحراسة بعد مبعثه .
وقيل : إن النجم ينقض فيرمي الشياطين ، ثم يعود إلى مكانه ، والله أعلم .
( والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ( 19 ) وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين ( 20 ) .
قوله تعالى : ( والأرض مددناها ) بسطناها على وجه الماء ، يقال : إنها مسيرة خمسمائة سنة في مثلها دحيت من تحت الكعبة ( وألقينا فيها رواسي ) جبالا ثوابت ، وقد كانت الأرض تميد إلى أن أرساها الله بالجبال ( وأنبتنا فيها ) أي : في الأرض ( من كل شيء موزون ) مقدر معلوم .
وقيل : يعني في الجبال ، وهي جواهر من الذهب ، والفضة ، والحديد ، والنحاس وغيرها ، حتى الزرنيخ ، والكحل كل ذلك يوزن وزنا .
وقال ابن زيد : هي الأشياء التي توزن وزنا .
( وجعلنا لكم فيها معايش ) جمع معيشة ، قيل : أراد بها المطاعم ، والمشارب ، والملابس [ وهي ما ] يعيش به الآدمي في الدنيا ( ومن لستم له برازقين ) أي : جعلنا فيها من لستم له برازقين من الدواب والأنعام ، أي : جعلناها لكم وكفيناكم رزقها ، و " من " في الآية بمعنى " ما " كقوله تعالى : ( فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ) ( النور - 45 ) . [ ص: 375 ]
وقيل : " من " في موضعها; لأنه أراد المماليك مع الدواب .
وقيل : " من " في محل الخفض عطفا على الكاف والميم في " لكم " .
ابو وليد البحيرى
2022-03-05, 12:06 AM
الحلقة (250)
- تفسير البغوى
الجزء الرابع
سُورَةِ الْحِجْرِ
الاية21 إلى الاية 40
[ سُورَةِ الْحِجْرِ ]
( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ( 21 ) وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ( 22 ) .
( وإن من شيء ) [ أي : وما من شيء ] ( إلا عندنا خزائنه ) أي مفاتيح خزائنه . وقيل : أراد به المطر .
( وما ننزله إلا بقدر معلوم ) لكل أرض حد مقدر ، ويقال : لا تنزل من السماء قطرة إلا ومعها ملك يسوقها حيث يريد الله عز وجل ويشاء .
وعن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده قال : في العرش مثال جميع ما خلق الله في البر والبحر ، وهو تأويل قوله تعالى : " وإن من شيء إلا عندنا خزائنه " .
( وأرسلنا الرياح لواقح ) أي : حوامل ، لأنها تحمل الماء إلى السحاب ، وهو جمع لاقحة ، يقال : ناقة لاقحة إذا حملت الولد .
قال ابن مسعود : يرسل الله الريح فتحمل الماء فيمر به السحاب ، فيدر كما تدر اللقحة ، ثم تمطر .
وقال أبو عبيدة : أراد باللواقح الملاقح واحدتها ملقحة ، لأنها تلقح الأشجار .
قال عبيد بن عمير : يبعث الله الريح المبشرة فتقم الأرض قما ، ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب ، ثم يبعث الله المؤلفة السحاب بعضه إلى بعض فتجعله ركاما ، ثم يبعث اللواقح فتلقح الشجر .
وقال أبو بكر بن عياش : لا تقطر قطرة من السحاب إلا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيه ، فالصبا تهيجه ، والشمال تجمعه ، والجنوب تذره ، والدبور تفرقه .
وفي الخبر أن : اللقح رياح الجنوب . [ ص: 376 ]
وفي [ بعض ] الآثار : ما هبت ريح الجنوب إلا وبعث عينا غدقة .
وأما الريح العقيم : فإنها تأتي بالعذاب ولا تلقح .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا من لا أتهم بحديثه ، حدثنا العلاء بن راشد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ما هبت ريح قط إلا جثا النبي صلى الله عليه وسلم على ركبتيه ، وقال : اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا ، اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا . قال ابن عباس : في كتاب الله عز وجل : ( إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا ) ( القمر - 19 ( إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ) ( الذاريات - 41 ) وقال : ( وأرسلنا الرياح لواقح ) ( الحجر - 22 ) وقال : ( أن يرسل الرياح مبشرات ) ( الروم - 41 ) .
قوله : ( فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه ) أي : جعلنا المطر لكم سقيا ، يقال : أسقى فلان فلانا : إذا جعل له سقيا ، وسقاه : إذا أعطاه ما يشرب . وتقول العرب : سقيت الرجل ماء ولبنا إذا كان لسقيه ، فإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه ودوابه تقول : أسقيته .
( وما أنتم له بخازنين ) يعني المطر في خزائننا لا في خزائنكم . وقال سفيان : بمانعين .
( وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ( 23 ) .
( وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ) بأن نميت جميع الخلائق ، فلا يبقى حي سوانا .
والوارث من صفات الله عز وجل . قيل : الباقي بعد فناء الخلق .
وقيل : معناه إن مصير الخلق إليه . [ ص: 377 ]
( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ( 24 ) .
( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال ابن عباس : أراد بالمستقدمين الأموات وبالمستأخرين الأحياء .
قال الشعبي : الأولين والآخرين .
وقال عكرمة : المستقدمون من خلق الله ، والمستأخرون من لم يخلق الله .
قال مجاهد : المستقدمون القرون الأولى والمستأخرون أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال الحسن : المستقدمون في الطاعة والخير ، والمستأخرون المبطئون عنها .
وقيل : المستقدمون في الصفوف في الصلاة والمستأخرون فيها . وذلك أن النساء كن يخرجن إلى صلاة الجماعة فيقفن خلف الرجال ، فربما كان من الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى آخر صفوف الرجال ، ومن النساء من كانت في قلبها ريبة فتتقدم إلى أول صفوف النساء لتقرب من الرجال . فنزلت هذه الآية .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها " .
وقال الأوزاعي : أراد المصلين في أول الوقت والمؤخرين إلى آخره .
وقال مقاتل : أراد بالمستقدمين والمستأخرين في صف القتال .
وقال ابن عيينة : أراد من يسلم ومن لا يسلم .
[ ص: 378 ] ( وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ( 25 ) ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون ( 26 ) .
( وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ) على ما علم منهم .
وقيل : يميت الكل ، ثم يحشرهم الأولين والآخرين .
أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن ، أخبرنا أبو سعيد الصيرفي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من مات على شيء بعثه الله عليه " .
قوله تعالى ( ولقد خلقنا الإنسان ) يعني : آدم عليه السلام ، سمي إنسانا لظهوره وإدراك البصر إياه . وقيل : من النسيان لأنه عهد إليه فنسي . ( من صلصال ) وهو الطين اليابس الذي إذا نقرته سمعت له صلصلة ، أي : صوتا .
قال ابن عباس : هو الطين الحر ، الذي نضب عنه الماء تشقق ، فإذا حرك تقعقع .
وقال مجاهد : هو الطين المنتن . واختاره الكسائي ، وقال : هو من صل اللحم وأصل ، إذا أنتن ( من حمإ ) والحمأ : الطين الأسود ( مسنون ) أي : متغير . قال مجاهد وقتادة : هو المنتن المتغير . [ ص: 379 ]
وقال أبو عبيدة : هو المصبوب . تقول العرب : سننت الماء أي صببته .
قال ابن عباس : هو التراب المبتل المنتن ، جعل صلصالا كالفخار .
وفي بعض الآثار : إن الله عز وجل خمر طينة آدم وتركه حتى صار متغيرا أسود ، ثم خلق منه آدم عليه السلام .
( والجان خلقناه من قبل من نار السموم ( 27 ) .
( والجان خلقناه من قبل ) قال ابن عباس : هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر .
وقال قتادة : هو إبليس خلق قبل آدم .
ويقال : الجان : أبو الجن ، وإبليس أبو الشياطين .
وفي الجن مسلمون وكافرون ، ويحيون ويموتون ، وأما الشياطين; فليس منهم مسلمون ، ويموتون إذا مات إبليس .
وذكر وهب : إن من الجن من يولد لهم ويأكلون ويشربون [ بمنزلة الآدميين ] ومن الجن من هم بمنزلة الريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون .
( من نار السموم ) والسموم ريح حارة تدخل مسام الإنسان فتقتله . ويقال : السموم بالنهار والحرور بالليل .
وعن الكلبي ، عن أبي صالح : السموم نار لا دخان لها ، والصواعق تكون منها ، وهي نار بين السماء وبين الحجاب ، فإذا أحدث الله أمرا خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت ، فالهدة التي تسمعون في خرق ذلك الحجاب .
وقيل : نار السموم لهب النار .
وقيل : من نار السموم أي : من نار جهنم .
وعن الضحاك ، عن ابن عباس قال : كان إبليس من حي من الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، فأما الملائكة فإنهم خلقوا [ ص: 380 ] من النور .
( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون ( 28 ) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ( 29 ) فسجد الملائكة كلهم أجمعون ( 30 ) .
قوله تعالى : ( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا ) أي : سأخلق بشرا ( من صلصال من حمإ مسنون ) .
( فإذا سويته ) عدلت صورته ، وأتممت خلقه ( ونفخت فيه من روحي ) فصار بشرا حيا ، والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان ، وأضافه إلى نفسه تشريفا ( فقعوا له ساجدين ) سجود تحية لا سجود عبادة .
( فسجد الملائكة ) الذين أمروا بالسجود ( كلهم أجمعون ) .
فإن قيل : لم قال ( كلهم أجمعون ) وقد حصل المقصود بقوله فسجد الملائكة ؟
قلنا : زعم الخليل ، وسيبويه أنه ذكر ذلك تأكيدا .
وذكر المبرد : أن قوله ( فسجد الملائكة ) كان من المحتمل أنه سجد بعضهم فذكر " كلهم " ليزول هذا الإشكال ، ثم كان [ يحتمل أنهم سجدوا ] في أوقات مختلفة فزال ذلك الإشكال بقوله " أجمعون "
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه : إن الله عز وجل قال لجماعة من الملائكة : اسجدوا لآدم فلم يفعلوا فأرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم قال لجماعة أخرى : اسجدوا لآدم فسجدوا .
[ ص: 381 ] ( إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين ( 31 ) . ( قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين ( 32 ) قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون ( 33 ) قال فاخرج منها فإنك رجيم ( 34 ) وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ( 35 ) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ( 36 ) قال فإنك من المنظرين ( 37 ) إلى يوم الوقت المعلوم ( 38 ) قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ( 39 ) إلا عبادك منهم المخلصين ( 40 ) )
( قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون ) أراد : أنا [ أفضل ] منه لأنه طيني ، وأنا ناري ، والنار تأكل الطين .
( قال فاخرج منها ) أي : من الجنة ( فإنك رجيم ) طريد .
( وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ) قيل : إن أهل السماوات يلعنون إبليس كما يلعنه أهل الأرض ، فهو ملعون في السماء والأرض .
( قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ) أراد الخبيث أن لا يموت .
( قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ) أي : الوقت الذي يموت فيه الخلائق ، وهو النفخة الأولى .
ويقال : إن مدة موت إبليس أربعون سنة وهي ما بين النفختين .
ويقال : لم تكن إجابة الله تعالى إياه في الإمهال إكراما له ، بل كانت زيادة في بلائه وشقائه .
( قال رب بما أغويتني ) أضللتني . وقيل : خيبتني من رحمتك ( لأزينن لهم في الأرض ) حب الدنيا ومعاصيك ( ولأغوينهم ) أي : لأضلنهم ( أجمعين )
( إلا عبادك منهم المخلصين ) المؤمنين الذين أخلصوا لك الطاعة والتوحيد ، ومن فتح اللام ، أي : من أخلصته بتوحيدك واصطفيته .
ابو وليد البحيرى
2022-03-17, 10:33 PM
الحلقة (251)
- تفسير البغوى
الجزء الرابع
سُورَةِ الْحِجْرِ
الاية41 إلى الاية 72
( قال هذا صراط علي مستقيم ( 41 ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ( 42 ) وإن جهنم لموعدهم أجمعين ( 43 ) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ( 44 ) )
( قال ) الله تعالى ( هذا صراط علي مستقيم ) قال الحسن : معناه صراط إلي مستقيم .
وقال مجاهد : الحق يرجع إلى الله تعالى ، وعليه طريقه ، ولا يعوج عليه شيء .
وقال الأخفش : يعني : علي الدلالة على الصراط المستقيم .
قال الكسائي : هذا على التهديد والوعيد كما يقول الرجل لمن يخاصمه : طريقك علي ، أي : لا تفلت مني ، كما قال عز وجل : " إن ربك لبالمرصاد " ( الفجر 14 ) . وقيل : معناه على استقامته بالبيان والبرهان والتوفيق والهداية .
وقرأ ابن سيرين ، وقتادة ، ويعقوب : علي ، من العلو أي : رفيع ، وعبر بعضهم عنه : رفيع أن ينال ، مستقيم أن يمال .
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ، أي : قوة .
قال أهل المعاني : يعني على قلوبهم .
وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية فقال : معناه ليس لك عليهم سلطان تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي ، وهؤلاء ثنية الله الذين هداهم الله واجتباهم . إلا من اتبعك من الغاوين .
وإن جهنم لموعدهم أجمعين ، يعني موعد إبليس ومن تبعه .
لها سبعة أبواب ، أطباق .
قال علي رضي الله عنه : تدرون كيف أبواب النار؟ هكذا ، ووضع [ شعبة ] إحدى يديه على الأخرى ، أي : سبعة أبواب بعضها فوق بعض وإن الله وضع الجنان على العرض ووضع النيران بعضها فوق بعض .
قال ابن جريج : النار سبع دركات : أولها جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية .
لكل باب منهم جزء مقسوم ، أي : لكل دركة قوم يسكنونها .
وقال الضحاك : في الدركة الأولى أهل التوحيد الذي أدخلوا النار ، يعذبون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون ، وفي الثانية النصارى ، وفي الثالثة اليهود ، وفي الرابعة الصابئون ، وفي الخامسة المجوس ، وفي السادسة أهل الشرك ، وفي السابعة المنافقون ، فذلك قوله تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ، ( النساء 145 ) .
وروي عن ابن عمر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمتي أو قال على أمة محمد " .
[ ص: 383 ] إن المتقين في جنات وعيون ( 45 ) ادخلوها بسلام آمنين ( 46 ) ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ( 47 ) لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين ( 48 ) نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ( 49 )
قوله تعالى : إن المتقين في جنات وعيون ، أي : في بساتين وأنهار .
{ادخلوها} أي : يقال لهم ادخلوا الجنة ، {بسلام} ، أي : بسلامة ، {آمنين} ، من الموت والخروج والآفات .
{ونزعنا} ، أخرجنا ، ما في صدورهم من غل ، هو الشحناء ، والعداوة ، والحقد ، والحسد ، {إخوانا} ، نصب على الحال ، {على سرر} جمع سرير ، {متقابلين} ، يقابل بعضهم بعضا ، لا ينظر أحد منهم إلى قفا صاحبه .
وفي بعض الأخبار : إن المؤمن في الجنة إذا ود أن يلقى أخاه المؤمن سار سرير كل واحد منهما إلى صاحبه فيلتقيان ويتحدثان .
{لا يمسهم} ، لا يصيبهم ، {فيها نصب} ، أي : تعب ، وما هم منها بمخرجين ، هذه أنص آية في القرآن على الخلود .
قوله تعالى : نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ، قال ابن عباس : يعني لمن تاب منهم .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما على نفر من أصحابه وهم يضحكون ، فقال : " أتضحكون وبين أيديكم النار " ، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية ، وقال : " يقول لك ربك يا محمد لم تقنط عبادي من رحمتي " .
[ ص: 384 ] وأن عذابي هو العذاب الأليم ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون .
وأن عذابي هو العذاب الأليم قال قتادة : بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع عن حرام ، ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة ، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة ، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار " .
قوله تعالى : ( ونبئهم عن ضيف إبراهيم ) أي : عن أضيافه . والضيف : اسم يقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ، وهم الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى ليبشروا إبراهيم عليه السلام بالولد ، ويهلكوا قوم لوط .
( إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال ) إبراهيم : ( إنا منكم وجلون ) خائفون لأنهم لم يأكلوا طعامه .
( قالوا لا توجل ) لا تخف ( إنا نبشرك بغلام عليم ) أي : غلام في صغره ، عليم في كبره ، يعني : إسحاق ، فتعجب إبراهيم عليه السلام من كبره وكبر امرأته .
( قال أبشرتموني ) أي : بالولد ( على أن مسني الكبر ) أي : على حال الكبر ، قاله على طريق التعجب ( فبم تبشرون ) فبأي شيء تبشرون ؟ قرأ نافع بكسر النون وتخفيفها أي : تبشرون ، وقرأ ابن كثير بتشديد النون أي : تبشرون ، أدغمت نون الجمع في نون الإضافة ، وقرأ الآخرون بفتح النون وتخفيفها .
[ ص: 385 ] ( قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين ( 55 ) قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ( 56 ) قال فما خطبكم أيها المرسلون ( 57 ) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ( 58 ) إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين ( 59 ) إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين ( 60 ) )
( قالوا بشرناك بالحق ) أي بالصدق ( فلا تكن من القانطين )
( قال ومن يقنط ) قرأ أبو عمرو ، والكسائي ، ويعقوب : بكسر النون ، والآخرون بفتحها ، وهما لغتان : قنط يقنط ، وقنط يقنط أي : من ييئس ( من رحمة ربه إلا الضالون ) أي : الخاسرون والقنوط من رحمة الله كبيرة كالأمن من مكره .
( قال ) إبراهيم لهم ( فما خطبكم ) ما شأنكم ( أيها المرسلون ؟ ) .
( قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ) مشركين .
( إلا آل لوط ) أتباعه وأهل دينه ( إنا لمنجوهم أجمعين ) خفف الجيم حمزة ، والكسائي ، ، وشدده الباقون .
( إلا امرأته ) أي : امرأة لوط ( قدرنا ) قضينا ( إنها لمن الغابرين ) الباقين في العذاب [ ص: 386 ] والاستثناء من النفي إثبات ، ومن الإثبات نفي ، فاستثنى امرأة لوط من الناجين فكانت ملحقة بالهالكين .
قرأ أبو بكر " قدرنا " ها هنا وفي سورة النمل بتخفيف الدال . والباقون بتشديدها .
( الغابرين فلما جاء آل لوط المرسلون ( 61 ) قال إنكم قوم منكرون ( 62 ) قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون ( 63 ) وأتيناك بالحق وإنا لصادقون ( 64 ) فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون ( 65 ) وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ( 66 ) )
( قال ) لوط لهم ( إنكم قوم منكرون ) أي : أنا لا أعرفكم .
( قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون ) أي : يشكون في أنه نازل بهم ، وهو العذاب ، لأنه كان يوعدهم بالعذاب ولا يصدقونه .
( وأتيناك بالحق ) باليقين . وقيل : بالعذاب ( وإنا لصادقون )
( فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ) أي : سر خلفهم ( ولا يلتفت منكم أحد ) حتى لا يرتاعوا من العذاب إذا نزل بقومهم .
وقيل : جعل الله ذلك علامة لمن ينجو من آل لوط .
( وامضوا حيث تؤمرون ) قال ابن عباس : يعني الشام . وقال مقاتل : يعني زغر وقيل : الأردن .
( وقضينا إليه ذلك الأمر ) أي : فرغنا إلى آل لوط من ذلك الأمر ، أي : أحكمنا الأمر الذي أمرنا في قوم لوط ، وأخبرناه : ( أن دابر هؤلاء ) يدل عليه قراءة عبد الله : وقلنا له إن دابر هؤلاء ، يعني : أصلهم ( مقطوع ) مستأصل ( مصبحين ) إذا دخلوا في الصبح .
[ ص: 387 ] ( وجاء أهل المدينة يستبشرون ( 67 ) قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون ( 68 ) واتقوا الله ولا تخزون ( 69 ) قالوا أولم ننهك عن العالمين ( 70 ) قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين ( 71 ) لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ( 72 ) )
( وجاء أهل المدينة ) يعني سدوم ( يستبشرون ) بأضياف لوط ، أي : يبشر بعضهم بعضا ، طمعا في ركوب الفاحشة منهم .
( قال ) لوط لقومه ( إن هؤلاء ضيفي ) وحق على الرجل إكرام ضيفه ( فلا تفضحون ) فيهم .
( واتقوا الله ولا تخزون ) ولا تخجلون .
( قالوا أولم ننهك عن العالمين ) أي : ألم ننهك عن أن تضيف أحدا من العالمين .
وقيل : ألم ننهك أن تدخل الغرباء المدينة ، فإنا نركب منهم الفاحشة .
( قال هؤلاء بناتي ) أزوجهن إياكم إن أسلمتم فأتوا الحلال ودعوا الحرام ( إن كنتم فاعلين ) ما آمركم به .
وقيل : أراد بالبنات نساء قومه لأن النبي كالوالد لأمته .
قال الله تعالى : ( لعمرك ) يا محمد أي وحياتك ( إنهم لفي سكرتهم ) حيرتهم وضلالتهم ( يعمهون ) يترددون .
قال قتادة : يلعبون .
روي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ما خلق الله نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أقسم الله تعالى بحياة أحد إلا بحياته .
ابو وليد البحيرى
2022-03-17, 10:34 PM
الحلقة (252)
- تفسير البغوى
الجزء الرابع
سُورَةِ الْحِجْرِ
الاية73 إلى الاية 99
( فأخذتهم الصيحة مشرقين ( 73 ) فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ( 74 ) إن في ذلك لآيات للمتوسمين ( 75 ) وإنها لبسبيل مقيم ( 76 ) إن في ذلك لآية للمؤمنين ( 77 ) وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين ( 78 ) )
( فأخذتهم الصيحة مشرقين ) أي : حين أضاءت الشمس ، فكان ابتداء العذاب حين أصبحوا ، وتمامه حين أشرقوا .
" فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل " .
( إن في ذلك لآيات للمتوسمين ) قال ابن عباس : للناظرين .
وقال مجاهد : للمتفرسين .
وقال قتادة : للمعتبرين .
وقال مقاتل : للمتفكرين .
( وإنها ) يعني : قرى قوم لوط ( لبسبيل مقيم ) أي : بطريق واضح .
وقال مجاهد : بطريق معلم ليس بخفي ولا زائل .
( إن في ذلك لآية للمؤمنين ) .
( وإن كان ) وقد كان ( أصحاب الأيكة ) الغيضة ( لظالمين ) لكافرين ، واللام للتأكيد ، وهم قوم شعيب عليه السلام ، كانوا أصحاب غياض وشجر ملتف ، وكان عامة شجرهم الدوم ، وهو المقل .
[ ص: 389 ] ( فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين ( 79 ) ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين ( 80 ) وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين ( 81 ) وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين ( 82 ) فأخذتهم الصيحة مصبحين ( 83 ) فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ( 84 ) )
( فانتقمنا منهم ) بالعذاب ، وذلك أن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام فبعث الله سحابة فالتجئوا إليها يلتمسون الروح ، فبعث الله عليهم منها نارا فأحرقتهم ، فذلك قوله تعالى : ( فأخذهم عذاب يوم الظلة ) ( الشعراء - 189 ) .
( وإنهما ) يعني مدينتي قوم لوط وأصحاب الأيكة ( لبإمام مبين ) بطريق واضح مستبين .
قوله تعالى : ( ولقد كذب أصحاب الحجر ) وهي مدينة ثمود قوم صالح ، وهي بين المدينة والشام ( المرسلين ) أراد صالحا وحده . .
( وآتيناهم آياتنا ) يعني : الناقة وولدها والبئر ، فالآيات في الناقة خروجها من الصخرة ، وكبرها ، وقرب ولادها ، وغزارة لبنها ( فكانوا عنها معرضين )
( وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين ) من الخراب ووقوع الجبل عليهم .
( فأخذتهم الصيحة ) يعني : صيحة العذاب ( مصبحين ) أي : داخلين في وقت الصبح .
( فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ) من الشرك والأعمال الخبيثة .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، حدثنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري ، أخبرنا سالم بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما مر بالحجر قال : " لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم " . [ ص: 390 ] قال : وتقنع بردائه وهو على الرحل .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر : " ثم قنع رأسه ، وأسرع السير حتى اجتاز الوادي " .
( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل ( 85 ) إن ربك هو الخلاق العليم ( 86 ) ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ( 87 ) )
قوله تعالى : ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة ) يعني : القيامة ( لآتية ) يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ( فاصفح الصفح الجميل ) فأعرض عنهم واعف عفوا حسنا . نسختها آية القتال .
( إن ربك هو الخلاق العليم ) [ بخلقه ] .
قوله تعالى : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني ) قال عمر ، وعلي : هي فاتحة الكتاب . وهو قول قتادة ، وعطاء ، والحسن ، وسعيد بن جبير .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، حدثنا ابن أبي ذئب ، حدثنا سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أم القرآن هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم " .
وعن ابن مسعود قال في السبع المثاني : هي فاتحة الكتاب ، والقرآن العظيم : هو سائر القرآن .
واختلفوا في أن الفاتحة لم سميت مثاني ؟
قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : لأنها تثنى في الصلاة ، فتقرأ في كل ركعة . [ ص: 391 ]
وقيل : لأنها مقسومة بين الله وبين العبد نصفين ، نصفها ثناء ونصفها دعاء ، كما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله عز وجل : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " .
وقال الحسين بن الفضل : سميت مثاني لأنها نزلت مرتين : مرة بمكة ، ومرة بالمدينة ، كل مرة معها سبعون ألف ملك .
وقال مجاهد : سميت مثاني لأن الله تعالى استثناها وادخرها لهذه الأمة فما أعطاها غيرهم . وقال أبو زيد البلخي : [ سميت مثاني ] لأنها تثني أهل الشر عن الفسق ، من قول العرب : ثنيت عناني .
وقيل : لأن أولها ثناء .
وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : إن السبع المثاني هي السبع الطوال ، أولها سورة البقرة ، وآخرها الأنفال مع التوبة . وقال بعضهم سورة يونس بدل الأنفال .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، [ أنا أبو إسحاق الثعلبي ، حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي ] أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد وعبد الله بن محمد بن مسلم قالا أنبأنا هلال بن العلاء ، حدثنا حجاج بن محمد ، عن أيوب بن عتبة ، عن يحيى بن كثير ، عن شداد بن عبد الله ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى أعطاني السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطاني المئين مكان الإنجيل ، وأعطاني مكان الزبور المثاني ، وفضلني ربي بالمفصل " .
وعن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : أوتي النبي صلى الله عليه وسلم السبع الطوال ، وأعطي موسى ستا فلما ألقى الألواح رفع ثنتان وبقي أربع . [ ص: 392 ]
قال ابن عباس : وإنما سميت السبع الطوال مثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال والخبر والعبر ثنيت فيها .
وقال طاوس : القرآن كله مثاني قال الله تعالى : ( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني ) ( الزمر - 23 ) . وسمي القرآن مثاني لأن الأنباء والقصص ثنيت فيه .
وعلى هذا القول : المراد بالسبع : سبعة أسباع القرآن ، فيكون تقديره على هذا : وهي القرآن العظيم وقيل : الواو مقحمة ، مجازه : ولقد آتيناك سبعا من المثاني القرآن العظيم .
( لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين ( 88 ) )
قوله تعالى : ( لا تمدن عينيك ) يا محمد ( إلى ما متعنا به أزواجا ) أصنافا ( منهم ) أي : من الكفار متمنيا لها . نهى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الرغبة في الدنيا ومزاحمة أهلها [ عليها ] . ( ولا تحزن عليهم ) أي : لا تغتم على ما فاتك من مشاركتهم في الدنيا .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن العنزي ، حدثنا عيسى بن نصر ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا جهم بن أوس ، قال : سمعت عبد الله بن أبي مريم - ومر به عبد الله بن رستم في موكبه ، فقال لابن أبي مريم : إني لأشتهي مجالستك وحديثك ، فلما مضى قال ابن أبي مريم - سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تغبطن فاجرا بنعمته ، فإنك لا تدري ما هو لاق بعد موته ، إن له عند الله قاتلا لا يموت " فبلغ ذلك وهب بن منبه فأرسل إليه وهب أبا داود الأعور ، قال : يا أبا فلان ما قاتلا لا يموت؟ قال ابن أبي مريم : النار " .
أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفري السرخسي ، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن الفضل الفقيه ، حدثنا أبو الحسن بن إسحاق ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي ، أخبرنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انظروا [ ص: 393 ] إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم " .
وقيل : هذه الآية متصلة بما قبلها لما من الله تعالى عليه بالقرآن نهاه عن الرغبة في الدنيا .
روي أن سفيان بن عيينة - رحمه الله - تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " أي : لم يستغن بالقرآن . فتأول هذه الآية .
قوله تعالى : ( واخفض جناحك ) لين جناحك ( للمؤمنين ) وارفق بهم ، والجناحان لابن آدم جانباه .
( وقل إني أنا النذير المبين ( 89 ) كما أنزلنا على المقتسمين ( 90 ) الذين جعلوا القرآن عضين ( 91 ) )
( كما أنزلنا على المقتسمين ) قال الفراء : مجازه : أنذركم عذابا كعذاب المقتسمين . حكي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : هم اليهود ، والنصارى .
( الذين جعلوا القرآن عضين ) جزءوه فجعلوه أعضاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه . وقال مجاهد : هم اليهود ، والنصارى قسموا كتابهم ففرقوه وبدلوه . [ ص: 394 ]
وقيل : " المقتسمون " قوم اقتسموا القرآن . فقال بعضهم : سحر . وقال بعضهم : شعر . وقال بعضهم : كذب ، وقال بعضهم : أساطير الأولين .
وقيل : الاقتسام هو أنهم فرقوا القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ساحر كاهن شاعر .
وقال مقاتل : كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم ، فاقتسموا عقاب مكة وطرقها ، وقعدوا على أنقابها يقولون لمن جاء من الحجاج : لا تغتروا بهذا الرجل الخارج الذي يدعي النبوة منا . وتقول طائفة منهم : إنه مجنون ، وطائفة : إنه كاهن ، وطائفة : إنه شاعر والوليد قاعد على باب المسجد نصبوه حكما فإذا سئل عنه قال : صدق أولئك [ يعني ] المقتسمين .
وقوله : ( عضين ) قيل : هو جمع عضو ، مأخوذ من قولهم : عضيت الشيء تعضية ، إذا فرقته . ومعناه : أنهم جعلوا القرآن أعضاء ، فقال بعضهم : سحر . وقال بعضهم : كهانة . وقال بعضهم : أساطير الأولين .
وقيل : هو جمع عضة : يقال : عضة وعضين مثل برة وبرين وعزة وعزين ، وأصلها : عضهة ذهبت هاؤها الأصلية ، كما نقصوا من الشفة وأصلها شفهة ، بدليل : أنك تقول في التصغير شفيهة ، والمراد بالعضة الكذب والبهتان .
وقيل : المراد بالعضين العضه وهو السحر ، يريد : أنهم سموا القرآن سحرا .
( فوربك لنسألنهم أجمعين ( 92 ) عما كانوا يعملون ( 93 ) )
( فوربك لنسألنهم أجمعين ) يوم القيامة .
( عما كانوا يعملون ) في الدنيا ، قال محمد بن إسماعيل قال عدة من أهل العلم : عن قوله " لا إله إلا الله " .
فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : ( فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) ( الرحمن - 39 ) .
قال ابن عباس : لا يسألهم هل عملتم ، لأنه أعلم بهم منهم ، ولكن يقول : لم عملتم كذا وكذا؟ واعتمده قطرب فقال : السؤال ضربان ، سؤال استعلام ، وسؤال توبيخ ، فقوله تعالى : ( فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) ( الرحمن - 39 ) [ ص: 395 ] يعني : استعلاما . وقوله : " لنسألنهم أجمعين " يعني توبيخا وتقريعا .
وقال عكرمة عن ابن عباس في الآيتين : إن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف ، يسألون في بعض المواقف ولا يسألون في بعضها . نظيره قوله تعالى : ( هذا يوم لا ينطقون ) ( المرسلات - 35 ) ، وقال في آية أخرى : ( ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ) ( الزمر - 31 ) .
( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ( 94 ) إنا كفيناك المستهزئين ( 95 ) )
قوله تعالى : ( فاصدع بما تؤمر ) قال ابن عباس : أظهره . ويروى عنه : أمضه .
وقال الضحاك : أعلم .
وقال الأخفش : افرق ، أي : افرق بالقرآن بين الحق والباطل .
وقال سيبويه : اقض بما تؤمر ، وأصل الصدع : الفصل ، والفرق : أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بإظهار الدعوة .
وروي عن عبد الله بن عبيدة قال : كان مستخفيا حتى نزلت هذه الآية فخرج هو وأصحابه .
( وأعرض عن المشركين ) نسختها آية القتال .
( إنا كفيناك المستهزئين ) يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : فاصدع بأمر الله ، ولا تخف أحدا غير الله عز وجل ، فإن الله كافيك من عاداك كما كفاك المستهزئين ، وهم خمسة نفر من رؤساء قريش : الوليد بن المغيرة المخزومي - وكان رأسهم - والعاص بن وائل السهمي والأسود بن عبد المطلب بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن زمعة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا عليه فقال : " اللهم أعم بصره واثكله بولده والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة ، والحارث بن قيس بن الطلاطلة ، فأتى جبريل محمدا صلى الله عليه وسلم ، والمستهزئون يطوفون بالبيت ، فقام جبريل وقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ، فمر به الوليد بن المغيرة ، فقال جبريل : يا محمد كيف تجد هذا ؟ فقال : بئس عبد الله ، فقال : قد كفيته ، وأومأ إلى ساق الوليد ، فمر برجل من خزاعة نبال يريش نبلا له وعليه برد يمان ، وهو يجر إزاره ، فتعلقت شظية من نبل بإزاره فمنعه الكبر أن " يطاطئ رأسه " فينزعها ، وجعلت تضرب ساقه ، فخدشته ، فمرض منها فمات . [ ص: 396 ]
ومر به العاص بن وائل فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد ؟ قال : بئس عبد الله ، فأشار جبريل إلى أخمص رجليه ، وقال : قد كفيته ، فخرج على راحلته ومعه ابنان له يتنزه فنزل شعبا من تلك الشعاب فوطئ على شبرقة فدخلت منها شوكة في أخمص رجله ، فقال : لدغت لدغت ، فطلبوا فلم يجدوا شيئا ، وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير ، فمات مكانه .
ومر به الأسود بن المطلب ، فقال جبريل : كيف تجد هذا ؟ قال عبد سوء ، فأشار بيده إلى عينيه ، وقال : قد كفيته ، فعمي .
قال ابن عباس رماه جبريل بورقة خضراء فذهب بصره ووجعت عيناه ، فجعل يضرب برأسه الجدار حتى هلك .
وفي رواية الكلبي : أتاه جبريل وهو قاعد في أصل شجرة ومعه غلام له فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك ، فاستغاث بغلامه ، فقال غلامه : لا أرى أحدا يصنع بك شيئا غير نفسك ، حتى مات ، وهو يقول قتلني رب محمد .
ومر به الأسود بن عبد يغوث ، فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد ؟ قال : بئس عبد الله على أنه ابن خالي . فقال : قد كفيته ، وأشار إلى بطنه فاستسقى [ بطنه ] فمات حينا .
وفي رواية للكلبي أنه خرج من أهله فأصابه السموم فاسود حتى عاد حبشيا ، فأتى أهله فلم يعرفوه ، وأغلقوا دونه الباب حتى مات ، وهو يقول : قتلني رب محمد .
ومر به الحارث بن قيس فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد فقال : عبد سوء فأومأ إلى رأسه وقال : قد كفيته فامتخط قيحا فقتله .
وقال ابن عباس : إنه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فلم يزل يشرب عليه من الماء حتى انقد بطنه فمات ، فذلك قوله تعالى : ( إنا كفيناك المستهزئين ) بك وبالقرآن .
( الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون )
( الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ( 96 ) )
وقيل : [ استهزاؤهم ] واقتسامهم : هو أن الله عز وجل لما أنزل في القرآن سورة البقرة [ ص: 397 ] وسورة النحل ، وسورة النمل ، وسورة العنكبوت ، كانوا يجتمعون ويقولون استهزاء : هذا في سورة البقرة ، ويقول هذا في سورة النحل ، ويقول هذا في سورة العنكبوت فأنزل الله تعالى : ( ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ( ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ( 97 ) فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ( 98 ) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ( 99 ) )
( فسبح بحمد ربك ) قال ابن عباس : فصل بأمر ربك ( وكن من الساجدين ) من المصلين المتواضعين .
وقال الضحاك : " فسبح بحمد ربك " : قل سبحان الله وبحمده " وكن من الساجدين " المصلين .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .
( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) أي الموت الموقن به ، وهذا معنى ما ذكر في سورة مريم : وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا .
أخبرنا المطهر بن علي الفارسي ، أخبرنا محمد بن إبراهيم الصالحي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر أبو الشيخ الحافظ ، حدثنا أمية بن محمد الصواف البصري ، حدثنا محمد بن يحيى الأزدي ، حدثنا أبي والهيثم بن خارجة قالا حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن شرحبيل بن مسلم ، عن أبي مسلم الخولاني عن جبير بن نفير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين ، ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين ، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين . [ ص: 398 ]
وروي عن عمر رضي الله عنه قال : نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلا وعليه إهاب كبش قد تنطق به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انظروا إلى هذا الذي قد نور الله قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذيانه بأطيب الطعام والشراب ، ولقد رأيت عليه حلة شراها ، أو شريت له بمائتي درهم ، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترونه " . والله أعلم .
ابو وليد البحيرى
2022-03-17, 10:35 PM
الحلقة (253)
- تفسير البغوى
الجزء الرابع
سُورَةُ النَّحْلِ
الاية1 إلى الاية 25
سُورَةُ النَّحْلِ
مَكِّيَّةٌ [ مِائَةٌ وَثَمَانٍ وَعِشْرُونَ آيَةً ] إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 1 ) )
( أَتَى ) أَيْ جَاءَ وَدَنَا وَقَرُبَ ، ( أَمْرُ اللَّهِ ) قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ : تَقُولُ الْعَرَبُ : أَتَاكَ الْأَمْرُ وَهُوَ مُتَوَقَّعٌ بَعْدُ ، أَيْ : أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وَعْدًا فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ وُقُوعًا .
( أَمْرُ اللَّهِ ) قَالَ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ : الْمُرَادُ مِنْهُ الْقِيَامَةُ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى " اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ " ( الْقَمَرِ - 1 ) قَالَ الْكُفَّارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَرُبَتْ فَأَمْسِكُوا عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حَتَّى تَنْظُرُوا مَا هُوَ كَائِنٌ ، فَلَمَّا لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ [ قَالُوا : مَا نَرَى شَيْئًا فَنَزَلَ قَوْلُهُ " اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ " ( الْأَنْبِيَاءِ - 1 ) فَأَشْفَقُوا ، فَلَمَّا امْتَدَّتِ الْأَيَّامُ قَالُوا : يَا مُحَمَّدُ مَا نَرَى شَيْئًا مِمَّا تُخَوِّفُنَا بِهِ ] فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : ( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ) فَوَثَبَ [ ص: 8 ] النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَ النَّاسُ رُءُوسَهُمْ وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدْ أَتَتْ حَقِيقَةً فَنَزَلَتْ ( فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ) فَاطْمَأَنُّوا .
وَالِاسْتِعْجَا لُ : طَلَبُ الشَّيْءِ قَبْلَ حِينِهِ .
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ ، وَإِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي " .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ بَعْثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَهْلِ السَّمَوَاتِ مَبْعُوثًا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا : اللَّهُ أَكْبَرُ قَامَتِ السَّاعَةُ .
وَقَالَ قَوْمٌ : الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ هَاهُنَا : عُقُوبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَالْعَذَابُ بِالسَّيْفِ وَذَلِكَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ، فَاسْتَعْجَلَ الْعَذَابَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ . وَقُتِلَ النَّضْرُ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا .
( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) مَعْنَاهُ تَعَاظَمَ بِالْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ .
( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ( 2 ) )
( ينزل الملائكة ) قرأ العامة بضم الياء وكسر الزاي ، و ( الملائكة ) نصب . وقرأ يعقوب بالتاء وفتحها وفتح الزاي و " الملائكة " رفع ، ( ينزل الملائكة بالروح ) بالوحي ، سماه روحا لأنه يحيي به القلوب والحق .
قال عطاء : بالنبوة .
وقال قتادة : بالرحمة .
قال أبو عبيدة : " بالروح " يعني مع الروح ، وهو جبريل . ( من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا ) أعلموا : ( أنه لا إله إلا أنا فاتقون )
وقيل : معناه مروهم بقول " لا إله إلا الله " منذرين مخوفين بالقرآن إن لم يقولوا . [ ص: 9 ]
وقوله : " فاتقون " أي فخافون .
( خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون ( 3 ) خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين ( 4 ) والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ( 5 ) ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ( 6 ) ( وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم ( 7 ) )
( خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون ) أي : ارتفع عما يشركون . ( خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم ) جدل بالباطل ، ( مبين )
نزلت في أبي بن خلف الجمحي ، وكان ينكر البعث جاء بعظم رميم فقال : أتقول إن الله تعالى يحيي هذا بعد ما قد رم؟ كما قال جل ذكره " وضرب لنا مثلا ونسي خلقه " ( يس - 77 ) نزلت فيه أيضا .
والصحيح أن الآية عامة ، وفيها بيان القدرة وكشف قبيح ما فعلوه ، من جحد نعم الله مع ظهورها عليهم . قوله تعالى ( والأنعام خلقها ) يعني الإبل والبقر والغنم ، ( لكم فيها دفء ) يعني : من أوبارها وأشعارها وأصوافها ملابس ولحفا تستدفئون بها ، ( ومنافع ) بالنسل والدر والركوب والحمل وغيرها ، ( ومنها تأكلون ) يعني لحومها . ( ولكم فيها جمال ) زينة ، ( حين تريحون ) أي : حين تردونها بالعشي من مراعيها إلى مباركها التي تأوي إليها ، ( وحين تسرحون ) أي : تخرجونها بالغداة من مراحها إلى مسارحها ، وقدم الرواح لأن المنافع تؤخذ منها بعد الرواح ، ومالكها يكون أعجب بها إذا راحت . ( وتحمل أثقالكم ) أحمالكم ، ( إلى بلد ) آخر غير بلدكم . قال عكرمة : البلد مكة ، ( لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ) أي : بالمشقة والجهد . والشق : النصف أيضا أي : لم تكونوا بالغيه [ ص: 10 ] إلا بنقصان قوة النفس وذهاب نصفها .
وقرأ أبو جعفر ( بشق ) بفتح الشين ، وهما لغتان ، مثل : رطل ورطل .
( إن ربكم لرءوف رحيم ) بخلقه حيث جعل لهم هذه المنافع .
( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون ( 8 ) )
( والخيل ) يعني : وخلق الخيل ، وهي اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والنساء ، ( والبغال والحمير لتركبوها وزينة ) يعني وجعلها زينة لكم مع المنافع التي فيها .
واحتج بهذه الآية من حرم لحوم الخيل ، وهو قول ابن عباس ، وتلا هذه الآية ، فقال : هذه للركوب [ وإليه ذهب ] الحكم ، ومالك ، وأبو حنيفة .
وذهب جماعة إلى إباحة لحوم الخيل ، وهو قول الحسن ، وشريح ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق .
ومن أباحها قال : ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم بل المراد منه تعريف الله عباده نعمه وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته ، واحتجوا بما :
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد عن عمرو - هو ابن دينار - عن محمد بن علي ، عن جابر رضي الله عنه قال : " نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص في لحوم الخيل " . .
أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي ، أخبرنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي ، أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ، حدثنا الحسن بن الفرج ، حدثنا عمرو بن خالد ، حدثنا عبد الله بن عبد الكريم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر : أنهم كانوا يأكلون لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 11 ] ونهى عن لحوم البغال والحمير; روي عن المقدام بن معدي كرب عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير وإسناده ضعيف .
( ويخلق ما لا تعلمون ) قيل : يعني ما أعد الله في الجنة لأهلها ، وفي النار لأهلها ، مما لم تره عين ولم تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر .
وقال قتادة يعني : السوس في النبات والدود في الفواكه .
( وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين ( 9 ) هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ( 10 ) )
قوله تعالى : ( وعلى الله قصد السبيل ) يعني : بيان طريق الهدى من الضلالة . وقيل : بيان الحق بالآيات والبراهين . والقصد : الصراط المستقيم .
( ومنها جائر ) يعني : ومن السبيل جائر عن الاستقامة معوج ، فالقصد من السبيل : دين الإسلام ، والجائر منها : اليهودية ، والنصرانية ، وسائر ملل الكفر .
قال جابر بن عبد الله : " قصد السبيل " : بيان الشرائع والفرائض .
وقال عبد الله بن المبارك ، وسهل بن عبد الله : " قصد السبيل " السنة ، " ومنها جائر " الأهواء والبدع ، دليله قوله تعالى : " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل " ( الأنعام - 153 ) .
( ولو شاء لهداكم أجمعين ) نظيره قوله تعالى : " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها " ( السجدة - 13 ) . قوله عز وجل : ( هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ) تشربونه ، ( ومنه شجر ) أي من ذلك الماء شرب أشجاركم ، وحياة نباتكم ، ( فيه ) يعني : في الشجر ، ( تسيمون ) ترعون مواشيكم .
[ ص: 12 ] ( ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ( 11 ) وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ( 12 ) وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ( 13 ) وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ( 14 ) )
( ينبت لكم به ) أي : ينبت الله لكم به ، يعني بالماء الذي أنزل ، وقرأ أبو بكر عن عاصم " ننبت " بالنون . ( الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) ( وسخر لكم ) [ ذلل لكم ] ( الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات ) مذللات ، ( بأمره ) أي : بإذنه ، وقرأ حفص ( والنجوم مسخرات ) بالرفع على الابتداء . ( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) ( وما ذرأ ) خلق ، ( لكم ) لأجلكم ، أي : وسخر ما خلق لأجلكم ، ( في الأرض ) من الدواب والأشجار والثمار وغيرها ، ( مختلفا ) نصب على الحال ، ( ألوانه )
( إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ) يعتبرون . ( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا ) يعني : السمك ، ( وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ) يعني : اللؤلؤ والمرجان ، ( وترى الفلك مواخر فيه ) جواري .
قال قتادة : مقبلة ومدبرة ، وهو أنك ترى سفينتين إحداهما تقبل والأخرى تدبر ، تجريان بريح واحدة .
وقال الحسن : " مواخر " أي : مملوءة . [ ص: 13 ]
وقال الفراء والأخفش : شواق تشق الماء بجناحيها .
قال مجاهد : تمخر السفن الرياح .
وأصل المخر : الرفع والشق ، وفي الحديث : " إذا أراد أحدكم البول فليستمخر الريح " أي لينظر من أين مجراها وهبوبها ، فليستدبرها حتى لا يرد عليه البول .
وقال أبو عبيدة : صوائخ ، والمخر : صوت هبوب الريح عند شدتها .
( ولتبتغوا من فضله ) يعني : التجارة ، ( ولعلكم تشكرون ) إذا رأيتم صنع الله فيما سخر لكم .
( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون ( 15 ) وعلامات وبالنجم هم يهتدون ( 16 ) )
( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ) أي : [ لئلا تميد بكم ] أي تتحرك وتميل .
والميد : هو الاضطراب والتكفؤ ، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحر : ميد .
قال وهب : لما خلق الله الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة : إن هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال .
( وأنهارا وسبلا ) أي : وجعل فيها أنهارا وطرقا مختلفة ، ( لعلكم تهتدون ) إلى ما تريدون فلا تضلون . ( وعلامات ) يعني : معالم الطرق . قال بعضهم : هاهنا تم الكلام ثم ابتدأ : ( وبالنجم هم يهتدون )
قال محمد بن كعب ، والكلبي : أراد بالعلامات الجبال ، فالجبال تكون علامات النهار ، والنجوم علامات الليل .
وقال مجاهد : أراد بالكل النجوم ، منها ما يكون علامات ومنها ما يهتدون به .
قال السدي : أراد بالنجم ، الثريا ، وبنات نعش ، والفرقدين ، والجدي ، يهتدى بها إلى الطرق والقبلة . [ ص: 14 ]
وقال قتادة : إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء : لتكون زينة للسماء ، ومعالم للطرق ، ورجوما للشياطين ، فمن قال غير هذا فقد تكلف ما لا علم له به
( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ( 17 ) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ( 18 ) والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ( 19 ) والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ( 20 ) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون ( 21 ) إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ( 22 ) )
( أفمن يخلق ) يعني الله تعالى ، ( كمن لا يخلق ) يعني الأصنام ، ( أفلا تذكرون ) ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور ) لتقصيركم في شكر نعمه ، ( رحيم ) بكم حيث وسع عليكم النعم ، ولم يقطعها عنكم بالتقصير والمعاصي . ( والذين يدعون من دون الله ) يعني الأصنام ، وقرأ عاصم ويعقوب " يدعون " بالياء . ( لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ) ( أموات ) أي الأصنام ( غير أحياء وما يشعرون ) يعني الأصنام ( أيان ) متى ( يبعثون ) والقرآن يدل على أن الأصنام تبعث وتجعل فيها الحياة فتتبرأ من عابديها .
وقيل : ما يدري الكفار عبدة الأصنام متى يبعثون . قوله تعالى : ( إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة ) جاحدة ، ( وهم مستكبرون ) متعظمون .
[ ص: 15 ] ( لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين ( 23 ) وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ( 24 ) ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ( 25 ) )
( لا جرم ) حقا ( أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين )
أخبرنا أبو سعيد بكر بن محمد بن محمد بن محمي البسطامي ، أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن سختويه ، أخبرنا أبو الفضل سفيان بن محمد الجوهري ، حدثنا علي بن الحسن بن أبي عيسى الهلالي حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا شعبة ، عن أبان بن تغلب ، عن فضيل الفقيمي ، عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة بن قيس ، عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان " ، فقال رجل : يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا؟ قال : " إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس " . ( وإذا قيل لهم ) يعني : لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وهم مشركو مكة الذين اقتسموا عقابها إذا سأل الحاج : ( ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ) أحاديثهم وأباطيلهم . ( ليحملوا أوزارهم ) ذنوب أنفسهم ، ( كاملة ) وإنما ذكر الكمال لأن البلايا التي تلحقهم في الدنيا وما يفعلون من الحسنات لا تكفر عنهم شيئا ، ( يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ) بغير حجة فيصدونهم عن الإيمان ، ( ألا ساء ما يزرون ) يحملون .
أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " .
ابو وليد البحيرى
2022-03-17, 10:36 PM
الحلقة (254)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ النَّحْلِ
الاية26 إلى الاية 47
( قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ( 26 ) ( ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ( 27 ) الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ( 28 ) )
قوله تعالى : ( قد مكر الذين من قبلهم ) وهو نمرود بن كنعان ، بنى الصرح ببابل ليصعد إلى السماء .
قال ابن عباس ووهب : كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع .
وقال كعب ومقاتل : كان طوله فرسخين ، فهبت ريح وألقت رأسه في البحر ، وخر عليهم الباقي وهم تحته ، ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع يومئذ فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا فلذلك سميت بابل ، وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية فذلك قوله تعالى : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد ) أي : قصد تخريب بنيانهم من أصولها ( فخر عليهم السقف ) يعني أعلى البيوت ( من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) من مأمنهم . ( ثم يوم القيامة يخزيهم ) يهينهم بالعذاب ، ( ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ) تخالفون المؤمنين فيهم ، ما لهم لا يحضرونكم فيدفعون عنكم العذاب؟
وكسر نافع النون من " تشاقون " على الإضافة ، والآخرون بفتحها .
( قال الذين أوتوا العلم ) [ وهم المؤمنون ] ( إن الخزي ) الهوان ، ( اليوم والسوء ) أي العذاب ، ( على الكافرين ) ( الذين تتوفاهم الملائكة ) يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه ، قرأ حمزة " يتوفاهم " بالياء وكذا ما بعده ، ( ظالمي أنفسهم ) بالكفر ، ونصب على الحال أي : في حال كفرهم ، ( فألقوا السلم ) [ ص: 17 ] أي استسلموا وانقادوا وقالوا : ( ما كنا نعمل من سوء ) شرك ، فقال لهم الملائكة : ( بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ) قال عكرمة : عنى بذلك من قتل من الكفار ببدر .
( فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين ( 29 ) وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين ( 30 ) جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين ( 31 ) الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ( 32 ) )
( فادخلوا ) أي : قال لهم ادخلوا ( أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين ) عن الإيمان .
( وقيل للذين اتقوا ) وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء سأل الذين قعدوا على الطرق عنه ، فيقولون : ساحر ، كاهن ، شاعر ، كذاب ، مجنون ، ولو لم تلقه خير لك ، فيقول السائل : أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أدخل مكة فألقاه ، فيدخل مكة فيرى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه وأنه نبي مبعوث . فذلك قوله : ( وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ) يعني : أنزل خيرا .
ثم ابتدأ فقال : ( للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ) كرامة من الله .
قال ابن عباس : هي تضعيف الأجر إلى العشر .
وقال الضحاك : هي النصر والفتح .
وقال مجاهد : هي الرزق الحسن .
( ولدار الآخرة ) أي ولدار الحال الآخرة ، ( خير ولنعم دار المتقين ) قال الحسن : هي الدنيا; لأن أهل التقوى يتزودون فيها للآخرة . وقال أكثر المفسرين : هي الجنة ، ثم فسرها فقال : ( جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ) مؤمنين طاهرين من الشرك .
قال مجاهد : زاكية أفعالهم وأقوالهم . [ ص: 18 ]
وقيل : معناه : إن وفاتهم تقع طيبة سهلة . ( يقولون ) يعني : الملائكة لهم ، ( سلام عليكم ) وقيل : يبلغونهم سلام الله ، ( ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون )
( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 33 ) فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ( 34 ) ( وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ( 35 ) ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ( 36 ) )
قوله عز وجل ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة ) لقبض أرواحهم ، ( أو يأتي أمر ربك ) يعني يوم القيامة ، وقيل : العذاب . ( كذلك فعل الذين من قبلهم ) أي : كفروا ، ( وما ظلمهم الله ) بتعذيبه إياهم ، ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ( فأصابهم سيئات ما عملوا ) عقوبات كفرهم وأعمالهم الخبيثة ، ( وحاق بهم ) [ نزل بهم ] ( ما كانوا به يستهزئون ) ( وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ) يعني : البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، فلولا أن الله رضيها لغير ذلك وهدانا إلى غيرها ، ( كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ) أي : ليس إليهم الهداية إنما إليهم التبليغ . ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ) أي : كما بعثنا فيكم ، ( أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) وهو كل معبود من دون الله ، ( فمنهم من هدى الله ) أي : هداه الله إلى دينه ، ( ومنهم من حقت عليه الضلالة ) [ ص: 19 ] أي : وجبت بالقضاء السابق حتى مات على كفره ، ( فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) أي : مآل أمرهم ، وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك .
( إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ( 37 ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 38 ) ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ( 39 ) إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ( 40 ) )
( إن تحرص على هداهم ) يا محمد ، ( فإن الله لا يهدي من يضل ) قرأ أهل الكوفة " يهدي " بفتح الياء وكسر الدال أي : لا يهدي الله من أضله . وقيل : معناه لا يهتدي من أضله الله .
وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الدال يعني من أضله الله فلا هادي له كما قال : من يضلل الله فلا هادي له ( الأعراف - 186 ) .
( وما لهم من ناصرين ) أي : مانعين من العذاب . قوله تعالى : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ) وهم منكرو البعث ، قال الله تعالى ردا عليهم : ( بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه ) أي : ليظهر لهم الحق فيما يختلفون فيه ( وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ) ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) يقول الله تعالى : إذا أردنا أن نبعث الموتى فلا تعب علينا في إحيائهم ، ولا في شيء مما يحدث ، إنما نقول له : كن ، فيكون .
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن همام بن منبه ، حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله : كذبني عبدي ، ولم يكن ذلك له ، وشتمني عبدي ولم يكن ذلك له ، فأما تكذيبه إياي ، أن يقول : لن يعيدنا كما بدأنا ، وأما شتمه إياي ، أن يقول : اتخذ الله ولدا ، وأنا الصمد ، لم ألد ، ولم يكن لي كفوا أحد " .
[ ص: 20 ] ( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ( 41 ) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ( 42 ) ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( 43 ) )
قوله تعالى ( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا ) عذبوا وأوذوا في الله .
نزلت في بلال ، وصهيب ، وخباب ، وعمار ، وعابس ، وجبر ، وأبي جندل بن سهيل ، أخذهم المشركون بمكة فعذبوهم .
وقال قتادة : هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ظلمهم أهل مكة ، وأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين .
( لنبوئنهم في الدنيا حسنة ) وهو أنه أنزلهم المدينة .
روي عن عمر بن الخطاب كان إذا أعطى الرجل [ من المهاجرين ] عطاء يقول : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر لك في الآخرة أفضل ، ثم تلا هذه الآية .
وقيل : معناه لنحسنن إليهم في الدنيا .
وقيل : الحسنة في الدنيا التوفيق والهداية .
( ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) وقوله : " لو كانوا يعلمون " ، ينصرف إلى المشركين لأن المؤمنين كانوا يعلمونه . ( الذين صبروا ) في الله على ما نابهم ( وعلى ربهم يتوكلون ) ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ) نزلت في مشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ، فهلا بعث إلينا ملكا ؟ [ ص: 21 ]
( فاسألوا أهل الذكر ) يعني مؤمني أهل الكتاب ، ( إن كنتم لا تعلمون )
( بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ( 44 ) أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ( 45 ) أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين ( 46 ) أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم ( 47 ) )
( بالبينات والزبر ) واختلفوا في الجالب للباء في قوله ( بالبينات ) قيل : هي راجعة إلى قوله : ( وما أرسلنا ) و " إلا " بمعنى : غير ، مجازه : وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر غير رجال يوحى إليهم ولم نبعث ملائكة .
وقيل : تأويله وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم [ أرسلناهم ] بالبينات والزبر . ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) أراد بالذكر الوحي ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مبينا للوحي ، وبيان الكتاب يطلب من السنة ، ( ولعلهم يتفكرون أفأمن الذين مكروا ) عملوا ( السيئات ) من قبل ، يعني نمرود بن كنعان وغيره من الكفار ، ( أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ) ( أو يأخذهم ) بالعذاب ، ( في تقلبهم ) تصرفهم في الأسفار . وقال ابن عباس : في اختلافهم . وقال ابن جريج : في إقبالهم وإدبارهم ، ( فما هم بمعجزين ) بسابقين الله . ( أو يأخذهم على تخوف ) والتخوف : التنقص ، أي : ينقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم ، يقال : تخوفه الدهر وتخونه : إذا نقصه وأخذ ماله وحشمه .
ويقال : هذا لغة بني هزيل .
وقال الضحاك والكلبي : من الخوف ، أي : يعذب طائفة فيتخوف الآخرون أن يصيبهم مثل ما أصابهم .
( فإن ربكم لرءوف رحيم ) حين لم يعجل بالعقوبة .
ابو وليد البحيرى
2022-03-17, 10:37 PM
الحلقة (255)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ النَّحْلِ
الاية48 إلى الاية 69
( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ( 48 ) ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ( 49 ) )
قوله عز وجل : ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء ) - قرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب ، وكذلك في سورة العنكبوت ، والآخرون بالياء ، خبرا عن الذين مكروا السيئات - إلى ما خلق الله من شيء من جسم قائم ، له ظل ، ( يتفيأ ) قرأ أبو عمرو ، ويعقوب بالتاء والآخرون بالياء . ( ظلاله ) أي : تميل وتدور من جانب إلى جانب ، فهي في أول النهار على حال ، ثم تتقلص ، ثم تعود في آخر النهار إلى حال أخرى سجدا لله ، فميلانها ودورانها : سجودها لله عز وجل . ويقال للظل بالعشي : فيء; لأنه فاء ، أي رجع من المغرب إلى المشرق ، فالفيء الرجوع . والسجود الميل . ويقال : سجدت النخلة إذا مالت .
قوله عز وجل : ( عن اليمين والشمائل سجدا لله ) قال قتادة والضحاك : أما اليمين : فأول النهار ، والشمال : آخر النهار ، تسجد الظلال لله .
وقال الكلبي : الظل قبل طلوع الشمس عن يمينك وعن شمالك وقدامك وخلفك ، وكذلك إذا غابت ، فإذا طلعت كان من قدامك ، وإذا ارتفعت كان عن يمينك ، ثم بعده كان خلفك ، فإذا كان قبل أن تغرب الشمس كان عن يسارك ، فهذا تفيؤه ، وتقلبه ، وهو سجوده .
وقال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله .
وقيل : المراد من الظلال : سجود الأشخاص .
فإن قيل لم وحد اليمين وجمع الشمائل؟
قيل من شأن العرب في اجتماع العلامتين الاكتفاء بواحدة ، كقوله تعالى : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " ( البقرة - 7 ) وقوله : " يخرجهم من الظلمات إلى النور " ( البقرة - 257 ) .
وقيل : اليمين يرجع إلى قوله : " ما خلق الله " . ولفظ " ما " واحد ، والشمائل : يرجع إلى المعنى .
( وهم داخرون ) صاغرون . ( ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض ) إنما أخبر ب " ما " لغلبة ما لا يعقل على من يعقل في العدد ، والحكم للأغلب كتغليب المذكر على المؤنث ، ( من دابة ) أراد من كل حيوان يدب . ويقال : السجود : الطاعة ، والأشياء كلها مطيعة لله عز وجل من حيوان وجماد ، قال الله تعالى : " قالتا أتينا طائعين " ( فصلت - 11 ) . [ ص: 23 ]
وقيل : سجود الأشياء تذللها وتسخرها لما أريدت له وسخرت له .
وقيل : سجود الجمادات وما لا يعقل : ظهور أثر الصنع فيه ، على معنى أنه يدعو الغافلين إلى السجود عند التأمل والتدبر فيه ، قال الله تعالى : " سنريهم آياتنا في الآفاق " ( فصلت - 53 ) .
( والملائكة ) خص الملائكة بالذكر مع كونهم من جملة ما في السموات والأرض تشريفا ورفعا لشأنهم .
وقيل : لخروجهم من الموصوفين بالدبيب إذ لهم أجنحة يطيرون بها .
وقيل : أراد : ولله يسجد ما في السموات من الملائكة وما في الأرض من دابة ، وتسجد الملائكة . ( وهم لا يستكبرون )
( يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ( 50 ) وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون ( 51 ) وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون ( 52 ) )
( يخافون ربهم من فوقهم ) كقوله : " وهو القاهر فوق عباده " ( الأنعام - 18 ) .
( ويفعلون ما يؤمرون )
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا محمد بن سمعان ، حدثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم الشعراني ، حدثنا محمد بن يحيى الذهلي ، حدثنا عبيد الله بن موسى العبسي ، حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن مورق ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك يمجد الله ، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ، ولصعدتم إلى الصعدات تجأرون " ، قال أبو ذر : " يا ليتني كنت شجرة تعضد " . رواه أبو عيسى عن أحمد بن منيع ، عن أبي أحمد الزبيري ، عن إسرائيل وقال : " إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله " .
قوله تعالى : ( وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وله الدين ) الطاعة والإخلاص ( واصبا ) دائما ثابتا . [ ص: 24 ]
معناه : ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك عنه بزوال أو هلاك ، غير الله عز وجل ، فإن الطاعة تدوم له ولا تنقطع .
( أفغير الله تتقون ) أي : تخافون ، استفهام على طريق الإنكار .
( وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ( 53 ) ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ( 54 ) ( ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ( 55 ) ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ( 56 ) ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ( 57 ) وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ( 58 ) )
قوله تعالى ( وما بكم من نعمة فمن الله ) أي : وما يكن بكم من نعمة فمن الله ، ( ثم إذا مسكم الضر ) القحط والمرض ، ( فإليه تجأرون ) تضجون وتصيحون بالدعاء والاستغاثة .
( ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ) . ( ليكفروا ) ليجحدوا ، [ وهذه اللام تسمى لام العاقبة ، أي : حاصل أمرهم هو كفرهم ] ( بما آتيناهم ) أعطيناهم من النعماء وكشف الضراء والبلاء ، ( فتمتعوا ) أي : عيشوا في الدنيا المدة التي ضربتها لكم ، ( فسوف تعلمون ) عاقبة أمركم . هذا وعيد لهم . ( ويجعلون لما لا يعلمون ) له حقا ، أي الأصنام ، ( نصيبا مما رزقناهم ) من الأموال ، وهو ما جعلوا للأوثان من حروثهم وأنعامهم ، فقالوا : هذا لله بزعمهم ، وهذا لشركائنا .
ثم رجع من الخبر إلى الخطاب فقال : ( تالله لتسألن ) يوم القيامة ، ( عما كنتم تفترون ) في الدنيا . ( ويجعلون لله البنات ) وهم خزاعة وكنانة ، قالوا : الملائكة بنات الله تعالى : ( سبحانه ولهم ما يشتهون ) أي : ويجعلون لأنفسهم البنين الذين يشتهونهم ، فتكون " ما " في محل النصب ، ويجوز أن تكون على الابتداء فتكون " ما " في محل الرفع . ( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا ) متغيرا من الغم والكراهية ، ( وهو كظيم ) وهو ممتلئ حزنا وغيظا فهو يكظمه أي : يمسكه ولا يظهره .
[ ص: 25 ] ( يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ( 59 ) للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ( 60 ) )
( يتوارى ) أي : يختفي ، ( من القوم من سوء ما بشر به ) من الحزن والعار ، ثم يتفكر : ( أيمسكه ) ذكر الكناية ردا على " ما " ( على هون ) أي : هوان ، ( أم يدسه في التراب ) أي : يخفيه منه ، فيئده .
وذلك : أن مضر وخزاعة وتميما كانوا يدفنون البنات أحياء ، خوفا من الفقر عليهم ، وطمع غير الأكفاء فيهن ، وكان الرجل من العرب إذا ولدت له بنت وأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ، وتركها ترعى له الإبل والغنم في البادية ، وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية ، قال لأمها : زينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ، وقد حفر لها بئرا في الصحراء ، فإذا بلغ بها البئر قال لها : انظري إلى هذه البئر ، فيدفعها من خلفها في البئر ، ثم يهيل على رأسها التراب حتى يستوي البئر بالأرض ، فذلك قوله عز وجل : ( أيمسكه على هون أم يدسه في التراب )
وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت إبلا يحييها بذلك ، فقال الفرزدق يفتخر به .
وعمي الذي منع الوائدات فأحيا الوئيد فلم توأد
( ألا ساء ما يحكمون ) بئس ما يقضون لله البنات ولأنفسهم البنين ، نظيره : " ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى " ( النجم - 22 ) ، وقيل : بئس حكمهم وأد البنات . ( للذين لا يؤمنون بالآخرة ) يعني لهؤلاء الذين يصفون لله البنات ولأنفسهم البنين ( مثل السوء ) صفة السوء من الاحتياج إلى الولد ، وكراهية الإناث ، وقتلهن خوف الفقر ، ( ولله المثل الأعلى ) الصفة العليا ، وهي التوحيد وأنه لا إله إلا هو .
وقيل : جميع صفات الجلال والكمال ، من العلم ، والقدرة ، والبقاء ، وغيرها من الصفات .
قال ابن عباس : " مثل السوء " : النار ، و " المثل الأعلى " : شهادة أن لا إله إلا الله .
( وهو العزيز الحكيم )
[ ص: 26 ] ( ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ( 61 ) ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار ( 62 ) )
( ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ) فيعاجلهم بالعقوبة على كفرهم وعصيانهم ، ( ما ترك عليها ) أي على الأرض ، كناية عن غير مذكور ، ( من دابة )
قال قتادة في الآية : قد فعل الله ذلك في زمن نوح ، فأهلك من على الأرض ، إلا من كان في سفينة نوح عليه السلام
روي أن أبا هريرة سمع رجلا يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه ، فقال : بئس ما قلت إن الحبارى تموت في وكرها بظلم الظالم .
وقال ابن مسعود : إن الجعل لتعذب في جحرها بذنب ابن آدم .
وقيل : معنى الآية : لو يؤاخذ الله آباء الظالمين بظلمهم انقطع النسل ، ولم توجد الأبناء فلم يبق في الأرض أحد .
( ولكن يؤخرهم إلى أجل ) يمهلهم بحلمه إلى أجل ، ( مسمى ) إلى منتهى آجالهم وانقطاع أعمارهم . ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) قوله عز وجل : ( ويجعلون لله ما يكرهون ) لأنفسهم يعني البنات ، ( وتصف ) أي تقول ، ( ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى ) يعني البنين ، محل " أن " نصب بدل عن الكذب .
قال يمان : يعني ب " الحسنى " : الجنة في المعاد ، إن كان محمد صادقا في البعث .
( لا جرم ) حقا . قال ابن عباس : بلى ، ( أن لهم النار ) في الآخرة ، ( وأنهم مفرطون ) قرأ نافع بكسر الراء أي : مسرفون .
وقرأ أبو جعفر بتشديد الراء وكسرها أي : مضيعون أمر الله .
وقرأ الآخرون بفتح الراء وتخفيفها أي : منسيون في النار ، قاله ابن عباس . [ ص: 27 ]
وقال سعيد بن جبير : مبعدون .
وقال مقاتل : متروكون .
قال قتادة : معجلون إلى النار .
قال الفراء : مقدمون إلى النار ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " أنا فرطكم على الحوض " أي : متقدمكم .
( تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم ( 63 ) وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ( 64 ) ( والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون ( 65 ) وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ( 66 ) )
( تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ) كما أرسلنا إلى هذه الأمة ، ( فزين لهم الشيطان أعمالهم ) الخبيثة ، ( فهو وليهم ) ناصرهم ، ( اليوم ) وقرينهم ، سماه وليا لهم ، لطاعتهم إياه ، ( ولهم عذاب أليم ) في الآخرة . ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ) من الدين والأحكام ، ( وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) أي : ما أنزلنا عليك الكتاب إلا بيانا وهدى ورحمة ، فالهدى والرحمة عطف على قوله " لتبين " . ( والله أنزل من السماء ماء ) يعني المطر : ( فأحيا به الأرض ) بالنبات ، ( بعد موتها ) يبوستها ، ( إن في ذلك لآية لقوم يسمعون ) سمع القلوب لا سمع الآذان . ( وإن لكم في الأنعام لعبرة ) لعظة ، ( نسقيكم ) بفتح النون هاهنا وفي المؤمنين ، قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب والباقون بضمها وهما لغتان . ( مما في بطونه ) قال الفراء : رد الكناية إلى النعم ، والنعم والأنعام واحد .
ولفظ النعم مذكر ، قال أبو عبيدة ، والأخفش : النعم يذكر ويؤنث ، فمن أنث فلمعنى الجمع ، [ ص: 28 ] ومن ذكر فلحكم اللفظ .
قال الكسائي : رده إلى " ما " يعني في بطون ما ذكرنا .
وقال المؤرج : الكناية مردودة إلى البعض والجزء ، كأنه قال نسقيكم مما في بطونه اللبن ، إذ ليس لكلها لبن ، واللبن فيه مضمر .
( من بين فرث ) وهو ما في الكرش من الثقل ، فإذا خرج منه لا يسمى فرثا ، ( ودم لبنا خالصا ) من الدم والفرث ليس عليه لون دم ولا رائحة فرث .
( سائغا للشاربين ) هنيئا يجري على السهولة في الحلق .
وقيل : إنه لم يغص أحد باللبن قط .
قال ابن عباس : إذا أكلت الدابة العلف واستقر في كرشها وطحنته فكان أسفله فرثا ، وأوسطه اللبن ، وأعلاه الدم ، والكبد مسلطة عليها ، تقسمها بتقدير الله تعالى ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، ويبقى الفرث كما هو .
( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ( 67 ) )
( ومن ثمرات النخيل والأعناب ) يعني : ولكم أيضا عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب ، ( تتخذون منه ) والكناية في ( منه ) عائدة إلى " ما " محذوفة أي : ما تتخذون منه ، ( سكرا ورزقا حسنا )
قال قوم : " السكر " : الخمر ، و " الرزق الحسن " : الخل ، والزبيب ، والتمر والرب ، قالوا : وهذا قبل تحريم الخمر . وإلى هذا ذهب ابن مسعود ، وابن عمر ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد .
وقال الشعبي : " السكر " : ما شربت و " الرزق الحسن " : ما أكلت .
وروى العوفي عن ابن عباس : أن " السكر " هو الخل ، بلغة الحبشة .
وقال بعضهم : " السكر " النبيذ المسكر ، وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد ، والمطبوخ من العصير ، وهو قول الضحاك والنخعي ومن يبيح شرب النبيذ .
ومن حرمه يقول : المراد من الآية : الإخبار لا الإحلال . [ ص: 29 ]
وأولى الأقاويل أن قوله : ( تتخذون منه سكرا ) منسوخ ، روي عن ابن عباس قال : " السكر " [ ما حرم ] من ثمرها ، و " الرزق الحسن " : ما أحل .
وقال أبو عبيدة : " السكر " : الطعم ، يقال هذا سكر لك أي : طعم .
( إن في ذلك لآية لقوم يعقلون )
( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ( 68 ) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ( 69 ) )
( وأوحى ربك إلى النحل ) أي : ألهمها وقذف في أنفسها ، ففهمته ، والنحل : زنابير العسل ، واحدتها نحلة .
( أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ) يبنون ، وقد جرت العادة أن أهلها يبنون لها الأماكن ، فهي تأوي إليها ، قال ابن زيد : هي الكروم . ( ثم كلي من كل الثمرات ) ليس معنى الكل العموم ، وهو كقوله تعالى : " وأوتيت من كل شيء " ( النمل - 23 ) .
( فاسلكي سبل ربك ذللا ) قيل : هي نعت الطرق ، يقول : هي مذللة للنحل سهلة المسالك .
قال مجاهد : لا يتوعر عليها مكان سلكته .
وقال آخرون : الذلل نعت النحل ، أي : مطيعة منقادة بالتسخير . يقال : إن أربابها ينقلونها من مكان إلى مكان ولها يعسوب إذا وقف وقفت وإذا سار سارت .
( يخرج من بطونها شراب ) يعني العسل ( مختلف ألوانه ) أبيض وأحمر وأصفر . ( فيه شفاء للناس ) أي : في العسل . وقال مجاهد : أي في القرآن ، والأول أولى .
أنبأنا إسماعيل بن عبد القاهر ، حدثنا عبد الغافر بن محمد ، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن المثنى ، أخبرنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي المتوكل ، عن أبي سعيد الخدري قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 30 ] فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسقه عسلا فسقاه ثم جاء فقال : إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له ثلاث مرات ، ثم جاء الرابعة فقال : اسقه عسلا قال : قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق الله وكذب بطن أخيك " فسقاه فبرأ .
قال عبد الله بن مسعود : العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور .
وروي عنه أنه قال عليكم بالشفاءين القرآن والعسل .
( إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) فيعتبرون .
ابو وليد البحيرى
2022-03-17, 10:38 PM
الحلقة (256)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ النَّحْلِ
الاية70 إلى الاية 83
( والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير ( 70 ) )
( والله خلقكم ثم يتوفاكم ) صبيانا أو شبانا أو كهولا ( ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ) أردئه ، قال مقاتل : يعني الهرم .
قال قتادة : أرذل العمر تسعون سنة .
روي عن علي قال : أرذل العمر خمس وسبعون سنة . وقيل : ثمانون سنة .
( لكي لا يعلم بعد علم شيئا ) لكيلا يعقل بعد عقله الأول شيئا ، ( إن الله عليم قدير )
أنبأنا عبد الواحد المليحي ، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، [ حدثنا موسى بن إسماعيل ] حدثنا هارون بن موسى ، حدثنا أبو عبد الله الأعور ، عن شعيب ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو : " أعوذ بك من البخل ، والكسل ، وأرذل العمر ، وعذاب القبر ، وفتنة الدجال ، وفتنة المحيا والممات " .
[ ص: 31 ] ( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون ( 71 ) والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ( 72 ) )
( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ) بسط عن واحد ، وضيق على الآخر ، وقلل وكثر .
( فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم ) من العبيد ، ( فهم فيه سواء ) أي : حتى يستووا هم وعبيدهم في ذلك . يقول الله تعالى : لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقهم الله سواء ، وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني . يلزم به الحجة على المشركين .
قال قتادة : هذا مثل ضربه الله عز وجل ، فهل منكم أحد يشركه مملوكه في زوجته وفراشه وماله؟ أفتعدلون بالله خلقه وعباده؟
( أفبنعمة الله يجحدون ) بالإشراك به ، وقرأ أبو بكر بالتاء لقوله " والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " ، والآخرون بالياء لقوله : " فهم فيه سواء " . قوله تعالى : ( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ) يعني : النساء ، خلق من آدم زوجته حواء . وقيل : " من أنفسكم " أي : من جنسكم أزواجا .
( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ) قال ابن مسعود ، والنخعي : الحفدة أختان الرجل على بناته .
وعن ابن مسعود أيضا : أنهم الأصهار ، فيكون معنى الآية على هذا القول : وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات ، تزوجونهم فيحصل بسببهم الأختان والأصهار .
وقال عكرمة ، والحسن ، والضحاك : هم الخدم .
قال مجاهد : هم الأعوان ، من أعانك فقد حفدك .
وقال عطاء : هم ولد ولد الرجل ، الذين يعينونه ويخدمونه .
وقال قتادة : مهنة يمتهنونكم ويخدمونكم من أولادكم .
قال الكلبي ومقاتل : " البنين " : الصغار ، و " الحفدة " : كبار الأولاد الذين يعينونه على عمله .
وروى مجاهد ، وسعيد بن جبير عن ابن عباس : أنهم ولد الولد . [ ص: 32 ]
وروى العوفي عنه : أنهم بنو امرأة الرجل ليسوا منه .
( ورزقكم من الطيبات ) من النعم والحلال ، ( أفبالباطل ) يعني الأصنام ، ( يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ) ؟ يعني التوحيد والإسلام .
وقيل : " الباطل " : الشيطان ، أمرهم بتحريم البحيرة ، والسائبة ، و " بنعمة الله " أي : بما أحل الله لهم " يكفرون " : يجحدون تحليله .
( ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون ( 73 ) فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ( 74 ) )
( ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات ) يعني المطر ، ( والأرض ) يعني النبات ، ( شيئا ) قال الأخفش : هو بدل من الرزق ، معناه : أنهم لا يملكون من أمر الرزق شيئا قليلا ولا كثيرا .
وقال الفراء : نصب " شيئا " بوقوع الرزق عليه ، أي : لا يرزق شيئا ، ( ولا يستطيعون ) ولا يقدرون على شيء ، يذكر عجز الأصنام عن إيصال نفع أو دفع ضر . ( فلا تضربوا لله الأمثال ) يعني الأشباه . فتشبهونه بخلقه ، وتجعلون له شريكا ، فإنه واحد لا مثل له ، ( إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ) خطأ ما تضربون من الأمثال .
( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( 75 ) وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ( 76 ) )
ثم ضرب مثلا [ للكافرين والمؤمنين ] فقال جل ذكره : [ ص: 33 ] ( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ) هذا مثل الكافر ، رزقه الله مالا فلم يقدم فيه خيرا ، ( ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا ) هذا مثل المؤمن ، أعطاه الله مالا فعمل فيه بطاعة الله ، وأنفقه في رضاء الله ، سرا وجهرا ، فأثابه الله عليه الجنة . ( هل يستوون ) ولم يقل يستويان لمكان " من " وهو اسم يصلح للواحد والاثنين والجمع ، وكذلك قوله " لا يستطيعون " بالجمع لأجل ما .
معناه : هل يستوي هذا الفقير البخيل والغني السخي؟ كذلك لا يستوي الكافر العاصي والمؤمن المطيع . وروى ابن جريج عن عطاء في قوله تعالى : ( عبدا مملوكا ) أي : أبو جهل بن هشام ( ومن رزقناه منا رزقا حسنا ) أبو بكر الصديق رضي الله عنه . ثم قال :
( الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) يقول ليس الأمر كما تقولون ، ما للأوثان عندهم من يد ولا معروف فتحمد عليه ، إنما الحمد الكامل لله عز وجل ، لأنه المنعم والخالق والرازق ، ولكن أكثر الكفار لا يعلمون . ثم ضرب مثلا للأصنام فقال : ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه ) كل : ثقل ووبال " على مولاه " ابن عمه ، وأهل ولايته ، ( أينما يوجهه ) يرسله ، ( لا يأت بخير ) لأنه لا يفهم ما يقال له ، ولا يفهم عنه ، هذا مثل الأصنام ، لا تسمع ، ولا تنطق ، ولا تعقل ، ( وهو كل على مولاه ) عابده ، يحتاج إلى أن يحمله ويضعه ويخدمه .
( هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل ) يعني : الله تعالى قادر ، متكلم ، يأمر بالتوحيد ، ( وهو على صراط مستقيم ) [ قال الكلبي : يعني يدلكم على صراط مستقيم . [ ص: 34 ]
وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم .
وقيل : كلا المثلين للمؤمن والكافر ، يرويه عطية عن ابن عباس .
وقال عطاء : الأبكم : أبي بن خلف ، ومن يأمر بالعدل : حمزة ، وعثمان بن عفان ، وعثمان بن مظعون
وقال مقاتل : نزلت في هاشم بن عمرو بن الحارث بن ربيعة القرشي ، وكان قليل الخير يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقيل : نزلت في عثمان بن عفان ومولاه ، كان عثمان ينفق عليه ، وكان مولاه يكره الإسلام .
( ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير ( 77 ) والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ( 78 ) )
( ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة ) في قرب كونها ، ( إلا كلمح البصر ) إذا قال له : " كن " فيكون ، ( أو هو أقرب ) بل هو أقرب ، ( إن الله على كل شيء قدير ) نزلت في الكفار الذين يستعجلون القيامة استهزاء . قوله عز وجل : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم ) قرأ الكسائي " بطون إمهاتكم " بكسر الهمزة ، وقرأ حمزة بكسر الميم والهمزة ، والباقون بضم الهمزة وفتح الميم ، ( لا تعلمون شيئا ) تم الكلام ، ثم ابتدأ فقال جل وعلا ( وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) لأن الله تعالى جعل هذه الأشياء لهم قبل الخروج من بطون الأمهات ، وإنما أعطاهم العلم بعد الخروج ، ( لعلكم تشكرون ) نعمة الله .
[ ص: 35 ] ( ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( 79 ) ( والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ( 80 ) والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ( 81 ) )
( ألم يروا ) قرأ ابن عامر ، وحمزة ، ويعقوب : بالتاء ، والباقون بالياء لقوله : " ويعبدون " . ( إلى الطير مسخرات ) مذللات ، ( في جو السماء ) وهو الهواء بين السماء والأرض . عن كعب الأحبار أن الطير ترتفع اثني عشر ميلا ولا يرتفع فوق هذا ، وفوق الجو السكاك ، وفوق السكاك السماء ( ما يمسكهن ) في الهواء ( إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( والله جعل لكم من بيوتكم ) [ التي هي من الحجر والمدر ] ( سكنا ) أي : مسكنا تسكنونه ، ( وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ) يعني الخيام ، والقباب ، والأخبية ، والفساطيط من الأنطاع والأدم ( تستخفونها ) أي : يخف عليكم حملها ، ( يوم ظعنكم ) رحلتكم في سفركم ، قرأ ابن عامر ، وأهل الكوفة ، ساكنة العين ، والآخرون بفتحها ، وهو أجزل اللغتين ، ( ويوم إقامتكم ) في بلدكم لا تثقل عليكم في الحالين .
( ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ) يعني : أصواف الضأن ، وأوبار الإبل ، وأشعار المعز ، والكنايات راجعة إلى الأنعام ، ( أثاثا ) قال ابن عباس : مالا . قال مجاهد : متاعا .
قال القتيبي : " الأثاث " : المال أجمع ، من الإبل والغنم والعبيد ، والمتاع .
وقال غيره : هو متاع البيت من الفرش والأكسية .
( ومتاعا ) بلاغا ينتفعون بها ، ( إلى حين ) يعني الموت . وقيل : إلى حين تبلى . ( والله جعل لكم مما خلق ظلالا ) تستظلون بها من شدة الحر ، وهي ظلال الأبنية والأشجار ، [ ص: 36 ] ( وجعل لكم من الجبال أكنانا ) يعني : الأسراب ، والغيران ، واحدها كن ( وجعل لكم سرابيل ) قمصا من الكتان والقز ، والقطن ، والصوف ، ( تقيكم ) تمنعكم ، ( الحر ) قال أهل المعاني : أراد الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما لدلالة الكلام عليه . ( وسرابيل تقيكم بأسكم ) يعني : الدروع ، والبأس : الحرب ، يعني : تقيكم في بأسكم السلاح أن يصيبكم .
( كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ) تخلصون له الطاعة .
قال عطاء الخراساني : إنما أنزل القرآن على قدر معرفتهم ، فقال : وجعل لكم من الجبال أكنانا ، وما جعل [ لهم ] من السهول أكثر وأعظم ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال كما قال : " ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها " لأنهم كانوا أصحاب وبر ، وشعر ، وكما قال : " وينزل من السماء من جبال فيها من برد " ( النور - 43 ) وما أنزل من الثلج أكثر ، ولكنهم كانوا لا يعرفون الثلج . وقال : " تقيكم الحر " وما تقي من البرد أكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب حر .
( فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين ( 82 ) يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون ( 83 ) )
( فإن تولوا ) فإن أعرضوا فلا يلحقك في ذلك عتب ولا سمة تقصير ، ( فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمة الله ) قال السدي يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم ، ( ثم ينكرونها ) يكذبون به .
وقال قوم : هي الإسلام .
وقال مجاهد ، وقتادة : يعني ما عد لهم من النعم في هذه السورة ، يقرون أنها من الله ، ثم إذا قيل لهم : تصدقوا وامتثلوا أمر الله فيها ، ينكرونها فيقولون : ورثناها من آبائنا .
وقال الكلبي : هو أنه لما ذكر لهم هذه النعم قالوا : نعم ، هذه كلها من الله ، ولكنها بشفاعة آلهتنا .
وقال عوف بن عبد الله : هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا ، ولولا فلان لما كان كذا . ( وأكثرهم الكافرون ) الجاحدون .
ابو وليد البحيرى
2022-03-17, 10:38 PM
الحلقة (257)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ النَّحْلِ
الاية84 إلى الاية 101
( ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ( 84 ) وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون ( 85 ) وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ( 86 ) وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( 87 ) ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ( 88 ) )
قوله عز وجل : ( ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ) يعني رسولا ( ثم لا يؤذن للذين كفروا ) في الاعتذار ، وقيل : في الكلام أصلا ( ولا هم يستعتبون ) يسترضون ، يعني : لا يكلفون أن يرضوا ربهم ، لأن الآخرة ليست بدار تكليف ، ولا يرجعون إلى الدنيا فيتوبون . وحقيقة المعنى في الاستعتاب : أنه التعرض لطلب الرضا ، وهذا الباب منسد في الآخرة على الكفار . ( وإذا رأى الذين ظلموا ) كفروا ، ( العذاب ) يعني جهنم ، ( فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون وإذا رأى الذين أشركوا ) يوم القيامة ، ( شركاءهم ) أوثانهم ، ( قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك ) أربابا ونعبدهم ، ( فألقوا ) يعني الأوثان ، ( إليهم القول ) أي : قالوا لهم ، ( إنكم لكاذبون ) في تسميتنا آلهة ما دعوناكم إلى عبادتنا . ( وألقوا ) يعني المشركين ( إلى الله يومئذ السلم ) استسلموا وانقادوا لحكمه فيهم ، ولم تغن عنهم آلهتهم شيئا ، ( وضل ) وزال ، ( عنهم ما كانوا يفترون ) من أنها تشفع لهم . ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ) منعوا الناس عن طريق الحق ( زدناهم عذابا فوق العذاب ) قال عبد الله : عقارب لها أنياب أمثال النخل الطوال .
وقال سعيد بن جبير : حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال ، تلسع إحداهن اللسعة يجد صاحبها حمتها أربعين خريفا .
وقال ابن عباس ومقاتل : يعني خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار تسيل من تحت العرش ، يعذبون بها : ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار . [ ص: 38 ]
وقيل : إنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير ، فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار مستغيثين بها .
وقيل : يضاعف لهم العذاب . ( بما كانوا يفسدون ) في الدنيا بالكفر وصد الناس عن الإيمان .
( ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ( 89 ) إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ( 90 ) )
( ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم ) يعني : نبيها من أنفسهم ، لأن الأنبياء كانت تبعث إلى الأمم منها .
( وجئنا بك ) يا محمد ، ( شهيدا على هؤلاء ) الذين بعثت إليهم .
( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا ) بيانا ، ( لكل شيء ) يحتاج إليه من الأمر والنهي ، والحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، ( وهدى ) من الضلالة ، ( ورحمة وبشرى ) بشارة ( للمسلمين ) قوله عز وجل : ( إن الله يأمر بالعدل ) بالإنصاف ، ( والإحسان ) إلى الناس .
وعن ابن عباس : " العدل " : التوحيد ، و " الإحسان " : أداء الفرائض .
وعنه : " الإحسان " : الإخلاص في التوحيد ، وذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " .
وقال مقاتل : " العدل " : التوحيد ، و " الإحسان " : العفو عن الناس .
( وإيتاء ذي القربى ) صلة الرحم .
( وينهى عن الفحشاء ) ما قبح من القول والفعل . وقال ابن عباس : الزنا ، ( والمنكر ) ما لا يعرف في شريعة ولا سنة ، ( والبغي ) الكبر والظلم . [ ص: 39 ]
وقال ابن عيينة : العدل استواء السر والعلانية ، و " الإحسان " أن تكون سريرته أحسن من علانيته ، و " الفحشاء والمنكر " أن تكون علانيته أحسن من سريرته .
( يعظكم لعلكم تذكرون ) تتعظون .
قال ابن مسعود : أجمع آية في القرآن هذه الآية .
وقال أيوب عن عكرمة : إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد : ( إن الله يأمر بالعدل ) إلى آخر الآية فقال له : يا ابن أخي أعد فأعاد عليه ، فقال : إن له والله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر .
( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ( 91 ) ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ( 92 ) )
قوله تعالى : ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ) والعهد هاهنا هو : اليمين .
قال الشعبي : العهد يمين وكفارته كفارة يمين ، ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) تشديدها ، فتحنثوا فيها ، ( وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ) شهيدا بالوفاء .
( إن الله يعلم ما تفعلون ) واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية وإن كان حكمها عاما؟ .
قيل : نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمرهم الله بالوفاء بها .
وقال مجاهد وقتادة : نزلت في حلف أهل الجاهلية . ثم ضرب الله مثلا لنقض العهد فقال : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة ) ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة ) أي : من بعد غزله وإحكامه .
قال الكلبي ، ومقاتل : هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش ، يقال لها " ريطة بنت عمرو بن سعد [ ص: 40 ] بن كعب بن زيد مناة بن تميم " وتلقب بجعر ، وكانت بها وسوسة ، وكانت اتخذت مغزلا بقدر ذراع وصنارة مثل الأصبع ، وفلكة عظيمة ، على قدرها ، وكانت تغزل الغزل من الصوف والشعر والوبر ، وتأمر جواريها بذلك ، فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار ، فإذا انتصف النهار أمرتهن بنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها .
ومعناه : أنها لم تكف عن العمل ، ولا حين عملت كفت عن النقض ، فكذلك أنتم إذا نقضتم العهد ، لا كففتم عن العهد ، ولا حين عاهدتم وفيتم به .
( أنكاثا ) يعني أنقاضا واحدتها " نكث " وهو ما نقض بعد الفتل ، غزلا كان أو حبلا .
( تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ) أي : دخلا وخيانة وخديعة ، و " الدخل " ما يدخل في الشيء للفساد .
وقيل : " الدخل " و " الدغل " : أن يظهر الوفاء ويبطن النقض .
( أن تكون ) أي : لأن تكون ، ( أمة هي أربى ) أي : أكثر وأعلى ، ( من أمة ) قال مجاهد : وذلك أنهم كانوا يحالفون الحلفاء فإذا وجدوا قوما أكثر منهم وأعز نقضوا حلف هؤلاء وحالفوا الأكثر ، فمعناه : طلبتم العز بنقض العهد ، بأن كانت أمة أكثر من أمة . فنهاهم الله عن ذلك .
( إنما يبلوكم الله به ) يختبركم الله بأمره إياكم بالوفاء بالعهد ، ( وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) في الدنيا .
( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون ( 93 ) ) ( ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ( 94 ) )
( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) على ملة واحدة ، وهي الإسلام ، ( ولكن يضل من يشاء ) بخذلانه إياهم ، عدلا منه ، ( ويهدي من يشاء ) بتوفيقه إياهم ، فضلا منه ، ( ولتسألن عما كنتم تعملون ) يوم القيامة . ( ولا تتخذوا أيمانكم دخلا ) خديعة وفسادا ، ( بينكم ) فتغرون بها الناس ، فيسكنون إلى أيمانكم ، ويأمنون ، ثم تنقضونها ، ( فتزل قدم بعد ثبوتها ) فتهلكوا بعدما كنتم آمنين والعرب تقول [ ص: 41 ] لكل مبتلى بعد عافية ، أو ساقط في ورطة بعد سلامة : زلت قدمه ، ( وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ) قيل : معناه : سهلتم طريق نقض العهد على الناس بنقضكم العهد ، ( ولكم عذاب عظيم )
( ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ( 95 ) ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ( 96 ) من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ( 97 ) )
( ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا ) يعني لا تنقضوا عهودكم ، تطلبون بنقضها عرضا قليلا من الدنيا ، ولكن أوفوا بها . ( إنما عند الله هو ) من الثواب لكم على الوفاء ، ( خير لكم إن كنتم تعلمون ) [ فضل ما بين العوضين ، ثم بين ذلك ] . فقال : ( ما عندكم ينفد ) أي : الدنيا وما فيها يفنى ، ( وما عند الله باق )
( ولنجزين ) [ قرأ أبو جعفر وابن كثير وعاصم بالنون والباقون بالياء ] ( الذين صبروا ) على الوفاء في السراء والضراء ، ( أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، حدثنا عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ، عن أبي موسى الأشعري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى " . قوله تعالى : ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) قال سعيد بن جبير وعطاء : هي الرزق الحلال . [ ص: 42 ]
قال الحسن : هي القناعة .
وقال مقاتل بن حيان : يعني العيش في الطاعة .
قال أبو بكر الوراق : هي حلاوة الطاعة .
وقال مجاهد وقتادة : هي الجنة . ورواه عوف عن الحسن . وقال : لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة .
( ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )
( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ( 98 ) )
قوله سبحانه وتعالى : ( فإذا قرأت القرآن ) أي : أردت قراءة القرآن ( فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) كقوله تعالى : " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا " ( المائدة - 6 ) .
والاستعاذة سنة عند قراءة القرآن .
وأكثر العلماء على أن الاستعاذة قبل القراءة .
وقال أبو هريرة : بعدها . [ ص: 43 ]
ولفظه : أن يقول : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة ، سمعت عاصما عن ابن جبير بن مطعم ، عن أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ، قال : فكبر ، فقال : الله أكبر كبيرا ، ثلاث مرات ، [ والحمد لله كثيرا ، ثلاث مرات ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات ] اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ، ونفثه .
قال عمرو : ونفخه : الكبر ، ونفثه : الشعر ، وهمزه : الموتة ، والموتة الجنون ، والاستعاذة بالله هي الاعتصام به .
( إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ( 99 ) إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ( 100 ) وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون
( 101 ( إنه ليس له سلطان ) حجة وولاية ، ( على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ) قال سفيان : ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر . ( إنما سلطانه على الذين يتولونه ) يطيعونه ويدخلون في ولايته ، ( والذين هم به مشركون ) أي : بالله مشركون . وقيل : الكناية راجعة إلى الشيطان ، ومجازه الذين هم من أجله مشركون بالله . ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) يعني وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر ، ( والله أعلم بما ينزل ) أعلم بما هو أصلح لخلقه فيما يغير ويبدل من أحكامه ، ( قالوا إنما أنت ) يا محمد ، ( مفتر ) مختلق ، وذلك أن المشركين قالوا : إن محمدا يسخر بأصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر ، وينهاهم عنه غدا ، ما هو إلا مفتر ، يتقوله من تلقاء نفسه .
قال الله تعالى ( بل أكثرهم لا يعلمون ) حقيقة القرآن ، وبيان الناسخ من المنسوخ .
ابو وليد البحيرى
2022-03-17, 10:39 PM
الحلقة (258)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ النَّحْلِ
الاية102 إلى الاية 114
( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ( 102 ) ( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ( 103 ) )
( قل نزله ) يعني القرآن ، ( روح القدس ) جبريل ، ( من ربك بالحق ) بالصدق ، ( ليثبت الذين آمنوا ) أي : ليثبت قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا ويقينا ، ( وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ) آدمي ، وما هو من عند الله ، واختلفوا في هذا البشر : قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قينا بمكة ، اسمه " بلعام " ، وكان نصرانيا ، أعجمي اللسان ، فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج ، فكانوا يقولون إنما يعلمه " بلعام " .
وقال عكرمة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئ غلاما لبني المغيرة يقال له " يعيش " وكان يقرأ الكتب ، فقالت قريش : إنما يعلمه " يعيش " .
وقال الفراء : قال المشركون إنما يتعلم من عايش مملوك كان لحويطب بن عبد العزى ، وكان قد أسلم وحسن إسلامه ، وكان أعجم اللسان .
وقال ابن إسحاق : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني ، عبد لبعض بني الحضرمي ، يقال له " جبر " ، وكان يقرأ الكتب .
وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي كان لنا عبدان من أهل عين التمر يقال لأحدهما يسار ، ويكنى " أبا فكيهة " ، ويقال للآخر " جبر " وكانا يصنعان السيوف بمكة ، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل ، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم ، وهما يقرآن ، فيقف ويستمع .
قال الضحاك : وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا آذاه الكفار يقعد إليهما ويستروح بكلامهما ، فقال المشركون : إنما يتعلم محمد منهما ، فنزلت هذه الآية . [ ص: 45 ]
قال الله تعالى تكذيبا لهم : ( لسان الذي يلحدون إليه ) أي يميلون ويشيرون إليه ، ( أعجمي ) " الأعجمي " الذي لا يفصح وإن كان ينزل بالبادية ، والعجمي منسوب إلى العجم ، وإن كان فصيحا ، والأعرابي البدوي ، والعربي منسوب إلى العرب ، وإن لم يكن فصيحا ، ( وهذا لسان عربي مبين ) فصيح وأراد باللسان القرآن ، والعرب تقول : اللغة لسان ، وروي أن الرجل الذي كانوا يشيرون إليه أسلم وحسن إسلامه .
( إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم ( 104 ) إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ( 105 ) من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ( 106 ) )
( إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ) لا يرشدهم الله ، ( ولهم عذاب أليم ) ثم أخبر الله تعالى أن الكفار هم المفترون . فقال : ( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ) لا محمد صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : قد قال : " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون " ، فما معنى قوله " وأولئك هم الكاذبون " ؟ قيل : " إنما يفتري الكذب " : إخبار عن فعلهم ، " هم الكاذبون " نعت لازم لهم ، كقول الرجل لغيره : كذبت وأنت كاذب ، أي : كذبت في هذا القول ، ومن عادتك الكذب .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد الجوهري ، أخبرنا جدي أبو بكر محمد بن عمر بن حفص ، حدثنا أبو بكر محمد بن الفرج الأزرق ، حدثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر ، حدثنا يعلى بن الأشدق ، عن عبد الله بن جراد قال قلت : يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال : قد يكون ذلك ، قال قلت : المؤمن يسرق؟ قال : قد يكون ذلك ، قلت المؤمن يكذب؟ قال : لا " . قال الله : " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله " . ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره )
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في عمار ، وذلك أن المشركين أخذوه ، وأباه ياسرا ، وأمه سمية ، وصهيبا ، وبلالا وخبابا ، وسالما ، فعذبوهم ، فأما سمية : فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ قبلها [ ص: 46 ] بحربة فقتلت ، وقتل زوجها ياسر ، وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام ، وأما عمار : فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها .
قال قتادة : أخذ بنو المغيرة عمارا وغطوه في بئر ميمون ، وقالوا له : اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك ، وقلبه كاره ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عمارا كفر فقال : كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما وراءك؟ قال : شر يا رسول الله ، نلت منك وذكرت آلهتهم قال : كيف وجدت قلبك ، قال مطمئنا بالإيمان ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ، فنزلت هذه الآية .
قال مجاهد : نزلت في ناس من أهل مكة ، آمنوا فكتب إليهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن هاجروا ، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة ، فأدركتهم قريش في الطريق فكفروا كارهين .
وقال مقاتل : نزلت في جبر ، مولى عامر بن الحضرمي ، أكرهه سيده على الكفر فكفر مكرها . ( وقلبه مطمئن بالإيمان ) ثم أسلم مولى جبر وحسن إسلامه وهاجر جبر مع سيده ، ( ولكن من شرح بالكفر صدرا ) أي : فتح صدره للكفر بالقبول واختاره ، ( فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم )
وأجمع العلماء على : أن من أكره على كلمة الكفر ، يجوز له أن يقول بلسانه ، وإذا قال بلسانه غير معتقد لا يكون كفرا ، وإن أبى أن يقول حتى يقتل كان أفضل .
واختلف أهل العلم في طلاق المكره . فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقع .
[ ص: 47 ] ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ( 107 ) أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون ( 108 ) لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ( 109 ) ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( 110 ) )
( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ) لا يرشدهم . ( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون ) عما يراد بهم . ( لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ) أي المغبونون . ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ) عذبوا ومنعوا من الإسلام ، فتنهم المشركون ، ( ثم جاهدوا وصبروا ) على الإيمان والهجرة والجهاد ، ( إن ربك من بعدها ) من بعد تلك الفتنة والغفلة ( لغفور رحيم )
نزلت في عياش بن أبي ربيعة ، أخي أبي جهل من الرضاعة ، وفي أبي جندل بن سهيل بن عمرو ، والوليد بن الوليد بن المغيرة ، وسلمة بن هشام وعبد الله بن أسيد الثقفي ، فتنهم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ، ثم إنهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا .
وقال الحسن وعكرمة : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فاستزله الشيطان ، فلحق بالكفار ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة ، فاستجاره له عثمان ، وكان أخاه لأمه من الرضاعة ، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه ، فأنزل الله هذه الآية . [ ص: 48 ]
وقرأ ابن عامر " فتنوا " بفتح الفاء والتاء ، ورده إلى من أسلم من المشركين فتنوا المسلمين .
( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون ( 111 ) وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ( 112 ) )
( ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ( 113 ) فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون ( 114 ) إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ( 115 ) ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ( 116 ) )
( يوم تأتي كل نفس تجادل ) تخاصم وتحتج ، ( عن نفسها ) بما أسلفت من خير وشر ، مشتغلا بها لا تتفرغ إلى غيرها ، ( وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون )
روي أن عمر بن الخطاب قال لكعب الأحبار : خوفنا ، قال : يا أمير المؤمنين ، والذي نفسي بيده ، لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لأتت عليك ساعات وأنت لا تهمك إلا نفسك ، وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل منتخب ، إلا وقع جاثيا على ركبتيه ، حتى إبراهيم خليل الرحمن ، يقول : يا رب لا أسألك إلا نفسي ، وإن تصديق ذلك : الذي أنزل الله عليكم " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " .
وروى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال : ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة ، حتى تخاصم الروح الجسد ، فتقول الروح : يا رب ، لم يكن لي يد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها . ويقول الجسد : خلقتني كالخشب ليست لي يد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها ، فجاء هذا كشعاع النور ، فبه نطق لساني ، وأبصرت عيني ، ومشت رجلي . فيضرب الله لهما مثلا أعمى ومقعد ، دخلا حائطا فيه ثمار ، فالأعمى لا يبصر الثمر ، والمقعد لا يناله ، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر فعليهما العذاب . قوله تعالى ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة ) يعني : مكة ، كانت آمنة ، لا يهاج أهلها ولا يغار عليها ، ( مطمئنة ) قارة بأهلها ، لا يحتاجون إلى الانتقال للانتجاع كما يحتاج إليه سائر العرب ، ( يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ) يحمل إليها من البر والبحر نظيره : " يجبى إليه ثمرات كل شيء " [ ص: 49 ] ( القصص - 57 ( فكفرت بأنعم الله ) جمع النعمة ، وقيل : جمع نعماء مثل بأساء وأبؤس ، ( فأذاقها الله لباس الجوع ) ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين ، وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرقة ، والجيف ، والكلاب الميتة ، والعهن ، وهو الوبر يعالج بالدم ، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ، ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : هذا عاديت الرجال ، فما بال النساء والصبيان؟ فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون . وذكر اللباس لأن ما أصابهم من الهزال والشحوب وتغير ظاهرهم عما كانوا عليه من قبل كاللباس لهم ( والخوف ) يعني : بعوث النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه التي كانت تطيف بهم . ( بما كانوا يصنعون )
( ولقد جاءهم رسول منهم ) محمد صلى الله عليه وسلم ، ( فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون ) . ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ) . قوله تعالى ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب ) أي : لا تقولوا لوصف ألسنتكم ، أو [ ص: 50 ] لأجل وصفكم الكذب ، أي : أنكم تحلون وتحرمون لأجل الكذب لا لغيره ، ( هذا حلال وهذا حرام ) يعني البحيرة والسائبة ، ( لتفتروا على الله الكذب ) فتقولون إن الله أمرنا بهذا ، ( إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ) لا ينجون من عذاب الله .
( متاع قليل ولهم عذاب أليم ( 117 ) وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 118 ) ( ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( 119 ) إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ( 120 ) )
( متاع قليل ) يعني : الذي هم فيه متاع قليل ، أو لهم متاع قليل في الدنيا . ( ولهم عذاب أليم ) في الآخرة . ( وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل ) يعني في سورة الأنعام ، وهو قوله تعالى :
" وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر " ( الأنعام - 146 ) الآية .
( وما ظلمناهم ) بتحريم ذلك عليهم ، ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) فحرمنا عليهم ببغيهم . ( ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ) معنى الإصلاح : الاستقامة على التوبة ، ( إن ربك من بعدها ) أي : من بعد الجهالة ، ( لغفور رحيم ) قوله تعالى " ( إن إبراهيم كان أمة ) قال ابن مسعود : الأمة ، معلم الخير ، أي : كان معلما للخير ، يأتم به أهل الدنيا ، وقد اجتمع فيه من الخصال الحميدة ما يجتمع في أمة .
قال مجاهد : كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار .
قال قتادة : ليس من أهل دين إلا يتولونه ويرضونه .
( قانتا لله ) مطيعا له ، وقيل : قائما بأوامر الله تعالى ، ( حنيفا ) مسلما مستقيما على دين الإسلام . وقيل : مخلصا . ( ولم يك من المشركين )
[ ص: 51 ] ( شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ( 121 ) وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( 122 ) ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( 123 ) إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ( 124 ) )
( شاكرا لأنعمه اجتباه ) اختاره ، ( وهداه إلى صراط مستقيم ) أي : إلى دين الحق . ( وآتيناه في الدنيا حسنة ) يعني الرسالة والخلة وقيل : لسان الصدق والثناء الحسن .
وقال مقاتل بن حيان : يعني الصلوات ، في قول هذه الأمة : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم .
وقيل : أولادا أبرارا على الكبر .
وقيل : القبول العام في جميع الأمم .
( وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) مع آبائه الصالحين في الجنة . وفي الآية تقديم وتأخير ، مجازه : وآتيناه في الدنيا والآخرة حسنة ، وإنه لمن الصالحين . ( ثم أوحينا إليك ) يا محمد ، ( أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) حاجا مسلما ، ( وما كان من المشركين )
وقال أهل الأصول : كان النبي صلى الله عليه وسلم مأمورا بشريعة إبراهيم إلا ما نسخ في شريعته ، وما لم ينسخ صار شرعا له . قوله تعالى : ( إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ) قيل : معناه إنما جعل السبت لعنة على الذين اختلفوا فيه أي : خالفوا فيه .
وقيل : معناه ما فرض الله تعظيم السبت وتحريمه إلا على الذين اختلفوا فيه أي : خالفوا فيه فقال قوم : هو أعظم الأيام ، لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثم سبت يوم السبت .
وقال قوم : بل أعظم الأيام يوم الأحد ، لأن الله تعالى ابتدأ فيه خلق الأشياء ، فاختاروا تعظيم غير ما فرض الله عليهم ، وقد افترض الله عليهم تعظيم يوم الجمعة . [ ص: 52 ]
قال الكلبي : أمرهم موسى عليه السلام بالجمعة ، فقال : تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوما فاعبدوه يوم الجمعة ، ولا تعملوا فيه لصنعتكم ، وستة أيام لصناعتكم ، فأبوا وقالوا : لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق يوم السبت ، فجعل ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم فيه ثم جاءهم عيسى عليه السلام بيوم الجمعة ، فقالوا لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا - يعنون اليهود - فاتخذوا الأحد فأعطى الله الجمعة هذه الأمة ، فقبلوها وبورك لهم فيها .
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن همام بن منبه قال : حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فهم لنا فيه تبع ، فاليهود غدا ، والنصارى بعد غد " .
قال الله تعالى : ( إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ) قال قتادة : الذين اختلفوا فيه هم اليهود ، استحله بعضهم ، وحرمه بعضهم .
( وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون )
ابو وليد البحيرى
2022-03-17, 10:40 PM
الحلقة (259)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
الاية1 إلى الاية 2
( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ( 125 ) )
( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ) بالقرآن ، ( والموعظة الحسنة ) يعني مواعظ القرآن .
وقيل : الموعظة الحسنة هي الدعاء إلى الله بالترغيب والترهيب .
وقيل : هو القول اللين الرقيق من غير غلظة ولا تعنيف .
( وجادلهم بالتي هي أحسن ) وخاصمهم وناظرهم بالخصومة التي هي أحسن ، أي : أعرض عن أذاهم ، ولا تقصر في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق ، نسختها آية القتال . [ ص: 53 ]
( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )
( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( 126 ) )
( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) هذه الآيات نزلت بالمدينة في شهداء أحد وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد ، من تبقير البطون ، والمثلة السيئة - حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به غير حنظلة بن الراهب فإن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان ، فتركوا حنظلة لذلك - فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن أظهرنا الله عليهم لنزيدن على صنيعهم ، ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وأذنه ، وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه ، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ، ثم استرطبتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبدا ، حمزة أكرم على الله تعالى من أن يدخل شيئا من جسده النار فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه حمزة ، ونظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " رحمة الله عليك فإنك ما علمت ما كنت إلا فاعلا للخيرات ، وصولا للرحم ، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى ، أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك " ، فأنزل الله تعالى : ( وإن عاقبتم فعاقبوا ) الآية . ( ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) أي : ولئن عفوتم لهو خير للعافين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل نصبر ، وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه . [ ص: 54 ]
قال ابن عباس والضحاك : كان هذا قبل نزول براءة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله ومنع من الابتداء بالقتال ، فلما أعز الله الإسلام وأهله نزلت براءة ، وأمروا بالجهاد نسخت هذه الآية .
وقال النخعي ، والثوري ، ومجاهد ، وابن سيرين : الآية محكمة نزلت في من ظلم بظلامة ، فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال الظالم منه ، أمر بالجزاء والعفو ، ومنع من الاعتداء . ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم :
( واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ( 127 ) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ( 128 ) )
( واصبر وما صبرك إلا بالله ) أي : بمعونة الله وتوفيقه ، ( ولا تحزن عليهم ) في إعراضهم عنك ، ( ولا تك في ضيق مما يمكرون ) أي : فيما فعلوا من الأفاعيل .
قرأ ابن كثير هاهنا وفي النمل ( ضيق ) بكسر الضاد وقرأ الآخرون بفتح الضاد ، قال أهل الكوفة : هما لغتان مثل رطل ورطل .
وقال أبو عمرو : " الضيق " بالفتح : الغم ، وبالكسر : الشدة .
وقال أبو عبيدة : " الضيق " بالكسر في قلة المعاش وفي المساكن ، فأما ما كان في القلب والصدر فإنه بالفتح .
وقال ابن قتيبة : الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ، ولين ولين ، فعلى هذا هو صفة ، كأنه قال : ولا تكن في أمر ضيق من مكرهم . ( إن الله مع الذين اتقوا ) المناهي ، ( والذين هم محسنون ) بالعون والنصرة .
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 1 ) )
( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ( سُبْحَانَ اللَّهِ : تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ سُوءٍ ، وَوَصْفُهُ بِالْبَرَاءَةِ مَنْ كُلِّ نَقْصٍ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ ، وَيَكُونُ " سُبْحَانَ " بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ ، " أَسْرَى بِعَبْدِهِ " أَيْ : سَيَّرَهُ ، وَكَذَلِكَ سَرَى بِهِ ، وَالْعَبْدُ هُوَ : مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
( مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( قِيلَ : كَانَ الْإِسْرَاءُ مِنْ مَسْجِدِ مَكَّةَ ، رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " بَيْنَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحِجْرِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ أَتَانِي جِبْرِيلُ بِالْبُرَاقِ " فَذَكَرَ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ .
وَقَالَ قَوْمٌ : عُرِجَ بِهِ مِنْ دَارِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ وَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( [ ص: 58 ] أَيْ : مِنَ الْحَرَمِ .
قَالَ مُقَاتِلٌ : كَانَتْ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ ، وَيُقَالُ : كَانَ فِي رَجَبٍ . وَقِيلَ : كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ .
( إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ( يَعْنِي : بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، وَسُمِّيَ أَقْصَى لِأَنَّهُ أَبْعَدُ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُزَارُ . وَقِيلَ : لِبُعْدِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
( الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ( بِالْأَنْهَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ : سَمَّاهُ مُبَارَكًا لِأَنَّهُ مَقَرُّ الْأَنْبِيَاءِ وَمَهْبِطُ الْمَلَائِكَةِ وَالْوَحْيِ ، وَمِنْهُ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ( مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِنَا ، وَقَدْ رَأَى هُنَاكَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْآيَاتِ الْكُبْرَى .
( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( ذَكَرَ " السَّمِيعَ " لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ الْمُجِيبُ لِدُعَائِهِ ، وَذَكَرَ " الْبَصِيرَ " لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ الْحَافِظُ لَهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ : مَا فُقِدَ جَسَدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِرُوحِهِ .
وَالْأَكْثَرُون َ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ فِي الْيَقَظَةِ ، وَتَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى ذَلِكَ . [ ص: 59 ]
أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ ( حَ ) قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ الْعُصْفُرِيُّ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ وَهِشَامٌ . قَالَا حَدَّثَنَا قَتَادَةُ ( حَ ) عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ ، ( حَ ) قَالَ الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( حَ ) ، وَأَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ [ الْفَارِسِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ ] بْنِ سُفْيَانَ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجٍ ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخٍ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ - دَخْلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ - قَالَ أَبُو ذَرٍّ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فُرِّجَ عَنِّي سَقْفُ بَيْتِي ، وَأَنَا بِمَكَّةَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَّرَجَ صَدْرِي ، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي ، ثُمَّ أَطْبَقَهُ " .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ صَعْصَعَةَ : إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ قَالَ : " بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ ، [ ص: 60 ] وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ " ، وَذَكَرَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ " فَأُوتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَشُقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ وَاسْتُخْرِجَ قَلْبِي فَغُسِلَ ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ " .
وَقَالَ سَعِيدٌ وَهِشَامٌ : ثُمَّ غُسِلَ الْبَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ مُلِئَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً ، ثُمَّ أُوتِيتُ بِالْبُرَاقِ ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرَفِهِ ، فَرَكِبْتُهُ فَانْطَلَقْتُ مَعَ جِبْرِيلَ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، قَالَ : فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ ، قَالَ : ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا؟ قَالَ : جِبْرِيلُ . قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ : مَرْحَبًا بِهِ ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ ، فَفُتِحَ ، فَلَمَّا خَلَصْتُ ، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ ، فَقَالَ لِي : هَذَا أَبُوكَ آدَمُ ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَرَدَّ السَّلَامَ ، ثُمَّ قَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ : عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ . قُلْتُ لِجِبْرِيلَ : مَنْ هَذَا؟ قَالَ : هَذَا آدَمُ ، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى .
ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا؟ قَالَ : جِبْرِيلُ ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ ، قِيلَ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قِيلَ : مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ ، فَفُتِحَ ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا [ ص: 61 ] بِيَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ ، قَالَ : هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا ، فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا ، ثُمَّ قَالَا : مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ .
ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا؟ قَالَ : جِبْرِيلُ ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ : مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ ، فَفُتِحَ ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا يُوسُفُ ، وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ ، قَالَ : هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ ، ثُمَّ قَالَ : مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ .
ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ ، فَاسْتَفْتَحَ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا؟ قَالَ : جِبْرِيلُ ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ ، قِيلَ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قِيلَ : مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ ، فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِدْرِيسُ ، قَالَ هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ : مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ .
ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا؟ قَالَ : جِبْرِيلُ ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ ، قِيلَ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قِيلَ : مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ ، قَالَ : هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ : مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ .
ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا؟ قَالَ : جِبْرِيلُ ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ ، قِيلَ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قِيلَ : مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى ، قَالَ : هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ ، فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى قِيلَ لَهُ : مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ : أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي .
ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا؟ قَالَ جِبْرِيلُ ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ ، قِيلَ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قِيلَ : مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ ، قَالَ : هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ ، ثُمَّ قَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ ، فَرُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ، فَسَأَلَتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ : هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ، إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ . [ ص: 62 ]
وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ : فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ ، ثُمَّ ذُهِبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبِقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ ، قَالَ : فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشَّى تَغَيَّرَتْ ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا ، فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ : نَهْرَانِ بَاطِنَانِ ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ ، فَقُلْتُ : مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ : أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ .
وَأَوْحَى إِلَيَّ مَا أَوْحَى ، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى ، فَقَالَ : مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ : خَمْسِينَ صَلَاةً ، قَالَ : ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ ، قَالَ : فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ : يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ : حَطَّ عَنِّي خَمْسًا ، قَالَ : إِنْ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ .
قَالَ : فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى قَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا ، وَمِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً .
قَالَ : فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ . فَقُلْتُ : سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ ، قَالَ : فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ : أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي . ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ ، كَانَا يَقُولَانِ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى فِيهِ صَرِيفُ الْأَقْلَامِ .
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسٌ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً . [ ص: 63 ]
وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُتِيَ بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مُلْجَمًا مُسْرَجًا ، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : أَبِمُحْمِدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ ، فَارْفَضَّ عَرَقًا .
وَقَالَ ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ جِبْرِيلُ بِأُصْبُعِهِ فَخَرَقَ بِهَا الْحَجَرَ وَشَدَّ بِهَا الْبُرَاقَ .
أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَى ، قَالَ : فَنَعَتَهُ فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ - حَسِبْتُهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ - رَجِلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ " . قَالَ : لَقِيتُ عِيسَى فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ يَعْنِي الْحَمَّامَ وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ ، قَالَ : وَأُوتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ : أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالْآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ ، فَقِيلَ لِي : خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ ، فَقِيلَ لِي : هُدِيتَ الْفِطْرَةَ [ أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ ] أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ " .
أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : " وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ " ، قَالَ : هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ . قَالَ : وَالشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ : هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : سَمِعْتُ [ ص: 64 ] أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ : أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ : هُوَ خَيْرُهُمْ ، فَقَالَ آخِرُهُمْ : خُذُوا خَيْرَهُمْ ، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ ، فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَتِّهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ . وَسَاقَ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ بِقِصَّتِهِ . فَقَالَ : فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهْرَيْنِ يَطَّرِدَانِ ، قَالَ : هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا وَاحِدٌ ، ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ فَضَرْبَ يَدَهُ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ ، قَالَ : مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ : هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَّأَ لَكَ رَبُّكَ . وَسَاقَ الْحَدِيثَ ، وَقَالَ : ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، وَقَالَ : قَالَ مُوسَى : رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ تَرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدًا ، ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَيْهِ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَقَالَ فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الْخَمْسِ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَضَعُفُوا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ قُلُوبًا وَأَجْسَادًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ ، كُلُّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ ، فَرَفَعَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ فَقَالَ : يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتَيْ ضُعَفَاءُ أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ فَخَفِّفْ عَنَّا فَقَالَ الْجَبَّارُ : يَا مُحَمَّدُ ، قَالَ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، قَالَ : إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا فَرَضْتُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ فَقَالَ مُوسَى : ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ " ، قَالَ : فَاهْبِطْ بِسْمِ اللَّهِ ، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا عَنْ هَارُونَ بْنِ سَعِيدٍ الْإِيلِيِّ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ .
قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَا وَجَدْنَا لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَلِمُسْلِمٍ فِي كِتَابَيْهِمَا شَيْئًا لَا يَحْتَمِلُ مَخْرَجًا إِلَّا هَذَا ، وَأَحَالَ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمِعْرَاجَ كَانَ بَعْدَ الْوَحْيِ بِنَحْوٍ مِنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ . [ ص: 65 ]
وَفِيهِ أَيْضًا : " أَنَّ الْجَبَّارَ دَنَا فَتَدَلَّى " . وَذَكَرَتْ عَائِشَةُ أَنَّ الَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ عِنْدِي لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ هَذَا كَانَ رُؤْيَا فِي النَّوْمِ ، أَرَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ الْوَحْيِ بِدَلِيلِ آخَرِ الْحَدِيثِ : قَالَ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ فِي الْيَقَظَةِ بَعْدَ الْوَحْيِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ تَحْقِيقًا لِرُؤْيَاهُ مِنْ قَبْلُ كَمَا أَنَّهُ رَأَى فَتْحَ مَكَّةَ فِي الْمَنَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ ، ثُمَّ كَانَ تَحْقِيقُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَنَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ " لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ " ( الْفَتْحِ - 27 ) .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ وَكَانَ بِذِي طَوَى قَالَ : يَا جِبْرِيلُ إِنَّ قَوْمِي لَا يُصَدِّقُونِي ، قَالَ : يُصَدِّقُكَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ الصَّدِيقُ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي فَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَضِقْتُ بِأَمْرِي وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ فَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَعَدَ مُعْتَزِلًا حَزِينًا فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلٍ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِ ئِ : هَلِ اسْتَفَدْتَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ : نَعَمْ إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ قَالَ : إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ : إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، قَالَ : ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا قَالَ : نَعَمْ ، فَلَمْ يَرَ أَبُو جَهْلٍ أَنَّهُ يُنْكِرُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ قَالَ : أَتُحَدِّثُ قَوْمَكَ مَا حَدَّثْتَنِي؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ : يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ هَلُمُّوا ، قَالَ : فَانْفَضَّتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ فَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا ، قَالَ : فَحَدِّثْ قَوْمَكَ مَا حَدَّثْتَنِي قَالَ : نَعَمْ إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ ، قَالُوا : إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ : إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، قَالُوا : ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا ، وَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَسَعَى رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ : هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ : أَوَقَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ قَالُوا : وَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي لَيْلَةٍ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ : نَعَمْ إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ . [ ص: 66 ]
قَالَ : وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ أَتَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى ، فَقَالُوا : هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ وَأَنْعَتُ فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ [ بَعْضُ النَّعْتِ ] قَالَ : فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عَقِيلٍ فَنَعَتُّ الْمَسْجِدَ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ الْقَوْمُ : أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ ثُمَّ قَالُوا : يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا هِيَ أَهَمُّ إِلَيْنَا فَهَلْ لَقِيتَ مِنْهَا شَيْئًا؟ قَالَ : نَعَمْ مَرَرْتُ عَلَى عِيرِ بَنِي فُلَانٍ وَهِيَ بِالرَّوْحَاءِ وَقَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ وَهُمْ فِي طَلَبِهِ وَفِي رِحَالِهِمْ قَدَحٌ مِنْ مَاءٍ فَعَطِشْتُ فَأَخَذْتُهُ فَشَرِبْتُهُ ثُمَّ وَضَعْتُهُ كَمَا كَانَ فَسَلُوهُمْ هَلْ وَجَدُوا الْمَاءَ فِي الْقَدَحِ حِينَ رَجَعُوا إِلَيْهِ؟ قَالُوا : هَذِهِ آيَةٌ قَالَ : وَمَرَرْتُ بَعِيرِ بَنِي فُلَانٍ ، وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ رَاكِبَانِ قَعُودًا لَهُمَا بِذِي طَوَى فَنَفَرَ بَعِيرُهُمَا مِنِّي فَرَمَى بِفُلَانٍ فَانْكَسَرَتْ يَدُهُ فَسَلُوهُمَا عَنْ ذَلِكَ قَالُوا : وَهَذِهِ آيَةٌ قَالُوا : فَأَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا نَحْنُ؟ قَالَ : مَرَرْتُ بِهَا بِالتَّنْعِيمِ قَالُوا : فَمَا عِدَّتُهَا وَأَحْمَالُهَا وَهَيْئَتُهَا وَمَنْ فِيهَا؟ قَالَ : نَعَمْ هَيْئَتُهَا كَذَا وَكَذَا وَفِيهَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ مَخِيطَتَانِ تَطْلُعُ عَلَيْكُمْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قَالُوا : وَهَذِهِ آيَةٌ ثُمَّ خَرَجُوا يَشْتَدُّونَ نَحْوَ الثَّنِيَّةِ وَهُمْ يَقُولُونَ وَاللَّهِ لَقَدْ قَصَّ مُحَمَّدٌ شَيْئًا وَبَيَّنَهُ حَتَّى أَتَوْا كَدَى فَجَلَسُوا عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَنْتَظِرُونَ مَتَى تَطْلُعُ الشَّمْسُ فَيُكَذِّبُونَه ُ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : وَاللَّهِ هَذِهِ الشَّمْسُ قَدْ طَلَعَتْ وَقَالَ آخَرُ : وَهَذِهِ وَاللَّهِ الْإِبِلُ قَدْ طَلَعَتْ يَقْدُمُهَا بَعِيرٌ أَوْرَقُ فِيهَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ كَمَا قَالَ لَهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا " وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ " .
أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَجَرُ بْنُ الْمُثَنَّى أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ قَالَ : فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ وَإِذَا عِيسَى قَائِمٌ يُصَلِّي أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - فَجَاءَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ لِي قَائِلٌ : يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ " .
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-03-17, 10:41 PM
الحلقة (260)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
الاية3 إلى الاية 4
قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَا وَجَدْنَا لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَلِمُسْلِمٍ فِي كِتَابَيْهِمَا شَيْئًا لَا يَحْتَمِلُ مَخْرَجًا إِلَّا هَذَا ، وَأَحَالَ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمِعْرَاجَ كَانَ بَعْدَ الْوَحْيِ بِنَحْوٍ مِنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ . [ ص: 65 ]
وَفِيهِ أَيْضًا : " أَنَّ الْجَبَّارَ دَنَا فَتَدَلَّى " . وَذَكَرَتْ عَائِشَةُ أَنَّ الَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ عِنْدِي لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ هَذَا كَانَ رُؤْيَا فِي النَّوْمِ ، أَرَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ الْوَحْيِ بِدَلِيلِ آخَرِ الْحَدِيثِ : قَالَ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ فِي الْيَقَظَةِ بَعْدَ الْوَحْيِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ تَحْقِيقًا لِرُؤْيَاهُ مِنْ قَبْلُ كَمَا أَنَّهُ رَأَى فَتْحَ مَكَّةَ فِي الْمَنَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ ، ثُمَّ كَانَ تَحْقِيقُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَنَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ " لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ " ( الْفَتْحِ - 27 ) .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ وَكَانَ بِذِي طَوَى قَالَ : يَا جِبْرِيلُ إِنَّ قَوْمِي لَا يُصَدِّقُونِي ، قَالَ : يُصَدِّقُكَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ الصَّدِيقُ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي فَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَضِقْتُ بِأَمْرِي وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ فَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَعَدَ مُعْتَزِلًا حَزِينًا فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلٍ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِ ئِ : هَلِ اسْتَفَدْتَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ : نَعَمْ إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ قَالَ : إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ : إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، قَالَ : ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا قَالَ : نَعَمْ ، فَلَمْ يَرَ أَبُو جَهْلٍ أَنَّهُ يُنْكِرُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ قَالَ : أَتُحَدِّثُ قَوْمَكَ مَا حَدَّثْتَنِي؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ : يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ هَلُمُّوا ، قَالَ : فَانْفَضَّتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ فَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا ، قَالَ : فَحَدِّثْ قَوْمَكَ مَا حَدَّثْتَنِي قَالَ : نَعَمْ إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ ، قَالُوا : إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ : إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، قَالُوا : ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا ، وَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَسَعَى رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ : هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ : أَوَقَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ قَالُوا : وَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي لَيْلَةٍ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ : نَعَمْ إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ . [ ص: 66 ]
قَالَ : وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ أَتَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى ، فَقَالُوا : هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ وَأَنْعَتُ فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ [ بَعْضُ النَّعْتِ ] قَالَ : فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عَقِيلٍ فَنَعَتُّ الْمَسْجِدَ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ الْقَوْمُ : أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ ثُمَّ قَالُوا : يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا هِيَ أَهَمُّ إِلَيْنَا فَهَلْ لَقِيتَ مِنْهَا شَيْئًا؟ قَالَ : نَعَمْ مَرَرْتُ عَلَى عِيرِ بَنِي فُلَانٍ وَهِيَ بِالرَّوْحَاءِ وَقَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ وَهُمْ فِي طَلَبِهِ وَفِي رِحَالِهِمْ قَدَحٌ مِنْ مَاءٍ فَعَطِشْتُ فَأَخَذْتُهُ فَشَرِبْتُهُ ثُمَّ وَضَعْتُهُ كَمَا كَانَ فَسَلُوهُمْ هَلْ وَجَدُوا الْمَاءَ فِي الْقَدَحِ حِينَ رَجَعُوا إِلَيْهِ؟ قَالُوا : هَذِهِ آيَةٌ قَالَ : وَمَرَرْتُ بَعِيرِ بَنِي فُلَانٍ ، وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ رَاكِبَانِ قَعُودًا لَهُمَا بِذِي طَوَى فَنَفَرَ بَعِيرُهُمَا مِنِّي فَرَمَى بِفُلَانٍ فَانْكَسَرَتْ يَدُهُ فَسَلُوهُمَا عَنْ ذَلِكَ قَالُوا : وَهَذِهِ آيَةٌ قَالُوا : فَأَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا نَحْنُ؟ قَالَ : مَرَرْتُ بِهَا بِالتَّنْعِيمِ قَالُوا : فَمَا عِدَّتُهَا وَأَحْمَالُهَا وَهَيْئَتُهَا وَمَنْ فِيهَا؟ قَالَ : نَعَمْ هَيْئَتُهَا كَذَا وَكَذَا وَفِيهَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ مَخِيطَتَانِ تَطْلُعُ عَلَيْكُمْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قَالُوا : وَهَذِهِ آيَةٌ ثُمَّ خَرَجُوا يَشْتَدُّونَ نَحْوَ الثَّنِيَّةِ وَهُمْ يَقُولُونَ وَاللَّهِ لَقَدْ قَصَّ مُحَمَّدٌ شَيْئًا وَبَيَّنَهُ حَتَّى أَتَوْا كَدَى فَجَلَسُوا عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَنْتَظِرُونَ مَتَى تَطْلُعُ الشَّمْسُ فَيُكَذِّبُونَه ُ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : وَاللَّهِ هَذِهِ الشَّمْسُ قَدْ طَلَعَتْ وَقَالَ آخَرُ : وَهَذِهِ وَاللَّهِ الْإِبِلُ قَدْ طَلَعَتْ يَقْدُمُهَا بَعِيرٌ أَوْرَقُ فِيهَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ كَمَا قَالَ لَهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا " وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ " .
أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَجَرُ بْنُ الْمُثَنَّى أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ قَالَ : فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ وَإِذَا عِيسَى قَائِمٌ يُصَلِّي أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - فَجَاءَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ لِي قَائِلٌ : يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ " .
( وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ( 2 ) ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا ( 3 ) وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ( 4 ) )
قوله عز وجل ( وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا ( بأن لا ( تتخذوا من دوني وكيلا ( ربا وكفيلا .
قرأ أبو عمرو " لا يتخذوا " بالياء لأنه خبر عنهم والآخرون : بالتاء يعني : قلنا لهم لا تتخذوا . ( ذرية من حملنا ( قال مجاهد : هذا نداء يعني : يا ذرية من حملنا ، ( مع نوح ( في السفينة فأنجيناهم من الطوفان ، ( إنه كان عبدا شكورا ( كان نوح عليه السلام إذا أكل طعاما أو شرب شرابا أو لبس ثوبا قال : الحمد لله فسمي عبدا شكورا أي كثير الشكر . قوله عز وجل : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ( الآيات .
روى سفيان بن سعيد الثوري عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن بني إسرائيل لما اعتدوا وقتلوا الأنبياء بعث الله عليهم ملك فارس [ ص: 68 ] " بختنصر " ، وكان الله ملكه سبعمائة سنة فسار إليهم حتى دخل بيت المقدس فحاصرها وفتحها وقتل على دم يحيى بن زكريا عليه السلام سبعين ألفا ثم سبى أهلها [ والأبناء ] وسلب حلي بيت المقدس واستخرج منها سبعين ألفا ومائة ألف عجلة من حلي ، قلت : يا رسول الله كان بيت المقدس عظيما؟ قال : أجل بناه سليمان بن داود من ذهب وفضة وياقوت وزبرجد ، وكان عمده ذهبا ، أعطاه الله ذلك ، وسخر له الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين فسار بها بختنصر حتى نزل بابل فأقام بنو إسرائيل في يده مائة سنة يستعبدهم المجوس وأبناء المجوس فيهم الأنبياء ثم إن الله رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس يقال له " كورش " وكان مؤمنا أن يسير إليهم ليستنقذ بقايا بني إسرائيل فسار كورش لبني إسرائيل وأخذ حلي بيت المقدس حتى ردها إليه فأقام بنو إسرائيل بها مطيعين لله تعالى مائة سنة ثم إنهم عادوا في المعاصي فسلط الله عليهم ملكا يقال له " أنطانيوس " فغزا بني إسرائيل حتى أتاهم بيت المقدس فسبى أهلها وأحرق بيت المقدس وقال لهم يا بني إسرائيل إن عدتم في المعاصي عدنا عليكم ثانيا [ بالسبي ] فعادوا فسلط الله عليهم ملك رومية يقال له " فاقس بن أستيانوس " ، فغزاهم في البر والبحر فسباهم وسبى حلي بيت المقدس وأحرق بيت المقدس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا من صفة حلي بيت المقدس ويرده المهدي إلى بيت المقدس وهو ألف وسبعمائة سفينة يرمي بها على يافا حتى تنقل إلى بيت المقدس وبها يجمع الله الأولين والآخرين " . [ ص: 69 ]
قال محمد بن إسحاق : كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم محسنا إليهم وكان أول ما نزل بهم بسبب ذنوبهم كما أخبر على لسان موسى عليه السلام أن ملكا منهم كان يدعى " صديقة " وكان الله تعالى إذا ملك الملك عليهم بعث معه نبيا يسدده ويرشده لا ينزل عليهم الكتب إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها .
فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه " شعياء بن أصفيا " وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام و " شعياء " هو الذي بشر بعيسى ومحمد عليهما السلام ، فقال : أبشري أورشليم ، الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث وشعياء معه بعث الله عليهم " سنجاريب " ملك بابل معه ستمائة ألف راية فأقبل سائرا حتى نزل حول بيت المقدس والملك مريض في ساقه قرحة فجاء النبي شعياء وقال له : يا ملك بني إسرائيل إن سنجاريب ملك بابل قد نزل بك هو وجنوده بستمائة ألف راية وقد هابهم الناس وفرقوا فكبر ذلك على الملك فقال يا نبي الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنجاريب وجنوده؟
فقال : لم يأتني وحي . فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعياء النبي أن ائت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصيته ويستخلف - على ملكه من يشاء من أهل بيته - فأتى شعياء ملك بني إسرائيل " صديقة " فقال له : إن ربك قد أوحى إلي أن آمرك أن توصي وصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت فلما قال ذلك شعياء لصديقة أقبل على القبلة فصلى ودعا وبكى فقال وهو يبكي وتضرع إلى الله بقلب مخلص : اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا قدوس المتقدس يا رحمن يا رحيم يا رءوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك وأنت أعلم به مني سري وعلانيتي لك وأنت الرحمن . فاستجاب له وكان عبدا صالحا فأوحى الله تعالى إلى شعياء أن يخبر صديقة أن ربه قد استجاب له ورحمه وأخر له أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه سنجاريب فأتاه شعياء فأخبره بذلك فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع وانقطع عنه الحزن وخر ساجدا وقال : يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكبرت وعظمت أنت الذي تعطي الملك لمن تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء عالم الغيب والشهادة أنت الأول والآخر والظاهر والباطن وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين وأنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي . [ ص: 70 ]
فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى يصبح وقد برأ ففعل وشفي .
وقال الملك لشعياء : سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا .
قال الله لشعياء : قل له : إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنجاريب وخمسة نفر من كتابه .
فلما أصبحوا جاء صارخ فصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك فاخرج فإن سنجاريب ومن معه قد هلكوا فلما خرج الملك التمس سنجاريب فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مغارة وخمسة نفر من كتابه أحدهم بختنصر فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم إلى ملك بني إسرائيل فلما رآهم خر ساجدا من حين طلعت الشمس إلى العصر ثم قال لسنجاريب : كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنجاريب له : قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا [ ذلة في الدنيا وعذاب في الآخرة ] فلو سمعت أو عقلت ما غزوتكم .
فقال صديقة : الحمد لله رب العالمين الذي كفاناكم بما شاء وإن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامتك على ربك ولكنه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم فتنذروا من بعدكم ولولا ذلك لقتلكم ، ولدمك ولدم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلت .
ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع فطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيليا وكان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم فقال سنجاريب لملك بني إسرائيل : القتل خير مما تفعل بنا فأمر بهم الملك إلى سجن القتل فأوحى الله إلى شعياء عليه السلام : أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنجاريب ومن معه لينذروا من وراءهم وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم فبلغ شعياء الملك ذلك ففعل [ الملك صديقة ] ما أمر به فخرج سنجاريب ومن معه حتى قدموا بابل فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده فقال له كهانه وسحرته يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم . وكان أمر سنجاريب تخويفا لهم ثم كفاهم الله تذكرة وعبرة .
ثم لبث سنجاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات واستخلف بختنصر ابن ابنه على ما كان عليه جده يعمل عمله فلبث سبع عشرة سنة ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر [ ص: 71 ] بني إسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضا ونبيهم شعياء معهم ولا يقبلون منه ، فلما فعلوا ذلك قال الله لشعياء قم في قومك أوحي على لسانك فلما قام النبي شعياء أنطق الله لسانه بالوحي فقال : يا سماء اسمعي ويا أرض أنصتي فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته واصطنعهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسرها وداوى مريضها وأسمن مهزولها وحفظ سمينها فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون أنى جاءهم الخير أن البعير مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الأري الذي شبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وأن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الخير وهم أولو الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمير وإني ضارب لهم مثلا فليسمعوه قل لهم كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا خرابا مواتا لا عمران فيها وكان لها رب حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة وكره أن تخرب أرضه وهو قوي أو أن يقال ضيع وهو حكيم فأحاط عليها جدارا وشيد فيها قصورا وأنبط نهرا وصنف فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها وولى ذلك واستحفظه ذا رأي وهمة حفيظا قويا أمينا فلما أطلعت جاء طلعها خروبا؟
قالوا بئست الأرض هذه فنرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها ويقبض قيمها ويحرق غرسها حتى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا لا عمران فيها قال الله : قل لهم : فإن الجدار ديني وإن القصر شريعتي وإن النهر كتابي وإن القيم نبيي وإن الغراس هم وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم وإنه مثل ضربته لهم يتقربون إلي بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا آكله ويدعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها فأيديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملة بدمائها يشيدون لي البيوت مساجد ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم ويدنسونها ويزوقون إلي المساجد ويزينونها ويخربون عقولهم وأحلامهم ويفسدونها فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها؟ وأي حاجة لي إلى تزويق المساجد ولست أدخلها؟ إنما أمرت برفعها لأذكر وأسبح فيها .
يقولون : صمنا فلم يرفع صيامنا [ وصلينا فلم تنور صلاتنا ] وتصدقنا فلم يزك صدقتنا ودعونا بمثل حنين الحمام وبكينا بمثل عواء الذئاب في كل ذلك لا يستجاب لنا .
قال الله : فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم؟ ألست أسمع السامعين وأبصر الناظرين وأقرب [ ص: 72 ] المجيبين وأرحم الراحمين؟ فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور ويتقوون عليه بطعمة الحرام؟ أم كيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي؟ أم كيف تزكى عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم؟ إنما آجر عليها أهلها المغصوبين؟ أم كيف أستجيب دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد إنما أستجيب للداعي اللين وإنما أسمع قول المستعفف المسكين وإن من علامة رضاي رضا المساكين .
يقولون لما سمعوا كلامي وبلغتهم رسالتي : إنها أقاويل منقولة وأحاديث متوارثة وتأليف مما يؤلف السحرة والكهنة وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا ولو شاءوا أن يطلعوا على علم الغيب بما يوحي إليهم الشياطين اطلعوا وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء أثبته وحتمته على نفسي وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع فإن صدقوا فيما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه؟ أو في أي زمان يكون؟ وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل هذه القدرة التي بها أمضيت فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاءون فليقولوا مثل الحكمة التي بها أدبر أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض أن أجعل النبوة في الأجراء وأن أجعل الملك في الرعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء والعلم في الجهالة والحكمة في الأميين فسلهم متى هذا ومن القائم به ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون فإني باعث لذلك نبيا أميا أمينا ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا متزين بالفحش ولا قوال للخنا أسدده لكل جميل وأهب له كل خلق كريم أجعل السكينة لباسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقوله والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل سيرته [ والحق شريعته ] والهدى [ والقرآن ] إمامه ، والإسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة وأعلم به بعد الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد العيلة وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم متفرقة وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر توحيدا لي وإيمانا وإخلاصا لي يصلون قياما وقعودا وركعا وسجودا ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني ألهمهم التكبير والتوحيد والتسبيح والتحميد والمدحة والتمجيد في مسيرهم ومجالسهم ومضاجعهم ومناقبهم ومثواهم يكبرون ويهللون ويقدسون على رءوس الأشراف ويطهرون لي الوجوه والأطراف يعقدون لي الثياب على الأنصاف قربانهم دماؤهم وأناجيلهم في صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم . [ ص: 73 ]
فلما فرغ شعياء من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخل فيها فأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها واستخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك رجلا منهم يقال له ناشية بن أموص وبعث لهم أرمياء بن حلقيا نبيا وكان من سبط هارون بن عمران .
وذكر ابن إسحاق أنه الخضر واسمه أرمياء سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام عنها وهي تهتز خضراء .
فبعث الله أرمياء إلى ذلك الملك ليسدده ويرشده ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي واستحلوا المحارم فأوحى الله إلى أرمياء أن ائت قومك من بني إسرائيل فاقصص عليهم ما آمرك به وذكرهم نعمتي وعرفهم بأحداثهم فقال أرمياء : يا رب إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني مخذول إن لم تنصرني قال الله تعالى : أولم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي وأن القلوب والألسنة بيدي أقلبها كيف شئت إني معك ولن يصل إليك شيء معي فقام أرمياء فيهم ولم يدر ما يقول فألهمه الله عز وجل في الوقت خطبة بليغة بين فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية وقال في آخرها عن الله تعالى : وإني حلفت بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم ولأسلطن عليهم جبارا قاسيا ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم ثم أوحى الله إلى أرمياء : إني مهلك بني إسرائيل بيافث ويافث من أهل بابل - على ما ذكرنا في سورة البقرة - فسلط الله عليهم بختنصر فخرج في ستمائة ألف راية ودخل بيت المقدس بجنوده ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس وأمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس ففعلوا ذلك حتى ملأوه ثم أمرهم أن يجمعوا من في بلدان بيت المقدس كلهم فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل فاختار منهم سبعين ألف صبي فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمها فيهم قالت له الملوك الذين كانوا معه : أيها الملك لك غنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمان وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق فثلثا أقر بالشام وثلثا سبى وثلثا قتل وذهب بناشئة بيت المقدس وبالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزل الله ببني إسرائيل بظلمهم فذلك قوله تعالى : " فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد " يعني : بختنصر وأصحابه . [ ص: 74 ]
ثم إن بختنصر أقام في سلطانه ما شاء الله ثم رأى رؤيا أعجبته إذ رأى شيئا أصابه فأنساه الله الذي رأى فدعا دانيال وحنانيا وعزازيا وميشائيل وكانوا من ذراري الأنبياء وسألهم عنها قالوا أخبرنا بها نخبرك بتأويلها قال : ما أذكرها ولئن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعن أكتافكم فخرجوا من عنده فدعوا الله وتضرعوا إليه فأعلمهم بالذي سألهم عنه ، فجاءوه وقالوا : رأيت تمثالا قدماه وساقاه من فخار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضة وصدره من ذهب ورأسه وعنقه من حديد قال : صدقتم قالوا : فبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك أرسل الله تعالى صخرة من السماء فدقته فهي التي أنستكها قال : صدقتم قال : فما تأويلها؟ قالوا : تأويلها أنك رأيت ملك الملوك فبعضهم كان ألين ملكا وبعضهم كان أحسن ملكا وبعضهم كان أشد ملكا الفخار أضعفه ثم فوقه النحاس أشد منه ثم فوق النحاس الفضة أحسن من ذلك وأفضل والذهب أحسن من الفضة وأفضل ثم الحديد ملكك فهو أشد وأعز مما كان قبله والصخرة التي رأيت أرسل الله من السماء فدقته نبي يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه .
ثم إن أهل بابل قالوا لبختنصر : أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين كنا سألناك أن تعطيناهم ففعلت فإنا قد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا لقد رأينا نساءنا انصرفت عنا وجوههن إليهم فأخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم قال شأنكم بهم فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده فليفعل .
فلما قربوهم للقتل بكوا إلى الله تعالى وقالوا : يا رب أصابنا البلاء بذنوب غيرنا فوعد الله أن يجيبهم ، فقتلوا إلا من استبقى بختنصر منهم دانيال وحنانيا وعزازيا وميشائيل .
ثم لما أراد الله هلاك بختنصر انبعث فقال لمن في يده من بني إسرائيل : أرأيتم هذا البيت الذي خربته والناس الذين قتلت منهم؟ وما هذا البيت؟ قالوا : هذا بيت الله وهؤلاء أهله كانوا من ذراري الأنبياء فظلموا وتعدوا فسلطت عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السموات والأرض ورب الخلق كلهم يكرمهم ويعزهم فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم فاستكبر وظن أنه بجبروته فعل ذلك ببني إسرائيل . قال : فأخبروني كيف لي أن أطلع إلى السماء العليا فأقتل من فيها وأتخذها ملكا لي فإني قد فرغت من الأرض ، قالوا : ما يقدر عليها أحد من الخلائق قال : لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم ، فبكوا وتضرعوا إلى الله تعالى فبعث الله عليه بقدرته بعوضة فدخلت منخره حتى عضت بأم دماغه فما كان يقر ولا يسكن حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه ليري الله العباد قدرته ونجى الله من بقي من بني إسرائيل في يديه فردوهم إلى الشام فبنوا فيه وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه . [ ص: 75 ]
ويزعمون أن الله تعالى أحيا أولئك الذين قتلوا فلحقوا بهم ، ثم إنهم لما دخلوا الشام دخلوها وليس معهم عهد من الله تعالى وكانت التوراة قد احترقت وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل فرجع إلى الشام يبكي عليها ليله ونهاره وقد خرج من الناس فهو كذلك إذ أقبل إليه رجل فقال يا عزير ما يبكيك؟ قال أبكي على كتاب الله وعهده الذي كان بين أظهرنا الذي لا يصلح دنيانا وآخرتنا غيره قال : أفتحب أن يرد إليك؟ ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك ثم موعدك هذا المكان غدا فرجع عزير فصام وتطهر وطهر ثيابه ثم عمد إلى المكان الذي وعده فجلس فيه فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء وكان ملكا بعثه الله إليه فسقاه من ذلك الإناء فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل فوضع لهم التوراة فأحبوه حتى لم يحبوا حبه شيئا قط ثم قبضه الله وجعلت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث ويعود الله عليهم ويبعث فيهم الرسل ففريقا يكذبون وفريقا يقتلون حتى كان آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى وكانوا من بيت آل داود فمات زكريا وقيل قتل زكريا فلما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى بعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام فلما ظهر عليهم أمر رأسا من رءوس جنوده يدعى بيور زاذان صاحب القتل فقال : إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظفرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري إلا أني لا أجد أحدا أقتله فأمره أن يقتلهم حتى بلغ ذلك منهم بيورزاذان ودخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم فوجد فيها دما يغلي فسألهم فقال : يا بني إسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي؟ أخبروني خبره قالوا : هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا فلذلك يغلي ولقد قربنا منذ ثمانمائة سنة القربان فيقبل منا إلا هذا فقال : ما صدقتموني فقالوا : لو كان كأول زماننا لتقبل منا ولكن قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يقبل منا فذبح منهم بيورزاذان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين زوجا من رءوسهم فلم يهدأ فأمر فأتي بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحهم على الدم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد فلما رأى بيورزاذان الدم لا يهدأ قال لهم : يا بني إسرائيل ويلكم اصدقوني واصبروا على أمر ربكم فقد طال ما ملكتم في الأرض تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار أنثى ولا ذكر إلا قتلته فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوا الخبر فقالوا : إن هذا الدم دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله فلو أنا أطعناه فيها لكان أرشد لنا وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه فقال لهم بيورزاذان : ما كان اسمه؟ قالوا : يحيى بن زكريا قال الآن صدقتموني لمثل هذا انتقم ربكم منكم فلما رأى بيورزاذان أنهم صدقوه خر ساجدا وقال لمن حوله : أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوش وخلا في بني إسرائيل ثم قال : يا يحيى بن [ ص: 76 ] زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم فاهدأ بإذن ربك قبل أن لا أبقي من قومك أحدا فهدأ الدم بإذن الله ورفع بيورزاذان عنهم القتل وقال آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وأيقنت أنه لا رب غيره وقال لبني إسرائيل : إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره وإني لست أستطيع [ أن أعصيه ] قالوا له : افعل ما أمرت به فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتى سال الدم في العسكر وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى بيورزاذان أن ارفع عنهم القتل .
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-03-28, 09:11 PM
الحلقة (261)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
الاية5 إلى الاية 20
ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد [ أن يفنيهم ] وهي الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل وذلك قوله : ( لتفسدن في الأرض مرتين ( فكانت الوقعة الأولى بختنصر وجنوده [ والأخرى خردوش وجنوده ] وكانت أعظم الوقعتين فلم تقم لهم بعد ذلك راية وانتقل الملك بالشام ونواحيها إلى الروم اليونانية إلا أن بقايا من بني إسرائيل كثروا وكانت لهم الرياسة ببيت المقدس ونواحيها على غير وجه الملك وكانوا في نعمة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث فسلط الله عليهم ططيوس بن إسبيانوس الرومي فأخرب بلادهم وطردهم عنها ونزع الله عنهم الملك والرياسة وضربت عليهم الذلة فليسوا في أمة إلا وعليهم الصغار والجزية وبقي بيت المقدس خرابا إلى أيام عمر بن الخطاب فعمره المسلمون بأمره .
وقال قتادة : بعث الله عليهم جالوت في الأولى فسبى وقتل وخرب ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم ( يعني في زمان داود ، فإذا جاء وعد الآخرة بعث الله عليهم بختنصر فسبى وخرب ، ثم قال : ( عسى ربكم أن يرحمكم ( فعاد الله عليهم بالرحمة ثم عاد القوم بشر ما بحضرتهم فبعث الله عليهم ما شاء من نقمته وعقوبته ، ثم بعث الله عليهم العرب كما قال : ( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ( فهم في العذاب إلى يوم القيامة .
وذكر السدي بإسناده : أن رجلا من بني إسرائيل رأى في النوم أن خراب بيت المقدس على يدي غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل يدعى بختنصر وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم فأقبل ليسأل عنه حتى نزل على أمه وهو يحتطب فجاء وعلى رأسه حزمة حطب فألقاها ثم قعد فكلمه ثم أعطاه ثلاثة دراهم فقال : اشتر بهذا طعاما وشرابا فاشترى بدرهم لحما وبدرهم خبزا وبدرهم خمرا فأكلوا وشربوا وفعل في اليوم الثاني كذلك وفي اليوم الثالث كذلك ، ثم قال : إني أحب [ ص: 77 ] أن تكتب لي أمانا إن أنت ملكت يوما من الدهر [ فقال : تسخر مني؟ فقال : إني لا أسخر منك ، ولكن ما عليك أن تتخذ بها عندي يدا فكتب له أمانا وقال : أرأيت ] إن جئت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك ، قال : ترفع صحيفتك على قصبة فأعرفك فكتب له وأعطاه ثم إن ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا ويدني مجلسه وأنه هوي ابنة امرأته وقال ابن عباس : ابنة أخته فسأل يحيى بن زكريا عن تزويجها فنهاه عن نكاحها فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى بن زكريا وعمدت حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثيابا رقاقا حمرا وطيبتها وألبستها الحلي وأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه ، فإن أرادها عن نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته فإذا أعطاها سألت رأس يحيى بن زكريا أن يؤتى به في طست ففعلت ، فلما أرادها قالت لا أفعل حتى تعطيني ما أسألك قال : ما تسأليني؟ قالت : رأس يحيى بن زكريا في هذا الطست ، فقال : ويحك سليني غير هذا ، فقالت : ما أريد إلا هذا فلما أبت عليه بعث فأتي برأسه حتى وضع بين يديه والرأس يتكلم ويقول : لا تحل لك فلما أصبح إذا دمه يغلي فأمر بتراب فألقي عليه فرقى الدم يعني صعد الدم يغلي ويلقي عليه من التراب حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يغلي ، فبعث صخابين ملك بابل جيشا إليهم وأمر عليهم بختنصر فسار بختنصر وأصحابه حتى بلغوا ذلك المكان تحصنوا منه في مدائنهم فلما اشتد عليهم المقام أراد الرجوع فخرجت إليه عجوز من عجائز بني إسرائيل فقالت : تريد أن ترجع قبل المدينة؟ قال : نعم قد طال مقامي وجاع أصحابي قالت : أرأيت إن فتحت لك المدينة تعطيني ما أسألك فتقتل من أمرتك بقتله وتكف إذا أمرتك أن تكف؟ قال : نعم ، قالت : إذا أصبحت تقسم جندك أربعة أرباع ثم أقم على كل زاوية ربعا ثم ارفعوا أيديكم إلى السماء فنادوا : إنا نستفتحك يا ألله بدم يحيى بن زكريا فإنها سوف تتساقط ففعلوا فتساقطت المدينة ودخلوا من جوانبها ، فقالت : كف يدك وانطلقت به إلى دم يحيى بن زكريا وقالت : اقتل على هذا الدم حتى يسكن فقتل عليه سبعين ألفا حتى سكن ، فلما سكن قالت : كف يدك فإن الله لم يرض إذا قتل نبي حتى يقتل من قتله ومن رضي بقتله وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفته فكف عنه وعن أهل بيته فخرب بيت المقدس وطرح فيه الجيف وأعانه على خرابه الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا وذهب معه بوجوه بني إسرائيل وذهب بدانيال وقوم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت فلما قدم بابل وجد صخابين قد مات فملك مكانه وكان أكرم الناس عنده دانيال وأصحابه فحسدهم المجوس ووشوا بهم إليه وقالوا : إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك ولا يأكلون ذبيحتك فسألهم فقالوا : أجل إن لنا ربا نعبده ولسنا نأكل من [ ص: 78 ] ذبيحتكم ، فأمر الملك بخد فخد لهم فألقوا فيه وهم ستة وألقى معهم بسبع ضار ليأكلهم فذهبوا ثم راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع مفترش ذراعيه معهم لم يخدش منهم أحدا ووجدوا معهم رجلا سابعا فقال : ما هذا السابع إنما كانوا ستة فخرج السابع وكان ملكا فلطمه لطمة فصار في الوحوش ومسخه الله سبع سنين .
وذكر وهب : أن الله مسخ بختنصر نسرا في الطير ثم مسخه ثورا في الدواب ثم مسخه أسدا في الوحوش فكان مسخه سبع سنين وقلبه في ذلك قلب إنسان ثم رد الله إليه ملكه فآمن فسئل وهب أكان مؤمنا؟ فقال وجدت أهل الكتاب اختلفوا فيه فمنهم من قال مؤمنا ومنهم من قال أحرق بيت المقدس وكتبه وقتل الأنبياء فغضب الله عليه فلم يقبل توبته .
وقال السدي : ثم إن بختنصر لما رجع إلى صورته بعد المسخ ورد الله إليه ملكه كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه فحسدهم المجوس وقالوا لبختنصر : إن دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول وكان ذلك فيهم عارا فجعل لهم طعاما وشرابا فأكلوا وشربوا وقال للبواب : انظر أول من يخرج ليبول فاضربه بالطبرزين فإن قال أنا بختنصر فقل كذبت بختنصر أمرني فكان أول من قام للبول بختنصر فلما رآه البواب شد عليه فقال : ويحك أنا بختنصر فقال : كذبت بختنصر أمرني فضربه فقتله هذا ما ذكره في المبتدأ إلا أن رواية من روى أن بختنصر غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا غلط عند أهل السير بل هم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم شعياء في عهد أرمياء ومن وقت أرمياء وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكريا أربعمائة وإحدى وستون سنة ، وذلك أنهم كانوا يعدون من لدن تخريب بختنصر بيت المقدس إلى حين عمارته في عهد كيرش بن أخشورش بن أصيهيد ببابل من قبل بهمن بن إسفنديار [ سبعين سنة ثم من بعد عمارته إلى ظهور الإسكندر على بيت المقدس ثمان وثمانون سنة ثم من بعد مملكته ] إلى مولد يحيى بن زكريا ثلاثمائة وستون سنة .
والصحيح من ذلك ما ذكر محمد بن إسحاق .
قوله عز وجل : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ( أي : أعلمناهم وأخبرناهم فيما آتيناهم من الكتب أنهم سيفسدون .
والقضاء على وجوه : يكون أمرا ، كقوله : " وقضى ربك " ( الإسراء - 23 ) .
ويكون حكما ، كقوله : " إن ربك يقضي بينهم " ( يونس - 93 ، والنحل - 78 ) .
ويكون خلقا كقوله : " فقضاهن سبع سماوات " ( فصلت - 2 ) . [ ص: 79 ]
وقال ابن عباس وقتادة : يعني وقضينا عليهم ، و " إلى " بمعنى " على " والمراد بالكتاب : اللوح المحفوظ .
( لتفسدن ( لام القسم مجازه : والله لتفسدن ( في الأرض مرتين ( بالمعاصي والمراد بالأرض : أرض الشام وبيت المقدس ، ( ولتعلن ( ولتستكبرن ولتظلمن الناس ( علوا كبيرا (
( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ( 5 ) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ( 6 ) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ( 7 ) )
( فإذا جاء وعد أولاهما ( يعني : أولى المرتين .
قال قتادة : إفسادهم في المرة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة ، وركبوا المحارم .
وقال ابن إسحاق : إفسادهم في المرة الأولى قتل شعياء بين الشجرة وارتكابهم المعاصي .
( بعثنا عليكم عبادا لنا ( قال قتادة : يعني جالوت الجزري وجنوده وهو الذي قتله داود .
وقال سعيد بن جبير : يعني سنجاريب من أهل نينوى .
وقال ابن إسحاق : بختنصر البابلي وأصحابه . وهو الأظهر .
( أولي بأس ( ذوي بطش ، ( شديد ( في الحرب ، ( فجاسوا ( أي فطافوا وداروا ( خلال الديار ( وسطها يطلبونكم ويقتلونكم والجوس طلب الشيء بالاستقصاء . قال الفراء : جاسوا : قتلوكم بين بيوتكم .
( وكان وعدا مفعولا ( قضاء كائنا لا خلف فيه . ( ثم رددنا لكم الكرة ( يعني : الرجعة والدولة ، ( عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ( عددا ، أي من ينفر معهم وعاد البلد أحسن مما كان . ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ( أي : لها ثوابها ، ( وإن أسأتم فلها ( أي : فعليها كقوله تعالى : " فسلام لك " ( الواقعة - 91 ) أي : عليك وقيل : فلها الجزاء والعقاب . [ ص: 80 ]
( فإذا جاء وعد الآخرة ( أي : المرة الأخيرة من إفسادكم ، وذلك قصدهم قتل عيسى عليه السلام حين رفع ، وقتلهم يحيى بن زكريا عليهما السلام ، فسلط الله عليهم الفرس والروم خردوش وطيطوس حتى قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن ديارهم ، فذلك قوله تعالى ( ليسوءوا وجوهكم ( أي : تحزن وجوهكم وسوء الوجه بإدخال الغم والحزن .
قرأ الكسائي [ ويعقوب ] . " لنسوء " بالنون وفتح الهمزة على التعظيم كقوله : " وقضينا " و " بعثنا " وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر بالياء [ وفتح ] الهمزة [ على التوحيد ] أي : ليسوء الله وجوهكم وقيل : ليسوء الوعد وجوهكم .
وقرأ الباقون بالياء وضم الهمزة على الجمع أي ليسوء العباد أولوا البأس الشديد وجوهكم . ( وليدخلوا المسجد ( يعني : بيت المقدس ونواحيه ( كما دخلوه أول مرة وليتبروا ( وليهلكوا ( ما علوا ( أي : ما غلبوا عليه من بلادكم ( تتبيرا (
( عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ( 8 ) إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ( 9 ) وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ( 10 ) )
( عسى ربكم ( يا بني إسرائيل ( أن يرحمكم ( بعد انتقامه منكم فيرد الدولة إليكم ( وإن عدتم عدنا ( أي : إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى العقوبة . قال قتادة : فعادوا فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .
( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ( سجنا ومحبسا من الحصر وهو الحبس .
قال الحسن : حصيرا أي : فراشا . وذهب إلى الحصير الذي يبسط ويفرش . ( ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) أي : إلى الطريقة التي هي أصوب . وقيل : الكلمة التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا الله ، ( ويبشر ( يعني : القرآن ( المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم ( بأن لهم ( أجرا كبيرا ( وهو الجنة . ( وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ( وهو النار .
[ ص: 81 ] ( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ( 11 ) وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ( 12 ) )
وقوله تعالى : ( ويدع الإنسان ( حذف الواو لفظا لاستقبال اللام الساكنة كقوله : " سندع الزبانية " ( العلق - 18 ) وحذف في الخط أيضا وهي غير محذوفة في المعنى . ومعناه : ويدعو الإنسان على ماله وولده ونفسه ، ( بالشر ( فيقول عند الغضب : اللهم العنه وأهلكه ونحوهما ، ( دعاءه بالخير ( أي : كدعائه ربه [ بالخير ] أن يهب له النعمة والعافية ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك ولكن الله لا يستجيب بفضله ( وكان الإنسان عجولا ( بالدعاء على ما يكره أن يستجاب له فيه . قال جماعة من أهل التفسير وقال ابن عباس : ضجرا لا صبر له على السراء والضراء . قوله عز وجل ( وجعلنا الليل والنهار آيتين ( أي : علامتين دالتين على وجودنا ووحدانيتنا وقدرتنا ( فمحونا آية الليل ( قال ابن عباس : جعل الله نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر كذلك فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعلها مع نور الشمس .
وحكى أن الله تعالى أمر جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور .
وسأل ابن الكواء عليا عن السواد الذي في القمر؟ قال : هو أثر المحو .
( وجعلنا آية النهار مبصرة ( منيرة مضيئة يعني يبصر بها . قال الكسائي : تقول العرب أبصر النهار إذا أضاء بحيث يبصر بها ( لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ( أي : لو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولم يدر الصائم متى يفطر ولم يدر وقت الحج ولا وقت حلول الآجال ولا وقت السكون والراحة . ( وكل شيء فصلناه تفصيلا (
[ ص: 82 ] ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ( 13 ) اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( 14 ) من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( 15 ) )
قوله عز وجل ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) قال ابن عباس : عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان .
وقال الكلبي ومقاتل : خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسبه به .
وقال الحسن : يمنه وشؤمه .
وعن مجاهد : ما من مولود إلا في عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد .
وقال أهل المعاني : أراد بالطائر ما قضى الله عليه أنه عامله وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة سمي " طائرا " على عادة العرب فيما كانت تتفاءل وتتشاءم به من سوانح الطير وبوارحها . وقال أبو عبيدة والقتيبي : أراد بالطائر حظه من الخير والشر من قولهم : طار سهم فلان بكذا وخص العنق من بين سائر الأعضاء لأنه موضع القلائد والأطواق وغيرهما مما يزين أو يشين فجرى كلام العرب بتشبيه الأشياء اللازمة إلى الأعناق .
( ونخرج له ( يقول الله تعالى : ونحن نخرج ( يوم القيامة كتابا ( وقرأ الحسن ومجاهد ويعقوب : " ويخرج له " بفتح الياء وضم الراء معناه : ويخرج له الطائر يوم القيامة كتابا . وقرأ أبو جعفر " يخرج " بالياء وضمها وفتح الراء .
( يلقاه ( قرأ ابن عامر وأبو جعفر " يلقاه " بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف يعني : يلقى الإنسان ذلك الكتاب أي : يؤتاه وقرأ الباقون بفتح الياء خفيفة أي يراه ( منشورا ( وفي الآثار : إن الله تعالى يأمر الملك بطي الصحيفة إذا تم عمر العبد فلا تنشر إلى يوم القيامة . ( اقرأ كتابك ( أي : يقال له : اقرأ كتابك . قوله تعالى : ( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( محاسبا . قال الحسن : لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك . قال قتادة : سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا . ( من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ( لها ثوابه ( ومن ضل فإنما يضل عليها ( لأن عليها عقابه .
( ولا تزر وازرة وزر أخرى ( أي : لا تحمل حاملة حمل أخرى من الآثام أي : لا يؤخذ أحد بذنب أحد . ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( إقامة للحجة وقطعا للعذر ، وفيه دليل على أن ما وجب وجب بالسمع لا بالعقل .
[ ص: 83 ] ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ( 16 ) )
( ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ) قرأ مجاهد : " أمرنا " بالتشديد أي : سلطنا شرارها فعصوا وقرأ الحسن وقتادة ويعقوب " آمرنا " بالمد أي : أكثرنا .
وقرأ الباقون مقصورا مخففا أي : أمرناهم بالطاعة فعصوا ويحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء ويحتمل أن تكون بمعنى أكثرنا يقال : أمرهم الله أي كثرهم الله . وفي الحديث : " خير المال مهرة مأمورة " أي كثيرة النسل . ويقال منه : أمر القوم يأمرون أمرا إذا كثروا وليس من الأمر بمعنى الفعل فإن الله لا يأمر بالفحشاء .
واختار أبو عبيدة قراءة العامة وقال : لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها يعني الأمر والإمارة والكثرة .
( مترفيها ( منعميها وأغنياءها ( ففسقوا فيها فحق عليها القول ( وجب عليها العذاب ( فدمرناها تدميرا ( أي : خربناها وأهلكنا من فيها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي حدثنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا يحيى بن بكر حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن زينب بنت أبي سلمة حدثته عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا وهو يقول : " لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها " قالت زينب فقلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : " نعم إذا كثر الخبث " .
[ ص: 84 ] ( وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ( 17 ) ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ( 18 ) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ( 19 ) كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ( 20 ) )
قوله : ( وكم أهلكنا من القرون ( أي : المكذبة ( من بعد نوح ( يخوف كفار مكة ( وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ( قال عبد الله بن أبي أوفى : القرن مائة وعشرون سنة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول قرن وكان في آخره يزيد بن معاوية .
وقيل : مائة سنة . وروي عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بسر المازني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال : " سيعيش هذا الغلام قرنا " قال محمد بن القاسم فما زلنا نعد له حتى تم له مائة سنة ثم مات .
قال الكلبي : ثمانون سنة . وقيل : أربعون سنة . ( من كان يريد العاجلة ( يعني الدنيا أي : الدار العاجلة ، ( عجلنا له فيها ما نشاء ( من البسط والتقتير ( لمن نريد ( أن نفعل به ذلك أو إهلاكه ( ثم جعلنا له ( في الآخرة ( جهنم يصلاها ( يدخل نارها ( مذموما مدحورا ( مطرودا مبعدا . ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها ( عمل عملها ، ( وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ( مقبولا . ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء ( أي : نمد كلا الفريقين من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة ( من عطاء ربك ( أي : يرزقهما جميعا ثم يختلف بهما الحال في المآل ( وما كان عطاء ربك ( رزق ربك ( محظورا ( ممنوعا عن عباده فالمراد من العطاء : العطاء في الدنيا وإلا فلا حظ للكفار في الآخرة .
ابو وليد البحيرى
2022-03-28, 09:16 PM
الحلقة (262)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
الاية21 إلى الاية 36
( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ( 21 ) لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ( 22 ) وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ( 23 ) )
( انظر ( يا محمد ( كيف فضلنا بعضهم على بعض ( في الرزق والعمل [ الصالح ] يعني : طالب العاجلة وطالب الآخرة ، ( وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا لا تجعل مع الله إلها آخر ) الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره .
وقيل : معناه لا تجعل أيها الإنسان [ مع الله إلها آخر ] ( فتقعد مذموما مخذولا ( مذموما من غير حمد مخذولا من غير نصر . قوله عز وجل ( وقضى ربك ( وأمر ربك قاله ابن عباس وقتادة والحسن .
قال الربيع بن أنس : وأوجب ربك .
قال مجاهد : وأوصى ربك .
وحكي عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأ ووصى ربك . وقال : إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافا .
( ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ( أي : وأمر بالوالدين إحسانا برا بهما وعطفا عليهما .
( إما يبلغن عندك الكبر ( قرأ حمزة و الكسائي بالألف على التثنية فعلى هذا قوله : ( أحدهما أو كلاهما ( كلام مستأنف كقوله تعالى : " ثم عموا وصموا كثير منهم " ( المائدة - 71 ) وقوله : " وأسروا النجوى الذين ظلموا " ( الأنبياء - 3 ) وقوله : " الذين ظلموا " ابتداء وقرأ الباقون " يبلغن " على التوحيد . [ ص: 86 ]
( فلا تقل لهما أف ( فيه ثلاث لغات قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب : بفتح الفاء وقرأ أبو جعفر ونافع وحفص بالكسر والتنوين والباقون بكسر الفاء غير منون ومعناها واحد وهي كلمة كراهية .
قال أبو عبيدة : أصل التف والأف الوسخ على الأصابع إذا فتلتها .
وقيل : " الأف " : ما يكون في المغابن من الوسخ و " التف " : ما يكون في الأصابع .
وقيل : " الأف " : وسخ الأذن و " التف " وسخ الأظافر .
وقيل : " الأف " : وسخ الظفر و " التف " : ما رفعته بيدك من الأرض من شيء حقير .
( ولا تنهرهما ( ولا تزجرهما .
( وقل لهما قولا كريما ( حسنا جميلا لينا قال ابن المسيب : كقول العبد المذنب للسيد الفظ .
وقال مجاهد : لا تسميهما ولا تكنهما وقل : يا أبتاه [ يا أماه ] .
وقال مجاهد في هذه الآية أيضا : إذا بلغا عندك من الكبر ما يبولان فلا تتقذرهما ولا تقل لهما أف حين تميط عنهما الخلاء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيرا .
( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ( 24 ) )
( واخفض لهما جناح الذل ( أي : ألن جانبك لهما واخضع . قال عروة بن الزبير : لن لهما حتى لا تمتنع عن شيء أحباه ( من الرحمة ( من الشفقة ( وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ( أراد : إذا كانا مسلمين .
قال ابن عباس : هذا منسوخ بقوله : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " ( التوبة - 13 ) .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني حدثنا حميد بن زنجويه حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن يزيد عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن - يعني السلمي - عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ إن شئت أو ضيع " . [ ص: 87 ]
أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي الزراد أخبرنا أبو بكر محمد بن إدريس الجرجاني أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين الماليني أخبرنا حسن بن سفيان حدثنا يحيى بن حبيب بن عدي حدثنا خالد بن الحارث عن شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رضا الله في رضا الوالد وسخط الله في سخط الوالد " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب بن تمتام الضبي حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز بن مسلم عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مدمن خمر " .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد بن بامويه الأصفهاني أخبرنا أبو سعيد أحمد بن زياد البصري أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا ربعي بن علية عن عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ورغم أنف رجل أتى عليه شهر رمضان فلم يغفر له ورغم أنف رجل أدرك أبويه الكبر فلم يدخلاه الجنة " .
[ ص: 88 ] ( ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا ( 25 ) )
( ربكم أعلم بما في نفوسكم ( من بر الوالدين وعقوقهما ( إن تكونوا صالحين ( أبرارا مطيعين بعد تقصير كان منكم في القيام بما لزمكم من حق الوالدين وغير ذلك ( فإنه كان للأوابين ( بعد المعصية ( غفورا (
قال سعيد بن جبير في هذه الآية : هو الرجل يكون منه البادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ به .
قال سعيد بن المسيب : " الأواب " : الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب .
قال سعيد بن جبير : الرجاع إلى الخير .
وعن ابن عباس قال : هو الرجاع إلى الله فيما يحزبه وينوبه .
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : هم المسبحون ، دليله قوله : " يا جبال أوبي معه " ( سبأ - 10 ) .
قال قتادة : هم المصلون .
قال عوف العقيلي : هم الذين يصلون صلاة الضحى .
أخبرنا أبو الحسن طاهر بن الحسين الروقي الطوسي أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب أخبرنا أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن هشام صاحب الدستوائي عن قتادة عن القاسم بن عوف عن زيد بن أرقم قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون صلاة الضحى فقال : " صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى " .
وقال محمد بن المنكدر : " الأواب " : الذي يصلي بين المغرب والعشاء .
وروي عن ابن عباس أنه قال : إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء وهي صلاة الأوابين .
[ ص: 89 ] ( وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ( 26 ) إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ( 27 ) ( وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ( 28 ) )
قوله تعالى : ( وآت ذا القربى حقه ( يعني صلة الرحم وأراد به : قرابة الإنسان وعليه الأكثرون .
عن علي بن الحسين : أراد به قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم .
( والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ( أي : لا تنفق مالك في المعصية .
وقال مجاهد : لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيرا ولو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا .
وسئل ابن مسعود عن التبذير فقال : إنفاق المال في غير حقه .
قال شعبة : كنت أمشي مع أبي إسحاق في طريق الكوفة فأتى على باب دار بني بجص وآجر فقال : هذا التبذير .
وفي قول عبد الله : إنفاق المال في غير حقه . ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ( أي : أولياؤهم والعرب تقول لكل ملازم سنة قوم هو أخوهم ( وكان الشيطان لربه كفورا ( جحودا لنعمه . ( وإما تعرضن عنهم ( نزلت في مهجع وبلال وصهيب وسالم وخباب كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه ولا يجد فيعرض عنهم حياء منهم ويمسك عن القول فنزل ( وإما تعرضن عنهم ( وإن تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم ( ابتغاء رحمة من ربك ترجوها ( انتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك ( فقل لهم قولا ميسورا ( لينا وهي العدة أي : عدهم وعدا جميلا وقيل : القول الميسور أن تقول : يرزقنا الله وإياك .
[ ص: 90 ] ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ( 29 ) إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ( 30 ) ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ( 31 ) )
( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ( قال جابر : أتى صبي فقال : يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعا ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قميصه فقال للصبي : من ساعة إلى ساعة يظهر فعد وقتا آخر فعاد إلى أمه فقالت : قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داره فنزع قميصه فأعطاه إياه وقعد عريانا فأذن بلال بالصلاة فانتظروه فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عريانا فأنزل الله تعالى : " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك " يعني : ولا تمسك يدك عن النفقة في الحق كالمغلولة يده لا يقدر على مدها . ( ولا تبسطها ( بالعطاء ( كل البسط ( فتعطي جميع ما عندك ( فتقعد ملوما ( يلومك [ سائلوك ] بالإمساك إذا لم تعطهم و " الملوم " : الذي أتى بما يلوم نفسه أو يلومه غيره ( محسورا ( منقطعا بك لا شيء عندك تنفقه يقال : حسرته بالمسألة إذا ألحفت عليه ودابة حسيرة إذا كانت كالة رازحة .
قال قتادة : " محسورا " نادما على ما فرط منك . ( إن ربك يبسط ( يوسع ( الرزق لمن يشاء ويقدر ( أي : يقتر ويضيق ( إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ( قوله تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ( فقر ( نحن نرزقهم وإياكم ( وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يئدون بناتهم خشية الفاقة فنهوا عنه وأخبروا أن رزقهم ورزق أولادهم على الله تعالى ( إن قتلهم كان خطئا كبيرا ( قرأ ابن عامر وأبو جعفر " خطأ " بفتح الخاء والطاء مقصورا . وقرأ ابن كثير بكسر الخاء ممدودا وقرأ الآخرون بكسر الخاء وجزم الطاء ومعنى الكل واحد أي : إثما كبيرا .
[ ص: 91 ] ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ( 32 ) ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ( 33 ) )
( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) وحقها ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إيمانه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس فيقتل بها " .
( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ( أي : قوة وولاية على القاتل بالقتل قاله مجاهد وقال الضحاك : سلطانه هو أنه يتخير فإن شاء استقاد منه وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا .
( فلا يسرف في القتل ( قرأ حمزة والكسائي : " فلا تسرف " بالتاء يخاطب ولي القتيل وقرأ الآخرون بالياء على الغائب أي : لا يسرف الولي في القتل .
واختلفوا في هذا الإسراف الذي منع منه فقال ابن عباس ، وأكثر المفسرين : معناه لا يقتل غير القاتل وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتى يقتلوا أشرف منه .
وقال سعيد بن جبير : إذا كان القاتل واحدا فلا يقتل جماعة بدل واحد وكان أهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفا لا يرضون بقتل القاتل [ وحده ] حتى يقتلوا معه جماعة من أقربائه .
وقال قتادة : معناه لا يمثل بالقاتل .
( إنه كان منصورا ( فالهاء راجعة إلى المقتول في قوله : ( ومن قتل مظلوما ( يعني : إن المقتول منصور في الدنيا بإيجاب القود على قاتله وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله هذا قول مجاهد .
وقال قتادة : الهاء راجعة إلى ولي المقتول معناه : أنه منصور على القاتل باستيفاء القصاص منه أو الدية . [ ص: 92 ]
وقيل في قوله : ( فلا يسرف في القتل ( إنه أراد به القاتل المعتدي يقول : لا يتعدى بالقتل بغير الحق فإنه إن فعل ذلك فولي المقتول منصور من قبلي عليه باستيفاء القصاص منه .
( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ( 34 ) وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ( 35 ) ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ( 36 ) )
( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد ( بالإتيان بما أمر الله به والانتهاء عما نهى الله عنه . وقيل : أراد بالعهد ما يلتزمه الإنسان على نفسه .
( إن العهد كان مسئولا ( قال السدي : كان مطلوبا وقيل : العهد يسأل عن صاحب العهد فيقال : فيما نقضت كالمؤودة تسأل فيم قتلت؟ ( وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس ( قرأ حمزة والكسائي وحفص " بالقسطاس " بكسر القاف والباقون بضمه وهما لغتان وهو الميزان صغر أو كبر أي : بميزان العدل وقال الحسن : هو القبان قال مجاهد : هو رومي وقال غيره : هو عربي مأخوذ من القسط وهو العدل أي : زنوا بالعدل ( المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ( أي : عاقبة . ( ولا تقف ما ليس لك به علم ( قال قتادة : لا تقل : رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه .
وقال مجاهد : لا ترم أحدا بما ليس لك به علم .
قال القتيبي : لا تتبعه بالحدس والظن . وهو في اللغة اتباع الأثر يقال : قفوت فلانا أقفوه وقفيته وأقفيته إذا اتبعت أثره وبه سميت القافية لتتبعهم الآثار .
قال القتيبي : هو مأخوذ من القفا كأنه يقفو الأمور أي : يكون في إقفائها يتبعها ويتعرفها .
وحقيقة المعنى : لا تتكلم [ أيها الإنسان ] بالحدس والظن .
( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ( قيل : معناه يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده . [ ص: 93 ]
وقيل : يسأل السمع والبصر والفؤاد عما فعله المرء .
وقوله : ( كل أولئك ( أي : كل هذه الجوارح والأعضاء وعلى القول الأول يرجع " أولئك " [ إلى ] أربابها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد بن الحسين أخبرنا أبو علي حامد بن محمد الرفاء حدثنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز أخبرنا الفضل بن دكين حدثنا سعد بن أوس العبسي حدثني بلال بن يحيى العبسي أن شتير بن شكل أخبره عن أبيه شكل بن حميد قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا نبي الله علمني تعويذا أتعوذ به فأخذ بيدي ثم قال : " قل : اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر لساني وشر قلبي وشر منيي " قال : فحفظتها قال سعد المني ماؤه .
ابو وليد البحيرى
2022-03-28, 09:23 PM
الحلقة (263)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
الاية37 إلى الاية 57
( ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ( 37 ) )
( ولا تمش في الأرض مرحا ( أي بطرا وكبرا وخيلاء وهو تفسير المشي فلذلك أخرجه على المصدر ، ( إنك لن تخرق الأرض ( أي لن تقطعها بكبرك حتى تبلغ آخرها ( ولن تبلغ الجبال طولا ( أي لا تقدر أن تطاول الجبال وتساويها بكبرك . معناه : أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئا كمن يريد خرق الأرض ومطاولة الجبال لا يحصل على شيء .
وقيل : ذكر ذلك لأن من مشى مختالا يمشي مرة على عقبيه ومرة على صدور قدميه فقيل له : إنك لن تنقب الأرض إن مشيت على عقبيك ولن تبلغ الجبال طولا إن مشيت على صدور قدميك .
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أخبرنا الهيثم بن كليب حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا أبي عن المسعودي عن عثمان بن مسلم بن هرمز عن نافع بن جبير بن مطعم عن علي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مشى يتكفأ تكفؤا كأنما ينحط من صبب " . [ ص: 94 ]
أخبرنا أبو محمد الجرجاني أخبرنا أبو القاسم الخزاعي أخبرنا الهيثم بن كليب حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن أبي يونس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه وما رأيت أحدا أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث " .
( كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ( 38 ) ( ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ( 39 ) )
( كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ( قرأ ابن عامر وأهل الكوفة : برفع الهمزة وضم الهاء على الإضافة ومعناه : كل الذي ذكرنا من قوله : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ( كان سيئه ) أي : سيئ ما عددنا عليك عند ربك مكروها; لأنه قد عد أمورا حسنة كقوله : ( وآت ذا القربى حقه ( واخفض لهما جناح الذل ( وغير ذلك .
وقرأ الآخرون : " سيئة " منصوبة منونة يعني : كل الذي ذكرنا من قوله : ( ولا تقتلوا أولادكم ( إلى هذا الموضع سيئة لا حسنة فيه إذ الكل يرجع إلى المنهي عنه دون غيره ولم يقل مكروهة لأن فيه تقديما وتأخيرا وتقديره : كل ذلك كان مكروها سيئة . [ وقوله ( مكروها ( على التكرير لا على الصفة مجازه : كل ذلك كان سيئة وكان مكروها ] أو رجع إلى المعنى دون اللفظ لأن السيئة الذنب وهو مذكر . ( ذلك ( الذي ذكرنا ( مما أوحى إليك ربك من الحكمة ( وكل ما أمر الله به أو نهى عنه فهو حكمة .
( ( ولا تجعل مع الله إلها آخر ) خاطب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات والمراد منه الأمة ( فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ( مطرودا مبعدا من كل خير .
[ ص: 95 ] ( أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما ( 40 ) ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا ( 41 ) قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ( 42 ) سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ( 43 ) تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ( 44 ) )
قوله عز وجل : ( أفأصفاكم ربكم ( أي : اختاركم فجعل لكم الصفوة ولنفسه ما ليس بصفوة يعني : اختاركم ( بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا ( لأنهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله ( إنكم لتقولون قولا عظيما ( يخاطب مشركي مكة . قوله عز وجل : ( ولقد صرفنا في هذا القرآن ( يعني : [ ما ذكر من ] العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والإعلام والتشديد للتكثير والتكرير ( ليذكروا ( أي : ليتذكروا ويتعظوا وقرأ حمزة والكسائي بإسكان الذال وضم الكاف وكذلك في الفرقان . ( وما يزيدهم ( تصريفنا وتذكيرنا ( إلا نفورا ( ذهابا وتباعدا عن الحق . ( قل ( يا محمد لهؤلاء المشركين ( لو كان معه آلهة كما يقولون ( قرأ حفص وابن كثير " يقولون " بالياء وقرأ الآخرون بالتاء ( إذا لابتغوا ( لطلبوا يعني الآلهة ( إلى ذي العرش سبيلا ( بالمبالغة والقهر ليزيلوا ملكه كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض .
وقيل : معناه لطلبوا إلى ذي العرش سبيلا بالتقرب إليه .
قال قتادة : لعرفوا الله وفضله وابتغوا ما يقربهم إليه .
والأول أصح . ثم نزه نفسه فقال عز من قائل : ( سبحانه وتعالى عما يقولون ( قرأ حمزة والكسائي " تقولون " بالتاء والآخرون بالياء ( علوا كبيرا ( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ( قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص ويعقوب : " تسبح " بالتاء وقرأ الآخرون بالياء للحائل بين الفعل والتأنيث . [ ص: 96 ]
( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ( روي عن ابن عباس أنه قال : وإن من شيء حي إلا يسبح بحمده .
وقال قتادة : يعني الحيوانات والناميات .
وقال عكرمة : الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح .
وعن المقدام بن معد يكرب قال : إن التراب يسبح ما لم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها فإذا رفعت تركت التسبيح وإن الورقة لتسبح ما دامت على الشجرة فإذا سقطت تركت التسبيح وإن الثوب ليسبح ما دام جديدا فإذا وسخ ترك التسبيح وإن الماء يسبح ما دام جاريا فإذا ركد ترك التسبيح وإن الوحش والطير تسبح إذا صاحت فإذا سكنت تركت التسبيح .
وقال إبراهيم النخعي : وإن من شيء جماد إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف .
وقال مجاهد : كل الأشياء تسبح لله حيا كان أو ميتا أو جمادا ، وتسبيحها سبحان الله وبحمده .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن المثنى أخبرنا أبو أحمد الزبير أخبرنا إسرائيل عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء فقال : " اطلبوا فضلة من ماء فجاءوا بإناء فيه ماء قليل فأدخل يده في الإناء ثم قال : حي على الطهور المبارك والبركة من الله فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل " .
وقال بعض أهل المعاني : تسبح السموات والأرض والجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء ما دلت بلطيف تركيبها وعجيب هيئتها على خالقها فيصير ذلك بمنزلة التسبيح منها .
والأول هو المنقول عن السلف .
واعلم أن لله تعالى علما في الجمادات لا يقف عليه غيره فينبغي أن يوكل علمه إليه .
( ولكن لا تفقهون تسبيحهم ( أي لا تعلمون تسبيح ما عدا من يسبح بلغاتكم وألسنتكم ( إنه كان حليما غفورا (
[ ص: 97 ] ( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ( 45 ) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ( 46 ) نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( 47 ) )
قوله عز وجل : ( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ( يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به .
قال قتادة : هو الأكنة والمستور بمعنى الساتر كقوله : " إنه كان وعده مأتيا " ( مريم - 61 ) مفعول بمعنى فاعل .
وقيل مستور عن أعين الناس فلا يرونه .
وفسره بعضهم بالحجاب عن الأعين الظاهرة ، كما روي عن سعيد بن جبير أنه لما نزلت : " تبت يدا أبي لهب " جاءت امرأة أبي لهب ومعها حجر والنبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر فلم تره فقالت لأبي بكر : أين صاحبك لقد بلغني أنه هجاني؟ فقال : والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله فرجعت وهي تقول قد كنت جئت بهذا الحجر لأرضخ رأسه فقال أبو بكر : ما رأتك يا رسول الله؟ قال : لا لم يزل ملك بيني وبينها يسترني . ( ( وجعلنا على قلوبهم أكنة ) أغطية ( أن يفقهوه ( كراهية أن يفقهوه . وقيل : لئلا يفقهوه ، ( وفي آذانهم وقرا ( ثقلا لئلا يسمعوه ( وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ( يعني إذا قلت : لا إله إلا الله في القرآن وأنت تتلوه ( ولوا على أدبارهم نفورا ( جمع " نافر " مثل : قاعد وقعود وجالس وجلوس أي نافرين . ( نحن أعلم بما يستمعون به ( قيل : " به " صلة أي : يطلبون سماعه ، ( إذ يستمعون إليك ( وأنت تقرأ القرآن ( وإذ هم نجوى ( يتناجون في أمرك وقيل : ذوو نجوى فبعضهم يقول : هذا مجنون وبعضهم يقول كاهن وبعضهم يقول : ساحر وبعضهم يقول : شاعر ( إذ يقول الظالمون ( يعني : الوليد بن المغيرة وأصحابه ، ( إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( مطبوبا [ وقال مجاهد ] [ ص: 98 ] مخدوعا . وقيل : مصروفا عن الحق . يقال : ما سحرك عن كذا أي ما صرفك؟
وقال أبو عبيدة : أي رجلا له سحر ، والسحر : الرئة أي إنه بشر مثلكم معلل بالطعام والشراب يأكل ويشرب قال الشاعر :
أرانا موضعين لحتم غيب ونسحر بالطعام وبالشراب أي نغذى ونعلل .
( انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ( 48 ) وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ( 49 ) ( قل كونوا حجارة أو حديدا ( 50 ) أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا ( 51 ) )
( انظر ( يا محمد ( كيف ضربوا لك الأمثال ( الأشباه ، قالوا : شاعر وساحر وكاهن ومجنون ( فضلوا ( فحاروا وحادوا ( فلا يستطيعون سبيلا ( أي : وصولا إلى طريق الحق . ( وقالوا أئذا كنا عظاما ( بعد الموت ، ( ورفاتا ( قال مجاهد : ترابا وقيل : حطاما . و " الرفات " : كل ما تكسر وبلى من كل شيء كالفتات والحطام . ( أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ) ( قل ) لهم يا محمد : ( كونوا حجارة أو حديدا ( في الشدة والقوة وليس هذا بأمر إلزام بل هو أمر تعجيز أي : استشعروا في قلوبكم أنكم حجارة أو حديد في القوة . ( أو خلقا مما يكبر في صدوركم ( قيل : السماء والأرض [ والجبال ] .
وقال مجاهد وعكرمة وأكثر المفسرين : إنه الموت فإنه ليس في نفس ابن آدم شيء أكبر من الموت أي : لو كنتم الموت بعينه لأميتنكم ولأبعثنكم .
( فسيقولون من يعيدنا ( من يبعثنا بعد الموت؟ ( قل الذي فطركم ( خلقكم ( أول مرة ( ومن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة ( فسينغضون إليك رءوسهم ( أي : يحركونها [ ص: 99 ] إذا قلت لهم ذلك مستهزئين بها ( ويقولون متى هو ( أي : البعث والقيامة ( قل عسى أن يكون قريبا ( أي : هو قريب لأن عسى من الله واجب ، نظيره قوله تعالى : " وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا " ( الأحزاب - 63 ) .
( يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ( 52 ) وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ( 53 ) ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا ( 54 ) )
( يوم يدعوكم ( من قبوركم إلى موقف القيامة ( فتستجيبون بحمده ( قال ابن عباس : بأمره وقال قتادة : بطاعته وقيل : مقرين بأنه خالقهم وباعثهم ويحمدونه حين لا ينفعهم الحمد وقيل : هذا خطاب مع المؤمنين فإنهم يبعثون حامدين . ( وتظنون إن لبثتم ( في الدنيا وفي القبور ( إلا قليلا ( لأن الإنسان لو مكث ألوفا من السنين في الدنيا وفي القبر عد ذلك قليلا في مدة القيامة والخلود قال قتادة : يستحقرون مدة الدنيا في جنب القيامة . قوله تعالى : ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ( قال الكلبي : كان المشركون يؤذون المسلمين فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأنزل الله تعالى : ( وقل لعبادي ( المؤمنين ( يقولوا ( للكافرين ( التي هي أحسن ( ولا يكافئوهم بسفههم . قال الحسن : يقول له : يهديك الله وكان هذا قبل الإذن في الجهاد والقتال .
وقيل : نزلت في عمر بن الخطاب شتمه بعض الكفار فأمره الله بالعفو .
وقيل : أمر الله المؤمنين بأن يقولوا ويفعلوا التي هي أحسن أي : الخلة التي هي أحسن .
وقيل : " الأحسن " كلمة الإخلاص لا إله إلا الله .
( إن الشيطان ينزغ بينهم ( أي : يفسد ويلقي العداوة بينهم ( إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ( ظاهر العداوة . ( ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم ( يوفقكم فتؤمنوا ( أو إن يشأ يعذبكم ( يميتكم على الشرك فتعذبوا قاله ابن جريج . [ ص: 100 ]
وقال الكلبي : إن يشأ يرحمكم فينجيكم من أهل مكة ، وإن يشأ يعذبكم فيسلطهم عليكم . ( وما أرسلناك عليهم وكيلا ( حفيظا وكفيلا قيل : نسختها آية القتال .
( وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا ( 55 ) قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ( 56 ) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ( 57 ) )
( وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ( أي : ربك العالم بمن في السموات والأرض فجعلهم مختلفين في صورهم وأخلاقهم وأحوالهم ومللهم .
( ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ( قيل جعل أهل السموات والأرض مختلفين كما فضل بعض النبيين على بعض .
قال قتادة في هذه الآية : اتخذ الله إبراهيم خليلا وكلم موسى تكليما وقال لعيسى : كن فيكون وآتى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وآتى داود زبورا كما قال : ( وآتينا داود زبورا ( والزبور : كتاب علمه الله داود يشتمل على مائة وخمسين سورة كلها دعاء وتمجيد وثناء على الله عز وجل وليس فيها حرام ولا حلال ولا فرائض ولا حدود .
معناه : إنكم لم تنكروا تفضيل النبيين فكيف تنكرون فضل النبي صلى الله عليه وسلم وإعطاءه القرآن؟ وهذا خطاب مع من يقر بتفضيل الأنبياء عليهم السلام من أهل الكتاب وغيرهم . قوله عز وجل : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه ( وذلك أن المشركين أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف فاستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم قال الله تعالى : ( قل ( للمشركين ( ادعوا الذين زعمتم من دونه ( أنها آلهة ( فلا يملكون كشف الضر ( القحط والجوع ( عنكم ولا تحويلا ( إلى غيركم أو تحويل الحال من العسر إلى اليسر . ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ( يعني الذين يدعونهم المشركون آلهة يعبدونهم . [ ص: 101 ]
قال ابن عباس ومجاهد : وهم عيسى وأمه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم " يبتغون " أي يطلبون إلى ربهم " الوسيلة " أي القربة . وقيل : الوسيلة الدرجة العليا أي : يتضرعون إلى الله في طلب الدرجة العليا .
وقيل : الوسيلة كل ما يتقرب به إلى الله تعالى .
وقوله : ( أيهم أقرب ( معناه : ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به وقال الزجاج : أيهم أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله تعالى ويتقرب إليه بالعمل الصالح ( ويرجون رحمته ( جنته ( ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ( أي يطلب منه الحذر .
وقال عبد الله بن مسعود : نزلت الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون ولم يعلم الإنس الذين كانوا يعبدونهم بإسلامهم فتمسكوا بعبادتهم فعيرهم الله وأنزل هذه الآية .
وقرأ ابن مسعود " أولئك الذين تدعون " بالتاء .
ابو وليد البحيرى
2022-03-28, 09:29 PM
الحلقة (264)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
الاية58 إلى الاية 71
( وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا ( 58 ) )
( وإن من قرية ( وما من قرية ( إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة ( أي : مخربوها ومهلكوا أهلها ( أو معذبوها عذابا شديدا ( بأنواع العذاب إذا كفروا وعصوا وقال مقاتل وغيره : مهلكوها في حق المؤمنين بالإماتة ومعذبوها في حق الكفار بأنواع العذاب .
قال عبد الله بن مسعود : إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله في هلاكها .
( كان ذلك في الكتاب ( في اللوح المحفوظ ( مسطورا ( مكتوبا .
قال عبادة بن الصامت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول ما خلق الله القلم فقال اكتب فقال ما أكتب؟ قال القدر وما كان وما هو كائن إلى الأبد " . [ ص: 102 ]
قوله عز وجل : ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ( قال ابن عباس : سأل أهل مكة [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا فأوحى الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن أستأني بهم فعلت وإن شئت أن أوتيهم ما سألوا فعلت فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم [ من الأمم ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا بل تستأني بهم " فأنزل الله عز وجل
( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ( 59 ) وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ( 60 ) )
( وما منعنا أن نرسل بالآيات ( التي سألها كفار قريش ( إلا أن كذب بها الأولون ( فأهلكناهم فإن لم يؤمن قومك بعد إرسال الآيات أهلكتهم لأن من سنتنا في الأمم إذا سألوا الآيات ثم لم يؤمنوا بعد إتيانها أن نهلكهم ولا نمهلهم وقد حكمنا بإهلاك هذه الأمة بالعذاب فقال جل ذكره : " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " ( القمر - 46 ) ثم قال :
( وآتينا ثمود الناقة مبصرة ( مضيئة بينة ( فظلموا بها ( أي : جحدوا بها أنها من عند الله كما قال : " بما كانوا بآياتنا يظلمون " ( الأعراف - 9 ) أي : يجحدون وقيل : ظلموا أنفسهم بتكذيبها يريد فعاجلناهم بالعقوبة .
( وما نرسل بالآيات ( أي : العبر والدلالات ( إلا تخويفا ( للعباد ليؤمنوا
قال قتادة إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يرجعون . قوله عز وجل : ( وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس ( أي : هم في قبضته لا يقدرون على الخروج عن مشيئته فهو حافظك ومانعك منهم فلا تهبهم وامض إلى ما أمرك به من تبليغ الرسالة [ ص: 103 ] كما قال : " والله يعصمك من الناس " ( المائدة - 67 )
( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ( فالأكثرون على أن المراد منه ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم [ ليلة المعراج من العجائب والآيات .
قال ابن عباس : هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ] وهو قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج والأكثرين والعرب تقول : رأيت بعيني رؤية ورؤيا فلما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أنكر بعضهم ذلك وكذبوا فكان فتنة للناس .
وقال قوم : [ أسري بروحه دون بدنه .
وقال بعضهم : كان له معراجان : معراج رؤية بالعين ومعراج رؤيا بالقلب .
وقال قوم ] . أراد بهذه الرؤيا ما رأى صلى الله عليه وسلم عام الحديبية أنه دخل مكة هو وأصحابه فعجل السير إلى مكة قبل الأجل فصده المشركون فرجع إلى المدينة وكان رجوعه في ذلك العام بعدما أخبر أنه يدخلها فتنة لبعضهم حتى دخلها في العام المقبل فأنزل الله تعالى : " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق " ( الفتح - 27 ) .
( والشجرة الملعونة في القرآن ( يعني شجرة الزقوم ، مجازه : والشجرة الملعونة المذكورة في القرآن والعرب تقول لكل طعام كريه : طعام ملعون . وقيل : [ معناه الملعون ] آكلها ونصب الشجرة عطفا على الرؤيا أي : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة إلا فتنة للناس فكانت الفتنة في الرؤيا ما ذكرنا .
والفتنة في الشجرة الملعونة من وجهين ، أحدهما : أن أبا جهل قال : إن ابن أبي كبشة يوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنه ينبت فيها شجرة وتعلمون أن النار تحرق الشجرة .
والثاني أن عبد الله بن الزبعرى قال : إن محمدا يخوفنا بالزقوم ولا نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر وقال أبو جهل : يا جارية تعالي فزقمينا فأتت بالتمر والزبد فقال : يا قوم [ تزقموا ] فإن هذا ما يخوفكم به محمد فوصفها الله تعالى في الصافات . [ ص: 104 ]
وقيل : الشجرة الملعونة هي : التي تلتوي على الشجر فتجففه يعني الكشوث .
( ونخوفهم فما يزيدهم ( التخويف ( إلا طغيانا كبيرا ( أي : تمردا وعتوا عظيما .
( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ( 61 ) قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ( 62 ) قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ( 63 ) واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ( 64 ) )
( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ( أي : خلقته من طين أنا جئت به وذلك ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن الله تعالى بعث إبليس حتى أخذ كفا من تراب الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم فمن خلقه من العذب فهو سعيد وإن كان ابن كافرين ومن خلقه من الملح فهو شقي وإن كان ابن نبيين . ( قال ( يعني إبليس ( أرأيتك ( أي : أخبرني والكاف لتأكيد المخاطبة ( هذا الذي كرمت علي ( أي : فضلته علي ( لئن أخرتن ( أمهلتني ( إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته ( أي : لأستأصلنهم بالإضلال يقال : احتنك الجراد الزرع إذا أكله كله وقيل هو من قول العرب حنك الدابة يحنكها : إذا شد في حنكها الأسفل حبلا يقودها أي : لأقودنهم كيف شئت وقيل لأستولين عليهم بالإغواء ( إلا قليلا ( يعني المعصومين الذين استثناهم الله عز وجل في قوله : " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " ( الحجر - 42 ) . ( قال ( الله : ( اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم ( أي : جزاؤك وجزاء أتباعك ( جزاء موفورا ( وافرا مكملا يقال : وفرته أوفره وفرا . وقوله : ( واستفزز ( واستخفف واستجهد ( من استطعت منهم ( أي : من ذرية آدم [ ص: 105 ] ( بصوتك ( قال ابن عباس وقتادة : بدعائك إلى معصية الله . وكل داع إلى معصية الله [ فهو من جند إبليس .
قال الأزهري : معناه ادعهم دعاء تستفزهم به إلى جانبك أي : تستخفهم ] .
وقال مجاهد : بالغناء والمزامير .
( وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ( قيل : اجمع عليهم مكايدك وخيلك ، ويقال : " أجلبوا " و " جلبوا " إذا صاحوا يقول : صح بخيلك ورجلك وحثهم عليه بالإغواء .
قال مقاتل : استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم والخيل : الركبان والرجل : المشاة .
قال أهل التفسير : كل راكب وماش في معاصي الله فهو من جند إبليس .
وقال مجاهد وقتادة : إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس ، وهو كل من يقاتل في المعصية والرجل والرجالة والراجلة واحد يقال : راجل ورجل مثل : تاجر وتجر وراكب وركب وقرأ حفص ورجلك بكسر الجيم وهما لغتان .
( ( وشاركهم في الأموال والأولاد ) فالمشاركة في الأموال : كل ما أصيب من حرام أو أنفق في حرام هذا قول مجاهد والحسن وسعيد بن جبير .
وقال عطاء : هو الربا وقال قتادة هو ما كان المشركون يحرمونه من الأنعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام .
وقال الضحاك : هو ما كانوا يذبحونه لآلهتهم .
وأما الشركة في الأولاد : روي عن ابن عباس : أنها الموءودة .
وقال مجاهد والضحاك : هم أولاد الزنا .
وقال الحسن ، وقتادة : هو أنهم هودوا أولادهم ونصروهم ومجسوهم .
وعن ابن عباس رواية أخرى : هو تسميتهم الأولاد عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزى وعبد الدار ونحوها [ ص: 106 ]
وروي عن جعفر بن محمد أن الشيطان يقعد على ذكر الرجل فإذا لم يقل : " بسم الله " أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل .
وروي في بعض الأخبار : إن فيكم مغربين قيل : وما المغربون؟ قال : الذين يشارك فيهم الجن .
وروي أن رجلا قال لابن عباس : إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة من نار؟ قال : ذلك من وطء الجن .
وفي الآثار : أن إبليس لما أخرج إلى الأرض قال : يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فسلطني عليه وعلى ذريته قال : أنت مسلط فقال : لا أستطيعه إلا بك فزدني قال : واستفزز من استطعت منهم بصوتك الآية فقال آدم : يا رب سلطت إبليس علي وعلى ذريتي وإني لا أستطيعه إلا بك قال : لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظونه قال : زدني قال : الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها قال : زدني قال : التوبة معروضة ما دام الروح في الجسد فقال : زدني قال : " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " الآية ( الزمر - 53 ) .
وفي الخبر : أن إبليس قال : يا رب بعثت أنبياء وأنزلت كتبا فما قراءتي؟ قال : الشعر قال : فما كتابي؟ قال : الوشم قال : ومن رسلي؟ قال : الكهنة قال : وأين مسكني؟ قال الحمامات قال : وأين مجلسي؟ قال : الأسواق قال : أي شيء مطعمي؟ قال : ما لم يذكر عليه اسمي قال : ما شرابه؟ قال : كل مسكر قال : وما حبالي؟ قال النساء قال : وما أذاني؟ قال : المزامير .
قوله عز وجل ( وعدهم ( أي : منهم الجميل في طاعتك . وقيل : قل لهم : لا جنة ولا نار ولا بعث .
( وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ( والغرور تزيين الباطل بما يظن أنه حق .
فإن قيل : كيف ذكر الله هذه الأشياء وهو يقول : " إن الله لا يأمر بالفحشاء " ( الأعراف - 28 ) ؟
قيل : هذا على طريق التهديد كقوله تعالى : " اعملوا ما شئتم " ( فصلت - 40 ) وكقول القائل : افعل ما شئت فسترى .
[ ص: 107 ] ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ( 65 ) ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما ( 66 ) ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ( 67 ) أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا ( 68 ) أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ( 69 ) )
قوله ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ( أي حافظا من يوكل الأمر إليه . قوله عز وجل ( ربكم الذي يزجي لكم الفلك ( أي : يسوق ويجري لكم الفلك ( في البحر لتبتغوا من فضله ( لتطلبوا من رزقه ( إنه كان بكم رحيما ( وإذا مسكم الضر ( الشدة وخوف الغرق ( في البحر ضل ( أي : بطل وسقط ( من تدعون ( من الآلهة ( إلا إياه ( إلا الله فلم تجدوا مغيثا غيره وسواه ( فلما نجاكم ( أجاب دعاءكم وأنجاكم من هول البحر وأخرجكم ( إلى البر أعرضتم ( عن الإيمان والإخلاص والطاعة كفرا منكم لنعمه ( وكان الإنسان كفورا ) ( أفأمنتم ) بعد ذلك ( أن يخسف بكم ) يغور بكم ( جانب البر ) ناحية البر وهي الأرض ( أو يرسل عليكم حاصبا ( أي : يمطر عليكم حجارة من السماء كما أمطر على قوم لوط وقال أبو عبيدة والقتيبي : الحاصب : الريح التي ترمي بالحصباء وهي الحصا الصغار ( ثم لا تجدوا لكم وكيلا ( قال قتادة : مانعا . ( أم أمنتم أن يعيدكم فيه ( يعني في البحر ( تارة ( مرة ( أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح ( قال ابن عباس : أي : عاصفا وهي الريح الشديدة .
وقال أبو عبيدة : هي الريح التي تقصف كل شيء أي تدقه وتحطمه .
وقال القتيبي : هي التي تقصف الشجر أي تكسره . [ ص: 108 ]
( فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ( ناصرا ولا ثائرا و " تبيع " بمعنى تابع أي تابعا مطالبا بالثأر . وقيل : من يتبعنا بالإنكار .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " أن نخسف ونرسل ونعيدكم فنرسل فنغرقكم " بالنون فيهن لقوله " علينا " وقرأ الآخرون بالياء لقوله " " إلا إياه " وقرأ أبو جعفر ويعقوب : " فتغرقكم " بالتاء يعني الريح .
( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ( 70 ) )
قوله عز وجل ( ولقد كرمنا بني آدم ( روي عن ابن عباس أنه قال : هو أنهم يأكلون بالأيدي وغير الآدمي يأكل بفيه من الأرض وروي عنه أنه قال : بالعقل .
وقال الضحاك : بالنطق وقال عطاء : بتعديل القامة وامتدادها والدواب منكبة على وجوهها وقيل : بحسن الصورة وقيل : الرجال باللحى والنساء بالذوائب وقيل : بأن سخر لهم سائر الأشياء وقيل : بأن منهم خير أمة أخرجت للناس .
( وحملناهم في البر والبحر ( أي : حملناهم في البر على الدواب وفي البحر على السفن .
( ورزقناهم من الطيبات ( يعني : لذيذ المطاعم والمشارب قال مقاتل : السمن والزبد والتمر والحلوى وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى .
( وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ( وظاهر الآية أنه فضلهم على كثير ممن خلقهم لا على الكل .
وقال قوم : فضلوا على جميع الخلق إلا على الملائكة .
وقال الكلبي : فضلوا على الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم .
وفي تفضيل الملائكة على البشر اختلاف فقال قوم : فضلوا على جميع الخلق وعلى الملائكة كلهم وقد يوضع الأكثر موضع الكل كما قال تعالى : " هل أنبئكم على من تنزل الشياطين " إلى قوله تعالى : " وأكثرهم كاذبون " ( الشعراء - 221 - 222 ) أي : كلهم . [ ص: 109 ]
وفي الحديث عن جابر يرفعه قال : " لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة : يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة فقال تعالى : لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له : كن فكان " .
والأولى أن يقال : عوام المؤمنين أفضل من عوام الملائكة وخواص المؤمنين أفضل من خواص الملائكة قال الله تعالى : " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية " ( البينة - 7 ) .
وروي عن أبي هريرة أنه قال : " المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده " .
( يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ( 71 ) )
قوله عز وجل ( يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) قال مجاهد وقتادة : بنبيهم وقال أبو صالح والضحاك : بكتابهم الذي أنزل عليهم .
وقال الحسن وأبو العالية : بأعمالهم .
وقال قتادة أيضا : بكتابهم الذي فيه أعمالهم بدليل سياق الآية .
( فمن أوتي كتابه بيمينه ( ويسمى الكتاب إماما كما قال عز وجل : " وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " ( يس - 12 ) .
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : بإمام زمانهم الذي دعاهم في الدنيا إلى ضلالة أو هدى قال الله تعالى : " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا " ( الأنبياء - 73 ) وقال : " وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار " ( القصص - 41 ) . [ ص: 110 ]
وقيل : بمعبودهم وعن سعيد بن المسيب قال : كل قوم يجتمعون إلى رئيسهم في الخير والشر .
وقال محمد بن كعب : ( بإمامهم ( قيل : يعني بأمهاتهم وفيه ثلاثة أوجه من الحكمة أحدها : لأجل عيسى عليه السلام والثاني : لشرف الحسن والحسين والثالث : لئلا يفتضح أولاد الزنا .
( فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ( أي لا ينقص من حقهم قدر فتيل .
ابو وليد البحيرى
2022-03-28, 09:34 PM
الحلقة (265)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
الاية72 إلى الاية 79
( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ( 72 ) )
( ومن كان في هذه أعمى ( اختلفوا في هذه الإشارة فقال قوم : هي راجعة إلى النعم التي عددها الله تعالى في هذه الآيات من قوله : ( ربكم الذي يزجي لكم الفلك ( إلى قوله ( تفضيلا ( يقول : من كان منكم في هذه النعم التي قد عاين أعمى ( فهو في ( أمر ( الآخرة ( التي لم يعاين ولم ير ( أعمى وأضل سبيلا ( يروى هذا عن ابن عباس .
وقال الآخرون : هي راجعة إلى الدنيا يقول : من كان في هذه الدنيا أعمى القلب عن رؤية قدرة الله وآياته ورؤية الحق فهو في الآخرة أعمى أي : أشد عمى وأضل سبيلا أي : أخطأ طريقا .
وقيل : من كان في هذه الدنيا أعمى عن الاعتبار فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار .
وقال الحسن : من كان في هذه الدنيا ضالا كافرا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته . [ ص: 111 ]
وأمال بعض القراء هذين الحرفين وفتحهما بعضهم وكان أبو عمرو يكسر الأول ويفتح الثاني فهو في الآخرة أشد عمى لقوله " وأضل سبيلا " .
( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ( 73 ) )
قوله عز وجل : ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ) الآية اختلفوا في سبب نزولها :
قال سعيد بن جبير : كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود فمنعته قريش وقالوا : [ لا تلم ] حتى تلم بآلهتنا وتمسها فحدث نفسه : ما علي أن أفعل ذلك والله تعالى يعلم أني لها كاره بعد أن يدعوني حتى أستلم الحجر الأسود .
وقيل : طلبوا منه أن يمس آلهتهم حتى يسلموا ويتبعوه فحدث نفسه بذلك فأنزل الله هذه الآية .
قال ابن عباس : قدم وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال قال : وما هن؟ قالوا : أن لا ننحني - أي في الصلاة - ولا نكسر أصنامنا بأيدينا وأن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود وأما أن تكسروا أصنامكم بأيديكم فذاك لكم وأما الطاغية - يعني اللات والعزى - فإني غير ممتعكم بها " فقالوا : يا رسول الله إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل : الله أمرني بذلك؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فأنزل الله عز وجل هذه الآية . ( وإن كادوا ليفتنونك ( ليصرفونك ( عن الذي أوحينا إليك ) ( لتفتري ) لتختلق ( علينا غيره وإذا ) لو فعلت ما دعوك إليه ( لاتخذوك خليلا ) أي : والوك وصافوك .
[ ص: 112 ] ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ( 74 ) إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ( 75 ) ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ( 76 ) )
( ولولا أن ثبتناك ) على الحق بعصمتنا ( لقد كدت تركن ) أي : تميل ( إليهم شيئا قليلا ) أي : قريبا من الفعل .
فإن قيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوما فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه وما طلبوه كفر؟
قيل : كان ذلك خاطر قلب ولم يكن عزما وقد غفر الله عز وجل عن حديث النفس .
قال قتادة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد ذلك : " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين " .
والجواب الصحيح هو أن الله تعالى قال : ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) وقد ثبته الله ولم يركن وهذا مثل قوله تعالى : " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " ( النساء - 83 ) [ وقد تفضل فلم يتبعوا ] . ( إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ) أي : لو فعلت ذلك لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يعني : أضعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة .
وقيل : " الضعف " : هو العذاب سمي ضعفا لتضاعف الألم فيه .
( ثم لا تجد لك علينا نصيرا ) أي : ناصرا يمنعك من عذابنا . قوله تعالى : ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ) اختلفوا في معنى الآية فقال بعضهم : هذه الآية مدنية قال الكلبي : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كره اليهود مقامه بالمدينة حسدا منهم فأتوه وقالوا : يا أبا القاسم لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء فإن أرض الأنبياء الشام [ وهي الأرض المقدسة وكان بها إبراهيم والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن كنت نبيا مثلهم فأت الشام ] وإنما يمنعك من الخروج إليها مخافتك الروم وإن الله سيمنعك من الروم إن كنت رسوله [ ص: 113 ] فعسكر النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أميال من المدينة وفي رواية : إلى ذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويخرج فأنزل الله هذه الآية و " الأرض " هاهنا هي المدينة .
وقال مجاهد وقتادة : " الأرض " أرض مكة والآية مكية هم المشركون أن يخرجوه منها فكفهم الله عنه حتى أمره بالهجرة فخرج بنفسه وهذا أليق بالآية لأن ما قبلها خبر عن أهل مكة والسورة مكية .
وقيل : هم الكفار كلهم أرادوا أن يستفزوه من أرض العرب باجتماعهم وتظاهرهم عليه فمنع الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ولم ينالوا منه ما أملوا والاستفزاز هو الإزعاج بسرعة .
( وإذا لا يلبثون خلافك ) أي بعدك وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص ويعقوب ( خلافك ) اعتبارا بقوله تعالى : " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله " ( التوبة - 81 ) ومعناهما واحد . ( إلا قليلا ) أي : لا يلبثون بعدك إلا قليلا حتى يهلكوا فعلى هذا القول الأول : مدة حياتهم وعلى الثاني : ما بين خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إلى أن قتلوا ببدر .
( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ( 77 ) )
قوله عز وجل : ( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ) أي : كسنتنا فانتصب بحذف الكاف وسنة الله في الرسل إذا كذبتهم الأمم أن لا يعذبهم ما دام نبيهم بين أظهرهم فإذا خرج نبيهم من بين أظهرهم عذبهم .
( ولا تجد لسنتنا تحويلا ) أي تبديلا .
[ ص: 114 ] ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ( 78 ) )
قوله : ( أقم الصلاة لدلوك الشمس ) اختلفوا في الدلوك : روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : الدلوك هو الغروب وهو قول إبراهيم النخعي ومقاتل بن حيان والضحاك والسدي .
وقال ابن عباس : وابن عمر وجابر : هو زوال الشمس وهو قول عطاء وقتادة ومجاهد والحسن وأكثر التابعين .
ومعنى اللفظ يجمعهما لأن أصل الدلوك الميل والشمس تميل إذا زالت وغربت .
والحمل على الزوال أولى القولين لكثرة القائلين به ولأنا إذا حملناه عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها " فدلوك الشمس " : يتناول صلاة الظهر والعصر و " إلى غسق الليل " : يتناول المغرب والعشاء و " قرآن الفجر " : هو صلاة الصبح .
قوله عز وجل : ( إلى غسق الليل ) أي : ظهور ظلمته وقال ابن عباس : بدو الليل وقال قتادة : وقت صلاة المغرب وقال مجاهد : غروب الشمس .
( وقرآن الفجر ) يعني : صلاة الفجر سمى صلاة الفجر قرآنا لأنها لا تجوز إلا بقرآن وانتصاب القرآن من وجهين : أحدهما : أنه عطف على الصلاة أي : وأقم قرآن الفجر قاله الفراء وقال أهل البصرة : على الإغراء أي وعليك قرآن الفجر .
( ( إن قرآن الفجر كان مشهودا ) أي : يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " تفضل صلاة الجميع على صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر " ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : ( إن قرآن الفجر كان مشهودا ) .
[ ص: 115 ] ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ( 79 ) )
قوله تعالى : ( ومن الليل فتهجد به ) أي : قم بعد نومك والتهجد لا يكون إلا بعد النوم يقال : تهجد إذا قام بعدما نام وهجد إذا نام .
والمراد من الآية : قيام الليل للصلاة .
وكانت صلاة الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم في الابتداء وعلى الأمة لقوله تعالى : " يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا " ( المزمل - 1 ) ثم نزل التخفيف فصار الوجوب منسوخا في حق الأمة بالصلوات الخمس وبقي الاستحباب قال الله تعالى : " فاقرءوا ما تيسر منه " ( المزمل - 20 ) وبقي الوجوب في حق النبي صلى الله عليه وسلم .
وروي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث هن علي فريضة وهن سنة لكم : الوتر [ والسواك ] وقيام الليل " .
قوله عز وجل : ( نافلة لك ) أي : زيادة لك يريد : فضيلة زائدة على سائر الفرائض فرضها الله عليك .
وذهب قوم إلى أن الوجوب صار منسوخا في حقه كما في حق الأمة فصارت نافلة وهو قول مجاهد وقتادة لأن الله تعالى قال : " نافلة لك " ولم يقل عليك .
فإن قيل : فما معنى التخصيص وهي زيادة في حق كافة المسلمين كما في حقه صلى الله عليه وسلم؟
قيل : التخصيص من حيث إن نوافل العباد كفارة لذنوبهم والنبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكانت نوافله لا تعمل في كفارة الذنوب فتبقى له زيادة في رفع الدرجات . [ ص: 116 ]
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا قتيبة وبشر بن معاذ قالا حدثنا أبو عوانة عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت قدماه فقيل له : أتتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : " أفلا أكون عبدا شكورا " .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكرة عن أبيه عن عبد الله بن قيس بن مخرمة أنه أخبره عن زيد بن خالد الجهني أنه قال : " لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة فتوسدت عتبته أو فسطاطه فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما [ ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ] ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه أخبره أنه سأل عائشة رضي الله عنها : كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ قال : فقالت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا . قالت عائشة فقلت : يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال : " يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي " .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرايني أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق أخبرنا يونس بن هارون بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس وابن أبي ذئب وعمر بن الحارث أن ابن شهاب أخبرهم عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى [ ص: 117 ] عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بواحدة فيسجد السجدة قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت المؤذن من أذان الفجر وتبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة فيخرج " وبعضهم يزيد على بعض .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا عبد الرحمن بن منيب أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصليا إلا رأيناه ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه وقال : كان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئا ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئا .
قوله عز وجل : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) عسى من الله تعالى واجب لأنه لا يدع أن يعطي عباده أو يفعل بهم ما أطمعهم فيه .
والمقام المحمود هو : مقام الشفاعة لأمته لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون : أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني حدثنا حميد بن زنجويه أخبرنا عبد الله بن يزيد المقري أخبرنا حياة عن كعب عن علقمة عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا علي بن عباس حدثنا سعيد بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة " . [ ص: 118 ]
أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا عبد الرحيم بن منيب أخبرنا يعلى عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي وهي نائلة منكم - إن شاء الله - من مات لا يشرك بالله شيئا " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل قال : وقال حجاج بن منهال حدثنا همام بن يحيى حدثنا قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهتموا بذلك فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون : أنت آدم أبو الناس خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فيقول : لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب وأكله من الشجرة وقد نهي عنها ولكن ائتوا نوحا أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض .
فيأتون نوحا فيقول : لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب ، سؤاله ربه بغير علم ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن قال فيأتون إبراهيم فيقول : إني لست هناكم ويذكر ثلاث كذبات كذبهن ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه الله التوراة وكلمه وقربه نجيا .
قال : فيأتون موسى فيقول إني لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب بقتل النفس ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلمته .
فيأتون عيسى فيقول : لست هناكم ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
قال : فيأتوني فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول : ارفع رأسك يا محمد وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرج فأخرجهم فأدخلهم الجنة . [ ص: 119 ]
قال قتادة : وسمعته أيضا يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ، ثم أعود فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول : ارفع رأسك يا محمد وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة [ ثم أعود الثالثة فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول ارفع رأسك يا محمد وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة " ] .
قال قتادة : وقد سمعته أيضا يقول : " فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن " - أي وجب عليه الخلود - قال : ثم تلا هذه الآية : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) [ قال : " وهذا المقام المحمود ] الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم " .
وبهذا الإسناد قال : حدثنا [ محمد بن إسماعيل حدثنا ] سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنا معبد بن هلال الغزي قال : ذهبنا إلى أنس بن مالك فذكر حديث الشفاعة بمعناه وقال : " فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا فيقال : يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع [ وسل تعطه ] واشفع تشفع فأقول : يا رب أمتي أمتي فيقول : انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا وذكر مثله فيقال : " انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من الإيمان فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا وذكر مثله ثم يقال : انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان فأنطلق فأفعل . فلما خرجنا من عند أنس مررنا بالحسن فسلمنا عليه فحدثناه بالحديث إلى هذا الموضع فقال : هيه فقلنا : لم يزدنا على هذا فقال : لقد حدثني وهو [ يومئذ جميع ] منذ عشرين سنة كما حدثكم ثم قال : ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال : يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأقول يا ربي أتأذن في من قال لا إله إلا الله؟ فيقول : وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله " . [ ص: 120 ]
وروي عن عبد الله بن عمر قال : " إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم [ فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم " .
وأخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد ] بن مامويه حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان حدثنا محمد بن حمويه حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا منصور بن أبي الأسود حدثنا الليث عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا أولهم خروجا [ إذا بعثوا ] وأنا قائدهم إذا وفدوا وأنا خطيبهم إذا أنصتوا وأنا شفيعهم إذا حبسوا [ وأنا مبشرهم إذا أيسوا ] الكرامة والمفاتيح يومئذ بيدي ولواء الحمد يومئذ بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي يطوف علي ألف خادم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أخبرنا عبد الغافر بن محمد أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثني الحكم بن موسى حدثنا معقل بن زياد عن الأوزاعي حدثني أبو عمار حدثني عبد الله بن فروخ حدثني أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع "
والأخبار في الشفاعة كثيرة وأول من أنكرها عمرو بن عبيد وهو مبتدع باتفاق أهل السنة . [ ص: 121 ]
وروي عن يزيد بن صهيب الفقير قال : كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج وكنت رجلا شابا فخرجنا في عصابة نريد أن نحج فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الجهنميين فقلت له : يا صاحب رسول الله ما هذا الذي يحدثون والله عز وجل يقول : " إنك من تدخل النار فقد أخزيته " ( آل عمران - 192 ) و " كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها " ( السجدة - 20 ) ؟ فقال لي : يا فتى تقرأ القرآن؟ قلت : نعم قال : هل سمعت بمقام محمد المحمود الذي يبعثه الله فيه؟ قلت : نعم قال : فإنه مقام محمد المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار [ ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه ] وأن قوما يخرجون من النار بعدما يكونون فيها قال : فرجعنا وقلنا أترون هذا الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .
وروي عن أبي وائل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عز وجل اتخذ إبراهيم خليلا وإن صاحبكم حبيب الله وأكرم الخلق على الله " ثم قرأ : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) [ قال : يقعد على العرش ] .
[ وعن مجاهد في قوله تعالى : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) قال : يجلسه على العرش ] .
وعن عبد الله بن سلام قال : يقعده على الكرسي .
ابو وليد البحيرى
2022-03-28, 09:39 PM
الحلقة (266)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
الاية80 إلى الاية 89
( وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ( 80 ) )
قوله عز وجل : ( وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ) والمراد من [ ص: 122 ] المدخل والمخرج : الإدخال والإخراج واختلف أهل التفسير فيه :
فقال ابن عباس والحسن وقتادة : " أدخلني مدخل صدق " : المدينة . " وأخرجني مخرج صدق " : مكة ، نزلت حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة .
وقال الضحاك : " وأخرجني مخرج صدق " : من مكة آمنا من المشركين " وأدخلني مدخل صدق " : مكة ظاهرا عليها بالفتح .
وقال مجاهد : أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مدخل صدق الجنة وأخرجني من الدنيا وقد قمت بما وجب علي من حقها مخرج صدق .
وعن الحسن أنه قال : " أدخلني مدخل صدق " : الجنة " وأخرجني مخرج صدق " : من مكة .
وقيل : أدخلني في طاعتك وأخرجني من المناهي وقيل : معناه أدخلني حيث ما أدخلتني بالصدق وأخرجني بالصدق ، أي : لا تجعلني ممن يدخل بوجه ويخرج بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون آمنا ووجيها عند الله .
ووصف الإدخال والإخراج بالصدق لما يئول إليه الخروج والدخول من النصر والعز ودولة الدين كما وصف القدم بالصدق فقال : " أن لهم قدم صدق عند ربهم " ( يونس - 2 ) .
( واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ) قال مجاهد : حجة بينة وقال الحسن : ملكا قويا تنصرني به على من ناوأني وعزا ظاهرا أقيم به دينك . فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرهما فيجعله له .
قال قتادة : علم نبي الله صلى الله عليه وسلم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان [ نصير ] فسأل سلطانا نصيرا : كتاب الله وحدوده وإقامة دينه .
( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ( 81 ) )
قوله عز وجل : ( وقل جاء الحق ) يعني القرآن ( وزهق الباطل ) أي : الشيطان قال قتادة وقال السدي : " الحق " : الإسلام و " الباطل " : الشرك وقيل : " الحق " : عبادة الله و " الباطل " : عبادة الأصنام .
( إن الباطل كان زهوقا ) ذاهبا يقال : زهقت نفسه أي خرجت .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي حدثنا محمد بن يوسف حدثنا [ ص: 123 ] محمد بن إسماعيل حدثنا صدقة بن الفضل حدثنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود [ في يده ] ويقول : " جاء الحق وزهق الباطل " " جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد " .
( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ( 82 ) وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا ( 83 ) )
قوله عز وجل : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) قيل : " من " ليس للتبعيض ومعناه : وننزل من القرآن ما كله شفاء أي : بيان من الضلالة والجهالة يتبين به المختلف ويتضح به المشكل ويستشفى به من الشبهة ويهتدى به من الحيرة فهو شفاء القلوب بزوال الجهل عنها ورحمة للمؤمنين .
( ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) لأن الظالم لا ينتفع به والمؤمن من ينتفع به فيكون رحمة له .
وقيل : زيادة الخسارة للظالم من حيث أن كل آية تنزل يتجدد منهم تكذيب ويزداد لهم خسارة .
قال قتادة : لم يجالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان قضى الله الذي قضى شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا . قوله تعالى : ( وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ) عن ذكرنا ودعائنا ( ونأى بجانبه ) أي تباعد عنا بنفسه أي ترك التقرب إلى الله بالدعاء وقال عطاء : تعظم وتكبر . ويكسر النون والهمزة حمزة والكسائي ويفتح النون ويكسر الهمزة أبو بكر وقرأ ابن عامر وأبو جعفر " وناء " مثل جاء قيل : هو بمعنى نأى وقيل : ناء من النوء وهو النهوض والقيام .
( وإذا مسه الشر ) الشدة والضرر ( كان يئوسا ) أي آيسا قنوطا . وقيل : معناه أنه يتضرع ويدعو عند الضر والشدة فإذا تأخرت الإجابة يئس ولا ينبغي للمؤمن أن ييأس من الإجابة وإن تأخرت فيدع الدعاء .
[ ص: 124 ] ( ( قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ( 84 ) ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ( 85 ) )
قوله عز وجل : ( قل كل يعمل على شاكلته ) قال ابن عباس : على ناحيته .
قال الحسن وقتادة على نيته .
وقال مقاتل : على خليقته .
قال الفراء على طريقته التي جبل عليها .
وقال القتيبي : على طبيعته وجبلته .
وقيل : على السبيل الذي اختاره لنفسه وهو من الشكل يقال : لست على شكلي ولا شاكلتي وكلها متقاربة تقول العرب : طريق ذو شواكل إذا تشعبت منه الطرق . ومجاز الآية : كل يعمل على ما يشبهه كما يقال في المثل : كل امرئ يشبهه فعله .
( فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ) أوضح طريقا . قوله تعالى : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) الآية .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا قيس بن حفص حدثنا عبد الواحد - يعني ابن زياد - حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث المدينة وهو يتوكأ على عسيب معه فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح وقال بعضهم : لا تسألوه لا يجيء فيه بشيء تكرهونه فقال بعضهم لنسألنه فقام رجل منهم فقال : يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت فقلت : إنه يوحى إليه فقمت فلما انجلى عنه الوحي قال : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) قال الأعمش : هكذا في قراءتنا . [ ص: 125 ]
وروي عن ابن عباس أنه قال : إن قريشا قد اجتمعوا وقالوا : إن محمدا نشأ فينا بالأمانة والصدق وما اتهمناه بكذب وقد ادعى ما ادعى فابعثوا نفرا إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب فبعثوا جماعة إليهم فقالت اليهود : سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي وإن أجاب عن اثنين ولم يجب عن واحدة فهو نبي فسلوه عن فتية فقدوا في الزمن الأول ما كان من أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها ما خبره وعن الروح؟ فسألوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أخبركم بما سألتم غدا ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي - قال مجاهد : اثني عشرة ليلة وقيل : خمسة عشر يوما وقال عكرمة : أربعين يوما - وأهل مكة يقولون : وعدنا محمد غدا وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي وشق عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل بقوله : " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " ونزل في قصة الفتية " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " ونزل فيمن بلغ الشرق والغرب " ويسألونك عن ذي القرنين " ونزل في الروح " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " .
واختلفوا في الروح الذي وقع السؤال عنه فروي عن ابن عباس : أنه جبريل وهو قول الحسن وقتادة .
وروي عن علي أنه قال : هو ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بكلها .
وقال مجاهد : خلق على صور بني آدم لهم أيد وأرجل ورءوس وليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام .
وقال سعيد بن جبير : لم يخلق الله تعالى خلقا أعظم من الروح غير العرش لو شاء أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع ومن فيها بلقمة واحدة لفعل صورة خلقه على صورة خلق الملائكة وصورة وجهه على صورة الآدميين يقوم يوم القيامة عن يمين العرش وهو أقرب الخلق إلى الله عز وجل اليوم عند الحجب السبعين وأقرب إلى الله يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد ولولا أن بينه وبين الملائكة سترا من نور لاحترق أهل السموات من نوره .
وقيل : الروح هو القرآن . [ ص: 126 ]
وقيل : المراد منه عيسى عليه السلام فإنه روح الله وكلمته ومعناه : أنه ليس كما يقول اليهود ولا كما يقوله النصارى .
وقال قوم : هو الروح المركب في الخلق الذي يحيا به الإنسان وهو الأصح .
وتكلم فيه قوم فقال بعضهم : هو الدم ألا ترى أن الحيوان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم؟
وقال قوم : هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس .
وقال قوم : هو عرض .
وقال قوم : هو جسم لطيف .
وقال بعضهم : الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلو والبقاء ألا ترى أنه إذا كان موجودا يكون الإنسان موصوفا بجميع هذه الصفات فإذا خرج ذهب الكل ؟
وأولى الأقاويل : أن يوكل علمه إلى الله عز وجل وهو قول أهل السنة . قال عبد الله بن بريدة : إن الله لم يطلع على الروح ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا .
وقوله عز وجل : ( قل الروح من أمر ربي ) قيل من علم ربي .
( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) أي : في جنب علم الله قيل هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم .
وقيل : خطاب لليهود لأنهم كانوا يقولون أوتينا التوراة وفيها العلم الكثير .
وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم معنى الروح ولكن لم يخبر به أحدا لأن ترك إخباره به كان علما لنبوته .
والأول أصح لأن الله عز وجل استأثر بعلمه .
( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ( 86 ) )
قوله تعالى : ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) يعني القرآن . معناه : إنا كما منعنا علم الروح عنك وعن غيرك لو شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك يعني القرآن ( ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ) أي : من يتوكل برد القرآن إليك . [ ص: 127 ] ( إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا ( 87 ) قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ( 88 ) )
( إلا رحمة من ربك ) هذا استثناء منقطع معناه : ولكن لا نشاء ذلك رحمة من ربك .
( إن فضله كان عليك كبيرا ) فإن قيل : كيف يذهب القرآن وهو كلام الله عز وجل؟
قيل : المراد منه : محوه من المصاحف وإذهاب ما في الصدور .
وقال عبد الله بن مسعود : اقرءوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع . قيل : هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الناس؟ قال يسري عليه ليلا فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئا ولا يجدون في المصاحف شيئا ثم يفيضون في الشعر .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل له دوي حول العرش كدوي النحل فيقول الرب ما لك وهو أعلم؟ فيقول : يا رب أتلى ولا يعمل بي . قوله جل وعلا ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ) لا يقدرون على ذلك ( ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) عونا ومظاهرا .
نزلت حين قال الكفار : لو نشاء لقلنا مثل هذا فكذبهم الله تعالى
فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق لأنه غير مخلوق ولو كان مخلوقا لأتوا بمثله
[ ص: 128 ] ( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا ( 89 ) وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ( 90 ) )
قوله عز وجل : ( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ) من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد وغيرها ( فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) جحودا . قوله عز وجل : ( وقالوا لن نؤمن لك ) لن نصدقك ( حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) قرأ أهل الكوفة ويعقوب " تفجر " بفتح التاء وضم الجيم مخففا لأن الينبوع واحد وقرأ الباقون بالتشديد من التفجير واتفقوا على تشديد قوله : ( فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ) لأن الأنهار جمع والتشديد يدل على التكثير ولقوله " تفجيرا " من بعد .
وروى عكرمة عن ابن عباس : أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البختري بن هشام والأسود بن عبد المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج اجتمعوا ومن اجتمع معهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا وهو يظن أنه بدا لهم في أمره بدء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا : يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بينك وبيننا فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جعلنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تطلب الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الأمر الذي بك رئي تراه حتى قد غلب عليك لا تستطيع رده بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك وكانوا يسمون التابع من الجن : الرئي .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم ولا الشرف عليكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم . [ ص: 129 ]
فقالوا : يا محمد إن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق منا بلادا ولا أشد منا عيشا فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال فقد ضيقت علينا ويبسط لنا بلادنا ويفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل؟ فإن صدقوك صدقناك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه أصبر لأمر الله .
قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل ربك أن يبعث لنا ملكا يصدقك ، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه .
فقال : ما بعثت بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا .
قالوا : فأسقط السماء كما زعمت أن ربك لو شاء فعل .
فقال : ذلك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم فعله .
وقال قائل منهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا .
فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن أبي أمية وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا عليك فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا يعرفون بها منزلتك من الله تعالى فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل فوالله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ترقى فيها وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخة منشورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدقك . فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا لما رأى من مباعدتهم فأنزل الله تعالى ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ) يعني : أرض مكة ( ينبوعا ) أي : عيونا .
ابو وليد البحيرى
2022-03-28, 09:44 PM
الحلقة (267)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
الاية91 إلى الاية 110
( أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ( 91 ) )
( أو تكون لك جنة ) بستان ( من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ) تشقيقا . [ ص: 130 ] ( أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ( 92 ) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ( 93 ) )
( أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ) قرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح السين أي : قطعا وهي جمع " كسفة " وهي : القطعة والجانب مثل : كسرة وكسر . وقرأ الآخرون بسكون السين على التوحيد وجمعه أكساف وكسوف أي : تسقطها طبقا [ واحدا ] وقيل : أراد جانبها علينا وقيل : معناه أيضا القطع وهي جمع التكسير مثل سدرة وسدر في ( الشعراء وسبأ ) ( كسفا ) بالفتح حفص وفي الروم ساكنة أبو جعفر وابن عامر .
( أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ) قال ابن عباس : كفيلا أي : يكفلون بما تقول وقال الضحاك : ضامنا وقال مجاهد : هو جمع القبيلة أي : بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة [ وقال قتادة : عيانا أي : تراهم القابلة ] أي معاينة [ وقال الفراء : هو من قول العرب لقيت فلانا قبيلا ، وقبيلا أي : معاينة ] . ( أو يكون لك بيت من زخرف ) أي : من ذهب وأصله الزينة ( أو ترقى ) تصعد ( في السماء ) هذا قول عبد الله بن أبي أمية ( ولن نؤمن لرقيك ) لصعودك ( حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ) أمرنا فيه باتباعك ( قل سبحان ربي ) وقرأ ابن كثير وابن عامر " قال " يعني محمدا وقرأ الآخرون على الأمر أي : قل يا محمد ( هل كنت إلا بشرا رسولا ) أمره بتنزيهه وتمجيده على معنى أنه لو أراد أن ينزل ما طلبوا لفعل ولكن الله لا ينزل الآيات على ما يقترحه البشر وما أنا إلا بشر وليس ما سألتم في طوق البشر .
واعلم أن الله تعالى قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات والمعجزات ما يغني عن هذا كله مثل : القرآن وانشقاق القمر وتفجير العيون من بين الأصابع وما أشبهها والقوم عامتهم كانوا متعنتين لم يكن قصدهم طلب الدليل ليؤمنوا فرد الله عليهم سؤالهم .
[ ص: 131 ] ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ( 94 ) قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ( 95 ) قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ( 96 ) ( ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ( 97 ) )
قوله عز وجل : ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا ) جهلا منهم ( أبعث الله بشرا رسولا ) أراد : أن الكفار كانوا يقولون لن نؤمن لك لأنك بشر وهلا بعث الله إلينا ملكا؟ فأجابهم الله تعالى : ( قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ( قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ) مستوطنين مقيمين ( لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ) من جنسهم لأن القلب إلى الجنس أميل منه إلى غير الجنس . ( قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ) أني رسول الله إليكم ( إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ) قوله عز وجل : ( ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ) يهدونهم ( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم )
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا الحسن بن شجاع الصوفي المعروف بابن الموصلي أنبأنا أبو بكر بن الهيثم حدثنا جعفر بن محمد الصائغ حدثنا حسين بن محمد حدثنا سفيان عن قتادة عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه " .
وجاء في الحديث : " إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك " . ( عميا وبكما وصما ) [ ص: 132 ]
فإن قيل : كيف وصفهم بأنهم عمي وبكم وصم وقد قال : " ورأى المجرمون النار " ( الكهف - 53 ) وقال : " دعوا هنالك ثبورا " ( الفرقان - 13 ) وقال : " سمعوا لها تغيظا وزفيرا " ( الفرقان - 12 ) أثبت الرؤية والكلام والسمع؟
قيل : يحشرون على ما وصفهم الله ثم تعاد إليهم هذه الأشياء .
وجواب آخر قال ابن عباس : عميا لا يرون ما يسرهم بكما لا ينطقون بحجة صما لا يسمعون شيئا يسرهم .
وقال الحسن : هذا حين يساقون إلى الموقف إلى أن يدخلوا النار .
وقال مقاتل : هذا حين يقال لهم : " اخسئوا فيها ولا تكلمون " ( المؤمنون - 108 ) فيصيرون بأجمعهم عميا وبكما وصما لا يرون ولا ينطقون ولا يسمعون ( مأواهم جهنم كلما خبت ) قال ابن عباس : كلما سكنت . أي سكن لهيبها وقال مجاهد : طفئت وقال قتادة : ضعفت وقيل : هو الهدو من غير أن يوجد نقصان في ألم الكفار لأن الله تعالى قال : " لا يفتر عنهم " ( الزخرف - 75 ) وقيل " كلما خبت " أي : أرادت أن تخبو ( زدناهم سعيرا ) أي : وقودا .
وقيل : المراد من قوله : ( كلما خبت ) أي : نضجت جلودهم واحترقت أعيدوا فيها إلى ما كانوا عليه وزيد في تسعير النار لتحرقهم .
( ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ( 98 ) أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا ( 99 ) )
( ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ) فأجابهم الله تعالى فقال : ( أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ( أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ) في عظمتها وشدتها ( قادر على أن يخلق مثلهم ) في صغرهم وضعفهم نظيره قوله تعالى : " لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس " ( غافر - 57 ) .
( وجعل لهم أجلا ) أي : وقتا لعذابهم ( لا ريب فيه ) أنه يأتيهم قيل : هو الموت وقيل : هو يوم القيامة ( فأبى الظالمون إلا كفورا ) أي : جحودا وعنادا .
[ ص: 133 ] ( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ( 100 ) ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا ( 101 ) )
( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي ) أي : نعمة ربي وقيل : رزق ربي ( إذا لأمسكتم ) لبخلتم وحبستم ( خشية الإنفاق ) أي : خشية الفاقة قاله قتادة .
وقيل : خشية النفاد يقال : أنفق الرجل أي أملق وذهب ماله ونفق الشيء أي : ذهب .
وقيل : لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفقر .
( وكان الإنسان قتورا ) أي : بخيلا ممسكا عن الإنفاق . قوله عز وجل : ( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ) أي : دلالات واضحات فهي الآيات التسع .
قال ابن عباس والضحاك : هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم .
وقال عكرمة وقتادة ومجاهد وعطاء : هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص الثمرات .
وذكر محمد بن كعب القرظي : الطمس والبحر بدل السنين ونقص من الثمرات قال : فكان الرجل منهم مع أهله في فراشه وقد صار حجرين والمرأة منهم قائمة تخبز وقد صارت حجرا .
وقال بعضهم : هن آيات الكتاب .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرني الحسن بن محمد الثقفي أخبرنا هارون بن محمد بن هارون العطار أنبأنا يوسف بن عبد الله بن ماهان حدثنا الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن مسلمة عن صفوان بن عسال المرادي أن يهوديا قال لصاحبه : تعال حتى نسأل هذا النبي فقال الآخر : لا تقل نبي فإنه لو سمع صارت أربعة أعين فأتياه فسألاه عن هذه الآية : ( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ) فقال لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا ولا تسحروا ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقتله ولا تسرقوا ولا تقذفوا [ ص: 134 ] المحصنة ولا تفروا من الزحف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت فقبلا يده وقالا : نشهد أنك نبي قال : فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قالا : إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن تبعناك أن يقتلنا اليهود .
( فاسأل ) يا محمد ( بني إسرائيل إذ جاءهم ) موسى يجوز أن يكون الخطاب معه والمراد غيره ويجوز أن يكون خاطبه عليه السلام وأمره بالسؤال ليتبين كذبهم مع قومهم . ( فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا ) أي : مطبوبا سحروك . قاله الكلبي .
وقال ابن عباس : مخدوعا .
وقيل مصروفا عن الحق .
وقال الفراء وأبو عبيدة : ساحرا فوضع المفعول موضع الفاعل .
وقال محمد بن جرير : معطى علم السحر فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك .
( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ( 102 ) )
( قال ) موسى ( لقد علمت ) قرأ العامة بفتح التاء خطابا لفرعون وقرأ الكسائي بضم التاء ويروى ذلك عن علي وقال : لم يعلم الخبيث أن موسى على الحق ولو علم لآمن ولكن موسى هو الذي علم قال ابن عباس : علمه فرعون ولكنه عاند قال الله تعالى : " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا " ( النمل - 14 ) .
وهذه القراءة وهي نصب التاء أصح في المعنى وعليه أكثر القراء لأن موسى لا يحتج عليه بعلم نفسه ولا يثبت عن علي رفع التاء لأنه روي عن رجل من مراد عن علي وذلك أن الرجل مجهول ولم يتمسك بها أحد من القراء غير الكسائي . [ ص: 135 ]
( ما أنزل هؤلاء ) هذه الآيات التسع ( إلا رب السماوات والأرض بصائر ) جمع بصيرة أي يبصر بها .
( وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ) قال ابن عباس : ملعونا . وقال مجاهد : هالكا وقال قتادة : مهلكا . وقال الفراء : أي مصروفا ممنوعا عن الخير . يقال : ما ثبرك عن هذا الأمر أي ما منعك وصرفك عنه .
( فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا ( 103 ) وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ( 104 ) ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ( 105 ) وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ( 106 ) )
( فأراد أن يستفزهم ) أي : أراد فرعون أن يستفز موسى وبني إسرائيل أي : يخرجهم ( من الأرض ) يعني أرض مصر ( فأغرقناه ومن معه جميعا ) ونجينا موسى وقومه . ( وقلنا من بعده ) أي من بعد هلاك فرعون ( لبني إسرائيل اسكنوا الأرض ) يعني أرض مصر والشام ( فإذا جاء وعد الآخرة ) يعني يوم القيامة ( جئنا بكم لفيفا ) أي : جميعا إلى موقف القيامة واللفيف : الجمع الكثير إذا كانوا مختلطين من كل نوع . يقال : لفت الجيوش إذا اختلطوا وجمع القيامة كذلك فيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر .
وقال الكلبي : " فإذا جاء وعد الآخرة " : يعني مجيء عيسى من السماء " جئنا بكم لفيفا " أي : النزاع من كل قوم من هاهنا ومن هاهنا لفوا جميعا . قوله عز وجل : ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ) يعني القرآن ( وما أرسلناك إلا مبشرا ) للمطيعين ( ونذيرا ) للعاصين . ( وقرآنا فرقناه ) قيل : معناه : أنزلناه نجوما لم ينزل مرة واحدة بدليل قراءة ابن عباس : ( وقرآنا فرقناه ) بالتشديد . وقراءة العامة بالتخفيف أي : فصلناه وقيل : بيناه وقال الحسن : معناه فرقنا به بين الحق والباطل ( لتقرأه على الناس على مكث ) أي : على تؤدة وترتيل وترسل في [ ص: 136 ] ثلاث وعشرين سنة ( ونزلناه تنزيلا )
( قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ( 107 ) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ( 108 ) ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ( 109 ) )
( قل آمنوا به أو لا تؤمنوا ) هذا على طريق الوعيد والتهديد ( إن الذين أوتوا العلم من قبله ) قيل : هم مؤمنو أهل الكتاب وهم الذين كانوا يطلبون الدين قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أسلموا بعد مبعثه مثل زيد بن عمر بن نفيل وسلمان الفارسي وأبي ذر وغيرهم .
( إذا يتلى عليهم ) يعني القرآن ( يخرون للأذقان ) أي : يسقطون على الأذقان قال ابن عباس : أراد بها الوجوه ( سجدا ) ( ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ) أي : كائنا واقعا . ( ويخرون للأذقان يبكون ) أي : يقعون على الوجوه يبكون ، البكاء مستحب عند قراءة القرآن ( ويزيدهم ) نزول القرآن ( خشوعا ) خضوعا لربهم . نظيره قوله تعالى : " إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا " ( مريم - 58 ) .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو عمرو بن بكر بن محمد المزني حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجنيد حدثنا الحسن بن الفضل البجلي أخبرنا عاصم عن علي بن عاصم حدثنا المسعودي هو عبد الرحمن بن عبد الله عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبي طلحة عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يلج النار من بكى من خشية الله حتى يعود [ ص: 137 ] اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم أبدا " .
أخبرنا أبو القاسم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري أخبرنا أبو القاسم عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق المؤذن أخبرنا أحمد بن بكر بن محمد بن حمدان حدثنا محمد بن يونس الكديمي أنبأنا عبد الله بن محمد الباهلي حدثنا أبو حبيب الغنوي حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " حرمت النار على ثلاث أعين : عين بكت من خشية الله وعين سهرت في سبيل الله وعين غضت عن محارم الله " .
( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ( 110 ) )
قوله عز وجل ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ) قال ابن عباس : سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ذات ليلة فجعل يبكي ويقول في سجوده : يا ألله يا رحمن . فقال أبو جهل : إن محمدا ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين! فأنزل الله تعالى هذه الآية . ومعناه : أنهما اسمان لواحد .
( أيا ما تدعوا ) " ما " صلة معناه : أيا ما تدعوا من هذين الاسمين ومن جميع أسمائه ( فله الأسماء الحسنى )
( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل أخبرنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) قال : نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( ولا تجهر بصلاتك ) أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم : [ ص: 138 ] ( وابتغ بين ذلك سبيلا ) .
وبهذا الإسناد عن محمد بن إسماعيل قال : حدثنا مسدد عن هشيم عن أبي بشر بإسناده مثله وزاد ( وابتغ بين ذلك سبيلا ) أسمعهم ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن .
وقال قوم : الآية في الدعاء وهو قول عائشة رضي الله عنها والنخعي ومجاهد ومكحول : أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا طلق بن غنام حدثنا زائدة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها في قوله : " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " قالت : أنزل ذلك في الدعاء .
وقال عبد الله بن شداد : كان أعراب من بني تميم إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : " اللهم ارزقنا مالا وولدا فيجهرون بذلك فأنزل الله هذه الآية : ( ولا تجهر بصلاتك ) أي : لا ترفع صوتك بقراءتك أو بدعائك ولا تخافت بها .
والمخافتة : خفض الصوت والسكوت " وابتغ بين ذلك سبيلا " أي : بين الجهر والإخفاء .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الخزاعي أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا محمود بن غيلان حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الله بن أبي رباح الأنصاري عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : " مررت بك وأنت تقرأ وأنت تخفض من صوتك فقال : إني أسمعت من ناجيت فقال : ارفع قليلا وقال لعمر : مررت بك وأنت تقرأ وأنت ترفع صوتك فقال إني أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان فقال : اخفض قليلا " .
ابو وليد البحيرى
2022-03-28, 09:51 PM
الحلقة (268)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ الْكَهْفِ
مِائَةٌ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية 10
[ ص: 139 ] ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ( 111 ) )
( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ) أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يحمده على وحدانيته ومعنى الحمد لله هو : الثناء عليه بما هو أهله .
قال الحسين بن الفضل : يعني : الحمد لله الذي عرفني أنه لم يتخذ ولدا .
( ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل ) قال مجاهد : لم يذل فيحتاج إلى ولي يتعزز به .
( وكبره تكبيرا ) أي : وعظمه عن أن يكون له شريك أو ولي .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا الإمام أبو الطيب سهل [ بن محمد بن سليمان حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا نضر بن حماد أبو الحارث الوراق حدثنا شعبة ] عن حبيب بن أبي ثابت قال : سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو الحسن بن بشران أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي أنبأنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة أن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده " .
أخبرنا أبو الفضل بن زياد بن محمد الحنفي أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد الأنصاري [ ص: 140 ] أخبرنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد حدثنا يحيى بن خالد بن أيوب المخزومي حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشر الخزامي الأنصاري عن طلحة بن خراش عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أفضل الدعاء الحمد لله وأفضل الذكر لا إله إلا الله " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي حدثنا علي بن الجعد حدثنا زهير حدثنا منصور عن هلال بن بشار عن الربيع بن عميلة عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحب الكلام إلى الله تعالى أربع : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله لا يضرك بأيهن بدأت "
سُورَةُ الْكَهْفِ
مِائَةٌ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ( 1 ) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ( 2 ) )
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ) أَثْنَى اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ بِإِنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ وَخَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ كَانَ نِعْمَةً عَلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ ( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ) ( قَيِّمًا ) فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَعْنَاهُ : أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا " قَيِّمًا " أَيْ : مُسْتَقِيمًا . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : عَدْلًا . وَقَالَ الْفَرَّاءُ : قَيِّمًا عَلَى الْكُتُبِ كُلِّهَا أَيْ : مُصَدِّقًا لَهَا نَاسِخًا لِشَرَائِعِهَا .
وَقَالَ قَتَادَةُ : لَيْسَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بَلْ مَعْنَاهُ : أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا وَلَكِنْ جَعَلَهُ قَيِّمًا وَلَمْ يَكُنْ مُخْتَلِفًا عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا " ( النِّسَاءُ - 82 ) .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ لَمْ يَجْعَلْهُ مَخْلُوقًا وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : " قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ " ( الزُّمُرُ - 28 ) أَيْ : غَيْرَ مَخْلُوقٍ .
( لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا ) أَيْ : لِيُنْذِرَ بِبَأْسٍ شَدِيدٍ ( مِنْ لَدُنْهُ ) أَيْ : مِنْ عِنْدِهِ ( وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ) أَيِ : الْجَنَّةَ .
[ ص: 144 ] ( ماكثين فيه أبدا ( 3 ) وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ( 4 ) ( ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ( 5 ) فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ( 6 ) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ( 7 ) وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ( 8 ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ( 9 ) )
( ماكثين فيه أبدا ) أي : مقيمين فيه . ( وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ) . ( ما لهم به من علم ولا لآبائهم ) أي : قالوه عن جهل لا عن علم ( كبرت ) أي : عظمت ( كلمة ) نصب على التمييز يقال تقديره : كبرت الكلمة كلمة وقيل : من كلمة فحذف " من " فانتصب ( تخرج من أفواههم ) أي : تظهر من أفواههم ( إن يقولون ) ما يقولون ( إلا كذبا فلعلك باخع نفسك على آثارهم ) من بعدهم ( إن لم يؤمنوا بهذا الحديث ) أي : القرآن ( أسفا ) أي حزنا وقيل غضبا . ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ) فإن قيل : أي زينة في الحيات والعقارب والشياطين؟
قيل : فيها زينة على معنى أنها تدل على وحدانية الله تعالى .
وقال مجاهد : أراد به الرجال خاصة وهم زينة الأرض . وقيل : أراد بهم العلماء والصلحاء وقيل : الزينة بالنبات والأشجار والأنهار كما قال : " حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت " ( يونس - 24 ) .
( لنبلوهم ) لنختبرهم ( أيهم أحسن عملا ) أي : أصلح عملا . وقيل : أيهم أترك للدنيا . ( وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) فالصعيد وجه الأرض . وقيل : هو التراب " جرزا " يابسا أملس لا ينبت شيئا . يقال : جرزت الأرض إذا أكل نباتها . قوله تعالى : ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) يعني : أظننت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا أي : هم عجب من آياتنا .
وقيل : معناه إنهم ليسوا بأعجب من آياتنا فإن ما خلقت من السموات والأرض وما فيهن من العجائب أعجب منهم . [ ص: 145 ]
و " الكهف " : هو الغار في الجبل واختلفوا في " الرقيم " : قال سعيد بن جبير : هو لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وقصصهم - وهذا أظهر الأقاويل - ثم وضعوه على باب الكهف وكان اللوح من رصاص وقيل : من حجارة فعلى هذا يكون الرقيم بمعنى المرقوم أي : المكتوب والرقم : الكتابة .
وحكي عن ابن عباس أنه اسم للوادي الذي فيه أصحاب الكهف وعلى هذا هو من رقمة الوادي وهو جانبه .
وقال كعب الأحبار : هو اسم للقرية التي خرج منها أصحاب الكهف .
وقيل : اسم للجبل الذي فيه الكهف .
( إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا ( 10 ) )
ثم ذكر الله قصة أصحاب الكهف فقال : ( إذ أوى الفتية إلى الكهف ) أي صاروا إليه واختلفوا في سبب مصيرهم إلى الكهف [ ص: 146 ]
فقال محمد بن إسحاق بن يسار : مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكين بعبادة الله وتوحيده فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له " دقيانوس " عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه وكان ينزل قرى الروم ولا يترك في قرية نزلها أحدا إلا فتنه حتى يعبد الأصنام ويذبح للطواغيت أو قتله حتى نزل مدينة أصحاب الكهف وهي " أفسوس " فلما نزلها كبر على أهل الإيمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه وكان " دقيانوس " حين قدمها أمر أن يتبع أهل الإيمان فيجمعوا له واتخذ شرطا من الكفار من أهلها يتبعون أهل الإيمان في أماكنهم فيخرجونهم إلى " دقيانوس " فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل ، فلما رأى ذلك أهل الشدة في الإيمان بالله جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل فيقتلون ويقطعون ثم يربط ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها وعلى كل باب من أبوابها حتى عظمت الفتنة فلما رأى ذلك الفتية حزنوا حزنا شديدا فقاموا واشتغلوا بالصلاة والصيام والصدقة والتسبيح والدعاء وكانوا من أشراف الروم وكانوا ثمانية نفر بكوا وتضرعوا إلى الله وجعلوا يقولون : ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا إن عبدنا غيره ، اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وارفع عنهم هذا البلاء حتى يعلنوا عبادتك . فبينما هم على مثل ذلك وقد دخلوا في مصلى لهم أدركهم الشرط فوجدوهم وهم سجود على وجوههم يبكون ويتضرعون إلى الله فقالوا لهم : ما خلفكم عن أمر الملك؟ انطلقوا إليه ثم خرجوا فرفعوا أمرهم إلى " دقيانوس " فقالوا : تجمع الناس للذبح لآلهتك ، وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يستهزئون بك ويعصون أمرك! فلما سمع بذلك بعث إليهم فأتى بهم تفيض أعينهم من الدمع معفرة وجوههم بالتراب فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلوا أنفسكم أسوة للسادات من أهل مدينتكم؟ اختاروا : إما أن تذبحوا لآلهتنا وإما أن أقتلكم . فقال مكسلمينا وهو أكبرهم : إن لنا إلها ملأ السموات والأرض عظمة لن ندعو من دونه إلها أبدا له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصا أبدا إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير فأما الطواغيت فلن نعبدها أبدا فاصنع بنا ما بدا لك . وقال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال [ ص: 147 ] مكسلمينا فلما قالوا ذلك أمر فنزع عنهم لبوسا كان عليهم من لبوس عظمائهم ثم قال : سأفرغ لكم فأنجز لكم ما أوعدتكم من العقوبة وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلا أني أراكم شبانا حديثة أسنانكم فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا تذكرون فيه وتراجعون عقولكم ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت عنهم ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده .
وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم قريبا منهم لبعض أموره فلما رأى الفتية خروجه بادروا قدومه وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم [ وأن يعذبهم ] فائتمروا بينهم أن يأخذ كل رجل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا منها ويتزودوا بما بقي ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له بخلوس فيمكثون فيه ويعبدون الله حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما شاء فلما قال ذلك بعضهم لبعض عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه فأخذ نفقة فتصدق منها ثم انطلقوا بما بقي معهم واتبعهم كلب كان لهم حتى أتوا ذلك الكهف فلبثوا فيه .
قال كعب الأحبار : مروا بكلب فتبعهم فطردوه ففعل ذلك مرارا فقال لهم الكلب : يا قوم ما تريدون مني؟ لا تخشون جانبي أنا أحب أحباب الله فناموا حتى أحرسكم .
وقال ابن عباس : هربوا ليلا من دقيانوس وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم وتبعه كلبه فخرجوا من البلد إلى الكهف وهو قريب من البلد .
قال ابن إسحاق : فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد ابتغاء وجه الله وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له : تمليخا فكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرا وكان من أحملهم وأجلدهم وكان إذا دخل المدينة يضع ثيابا كانت عليه حسانا ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها ثم يأخذ ورقه فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاما وشرابا ويتجسس لهم الخبر هل ذكر هو وأصحابه بشيء ثم يرجع إلى أصحابه فلبثوا بذلك ما لبثوا ثم قدم دقيانوس المدينة فأمر عظماء أهلها فذبحوا للطواغيت ففزع من ذلك أهل الإيمان وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل وأخبرهم أن الجبار قد دخل المدينة وأنهم قد ذكروا والتمسوا مع عظماء المدينة ففزعوا ووقعوا سجودا يدعون الله ويتضرعون إليه ويتعوذون من الفتنة ثم إن تمليخا قال لهم : يا إخوتاه ارفعوا رءوسكم واطعموا وتوكلوا على ربكم فرفعوا رءوسهم وأعينهم تفيض من الدمع فطعموا وذلك غروب الشمس ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضا فبينما هم على ذلك إذ ضرب الله على آذانهم النوم في الكهف وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف فأصابه ما أصابهم وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رءوسهم . [ ص: 148 ]
فلما كان من الغد فقدهم دقيانوس فالتمسهم فلم يجدهم فقال لبعضهم : لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا لقد كانوا ظنوا أن بي غضبا عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري ما كنت لأحمل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتي فقال عظماء المدينة : ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مردة عصاة قد كنت أجلت لهم أجلا ولو شاءوا لرجعوا في ذلك الأجل ولكنهم لم يتوبوا فلما قالوا ذلك غضب غضبا شديدا ثم أرسل إلى آبائهم فأتى بهم فسألهم عنهم فقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني [ ووعدهم بالقتل ] فقالوا له : أما نحن فلم نعصك فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا فأهلكوها في أسواق المدينة ثم انطلقوا وارتقوا إلى جبل يدعى بخلوس؟ فلما قالوا له ذلك خلى سبيلهم وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية فألقى الله في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم وأراد الله أن يكرمهم ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور فأمر دقيانوس بالكهف أن يسد عليهم وقال : دعوهم كما هم في الكهف يموتون جوعا وعطشا ويكون كهفهم الذي اختاروا قبرا لهم وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيهم ما غشيهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال .
ثم إن رجلين مؤمنين في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما اسم أحدهما " يندروس " واسم الآخر " روناس " ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ويجعلا التابوت في البنيان وقالا لعل الله أن يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عنهم حين يقرأ هذا الكتاب [ خبرهم ] ففعلا وبنيا عليه فبقي " دقيانوس " ما بقي ثم مات هو وقومه وقرون بعده كثيرة وخلفت الملوك بعد الملوك .
وقال عبيد بن عمير كان أصحاب الكهف فتيانا مطوقين مسورين ذوي ذوائب وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم في زي عظيم وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها وقد قذف الله في قلوب الفتية الإيمان وكان أحدهم وزير الملك فآمنوا وأخفى كل واحد منهم إيمانه فقالوا في أنفسهم نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه ثم خرج آخر فرآه جالسا وحده فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك ثم خرج الآخر فاجتمعوا في مكان فقال بعضهم لبعض : ما جمعكم؟ وكل واحد يكتم صاحبه إيمانه مخافة على نفسه ثم قالوا : ليخرج كل فتى فيخلو [ ص: 149 ] بصاحبه ثم يفشي واحد سره إلى صاحبه ففعلوا فإذا هم جميعا على الإيمان وإذا كهف في الجبل قريب منهم فقال بعضهم لبعض : فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم فناموا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا وفقدهم قومهم فطلبوهم فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح : فلان وفلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا في سنة كذا في مملكة فلان ابن فلان ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا : ليكونن لهذا شأن ومات ذلك الملك وجاء قرن بعد قرن .
وقال وهب بن منبه : جاء حواري عيسى عليه السلام إلى مدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها فقيل له : إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلا سجد له فكره أن يدخلها فأتى حماما قريبا من المدينة فكان يؤاجر نفسه من الحمامي ويعمل فيه ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة وعلقه فتية من أهل المدينة فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا وصدقوه وكان شرط على صاحب الحمام أن الليل لي لا يحول بيني وبينه ولا بين الصلاة أحد وكان على ذلك حتى أتى ابن الملك بامرأة فدخل بها الحمام فعيره الحواري وقال : أنت ابن الملك وتدخل مع هذه؟ فاستحيا وذهب فرجع مرة أخرى فقال له مثل ذلك فسبه وانتهره ولم يلتفت إلى ذلك حتى دخلا معا فماتا في الحمام وأتى الملك فقيل له : قتل صاحب الحمام ابنك فالتمس فلم يقدر عليه وهرب فقال : من كان يصحبه؟ فسموا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم على مثل إيمانهم فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف فدخلوه وقالوا : [ نلبث هاهنا إلى الليل ] ثم نصبح إن شاء الله تعالى فترون رأيكم فضرب الله على آذانهم فخرج الملك في أصحابه يبتغونهم حتى وجدوهم فدخلوا الكهف فلما أراد رجل منهم دخوله أرعب فلم يطق أحد أن يدخله فقال قائل منهم : أليس لو قدرت عليهم قتلتهم؟ قال : بلى قال : فابن عليهم باب الكهف [ واتركهم فيه يموتون جوعا وعطشا ففعل .
قال وهب : فعبر زمان بعد زمان ] بعدما سد عليهم باب الكهف ثم إن راعيا أدركه المطر عند الكهف فقال لو فتحت هذا الكهف وأدخلت غنمي فيه من المطر لكان حسنا فلم يزل يعالجه حتى فتح ورد الله عليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا . [ ص: 150 ]
وقال محمد بن إسحاق : ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له : " بيدروس " فلما ملك بقي في ملكه ثمانيا وستين سنة فتحزب الناس في ملكه فكانوا أحزابا منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق ومنهم من يكذب بها فكبر ذلك على الملك الصالح فبكى وتضرع إلى الله وحزن حزنا شديدا لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون لا حياة إلا حياة الدنيا وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد فجعل " بيدروس " يرسل إلى من يظن فيه خيرا وأنهم أئمة في الخلق فجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا أن يحولوا الناس عن الحق وملة الحواريين فلما رأى ذلك الملك الصالح دخل بيته وأغلقه عليه ولبس مسحا وجعل تحته رمادا فجلس عليه فدأب ليله ونهاره زمانا يتضرع إلى الله تعالى ويبكي ويقول : أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث إليهم آية تبين لهم [ بطلان ما هم عليه ] ثم إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد أراد أن يظهر الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية وحجة عليهم ليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ويستجيب لعبده الصالح بيدروس ويتم نعمته عليه وأن يجمع من كان تبدد من المؤمنين فألقى الله في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي فيه الكهف وكان اسم ذلك الرجل " أوليانوس " أن يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف فيبني به حظيرة لغنمه فاستأجر غلامين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان تلك الحظيرة حتى نزعا ما على فم الكهف وفتحا باب الكهف وحجبهم الله عن الناس بالرعب فلما فتحا باب الكهف أذن الله ذو القدرة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض فكأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون فيها إذا أصبحوا من ليلتهم ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون لا يرى في وجوههم ولا ألوانهم شيء ينكرونه كهيئتهم حين رقدوا وهم يرون أن دقيانوس في طلبهم فلما قضوا صلاتهم قالوا ليمليخا صاحب نفقاتهم : أنبئنا ما الذي قال الناس في شأننا عشية أمس عند هذا الجبار؟ وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون وقد خيل إليهم أنهم قد ناموا أطول مما كانوا ينامون حتى يتساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض كم لبثتم نياما؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ثم قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم وكل ذلك في أنفسهم يسير فقال لهم يمليخا : التمستم في المدينة فلم توجدوا وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحون للطواغيت أو يقتلكم فما شاء الله بعد ذلك فعل فقال لهم مكسلمينا : يا إخوتاه اعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدو الله .
ثم قالوا ليمليخا : انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال علينا بها وما الذي يذكر عند دقيانوس وتلطف ولا تشعرن بك أحدا وابتع لنا طعاما [ ص: 151 ] فائتنا به وزدنا على الطعام الذي جئنا به فقد أصبحنا جياعا ففعل يمليخا كما كان يفعل ووضع ثيابه وأخذ الثياب التي يتنكر فيها وأخذ ورقا [ من نفقتهم التي كانت معهم والتي ضربت بطابع دقيانوس فكانت كخفاف الربع فانطلق يمليخا خارجا ] فلما مر بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ثم مر ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفيا فصد عن الطريق تخوفا أن يراه أحد من أهلها فيعرفه ولا يشعر أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة فلما أتى يمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان إذا كان الإيمان ظاهرا فيها فلما رآها عجب وجعل ينظر إليها مستخفيا وجعل ينظر يمينا وشمالا ثم ترك ذلك الباب فتحول إلى باب آخر من أبوابها فرأى مثل ذلك فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ورأى ناسا كثيرا محدثين لم يكن يراهم قبل ذلك فجعل يمشي ويتعجب ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه فجعل يتعجب بينه وبين نفسه ويقول : يا ليت شعري ما هذا؟ أما عشية أمس كان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها وأما اليوم فإنها ظاهرة لعلي نائم؟ ثم يرى أنه ليس بنائم فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة فجعل يمشي بين ظهري سوقها فيسمع ناسا يحلفون باسم عيسى ابن مريم فزاده فرقا ورأى أنه حيران فقام مسندا ظهره إلى جدار من جدر المدينة يقول في نفسه : والله ما أدري ما هذا أما عشية أمس فليس على ظهر الأرض إنسان يذكر عيسى ابن مريم إلا قتل وأما الغداة فأسمعهم وكل إنسان يذكر اسم عيسى ولا يخاف أحدا ثم قال في نفسه : لعل هذه ليست بالمدينة التي أعرف والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا فقام كالحيران ثم لقي فتى فقال له : ما اسم هذه المدينة يا فتى؟ قال اسمها " أفسوس " فقال في نفسه : لعل بي مسا أو أمرا أذهب عقلي والله يحق لي أن أسرع الخروج منها قبل أن أخزى فيها أو يصيبني شر فأهلك ثم إنه أفاق فقال : والله لو عجلت الخروج من المدينة قبل أن يفطن بي لكان أيسر بي .
فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلا منهم فقال : بعني بهذه الورق طعاما فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها فعجب منه ثم طرحها إلى رجل من أصحابه فنظر إليها ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل يتعجبون منها ثم جعلوا يتشاورون بينهم ويقول بعضهم لبعض : إن هذا أصاب كنزا خبيئا في الأرض منذ زمان ودهر طويل فلما رآهم يمليخا يتشاورون من أجله فرق فرقا شديدا وجعل يرتعد ويظن أنهم قد فطنوا به وعرفوه وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس وجعل [ ص: 152 ] أناس آخرون يأتونه فيتعرفونه [ فلا يعرفونه ] فقال لهم وهو شديد الفرق منهم : افضلوا علي قد أخذتم ورقي فأمسكوها وأما طعامكم فلا حاجة لي به فقالوا له : من أنت يا فتى وما شأنك؟ والله لقد وجدت كنزا من كنوز الأولين وأنت تريد أن تخفيه عنا فانطلق معنا وأرنا وشاركنا فيه نخف عليك ما وجدت فإنك إن لم تفعل نأت بك إلى السلطان فنسلمك إليه فيقتلك فلما سمع قولهم قال في نفسه قد وقعت في كل شيء كنت أحذر منه فقالوا : يا فتى إنك والله لا تستطيع أن تكتم ما وجدت فجعل يمليخا لا يدري ما يقول لهم وما يرجع إليهم وفرق حتى ما [ وجد ما ] يخبر إليهم شيئا فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه فطرحوه في عنقه ثم جعلوا يقودونه في سكك المدينة [ صغيرهم وكبيرهم ] حتى سمع به من فيها [ فسألوه : ما الخبر؟ ] فقيل : هذا رجل عنده كنز فاجتمع إليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم فجعلوا ينظرون إليه ويقولون : والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة وما رأيناه فيها قط وما نعرفه قط فجعل يمليخا لا يدري ما يقول لهم فلما اجتمع عليه أهل المدينة فرق فسكت فلم يتكلم وكان مستيقنا أن أباه وإخوته بالمدينة وأن حسبه ونسبه من أهل المدينة من عظماء أهلها وأنهم سيأتونه إذا سمعوا به فبينا هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله فيخلصه من أيديهم إذ اختطفوه وانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها وهما رجلان صالحان اسم أحدهما " أريوس " واسم الآخر " طنطيوس " فلما انطلق به إليهما ظن يمليخا أنه ينطلق به إلى دقيانوس الجبار فجعل يلتفت يمينا وشمالا وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون وجعل يمليخا يبكي ثم رفع رأسه إلى السماء فقال في نفسه اللهم إله السماء وإله الأرض أفرغ اليوم علي صبرا وأولج معي روحا منك تؤيدني به عند هذا الجبار وجعل يبكي ويقول في نفسه : فرق بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ولو أنهم يعلمون فيأتوني فنقوم جميعا بين يدي هذا الجبار فإنا كنا تواثقنا لنكونن معا ولا نكفر بالله ولا نشرك به شيئا ، فرق بيني وبينهم فلن يروني ولن أراهم أبدا وكنا تواثقنا أن لا نفترق في حياة ولا موت أبدا يحدث به نفسه يمليخا فيما أخبر أصحابه حين رجع إليهم حتى انتهى إلى الرجلين الصالحين " أريوس " و " طنطيوس " .
فلما رأى يمليخا أنه لا يذهب به إلى دقيانوس [ ص: 153 ] أفاق وذهب عنه البكاء فأخذ أريوس [ وطنطيوس ] الورق فنظرا إليها وعجبا منها ثم قال له أحدهما : أين الكنز الذي وجدت يا فتى؟ فقال يمليخا : ما وجدت كنزا ولكن هذا ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها ولكن والله ما أدري ما شأني وما أقول لكم فقال أحدهما : فمن أنت؟ فقال يمليخا : أما أنا فكنت أرى أني من أهل هذه المدينة ، فقالوا : ومن أبوك ومن يعرفك فيها فأنبأهم باسم أبيه فلم يجدوا أحدا يعرفه ولا أباه فقال له أحدهما : أنت رجل كذاب لا تنبئنا بالحق ، فلم يدر يمليخا ما يقول لهم غير أنه نكس رأسه [ وأطرق بصره ] إلى الأرض فقال بعض من حوله : هذا رجل مجنون ، وقال بعضهم : ليس بمجنون ولكنه يحمق نفسه عمدا لكي ينفلت منكم فقال له أحدهما ونظر إليه نظرا شديدا : أتظن أنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال أبيك ونقش هذا الورق وضربها أكثر من ثلاثمائة سنة وإنما أنت غلام شاب أتظن أنك تأفكنا وتسخر بنا ونحن شمط كما ترى وحولك سراة أهل المدينة وولاة أمرها وخزائن هذه البلدة بأيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار وإني لأظنني سآمر بك فتعذب عذابا شديدا ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدته .
فلما قال ذلك قال لهم يمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه فإن فعلتم صدقتكم عما عندي ، قالوا : سل لا نكتمك شيئا قال لهم : ما فعل الملك دقيانوس ؟ قالوا : لا نعرف اليوم على وجه الأرض ملكا يسمى دقيانوس ولم يكن إلا ملك هلك منذ زمان ودهر طويل وهلكت بعده قرون كثيرة فقال يمليخا : إني إذا لحيران وما يصدقني أحد من الناس بما أقول لقد كنا فتية [ على دين واحد وهو الإسلام ] وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا فلما انتبهنا خرجت لأشتري لهم طعاما وأتجسس الأخبار فإذا أنا كما ترون فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس أريكم أصحابي فلما سمع أريوس ما يقول يمليخا قال : يا قوم لعل هذه آية من آيات الله جعلها الله لكم على يدي هذا الفتى فانطلقوا بنا معه يرينا أصحابه .
فانطلق معه أريوس وأسطيوس وانطلق معهم أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم ولما رأى الفتية أصحاب الكهف يمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي به ظنوا أنه قد أخذ فذهب به إلى ملكهم دقيانوس فبينما هم يظنون ذلك ويتخوفونه إذ سمعوا الأصوات وجلب الخيل مصعدة نحوهم فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث إليهم ليؤتى بهم فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض وأوصى بعضهم بعضا قالوا انطلقوا بنا نأت أخانا يمليخا فإنه الآن بين يدي الجبار ينتظر متى نأتيه فبينما هم يقولون ذلك [ ص: 154 ] وهم جلوس بين ظهري الكهف لم يروا إلا أريوس وأصحابه وقوفا على باب الكهف .
وسبقهم يمليخا فدخل عليهم وهو يبكي فلما رأوه يبكي بكوا معه ثم سألوه عن شأنه فأخبرهم وقص عليهم النبأ كله فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياما بأمر الله ذلك الزمان كله بأمر الله وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقا للبعث وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها .
ثم دخل على أثر يمليخا أريوس فرأى تابوتا من نحاس مختوما بخاتم من فضة فقام بباب الكهف ثم دعا رجلا من عظماء أهل المدينة ففتح التابوت عندهم فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوبا فيهما : أن مكسلمينا ومخشلمينا ويمليخا ومرطونس وكشطونس ويبرونس وديموس وبطيوس وحالوش كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتنهم عن دينهم فدخلوا هذا الكهف فلما أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسد عليهم بالحجارة وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثر عليهم فلما قرأوه وعجبوا حمدوا الله الذي أراهم آية البعث فيهم ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه ثم دخلوا على الفتية إلى الكهف فوجدوهم جلوسا بين ظهرانيهم مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم فخر أريوس وأصحابه سجودا وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته ثم كلم بعضهم بعضا وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس [ من إكراههم على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت وإخفاء إيمانهم عنه وهربهم إلى الكهف ] ثم إن أريوس وأصحابه بعثوا بريدا إلى ملكهم الصالح بيدروس أن عجل إلينا لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله في ملكك وجعلها آية للعالمين لتكون لهم نورا وضياء وتصديقا للبعث فاعجل إلى فتية بعثهم الله عز وجل وقد كان توفاهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة فلما أتى الملك الخبر رجع إليه عقله وذهب همه فقال : أحمدك الله رب السموات والأرض وأعبدك وأسبح لك تطولت علي ورحمتني فلم تطفئ النور الذي كنت جعلته لآبائي للعبد الصالح أسطنطينوس الملك .
فلما نبأ به أهل المدينة ركبوا إليه وساروا معه حتى أتوا مدينة أفسوس فتلقاهم أهل المدينة وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف فلما رأى الفتية بيدروس فرحوا به وخروا سجدا على وجوههم وقام بيدروس فاعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون الله ويحمدونه ثم قال الفتية لبيدروس : نستودعك الله [ إيمانك وخواتيم أعمالك ] والسلام عليك ورحمة الله حفظك الله وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شر الإنس والجن فبينما الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفى الله تعالى أنفسهم وقام الملك إليهم فجعل ثيابهم عليهم وأمر أن يجعل كل رجل منهم في تابوت من ذهب فلما أمسى ونام أتوه في المنام فقالوا له : [ ص: 155 ] إننا لم نخلق من ذهب ولا من فضة ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله منه فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم فأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجدا يصلى فيه وجعل لهم عيدا عظيما وأمر أن يؤتى كل سنة .
وقيل : إن يمليخا لما حمل إلى الملك الصالح قال له الملك : من أنت قال : أنا رجل من أهل هذه المدينة وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقواما لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أن فتية فقدوا في الزمن الأول وأن أسماءهم مكتوبة على اللوح بالخزانة فدعا باللوح وقد نظر في أسمائهم فإذا هو من أولئك القوم وذكر أسماء الآخرين فقال يمليخا هم أصحابي فلما سمع الملك ذلك ركب ومن معه من القوم فلما أتوا باب الكهف قال يمليخا : دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم فدخل فبشرهم فقبض الله أرواحهم وأعمى عليهم أثرهم فلم يهتدوا إليهم وذلك قوله عز وجل :
( إذ أوى الفتية إلى الكهف ) أي : صاروا إلى الكهف ، يقال : أوى فلان إلى موضع كذا أي : اتخذه منزلا إلى الكهف وهو غار في جبل بنجلوس واسم الكهف : " خيرم " .
( فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة ) ومعنى الرحمة : الهداية في الدين . وقيل : الرزق ( وهيئ لنا ) يسر لنا ( من أمرنا رشدا ) أي : ما يلتمس من رضاك وما فيه رشدنا وقال ابن عباس : رشدا أي مخرجا من الغار في سلامة .
ابو وليد البحيرى
2022-03-28, 09:56 PM
الحلقة (269)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ الْكَهْفِ
مِائَةٌ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ
الاية11 إلى الاية 22
( فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ( 11 ) ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ( 12 ) )
( ( فضربنا على آذانهم ) أي : أنمناهم وألقينا عليهم النوم . وقيل : معناه منعنا نفوذ الأصوات إلى مسامعهم فإن النائم إذا سمع الصوت ينتبه ( في الكهف سنين عددا ) أي : أنمناهم سنين معدودة وذكر العدد على سبيل التأكيد وقيل : ذكره يدل على الكثرة فإن القليل لا يعد في العادة . ( ثم بعثناهم ) يعني من نومهم ( لنعلم ) أي : علم المشاهدة ( أي الحزبين ) أي الطائفتين ( أحصى لما لبثوا أمدا ) وذلك أن أهل القرية تنازعوا في مدة لبثهم في الكهف . واختلفوا في قوله : " أحصى لما لبثوا " أحفظ لما مكثوا في كهفهم نياما أمدا أي : غاية وقال مجاهد : عددا ونصبه على التفسير .
[ ص: 156 ] ( نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ( 13 ) وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا ( 14 ) هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ( 15 ) ( وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ( 16 ) )
( نحن نقص عليك ) [ نقرأ عليك ] ( نبأهم ) خبر أصحاب الكهف ( بالحق ) بالصدق ( إنهم فتية ) شبان ( آمنوا بربهم وزدناهم هدى ) إيمانا وبصيرة . ( وربطنا ) شددنا ( على قلوبهم ) بالصبر والتثبيت وقويناهم بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم ومفارقة ما كانوا فيه من العز وخصب العيش وفروا بدينهم إلى الكهف ( إذ قاموا ) بين يدي دقيانوس حين عاتبهم على ترك عبادة الصنم ( فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها ) قالوا ذلك لأن قومهم كانوا يعبدون الأوثان ( لقد قلنا إذا شططا ) يعني : إن دعونا غير الله لقد قلنا إذا شططا ، قال ابن عباس : جورا . وقال قتادة : كذبا . وأصل الشطط والإشطاط مجاوزة القدر والإفراط . ( هؤلاء قومنا ) يعني : أهل بلدهم ( اتخذوا من دونه ) أي من دون الله ( آلهة ) يعني : الأصنام يعبدونها ( لولا ) أي : هلا ( يأتون عليهم ) أي : على عبادتهم ( بسلطان بين ) بحجة واضحة تبين وتوضح أن الأصنام لا تستحق العبادة من دون الله ] ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) وزعم أن له شريكا وولدا . ثم قال بعضهم لبعض : ( وإذ اعتزلتموهم ) يعني قومهم ( وما يعبدون إلا الله ) قرأ ابن مسعود " وما يعبدون من دون الله " وأما القراءة المعروفة فمعناها أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون [ ص: 157 ] معه الأوثان يقولون : وإذ : اعتزلتموهم وجميع ما يعبدون إلا الله فإنكم لم تعتزلوا عبادته ( فأووا إلى الكهف ) فالجأوا إليه ( ينشر لكم ) يبسط لكم ( ربكم من رحمته ويهيئ لكم ) يسهل لكم ( من أمركم مرفقا ) أي : ما يعود إليه يسركم ورفقكم قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر " مرفقا " بفتح الميم وكسر الفاء وقرأ الآخرون بكسر الميم وفتح الفاء ومعناهما واحد ، وهو ما يرتفق به الإنسان .
( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ( 17 ) وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا ( 18 ) )
قوله تعالى : ( وترى الشمس إذا طلعت تزاور ) قرأ ابن عامر ويعقوب : " تزور " بسكون الزاي وتشديد الراء على وزن تحمر وقرأ أهل الكوفة : بفتح الزاي خفيفة وألف بعدها وقرأ الآخرون بتشديد الزاي وكلها بمعنى واحد أي : تميل وتعدل ( عن كهفهم ذات اليمين ) أي : جانب اليمين ( وإذا غربت تقرضهم ) أي : تتركهم وتعدل عنهم ( ذات الشمال ) أصل القرض القطع ( وهم في فجوة منه ) أي : متسع من الكهف وجمعها فجوات قال ابن قتيبة : كان كهفهم مستقبل بنات نعش لا تقع فيه الشمس عند الطلوع ولا عند الغروب ولا فيما بين ذلك قال : اختار الله لهم مضطجعا في مقناة لا تدخل عليهم الشمس فتؤذيهم بحرها وتغير ألوانهم وهم في متسع ينالهم برد الريح ونسيمها ويدفع عنهم كرب الغار وغمومه .
وقال بعضهم : هذا القول خطأ ، وهو أن الكهف كان مستقبل بنات نعش فكانت الشمس لا تقع عليهم ولكن الله صرف الشمس عنهم بقدرته وحال بينها وبينهم ، ألا ترى أنه قال :
( ذلك من آيات الله ) من عجائب صنع الله ودلالات قدرته التي يعتبر بها ( من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل ) أي : من يضلله الله ولم يرشده ( فلن تجد له وليا ) معينا ( مرشدا ) قوله تعالى : ( وتحسبهم أيقاظا ) أي : منتبهين جمع يقظ ويقظ ( وهم رقود ) نيام جمع [ ص: 158 ] راقد مثل قاعد وقعود وإنما اشتبه حالهم لأنهم كانوا مفتحي الأعين يتنفسون ولا يتكلمون .
( ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ) مرة للجنب الأيمن ومرة للجنب الأيسر . قال ابن عباس : كانوا يقلبون في السنة مرة من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض لحومهم . وقيل كان يوم عاشوراء يوم تقلبهم . وقال أبو هريرة : كان لهم في كل سنة تقلبان .
( ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ) أكثر أهل التفسير على أنه كان من جنس الكلاب .
وروي عن ابن جريج : أنه كان أسدا وسمي الأسد كلبا فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال : " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " فافترسه أسد .
والأول أصح .
قال ابن عباس : كان كلبا أغر . ويروى عنه : فوق القلطي ودون الكردي [ والقلطي : كلب صيني ] .
وقال مقاتل : كان أصفر . وقال القرظي : كان شدة صفرته تضرب إلى الحمرة . وقال الكلبي : لونه كالخلنج وقيل : لون الحجر .
قال ابن عباس : كان اسمه قطمير وعن علي : اسمه ريان . وقال الأوزاعي : بتور . وقال السدي : تور وقال كعب : صهيلة .
قال خالد بن معدان : ليس في الجنة شيء من الدواب سوى كلب أصحاب الكهف وحمار بلعام .
قوله ( بالوصيد ) قال مجاهد والضحاك : " والوصيد " : فناء الكهف وقال عطاء : " الوصيد " عتبة الباب . وقال السدي : " الوصيد " الباب وهو رواية عكرمة عن ابن عباس .
فإن قيل : لم يكن للكهف باب ولا عتبة؟
قيل : معناه موضع الباب والعتبة كان الكلب قد بسط ذراعيه وجعل وجهه عليهم .
قال السدي : كان أصحاب الكهف إذا انقلبوا انقلب الكلب معهم وإذا انقلبوا إلى اليمين كسر الكلب أذنه اليمنى ورقد عليها وإذا انقلبوا إلى الشمال كسر أذنه اليسرى ورقد عليها . [ ص: 159 ]
( لو اطلعت عليهم ) يا محمد ( لوليت منهم فرارا ) لما ألبسهم الله من الهيبة حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله فيوقظهم الله تعالى من رقدتهم ( ولملئت منهم رعبا ) خوفا قرأ أهل الحجاز بتشديد اللام والآخرون بتخفيفها .
واختلفوا في أن الرعب كان لماذا قيل من وحشة المكان .
وقال الكلبي : لأن أعينهم كانت مفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام .
وقيل : لكثرة شعورهم وطول أظفارهم ولتقلبهم من غير حس ولا إشعار .
وقيل : إن الله تعالى منعهم بالرعب لئلا يراهم أحد .
وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : غزونا مع معاوية نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف ، فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم . فقال ابن عباس رضي الله عنهم : لقد منع ذلك من هو خير منك ، فقال : " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا " فبعث معاوية ناسا فقال : اذهبوا فانظروا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم .
( وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا ( 19 ) )
قوله تعالى : ( وكذلك بعثناهم ) أي : كما أنمناهم في الكهف وحفظنا أجسادهم من البلى على طول الزمان فكذلك بعثناهم من النومة التي تشبه الموت ( ليتساءلوا بينهم ) ليسأل بعضهم بعضا واللام فيه لام العاقبة لأنهم لم يبعثوا للسؤال .
( قال قائل منهم ) وهو رئيسهم مكسلمينا ( كم لبثتم ) في نومكم؟ وذلك أنهم استنكروا طول نومهم ويقال : إنهم راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك .
( قالوا لبثنا يوما ) وذلك أنهم دخلوا الكهف غدوة فقالوا فانتبهوا [ حين انتبهوا ] عشية [ ص: 160 ] فقالوا : لبثنا يوما ثم نظروا وقد بقيت من الشمس بقية فقالوا : ( أو بعض يوم ) فلما نظروا إلى طول شعورهم وأظفارهم علموا أنهم لبثوا أكثر من يوم .
( قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ) وقيل : إن رئيسهم مكسلمينا لما سمع الاختلاف بينهم قال : دعوا الاختلاف ربكم أعلم بما لبثتم ( فابعثوا أحدكم بورقكم هذه ) يعني يمليخا .
قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر : بورقكم ساكنة الراء والباقون بكسرها ومعناهما واحد وهي الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة .
( إلى المدينة ) قيل : هي طرسوس وكان اسمها في الجاهلية أفسوس فسموها في الإسلام طرسوس .
( فلينظر أيها أزكى طعاما ) أي : أحل طعاما حتى لا يكون من غصب أو سبب حرام وقيل : أمروه أن يطلب ذبيحة مؤمن ولا يكون من ذبيحة من يذبح لغير الله وكان فيهم مؤمنون يخفون إيمانهم وقال الضحاك : أطيب طعاما وقال مقاتل بن حيان : أجود طعاما وقال عكرمة : أكثر وأصل الزكاة الزيادة وقيل : أرخص طعاما .
( فليأتكم برزق منه ) أي : قوت وطعام تأكلونه ( وليتلطف ) وليترفق في الطريق وفي المدينة وليكن في ستر وكتمان ( ولا يشعرن ) ولا يعلمن ( بكم أحدا ) من الناس .
( إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا ( 20 ) ( وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا ( 21 ) )
( إنهم إن يظهروا عليكم ) أي : يعلموا بمكانكم ( يرجموكم ) قال ابن جريج : يشتمونكم ويؤذونكم بالقول وقيل : يقتلوكم وقيل : كان من عاداتهم القتل بالحجارة وهو أخبث القتل وقيل : يضربوكم ( أو يعيدوكم في ملتهم ) أي إلى الكفر ( ولن تفلحوا إذا أبدا ) إن عدتم إليه . قوله عز وجل : ( وكذلك أعثرنا ) أي : أطلعنا ( عليهم ) يقال : عثرت على الشيء : إذا اطلعت عليه وأعثرت غيري أي : أطلعته ( ليعلموا أن وعد الله حق ) يعني قوم بيدروس الذين أنكروا البعث ( وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم ) قال ابن عباس : [ ص: 161 ] يتنازعون في البنيان فقال المسلمون : نبني عليهم مسجدا يصلي فيه الناس لأنهم على ديننا وقال المشركون : نبني عليهم بنيانا لأنهم من أهل نسبنا .
وقال عكرمة : تنازعوا في البعث ، فقال المسلمون : البعث للأجساد والأرواح معا ، وقال قوم : للأرواح دون الأجساد فبعثهم الله تعالى وأراهم أن البعث للأجساد والأرواح .
وقيل : تنازعوا في مدة لبثهم . وقيل : في عددهم .
( ( فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم ) بيدروس الملك وأصحابه ( لنتخذن عليهم مسجدا )
( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا ( 22 ) )
( ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ) روي أن السيد والعاقب وأصحابهما من نصارى أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد - وكان يعقوبيا - : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم وقال العاقب - وكان نسطوريا - : كانوا خمسة سادسهم كلبهم وقال المسلمون : كانوا سبعة ثامنهم كلبهم فحقق الله قول المسلمين بعدما حكى قول النصارى فقال : ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ) أي : ظنا وحدسا من غير يقين ولم يقل هذا في حق السبعة فقال : ( ويقولون ) يعني : المسلمين ( سبعة وثامنهم كلبهم )
اختلفوا في الواو في قوله : ( وثامنهم ) قيل : تركها وذكرها سواء .
وقيل : هي واو الحكم والتحقيق كأنه حكى اختلافهم وتم الكلام عند قوله ويقولون سبعة ثم حقق هذا القول بقوله ( وثامنهم كلبهم ) والثامن لا يكون إلا بعد السابع .
وقيل : هذه واو الثمانية وذلك أن العرب تعد فتقول واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية لأن العقد كان عندهم سبعة كما هو اليوم عندنا عشرة نظيره قوله تعالى " التائبون العابدون الحامدون " [ ص: 162 ] إلى قوله : " والناهون عن المنكر " ( التوبة - 112 ) وقال في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا " ( التحريم - 5 ) .
( قل ربي أعلم بعدتهم ) أي : بعددهم ( ما يعلمهم إلا قليل ) أي : إلا قليل من الناس . قال ابن عباس : أنا من القليل كانوا سبعة .
وقال محمد بن إسحاق : كانوا ثمانية قرأ : ( وثامنهم كلبهم ) أي : حافظهم والصحيح هو الأول .
وروي عن ابن عباس أنه قال : هم مكسلمينا ويمليخا ومرطونس وبينونس وسارينونس وذو نوانس وكشفيططنونس وهو الراعي والكلب قطمير .
( فلا تمار فيهم ) أي : لا تجادل ولا تقل في عددهم وشأنهم ( إلا مراء ظاهرا ) إلا بظاهر ما قصصنا عليك يقول : حسبك ما قصصت عليك فلا تزد عليه وقف عنده ( ولا تستفت فيهم منهم ) من أهل الكتاب ( أحدا ) أي : لا ترجع إلى قولهم بعد أن أخبرناك .
ابو وليد البحيرى
2022-03-28, 10:02 PM
الحلقة (270)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ الْكَهْفِ
مِائَةٌ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ
الاية23 إلى الاية 32
( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ( 23 ) إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ( 24 ) )
( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ) يعني : إذا عزمت على أن تفعل غدا شيئا فلا تقل : أفعل غدا حتى تقول إن شاء الله وذلك أن أهل مكة سألوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فقال : أخبركم غدا ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي أياما ثم نزلت هذه الآية . ( واذكر ربك إذا نسيت ) قال ابن عباس ومجاهد والحسن : معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن .
وجوز ابن عباس الاستثناء المنقطع وإن كان إلى سنة وجوزه الحسن ما دام في المجلس وجوزه بعضهم إذا قرب الزمان فإن بعد فلا يصح . ولم [ يجوز باستثناء ] جماعة حتى يكون متصلا بالكلام
[ ص: 163 ] وقال عكرمة : معنى الآية : واذكر ربك إذا غضبت .
وقال وهب : مكتوب في الإنجيل : ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب .
وقال الضحاك والسدي : هذا في الصلاة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا الحسن بن أحمد المخلدي حدثنا أبو العباس السراج حدثنا قتيبة حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها " . [ ص: 164 ]
( وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ) أي : يثبتني على طريق هو أقرب إليه وأرشد .
وقيل : أمر الله نبيه أن يذكره إذا نسي شيئا ويسأله أن يهديه لما هو خير له من ذكر ما نسيه .
ويقال : هو أن القوم لما سألوه عن قصة أصحاب الكهف على وجه العناد أمره الله عز وجل أن يخبرهم أن الله سيؤتيه من الحجج على صحة نبوته ما هو أدل لهم من قصة أصحاب الكهف وقد فعل حيث أتاه من علم الغيب المرسلين ما كان أوضح لهم في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف .
وقال بعضهم : هذا شيء أمر أن يقوله مع قوله " إن شاء الله " إذا ذكر الاستثناء بعد النسيان وإذا نسي الإنسان " إن شاء الله " فتوبته من ذلك أن يقول : " عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا " .
( ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ( 25 ) )
قوله عز وجل ( ولبثوا في كهفهم ) يعني أصحاب الكهف . قال بعضهم : هذا خبر عن أهل الكتاب أنهم قالوا ذلك . ولو كان خبرا من الله عز وجل عن قدر لبثهم لم يكن لقوله " قل الله أعلم بما لبثوا " وجه وهذا قول قتادة . ويدل عليه قراءة ابن مسعود : " وقالوا لبثوا في كهفهم " ثم رد الله تعالى عليهم فقال : " قل الله أعلم بما لبثوا " .
وقال الآخرون : هذا إخبار من الله تعالى عن قدر لبثهم في الكهف وهو الأصح .
[ وأما قوله : " قل الله أعلم بما لبثوا " فمعناه : أن الأمر من مدة لبثهم ] كما ذكرنا فإن نازعوك فيها فأجبهم وقل : الله أعلم بما لبثوا أي : هو أعلم منكم وقد أخبرنا بمدة لبثهم . [ ص: 165 ]
وقيل : إن أهل الكتاب قالوا : إن هذه المدة من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين فرد الله عليهم وقال : " قل الله أعلم بما لبثوا " يعني : بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلمه إلا الله
قوله تعالى : ( ثلاث مائة سنين ) قرأ حمزة والكسائي " ثلاث مائة " بلا تنوين وقرأ الآخرون بالتنوين .
فإن قيل : لم قال : ثلاث مائة سنين [ ولم يقل سنة؟ ] .
قيل : نزل قوله : " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة " فقالوا : أياما أو شهورا أو سنين؟ فنزلت " سنين " .
قال الفراء : ومن العرب من يضع سنين في موضع سنة .
وقيل : معناه ولبثوا في كهفهم سنين ثلاث مائة .
( وازدادوا تسعا ) قال الكلبي قالت نصارى نجران أما " ثلاث مائة " فقد عرفنا وأما التسع فلا علم لنا بها فنزلت .
( قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا ( 26 ) )
( قل الله أعلم بما لبثوا ) روي عن علي أنه قال : عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاث مائة شمسية والله تعالى ذكر ثلاث مائة قمرية والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مائة سنة ثلاث سنين فيكون في " ثلاث مائة " تسع سنين فلذلك قال : " وازدادوا تسعا " .
( له غيب السماوات والأرض ) فالغيب ما يغيب عن إدراك والله عز وجل لا يغيب عن إدراكه شيء .
( أبصر به وأسمع ) أي : ما أبصر الله بكل موجود وأسمعه لكل مسموع . أي : لا يغيب عن سمعه وبصره شيء .
( ما لهم ) أي : ما لأهل السموات والأرض ( من دونه ) أي من دون الله ( من ولي ) ناصر ( ولا يشرك في حكمه أحدا ) قرأ ابن عامر ويعقوب : " ولا تشرك " بالتاء على المخاطبة والنهي وقرأ الآخرون بالياء أي : لا يشرك الله في حكمه أحدا . وقيل : " الحكم " هنا علم الغيب أي : لا يشرك في علم غيبه أحدا .
[ ص: 166 ] ( واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا ( 27 ) ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ( 28 ) )
قوله عز وجل : ( واتل ) واقرأ يا محمد ( ما أوحي إليك من كتاب ربك ) يعني القرآن واتبع ما فيه ( لا مبدل لكلماته ) قال الكلبي : لا مغير للقرآن . وقيل : لا مغير لما أوعد بكلماته أهل معاصيه . ( ولن تجد ) أنت ( من دونه ) إن لم تتبع القرآن ( ملتحدا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : حرزا . وقال الحسن : مدخلا . وقال مجاهد : ملجأ . وقيل : معدلا . وقيل : مهربا . وأصله من الميل . قوله عز وجل : ( واصبر نفسك ) الآية . نزلت في عيينة بن حصن الفزاري أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء فيهم سلمان وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوصة يشقها ثم ينسجها فقال عيينة للنبي صلى الله عليه وسلم : أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحهم عنك حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا ولهم مجلسا فأنزل الله عز وجل : ( واصبر نفسك ) أي احبس يا محمد نفسك ( مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) طرفي النهار ( يريدون وجهه ) أي : يريدون الله لا يريدون به عرضا من الدنيا .
قال قتادة : نزلت في أصحاب الصفة وكانوا سبعمائة رجل فقراء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجعون إلى تجارة ولا إلى زرع ولا ضرع يصلون صلاة وينتظرون أخرى فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم " .
( ولا تعد ) أي : لا تصرف ولا تتجاوز ( عيناك عنهم ) إلى غيرهم ( تريد زينة الحياة الدنيا ) أي : طلب مجالسة الأغنياء والأشراف وصحبة أهل الدنيا .
( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ) أي : جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا يعني : عيينة بن [ ص: 167 ] حصن . وقيل : أمية بن خلف ( واتبع هواه ) أي مراده في طلب الشهوات ( وكان أمره فرطا ) قال قتادة ومجاهد : ضياعا وقيل : معناه ضيع أمره وعطل أيامه وقيل : ندما . وقال مقاتل بن حيان : سرفا . وقال الفراء : متروكا . وقيل باطلا . وقيل : مخالفا للحق . وقال الأخفش : مجاوزا للحد . قيل : معنى التجاوز في الحد هو قول عيينة : إن أسلمنا أسلم الناس وهذا إفراط عظيم .
( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ( 29 ) )
( وقل الحق من ربكم ) أي ما ذكر من الإيمان والقرآن معناه : قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : أيها الناس [ قد جاءكم من ربكم الحق ] وإليه التوفيق والخذلان وبيده الهدى والضلال ليس إلي من ذلك شيء .
( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) هذا على طريق التهديد والوعيد كقوله : " اعملوا ما شئتم " ( فصلت - 40 ) .
وقيل معنى الآية : وقل الحق من ربكم ولست بطارد المؤمنين لهواكم فإن شئتم فآمنوا وإن شئتم فاكفروا فإن كفرتم فقد أعد لكم ربكم نارا أحاط بكم سرادقها وإن آمنتم فلكم ما وصف الله عز وجل لأهل طاعته .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية : من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر وهو قوله : " وما تشاءون إلا أن يشاء الله " ( الإنسان - 30 ) .
( إنا أعتدنا ) أعددنا وهيأنا من الإعداد وهو العدة ( للظالمين ) للكافرين ( نارا أحاط بهم سرادقها ) " السرادق " : الحجرة التي تطيف بالفساطيط . [ ص: 168 ]
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي أنبأنا عبد الله بن محمود أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أنبأنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد حدثني عمرو بن الحارث عن دراج بن أبي السمح عن أبي الهيثم بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : " سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة " .
قال ابن عباس : هو حائط من نار .
وقال الكلبي : هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة .
وقيل : هو دخان يحيط بالكفار وهو الذي ذكره الله تعالى : " انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب " ( المرسلات - 30 ) .
( وإن يستغيثوا ) من شدة العطش ( يغاثوا بماء كالمهل )
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي أنبأنا عبد الله بن محمود أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال حدثنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد حدثنا عمرو بن الحارث عن دراج بن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ( بماء كالمهل ) قال كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه " .
وقال ابن عباس : هو ماء غليظ مثل دردي الزيت .
وقال مجاهد : هو القيح والدم .
وسئل ابن مسعود عن : " المهل " فدعا بذهب وفضة فأوقد عليهما النار حتى ذابا ثم قال : هذا أشبه شيء بالمهل .
( يشوي الوجوه ) ينضج الوجوه من حره .
( بئس الشراب وساءت ) النار ( مرتفقا ) قال ابن عباس : منزلا وقال مجاهد : مجتمعا وقال عطاء : مقرا . وقال القتيبي : مجلسا . وأصل " المرتفق " : المتكأ .
[ ص: 169 ] ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ( 30 ) أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا ( 31 ) واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا ( 32 ) )
قوله تعالى ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) فإن قيل : أين جواب قوله : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ؟
قيل : جوابه قوله : ( أولئك لهم جنات عدن تجري ) وأما قوله : ( إنا لا نضيع ) فكلام معترض .
وقيل : فيه إضمار ، معناه : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنا لا نضيع أجرهم بل نجازيهم ثم ذكر الجزاء فقال . ( أولئك لهم جنات عدن ) أي إقامة . يقال : عدن فلان بالمكان إذا أقام به سميت عدنا لخلود المؤمنين فيها ( تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ) قال سعيد بن جبير : يحلى كل واحد منهم ثلاث أساور : واحد من ذهب وواحد من فضة وواحد من لؤلؤ ويواقيت ( ويلبسون ثيابا خضرا من سندس ) وهو ما رق من الديباج ( وإستبرق ) وهو ما غلظ منه ومعنى الغلظ في ثياب الجنة : إحكامه وعن أبي عمران الجوني قال : السندس هو الديباج المنسوج بالذهب ( متكئين فيها ) في الجنان ( على الأرائك ) وهي السرر في الحجال واحدتها أريكة ( نعم الثواب ) أي نعم الجزاء ( وحسنت ) الجنان ( مرتفقا ) أي مجلسا ومقرا . ( واضرب لهم مثلا رجلين ) الآية قيل : نزلت في أخوين من أهل مكة من بني مخزوم أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل [ وكان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 170 ] والآخر كافر وهو الأسود بن عبد الأسد بن عبد ياليل ] .
وقيل : هذا مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وأصحابه شبههما برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا في قول ابن عباس وقال مقاتل : يمليخا والآخر كافر واسمه قطروس وقال وهب : قطفير وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة " والصافات " وكانت قصتهما على ما حكى عبد الله بن المبارك عن معمر عن عطاء الخراساني قال : كان رجلان شريكين لهما ثمانية آلاف دينار وقيل : كانا أخوين ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فعمد أحدهما فاشترى أرضا بألف دينار فقال صاحبه : اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار فإني أشتري منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال هذا : اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار فإني أشتري منك دارا في الجنة بألف دينار فتصدق بذلك ثم تزوج صاحبه امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال هذا المؤمن : اللهم إني أخطب إليك امرأة من نساء الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم اشترى صاحبه خدما ومتاعا بألف دينار فقال هذا : اللهم إني أشتري منك متاعا وخدما في الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم أصابته حاجة شديدة فقال : لو أتيت صاحبي لعله ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مر به في حشمه فقام إليه فنظر إليه الآخر فعرفه فقال : فلان؟ قال : نعم فقال : ما شأنك؟ قال : أصابتني حاجة بعدك فأتيتك لتصيبني بخير فقال : ما فعل مالك وقد اقتسمنا مالا واحدا وأخذت شطره؟ فقص عليه قصته فقال : وإنك لمن المصدقين بهذا ؟ اذهب فلا أعطيك شيئا فطرده فقضي لهما أن توفيا فنزل فيهما : " فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين " ( الصافات - 50 ، 51 ) .
وروي أنه لما أتاه أخذ بيده وجعل يطوف به ويريه أموال نفسه فنزل فيهما .
( واضرب لهم مثلا رجلين ) اذكر لهم خبر رجلين ( جعلنا لأحدهما جنتين ) بستانين ( من أعناب وحففناهما بنخل ) أي : أطفناهما من جوانبهما بنخل والحفاف : الجانب وجمعه أحفة ، يقال : حف به القوم أي : طافوا بجوانبه ( وجعلنا بينهما زرعا ) أي : جعلنا حول الأعناب النخيل ووسط الأعناب الزرع . [ ص: 171 ]
وقيل : " بينهما " أي بين الجنتين زرعا يعني : لم يكن بين الجنتين موضع خراب .
ابو وليد البحيرى
2022-04-12, 03:15 PM
الحلقة (271)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ الْكَهْفِ
مِائَةٌ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ
الاية33 إلى الاية 51
( قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ( 37 ) لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ( 38 ) ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا ( 39 ) فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا ( 40 ) )
( قال له صاحبه ) المسلم ( وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ) أي خلق أصلك من تراب ( ثم ) خلقك ( من نطفة ثم سواك رجلا ) أي : عدلك بشرا سويا ذكرا . ( لكنا هو الله ربي ) قرأ ابن عامر ويعقوب : " لكنا " بالألف في الوصل وقرأ الباقون بلا ألف واتفقوا على إثبات الألف في الوقف وأصله : " لكن أنا " فحذفت الهمزة طلبا للتخفيف لكثرة استعمالها ثم أدغمت إحدى النونين في الأخرى قال الكسائي فيه تقديم وتأخير مجازه : لكن الله هو ربي ( ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك ) أي : هلا إذ دخلت جنتك ( قلت ما شاء الله ) أي الأمر ما شاء الله . وقيل : جوابه مضمر أي : ما شاء الله كان ، وقوله : ( لا قوة إلا بالله ) أي : لا أقدر على حفظ مالي أو دفع شيء عنه إلا [ بإذن الله ] .
وروي عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى من ماله شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال ما شاء الله لا قوة إلا بالله .
ثم قال : ( إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا ) و " أنا " عماد ولذلك نصب " أقل " معناه : إن ترني أقل منك مالا وولدا فتكبرت وتعظمت علي . ( فعسى ربي ) فلعل ربي ( أن يؤتين ) يعطيني في الآخرة ( خيرا من جنتك ويرسل عليها ) [ ص: 173 ] أي : على جنتك ( حسبانا ) قال قتادة : عذابا وقال ابن عباس رضي الله عنه : نارا . وقال القتيبي : مرامي ( من السماء ) وهي مثل صاعقة أو شيء يهلكها واحدتها : " حسبانة " ( فتصبح صعيدا زلقا ) أي أرضا جرداء ملساء لا نبات فيها وقيل : تزلق فيها الأقدام وقال مجاهد : رملا هائلا .
( أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا ( 41 ) وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ( 42 ) ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا ( 43 ) هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا ( 44 ) )
( أو يصبح ماؤها غورا ) أي : غائرا منقطعا ذاهبا لا تناله الأيدي ولا الدلاء و " الغور " : مصدر وضع موضع الاسم مثل : زور وعدل ( فلن تستطيع له طلبا ) يعني : إن طلبته لم تجده . ( وأحيط بثمره ) أي : أحاط العذاب بثمر جنته وذلك أن الله تعالى أرسل عليها نارا فأهلكتها وغار ماؤها ( فأصبح ) صاحبها الكافر ( يقلب كفيه ) أي يصفق بيده على الأخرى ويقلب كفيه ظهرا لبطن تأسفا وتلهفا ( على ما أنفق فيها وهي خاوية ) أي ساقطة ( على عروشها ) سقوفها ( ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ) قال الله تعالى ( ولم تكن له فئة ) جماعة ( ينصرونه من دون الله ) يمنعونه من عذاب الله ( وما كان منتصرا ) ممتنعا منتقما أي : لا يقدر على الانتصار لنفسه وقيل : لا يقدر على رد ما ذهب عنه . ( ( هنالك الولاية لله الحق ) يعني : في القيامة قرأ حمزة والكسائي " الولاية " بكسر الواو يعني السلطان وقرأ الآخرون بفتح الواو من الموالاة والنصر كقوله تعالى : " الله ولي الذين آمنوا " ( البقرة - 257 ) قال القتيبي : يريد أنهم يولونه يومئذ ويتبرءون مما كانوا يعبدون .
وقيل : بالفتح : الربوبية وبالكسر : الإمارة .
( الحق ) برفع القاف : أبو عمرو والكسائي على نعت الولاية وتصديقه قراءة أبي : ( هنالك الولاية لله الحق ) وقرأ الآخرون بالجر على صفة الله كقوله تعالى : " ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق " ( الأنعام - 62 ) . [ ص: 174 ]
( هو خير ثوابا ) أفضل جزاء لأهل طاعته لو كان غيره يثيب ( وخير عقبا ) أي : عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره فهو خير إثابة . و " عاقبة " : طاعة قرأ حمزة وعاصم " عقبا " ساكنة القاف وقرأ الآخرون بضمها .
( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ( 45 ) ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ( 46 ) )
قوله تعالى : ( واضرب لهم ) يا محمد أي : لقومك ( مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ) يعني المطر ( فاختلط به نبات الأرض ) خرج منه كل لون وزهرة ( فأصبح ) عن قريب ( هشيما ) يابسا قال ابن عباس وقال الضحاك : كسيرا والهشيم : ما يبس وتفتت من النباتات فأصبح هشيما ( تذروه الرياح ) قال ابن عباس : تثيره الرياح وقال أبو عبيدة : تفرقه . وقال القتيبي : تنسفه ( وكان الله على كل شيء مقتدرا ) قادرا . ( المال والبنون ) التي يفتخر بها عتبة وأصحابه الأغنياء ( زينة الحياة الدنيا ) ليست من زاد الآخرة .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : المال والبنون حرث الدنيا والأعمال الصالحة حرث الآخرة وقد يجمعها الله لأقوام .
( والباقيات الصالحات ) اختلفوا فيها فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد : هي قول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أفضل الكلام أربع كلمات : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " .
أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنفي أنبأنا أبو بكر محمد بن الحسن الحيري أخبرنا أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل الهاشمي أنبأنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي حدثنا أبو معاوية عن [ ص: 175 ] الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار أنبأنا حميد بن زنجويه حدثنا عثمان عن أبي صالح حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " استكثروا من الباقيات الصالحات " قيل : وما هن يا رسول الله؟ [ قال : " الملة " قيل : وما هي يا رسول الله ] قال : " التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " .
وقال سعيد بن جبير ومسروق وإبراهيم : " والباقيات الصالحات " هي : الصلوات الخمس . ويروى هذا عن ابن عباس .
وعنه رواية أخرى : أنها الأعمال الصالحة وهو قول قتادة .
قوله تعالى ( خير عند ربك ثوابا ) أي جزاء . المراد : ( وخير أملا ) أي ما يأمله الإنسان .
( ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ( 47 ) )
قوله عز وجل : ( ويوم نسير الجبال ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : " تسير " بالتاء وفتح الياء ( الجبال ) رفع دليله : قوله تعالى : " وإذا الجبال سيرت " ( التكوير - 3 ) .
وقرأ الآخرون بالنون وكسر الياء " الجبال " نصب وتسيير الجبال : نقلها من مكان إلى مكان .
( وترى الأرض بارزة ) أي : ظاهرة ليس عليها شجر ولا جبل ولا نبات كما قال : " فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " ( طه - 107 ) . [ ص: 176 ]
قال عطاء : هو بروز ما في باطنها من الموتى وغيرهم فترى باطن الأرض ظاهرا .
( وحشرناهم ) جميعا إلى الموقف والحساب ( فلم نغادر منهم ) أي : نترك منهم ( أحدا )
( وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ( 48 ) )
( وعرضوا على ربك صفا ) أي صفا صفا فوجا فوجا لا أنهم صف واحد وقيل : قياما ثم يقال لهم يعني الكفار ( ( لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ) يعني أحياء وقيل : فرادى كما ذكر في سورة الأنعام وقيل : غرلا .
( بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ) يوم القيامة يقوله لمنكري البعث .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا معلى بن أسد حدثنا وهب عن ابن طاوس عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان بن المغيرة بن النعمان حدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنكم محشورون حفاة عراة غرلا " ثم قرأ " كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " ( الأنبياء - 104 ) وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم وإن ناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أصحابي أصحابي فيقول : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح : " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم " إلى قوله : " العزيز الحكيم " ( المائدة 117 - 118 ) .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي [ أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي ] أخبرنا أبو القاسم جعفر [ ص: 177 ] بن محمد بن المغلس ببغداد حدثنا هارون بن إسحاق الهمذاني أنبأنا أبو خالد الأحمر عن حاتم بن أبي صغير عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله كيف يحشر الناس يوم القيامة؟ قال : " عراة حفاة " قالت : قلت والنساء؟ قال : " والنساء " قالت : قلت يا رسول الله نستحي قال : " يا عائشة الأمر أشد من ذلك أن يهمهم أن ينظر بعضهم إلى بعض " .
( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ( 49 ) )
قوله عز وجل : ( ووضع الكتاب ) يعني : كتب [ أعمال العباد ] توضع في أيدي الناس في أيمانهم وشمائلهم وقيل : معناه توضع بين يدي الله تعالى ( فترى المجرمين مشفقين ) خائفين ( مما فيه ) من الأعمال السيئة ( ويقولون ) إذا رأوها ( يا ويلتنا ) يا هلاكنا و " الويل " و " الويلة " : الهلكة وكل من وقع في هلكة دعا بالويل ومعنى النداء تنبيه المخاطبين ( ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ) من ذنوبنا . قال ابن عباس : " الصغيرة " : التبسم و " الكبيرة " : القهقهة وقال سعيد بن جبير : " الصغيرة " : اللمم واللمس والقبلة و " الكبيرة " : الزنا . ( إلا أحصاها ) عدها قال السدي : كتبها وأثبتها قال مقاتل بن حيان حفظها .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنبأنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني أنبأنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو بن بسطام أنبأنا أبو الحسن أحمد بن يسار القرشي حدثنا يوسف بن عدي المصري حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض عن أبي حازم قال : لا أعلمه إلا عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن واد فجاء هذا بعود وجاء هذا بعود فأنضجوا خبزهم وإن محقرات الذنوب لموبقات . [ ص: 178 ]
قوله تعالى : ( ووجدوا ما عملوا حاضرا ) مكتوبا مثبتا في كتابهم ( ولا يظلم ربك أحدا ) أي لا ينقص ثواب أحد عمل خيرا .
وقال الضحاك : لا يؤاخذ أحدا بجرم لم يعمله .
وقال عبد الله بن قيس : " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما العرضتان : فجدال ومعاذير وأما العرضة الثالثة : فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله " ورفعه بعضهم عن أبي موسى .
( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ( 50 ) )
قوله عز وجل : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) يقول : واذكر يا محمد إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ( فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ) قال ابن عباس : كان من حي من الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم . وقال الحسن : كان من الجن ولم يكن من الملائكة فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس ( ففسق ) أي خرج ( عن أمر ربه ) عن طاعة ربه ( أفتتخذونه ) يعني يا بني آدم ( وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو ) أي أعداء . [ ص: 179 ]
روى مجالد عن الشعبي قال : إني لقاعد يوما إذ أقبل رجل فقال : أخبرني هل لإبليس زوجة؟ قلت : إن ذلك عرس ما شهدته ، ثم ذكرت قوله تعالى : ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ) فعلمت أنه لا تكون الذرية إلا من الزوجة ، فقلت : نعم .
وقال قتادة : يتوالدون كما يتوالد بنو آدم .
وقيل : إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين .
قال مجاهد : من ذرية إبليس : " لاقيس " و " ولهان " وهما صاحبا الطهارة والصلاة ، و " الهفاف " و " مرة " وبه يكنى و " زلنبور " وهو صاحب [ الأسواق ، يزين اللغو والحلف الكاذب ومدح السلع ، و " ثبر " وهو صاحب المصائب ] يزين خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب و " الأعور " وهو صاحب الزنا ينفخ في إحليل الرجل وعجز المرأة و " مطوس " وهو صاحب الأخبار الكاذبة يلقيها في أفواه الناس لا يجدون لها أصلا و " داسم " وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع أو يحتبس موضعه وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه قال الأعمش : ربما دخلت البيت ولم أذكر اسم الله ولم أسلم فرأيت مطهرة فقلت ارفعوا هذه وخاصمتهم ثم أذكر اسم الله فأقول داسم داسم .
وروي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء " . [ ص: 180 ]
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنبأنا مسلم بن الحجاج حدثنا يحيى بن خلف الباهلي أنبأنا عبد الأعلى عن سعيد الجريري عن أبي العلاء; أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذاك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا " قال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني .
وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنبأنا مسلم بن الحجاج حدثنا أبو كريب محمد بن علاء أنبأنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا فيقول : ما صنعت شيئا ، قال : ثم يجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته ، قال : فيدنيه منه ، ويقول : نعم أنت " . قال الأعمش أراه قال : فيلتزمه .
قوله تعالى ( بئس للظالمين بدلا ) قال قتادة : بئس ما استبدلوا طاعة إبليس وذريته بعبادة ربهم .
( ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ( 51 ) )
( ما أشهدتهم ) ما أحضرتهم وقرأ أبو جعفر " ما أشهدناهم " بالنون والألف على التعظيم أي : أحضرناهم يعني إبليس وذريته . وقيل : الكفار . وقال الكلبي : يعني الملائكة ( خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) يقول : ما أشهدتهم خلقا فأستعين بهم على خلقها وأشاورهم فيها ، ( وما كنت متخذ المضلين عضدا ) أي الشياطين الذين يضلون الناس عضدا ، أي : أنصارا وأعوانا .
ابو وليد البحيرى
2022-04-12, 03:16 PM
الحلقة (272)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ الْكَهْفِ
مِائَةٌ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ
الاية52 إلى الاية 72
( ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ( 52 ) ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ( 53 ) ( ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ( 54 ) )
قوله عز وجل : ( ويوم يقول ) قرأ حمزة بالنون والآخرون بالياء أي يقول الله لهم يوم القيامة : ( نادوا شركائي ) يعني الأوثان ( الذين زعمتم ) أنهم شركائي ( فدعوهم ) فاستغاثوا بهم ( فلم يستجيبوا لهم ) أي : لم يجيبوهم ولم ينصروهم ( وجعلنا بينهم ) يعني : بين الأوثان وعبدتها . وقيل : بين أهل الهدى وأهل الضلالة ، ( موبقا ) مهلكا قاله عطاء والضحاك . وقال ابن عباس : هو واد في النار . وقال مجاهد : واد في جهنم .
وقال عكرمة : هو نهر في النار يسيل نارا على حافته حيات مثل البغال الدهم .
قال ابن الأعرابي : وكل حاجز بين شيئين فهو موبق وأصله الهلاك يقال : أوبقه أي : أهلكه .
قال الفراء : وجعلنا تواصلهم في الدنيا مهلكا لهم في الآخرة ، والبين على هذا القول التواصل كقوله تعالى : " لقد تقطع بينكم " الأنعام - 94 . على قراءة من قرأ بالرفع . ( ( ورأى المجرمون النار ) أي المشركون ( فظنوا ) أيقنوا ( أنهم مواقعوها ) داخلوها وواقعون فيها ( ولم يجدوا عنها مصرفا ) معدلا لأنها أحاطت بهم من كل جانب . قوله عز وجل : ( ولقد صرفنا ) بينا ( في هذا القرآن للناس من كل مثل ) أي ليتذكروا ويتعظوا ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) خصومة في الباطل .
قال ابن عباس : أراد النضر بن الحارث وجداله في القرآن .
قال الكلبي : أراد به أبي بن خلف الجمحي .
وقيل : المراد من الآية الكفار ، لقوله تعالى : " ويجادل الذين كفروا بالباطل " ( الكهف - 56 ) .
وقيل : هي على العموم ، وهذا أصح .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف أنبأنا محمد بن إسماعيل أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أنبأنا علي بن الحسين أن [ ص: 182 ] الحسين بن علي أخبره أن عليا أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ، فقال : " ألا تصليان؟ قلت : يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك ولم يرجع إلي شيئا ، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول : ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) .
( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا ( 55 ) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ( 56 ) ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا ( 57 ) )
قوله عز وجل : ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ) القرآن والإسلام والبيان من الله عز وجل وقيل : إنه الرسول صلى الله عليه وسلم . ( ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين ) يعني سنتنا في إهلاكهم إن لم يؤمنوا .
وقيل : إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين من معاينة العذاب كما قالوا : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " ( الأنفال - 32 ) .
( أو يأتيهم العذاب قبلا ) قال ابن عباس : أي : عيانا من المقابلة . وقال مجاهد : فجأة ، وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة : ( قبلا ) بضم القاف والباء ، جمع قبيل أي : أصناف العذاب نوعا نوعا . ( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ) ومجادلتهم قولهم : " أبعث الله بشرا رسولا " ( الإسراء - 94 ) . " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " ( الزخرف - 31 ) وما أشبهه ( ليدحضوا ) ليبطلوا ( به الحق ) وأصل الدحض الزلق يريد ليزيلوا به الحق ( واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ) فيه إضمار يعني وما أنذروا به وهو القرآن هزوا أي استهزاء . ( ومن أظلم ممن ذكر ) وعظ ( بآيات ربه فأعرض عنها ) تولى عنها وتركها ولم يؤمن [ ص: 183 ] بها ( ونسي ما قدمت يداه ) أي : ما عمل من المعاصي من قبل ( إنا جعلنا على قلوبهم أكنة ) أغطية ( أن يفقهوه ) أي : يفهموه يريد لئلا يفهموه ( وفي آذانهم وقرا ) أي صمما وثقلا ( وإن تدعهم ) يا محمد ( إلى الهدى ) إلى الدين ( فلن يهتدوا إذا أبدا ) وهذا في أقوام علم الله منهم أنهم لا يؤمنون .
( وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ( 58 ) وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ( 59 ) وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ( 60 ) )
( وربك الغفور ذو الرحمة ) ذو النعمة ( لو يؤاخذهم ) يعاقب الكفار ( بما كسبوا ) من الذنوب ( لعجل لهم العذاب ) في الدنيا ( بل لهم موعد ) يعني البعث والحساب ( لن يجدوا من دونه موئلا ) ملجأ . ( وتلك القرى أهلكناهم ) يعني : قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ( لما ظلموا ) كفروا ( وجعلنا لمهلكهم موعدا ) أي : أجلا قرأ أبو بكر " لمهلكهم " بفتح الميم واللام ، [ وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام ، وكذلك في النمل " مهلك " أي لوقت هلاكهم ] وقرأ الآخرون بضم الميم وفتح اللام أي : لإهلاكهم . قوله عز وجل : ( وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ) عامة أهل العلم قالوا : إنه موسى بن عمران . وقال بعضهم : هو موسى بن ميشا من أولاد يوسف والأول أصح .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرني سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل فقال ابن عباس : كذب عدو الله حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ ص: 184 ] " إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال : أنا ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك ، قال موسى : يا رب فكيف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيث ما فقدت الحوت فهو ثم . فأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر ، فاتخذ سبيله في البحر سربا وأمسك الله تعالى عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال : ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به وقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا وقال موسى : ذلك ما كنا نبغ قال : رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر عليه السلام : وأنى بأرضك السلام ، فقال : أنا موسى قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا ، قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى ، إني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه فقال موسى : ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يضح إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئا إمرا! قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟ قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ، قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كانت الأولى من موسى نسيانا [ والوسطى شرطا والثالثة عمدا " ] قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر : ما [ نقص ] علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر [ ص: 185 ] غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله فقال له موسى : أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال : وهذه أشد من الأولى قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه ، قال : كان مائلا فقال الخضر بيده فأقامه ، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال : " هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما " .
قال سعيد بن جبير : فكان ابن عباس يقرأ : " وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا " ، وكان يقرأ : " وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين " .
وعن سعيد بن جبير في رواية أخرى عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " [ قام موسى ] رسول الله فذكر الناس يوما حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى فأدركه رجل فقال : أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال : لا - فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله - قيل : بلى [ عبدنا الخضر ] قال : يا رب وأين؟ قال : بمجمع البحرين [ قال : رب اجعل لي علما أعلم ذلك به ] قال : فخذ حوتا ميتا حيث ينفخ فيه الروح وفي رواية قيل له : تزود حوتا مالحا فإنه حيث تفقد الحوت فأخذ حوتا فجعله في مكتل " .
رجعنا إلى التفسير; قوله عز وجل : ( وإذ قال موسى لفتاه ) يوشع بن نون ( لا أبرح ) أي لا أزال أسير ( حتى أبلغ مجمع البحرين ) قال قتادة : بحر فارس وبحر الروم مما يلي المشرق . وقال محمد بن كعب طنجة . وقال أبي بن كعب : إفريقية . [ ص: 186 ]
( أو أمضي حقبا ) وإن كان حقبا أي دهرا طويلا وزمانا ، وجمعه أحقاب ، والحقب : جمع الحقب . قال عبد الله بن عمر : والحقب ثمانون سنة فحملا خبزا وسمكة مالحة حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين ليلا وعندها عين تسمى ماء الحياة لا يصيب ذلك الماء شيئا إلا حي فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده اضطربت في المكتل وعاشت ودخلت البحر .
( فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا ( 61 ) ( فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ( 62 ) )
فذلك قوله تعالى : ( فلما بلغا ) يعني موسى وفتاه ( مجمع بينهما ) أي : بين الفريقين ( نسيا ) تركا ( حوتهما ) وإنما كان الحوت مع يوشع وهو الذي نسيه وأضاف النسيان إليهما لأنهما جميعا تزوداه لسفرهما كما يقال : خرج القوم إلى موضع كذا وحملوا من الزاد كذا وإنما حمله واحد منهم .
( فاتخذ ) أي الحوت ( سبيله في البحر سربا ) أي مسلكا . [ وروي عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انجاب الماء عن مسلك ] الحوت فصار كوة لم يلتئم فدخل موسى الكوة على أثر الحوت فإذا هو بالخضر " .
قال ابن عباس : جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى صار صخرة .
وقال الكلبي : توضأ يوشع بن نون من عين الحياة فانتضح على الحوت المالح في المكتل من ذلك الماء فعاش ثم وثب في ذلك الماء فجعل يضرب بذنبه فلا يضرب بذنبه شيئا من الماء وهو ذاهب إلا يبس .
وقد روينا أنهما لما انتهيا إلى الصخرة وضعا رءوسهما فناما واضطرب الحوت فخرج وسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره فانطلقا حتى إذا كان من الغد . قوله تعالى : ( فلما جاوزا ) يعني ذلك الموضع وهو مجمع البحرين ( قال ) موسى ( لفتاه آتنا غداءنا ) أي طعامنا والغداء ما يعد للأكل غدوة والعشاء ما يعد للأكل عشية [ ص: 187 ] ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) أي : تعبا وشدة وذلك أنه ألقي على موسى الجوع بعد مجاوزة الصخرة ليتذكر الحوت ويرجع إلى مطلبه .
( قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا ( 63 ) قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا ( 64 ) )
( قال ) له فتاه وتذكر ( أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة ) وهي صخرة كانت بالموضع الموعود قال معقل بن زياد : هي الصخرة التي دون نهر الزيت ( فإني نسيت الحوت ) أي تركته وفقدته وذلك أن يوشع حين رأى ذلك من الحوت قام ليدرك موسى فيخبره فنسي أن يخبره فمكثا يومهما حتى صليا الظهر من الغد .
قيل في الآية إضمار معناه : نسيت أن أذكر لك أمر الحوت ثم قال :
( وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) أي : وما أنساني أن أذكر لك أمر الحوت إلا الشيطان وقرأ حفص : ( أنسانيه ) وفي الفتح : ( عليه الله ) بضم الهاء .
وقيل معناه أنسانيه لئلا أذكره .
( واتخذ سبيله في البحر عجبا ) قيل : هذا من قول يوشع ، ويقول : طفر الحوت إلى البحر فاتخذ فيه مسلكا فعجبت من ذلك عجبا .
وروينا في الخبر : كان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا .
وقيل : هذا من قول موسى لما قال له يوشع واتخذ سبيله في البحر قال له موسى : عجبا كأنه قال : أعجب عجبا .
قال ابن زيد : أي شيء أعجب من حوت يؤكل منه جهرا ثم صار حيا بعدما أكل بعضه؟ . ( قال ) موسى ( ذلك ما كنا نبغ ) أي نطلب ( فارتدا على آثارهما قصصا ) أي : رجعا يقصان الأثر الذي جاء منه أي : يتبعانه فوجدا عبدا من عبادنا قيل : كان ملكا من الملائكة ، [ ص: 188 ] والصحيح الذي جاء في التواريخ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان قيل : كان من نسل بني إسرائيل . وقيل : كان من أبناء الملوك الذين تزهدوا في الدنيا والخضر لقب له سمي بذلك لما :
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان حدثنا أحمد بن يوسف السلمي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما سمي خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء " .
قال مجاهد : سمي خضرا لأنه إذا صلى اخضر ما حوله .
وروينا : أن موسى رأى الخضر مسجى بثوب فسلم عليه فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام؟ قال : أنا موسى أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا .
وفي رواية أخرى لقيه مسجى بثوب مستلقيا على قفاه بعض الثوب تحت رأسه وبعضه تحت رجليه . وفي رواية لقيه وهو يصلي . ويروى لقيه على طنفسة خضراء على كبد البحر فذلك قوله تعالى :
( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ( 65 ) )
( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة ) أي نعمة ( من عندنا وعلمناه من لدنا علما ) أي : علم الباطن إلهاما ولم يكن الخضر نبيا عند أكثر أهل العلم .
[ ص: 189 ] ( ( قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا ( 66 ) قال إنك لن تستطيع معي صبرا ( 67 ) وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ( 68 ) قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ( 69 ) قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ( 70 ) فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا ( 71 ) )
فلما ( قال له موسى هل أتبعك ) يقول : جئتك لأتبعك وأصحبك ( على أن تعلمني مما علمت رشدا ) قرأ أبو عمرو ويعقوب : " رشدا " بفتح الراء والشين وقرأ الآخرون بضم الراء وسكون الشين أي صوابا وقيل : علما ترشدني به .
وفي بعض الأخبار أنه لما قال له موسى هذا قال له الخضر : كفى بالتوراة علما وببني إسرائيل شغلا فقال له موسى : إن الله أمرني بهذا فحينئذ : ( قال إنك لن تستطيع معي صبرا ) ( قال ) له الخضر ( إنك لن تستطيع معي صبرا ) وإنما قال ذلك لأنه علم أنه يرى أمورا منكرة ولا يجوز للأنبياء أن يصبروا على المنكرات . ثم بين عذره في ترك الصبر فقال : ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ) أي علما . ( قال ) موسى ( ستجدني إن شاء الله صابرا ) إنما استثنى لأنه لم يثق من نفسه بالصبر ( ولا أعصي لك أمرا ) أي : لا أخالفك فيما تأمر . ( قال فإن اتبعتني ) فإن صحبتني ولم يقل : اتبعني ولكن جعل الاختيار إليه إلا أنه شرط عليه شرطا فقال : ( فلا تسألني ) قرأأبو جعفر ونافع وابن عامر بفتح اللام وتشديد النون والآخرون بسكون اللام وتخفيف النون ( عن شيء ) أعمله مما تنكره ولا تعترض عليه ( حتى أحدث لك منه ذكرا ) حتى أبتدئ لك بذكره فأبين لك شأنه . ( فانطلقا ) يمشيان على الساحل يطلبان سفينة يركبانها فوجدا سفينة فركباها فقال أهل السفينة : هؤلاء لصوص وأمروهما بالخروج فقال صاحب السفينة : ما هم بلصوص ولكني أرى وجوه الأنبياء .
وروينا عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم : " مرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا [ ص: 190 ] الخضر فحملوهم بغير نول فلما لججوا البحر أخذ الخضر فأسا فخرق لوحا من السفينة " فذلك قوله تعالى :
( حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال ) له موسى ( أخرقتها لتغرق أهلها ) قرأ حمزة والكسائي : " ليغرق " بالياء وفتحها وفتح الراء " أهلها " بالرفع على اللزوم وقرأ الآخرون : بالتاء ورفعها وكسر الراء ( أهلها ) بالنصب على أن الفعل للخضر .
( لقد جئت شيئا إمرا ) أي : منكرا والإمر في كلام العرب الداهية وأصله : كل شيء شديد كثير يقال : أمر القوم : إذا كثروا واشتد أمرهم .
وقال القتيبي ( إمرا ) أي : عجبا .
وروي أن الخضر لما خرق السفينة لم يدخلها الماء . وروي أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فحشى به الخرق . وروي أن الخضر أخذ قدحا من الزجاج ورقع به خرق السفينة .
ابو وليد البحيرى
2022-04-12, 03:16 PM
الحلقة (273)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ الْكَهْفِ
مِائَةٌ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ
الاية52 إلى الاية 84
( قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ( 72 ) قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ( 73 ) فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا ( 74 ) )
( قال ) العالم وهو الخضر ( ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ) ( قال ) موسى ( لا تؤاخذني بما نسيت ) قال ابن عباس : إنه لم ينس ولكنه من معاريض الكلام فكأنه نسي شيئا آخر وقيل : معناه بما تركت من عهدك والنسيان : الترك . وقال أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم : " كانت الأولى من موسى نسيانا والوسطى شرطا والثالثة عمدا " . ( ولا ترهقني ) ولا تغشني ( من أمري عسرا ) وقيل : لا تكلفني مشقة يقال : أرهقته عسرا أي : كلفته ذلك يقول : لا تضيق علي أمري وعاملني باليسر ولا تعاملني بالعسر . ( فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله ) في القصة أنهما خرجا من البحر يمشيان فمرا بغلمان يلعبون فأخذ الخضر غلاما ظريفا وضيء الوجه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين .
قال السدي : كان أحسنهم وجها وكان وجهه يتوقد حسنا . [ ص: 191 ]
وروينا أنه أخذ برأسه فاقتلعه بيده وروى عبد الرزاق هذا الخبر وأشار بأصابعه الثلاث الإبهام والسبابة والوسطى وقلع برأسه .
وروي أنه رضخ رأسه بالحجارة .
وقيل : ضرب رأسه بالجدار فقتله .
قال ابن عباس : كان غلاما لم يبلغ الحنث وهو قول الأكثرين قال ابن عباس : لم يكن نبي الله يقول : أقتلت نفسا زكية إلا وهو صبي لم يبلغ .
وقال الحسن : كان رجلا وقال شعيب الجبائي : كان اسمه حيسور .
وقال الكلبي : كان فتى يقطع ويأخذ المتاع ويلجأ إلى أبويه .
وقال الضحاك : كان غلاما يعمل بالفساد وتأذى منه أبواه .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أخبرنا عبد الغافر بن محمد أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج أنبأنا عبد الله بن مسلمة بن معتب حدثنا معمر بن سليمان عن أبيه عن رقية بن مصقلة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا " .
( قال ) موسى ( أقتلت نفسا زكية ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو جعفر وأبو عمرو : " " زاكية " بالألف وقرأ الآخرون : " زكية " قال الكسائي والفراء : معناهما واحد مثل : القاسية والقسية وقال أبو عمرو بن العلاء : " الزاكية " : التي لم تذنب قط و " الزكية " : التي أذنبت ثم تابت .
( بغير نفس ) أي : لم تقتل نفسا [ بشيء ] وجب به عليها القتل .
( لقد جئت شيئا نكرا ) أي : منكرا قال قتادة : النكر أعظم من الإمر لأنه حقيقة الهلاك وفي خرق السفينة كان خوف الهلاك .
وقيل : الإمر أعظم لأنه كان فيه تغريق جمع كثير . [ ص: 192 ]
قرأ نافع وابن عامر ويعقوب وأبو بكر هاهنا : ( نكرا ) وفي سورة الطلاق بضم الكاف والآخرون بسكونها .
( قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ( 75 ) قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ( 76 ) فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا ( 77 ) )
( قال ) يعني الخضر : ( ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ) قيل : زاد " لك " لأنه نقض العهد مرتين وفي القصة أن يوشع كان يقول لموسى : يا نبي الله اذكر العهد الذي أنت عليه . ( قال ) موسى ( إن سألتك عن شيء بعدها ) بعد هذه المرة ( فلا تصاحبني ) وفارقني وقرأ يعقوب : " فلا تصحبني " بغير ألف من الصحبة .
( قد بلغت من لدني عذرا ) قرأ أبو جعفر ونافع وأبو بكر " من لدني " خفيفة النون وقرأ الآخرون بتشديدها قال ابن عباس : أي قد أعذرت فيما بيني وبينك .
وقيل : حذرتني أني لا أستطيع معك صبرا . وقيل : اتضح لك العذر في مفارقتي .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد أنبأنا محمد بن عيسى حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثنا محمد بن عبد الله القيسي حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن رقية عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رحمة الله علينا وعلى موسى " وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه " لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة قال : ( إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ) فلو صبر لرأى العجب " . قوله عز وجل : ( فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية ) قال ابن عباس : يعني : " أنطاكية " وقال ابن سيرين : هي " الأبلة " وهي أبعد الأرض من السماء وقيل : " برقة " . وعن أبي هريرة : بلدة بالأندلس ( استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما ) [ ص: 193 ]
قال أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم : " حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما فطافا في المجالس فاستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما " .
وروي أنهما طافا في القرية فاستطعماهم فلم يطعموهما واستضافوهم فلم يضيفوهما .
قال قتادة : شر القرى التي لا تضيف الضيف .
وروي عن أبي هريرة قال : أطعمتهما امرأة من أهل بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعا لنسائهم ولعن رجالهم .
قوله تعالى : ( فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض ) أي يسقط وهذا من مجاز كلام العرب لأن الجدار لا إرادة له وإنما معناه : قرب ودنا من السقوط كما تقول العرب : داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها .
( فأقامه ) أي سواه وروي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال الخضر بيده فأقامه .
وقال سعيد بن جبير : مسح الجدار بيده فاستقام وروي عن ابن عباس : هدمه ثم قعد يبنيه وقال السدي : بل طينا وجعل يبني الحائط .
( قال ) موسى ( لو شئت لاتخذت عليه أجرا ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب : " لتخذت " بتخفيف التاء وكسر الخاء وقرأ الآخرون : " لتخذت " بتشديد التاء وفتح الخاء وهما لغتان مثل اتبع وتبع ( عليه ) يعني على إصلاح الجدار ( أجرا ) يعني جعلا معناه : إنك قد علمت أننا جياع وأن أهل القرية لم يطعمونا فلو أخذت على عملك أجرا .
( ( قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ( 78 ) )
( قال ) الخضر : ( هذا فراق بيني وبينك ) يعني هذا وقت فراق بيني وبينك وقيل : هذا الإنكار على ترك الأجر هو المفرق بيننا . وقال الزجاج : معناه هذا فراق بيننا أي فراق اتصالنا وكرر " بين " تأكيدا .
( سأنبئك ) أي سوف أخبرك ( بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) وفي بعض التفاسير أن موسى أخذ بثوبه فقال : أخبرني بمعنى ما عملت قبل أن تفارقني فقال : ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر )
[ ص: 194 ] ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ( 79 ) وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ( 80 ) )
( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ) قال كعب : كانت لعشرة إخوة خمسة زمنى وخمسة يعملون في البحر وفيه دليل على أن المسكين وإن كان يملك شيئا فلا يزول عنه اسم المسكنة إذا لم يقم ما يملك بكفايته ( يعملون في البحر ) أي : يؤاجرون ويكتسبون بها ( فأردت أن أعيبها ) أجعلها ذات عيب .
( وكان وراءهم ) أي أمامهم ( ملك ) كقوله : " من ورائه جهنم " ( إبراهيم - 16 ) .
وقيل : " وراءهم " خلفهم وكان رجوعهم في طريقهم عليه والأول أصح يدل عليه قراءة ابن عباس " وكان أمامهم ملك " .
( يأخذ كل سفينة غصبا ) أي : كل سفينة صالحة غصبا وكان ابن عباس يقرأ كذلك فخرقها وعيبها الخضر حتى لا يأخذها الملك الغاصب وكان اسمه الجلندي وكان كافرا .
قال محمد بن إسحاق : اسمه " متوله بن جلندي الأزدي " .
وقال شعيب الجبائي : اسمه " هدد بن بدد " .
وروي أن الخضر اعتذر إلى القوم وذكر لهم شأن الملك الغاصب ولم يكونوا يعلمون بخبره وقال : أردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها فإذا جاوزوه أصلحوها فانتفعوا بها قيل : سدوها بقارورة وقيل : بالقار . قوله عز وجل : ( وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا ) أي فعلمنا [ وفي قراءة ابن عباس : " وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين فخشينا " أي : فعلمنا ] ( أن يرهقهما ) يغشيهما وقال الكلبي : يكلفهما ( طغيانا وكفرا ) قال سعيد بن جبير : فخشينا أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه .
[ ص: 195 ] ( فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ( 81 ) وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ( 82 ) )
( فأردنا أن يبدلهما ) قرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو : بالتشديد هاهنا وفي سورة " التحريم " و " القلم " وقرأ الآخرون بالتخفيف وهما لغتان وفرق بعضهم فقال : " التبديل " : تغيير الشيء أو تغيير حاله وعين الشيء قائم و " الإبدال " : رفع الشيء ووضع شيء آخر مكانه ( ربهما خيرا منه زكاة ) أي صلاحا وتقوى ( وأقرب رحما ) قرأ ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب : بضم الحاء والباقون بجزمها أي : عطفا من الرحمة . وقيل : هو من الرحم والقرابة قال قتادة : أي أوصل للرحم وأبر بوالديه .
قال الكلبي : أبدلهما الله جارية فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبيا فهدى الله على يديه أمة من الأمم .
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال : أبدلهما الله جارية ولدت سبعين نبيا .
وقال ابن جريج : أبدلهما بغلام .
قال مطرف : فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل . ولو بقي لكان فيه هلاكهما فليرض امرؤ بقضاء الله تعالى فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب . قوله عز وجل : ( وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة ) وكان اسمهما أصرم وصريم ( وكان تحته كنز لهما ) اختلفوا في ذلك الكنز . روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كان ذهبا وفضة " . [ ص: 196 ]
وقال عكرمة : كان مالا .
وعن سعيد بن جبير : كان الكنز صحفا فيها علم .
وعن ابن عباس : أنه قال كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه : " عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح! عجبا لمن أيقن بالحساب كيف يغفل! عجبا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب! عجبا لمن أيقن بالقدر كيف ينصب! عجبا لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها! لا إله إلا الله محمد رسول الله " . وفي الجانب الآخر مكتوب : " أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه " وهذا قول أكثر المفسرين وروي ذلك مرفوعا .
قال الزجاج : الكنز إذا أطلق ينصرف إلى كنز المال ، ويجوز عند التقييد أن يقال عنده كنز علم ، وهذا اللوح كان جامعا لهما .
( وكان أبوهما صالحا ) قيل : كان اسمه " كاسح " وكان من الأتقياء . قال ابن عباس : حفظا بصلاح أبويهما .
وقيل : كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء .
قال محمد بن المنكدر : إن الله يحفظ بصلاح العبد ولده [ وولد ولده ] وعترته وعشيرته وأهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم .
قال سعيد بن المسيب : إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي .
قوله عز وجل : ( فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ) أي : يبلغا ويعقلا . وقيل : أن يدركا شدتهما وقوتهما . وقيل : ثماني عشرة سنة .
( ويستخرجا ) حينئذ ( كنزهما رحمة ) نعمة ( من ربك ) [ ص: 197 ]
( وما فعلته عن أمري ) أي باختياري ورأيي بل فعلته بأمر الله وإلهامه ( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) أي لم تطق عليه صبرا و " استطاع " و " اسطاع " بمعنى واحد .
روي أن موسى لما أراد أن يفارقه قال له : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه لتعمل به .
واختلفوا في أن الخضر حي أم ميت ؟ قيل : إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم . وكان سبب حياته فيما يحكى أنه شرب من عين الحياة وذلك أن ذا القرنين دخل الظلمات لطلب عين الحياة . وكان الخضر على مقدمته فوقع الخضر على العين فنزل واغتسل وتوضأ وشرب وصلى شكرا لله عز وجل وأخطأ ذو القرنين الطريق فعاد .
وذهب آخرون إلى أنه ميت لقوله تعالى : " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " ( الأنبياء - 34 ) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى العشاء ليلة : " أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم حي على ظهر الأرض أحد " . ولو كان الخضر حيا لكان لا يعيش بعده " .
( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا ( 83 ) )
قوله عز وجل : ( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا ) خبرا واختلفوا في نبوته : فقال بعضهم : كان نبيا .
[ وقال أبو الطفيل : سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين أكان نبيا ] أم ملكا؟ قال : لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا أحب الله وأحبه الله ، ناصح الله فناصحه الله . [ ص: 198 ]
وروي أن عمر رضي الله عنه سمع رجلا يقول لآخر : يا ذا القرنين فقال : تسميتم بأسماء النبيين فلم ترضوا حتى تسميتم بأسماء الملائكة .
والأكثرون على أنه كان ملكا عادلا صالحا .
واختلفوا في سبب تسميته ب " ذي القرنين " قال الزهري : لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها .
وقيل : لأنه ملك الروم وفارس .
وقيل : لأنه دخل النور والظلمة .
وقيل : لأنه رأى في المنام كأنه أخذ بقرني الشمس .
وقيل : لأنه كانت له ذؤابتان حسنتان .
وقيل : لأنه كان له قرنان تواريهما العمامة .
وروى أبو الطفيل عن علي أنه [ قال سمي " ذا القرنين " لأنه ] أمر قومه بتقوى الله ، فضربوه على قرنه الأيمن فمات فبعثه الله ، ثم أمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات ، فأحياه الله .
واختلفوا في اسمه قيل : اسمه " مرزبان بن مرزبة اليوناني " من ولد يونان بن يافث بن نوح . وقيل : اسمه " الإسكندر بن فيلفوس بن ياملوس الرومي " .
( إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ( 84 ) )
قوله عز وجل ( إنا مكنا له في الأرض ) أوطأنا ، والتمكين : تمهيد الأسباب . قال علي : سخر له السحاب فحمله عليها ، ومد له في الأسباب ، وبسط له النور ، فكان الليل والنهار عليه سواء ، فهذا معنى تمكينه في الأرض وهو أنه سهل عليه السير فيها وذلل له طرقها .
( وآتيناه من كل شيء ) أي : أعطيناه من كل شيء يحتاج إليه الخلق . [ ص: 199 ]
وقيل : من كل ما يستعين به الملوك على فتح المدن ومحاربة الأعداء .
( سببا ) أي : علما يتسبب به إلى كل ما يريد ويسير به في أقطار الأرض ، والسبب : ما يوصل الشيء إلى الشيء .
وقال الحسن : بلاغا إلى حيث أراد . وقيل : قربنا إليه أقطار الأرض .
ابو وليد البحيرى
2022-04-12, 03:17 PM
الحلقة (274)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةُ الْكَهْفِ
مِائَةٌ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ
الاية85 إلى الاية 102
( فأتبع سببا ( 85 ) حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ( 86 ) )
( فأتبع سببا ) أي : سلك وسار ، قرأ أهل الحجاز ، والبصرة : " فاتبع " و " ثم اتبع " موصولا مشددا ، وقرأ الآخرون بقطع الألف وجزم التاء ، وقيل : معناهما واحد .
والصحيح : الفرق بينهما ، فمن قطع الألف فمعناه : أدرك ولحق ، ومن قرأ بالتشديد فمعناه : سار ، يقال : ما زلت أتبعه حتى أتبعته ، أي : ما زلت أسير خلفه حتى لحقته .
وقوله : " سببا " أي : طريقا . وقال ابن عباس : منزلا . ( حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ) قرأ أبو جعفر وأبو عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر : " حامية " بالألف غير مهموزة ، أي : حارة ، وقرأ الآخرون : ( حمئة ) مهموزا بغير الألف ، أي : ذات حمأة ، وهي الطينة السوداء .
وسأل معاوية كعبا : كيف تجد في التوراة أن تغرب الشمس؟ قال : نجد في التوراة أنها تغرب في ماء وطين .
قال القتيبي : يجوز أن يكون معنى قوله : ( في عين حمئة ) أي : عندها عين حمئة ، أو في رأي العين .
( ووجد عندها قوما ) أي : عند العين أمة ، قال ابن جريج : مدينة لها اثنا عشر ألف باب ، لولا ضجيج أهلها لسمعت وجبة الشمس حين تجب .
( قلنا يا ذا القرنين ) يستدل بهذا من زعم أنه كان نبيا فإن الله تعالى خاطبه والأصح أنه لم يكن نبيا ، والمراد منه : الإلهام . [ ص: 200 ]
( إما أن تعذب ) يعني : إما أن تقتلهم إن لم يدخلوا في الإسلام ( وإما أن تتخذ فيهم حسنا ) يعني : تعفو وتصفح وقيل : تأسرهم فتعلمهم الهدى . خيره الله بين الأمرين .
( ( قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ( 87 ) وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ( 88 ) ثم أتبع سببا ( 89 ) حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ( 90 ) )
( قال أما من ظلم ) أي : كفر ( فسوف نعذبه ) أي : نقتله ( ثم يرد إلى ربه ) في الآخرة ( فيعذبه عذابا نكرا ) أي : منكرا يعني بالنار ، والنار أنكر من القتل . ( وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى ) قرأ حمزة والكسائي وحفص ويعقوب : ( جزاء ) منصوبا منونا أي : فله الحسنى " جزاء " نصب على المصدر [ وهو مصدر وقع موقع الحال ، أي : فله الحسنى مجزيا بها ] .
وقرأ الآخرون : بالرفع على الإضافة ، فالحسنى : الجنة أضاف الجزاء إليها كما قال : " ولدار الآخرة خير " ( يوسف - 9 ) والدار هي الآخرة .
وقيل : المراد ب " الحسنى " على هذه القراءة : الأعمال الصالحة . أي له جزاء الأعمال الصالحة .
( وسنقول له من أمرنا يسرا ) أي : نلين له القول ونعامله باليسر من أمرنا . وقال مجاهد : " يسرا " أي : معروفا . ( ثم أتبع سببا ) أي : سلك طرقا ومنازل . ( حتى إذا بلغ مطلع الشمس ) أي موضع طلوعها ( وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ) قال قتادة والحسن : لم يكن بينهم وبين الشمس ستر ، وذلك أنهم كانوا في مكان لا يستقر عليه بناء فكانوا يكونون في أسراب لهم حتى إذا زالت الشمس عنهم خرجوا إلى معايشهم وحروثهم .
[ ص: 201 ]
وقال الحسن : كانوا إذا طلعت الشمس يدخلون الماء فإذا ارتفعت عنهم خرجوا يتراعون كالبهائم .
وقال الكلبي : هم قوم عراة يفترش أحدهم إحدى أذنيه ، ويلتحف بالأخرى .
( كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا ( 91 ) ثم أتبع سببا ( 92 ) حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ( 93 ) قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ( 94 ) )
قوله عز وجل : ( كذلك ) قيل : معناه كما بلغ مغرب الشمس كذلك بلغ مطلعها والصحيح أن معناه : كما حكم في القوم الذين هم عند مغرب الشمس كذلك حكم في الذين هم عند مطلع الشمس ( وقد أحطنا بما لديه خبرا ) يعني : بما عنده ومعه من الجند والعدة والآلات " خبرا " أي : علما . ( ثم أتبع سببا ) . ( حتى إذا بلغ بين السدين ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص : ( السدين ) و " سدا " هاهنا بفتح السين وافق حمزة والكسائي في " سدا " وقرأ الآخرون : بضم السين وفي يس " سدا " بالفتح حمزة والكسائي وحفص وقرأ الباقون بالضم ، منهم من قال : هما لغتان معناهما واحد . وقال عكرمة : ما كان من صنعة بني آدم فهو السد بالفتح ، وما كان من صنع الله فهو سد بالضم ، وقاله أبو عمرو . وقيل : " السد : بالفتح مصدر وبالضم اسم وهما هاهنا : جبلان سد ذو القرنين ما بينهما حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن ورائهم . ( وجد من دونهما قوما ) يعني : أمام السدين . ( لا يكادون يفقهون قولا ) قرأ حمزة والكسائي : " يفقهون " بضم الياء ، وكسر القاف على معنى لا يفقهون غيرهم قولا ، وقرأ الآخرون : بفتح الياء والقاف أي لا يفقهون كلام غيرهم قال ابن عباس : لا يفقهون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم . ( قالوا يا ذا القرنين ) فإن قيل : كيف قالوا ذلك وهم لا يفقهون؟ [ ص: 202 ]
قيل : كلم عنهم مترجم ، دليله : قراءة ابن مسعود : لا يكادون يفقهون قولا قال الذين من دونهم يا ذا القرنين .
( إن يأجوج ومأجوج ) قرأهما عاصم بهمزتين [ وكذلك في الأنبياء ، " فتحت يأجوج ومأجوج " ] والآخرون بغير همز [ في السورتين ] وهما لغتان أصلهما من أجيج النار وهو ضوءها وشررها شبهوا به لكثرتهم وشدتهم .
وقيل : بالهمزة من شدة أجيج النار وبترك الهمز اسمان أعجميان مثل : هاروت وماروت ، وهم من أولاد يافث بن نوح .
قال الضحاك : هم جيل من الترك . قال السدي : الترك سرية من يأجوج ومأجوج ، خرجت فضرب ذو القرنين السد فبقيت خارجه ، فجميع الترك منهم . وعن قتادة : أنهم اثنان وعشرون قبيلة ، بنى ذو القرنين السد على إحدى وعشرين قبيلة فبقيت قبيلة واحدة فهم الترك سموا الترك لأنهم تركوا خارجين .
قال أهل التواريخ : أولاد نوح ثلاثة سام وحام ويافث ، فسام أبو العرب والعجم والروم ، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ، ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج ، قال ابن عباس في رواية عطاء : هم عشرة أجزاء ، وولد آدم كلهم جزء . روي عن حذيفة مرفوعا : إن يأجوج أمة ومأجوج أمة ، كل أمة أربعمائة ألف أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح وهم من ولد آدم يسيرون إلى خراب الدنيا . وقيل : هم ثلاثة أصناف ، صنف منهم أمثال الأرز شجر بالشام طوله عشرون ومائة ذراع في السماء ، وصنف منهم عرضه وطوله سواء ، عشرون ومائة ذراع ، وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد ، وصنف منهم يفترش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف الأخرى ، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه ، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشارق وبحيرة طبرية .
وعن علي أنه قال : منهم من طوله شبر ومنهم من هو مفرط في الطول . [ ص: 203 ]
وقال كعب : هم نادرة في ولد آدم وذلك أن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم يتصلون بنا من جهة الأب دون الأم .
وذكر وهب بن منبه : أن ذا القرنين كان رجلا من الروم ابن عجوز ، فلما بلغ كان عبدا صالحا . قال الله له : إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم ، منهم أمتان بينهما طول الأرض : إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك ، والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك ، وأمتان بينهما عرض الأرض : إحداهما في القطر الأيمن يقال لها هاويل ، والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها تاويل ، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج فقال ذو القرنين : بأي قوة أكابرهم؟ وبأي جمع أكاثرهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ قال الله عز وجل : إني سأطوفك وأبسط لك لسانك وأشد عضدك ، فلا يهولنك شيء ، وألبسك الهيبة ، فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك .
فانطلق حتى أتى مغرب الشمس فوجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله ، فكابرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد فدعاهم إلى الله وعبادته؛ فمنهم من آمن ومنهم من صد عنه ، فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت في أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته فجند من أهل المغرب جندا عظيما فانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم حتى أتى هاويل فعمل فيهم كعمله في ناسك ، ثم مضى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الأمتين ثم أخذ ناحية الأرض اليسرى فأتى تاويل فعمل فيها كعمله فيما قبلها ، ثم عمد إلى الأمم التي في وسط الأرض ، فلما دنا مما يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس : يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا أشباه البهائم يفترسون الدواب والوحوش لهم أنياب وأضراس كالسباع يأكلون الحيات والعقارب وكل ذي روح خلق في الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم ولا شك أنهم سيملئون الأرض ويظهرون علينا ويفسدون فيها ، فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ؟ قال : ما مكني فيه ربي خير قال : أعدوا إلي الصخور والحديد والنحاس حتى أعلم علمهم .
فانطلق حتى توسط بلادهم فوجدهم على مقدار واحد يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا لهم مخاليب كالأظفار في أيدينا وأنياب وأضراس كالسباع ولهم هدب من الشعر في [ ص: 204 ] أجسادهم ما يواريهم ويتقون به من الحر والبرد ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان يفترش إحداهما ويلتحف بالأخرى يصيف في إحداهما ويشتو في الأخرى يتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا ، فلما عاين ذلك ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما فحفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل حشوه الصخر وطينه النحاس؛ يذاب فيصب عليه فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض .
قوله تعالى : ( قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) قال الكلبي : فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم ، فلا يدعون فيها شيئا أخضر إلا أكلوه ، ولا شيئا يابسا إلا احتملوا وأدخلوه أرضهم وقد لقوا منهم أذى شديدا وقتلا .
وقيل : فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس .
وقيل : معناه أنهم سيفسدون في الأرض عند خروجهم .
( فهل نجعل لك خرجا ) قرأ حمزة والكسائي " خراجا " بالألف وقرأ الآخرون ( خرجا ) بغير ألف وهما لغتان بمعنى واحد أي جعلا وأجرا من أموالنا .
وقال أبو عمرو : " الخرج " : ما تبرعت به و " الخراج " : ما لزمك أداؤه . وقيل : " الخراج " : على الأرض و " الخرج " : على الرقاب . يقال : أد خرج رأسك وخراج مدينتك .
( على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ) أي حاجزا فلا يصلون إلينا .
( قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ( 95 ) )
( قال ) لهم ذو القرنين : ( ما مكني فيه ) قرأ ابن كثير " مكنني " بنونين ظاهرين ، وقرأ الآخرون بنون واحدة مشددة على الإدغام ، أي : ما قواني عليه ( ربي خير ) من جعلكم ( فأعينوني بقوة ) معناه : إني لا أريد المال بل أعينوني بأبدانكم وقوتكم ( أجعل بينكم وبينهم ردما ) أي : سدا ، قالوا وما تلك القوة؟ قال : فعلة وصناع يحسنون البناء والعمل ، والآلة ، قالوا : وما تلك الآلة؟ قال :
[ ص: 205 ] ( آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا ( 96 ) فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ( 97 ) ( قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ( 98 ) )
( آتوني ) أعطوني وقرأ أبو بكر : " ائتوني " أي جيئوني ( زبر الحديد ) أي قطع الحديد واحدتها زبرة ، فآتوه بها وبالحطب وجعل بعضها على بعض ، فلم يزل يجعل الحديد على الحطب والحطب على الحديد ( حتى إذا ساوى بين الصدفين ) قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب : بضم الصاد والدال وجزم أبو بكر الدال وقرأ الآخرون بفتحها ، وهما الجبلان ساوى : أي سوى بين طرفي الجبلين .
( قال انفخوا ) وفي القصة : أنه جعل الفحم والحطب في خلال زبر الحديد ، ثم قال : انفخوا ، يعني : في النار .
( حتى إذا جعله نارا ) أي صار الحديد نارا ، ( قال آتوني ) قرأ حمزة وأبو بكر وصلا وقرأ الآخرون بقطع الألف . ( أفرغ عليه قطرا ) أي : [ آتوني قطرا أفرغ عليه ، و " الإفراغ " : الصب ، و " القطر " : هو النحاس المذاب فجعلت النار تأكل الحطب ويصير النحاس ] مكان الحطب حتى لزم الحديد النحاس .
قال قتادة : هو كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء . وفي القصة : أن عرضه كان خمسين ذراعا وارتفاعه مائتي ذراع ، وطوله فرسخ . ( فما اسطاعوا أن يظهروه ) أن يعلوه من فوقه لطوله وملاسته ( وما استطاعوا له نقبا ) من أسفله لشدته ولصلابته وقرأ حمزة : ( فما استطاعوا ) بتشديد الطاء أدغم تاء الافتعال في الطاء . ( قال ) يعني ذا القرنين ( هذا ) أي السد ( رحمة ) أي : نعمة ( من ربي فإذا جاء وعد ربي ) قيل : يوم القيامة وقيل : وقت خروجهم ( جعله دكاء ) قرأ أهل الكوفة ( دكاء ) بالمد والهمز ، أي : أرضا ملساء ، وقرأ الآخرون بلا مد ، أي : جعله مدكوكا مستويا مع وجه الأرض ( وكان وعد ربي حقا ) وروى قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة يرفعه : " أن يأجوج ومأجوج يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدا [ ص: 206 ] فيعيده الله كما كان حتى إذا بلغت مدتهم حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله واستثنى فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه فيخرجون على الناس ، فيتبعون المياه ويتحصن الناس في حصونهم منهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع فيها كهيئة الدم فيقولون : قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء ، فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم ، فيهلكون ، وإن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكرا " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثنا محمد بن مهران الرازي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن يحيى بن جابر الطائي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه جبير بن نفير عن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا ، فقال : " ما شأنكم؟ " قلنا : يا رسول الله ذكرت الدجال ذات غداة فخفضت فيه ورفعت ، حتى ظنناه في طائفة النخل فقال : " غير الدجال أخوفني عليكم؟ إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم ، إنه شاب قطط عينه اليمنى طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن ، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله ! فاثبتوا " قلنا : يا رسول الله فما لبثه في الأرض؟ قال : " أربعون يوما يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم " قلنا : يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال : لا اقدروا له [ ص: 207 ] قدره قلنا : يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال : " كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنوا به ويستجيبوا له فيأمر السماء فتمطر ، والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى وأسبغه ضروعا ، وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله ، قال : فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك فيتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي باب دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان اللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه ، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ، ثم يأتي عيسى قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة ، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى إني قد أخرجت عبادا لي ، لا يدان لأحد بقتالهم ، فحرز عبادي إلى الطور ، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ، ويمر آخرهم فيقول : لقد كان بهذه مرة ماء . ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله طيرا كأعناق البخت [ ص: 208 ] فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر ، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ، ثم يقال للأرض : أنبتي ثمرتك وردي بركتك . فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ، ويستظلون بقحفها ، ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس ، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس . فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ، ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر ، فعليهم تقوم الساعة " .
وبهذا الإسناد حدثنا مسلم بن الحجاج حدثنا علي بن حجر السعدي حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر والوليد بن مسلم بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بهذا الإسناد نحو ما ذكرنا ، وزاد بعد قوله : - لقد كان بهذه مرة ماء - ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس ، فيقولون : لقد قتلنا من في الأرض ، هلم فلنقتل من في السماء . فيرمون بنشابهم إلى السماء ، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما " .
وقال وهب : إنهم كانوا يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ، ثم يأكلون الخشب والشجر ، ومن ظفروا به من الناس ، ولا يقدرون أن يأتوا مكة ولا المدينة ولا بيت المقدس .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل أنبأنا أحمد أنبأنا أبي أنبأنا إبراهيم عن الحجاج بن حجاج عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج " .
وفي القصة : أن ذا القرنين دخل الظلمة ، فلما رجع توفي بشهرزور وذكر بعضهم : أن عمره كان نيفا وثلاثين سنة .
[ ص: 209 ] ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ( 99 ) وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ( 100 ) الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا ( 101 ) أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا ( 102 ) )
قوله عز وجل ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ) قيل : هذا عند فتح السد ، يقول : تركنا يأجوج ومأجوج يموج ، أي : يدخل بعضهم على بعض كموج الماء ، ويختلط بعضهم ببعض لكثرتهم .
وقيل : هذا عند قيام الساعة ، يدخل الخلق بعضهم في بعض ، ويختلط إنسيهم بجنيهم حيارى . ( ونفخ في الصور ) لأن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب الساعة ( فجمعناهم جمعا ) في صعيد واحد . ( وعرضنا ) أبرزنا ( جهنم يومئذ للكافرين عرضا ) حتى يشاهدوها عيانا . ( الذين كانت أعينهم في غطاء ) أي : غشاء ، و " الغطاء " : ما يغطى به الشيء ويستره ( عن ذكري ) يعني : عن الإيمان والقرآن ، وعن الهدى والبيان . وقيل : عن رؤية الدلائل .
( وكانوا لا يستطيعون سمعا ) أي : سمع القبول والإيمان ، لغلبة الشقاوة عليهم .
وقيل : لا يعقلون . وقيل : كانوا لا يستطيعون أي : لا يقدرون أن يسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتلوه عليهم لشدة عداوتهم له ، كقول الرجل : لا أستطيع أن أسمع من فلان شيئا لعداوته . قوله عز وجل : ( أفحسب ) أفظن ( الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ) أربابا يريد بالعباد : عيسى والملائكة ، كلا بل هم لهم أعداء ويتبرءون منهم .
قال ابن عباس : يعني الشياطين أطاعوهم من دون الله . وقال مقاتل : الأصنام سموا عبادا ، كما قال : " إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم " ( الأعراف - 194 ) وجواب هذا الاستفهام محذوف .
قال ابن عباس : يريد إني لأغضب لنفسي ، يقول : أفظن الذين كفروا أن يتخذوا غيري أولياء ، وأني لا أغضب لنفسي ولا أعاقبهم . [ ص: 210 ]
وقيل : أفظنوا أنهم ينفعهم أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء .
( إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا ) أي : منزلا . قال ابن عباس : هي مثواهم . وقيل : النزل : ما يهيأ للضيف . يريد هي معدة لهم عندنا ، كالنزل للضيف .
ابو وليد البحيرى
2022-04-12, 03:18 PM
الحلقة (275)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةِ مَرْيَمَ
مَكِّيَّةٌ ، وَهِيَ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ آيَةً
الاية1 إلى الاية 10
( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ( 103 ) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ( 104 ) أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ( 105 ) )
( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) يعني : الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يرجون به فضلا ونوالا ، فنالوا هلاكا وبوارا ، كمن يشتري سلعة يرجو عليها ربحا فخسر وخاب سعيه .
واختلفوا فيهم : قال ابن عباس وسعد بن أبي وقاص : هم اليهود والنصارى . وقيل : هم الرهبان ( الذين ) حبسوا أنفسهم في الصوامع . وقال علي بن أبي طالب : هم أهل حروراء ( ضل سعيهم ) بطل عملهم واجتهادهم ( في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) أي عملا . ( أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت ) بطلت ( أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) أي لا نجعل لهم خطرا وقدرا ، تقول العرب : " ما لفلان عندي وزن " أي : قدر لخسته .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا أحمد عن محمد بن يوسف عن محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا سعيد بن مريم أنبأنا المغيرة عن أبي الزناد [ ص: 211 ] عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة " ، وقال اقرءوا إن شئتم : ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) .
قال أبو سعيد الخدري : يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة ، فإذا وزنوها لم تزن شيئا ، فذلك قوله تعالى ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا )
( ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا ( 106 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا ( 107 ) )
( ذلك ) الذي ذكرت من حبوط أعمالهم وخسة أقدارهم . ثم ابتدأ فقال : ( جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ) يعني القرآن ( ورسلي هزوا ) أي سخرية ومهزوءا بهم . قوله تعالى ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس ) روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة " .
قال كعب : ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس ، فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر .
وقال قتادة : " الفردوس " : ربوة الجنة ، وأوسطها وأفضلها وأرفعها .
قال كعب : " الفردوس " : هو البستان الذي فيه الأعناب .
وقال مجاهد : هو البستان بالرومية .
وقال عكرمة : هي الجنة بلسان الحبش .
قال الزجاج : هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية .
وقال الضحاك : هي الجنة الملتفة الأشجار .
وقيل : هي الروضة المستحسنة . [ ص: 212 ]
وقيل : هي التي تنبت ضروبا من النبات ، وجمعه فراديس .
( نزلا ) قيل أي : منزلا . وقيل : ما يهيأ للنازل ، على معنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس ونعيمها نزلا ، ومعنى " كانت لهم " أي : في علم الله قبل أن يخلقوا .
( خالدين فيها لا يبغون عنها حولا ( 108 ) قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ( 109 ) قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ( 110 ) )
( خالدين فيها لا يبغون ) لا يطلبون ( عنها حولا ) أي : تحولا إلى غيرها . قال ابن عباس : لا يريدون أن يتحولوا عنها ، كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى . قوله عز وجل : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي ) قال ابن عباس : قالت اليهود [ يا محمد ] تزعم أنا قد أوتينا الحكمة وفي كتابك ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ثم تقول : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا فأنزل الله هذه الآية .
وقيل : لما نزلت : " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " ، قالت اليهود : أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء . فأنزل الله تعالى ( قل لو كان البحر مدادا ) سمي المداد مدادا لإمداد الكاتب ، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء .
قال مجاهد : لو كان البحر مدادا للقلم ، والقلم يكتب ( لنفد البحر ) أي : ماؤه ( قبل أن تنفد ) قرأ حمزة والكسائي " ينفد " بالياء لتقدم الفعل ، والباقون بالتاء ( كلمات ربي ) أي : علمه وحكمه ( ولو جئنا بمثله مددا ) معناه : لو كان الخلائق يكتبون والبحر يمدهم لنفد البحر ولم تنفد كلمات ربي ، ولو جئنا بمثل ماء البحر في كثرته مددا أو زيادة . [ و " مددا " منصوب على التمييز ] نظيره قوله تعالى : " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله " ( لقمان - 27 ) . قوله عز وجل : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ) قال ابن عباس : [ ص: 213 ] علم الله رسوله التواضع؛ لئلا يزهو على خلقه ، فأمره أن يقر فيقول : إني آدمي مثلكم ، إلا أني خصصت بالوحي وأكرمني الله به ، يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد لا شريك له ( فمن كان يرجو لقاء ربه ) أي : يخاف المصير إليه . وقيل : يأمل رؤية ربه . فالرجاء يكون بمعنى الخوف والأمل جميعا ، قال الشاعر :
ولا كل ما ترجو من الخير كائن ولا كل ما ترجو من الشر واقع
فجمع بين المعنيين .
( فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) أي : لا يرائي بعمله .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنبأنا أبو نعيم أخبرنا سفيان عن سلمة هو ابن كهيل قال : سمعت جندبا يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من سمع ، سمع الله به . ومن يرائي يرائي الله به " .
وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " ، قالوا : يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال : " الرياء " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أبي حدثنا شعيب قال : حدثنا الليث عن أبي الهاد عن عمرو عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تبارك وتعالى يقول : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري فأنا منه بريء ، هو للذي عمله " . [ ص: 214 ]
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني حدثنا حميد بن زنجويه حدثنا حفص بن عمر حدثنا همام عن قتادة حدثنا سالم بن أبي الجعد الغطفاني عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال " .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أبو منصور السمعاني حدثنا أبو جعفر الرياني حدثنا حميد بن زنجويه حدثنا أبو الأسود حدثنا ابن لهيعة عن زياد عن سهل هو ابن معاذ عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قدميه إلى رأسه ، ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء " .
[ سُورَةِ مَرْيَمَ ]
مَكِّيَّةٌ ، وَهِيَ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ آيَةً
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( كهيعص ( 1 ) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ( 2 ) )
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ( كهيعص ) قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ ، وَضِدُّهُ ابْنُ عَامِرٍ ، وَحَمْزَةُ ، وَبِكَسْرِهِمَا : الْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهِمَا .
وَيُظْهِرُ الدَّالَ عِنْدَ الذَّالِ مِنْ " صَادْ ذِكْرُ " ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَافِعٌ ، وَعَاصِمٌ [ وَيَعْقُوبُ ] وَالْبَاقُونَ بِالْإِدْغَامِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ قَتَادَةُ : هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ .
وَقِيلَ : اسْمٌ لِلسُّورَةِ . وَقِيلَ : هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ .
وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ( كهيعص ) قَالَ : الْكَافُ مِنْ كِرِيمٍ وَكَبِيرٍ ، وَالْهَاءُ مِنْ هَادٍ ، وَالْيَاءُ مِنْ رَحِيمٍ ، وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيمٍ وَعَظِيمٍ ، وَالصَّادُ مِنْ صَادِقٍ . [ ص: 218 ] وَقَالَ الْكَلْبِيُّ : مَعْنَاهُ : كَافٍ لِخَلْقِهِ ، هَادٍ لِعِبَادِهِ ، يَدُهُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ، عَالِمٌ بِبَرِّيَّتِهِ ، صَادَقٌ فِي وَعْدِهِ ( ذِكْرُ ) رُفِعَ بِالْمُضْمَرِ ، أَيْ : هَذَا الَّذِي نَتْلُوهُ عَلَيْكَ ذِكْرُ ( رَحْمَةِ رَبِّكَ ) [ وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ ] مَعْنَاهُ : ذِكْرُ رَبِّكَ ( عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ) بِرَحْمَتِهِ .
( إذ نادى ربه نداء خفيا ( 3 ) قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا ( 4 ) وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا ( 5 ) يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ( 6 ) )
( إذ نادى ) دعا ( ربه ) في محرابه ( نداء خفيا ) دعا سرا من قومه في جوف الليل . ( قال رب إني وهن ) ضعف ورق ( العظم مني ) من الكبر . قال قتادة : اشتكى سقوط الأضراس ( واشتعل الرأس ) أي : ابيض شعر الرأس ( شيبا ) شمطا ( ولم أكن بدعائك رب شقيا ) يقول : عودتني الإجابة فيما مضى ولم تخيبني .
وقيل : معناه لما دعوتني إلى الإيمان آمنت ولم أشق بترك الإيمان . ( وإني خفت الموالي ) و " الموالي " : بنو العم . قال مجاهد : العصبة . وقال أبو صالح : الكلالة . وقال الكلبي : الورثة ( من ورائي ) أي : من بعد موتي .
قرأ ابن كثير : " من ورائي " بفتح الياء ، والآخرون بإسكانها .
( وكانت امرأتي عاقرا ) لا تلد ( فهب لي من لدنك ) أعطني من عندك ( وليا ) ابنا . ( يرثني ويرث من آل يعقوب ) قرأ أبو عمرو والكسائي : بجزم الثاء فيهما ، على جواب الدعاء ، وقرأ الآخرون بالرفع على الحال والصفة ، أي : وليا وارثا .
واختلفوا في هذا الإرث; قال الحسن : معناه يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة والحبورة . [ ص: 219 ]
وقيل : أراد ميراث النبوة والعلم .
وقيل : أراد إرث الحبورة ، لأن زكريا كان رأس الأحبار .
قال الزجاج : والأولى أن يحمل على ميراث غير المال؛ لأنه يبعد أن يشفق زكريا وهو نبي من الأنبياء أن يرثه بنو عمه ماله .
والمعنى : أنه خاف تضييع بني عمه دين الله وتغيير أحكامه على ما كان شاهده من بني إسرائيل ، من تبديل الدين وقتل الأنبياء ، فسأل ربه وليا صالحا يأمنه على أمته ويرث نبوته وعلمه لئلا يضيع الدين . وهذا معنى قول عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما .
( واجعله رب رضيا ) أي برا تقيا مرضيا .
( يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ( 7 ) )
قوله عز وجل : ( يا زكريا إنا نبشرك ) وفيه اختصار ، معناه : فاستجاب الله دعاءه فقال : يا زكريا إنا نبشرك ، ( بغلام ) بولد ذكر ( اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ) قال قتادة والكلبي : لم يسم أحد قبله يحيى . [ ص: 220 ]
وقال سعيد بن جبير وعطاء : لم نجعل له شبها ومثلا كما قال الله تعالى : " هل تعلم له سميا " أي مثلا .
والمعنى : أنه لم يكن له مثل ، لأنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط .
وقيل : لم يكن له مثل في أمر النساء؛ لأنه كان سيدا وحصورا .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : أي لم تلد العواقر مثله ولدا .
وقيل : لم يرد الله به اجتماع الفضائل كلها ليحيى ، إنما أراد بعضها ، لأن الخليل والكليم كانا قبله ، وهما أفضل منه .
( قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا ( 8 ) قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ( 9 ) قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ( 10 ) )
( قال رب أنى ) من أين ( يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا ) أي : وامرأتي عاقر . ( وقد بلغت من الكبر عتيا ) أي : يبسا ، قال قتادة : يريد نحول العظم ، يقال : عتا الشيخ يعتو عتيا وعسيا : إذا انتهى سنه وكبر ، وشيخ عات وعاس : إذا صار إلى حالة اليبس والجفاف .
وقرأ حمزة والكسائي : عتيا وبكيا وصليا وجثيا بكسر أوائلهن ، والباقون برفعها ، وهما لغتان . ( قال كذلك قال ربك هو علي هين ) يسير ( وقد خلقتك ) قرأ حمزة والكسائي " خلقناك " بالنون والألف على التعظيم ، ( من قبل ) أي : من قبل يحيى ( ولم تك شيئا قال رب اجعل لي آية ) دلالة على حمل امرأتي ( قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ) أي : صحيحا سليما من غير ما بأس ولا خرس .
قال مجاهد : أي : لا يمنعك من الكلام مرض . [ ص: 221 ]
وقيل : ثلاث ليال سويا أي : متتابعات ، والأول أصح .
وفي القصة : أنه لم يقدر فيها أن يتكلم مع الناس فإذا أراد ذكر الله تعالى انطلق لسانه .
ابو وليد البحيرى
2022-04-12, 03:19 PM
الحلقة (276)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةِ مَرْيَمَ
مَكِّيَّةٌ ، وَهِيَ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ آيَةً
الاية11 إلى الاية 24
( فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ( 11 ) ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا ( 12 ) وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا ( 13 ) )
قوله عز وجل : ( فخرج على قومه من المحراب ) وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلون ، إذ خرج عليهم زكريا متغيرا لونه فأنكروه ، وقالوا : ما لك يا زكريا؟ ( فأوحى إليهم ) فأومأ إليهم ، قال مجاهد : كتب لهم في الأرض ، ( أن سبحوا ) أي : صلوا لله ( بكرة : ) غدوة ( وعشيا ) ومعناه : أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشيا فيأمرهم بالصلاة ، فلما كان وقت حمل امرأته ومنع الكلام حتى خرج إليهم فأمرهم بالصلاة إشارة . قوله عز وجل : ( يا يحيى ) قيل : فيه حذف معناه : ووهبنا له يحيى وقلنا له : يا يحيى ، ( خذ الكتاب ) يعني التوراة ( بقوة ) بجد ( وآتيناه الحكم ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : النبوة ( صبيا ) وهو ابن ثلاث سنين .
وقيل : أراد بالحكم فهم الكتاب فقرأ التوراة وهو صغير .
وعن بعض السلف : من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فهو ممن أوتي الحكم صبيا . ( وحنانا من لدنا ) رحمة من عندنا ، قال الحطيئة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه :
تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا [ ص: 222 ]
أي : ترحم .
( وزكاة ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني بالزكاة الطاعة والإخلاص .
وقال قتادة رضي الله عنه : هي العمل الصالح ، وهو قول الضحاك .
ومعنى الآية : وآتيناه رحمة من عندنا وتحننا على العباد ، ليدعوهم إلى طاعة ربهم ويعمل عملا صالحا في إخلاص .
وقال الكلبي : يعني صدقة تصدق الله بها على أبويه .
( وكان تقيا ) مسلما ومخلصا مطيعا ، وكان من تقواه أنه لم يعمل خطيئة ولا هم بها .
( وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا ( 14 ) وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ( 15 ) واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ( 16 ) )
( وبرا بوالديه ) أي : بارا لطيفا بهما محسنا إليهما . ( ولم يكن جبارا عصيا ) و " الجبار " : المتكبر ، وقيل : " الجبار " : الذي يضرب ويقتل على الغضب ، و " العصي " : العاصي . ( وسلام عليه ) أي : سلامة له ، ( يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ) قال سفيان بن عيينة : أوحش ما يكون الإنسان في هذه الأحوال : يوم ولد ، فيخرج مما كان فيه ، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم ير مثله . فخص يحيى بالسلامة في هذه المواطن . قوله عز وجل : ( واذكر في الكتاب ) في القرآن ( مريم إذ انتبذت ) تنحت واعتزلت ( من أهلها ) من قومها ( مكانا شرقيا ) أي : مكانا في الدار مما يلي المشرق ، وكان يوما شاتيا شديد البرد ، فجلست في مشرقة تفلي رأسها .
وقيل : كانت طهرت من المحيض ، فذهبت لتغتسل . [ ص: 223 ]
قال الحسن : ومن ثم اتخذت النصارى المشرق قبلة .
( فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ( 17 ) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ( 18 ) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ( 19 ) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ( 20 ) )
( فاتخذت ) فضربت ( من دونهم حجابا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : سترا .
وقيل : جلست وراء جدار . وقال مقاتل : وراء جبل .
وقال عكرمة : إن مريم كانت تكون في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها ، حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد ، فبينما هي تغتسل من المحيض قد تجردت ، إذ عرض لها جبريل في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سوي الخلق ، فذلك قوله :
( فأرسلنا إليها روحنا ) يعني : جبريل عليه السلام ( فتمثل لها بشرا سويا ) وقيل : المراد من الروح عيسى عليه السلام ، جاء في صورة بشر فحملت به والأول أصح فلما رأت مريم جبريل يقصد نحوها نادته من بعيد ف : ( قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ) مؤمنا مطيعا .
فإن قيل إنما يستعاذ من الفاجر ، فكيف قالت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا؟
قيل : هذا كقول القائل : إن كنت مؤمنا فلا تظلمني . أي : ينبغي أن يكون إيمانك مانعا من الظلم ، وكذلك هاهنا .
معناه : وينبغي أن تكون تقواك مانعا لك من الفجور . ( قال ) لها جبريل : ( إنما أنا رسول ربك لأهب لك ) قرأ نافع وأهل البصرة : " ليهب لك " بالياء ، أي : ليهب لك ربك ، وقرأ الآخرون : " لأهب لك " أسند الفعل إلى الرسول ، وإن كانت الهبة من الله تعالى ، لأنه أرسل به .
( غلاما زكيا ) ولدا صالحا طاهرا من الذنوب . ( قالت ) مريم ( أنى ) من أين ( يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ) لم يقربني زوج ( ولم أك بغيا ) فاجرة؟ تريد أن الولد يكون من نكاح أو سفاح ، ولم يكن هنا واحد منهما .
[ ص: 224 ] ( قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ( 21 ) فحملته فانتبذت به مكانا قصيا ( 22 ) )
( قال ) جبريل : ( كذلك ) قيل : معناه كما قلت يا مريم ولكن ، ( قال ربك ) وقيل هكذا قال ربك ، ( هو علي هين ) أي : خلق ولد بلا أب ، ( ولنجعله آية ) علامة ، ( للناس ) ودلالة على قدرتنا ، ( ورحمة منا ) ونعمة لمن تبعه على دينه ، ( وكان ) ذلك ، ( أمرا مقضيا ) محكوما مفروغا عنه لا يرد ولا يبدل . قوله عز وجل : ( فحملته ) قيل : إن جبريل رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبست .
وقيل : مد جيب درعها بأصبعه ، ثم نفخ في الجيب .
وقيل : نفخ في كم قميصها . وقيل : في فيها .
وقيل : نفخ جبريل عليه السلام نفخا من بعيد فوصل الريح إليها فحملت بعيسى في الحال ( فانتبذت به ) أي : تنحت بالحمل وانفردت ، ( مكانا قصيا ) بعيدا من أهلها .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : أقصى الوادي ، وهو وادي بيت لحم ، فرارا من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج .
واختلفوا في مدة حملها ووقت وضعها ; فقال ابن عباس رضي الله عنهما : كان الحمل والولادة في ساعة واحدة .
وقيل : كان مدة حملها تسعة أشهر كحمل سائر النساء . [ ص: 225 ]
وقيل : كان مدة حملها ثمانية أشهر ، وكان ذلك آية أخرى لأنه لا يعيش ولد يولد لثمانية أشهر ، وولد عيسى لهذه المدة وعاش .
وقيل : ولدت لستة أشهر .
وقال مقاتل بن سليمان : حملته مريم في ساعة ، وصور في ساعة ، ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها ، وهي بنت عشر سنين ، وكانت قد حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى .
( فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ( 23 ) )
( فأجاءها ) أي : ألجأها وجاء بها ، ( المخاض ) وهو وجع الولادة ، ( إلى جذع النخلة ) وكانت نخلة يابسة في الصحراء ، في شدة الشتاء ، لم يكن لها سعف .
وقيل : التجأت إليها لتستند إليها وتتمسك بها على وجع الولادة ، ( قالت يا ليتني مت قبل هذا ) تمنت الموت استحياء من الناس وخوف الفضيحة ، ( وكنت نسيا ) قرأ حمزة وحفص ( نسيا ) بفتح النون ، [ والباقون بكسرها ] وهما لغتان ، مثل : الوتر والوتر ، والجسر والجسر ، وهو الشيء المنسي " و " النسي " في اللغة : كل ما ألقي ونسي ولم يذكر لحقارته .
( منسيا ) أي : متروكا قال قتادة : شيء لا يعرف ولا يذكر . قال عكرمة والضحاك ومجاهد : جيفة ملقاة . وقيل : تعني لم أخلق .
[ ص: 226 ] ( ( فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ( 24 ) )
( فناداها من تحتها ) قرأ أبو جعفر ونافع وحمزة والكسائي وحفص : ( من تحتها ) بكسر الميم والتاء ، يعني جبريل عليه السلام ، وكانت مريم على أكمة وجبريل وراء الأكمة تحتها فناداها .
وقرأ الآخرون بفتح الميم والتاء ، وأراد جبريل عليه السلام أيضا ، ناداها من سفح الجبل .
وقيل : هو عيسى لما خرج من بطن أمه ناداها : ( ألا تحزني ) وهو قول مجاهد والحسن .
والأول قول ابن عباس رضي الله عنهما و السدي وقتادة والضحاك وجماعة : أن المنادي كان جبريل ، لما سمع كلامها وعرف جزعها ناداها ألا تحزني .
( قد جعل ربك تحتك سريا ) و " السري " : النهر الصغير .
وقيل : تحتك ، أي : جعله الله تحت أمرك ، إن أمرتيه أن يجري جرى ، وإن أمرتيه بالإمساك أمسك .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ضرب جبريل عليه السلام ويقال : ضرب عيسى عليه الصلاة والسلام برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب وجرى .
وقيل : كان هناك نهر يابس أجرى الله سبحانه وتعالى فيه الماء وحييت النخلة اليابسة ، فأورقت وأثمرت وأرطبت .
وقال الحسن : " تحتك سريا " يعني : عيسى وكان والله عبدا سريا ، يعني : رفيعا .
ابو وليد البحيرى
2022-04-12, 03:19 PM
الحلقة (277)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةِ مَرْيَمَ
مَكِّيَّةٌ ، وَهِيَ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ آيَةً
الاية25 إلى الاية 39
( وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ( 25 ) ( فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ( 26 ) )
( وهزي إليك ) يعني قيل لمريم : حركي ( بجذع النخلة ) تقول العرب : هزه وهز به ، كما يقول : حز رأسه وحز برأسه ، وأمدد الحبل وأمدد به ، ( تساقط عليك ) القراءة المعروفة بفتح التاء والقاف وتشديد السين ، أي : تتساقط ، فأدغمت إحدى التاءين في السين ، أي : تسقط عليك النخلة رطبا ، وخفف حمزة السين وحذف التاء التي أدغمها غيره .
وقرأ حفص بضم التاء وكسر القاف خفيفا على وزن تفاعل . وتساقط بمعنى أسقط ، والتأنيث لأجل النخلة .
وقرأ يعقوب : " يساقط " بالياء مشددة ردة إلى الجذع .
( رطبا جنيا ) مجنيا . وقيل : الجني هو الذي بلغ الغاية ، وجاء أوان اجتنائه . قال الربيع بن خثيم : ما للنفساء عندي خير من الرطب ، ولا للمريض خير من العسل . قوله سبحانه وتعالى : ( فكلي واشربي ) أي : فكلي يا مريم من الرطب ، واشربي من ماء النهر ( وقري عينا ) أي : طيبي نفسا . وقيل : قري عينك بولدك عيسى . يقال : أقر الله عينك أي : صادف فؤادك ما يرضيك ، فتقر عينك من النظر إلى غيره . وقيل : أقر الله عينه : يعني أنامها ، يقال : قر يقر إذا سكن .
وقيل : إن العين إذا بكت من السرور فالدمع بارد ، وإذا بكت من الحزن فالدمع يكون حارا ، فمن هذا قيل : أقر الله عينه وأسخن الله عينه .
( فإما ترين من البشر أحدا ) أي : تري ، فدخل عليه نون التأكيد فكسرت الياء لالتقاء الساكنين .
معناه : فإما ترين من البشر أحدا فيسألك عن ولدك ( فقولي إني نذرت للرحمن صوما ) أي : صمتا ، وكذلك كان يقرأ ابن مسعود رضي الله عنه .
والصوم في اللغة الإمساك عن الطعام والشراب والكلام . [ ص: 228 ]
قال السدي : كان في بني إسرائيل من أراد أن يجتهد صام عن الكلام ، كما يصوم عن الطعام ، فلا يتكلم حتى يمسي .
وقيل : إن الله تعالى أمرها أن تقول هذا إشارة .
وقيل : أمرها أن تقول هذا القدر نطقا ، ثم تمسك عن الكلام بعده .
( فلن أكلم اليوم إنسيا ) يقال : كانت تكلم الملائكة ، ولا تكلم الإنس .
( فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا ( 27 ) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ( 28 ) )
( فأتت به قومها تحمله ) قيل : إنها ولدته ، ثم حملته في الحال إلى قومها .
وقال الكلبي : حمل يوسف النجار مريم وابنها عيسى [ عليهما السلام ] إلى غار ، ومكثت أربعين يوما حتى طهرت من نفاسها ثم حملته مريم عليها السلام إلى قومها . فكلمها عيسى عليه السلام في الطريق فقال : يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه ، فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا ، وكانوا أهل بيت صالحين ( ( قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا ) عظيما منكرا ، قال أبو عبيدة : كل أمر فائق من عجب أو عمل فهو فري
قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمر : " فلم أر عبقريا يفري فريه " أي : يعمل عمله . ( يا أخت هارون ) يريد يا شبيهة هارون ، قال قتادة وغيره : كان هارون رجلا صالحا عابدا في بني إسرائيل . روي أنه اتبع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم يسمى " هارون " من بني إسرائيل سوى سائر الناس [ شبهوها به على ] معنى إنا ظننا أنك مثله في الصلاح . وليس المراد منه الأخوة في النسب ، كما قال الله تعالى : " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " ( الإسراء : 27 ) أي : أشباههم .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا إبراهيم بن محمد بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير [ ص: 229 ] حدثنا ابن إدريس عن أبيه عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة قال : لما قدمت نجران سألوني ، فقالوا : إنكم تقرءون : ( يا أخت هارون ) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا! فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال : " إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم " .
وقال الكلبي : كان هارون أخا مريم من أبيها ، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل .
وقال السدي : إنما عنوا به هارون أخا موسى ، لأنها كانت من نسله كما يقال للتميمي : يا أخا تميم .
وقيل : كان هارون رجلا فاسقا في بني إسرائيل عظيم الفسق فشبهوها به .
( ما كان أبوك ) عمران ( امرأ سوء ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : زانيا ، ( وما كانت أمك ) حنة ( بغيا ) أي : زانية ، فمن أين لك هذا الولد؟
( ( فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ( 29 ) )
( فأشارت ) مريم ( إليه ) أي : إلى عيسى عليه السلام : أن كلموه .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : لما لم تكن لها حجة أشارت إليه ليكون كلامه حجة لها .
وفي القصة : لما أشارت إليه غضب القوم ، وقالوا مع ما فعلت تسخرين بنا؟ .
( قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ) أي : من هو في المهد ، وهو حجرها .
وقيل : هو المهد بعينه ، و " كان " بمعنى : هو . وقال أبو عبيدة : " كان " صلة ، أي : كيف نكلم صبيا في المهد . وقد يجيء " كان " حشوا في الكلام لا معنى له كقوله " هل كنت إلا بشرا رسولا " ( الإسراء : 93 ) أي : هل أنا ؟
قال السدي : فلما سمع عيسى كلامهم ترك الرضاع وأقبل عليهم .
وقيل : لما أشارت إليه ترك الثدي واتكأ على يساره ، وأقبل عليهم وجعل يشير بيمينه :
[ ص: 230 ] ( قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ( 30 ) وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ( 31 ) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ( 32 ) والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ( 33 ) )
( قال إني عبد الله ) وقال وهب : أتاها زكريا عند مناظرتها اليهود ، فقال لعيسى : انطق بحجتك إن كنت أمرت بها ، فقال عند ذلك عيسى عليه السلام وهو ابن أربعين يوما وقال مقاتل : بل هو يوم ولد : إني عبد الله ، أقر على نفسه بالعبودية لله عز وجل أول ما تكلم لئلا يتخذ إلها ( آتاني الكتاب وجعلني نبيا ) قيل : معناه سيؤتيني الكتاب ويجعلني نبيا .
وقيل : هذا إخبار عما كتب له في اللوح المحفوظ ، كما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : متى كنت نبيا؟ قال : " كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد " .
وقال الأكثرون أوتي الإنجيل وهو صغير طفل ، وكان يعقل عقل الرجال .
وعن الحسن : أنه قال : ألهم التوراة وهو في بطن أمه . ( وجعلني مباركا أين ما كنت ) أي : نفاعا حيث ما توجهت . وقال مجاهد : معلما للخير . وقال عطاء : أدعو إلى الله وإلى توحيده وعبادته . وقيل : مباركا على من تبعني .
( وأوصاني بالصلاة والزكاة ) أي : أمرني بهما .
فإن قيل : لم يكن لعيسى مال ، فكيف يؤمر بالزكاة؟
قيل : معناه بالزكاة لو كان لي مال . وقيل : بالاستكثار من الخير .
( ما دمت حيا وبرا بوالدتي ) أي وجعلني برا بوالدتي ، ( ولم يجعلني جبارا شقيا ) أي عاصيا لربه . قيل : " الشقي " : الذي يذنب ولا يتوب . ( والسلام علي يوم ولدت ) أي : السلامة عند الولادة من طعن الشيطان . ( ويوم أموت ) [ ص: 231 ] أي : عند الموت من الشرك ، ( ويوم أبعث حيا ) من الأهوال . ولما كلمهم عيسى بهذا علموا براءة مريم ، ثم سكت عيسى عليه السلام ، فلم يتكلم بعد ذلك حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان .
( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ( 34 ) ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ( 35 ) وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ( 36 ) فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ( 37 ) )
( ذلك عيسى ابن مريم ) [ قال الزجاج : أي : ذلك الذي قال إني عبد الله عيسى ابن مريم ] ( قول الحق ) قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب : ( قول الحق ) بنصب اللام وهو نصب على المصدر ، أي : قال قول الحق ، ( الذي فيه يمترون ) أي : يختلفون ، فقائل يقول : هو ابن الله ، وقائل يقول : هو الله ، وقائل يقول : هو ساحر كذاب .
وقرأ الآخرون برفع اللام ، يعني : هو قول الحق ، أي : هذا الكلام هو قول الحق ، أضاف القول إلى الحق ، كما قال : " حق اليقين " ، و " وعد الصدق " .
وقيل : هو نعت لعيسى ابن مريم ، يعني ذلك عيسى ابن مريم كلمة الله . الحق : هو الله ( الذي فيه يمترون ) ويشكون ويختلفون ويقولون غير الحق . ثم نفى عن نفسه الولد فقال : ( ما كان لله أن يتخذ من ولد ) أي : ما كان من صفته اتخاذ الولد . وقيل : اللام منقولة أي : ما كان الله ليتخذ من ولد ، ( سبحانه إذا قضى أمرا ) إذا أراد أن يحدث أمرا ( فإنما يقول له كن فيكون ( وإن الله ربي وربكم ) قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو : " أن الله " بفتح الألف ، يرجع إلى قوله : ( وأوصاني بالصلاة والزكاة ) وبأن الله ربي وربكم ، وقرأ أهل الشام والكوفة ويعقوب بكسر الألف على الاستئناف ( فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم ) يعني : النصارى سموا أحزابا لأنهم تحزبوا ثلاث فرق في أمر عيسى : النسطورية والملكانية واليعقوبية . ( فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ) يعني يوم القيامة .
[ ص: 232 ] ( أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ( 38 ) ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ( 39 ) )
( أسمع بهم وأبصر ) أي : ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة حين لا ينفعهم السمع والبصر! أخبر أنهم يسمعون ويبصرون في الآخرة ما لم يسمعوا ولم يبصروا في الدنيا .
قال الكلبي : لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر حين يقول الله تعالى لعيسى : " أأنت قلت للناس " الآية ( مريم - 116 ) . ( يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ) أي : في خطأ بين . قوله عز وجل ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر ) فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، وذبح الموت .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عمرو بن حفص بن غياث أخبرنا أبي أنبأنا الأعمش ، أخبرنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد : يا أهل الجنة فيشرفون وينظرون فيقول : هل تعرفون هذا؟ فيقولون : نعم هذا الموت ، وكلهم قد رآه ، ثم ينادي يا أهل النار فيشرفون وينظرون فيقول : هل تعرفون هذا؟ فيقولون : نعم هذا الموت ، وكلهم قد رآه ، فيذبح ، ثم يقول : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، ثم قرأ : ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ) .
ورواه أبو عيسى عن أحمد بن منيع ، عن النضر بن إسماعيل عن الأعمش بهذا الإسناد ، وزاد : " فلولا أن الله تعالى قضى لأهل الجنة الحياة والبقاء لماتوا فرحا ، ولولا أن الله تعالى قضى لأهل النار الحياة والبقاء لماتوا ترحا " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا معاذ بن أسد أخبرنا عبد الله أخبرنا عمر بن محمد بن زيد عن [ ص: 233 ] أبيه أنه حدثه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار . ثم يذبح ثم ينادي مناد : يا أهل الجنة لا موت ، ويا أهل النار لا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل أحد الجنة إلا رأى مقعده من النار لو أساء ، ليزداد شكرا . ولا يدخل النار أحد إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة " .
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أخبرنا الحسين بن الحسن أخبرنا ابن المبارك أخبرنا يحيى بن عبد الله قال : سمعت أبي قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من أحد يموت إلا ندم " ، قالوا : فما ندمه يا رسول الله؟ قال : " إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد ، وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون نزع " .
قوله عز وجل : ( وهم في غفلة ) أي : عما يفعل بهم في الآخرة ( وهم لا يؤمنون ) لا يصدقون .
ابو وليد البحيرى
2022-04-12, 03:20 PM
الحلقة (278)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةِ مَرْيَمَ
مَكِّيَّةٌ ، وَهِيَ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ آيَةً
الاية40 إلى الاية 57
( إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون ( 40 ) واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ( 41 ) )
قوله عز وجل : ( إنا نحن نرث الأرض ومن عليها ) أي : نميت سكان الأرض ونهلكهم جميعا ، ويبقى الرب وحده فيرثهم ، ( وإلينا يرجعون ) فنجزيهم بأعمالهم . قوله عز وجل : ( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ) " الصديق " : الكثير الصدق القائم عليه . وقيل : من صدق الله في وحدانيته وصدق أنبياءه ورسله وصدق بالبعث ، [ ص: 234 ] وقام بالأوامر فعمل بها ، فهو الصديق . و " النبي " : العالي في الرتبة بإرسال الله تعالى إياه .
( إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ( 42 ) يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ( 43 ) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا ( 44 ) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ( 45 ) قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا ( 46 ) )
( إذ قال ) إبراهيم ( لأبيه ) آزر وهو يعبد الأصنام ( يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ) صوتا ( ولا يبصر ) شيئا ( ولا يغني عنك ) أي لا يكفيك ( شيئا ) ( يا أبت إني قد جاءني من العلم ) بالله والمعرفة ( ما لم يأتك فاتبعني ) على ديني ( أهدك صراطا سويا ) مستقيما . ( يا أبت لا تعبد الشيطان ) لا تطعه فيما يزين لك من الكفر والشرك ( إن الشيطان كان للرحمن عصيا ) عاصيا " كان " بمعنى الحال أي : هو كذلك . ( يا أبت إني أخاف ) أي : أعلم ( أن يمسك ) يصيبك ( عذاب من الرحمن ) أي : إن أقمت على الكفر ( فتكون للشيطان وليا ) قرينا في النار . ( قال ) أبوه مجيبا له : ( أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته ) لئن لم تسكت وترجع عن عيبك آلهتنا وشتمك إياها ، ( لأرجمنك ) قال الكلبي ومقاتل والضحاك : لأشتمنك ولأبعدنك عني بالقول القبيح .
قال ابن عباس لأضربنك . وقال عكرمة : لأقتلنك بالحجارة .
( واهجرني مليا ) قال الكلبي : اجنبني طويلا . وقال مجاهد وعكرمة : حينا .
وقال سعيد بن جبير : دهرا . وأصل " الحين " : المكث ، ومنه يقال : فمكثت حينا " والملوان " : الليل والنهار . [ ص: 235 ]
وقال قتادة وعطاء : سالما . وقال ابن عباس : اعتزلني سالما لا تصيبك مني معرة ، يقال : فلان ملي بأمر كذا : إذا كان كافيا .
( ( قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ( 47 ) وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ( 48 ) فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ( 49 ) )
( قال ) إبراهيم ( سلام عليك ) أي سلمت مني لا أصيبك بمكروه ، وذلك أنه لم يؤمر بقتاله على كفره .
وقيل : هذا سلام هجران ومفارقة . وقيل : سلام بر ولطف وهو جواب الحليم للسفيه . قال الله تعالى : " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " ( الفرقان : 63 ) .
قوله تعالى : ( سأستغفر لك ربي ) قيل : إنه لما أعياه ، أمره ووعده أن يراجع الله فيه ، فيسأله أن يرزقه التوحيد ويغفر له . معناه : سأسأل الله تعالى لك توبة تنال بها المغفرة .
( إنه كان بي حفيا ) برا لطيفا . قال الكلبي : عالما يستجيب لي إذا دعوته . قال مجاهد : عودني الإجابة لدعائي . ( وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ) أي : أعتزل ما تعبدون من دون الله . قال مقاتل : كان اعتزاله إياهم أنه فارقهم من " كوثى " فهاجر منها إلى الأرض المقدسة ، ( وأدعو ربي ) أي : أعبد ربي ( عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ) أي : عسى أن لا أشقى بدعائه وعبادته ، كما تشقون أنتم بعبادة الأصنام .
وقيل : عسى أن يجيبني إذا دعوته ولا يخيبني . ( فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله ) فذهب مهاجرا ( وهبنا له ) بعد الهجرة ( إسحاق ويعقوب ) آنسنا وحشته [ من فراقهم ] وأقررنا عينه ، بأولاد كرام على [ ص: 236 ] الله عز وجل ( وكلا جعلنا نبيا ) يعني : إسحاق ويعقوب .
( ( ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا ( 50 ) واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا ( 51 ) ( وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ( 52 ) )
( ووهبنا لهم من رحمتنا ) قال الكلبي : المال والولد ، وهو قول الأكثرين ، قالوا : ما بسط لهم في الدنيا من سعة الرزق . وقيل : الكتاب والنبوة .
( وجعلنا لهم لسان صدق عليا ) يعني ثناء حسنا رفيعا في كل أهل الأديان ، فكلهم يتولونهم ، ويثنون عليهم . قوله عز وجل ( واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا ) غير مراء أخلص العبادة والطاعة لله عز وجل وقرأ أهل الكوفة " مخلصا " بفتح اللام أي : مختارا اختاره الله عز وجل وقيل : أخلصه الله من الدنس . ( وكان رسولا نبيا ) ( وناديناه من جانب الطور الأيمن ) يعني : يمين موسى والطور : جبل بين مصر ومدين . ويقال : اسمه " الزبير " وذلك حين أقبل من مدين ورأى النار فنودي " يا موسى إني أنا الله رب العالمين " ( القصص : 30 ) .
( وقربناه نجيا ) أي : مناجيا ، فالنجي المناجي ، كما يقال : جليس ونديم .
قال ابن عباس : معناه : قربه فكلمه ، ومعنى التقريب : إسماعه كلامه . [ ص: 237 ]
وقيل : رفعه على الحجب حتى سمع صرير القلم .
( ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ( 53 ) واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ( 54 ) وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ( 55 ) واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ( 56 ) )
( ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ) وذلك حين دعا موسى فقال : " واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي " ( طه : 29 - 30 ) فأجاب الله دعاءه وأرسل هارون ، ولذلك سماه هبة له . قوله عز وجل : ( واذكر في الكتاب إسماعيل ) وهو إسماعيل بن إبراهيم جد النبي صلى الله عليه وسلم ( إنه كان صادق الوعد ) قال مجاهد : لم يعد شيئا إلا وفى به .
وقال مقاتل : وعد رجلا أن يقيم مكانه حتى يرجع إليه الرجل ، فأقام إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد حتى رجع إليه الرجل .
وقال الكلبي : انتظره حتى حال عليه الحول .
( وكان رسولا ) إلى جرهم ( نبيا ) مخبرا عن الله عز وجل . ( وكان يأمر أهله ) أي : قومه وقيل : أهله ، وجميع أمته ( بالصلاة والزكاة ) قال ابن عباس : يريد التي افترضها الله تعالى عليهم ، وهي الحنيفية التي افترضت علينا ، ( وكان عند ربه مرضيا ) قائما بطاعته . قيل : رضيه الله عز وجل لنبوته ورسالته . قوله عز وجل ( واذكر في الكتاب إدريس ) وهو جد أبي نوح واسمه " أخنوخ " سمي إدريس لكثرة درسه الكتب . وكان خياطا وهو أول من خط بالقلم ، وأول من خاط الثياب ، ولبس المخيط ، وكانوا من قبله يلبسون الجلود ، وأول من اتخذ السلاح ، وقاتل الكفار وأول من نظر في علم [ ص: 238 ] النجوم والحساب ، ( إنه كان صديقا نبيا )
( ورفعناه مكانا عليا ( 57 ) )
( ( ورفعناه مكانا عليا ) قيل : يعني الجنة . وقيل : هي الرفعة بعلو الرتبة في الدنيا .
وقيل : هو أنه رفع إلى السماء الرابعة .
روى أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى إدريس في السماء الرابعة ليلة المعراج .
وكان سبب رفع إدريس [ إلى السماء ] على ما قاله كعب وغيره : أنه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال : يا رب أنا مشيت يوما فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لم يعرف فقال يا رب ما الذي قضيت فيه؟ فقال : إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته ، فقال : رب اجعل بيني وبينه خلة ، فأذن له حتى أتى إدريس . فكان يسأله إدريس فقال له : إني أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت ، فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي فأزداد شكرا وعبادة ، فقال الملك : لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ، وأنا مكلمه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس ، ثم أتى ملك الموت فقال لي حاجة إليك ; صديق لي من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله ، قال : ليس ذلك إلي ولكن إن أحببت أعلمته أجله فيقدم لنفسه قال : نعم فنظر في ديوانه فقال : إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبدا ، قال : وكيف؟ قال : لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس قال فإني أتيتك وتركته هناك قال : فانطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات فوالله ما بقي من أجل إدريس شيء فرجع الملك فوجده ميتا . [ ص: 239 ]
واختلفوا في أنه حي في السماء أم ميت؟ فقال قوم : هو ميت . وقال قوم : هو حي وقالوا : أربعة من الأنبياء في الأحياء اثنان في الأرض : الخضر وإلياس واثنان في السماء : إدريس وعيسى .
وقال وهب : كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه فعجب منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت ، فاستأذن ربه عز وجل في زيارته ، فأذن له فأتاه في صورة بني آدم وكان إدريس يصوم الدهر فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل معه ، ففعل ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس ، فقال له الليلة الثالثة : إني أريد أن أعلم من أنت؟ فقال : أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك ، قال : فلي إليك حاجة ، قال : وما هي؟ قال : تقبض روحي ، فأوحى الله إليه أن اقبض روحه فقبض روحه وردها الله إليه بعد ساعة ، قال له ملك الموت : ما في سؤالك من قبض الروح؟ قال لأذوق كرب الموت وغمه لأكون أشد استعدادا له ، ثم قال إدريس له : إن لي إليك حاجة أخرى ، قال : وما هي؟ قال : ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة والنار ، فأذن الله في رفعه ، فلما قرب من النار قال لي حاجة أخرى ، قال : وما تريد؟ قال : تسأل مالكا حتى يفتح لي أبوابها فأردها ففعل ، ثم قال : فما أريتني النار فأرني الجنة . فذهب به إلى الجنة فاستفتح فأوحى الله إليه أن اقبض روحه ، فقبض روحه وردها الله إليه بعد ساعة ، قال له ملك الموت : ما في ، ففتحت أبوابها فأدخله الجنة ، ثم قال ملك الموت : اخرج لتعود إلى مقرك ، فتعلق بشجرة وقال : لا أخرج منها ، فبعث الله ملكا حكيما بينهما فقال له الملك : ما لك لا تخرج؟ قال : لأن الله تعالى قال : " كل نفس ذائقة الموت " ( آل عمران : 185 ) وقد ذقته ، وقال : " وإن منكم إلا واردها " ( مريم : 71 ) ، وقد وردتها ، وقال : " وما هم منها بمخرجين " ( الحجر : 48 ) فلست أخرج ، فأوحى الله إلى ملك الموت بإذني دخل الجنة وبأمري لا يخرج فهو حي هناك ، ذلك قوله تعالى : ( ورفعناه مكانا عليا ) .
ابو وليد البحيرى
2022-04-12, 03:21 PM
الحلقة (279)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةِ مَرْيَمَ
مَكِّيَّةٌ ، وَهِيَ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ آيَةً
الاية58 إلى الاية 71
( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ( 58 )
( ( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم ) أي : إدريس ونوحا ( وممن حملنا مع نوح ) أي : ومن ذرية من حملنا مع نوح في السفينة ، يريد إبراهيم; لأنه ولد من سام بن نوح ( ومن ذرية إبراهيم ) يريد إسماعيل وإسحاق ويعقوب . [ ص: 240 ]
قوله : ( وإسرائيل ) أي : ومن ذرية إسرائيل وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى .
قوله : ( وممن هدينا واجتبينا ) هؤلاء كانوا ممن أرشدنا واصطفينا ( إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ) " سجدا " : جمع ساجد " وبكيا " : جمع باك أخبر الله أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا بآيات الله سجدوا وبكوا .
( ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ( 59 ) )
قوله عز وجل : ( فخلف من بعدهم خلف ) أي : من بعد النبيين المذكورين خلف وهم قوم سوء ، " والخلف " بالفتح الصالح ، وبالجزم الطالح .
قال السدي : أراد بهم اليهود ومن لحق بهم .
وقال مجاهد وقتادة : هم في هذه الأمة . [ ص: 241 ]
( أضاعوا الصلاة ) تركوا الصلاة المفروضة .
وقال ابن مسعود وإبراهيم : أخروها عن وقتها .
وقال سعيد بن المسيب : هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ، ولا العصر حتى تغرب الشمس .
( واتبعوا الشهوات ) أي : المعاصي وشرب الخمر ، يعني آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله . وقال مجاهد : هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو بعضهم على بعض في الأسواق والأزقة .
( فسوف يلقون غيا ) قال وهب : " الغي " نهر في جهنم بعيد قعره خبيث طعمه .
وقال ابن عباس : " الغي " واد في جهنم ، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعد للزاني المصر عليه ولشارب الخمر المدمن عليها ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ولأهل العقوق ولشاهد الزور .
وقال عطاء : " الغي " : واد في جهنم يسيل قيحا ودما .
وقال كعب : هو واد في جهنم أبعدها قعرا ، وأشدها حرا في بئر تسمى " الهيم " كلما خبت جهنم فتح الله تلك البئر فيسعر بها جهنم . أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أخبرنا محمد بن أحمد الحارثي أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي أخبرنا عبد الله بن محمود أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال وأخبرنا عبد الله بن المبارك عن هشيم بن بشير أخبرنا زكريا بن أبي مريم الخزاعي قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : " إن ما بين شفير جهنم إلى قعرها مسيرة سبعين خريفا من حجر يهوي ، أو قال صخرة تهوي ، عظمها كعشر عشروات عظام سمان فقال له مولى لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد : هل تحت ذلك شيء يا أبا أمامة؟ [ ص: 242 ] قال : نعم غي وآثام " .
وقال الضحاك : غيا وخسرانا . وقيل : هلاكا . وقيل : عذابا .
وقوله : ( فسوف يلقون غيا ) ليس معناه يرون فقط ، بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية .
( إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا ( 60 ) جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا ( 61 ) لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ( 62 ) )
( إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا ) . ( جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب ) ولم يروها ( إنه كان وعده مأتيا ) يعني : آتيا ، مفعول بمعنى فاعل .
وقيل : لم يقل آتيا لأن كل من أتاك فقد أتيته والعرب لا تفرق بين قول القائل : أتت علي خمسون سنة وبين قوله : أتيت على خمسين سنة ويقول : وصل إلي الخير ووصلت إلى الخير .
وقال ابن جرير : " وعده " أي : موعده وهو الجنة " مأتيا " يأتيه أولياؤه [ أهل الجنة ] وأهل طاعته . ( لا يسمعون فيها ) في الجنة ( لغوا ) باطلا وفحشا وفضولا من الكلام .
وقال مقاتل : هو اليمين الكاذبة .
( إلا سلاما ) استثناء من غير جنسه يعني : بل يسمعون فيها سلاما أي : قولا يسلمون منه " والسلام " اسم جامع للخير لأنه يتضمن السلامة . [ ص: 243 ]
معناه : أن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤثمهم إنما يسمعون ما يسلمهم .
وقيل : هو تسليم بعضهم على بعض وتسليم الملائكة عليهم .
وقيل : هو تسليم الله عليهم .
( ( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ) قال أهل التفسير : ليس في الجنة ليل يعرف به البكرة والعشي بل هم في نور أبدا ولكنهم يأتون بأرزاقهم على مقدار طرفي النهار .
وقيل : إنهم يعرفون وقت النهار برفع الحجب ووقت الليل بإرخاء الحجب .
وقيل : المراد منه رفاهية العيش وسعة الرزق من غير تضييق .
وكان الحسن البصري يقول : كانت العرب لا تعرف من العيش أفضل من الرزق بالبكرة والعشي فوصف الله عز وجل جنته بذلك .
( تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا ( 63 ) وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا ( 64 ) )
( ( تلك الجنة التي نورث من عبادنا ) أي : نعطي وننزل . وقيل : يورث عباده المؤمنين المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا ( من كان تقيا ) أي : المتقين من عباده . قوله عز وجل : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ) أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا خلاد بن يحيى أخبرنا عمر بن ذر قال : سمعت أبي يحدث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا " فنزلت : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا ) الآية . قال : كان هذا الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم " .
وقال عكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل والكلبي : احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فقال : أخبركم غدا ولم يقل : إن شاء الله حتى شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزل بعد أيام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك " فقال له جبريل : إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست [ ص: 244 ] احتبست فأنزل الله : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ) وأنزل : " والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى " .
( ( له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك ) أي : له علم ما بين أيدينا . واختلفوا فيه : فقال سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل : ( ما بين أيدينا ) من أمر الآخرة والثواب والعقاب ( وما خلفنا ) ما مضى من الدنيا ( وما بين ذلك ) ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة .
وقيل ( ما بين أيدينا ) ما بقي من الدنيا ( وما خلفنا ) ما مضى منها ( وما بين ذلك ) أي : ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة .
وقيل : ( ما بين أيدينا ) ما بقي من الدنيا ( وما خلفنا ) ما مضى منها ( وما بين ذلك ) مدة حياتنا .
وقيل : ( ما بين أيدينا ) بعد أن نموت ( وما خلفنا ) قبل أن نخلق ( وما بين ذلك ) مدة الحياة .
وقيل : ( ما بين أيدينا ) الأرض إذا أردنا النزول إليها ( وما خلفنا ) السماء إذا نزلنا منها ( وما بين ذلك ) الهواء يريد : أن ذلك كله لله عز وجل فلا نقدر على شيء إلا بأمره . ( وما كان ربك نسيا ) أي : ناسيا يقول : ما نسيك ربك أي : ما تركك ، والناسي التارك .
( رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا ( 65 ) )
( ( رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته ) أي : اصبر على أمره ونهيه ( هل تعلم له سميا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : مثلا .
وقال الكلبي : هل تعلم أحدا يسمى " الله " غيره ؟
[ ص: 245 ] ( ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا ( 66 ) أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ( 67 ) فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ( 68 ) ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ( 69 ) )
قوله عز وجل : ( ويقول الإنسان ) يعني : أبي بن خلف الجمحي كان منكرا للبعث قال : ( أئذا ما مت لسوف أخرج حيا ) قاله استهزاء وتكذيبا للبعث . قال الله عز وجل ( أولا يذكر ) أي يتذكر ويتفكر وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب " يذكر " خفيفا ( الإنسان ) يعني : أبي بن خلف ( أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ) أي : لا يتفكر هذا الجاحد في بدء خلقه فيستدل به على الإعادة ثم أقسم بنفسه فقال : ( فوربك لنحشرنهم ) لنجمعنهم في المعاد يعني : المشركين المنكرين للبعث ( والشياطين ) مع الشياطين وذلك أنه يحشر كل كافر مع شيطانه في سلسلة ( ثم لنحضرنهم حول جهنم ) قيل في جهنم ( جثيا ) قال ابن عباس رضي الله عنه : جماعات جمع جثوة .
وقال الحسن والضحاك : جمع " جاث " أي : جاثين على الركب .
قال السدي : قائمين على الركب لضيق المكان . ( ثم لننزعن ) لنخرجن ( من كل شيعة ) أي : من كل أمة وأهل دين من الكفار ( أيهم أشد على الرحمن عتيا ) عتوا ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني جرأة . وقال مجاهد : فجورا ، يريد : الأعتى فالأعتى .
وقال الكلبي : قائدهم ورأسهم في الشر ، يريد أنه يقدم في إدخال من هو أكبر جرما وأشد كفرا .
في بعض الآثار : أنهم يحشرون جميعا حول جهنم مسلسلين مغلولين ثم يقدم الأكفر فالأكفر .
ورفع ( أيهم ) على معنى : الذي يقال لهم : أيهم أشد على الرحمن عتيا . [ ص: 246 ]
وقيل : على الاستئناف ثم لننزعن [ يعمل في موضع " من كل شيعة " ] .
( ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا ( 70 ) وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ( 71 ) )
( ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا ) أي : أحق بدخول النار يقال : صلي يصلى صليا ، مثل : لقي يلقى لقيا وصلى يصلي صليا ، مثل : مضى يمضي مضيا إذا دخل النار وقاسى حرها . قوله عز وجل : ( وإن منكم إلا واردها ) وما منكم إلا واردها وقيل : القسم فيه مضمر ، أي : والله ما منكم من أحد إلا واردها ، والورود هو موافاة المكان .
واختلفوا في معنى الورود هاهنا ، وفيما تنصرف إليه الكناية في قوله : ( واردها ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وهو قول الأكثرين; معنى الورود هاهنا هو الدخول والكناية راجعة إلى النار وقالوا : النار يدخلها البر والفاجر ثم ينجي الله المتقين فيخرجهم منها .
والدليل على أن الورود هو الدخول : قول الله عز وجل حكاية عن فرعون : " يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار " ( هود : 98 ) .
وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار أن نافع بن الأزرق مارى ابن عباس رضي الله عنهما في الورود فقال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الدخول . وقال نافع ليس الورود الدخول ، فتلا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى : " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " ( الأنبياء : 98 ) أدخلها هؤلاء أم لا؟ ثم قال : يا نافع أما والله أنت وأنا سنردها وأنا أرجو أن يخرجني الله منها وما أرى الله عز وجل أن يخرجك منها بتكذيبك .
وقال قوم : ليس المراد من الورود الدخول . وقالوا : النار لا يدخلها مؤمن أبدا لقوله تعالى : " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها " ( الأنبياء : 101 - 102 ) وقالوا : كل من دخلها لا يخرج منها . والمراد من قوله : ( وإن منكم إلا واردها ) الحضور والرؤية ، [ ص: 247 ] لا الدخول كما قال الله تعالى : " ولما ورد ماء مدين " ( القصص : 23 ) أراد به الحضور .
وقال عكرمة : الآية في الكفار فإنهم يدخلونها ولا يخرجون منها .
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ( وإن منكم إلا واردها ) يعني : القيامة ، والكناية راجعة إليها .
والأول أصح ، وعليه أهل السنة أنهم جميعا يدخلون النار ثم يخرج الله عز وجل منها أهل الإيمان بدليل قوله تعالى : ثم ننجي الذين اتقوا
.
ابو وليد البحيرى
2022-04-12, 03:22 PM
الحلقة (280)
- تفسير البغوى
الجزء الخامس
سُورَةِ مَرْيَمَ
مَكِّيَّةٌ ، وَهِيَ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ آيَةً
الاية72 إلى الاية 90
( ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ( 72 ) )
( ثم ننجي الذين اتقوا ) أي : اتقوا الشرك وهم المؤمنون . والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه .
وقرأ الكسائي ويعقوب : " ننجي " بالتخفيف . والآخرون : بالتشديد .
والدليل على هذا : ما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا عبد الرحيم بن منيب أخبرنا سفيان عن الزهري عن [ ص: 248 ] سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم " .
وأراد بالقسم قوله : ( وإن منكم إلا واردها )
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا مسلم بن إبراهيم أخبرنا هشام أخبرنا قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير " وقال أبان عن قتادة : " من إيمان " مكان " خير " .
أخبرنا أبو المظفر محمد بن إسماعيل بن علي الشجاعي أخبرنا أبو نصر النعمان بن محمد بن محمود الجرجاني أخبرنا أبو عثمان عمرو بن عبد الله البصري أخبرنا محمد بن عبد الوهاب أخبرنا محمد بن الفضل أبو النعمان أخبرنا سلام بن مسكين أخبرنا أبو الظلال عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن رجلا في النار ينادي ألف سنة يا حنان يا منان فيقول الله عز وجل لجبريل : اذهب فأتني بعبدي هذا قال : فذهب جبريل فوجد أهل النار منكبين يبكون قال : فرجع فأخبر ربه عز وجل قال اذهب فإنه في موضع كذا وكذا قال : فجاء به قال : يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك؟ قال : يا رب شر مكان وشر مقيل قال ، ردوا عبدي . قال : ما كنت أرجو أن تعيدني إليها إذ أخرجتني منها ، قال الله تعالى لملائكته : دعوا عبدي " .
وأما قوله عز وجل : لا يسمعون حسيسها " ( الأنبياء : 102 ) قيل : إن الله عز وجل أخبر عن وقت كونهم في الجنة أنهم لا يسمعون حسيسها ، فيجوز أن يكونوا قد سمعوا ذلك قبل دخولهم الجنة لأنه لم يقل : لم يسمعوا حسيسها ، ويجوز أن لا يسمعوا حسيسها عند دخولهم إياها لأن الله عز وجل يجعلها عليهم بردا وسلاما . [ ص: 249 ]
وقال خالد بن معدان : يقول أهل الجنة : ألم يعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال بلى ولكنكم مررتم بها وهي خامدة .
وفي الحديث : تقول النار للمؤمن : " جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي " .
وروي عن مجاهد في قوله عز وجل : ( وإن منكم إلا واردها ) قال : من حم من المسلمين فقد وردها .
وفي الخبر : " الحمى كير من جهنم ، وهي حظ المؤمن من النار " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا محمد بن المثنى أخبرنا يحيى عن هشام أخبرني أبي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء " .
( كان على ربك حتما مقضيا ) أي : كان ورودكم جهنم حتما لازما ( مقضيا ) قضاه الله عليكم .
( ثم ننجي الذين اتقوا ) أي : اتقوا الشرك . وقرأ الكسائي " ننجي " بالتخفيف والباقون بالتشديد ( ونذر الظالمين فيها جثيا ) جميعا . وقيل : جاثين على الركب وفيه دليل على أن الكل دخلوها ثم أخرج الله منها المتقين وترك فيها الظالمين وهم المشركون .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي [ ص: 250 ] أن أبا هريرة أخبرهما أن الناس قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال : " هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب " قالوا : لا يا رسول الله ، قال : " فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب " قالوا : لا قال : فإنكم ترونه كذلك يحشر الناس يوم القيامة فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه فمنهم من يتبع الشمس ، ومنهم من يتبع القمر ، ومنهم من يتبع الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله عز وجل فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه ، فيأتيهم الله فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا ؟ فيدعوهم ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل ، وكلام الرسل يومئذ : اللهم سلم سلم ، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان ، هل رأيتم شوك السعدان ؟ قالوا : نعم ، قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم ، فمنهم من يوبق بعمله ، ومنهم من يجردل ثم ينجو ، حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود ، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ، فيخرجون من النار ، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد ويبقى رجل بين الجنة والنار ، وهو آخر أهل النار دخولا الجنة مقبل بوجهه قبل النار فيقول يا رب اصرف وجهي عن النار قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها ، فيقول : هل عسيت إن فعلت ذلك بك أن تسأل غير ذلك فيقول : لا وعزتك ، فيعطي الله ما شاء من عهد وميثاق فيصرف الله وجهه عن النار ، فإذا أقبل به على الجنة رأى بهجتها سكت ما شاء الله أن يسكت ثم قال يا رب قدمني عند باب الجنة فيقول الله تبارك وتعالى : أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي كنت سألت فيقول يا رب لا أكون أشقى خلقك فيقول فما عسيت إن أعطيت ذلك أن تسأل غيره فيقول لا وعزتك لا أسألك غير ذلك فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق فيقدمه إلى باب الجنة فإذا بلغ بابها فرأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور فسكت ما شاء الله أن يسكت فيقول يا رب أدخلني الجنة فيقول الله ويحك يا ابن آدم ما أغدرك أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك فيضحك الله عز وجل منه ثم يأذن له في دخول الجنة فيقول تمن فيتمنى حتى إذا انقطع [ ص: 251 ] أمنيته قال الله عز وجل من كذا وكذا أقبل يذكره ربه حتى إذا انتهت به الأماني قال الله تعالى لك ذلك ومثله معه قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة رضي الله عنهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله لك ذلك وعشرة أمثاله قال أبو هريرة لم أحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قوله لك ذلك ومثله معه قال أبو سعيد إني سمعته يقول ذلك لك وعشرة أمثاله .
ورواه محمد بن إسماعيل عن محمود بن غيلان أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة بمعناه وقال : فيأتيهم الله عز وجل في غير الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون : نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا آتانا ربنا عرفناه فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون : أنت ربنا فيتبعونه .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن حماد أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يعذب أناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمما ثم تدركهم الرحمة قال : فيخرجون فيطرحون على أبواب الجنة قال : فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما تنبت القثاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة " .
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا هناد بن السري أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة السلماني عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف آخر أهل النار خروجا رجل يخرج منها زحفا فيقول يا رب قد أخذ الناس المنازل قال فيقال له انطلق فادخل الجنة قال فيذهب ليدخل فيجد الناس قد أخذوا المنازل فيرجع فيقول يا رب قد أخذ الناس المنازل قال فيقال له أتذكر الزمان الذي كنت فيه فيقول نعم فيقال له تمن قال فيتمنى فيقال له فإن لك الذي تمنيته وعشرة أضعاف الدنيا قال فيقول أتسخر بي وأنت الملك قال فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه " . [ ص: 252 ]
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن حماد أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أم مبشر عن حفصة أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدرا والحديبية " قال : قلت يا رسول الله أليس قد قال الله تعالى : ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ) قال : أفلم تسمعيه يقول : ( ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ) .
( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ( 73 ) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ( 74 ) )
قوله عز وجل : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ) واضحات ( قال الذين كفروا ) يعني : النضر بن الحارث وذويه من قريش ( للذين آمنوا ) يعني فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانت فيهم قشافة وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون يرجلون شعورهم ويدهنون رءوسهم ويلبسون حرير ثيابهم فقالوا للمؤمنين : ( أي الفريقين خير مقاما ) منزلا ومسكنا [ وهو موضع الإقامة .
وقرأ ابن كثير : " مقاما " بضم الميم أي : إقامة ] .
( وأحسن نديا ) أي مجلسا ومثله النادي فأجابهم الله تعالى فقال : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ) أي متاعا وأموالا . وقال مقاتل : لباسا وثيابا ( ورئيا ) قرأ أكثر القراء بالهمز أي : منظرا من " الرؤية " وقرأ ابن عامر وأبو جعفر ونافع غير ورش : " وريا " مشددا بغير همز وله تفسيران : أحدهما هو الأول بطرح الهمز والثاني : من الري الذي هو ضد العطش ومعناه : الارتواء من النعمة فإن المتنعم يظهر فيه ارتواء النعمة ، والفقير يظهر عليه ذيول الفقر .
[ ص: 253 ] ( قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ( 75 ) ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا ( 76 ) ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ( 77 ) أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا ( 78 ) )
( قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ) هذا أمر بمعنى الخبر معناه : يدعه في طغيانه ويمهله في كفره ( حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب ) وهو الأسر والقتل في الدنيا ( وإما الساعة ) يعني : القيامة فيدخلون النار ( فسيعلمون ) عند ذلك ( من هو شر مكانا ) منزلا ( وأضعف جندا ) أقل ناصرا أهم أم المؤمنون؟ لأنهم في النار والمؤمنون في الجنة وهذا رد عليهم في قوله ( أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ) قوله عز وجل : ( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ) أي إيمانا وإيقانا على يقينهم ( والباقيات الصالحات ) الأذكار والأعمال الصالحة التي تبقى لصاحبها ( خير عند ربك ثوابا وخير مردا ) عاقبة ومرجعا . قوله عز وجل : ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ) أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عمرو بن حفص أخبرنا أبي أخبرنا الأعمش بن مسلم عن مسروق حدثنا خباب قال : كنت قينا فعملت للعاص بن وائل فاجتمع مالي عنده فأتيته أتقاضاه فقال لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت : أما والله حتى تموت ثم تبعث فلا قال : وإني لميت ثم مبعوث؟ قلت : نعم قال : فإنه سيكون لي ثم مال وولد فأقضيك ، فأنزل الله عز وجل : ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ) . قوله عز وجل : ( أطلع الغيب ) قال ابن عباس : أنظر في اللوح المحفوظ؟ وقال مجاهد : أعلم علم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا؟ [ ص: 254 ]
( أم اتخذ عند الرحمن عهدا ) يعني قال لا إله إلا الله وقال قتادة : يعني عملا صالحا قدمه . وقال الكلبي : أعهد إليه أن يدخل الجنة؟
( كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ( 79 ) ونرثه ما يقول ويأتينا فردا ( 80 ) واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا ( 81 ) كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ( 82 ) ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا ( 83 ) )
( كلا ) رد عليه يعني : لم يفعل ذلك ( سنكتب ) سنحفظ عليه ( ما يقول ) [ فنجازيه به في الآخرة . وقيل : نأمر به الملائكة حتى يكتبوا ما يقول ] . ( ونمد له من العذاب مدا ) أي : نزيده عذابا فوق العذاب . وقيل : نطيل مدة عذابه . ( ونرثه ما يقول ) أي : ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه وإبطال ملكه ، وقوله ما يقول لأنه زعم أن له مالا وولدا " في الآخرة " أي لا نعطيه ونعطي غيره فيكون الإرث راجعا إلى ما تحت القول لا إلى نفس القول .
وقيل : معنى قوله : ( ونرثه ما يقول ) أي : نحفظ ما يقول حتى نجازيه به .
( ويأتينا فردا ) يوم القيامة بلا مال ولا ولد . قوله عز وجل : ( واتخذوا من دون الله آلهة ) يعني : مشركي قريش اتخذوا الأصنام آلهة يعبدونها ( ليكونوا لهم عزا ) أي : منعة حتى يكونوا لهم شفعاء يمنعونهم من العذاب . ( كلا ) أي ليس الأمر كما زعموا ( سيكفرون بعبادتهم ) أي تجحد الأصنام والآلهة التي كانوا يعبدونها عبادة المشركين ويتبرءون منهم كما أخبر الله تعالى " تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون " ( القصص : 63 ) .
( ويكونون عليهم ضدا ) أي : أعداء لهم وكانوا أولياءهم في الدنيا .
وقيل : أعوانا عليهم يكذبونهم ويلعنونهم . قوله عز وجل : ( ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين ) أي سلطناهم عليهم وذلك حين قال لإبليس : " واستفزز من استطعت منهم بصوتك " الآية ( الإسراء - 64 ( تؤزهم أزا ) [ ص: 255 ] تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية " والأز " " والهز " : التحريك أي : تحركهم وتحثهم على المعاصي .
( فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا ( 84 ) يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ( 85 ) ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ( 86 ) لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ( 87 ) )
( فلا تعجل عليهم ) أي لا تعجل بطلب عقوبتهم ( إنما نعد لهم عدا ) قال الكلبي : يعني الليالي والأيام والشهور والأعوام .
وقيل : الأنفاس التي يتنفسون بها في الدنيا إلى الأجل الذي أجل لعذابهم . قوله عز وجل ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ) أي : اذكر لهم يا محمد اليوم الذي يجمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته إلى الرحمن إلى جنته وفدا أي : جماعات جمع " وافد " مثل : راكب وركب وصاحب وصحب .
وقال ابن عباس : ركبانا . وقال أبو هريرة : على الإبل .
وقال علي بن أبي طالب : ما يحشرون والله على أرجلهم ، ولكن على نوق رحالها الذهب ونجائب سرجها يواقيت ، إن هموا بها سارت وإن هموا بها طارت . ( ونسوق المجرمين ) الكافرين ( إلى جهنم وردا ) أي : مشاة . وقيل : عطاشا قد تقطعت أعناقهم من العطش . " والورد " جماعة يردون الماء ولا يرد أحد الماء إلا بعد عطش . ( لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ) يعني لا إله إلا الله .
وقيل : معناه لا يشفع الشافعون إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهدا يعني : المؤمنين كقوله : " لا يشفعون إلا لمن ارتضى " ( الأنبياء : 28 ) . [ ص: 256 ]
وقيل : لا يشفع إلا من شهد أن لا إله إلا الله أي لا يشفع إلا المؤمن .
( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ( 88 ) لقد جئتم شيئا إدا ( 89 ) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ( 90 ) )
( ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ) يعني اليهود والنصارى ومن زعم أن الملائكة بنات الله .
وقرأ حمزة والكسائي " ولدا " بضم الواو وسكون اللام هاهنا وفي الزخرف وسورة نوح ووافق ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب في سورة نوح والباقون بفتح الواو واللام . وهما لغتان مثل : العرب والعرب والعجم والعجم . ( لقد جئتم شيئا إدا ) قال ابن عباس منكرا . وقال قتادة ومجاهد : عظيما . وقال مقاتل : لقد قلتم قولا عظيما . " والإد " في كلام العرب : أعظم الدواهي . ( تكاد السماوات ) قرأ نافع " يكاد " بالياء هاهنا وفي " حم عسق " لتقدم الفعل وقرأ الباقون بالتاء لتأنيث السموات ( يتفطرن منه ) هاهنا وفي " حم عسق " بالنون من الانفطار أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب وافق ابن عامر وحمزة هاهنا لقوله تعالى : " إذا السماء انفطرت " ( الانفطار : 1 ) و " السماء منفطر " ( المزمل : 18 ) وقرأ الباقون بالتاء من التفطر ومعناهما واحد يقال : انفطر الشيء وتفطر أي : تشقق .
( وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ) أي : تنكسر كسرا .
وقيل : ( وتنشق الأرض ) أي : تنخسف بهم " والانفطار " في السماء : أن تسقط عليهم ( وتخر الجبال هدا ) أي تنطبق عليهم
ابو وليد البحيرى
2022-05-09, 01:34 AM
الحلقة (281)
- تفسير البغوى
سُورَةُ طه
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية 15
( أن دعوا للرحمن ولدا ( 91 ) وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ( 92 ) إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ( 93 ) لقد أحصاهم وعدهم عدا ( 94 ) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ( 95 ) ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ( 96 ) )
( أن دعوا ) أي : من أجل أن جعلوا ( للرحمن ولدا ) قال ابن عباس وكعب : فزعت السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة واستعرت جهنم حين قالوا : اتخذ الله ولدا .
ثم نفى الله عن نفسه الولد فقال : ( وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ) أي : ما يليق به اتخاذ الولد ولا يوصف به . ( إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن ) أي : إلا آتيه يوم القيامة ( عبدا ) ذليلا خاضعا يعني : أن الخلق كلهم عبيده . ( لقد أحصاهم وعدهم عدا ) أي : عد أنفاسهم وأيامهم وآثارهم فلا يخفى عليه شيء . ( وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ) وحيدا ليس معه من الدنيا شيء . قوله عز وجل : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ) أي : محبة . قال مجاهد : يحبهم الله ويحببهم إلى عباده المؤمنين .
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا أحب الله العبد قال لجبرائيل : قد أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبرائيل ثم ينادي في أهل السماء : إن الله عز وجل قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإذا أبغض العبد " . [ ص: 258 ]
قال مالك : لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك .
قال هرم بن حيان : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه ، حتى يرزقه مودتهم .
( فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ( 97 ) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ( 98 ) )
قوله عز وجل : ( فإنما يسرناه بلسانك ) أي سهلنا القرآن بلسانك يا محمد ( لتبشر به المتقين ) يعني المؤمنين ( وتنذر به قوما لدا ) شدادا في الخصومة ، جمع " الألد " .
وقال الحسن : صما عن الحق .
قال مجاهد : " الألد " : الظالم الذي لا يستقيم .
قال أبو عبيدة : " الألد " الذي لا يقبل الحق ويدعي الباطل . ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس ) هل ترى وقيل هل تجد ( منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ) أي : صوتا . " والركز " : الصوت الخفي . قال الحسن : بادوا جميعا ، فلم يبق منهم عين ولا أثر .
[ ص: 259 ] سُورَةُ طه
مَكِّيَّةٌ .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( طه ( 1 ) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ( 2 ) )
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَمْعَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَيَّانِيُّ ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أُعْطِيتُ السُّورَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا الْبَقَرَةُ مِنَ الذِّكْرِ الْأَوَّلِ ، وَأُعْطِيتُ طه وَالطَّوَاسِينَ مِنْ أَلْوَاحِ مُوسَى ، وَأُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْقُرْآنِ وَخَوَاتِيمَ السُّورَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا الْبَقَرَةُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ ، وَأُعْطِيتُ الْمُفَصَّلَ نَافِلَةً " .
( طه ) قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ ، وَبِكَسْرِهِمَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهِمَا . [ ص: 262 ]
قِيلَ : هُوَ قَسَمٌ . وَقِيلَ : اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَالضَّحَّاكُ : مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : هُوَ يَا رَجُلُ ، بِالسُّرْيَانِي َّةِ .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ : هُوَ يَا إِنْسَانُ بِلُغَةِ عَكٍّ .
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ : مَعْنَاهُ طَإِ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْكَ . يُرِيدُ : فِي التَّهَجُّدِ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ : أَقْسَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِطَوْلِهِ وَهِدَايَتِهِ .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : الطَّاءُ افْتِتَاحُ اسْمِهِ الطَّاهِرِ ، وَالْهَاءُ افْتِتَاحُ اسْمِهِ هَادٍ .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ : لَمَّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ بِمَكَّةَ اجْتَهَدَ فِي الْعِبَادَةِ حَتَّى كَانَ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ فِي الصَّلَاةِ لِطُولِ قِيَامِهِ ، وَكَانَ يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَلَى [ ص: 263 ] نَفْسِهِ فَقَالَ : ( مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) وَقِيلَ : لَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ اجْتِهَادَهُ فِي الْعِبَادَةِ قَالُوا مَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا لِشَقَائِكَ ، فَنَزَلَتْ ( مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) أَيْ لِتَتَعَنَّى وَتَتْعَبَ ، وَأَصْلُ الشَّقَاءِ فِي اللُّغَةِ الْعَنَاءُ .
( إلا تذكرة لمن يخشى ( 3 ) تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا ( 4 ) الرحمن على العرش استوى ( 5 ) له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ( 6 ) )
( إلا تذكرة لمن يخشى ) [ أي : لكن أنزلناه عظة لمن يخشى . وقيل : تقديره ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ما أنزلناه إلا تذكرة لمن يخشى ] . ( تنزيلا ) بدل من قوله " تذكرة " ( ممن خلق الأرض ) أي : من الله الذي خلق الأرض ، ( والسماوات العلا ) يعني : العالية الرفيعة ، وهي جمع العليا ، كقوله : كبرى وكبر ، وصغرى وصغر . ( الرحمن على العرش استوى ) . ( له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما ) يعني الهواء ، ( وما تحت الثرى ) والثرى هو : التراب الندي . قال الضحاك : يعني ما وراء الثرى من شيء .
وقال ابن عباس : إن الأرضين على ظهر النون ، والنون على بحر ، ورأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش ، والبحر على صخرة خضراء ، خضرة السماء منها ، وهي الصخرة التي ذكر الله في قصة لقمان " فتكن في صخرة " والصخرة على قرن ثور ، والثور على الثرى ، وما تحت الثرى لا يعلمه إلا الله عز وجل ، وذلك الثور فاتح فاه ، فإذا جعل الله عز وجل البحار بحرا واحدا سالت في جوف ذلك الثور ، فإذا وقعت في جوفه يبست .
[ ص: 264 ] ( وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ( 7 ) الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ( 8 ) وهل أتاك حديث موسى ( 9 ) )
( وإن تجهر بالقول ) [ أي : تعلن به ] ( فإنه يعلم السر وأخفى ) قال الحسن : " السر " : ما أسر الرجل إلى غيره ، " وأخفى " من ذلك : ما أسر من نفسه .
وعن ابن عباس ، وسعيد بن جبير : " السر " ما تسر في نفسك " وأخفى " من السر : ما يلقيه الله عز وجل في قلبك من بعد ، ولا تعلم أنك ستحدث به نفسك ، لأنك تعلم ما تسر به اليوم ولا تعلم ما تسر به غدا ، والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسر به غدا .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : " السر " : ما أسر ابن آدم في نفسه ، " وأخفى " ما خفي عليه مما هو فاعله قبل أن يعلمه .
وقال مجاهد : " السر " العمل الذي تسرون من الناس ، " وأخفى " : الوسوسة .
وقيل : " السر " : هو العزيمة [ " وأخفى " : ما يخطر على القلب ولم يعزم عليه .
وقال زيد بن أسلم : " يعلم السر ] وأخفى " : أي يعلم أسرار العباد ، وأخفى سره من عباده ، فلا يعلمه أحد . ثم وحد نفسه ، فقال : ( الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ) قوله عز وجل : ( وهل أتاك حديث موسى ) أي : قد أتاك ، استفهام بمعنى التقرير .
[ ص: 265 ] ( إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ( 10 ) فلما أتاها نودي يا موسى ( 11 ) )
( إذ رأى نارا ) وذلك أن موسى استأذن شعيبا في الرجوع من مدين إلى مصر لزيارة والدته وأخته ، فأذن له فخرج بأهله وماله ، وكانت أيام الشتاء ، وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام ، وامرأته في سقمها ، لا تدري أليلا أم نهارا . فسار في البرية غير عارف بطرقها ، فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد ، وأخذ امرأته الطلق ، فقدح زنده فلم يوره .
وقيل : إن موسى كان رجلا غيورا فكان يصحب الرفقة بالليل ويفارقهم بالنهار ، لئلا ترى امرأته ، فأخطأ مرة الطريق في ليلة مظلمة شاتية ، لما أراد الله عز وجل من كرامته ، فجعل يقدح الزند فلا يوري ، فأبصر نارا من بعيد عن يسار الطريق من جانب الطور ، ( فقال لأهله امكثوا ) أقيموا ، قرأ حمزة بضم الهاء هاهنا وفي القصص ، ( إني آنست ) أي : أبصرت ، ( نارا لعلي آتيكم منها بقبس ) شعلة من نار ، والقبس : قطعة من النار تأخذها في طرف عمود من معظم النار ، ( أو أجد على النار هدى ) أي : أجد عند النار من يدلني على الطريق . ( فلما أتاها ) رأى شجرة خضراء من أسفلها [ إلى أعلاها ، أطافت بها نار بيضاء تتقد كأضوء ما يكون ، فلا ضوء النار يغير ] خضرة الشجرة ، ولا خضرة الشجرة تغير ضوء النار .
قال ابن مسعود : كانت الشجرة سمرة خضراء .
وقال قتادة ، ومقاتل ، والكلبي : كانت من العوسج .
وقال وهب : كانت من العليق .
وقيل : كانت شجرة العناب ، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما .
قال أهل التفسير : لم يكن الذي رآه موسى نارا بل كان نورا ، ذكر بلفظ النار لأن موسى حسبه نارا .
وقال أكثر المفسرين : إنه نور الرب عز وجل ، وهو قول ابن عباس ، وعكرمة ، وغيرهما . [ ص: 266 ]
وقال سعيد بن جبير : هي النار بعينها ، وهي إحدى حجب الله تعالى . يدل عليه : ما روينا عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حجابه النار ، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " .
وفي القصة أن موسى أخذ شيئا من الحشيش اليابس وقصد الشجرة وكان كلما دنا نأت منه النار ، وإذا نأى دنت ، فوقف متحيرا ، وسمع تسبيح الملائكة ، وألقيت عليه السكينة .
( ( إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ( 12 ) )
( نودي يا موسى إني أنا ربك ) قرأ أبو جعفر ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، " أني " بفتح الألف ، على معنى : نودي بأني . وقرأ الآخرون بكسر الألف ، أي : نودي ، فقيل : إني أنا ربك .
قال وهب نودي من الشجرة ، فقيل : يا موسى ، فأجاب سريعا لا يدري من دعاه ، فقال : إني أسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت؟ قال : أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك ، وأقرب إليك من نفسك ، فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا لله ، فأيقن به .
قوله عز وجل : ( فاخلع نعليك ) وكان السبب فيه ما روي عن ابن مسعود مرفوعا في قوله : ( فاخلع نعليك ) قال : كانتا من جلد حمار ميت . ويروى : غير مدبوغ .
وقال عكرمة ومجاهد : أمر بخلع النعلين ليباشر بقدمه تراب الأرض المقدسة ، فيناله بركتها لأنها قدست مرتين ، فخلعهما موسى وألقاهما من وراء الوادي . [ ص: 267 ]
( إنك بالوادي المقدس ) أي : المطهر ، ( طوى ) وطوى اسم الوادي ، وقرأ أهل الكوفة والشام : " طوى " بالتنوين هاهنا وفي سورة النازعات ، وقرأ الآخرون بلا تنوين لأنه معدول عن " طاو " فلما كان معدولا عن وجهه كان مصروفا عن إعرابه ، مثل عمر ، وزفر ، وقال الضحاك : " طوى " : واد مستدير عميق مثل الطوي في استدارته .
( وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ( 13 ) إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ( 14 ) إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ( 15 ) )
( وأنا اخترتك ) اصطفيتك برسالاتي ، قرأ حمزة : " وأنا " مشددة النون ، " اخترناك " على التعظيم . ( فاستمع لما يوحى ) إليك : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) ولا تعبد غيري ، ( وأقم الصلاة لذكري ) قال مجاهد : أقم الصلاة لتذكرني فيها ، وقال مجاهد : إذا تركت الصلاة ثم ذكرتها ، فأقمها .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو عمرو بكر بن محمد المزني ، أخبرنا أبو بكر بن محمد بن عبد الله الحفيد أخبرنا الحسين بن الفضل البجلي أخبرنا عفان أخبرنا قتادة عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ، لا كفارة لها إلا ذلك " ثم قال : سمعته يقول بعد ذلك : ( وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها ) قيل معناه إن الساعة آتية أخفيها . و " أكاد " : صلة . وأكثر المفسرين قالوا : معناه : أكاد أخفيها من نفسي ، وكذلك في مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود : أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق .
وفي بعض القراءات : فكيف أظهرها لكم . وذكر ذلك على عادة العرب إذا بالغوا في كتمان الشيء يقولون : كتمت سرك من نفسي ، أي : أخفيته غاية الإخفاء ، والله عز اسمه لا يخفى عليه شيء . [ ص: 268 ]
وقال الأخفش : أكاد : أي : أريد ، ومعنى الآية : أن الساعة آتية أريد أخفيها .
والمعنى في إخفائها التهويل والتخويف ، لأنهم إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت .
وقرأ الحسن بفتح الألف ، أي : أظهرها . يقال : خفيت الشيء : إذا أظهرته ، وأخفيته : إذا سترته .
قوله تعالى : ( لتجزى كل نفس بما تسعى ) أي : بما تعمل من خير وشر .
ابو وليد البحيرى
2022-05-09, 01:34 AM
الحلقة (282)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ طه
مَكِّيَّةٌ
الاية16 إلى الاية 44
( فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ( 16 ) وما تلك بيمينك يا موسى ( 17 ) قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ( 18 ) )
( فلا يصدنك عنها ) فلا يصرفنك عن الإيمان بالساعة ، ( من لا يؤمن بها واتبع هواه ) مراده خالف أمر الله ( فتردى ) أي : فتهلك . قوله عز وجل : ( وما تلك بيمينك يا موسى ) سؤال تقرير ، والحكمة في هذا السؤال : تنبيهه وتوقيفه على أنها عصا حتى إذا قلبها حية علم أنه معجزة عظيمة . وهذا على عادة العرب ، يقول الرجل لغيره : هل تعرف هذا؟ وهو لا يشك أنه يعرفه ، ويريد أن ينضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه . ( قال هي عصاي ) قيل : وكانت لها شعبتان ، وفي أسفلها سنان ، ولها محجن . قال مقاتل : اسمها نبعة .
( أتوكأ عليها ) أعتمد عليها إذا مشيت وإذا أعييت وعند الوثبة ، ( وأهش بها على غنمي ) أضرب بها الشجرة اليابسة ليسقط ورقها فترعاه الغنم .
وقرأ عكرمة " وأهس " بالسين غير المعجمة ، أي : أزجر بها الغنم ، و " الهس " : زجر الغنم .
( ولي فيها مآرب أخرى ) حاجات ومنافع أخرى ، جمع " مأربة " بفتح الراء وضمها ، ولم يقل : " أخر " لرءوس الآي . وأراد بالمآرب : ما يستعمل فيه العصا في السفر ، وكان يحمل بها الزاد ، ويشد بها الحبل فيستقي الماء من البئر ، ويقتل بها الحيات ، ويحارب بها السباع ، ويستظل بها إذا قعد [ ص: 269 ] وغير ذلك .
وروي عن ابن عباس : أن موسى كان يحمل عليها زاده وسقاءه ، فجعلت تماشيه وتحدثه ، وكان يضرب بها الأرض فيخرج ما يأكل يومه ، ويركزها فيخرج الماء ، فإذا رفعها ذهب الماء ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فتغصنت غصن الشجرة وأورقت وأثمرت ، وإذا أراد الاستقاء من البئر أدلاها فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدلو حتى يستقي ، وكانت تضيء بالليل بمنزلة السراج ، وإذا ظهر له عدو كانت تحارب وتناضل عنه .
( قال ألقها يا موسى ( 19 ) فألقاها فإذا هي حية تسعى ( 20 ) )
( قال ) الله تعالى : ( ألقها يا موسى ) انبذها ، قال وهب : ظن موسى أنه يقول ارفضها . ( فألقاها ) على وجه الرفض ثم حانت منه نظرة ، ( فإذا هي حية ) صفراء من أعظم ما يكون من الحيات ، ( تسعى ) تمشي بسرعة على بطنها . وقال في موضع آخر : " كأنها جآن " ( النمل - 10 ) وهي الحية الصغيرة الخفيفة الجسم ، وقال في موضع : " ثعبان " ، وهو أكبر ما يكون من الحيات .
فأما الحية : فإنها تجمع الصغير والكبير والذكر والأنثى . وقيل : " الجآن " : عبارة عن ابتداء حالها ، فإنها كانت حية على قدر العصا ، ثم كانت تتورم وتنتفخ حتى صارت ثعبانا ، " والثعبان " : عبارة عن انتهاء حالها .
وقيل : إنها كانت في عظم الثعبان وسرعة الجان .
قال محمد بن إسحاق : نظر موسى فإذا العصا حية من أعظم ما يكون من الحيات صارت شعبتاها شدقين لها ، والمحجن عنقا وعرفا ، تهتز كالنيازك ، وعيناها تتقدان كالنار تمر بالصخرة العظيمة مثل الخلفة من الإبل ، فتلقمها ، وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها ، ويسمع لأسنانها صريف عظيم . فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرا وهرب ، ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه ، ثم نودي : أن يا موسى أقبل وارجع حيث كنت ، فرجع وهو شديد الخوف .
[ ص: 270 ] ( قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى ( 21 ) واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى ( 22 ) لنريك من آياتنا الكبرى ( 23 ) اذهب إلى فرعون إنه طغى ( 24 ) قال رب اشرح لي صدري ( 25 ) )
( قال خذها ) بيمينك ، ( ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى ) هيئتها الأولى ، أي : نردها عصا كما كانت ، وكان على موسى مدرعة من صوف قد خلها بعيدان ، فلما قال الله تعالى : خذها ، لف طرف المدرعة على يده ، فأمره الله تعالى أن يكشف يده فكشف .
وذكر بعضهم : أنه لما لف كم المدرعة على يده قال له ملك : أرأيت لو أذن الله بما تحاذره أكانت المدرعة تغني عنك شيئا؟ قال : لا ولكني ضعيف ، ومن ضعف خلقت ، فكشف عن يده ثم وضعها في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت ، ويده في شعبتها في الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ .
قال المفسرون : أراد الله عز وجل أن يري موسى ما أعطاه من الآية التي لا يقدر عليها مخلوق لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون .
وقوله : ( سيرتها الأولى ) نصب بحذف " إلى " ، يريد : إلى سيرتها الأولى . قوله تعالى : ( واضمم يدك إلى جناحك ) أي : إبطك ، قال مجاهد : تحت عضدك ، وجناح الإنسان عضده إلى أصل إبطه . ( تخرج بيضاء ) نيرة مشرقة ، ( من غير سوء ) من غير عيب والسوء هاهنا بمعنى البرص . قال ابن عباس : كان ليده نور ساطع يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر ، ( آية أخرى ) أي : دلالة أخرى على صدقك سوى العصا . ( لنريك من آياتنا الكبرى ) ولم يقل الكبر ؛ لرءوس الآي . وقيل : فيه إضمار ، معناه : لنريك من آياتنا الكبرى ، دليله قول ابن عباس : كانت يد موسى أكبر آياته . قال تعالى : ( اذهب إلى فرعون إنه طغى ) أي : جاوز الحد في العصيان والتمرد ، فادعه إلى عبادتي . ( قال ) موسى : ( رب اشرح لي صدري ) وسعه للحق ، قال ابن عباس : يريد حتى لا أخاف غيرك ، وذلك أن موسى كان يخاف فرعون خوفا شديدا لشدة شوكته وكثرة جنوده ، وكان يضيق صدرا بما كلف من مقاومة فرعون وحده ، فسأل الله أن يوسع قلبه للحق حتى يعلم أن أحدا لا يقدر على مضرته إلا بإذن الله ، وإذا علم ذلك لم يخف فرعون وشدة شوكته وكثرة جنوده .
[ ص: 271 ] ( ويسر لي أمري ( 26 ) واحلل عقدة من لساني ( 27 ) يفقهوا قولي ( 28 ) واجعل لي وزيرا من أهلي ( 29 ) هارون أخي ( 30 ) اشدد به أزري ( 31 ) وأشركه في أمري ( 32 ) )
( ويسر لي أمري ) أي : سهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون . ( واحلل عقدة من لساني ) وذلك أن موسى كان في حجر فرعون ذات يوم في صغره ، فلطم فرعون لطمة وأخذ بلحيته ، فقال فرعون لآسية امرأته : إن هذا عدوي . وأراد أن يقتله ، فقالت آسية : إنه صبي لا يعقل ولا يميز . وفي رواية أن أم موسى لما فطمته ردته ، فنشأ موسى في حجر فرعون وامرأته آسية يربيانه ، واتخذاه ولدا ، فبينما هو يلعب يوما بين يدي فرعون وبيده قضيب يلعب به إذ رفع القضيب فضرب به رأس فرعون فغضب فرعون وتطير بضربه ، حتى هم بقتله ، فقالت آسية : أيها الملك إنه صغير لا يعقل فجربه إن شئت ، وجاءت بطشتين : في أحدهما الجمر ، وفي الآخر الجواهر ، فوضعتهما بين يدي موسى فأراد أن يأخذ الجواهر ، فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار فأخذ جمرة فوضعها في فمه فاحترق لسانه وصارت عليه عقدة . ( يفقهوا قولي ) يقول : احلل العقدة كي يفقهوا كلامي . ( واجعل لي وزيرا ) معينا وظهيرا ، ( من أهلي ) والوزير من يوازرك ويعينك ويتحمل عنك بعض ثقل عملك ، ثم بين من هو فقال : ( هارون أخي ) وكان هارون أكبر من موسى بأربع سنين ، وكان أفصح منه لسانا وأجمل وأوسم ، وأبيض اللون ، وكان موسى آدم أقنى جعدا . ( اشدد به أزري ) قو به ظهري . ( وأشركه في أمري ) أي : في النبوة وتبليغ الرسالة ، وقرأ ابن عامر " أشدد " بفتح الألف " وأشركه " بضمها على الجواب ، حكاية عن موسى ، أي : أفعل ذلك ، وقرأ الآخرون على الدعاء [ ص: 272 ] والمسألة ، عطفا على ما تقدم من قوله : ( قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري )
( كي نسبحك كثيرا ( 33 ) ونذكرك كثيرا ( 34 ) إنك كنت بنا بصيرا ( 35 ) قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ( 36 ) ولقد مننا عليك مرة أخرى ( 37 ) ( إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ( 38 ) أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ( 39 ) )
( كي نسبحك كثيرا ) قال الكلبي : نصلي لك كثيرا . ( ونذكرك كثيرا ) نحمدك ونثني عليك بما أوليتنا من نعمك . ( إنك كنت بنا بصيرا ) خبيرا عليما . ( قال ) الله تعالى : ( قد أوتيت ) أعطيت ، ( سؤلك ) جميع ما سألته ، ( يا موسى ( ولقد مننا عليك ) أنعمنا عليك ، ( مرة أخرى ) يعني قبل هذه المرة وهي : ( إذ أوحينا إلى أمك ) وحي إلهام ، ( ما يوحى ) ما يلهم . ثم فسر ذلك الإلهام وعدد نعمه عليه : ( أن اقذفيه في التابوت ) أي : ألهمناها أن اجعليه في التابوت ، ( فاقذفيه في اليم ) يعني نهر النيل ، ( فليلقه اليم بالساحل ) يعني شاطئ النهر ، لفظه أمر ومعناه خبر ، مجازه : حتى يلقيه اليم بالساحل : ( يأخذه عدو لي وعدو له ) يعني فرعون . فاتخذت تابوتا وجعلت فيه قطنا محلوجا ووضعت فيه موسى ، وقيرت رأسه وخصاصه يعني شقوقه ثم ألقته في النيل ، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون ، فبينما فرعون جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذ بتابوت يجيء به الماء ، فأمر الغلمان والجواري بإخراجه ، فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبي من أصبح الناس وجها ، فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك ، فذلك قوله تعالى :
( ( وألقيت عليك محبة مني ) قال ابن عباس : أحبه وحببه إلى خلقه : قال عكرمة : ما رآه أحد إلا أحبه . قال قتادة : ملاحة كانت في عيني موسى ، ما رآه أحد إلا عشقه .
( ولتصنع على عيني ) يعني لتربى بمرأى ومنظر مني ، قرأ أبو جعفر " ولتصنع " . [ ص: 273 ] بالجزم .
( إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر ياموسى ( 40 ) )
( إذ تمشي أختك ) واسمها مريم ، متعرفة خبره ، ( فتقول هل أدلكم على من يكفله ) ؟ أي : على امرأة ترضعه وتضمه إليها; وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة ، فلما قالت ذلك لهم أخته قالوا : نعم . فجاءت بالأم فقبل ثديها ، فذلك قوله تعالى :
( فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ) بلقائك ، ( ولا تحزن ) أي : لأن يذهب عنها الحزن .
( وقتلت نفسا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان قتل قبطيا كافرا . قال كعب الأحبار : كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ، ( فنجيناك من الغم ) أي : من غم القتل وكربه ، ( وفتناك فتونا ) قال ابن عباس رضي الله عنه : اختبرناك اختبارا . وقال الضحاك ومقاتل : ابتليناك ابتلاء . وقال مجاهد : أخلصناك إخلاصا .
وعن ابن عباس في رواية سعيد بن جبير : أن الفتون وقوعه في محنة بعد محنة خلصه الله منها ، أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح الأطفال ، ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ، ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم أخذه بلحية فرعون حتى هم بقتله ، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة ، ثم قتله القبطي ، وخروجه إلى مدين خائفا . فكان ابن عباس يقص القصة على سعيد بن جبير ، فعلى هذا معنى : ( وفتناك ) خلصناك من تلك المحن ، كما يفتن الذهب بالنار فيخلص من كل خبث فيه " والفتون " : مصدر .
( فلبثت ) فمكثت ، أي : فخرجت من مصر فلبثت ، ( سنين في أهل مدين ) يعني ترعى الأغنام عشر سنين ، ومدين بلدة شعيب عليه السلام على ثمان مراحل من مصر ، هرب إليها موسى . وقال وهب : لبث عند شعيب عليه السلام ثمانيا وعشرين سنة ، عشر سنين منها مهر ابنته " صفيرا " بنت شعيب ، وثمان عشرة سنة أقام عنده حتى ولد له .
( ثم جئت على قدر ياموسى ) قال مقاتل : على موعد ولم يكن هذا الموعد مع موسى وإنما [ ص: 274 ] كان موعدا في تقدير الله ، قال محمد بن كعب : جئت على القدر الذي قدرت أنك تجيء .
وقال عبد الرحمن بن كيسان : على رأس أربعين سنة ، وهو القدر الذي يوحى فيه إلى الأنبياء ، وهذا معنى قول أكثر المفسرين ، أي : على الموعد الذي وعده الله وقدره أنه يوحى إليه بالرسالة ، وهو أربعون سنة .
( واصطنعتك لنفسي ( 41 ) اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري ( 42 ) اذهبا إلى فرعون إنه طغى ( 43 ) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ( 44 ) )
قوله عز وجل : ( واصطنعتك لنفسي ) أي اخترتك واصطفيتك لوحيي ورسالتي ، يعني لتنصرف على إرادتي ومحبتي ، وذلك أن قيامه بأداء الرسالة [ تصرف على ] إرادة الله ومحبته .
قال الزجاج : اخترتك لأمري وجعلتك القائم بحجتي والمخاطب بيني وبين خلقي ، كأني الذي أقمت بك عليهم الحجة وخاطبتهم . ( اذهب أنت وأخوك بآياتي ) بدلائلي ، وقال ابن عباس : يعني الآيات التسع التي بعث بها موسى ( ولا تنيا ) لا تضعفا ، وقال السدي : لا تفترا . وقال محمد بن كعب : لا تقصرا ( في ذكري ( اذهبا إلى فرعون إنه طغى ) قرأ أبو عمرو ، وأهل الحجاز : " لنفسي اذهب " ، و " ذكري اذهبا " ، و " إن قومي اتخذوا " ( الفرقان - 30 ) ، " من بعدي اسمه " ( الصف - 6 ) بفتح الياء فيهن ، ووافقهم أبو بكر : " من بعدي اسمه " ، وقرأ الباقون بإسكانها . ( فقولا له قولا لينا ) يقول : دارياه وارفقا معه ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا تعنفا في قولكما .
وقال السدي وعكرمة : كنياه فقولا يا أبا العباس ، وقيل : يا أبا الوليد .
وقال مقاتل : يعني القول اللين : " هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى " ( النازعات - 18 ، 19 ) .
وقيل : أمر باللطافة في القول لما له من حق التربية . [ ص: 275 ]
وقال السدي : القول اللين : أن موسى أتاه ووعده على قبول الإيمان شبابا لا يهرم ، وملكا لا ينزع منه إلا بالموت ، وتبقى عليه لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته ، وإذا مات دخل الجنة ، فأعجبه ذلك وكان لا يقطع أمرا دون هامان ، وكان غائبا فلما قدم أخبره بالذي دعاه إليه موسى ، وقال أردت أن أقبل منه ، فقال له هامان : كنت أرى أن لك عقلا ورأيا ، أنت رب ، تريد أن تكون مربوبا؟ وأنت تعبد تريد أن تعبد؟ فقلبه عن رأيه .
وكان هارون يومئذ بمصر ، فأمر الله موسى أن يأتي هارون وأوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى ، فتلقاه إلى مرحلة ، وأخبره بما أوحي إليه .
( لعله يتذكر أو يخشى ) أي : يتعظ ويخاف فيسلم .
فإن قيل : كيف قال : ( لعله يتذكر ) وقد سبق علمه أنه لا يتذكر ولا يسلم؟ .
قيل : معناه اذهبا على رجاء منكما وطمع ، وقضاء الله وراء أمركما .
وقال الحسين بن الفضل : هو ينصرف إلى غير فرعون ، مجازه : لعله يتذكر متذكر ، ويخشى خاش إذا رأى بري وألطافي بمن خلقته وأنعمت عليه ثم ادعى الربوبية .
وقال أبو بكر محمد بن عمر الوراق : " لعل " من الله واجب ولقد تذكر فرعون وخشي حين لم تنفعه الذكرى والخشية ، وذلك حين ألجمه الغرق ، قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ، وأنا من المسلمين .
وقرأ رجل عند يحيى بن معاذ هذه الآية : ( فقولا له قولا لينا ) فبكى يحيى ، وقال : إلهي هذا رفقك بمن يقول أنا الإله ، فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله ؟! .
ابو وليد البحيرى
2022-05-09, 01:35 AM
الحلقة (283)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ طه
مَكِّيَّةٌ
الاية45 إلى الاية 67
( قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ( 45 ) )
( قالا ) يعني موسى وهارون : ( ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعجل علينا بالقتل والعقوبة ، يقال : فرط عليه فلان إذا عجل بمكروه ، وفرط منه أمر أي : بدر وسبق ، ( أو أن يطغى ) أي : يجاوز الحد في الإساءة إلينا .
( قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ( 46 ) فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى ( 47 ) إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ( 48 ) قال فمن ربكما ياموسى ( 49 ) قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ( 50 ) )
( قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ) قال ابن عباس : أسمع دعاءكما فأجيبه ، وأرى ما يراد بكما فأمنعه ، لست بغافل عنكما ، فلا تهتما . ( فأتياه فقولا إنا رسولا ربك ) أرسلنا إليك ، ( فأرسل معنا بني إسرائيل ) أي : خل عنهم وأطلقهم من أعمالك ، ( ولا تعذبهم ) لا تتعبهم في العمل . وكان فرعون يستعملهم في الأعمال الشاقة ، ( قد جئناك بآية من ربك ) قال فرعون : وما هي؟ فأخرج يده لها شعاع كشعاع الشمس ، ( والسلام على من اتبع الهدى ) ليس المراد منه التحية ، إنما معناه سلم من عذاب الله من أسلم . ( إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ) إنما يعذب الله من كذب بما جئنا به وأعرض عنه . ( قال فمن ربكما ياموسى ) من إلهكما الذي أرسلكما؟ ( قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) قال الحسن وقتادة : أعطى كل شيء صلاحه ، وهداه لما يصلحه .
وقال مجاهد : أعطى كل شيء صورته ، لم يجعل خلق الإنسان كخلق البهائم ، ولا خلق البهائم كخلق الإنسان ، ثم هداه إلى منافعه من المطعم والمشرب والمنكح .
وقال الضحاك : " أعطى كل شيء خلقه : يعني اليد للبطش ، والرجل للمشي ، واللسان للنطق ، والعين للنظر ، والأذن للسمع . [ ص: 277 ]
وقال سعيد بن جبير : ( أعطى كل شيء خلقه ) يعني زوج للإنسان المرأة ، وللبعير الناقة ، وللحمار الأتان ، وللفرس الرمكة . ( ثم هدى ) أي : ألهمه كيف يأتي الذكر الأنثى .
( قال فما بال القرون الأولى ( 51 ) قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ( 52 ) الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى ( 53 ) )
( قال ) فرعون : ( فما بال القرون الأولى ) ومعنى " البال " : الحال ، أي : ما حال القرون الماضية والأمم الخالية ، مثل قوم نوح وعاد وثمود فيما تدعونني إليه فإنها كانت تعبد الأوثان وتنكر البعث؟ . ( قال ) موسى : ( علمها عند ربي ) أي : أعمالهم محفوظة عند الله يجازي بها .
وقيل : إنما رد موسى علم ذلك إلى الله لأنه لم يعلم ذلك ، فإن التوراة أنزلت بعد هلاك فرعون وقومه .
( في كتاب ) يعني : في اللوح المحفوظ ، ( لا يضل ربي ) أي : لا يخطئ . وقيل : لا يضل عنه شيء ولا يغيب عن شيء ، ( ولا ينسى ) [ أي : لا يخطئ ] ما كان من أمرهم حتى يجازيهم بأعمالهم . وقيل : لا ينسى أي : لا يترك ، فينتقم من الكافر ويجازي المؤمن . ( الذي جعل لكم الأرض مهدا ) قرأ أهل الكوفة : ( مهدا ) ها هنا ، وفي الزخرف ، فيكون مصدرا ، أي : فرشا ، وقرأ الآخرون : " مهادا " ، كقوله تعالى : " ألم نجعل الأرض مهادا " ( النبإ : 16 ) ، أي : فراشا وهو اسم لما يفرش ، كالبساط : اسم لما يبسط . [ ص: 278 ]
( وسلك لكم فيها سبلا ) [ السلك : إدخال الشيء في الشيء ، والمعنى : أدخل في الأرض لأجلكم طرقا تسلكونها ] قال ابن عباس : سهل لكم فيها طرقا تسلكونها .
( وأنزل من السماء ماء ) يعني : المطر .
تم الإخبار عن موسى ، ثم أخبر الله عن نفسه بقوله : ( فأخرجنا به ) بذلك الماء ( أزواجا ) أصنافا ، ( من نبات شتى ) مختلف الألوان والطعوم والمنافع من بين أبيض وأحمر وأخضر وأصفر ، فكل صنف منها زوج ، فمنها للناس ومنها للدواب .
( كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ( 54 ) منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ( 55 ) )
( كلوا وارعوا ) [ أي وارتعوا ] ( أنعامكم ) تقول العرب : رعيت الغنم فرعت ، أي : أسيموا أنعامكم ترعى .
( إن في ذلك ) الذي ذكرت ، ( لآيات لأولي النهى ) لذوي العقول ، واحدتها : " نهية سميت نهية لأنها تنهى صاحبها عن القبائح والمعاصي .
قال الضحاك : ( لأولي النهى ) الذين ينتهون عما حرم عليهم .
قال قتادة : لذوي الورع . ( منها ) أي : من الأرض ، ( خلقناكم ) يعني أباكم آدم .
وقال عطاء الخراساني إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة فيخلق الله من التراب ومن النطفة فذلك قوله تعالى : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ) أي : [ ص: 279 ] عند الموت والدفن ، ( ومنها نخرجكم تارة أخرى ) يوم البعث .
( ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى ( 56 ) قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى ( 57 ) فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى ( 58 ) قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ( 59 ) )
قوله عز وجل : ( ولقد أريناه ) يعني فرعون ، ( آياتنا كلها ) يعني : الآيات التسع التي أعطاها الله موسى ، ( فكذب ) بها وزعم أنها سحر ، ( وأبى ) أن يسلم . ( قال ) يعني فرعون ( أجئتنا لتخرجنا من أرضنا ) يعني : مصر ، ( بسحرك ياموسى ) أي : تريد أن تغلب على ديارنا فيكون لك الملك وتخرجنا منها . ( فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا ) أي : فاضرب بيننا أجلا وميقاتا ، ( لا نخلفه ) [ قرأ أبو جعفر " لا نخلفه " بجزم ، لا نجاوزه ] ( نحن ولا أنت مكانا سوى ) قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ويعقوب : " سوى " بضم السين ، وقرأ الآخرون بكسرها ، وهما لغتان مثل : عدى وعدى ، وطوى وطوى .
قال مقاتل وقتادة : مكانا عدلا بيننا وبينك .
وعن ابن عباس : نصفا ، ومعناه : تستوي مسافة الفريقين إليه .
قال مجاهد : منصفا . وقال الكلبي : يعني سوى هذا المكان . ( قال موعدكم يوم الزينة ) قال مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، والسدي : كان يوم عيد لهم ، يتزينون فيه ، ويجتمعون في كل سنة . وقيل : هو يوم النيروز .
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : يوم عاشوراء .
( وأن يحشر الناس ضحى ) أي : وقت الضحوة نهارا جهارا ، ليكون أبعد من الريبة .
[ ص: 280 ] ( فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى ( 60 ) قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى ( 61 ) فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى ( 62 ) قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى ( 63 ) )
( فتولى فرعون فجمع كيده ) مكره وحيلته وسحرته ، ( ثم أتى ) الميعاد . ( قال لهم موسى ) يعني : للسحرة الذين جمعهم فرعون ، وكانوا اثنين وسبعين ساحرا ، مع كل واحد حبل وعصا .
وقيل : كانوا أربعمائة . وقال كعب : كانوا اثني عشر ألفا . وقيل أكثر من ذلك .
( ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب ) قرأ حمزة والكسائي وحفص : ( فيسحتكم ) بضم الياء وكسر الحاء ، وقرأ الباقون بفتح الياء والحاء وهما لغتان . قال مقاتل والكلبي : فيهلككم . وقال قتادة : فيستأصلكم ، ( وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم ) أي : تناظروا وتشاوروا ، يعني السحرة في أمر موسى سرا من فرعون .
قال الكلبي : قالوا سرا : إن غلبنا موسى اتبعناه .
وقال محمد بن إسحاق : لما قال لهم موسى : لا تفتروا على الله كذبا ، قال بعضهم لبعض : ما هذا بقول ساحر .
( وأسروا النجوى ) أي : المناجاة ، يكون مصدرا واسما ، ثم ( قالوا ) وأسر بعضهم إلى بعض يتناجون : ( إن هذان لساحران ) يعني موسى وهارون .
قرأ ابن كثير وحفص : ( إن ) بتخفيف النون ، ( هذان ) أي : ما هذان إلا ساحران ، كقوله : وإن نظنك لمن الكاذبين ( الشعراء : 186 ) ، أي : ما نظنك إلا من الكاذبين ، ويشدد ابن كثير النون من " هذان " .
وقرأ أبو عمرو " إن " بتشديد النون " هذين " بالياء على الأصل .
وقرأ الآخرون : " إن " بتشديد النون ، " هذان " بالألف ، واختلفوا فيه : [ ص: 281 ]
فروى هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أنه خطئ من الكاتب .
وقال قوم : هذه لغة الحارث بن كعب ، وخثعم ، وكنانة ، فإنهم يجعلون الاثنين في الرفع والنصب والخفض بالألف ، يقولون : أتاني الزيدان [ ورأيت الزيدان ] ومررت بالزيدان ، [ فلا يتركون ] ألف التثنية في شيء منها وكذلك يجعلون كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها ألفا ، كما في التثنية ، يقولون : كسرت يداه وركبت علاه ، يعني يديه وعليه . وقال شاعرهم
تزود مني بين أذناه ضربة دعته إلى هابي التراب عقيم
يريد بين أذنيه .
وقال آخر
إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها
[ ص: 282 ]
وقيل : تقدير الآية : إنه هذان ، فحذف الهاء .
وذهب جماعة إلى أن حرف " إن " هاهنا ، بمعنى نعم ، أي : نعم هذان . روي أن أعرابيا سأل ابن الزبير شيئا فحرمه ، فقال : لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال ابن الزبير : إن وصاحبها ، أي : نعم .
وقال الشاعر
بكرت علي عواذلي يلحينني وألومهنه
ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه
أي : نعم .
( يريدان أن يخرجاكم من أرضكم ) مصر ( بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى ) قال ابن عباس : يعني بسراة قومكم وأشرافكم ، يقال : هؤلاء طريقة قومهم أي : أشرافهم و ( المثلى ) تأنيث " الأمثل " ، وهو الأفضل ، حديث الشعبي عن علي ، قال : يصرفان وجوه الناس إليهما .
قال قتادة : طريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل كانوا أكثر القوم عددا وأموالا ، فقال عدو الله : يريدان أن يذهبا بهم لأنفسهم .
وقيل : ( بطريقتكم المثلى ) أي بسنتكم ودينكم الذي أنتم عليه و ( المثلى ) نعت الطريقة ، تقول العرب : فلان على الطريقة المثلى ، يعني : على الهدى المستقيم .
[ ص: 283 ] ( فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى ( 64 ) قالوا ياموسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ( 65 ) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ( 66 ) فأوجس في نفسه خيفة موسى ( 67 ) )
( فأجمعوا كيدكم ) قرأ أبو عمرو : " فاجمعوا " بوصل الألف وفتح الميم ، من الجمع ، أي لا تدعوا شيئا من كيدكم إلا جئتم به ، بدليل قوله : " فجمع كيده " ، وقرأ الآخرون بقطع الألف وكسر الميم . فقد قيل : معناه الجمع أيضا ، تقول العرب : أجمعت الشيء وجمعته بمعنى واحد .
والصحيح أن معناه العزم والإحكام ، أي : اعزموا كلكم على كيده مجتمعين له ، ولا تختلفوا فيختل أمركم .
( ثم ائتوا صفا ) أي جميعا ، قاله مقاتل والكلبي ، وقال قوم : أي : مصطفين مجتمعين ليكون أشد لهيبتكم ، وقال أبو عبيدة : الصف المجمع ، ويسمى المصلى صفا . معناه : ثم ائتوا المكان الموعود .
( وقد أفلح اليوم من استعلى ) أي : فاز من غلب . ( قالوا ) يعني السحرة ، ( ياموسى إما أن تلقي ) عصاك ، ( وإما أن نكون أول من ألقى ) عصاه . ( قال ) موسى : ( بل ألقوا ) أنتم أولا ( فإذا حبالهم ) وفيه إضمار ، أي فألقوا فإذا حبالهم ( وعصيهم ) جمع العصا ، ( يخيل إليه ) قرأ ابن عامر ويعقوب " تخيل " بالتاء ردا إلى الحبال والعصي ، وقرأ الآخرون بالياء ردوه إلى الكيد والسحر ، ( من سحرهم أنها تسعى )
وفي القصة أنهم لما ألقوا الحبال والعصي أخذوا أعين الناس ، فرأى موسى والقوم كأن الأرض امتلأت حيات ، وكانت قد أخذت ميلا من كل جانب ورأوا أنها تسعى . ( فأوجس في نفسه خيفة موسى ) أي : وجد ، وقيل : أضمر في نفسه خوفا ، واختلفوا في خوفه : قيل : خوف طبع البشرية ، وذلك أنه ظن أنها تقصده .
وقال مقاتل : خاف على القوم أن يلتبس عليهم الأمر فيشكوا في أمره فلا يتبعوه .
ابو وليد البحيرى
2022-05-09, 01:36 AM
الحلقة (284)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ طه
مَكِّيَّةٌ
الاية68 إلى الاية 91
( قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ( 68 ) وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ( 69 ) فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى ( 70 ) قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ( 71 ) قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ( 72 ) )
( قلنا ) لموسى : ( لا تخف إنك أنت الأعلى ) أي : الغالب ، يعني : لك الغلبة والظفر . ( وألق ما في يمينك ) يعني العصا ، ( تلقف ) تلتقم وتبتلع ، ( ما صنعوا ) قرأ ابن عامر " تلقف " برفع الفاء هاهنا ، وقرأ الآخرون بالجزم على جواب الأمر ، ( إنما صنعوا ) إن الذي صنعوا ، ( كيد ساحر ) أي : حيلة " سحر " ، هكذا قرأ حمزة والكسائي : بكسر السين بلا ألف ، وقرأ الآخرون : " ساحر " لأن إضافة الكيد إلى الفاعل أولى من إضافته إلى الفعل ، وإن كان ذلك لا يمتنع في العربية ، ( ولا يفلح الساحر حيث أتى ) من الأرض ، قال ابن عباس : لا يسعد حيث كان . وقيل : معناه حيث احتال . ( فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم ) لرئيسكم ومعلمكم ، ( الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ) أي : على جذوع النخل ( ولتعلمن أينا أشد عذابا ) ; أنا على إيمانكم به ، أو رب موسى على ترك الإيمان به ؟ ( وأبقى ) أي : أدوم . ( قالوا ) يعني السحرة : ( لن نؤثرك ) لن نختارك ، ( على ما جاءنا من البينات ) [ ص: 285 ] يعني الدلالات ، قال مقاتل : يعني اليد البيضاء والعصا .
وقيل : كان استدلالهم أنهم قالوا لو كان هذا سحرا فأين حبالنا وعصينا .
وقيل : ( من البينات ) يعني من التبيين والعلم .
حكي عن القاسم بن أبي بزة أنه قال : إنهم لما ألقوا سجدا ما رفعوا رءوسهم حتى رأوا الجنة والنار ، ورأوا ثواب أهلها ، ورأوا منازلهم في الجنة ، فعند ذلك قالوا : لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات ، ( والذي فطرنا ) أي : لن نؤثرك على الله الذي فطرنا ، وقيل : هو قسم ، ( فاقض ما أنت قاض ) أي : فاصنع ما أنت صانع ، ( إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) أي : أمرك وسلطانك في الدنيا وسيزول عن قريب .
( إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى ( 73 ) )
( إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر ) فإن قيل : كيف قالوا هذا ، وقد جاءوا مختارين يحلفون بعزة فرعون أن لهم الغلبة؟ .
قيل : روي عن الحسن أنه قال : كان فرعون يكره قوما على تعلم السحر لكيلا يذهب أصله ، وقد كان أكرههم في الابتداء .
وقال مقاتل : كانت السحرة اثنين وسبعين ، اثنان من القبط وسبعون من بني إسرائيل ، كان فرعون أكره الذين هم من بني إسرائيل على تعلم السحر ، فذلك قولهم : ( وما أكرهتنا عليه من السحر )
وقال عبد العزيز بن أبان : قالت السحرة لفرعون : أرنا موسى إذا نام ، فأراهم موسى نائما وعصاه تحرسه ، فقالوا لفرعون إن هذا ليس بساحر ، إن الساحر إذا نام بطل سحره ، فأبى عليهم إلا أن يتعلموا ، فذلك قوله تعالى : ( وما أكرهتنا عليه من السحر )
( والله خير وأبقى ) قال محمد بن إسحاق : خير منك ثوابا ، وأبقى عقابا .
وقال محمد بن كعب : خير منك ثوابا إن أطيع ، وأبقى منك عذابا إن عصي ، وهذا جواب لقوله : " ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى " .
[ ص: 286 ] ( إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا ( 74 ) ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا ( 75 ) جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ( 76 ) ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى ( 77 ) )
( إنه من يأت ربه مجرما ) قيل : هذا ابتداء كلام من الله تعالى . وقيل : من تمام قول السحرة ( مجرما ) أي : مشركا ، يعني : مات على الشرك ، ( فإن له جهنم لا يموت فيها ) فيستريح ، ( ولا يحيا ) حياة ينتفع بها . ( ومن يأته ) قرأ أبو عمرو ساكنة الهاء ويختلسها أبو جعفر ، وقالون ويعقوب ، وقرأ الآخرون بالإشباع ، ( مؤمنا ) مات على الإيمان ، ( قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا ) الرفيعة ، و ( العلا ) جمع ، و " العليا " تأنيث الأعلى . ( جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ) أي : تطهر من الذنوب . وقال الكلبي : أعطى زكاة نفسه وقال لا إله إلا الله .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد السمسار ، أخبرنا أبو أحمد حمزة بن محمد بن عباس الدهقان ، أخبرنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، أخبرنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق من آفاق السماء ، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما " قوله عز وجل : ( ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ) أي : سر بهم ليلا من أرض مصر ، ( فاضرب لهم طريقا في البحر ) أي اجعل لهم طريقا في البحر بالضرب بالعصا ، ( يبسا ) يابسا ليس فيه ماء ولا طين ، وذلك أن الله أيبس لهم الطريق في البحر ، ( لا تخاف دركا ) قرأ حمزة [ ص: 287 ] " لا تخف " بالجزم على النهي ، والباقون بالألف والرفع على النفي ، لقوله تعالى : ( ولا تخشى ) قيل : لا تخاف أن يدركك فرعون من ورائك ولا تخشى أن يغرقك البحر أمامك .
( فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ( 78 ) وأضل فرعون قومه وما هدى ( 79 ) يابني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى ( 80 ) كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ( 81 ) )
( فأتبعهم ) فلحقهم ، ( فرعون بجنوده ) وقيل : معناه أمر فرعون جنوده أن يتبعوا موسى وقومه ، والباء فيه زائدة وكان هو فيهم ، ( فغشيهم ) أصابهم ، ( من اليم ما غشيهم ) وهو الغرق . [ وقيل : غشيهم علاهم وسترهم بعض ماء اليم لا كله ] .
وقيل : غشيهم من اليم ما غشيهم قوم موسى فغرقوا هم ، ونجا موسى وقومه . ( وأضل فرعون قومه وما هدى ) أي : ما أرشدهم ، وهذا تكذيب لفرعون في قوله : " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " ( غافر : 29 ) . . قوله عز وجل : ( يابني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم ) فرعون ، ( وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ) قرأ حمزة والكسائي : " أنجيتكم " ، و " واعدتكم " ، و " رزقتكم " بالتاء على التوحيد ، وقرأ الآخرون بالنون والألف على التعظيم ، ولم يختلفوا في ( ونزلنا ) لأنه مكتوب بالألف .
( ولا تطغوا فيه ) قال ابن عباس : لا تظلموا . قال الكلبي : لا تكفروا النعمة فتكونوا طاغين .
وقيل : لا تنفقوا في معصيتي . [ ص: 288 ]
وقيل : لا تدخروا ، ثم ادخروا فتدود ، ( فيحل ) قرأ الأعمش ، والكسائي : " فيحل " بضم الحاء " ومن يحلل " بضم اللام ، أي : ينزل ، وقرأ الآخرون بكسرها أي : يجب ، ( عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ) هلك وتردى في النار .
( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ( 82 ) وما أعجلك عن قومك ياموسى ( 83 ) قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى ( 84 ) قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ( 85 ) )
( وإني لغفار لمن تاب ) قال ابن عباس : تاب من الشرك ، ( وآمن ) ووحد الله وصدقه ، ( وعمل صالحا ) أدى الفرائض ، ( ثم اهتدى ) قال عطاء عن ابن عباس : علم أن ذلك توفيق من الله .
وقال قتادة وسفيان الثوري : يعني لزم الإسلام حتى مات عليه .
قال الشعبي ، ومقاتل ، والكلبي : علم أن لذلك ثوابا .
وقال زيد بن أسلم : تعلم العلم ليهتدي به كيف يعمل .
قال الضحاك : استقام . وقال سعيد بن جبير : أقام على السنة والجماعة . ( وما أعجلك ) أي : وما حملك على العجلة ، ( عن قومك ) وذلك أن موسى اختار من قومه سبعين رجلا حتى يذهبوا معه إلى الطور ، ليأخذوا التوراة ، فسار بهم ثم عجل موسى من بينهم شوقا إلى ربه عز وجل ، وخلف السبعين ، وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل ، فقال الله تعالى له : ( وما أعجلك عن قومك ياموسى ) قال مجيبا لربه تعالى : ( هم أولاء على أثري ) أي : هم بالقرب مني يأتون من بعدي ، ( وعجلت إليك رب لترضى ) لتزداد رضا . ( قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك ) أي : ابتلينا الذين خلفتهم مع هارون ، وكانوا ستمائة ألف ، فافتتنوا بالعجل غير اثني عشر ألفا ( من بعدك ) أي : من بعد انطلاقك إلى الجبل . [ ص: 289 ]
( وأضلهم السامري ) أي : دعاهم وصرفهم إلى عبادة العجل وأضافه إلى السامري لأنهم ضلوا بسببه .
( فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال ياقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ( 86 ) قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري ( 87 ) )
( فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ) حزينا . ( قال ياقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا ) صدقا أنه يعطيكم التوراة ، ( أفطال عليكم العهد ) مدة مفارقتي إياكم ، ( أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ) أي : أردتم أن تفعلوا فعلا يجب عليكم به الغضب من ربكم ، ( فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ) قرأ نافع ، وأبو جعفر ، وعاصم : " بملكنا " بفتح الميم ، وقرأ حمزة والكسائي بضمها ، وقرأ الآخرون بكسرها ، أي : ونحن نملك أمرنا . وقيل : باختيارنا ، ومن قرأ بالضم فمعناه بقدرتنا وسلطاننا ، وذلك أن المرء إذا وقع في البلية والفتنة لم يملك نفسه .
( ولكنا حملنا ) قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، ويعقوب : " حملنا " بفتح الحاء ، وتخفيف الميم . وقرأ الآخرون بضم الحاء وتشديد الميم ، أي : جعلونا نحملها وكلفنا حملها ، ( أوزارا من زينة القوم ) من حلي قوم فرعون ، سماها أوزارا لأنهم أخذوها على وجه العارية فلم يردوها . وذلك أن بني إسرائيل كانوا قد استعاروا حليا من القبط ، وكان ذلك معهم حين خرجوا من مصر .
وقيل : إن الله تعالى لما أغرق فرعون نبذ البحر حليهم فأخذوها ، وكانت غنيمة ، ولم تكن الغنيمة حلالا لهم في ذلك الزمان ، فسماها أوزارا لذلك .
( فقذفناها ) قيل : إن السامري قال لهم احفروا حفيرة فألقوها فيها حتى يرجع موسى .
قال السدي قال لهم هارون إن تلك غنيمة لا تحل ، فاحفروا حفيرة فألقوها فيها حتى يرجع [ ص: 290 ] موسى ، فيرى رأيه فيها ، ففعلوا . قوله : ( فقذفناها ) أي : طرحناها في الحفرة . ( فكذلك ألقى السامري ) ما معه من الحلي فيها ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : أوقد هارون نارا وقال : اقذفوا فيها ما معكم ، فألقوه فيها ، ثم ألقى السامري ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل .
قال قتادة : كان قد أخذ قبضة من ذلك التراب في عمامته .
( فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي ( 88 ) أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ( 89 ) ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ( 90 ) قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ( 91 ) )
( فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي ) أي : تركه موسى هاهنا ، وذهب يطلبه . وقيل : أخطأ الطريق وضل . قال الله تعالى : ( أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ) أي : لا يرون أن العجل لا يكلمهم ويجيبهم إذا دعوه ، ( ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ) وقيل : إن هارون مر على السامري وهو يصوغ العجل فقال له : ما هذا؟ قال : أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي ، فقال هارون : اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه ، فألقى التراب في فم العجل وقال كن عجلا يخور فكان كذلك بدعوة هارون .
والحقيقة أن ذلك كان فتنة ابتلى الله بها بني إسرائيل . ( ولقد قال لهم هارون من قبل ) من قبل رجوع موسى ، ( ياقوم إنما فتنتم به ) ابتليتم بالعجل ، ( وإن ربكم الرحمن فاتبعوني ) على ديني في عبادة الله ، ( وأطيعوا أمري ) في ترك عبادة العجل . ( قالوا لن نبرح ) أي : لن نزال ، ( عليه ) على عبادته ، ( عاكفين ) مقيمين ، ( حتى يرجع إلينا موسى ) فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا من الذين لم يعبدوا العجل ، فلما رجع موسى [ ص: 291 ] وسمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل ، قال للسبعين الذين معه : هذا صوت الفتنة ، فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله .
ابو وليد البحيرى
2022-05-09, 01:36 AM
الحلقة (285)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ طه
مَكِّيَّةٌ
الاية92 إلى الاية 115
( قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ( 92 ) ألا تتبعني أفعصيت أمري ( 93 ) قال ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ( 94 ) قال فما خطبك ياسامري ( 95 ) قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي ( 96 ) )
( قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ) أشركوا . ( ألا تتبعن ) أي : أن تتبعني و " لا " صلة أي : تتبع أمري ووصيتي ، يعني : هلا قاتلتهم وقد علمت أني لو كنت فيهم لقاتلتهم على كفرهم .
وقيل : " أن لا تتبعني " أي : ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم ، فتكون مفارقتك إياهم زجرا لهم عما أتوه ، ( أفعصيت أمري ) أي خالفت أمري . ( قال ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ) أي بشعر رأسي وكان قد أخذ ذوائبه ، ( إني خشيت ) لو أنكرت عليهم لصاروا حزبين يقتل بعضهم بعضا ، ( أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ) أي : خشيت إن فارقتهم واتبعتك صاروا أحزابا يتقاتلون ، فتقول أنت فرقت بين بني إسرائيل ( ولم ترقب قولي ) ولم تحفظ وصيتي حين قلت لك اخلفني في قومي ، وأصلح أي ارفق بهم ، ثم أقبل موسى على السامري ( قال فما خطبك ) ما أمرك وشأنك؟ وما الذي حملك على ما صنعت؟ ( ياسامري قال بصرت بما لم يبصروا به ) رأيت ما لم يروا وعرفت ما لم يعرفوا . [ ص: 292 ]
قرأ حمزة والكسائي : " ما لم تبصروا " بالتاء على الخطاب ، وقرأ الآخرون بالياء على الخبر .
( فقبضت قبضة من أثر الرسول ) أي : من تراب أثر فرس جبريل ، ( فنبذتها ) أي ألقيتها في فم العجل .
وقال بعضهم : إنما خار لهذا لأن التراب كان مأخوذا من تحت حافر فرس جبريل .
فإن قيل : كيف عرفه ورأى جبريل من بين سائر الناس؟ .
قيل : لأن أمه لما ولدته في السنة التي يقتل فيها البنون وضعته في الكهف حذرا عليه ، فبعث الله جبريل ليربيه لما قضى على يديه من الفتنة .
( وكذلك سولت ) أي زينت ( لي نفسي )
( قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ( 97 ) )
( قال فاذهب فإن لك في الحياة ) أي : ما دمت حيا ، ( أن تقول لا مساس ) أي : لا تخالط أحدا ، ولا يخالطك أحد ، وأمر موسى بني إسرائيل أن لا يخالطوه ، ولا يقربوه .
قال ابن عباس : لا مساس لك ولولدك ، و " المساس " من المماسة ، معناه : لا يمس بعضنا بعضا ، فصار السامري يهيم في البرية مع الوحوش والسباع ، لا يمس أحدا ولا يمسه أحد ، عاقبه الله بذلك ، وكان إذا لقي أحدا يقول : " لا مساس " ، أي : لا تقربني ولا تمسني .
وقيل : كان إذا مس أحدا أو مسه أحد حما جميعا حتى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك ، وإذا مس أحد من غيرهم أحدا منهم حما جميعا في الوقت .
( وإن لك ) يا سامري ، ( موعدا ) لعذابك ، ( لن تخلفه ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب : ( لن تخلفه ) بكسر اللام أي : لن تغيب عنه ، ولا مذهب لك عنه ، بل توافيه يوم القيامة ، وقرأ الآخرون بفتح اللام أي : لن تكذبه ولن يخلفك الله ، ومعناه : أن الله تعالى يكافئك على فعلك [ ص: 293 ] ولا تفوته .
( وانظر إلى إلهك ) بزعمك ، ( الذي ظلت عليه عاكفا ) أي ظلت ودمت عليه مقيما تعبده ، والعرب تقول : ظلت أفعل كذا بمعنى ظللت ، ومست بمعنى مسست .
( لنحرقنه ) بالنار ، قرأ أبو جعفر بالتخفيف من الإحراق ، ( ثم لننسفنه ) لنذرينه ، ( في اليم ) في البحر ، ( نسفا ) روي أن موسى أخذ العجل فذبحه فسال منه دم ، لأنه كان قد صار لحما ودما ثم حرقه بالنار ، ثم ذراه في اليم ، قرأ ابن محيصن : " لنحرقنه " بفتح النون وضم الراء لنبردنه بالمبرد ، ومنه قيل للمبرد المحرق . وقال السدي : أخذ موسى العجل فذبحه ثم حرقه بالمبرد ، ثم ذراه في اليم .
( إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما ( 98 ) كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا ( 99 ) من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا ( 100 ) خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا ( 101 ) )
( إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما ) وسع علمه كل شيء . ( كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق ) من الأمور ، ( وقد آتيناك من لدنا ذكرا ) يعني القرآن . ( من أعرض عنه ) أي : عن القرآن ، فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه ، ( فإنه يحمل يوم القيامة وزرا ) حملا ثقيلا من الإثم . ( خالدين فيه ) مقيمين في عذاب الوزر ، ( وساء لهم يوم القيامة حملا ) أي بئس ما حملوا على أنفسهم من الإثم كفرا بالقرآن .
[ ص: 294 ] ( يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ( 102 ) يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا ( 103 ) نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما ( 104 ) ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا ( 105 ) )
( يوم ينفخ في الصور ) قرأ أبو عمرو " ننفخ " بالنون وفتحها وضم الفاء لقوله : " ونحشر " ، وقرأ الآخرون بالياء وضمها وفتح الفاء على غير تسمية الفاعل ، ( ونحشر المجرمين ) المشركين ، ( يومئذ زرقا ) والزرقة : هي الخضرة : في سواد العين ، فيحشرون زرق العيون سود الوجوه . وقيل : ( زرقا ) أي عميا . وقيل : عطاشا . ( يتخافتون بينهم ) أي يتشاورون بينهم ويتكلمون خفية ، ( إن لبثتم ) أي : ما مكثتم في الدنيا ، ( إلا عشرا ) أي : عشر ليال . وقيل : في القبور . وقيل : بين النفختين ، وهو أربعون سنة ; لأن العذاب يرفع عنهم بين النفختين . استقصروا مدة لبثهم لهول ما عاينوا . قال الله تعالى : ( نحن أعلم بما يقولون ) أي : يتسارون بينهم ، ( إذ يقول أمثلهم طريقة ) أوفاهم عقلا وأعدلهم قولا ( إن لبثتم إلا يوما ) قصر ذلك في أعينهم في جنب ما استقبلهم من أهوال يوم القيامة . وقيل : نسوا مقدار لبثهم لشدة ما دهمهم . قوله عز وجل : ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا ) قال ابن عباس : سأل رجل من ثقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فأنزل الله هذه الآية .
والنسف هو القلع ، أي : يقلعها من أصلها ويجعلها هباء منثورا .
( فيذرها قاعا صفصفا ( 106 ) لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ( 107 ) يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ( 108 ) يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ( 109 ) )
( فيذرها ) أي : فيدع أماكن الجبال من الأرض ، ( قاعا صفصفا ) أي : أرضا ملساء مستوية لا نبات فيها ، و " القاع " : ما انبسط من الأرض ، و " الصفصف " : الأملس . [ ص: 295 ] ( لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ) قال مجاهد : انخفاضا وارتفاعا .
وقال الحسن : " العوج " : ما انخفض من الأرض ، و " الأمت " : ما نشز من الروابي ، أي : لا ترى واديا ولا رابية .
قال قتادة : لا ترى فيها صدعا ولا أكمة . ( يومئذ يتبعون الداعي ) أي : صوت الداعي الذي يدعوهم إلى موقف القيامة ، وهو إسرافيل ، وذلك أنه يضع الصور في فيه ، ويقول : أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى عرض الرحمن .
( لا عوج له ) أي : لدعائه ، وهو من المقلوب ، أي : لا عوج لهم عن دعاء الداعي ، لا يزيغون عنه يمينا وشمالا ولا يقدرون عليه بل يتبعونه سراعا .
( وخشعت الأصوات للرحمن ) أي : سكنت وذلت وخضعت ، ووصف الأصوات بالخشوع والمراد أهلها ، ( فلا تسمع إلا همسا ) يعني صوت وطء الأقدام إلى المحشر ، و " الهمس " : الصوت الخفي كصوت أخفاف الإبل في المشي . وقال مجاهد : هو تخافت الكلام وخفض الصوت .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : تحريك الشفاه من غير نطق . ( يومئذ لا تنفع الشفاعة ) يعني : لا تنفع الشفاعة أحدا من الناس ، ( إلا من أذن له الرحمن ) [ ص: 296 ] يعني إلا من أذن له أن يشفع ، ( ورضي له قولا ) يعني : ورضي قوله ، قال ابن عباس ، يعني : قال لا إله إلا الله وهذا يدل على أنه لا يشفع غير المؤمن .
( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ( 110 ) وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ( 111 ) ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما ( 112 ) )
( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) الكناية راجعة إلى الذين يتبعون الداعي ، أي يعلم الله ( ما بين أيديهم ) ما قدموا ( وما خلفهم ) وما خلفوا من أمر الدنيا .
وقيل : ( ما بين أيديهم ) من الآخرة ( وما خلفهم ) من الأعمال .
( ولا يحيطون به علما ) قيل : الكناية ترجع إلى " ما " أي : هو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، وهم لا يعلمونه . وقيل : الكناية راجعة إلى الله لأن عباده لا يحيطون به علما . ( وعنت الوجوه للحي القيوم ) ذلت وخضعت ، ومنه قيل للأسير : عان . وقال طلق بن حبيب : هو السجود على الجبهة للحي القيوم ، ( وقد خاب من حمل ظلما ) قال ابن عباس : خسر من أشرك بالله ، والظلم هو الشرك . ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ) قرأ ابن كثير " فلا يخف " مجزوما على النهي جوابا لقوله تعالى : ( ومن يعمل ) وقرأ الآخرون ( فلا يخاف ) مرفوعا على الخبر ، ( ظلما ولا هضما ) قال ابن عباس : لا يخاف أن يزاد عليه في سيئاته ، لا ينقص من حسناته .
وقال الحسن : لا ينقص من ثواب حسناته ولا يحمل عليه ذنب مسيء .
وقال الضحاك : لا يؤخذ بذنب لم يعمله ولا تبطل حسنة عملها وأصل الهضم : النقص والكسر ، ومنه هضم الطعام .
[ ص: 297 ] ( وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ( 113 ) فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ( 114 ) ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ( 115 ) )
( وكذلك ) أي : كما بينا في هذه السورة ، ( أنزلناه ) يعني أنزلنا هذا الكتاب ، ( قرآنا عربيا ) يعني : بلسان العرب ، ( وصرفنا فيه من الوعيد ) أي : صرفنا القول فيه بذكر الوعيد ، ( لعلهم يتقون ) أي يجتنبون الشرك ، ( أو يحدث لهم ذكرا ) أي يجدد لهم القرآن عبرة وعظة فيعتبروا ويتعظوا بذكر عقاب الله للأمم الخالية . ( فتعالى الله الملك الحق ) جل الله عن إلحاد الملحدين وعما يقوله المشركون ، ( ولا تعجل بالقرآن ) أراد النبي صلى الله عليه وسلم ، كان إذا نزل عليه جبريل بالقرآن يبادر فيقرأ معه ، قبل أن يفرغ جبريل مما يريد من التلاوة ، ومخافة الانفلات والنسيان ، فنهاه الله عن ذلك وقال : ( ولا تعجل بالقرآن ) أي لا تعجل بقراءته ( من قبل أن يقضى إليك وحيه ) أي : من قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ ، نظيره قوله تعالى : " لا تحرك به لسانك لتعجل به " ( سورة القيامة : 16 ) وقرأ يعقوب : " نقضي " بالنون وفتحها وكسر الضاد ، وفتح الياء : " وحيه " بالنصب .
قال مجاهد وقتادة : معناه لا تقرئه أصحابك ، ولا تمله عليهم حتى يتبين لك معانيه .
( وقل رب زدني علما ) يعني بالقرآن ومعانيه . وقيل : علما إلى ما علمت .
وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : اللهم رب زدني علما وإيمانا ويقينا . قوله تعالى : ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل ) يعني : أمرناه وأوحينا إليه أن لا يأكل من الشجرة من قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدك وتركوا الإيمان بي ، وهم الذين ذكرهم الله في قوله تعالى : " لعلهم يتقون " ، ( فنسي ) فترك الأمر ، والمعنى أنهم نقضوا العهد ، فإن آدم أيضا عهدنا إليه فنسي ، ( ولم نجد له عزما ) قال الحسن لم نجد له صبرا عما نهي عنه . وقال عطية العوفي : حفظا [ ص: 298 ] لما أمر به .
وقال ابن قتيبة : رأيا معزوما حيث أطاع عدوه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له . و " العزم " في اللغة : هو توطين النفس على الفعل .
قال أبو أمامة الباهلي : لو وزن حلم آدم بحلم جميع ولده لرجح حلمه ، وقد قال الله : " ولم نجد له عزما " .
فإن قيل : أتقولون إن آدم كان ناسيا لأمر الله حين أكل من الشجرة ؟ .
قيل : يجوز أن يكون نسي أمره ، ولم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعا عن الإنسان ، بل كان مؤاخذا به ، وإنما رفع عنا .
وقيل : نسي عقوبة الله وظن أنه نهي تنزيها .
ابو وليد البحيرى
2022-05-09, 01:37 AM
الحلقة (286)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ طه
مَكِّيَّةٌ
الاية116 إلى الاية 135
( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى ( 116 ) فقلنا ياآدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ( 117 ) )
قوله تعالى : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى ) أن يسجد . ( فقلنا ياآدم إن هذا عدو لك ولزوجك ) حواء ، ( فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ) يعني : تتعب وتنصب ، ويكون عيشك من كد يمينك بعرق جبينك . قال السدي : يعني الحرث والزرع والحصيد والطحن والخبيز .
وعن سعيد بن جبير : قال أهبط إلى آدم ثور أحمر ، فكان يحرث عليه ، ويمسح العرق عن جبينه ، فذلك [ شقاؤه .
ولم يقل : " فتشقيا " رجوعا به إلى آدم ، لأن تعبه أكثر فإن الرجل ] هو الساعي على زوجته . [ ص: 299 ] وقيل : لأجل رءوس الآي .
( إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ( 118 ) وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ( 119 ) فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ( 120 ) فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ( 121 ) )
( إن لك ألا تجوع فيها ) أي في الجنة ( ولا تعرى ) وأنك قرأ نافع وأبو بكر بكسر الألف على الاستئناف ، وقرأ الآخرون بالفتح نسقا على قوله : ( ألا تجوع فيها ( وأنك لا تظمأ ) لا تعطش ، ( فيها ولا تضحى ) يعني : لا تبرز للشمس فيؤذيك حرها . وقال عكرمة : لا تصيبك الشمس وأذاها لأنه ليس في الجنة شمس ، وأهلها في ظل ممدود . ( فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد ) يعني على شجرة إن أكلت منها بقيت مخلدا ، ( وملك لا يبلى ) لا يبيد ولا يفنى . ( فأكلا ) يعني آدم وحواء عليهما السلام ، ( منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه ) بأكل الشجرة ، ( فغوى ) يعني فعل ما لم يكن له فعله . وقيل : أخطأ طريق الجنة وضل حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عن أكله ، فخاب ولم ينل مراده .
قال ابن الأعرابي : أي فسد عليه عيشه ، وصار من العز إلى الذل ، ومن الراحة إلى التعب .
قال ابن قتيبة : يجوز أن يقال عصى آدم ، ولا يجوز أن يقال : آدم عاص ; لأنه إنما يقال عاص لمن اعتاد فعل المعصية ، كالرجل يخيط ثوبه يقال : خاط ثوبه ، ولا يقال هو خياط حتى يعاود ذلك ويعتاده .
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ، أخبرنا أبو معاذ الشاه بن عبد الرحمن المزني ، أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري ببغداد ، أخبرنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن طاوس سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احتج آدم وموسى : فقال موسى : يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة ، فقال آدم : يا موسى اصطفاك [ ص: 300 ] الله بكلامه وخط لك التوراة بيده ، أفتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى " .
ورواه عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة وزاد : " قال آدم يا موسى بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى : بأربعين عاما ، قال آدم : فهل وجدت فيها : وعصى آدم ربه فغوى؟ قال : نعم ، قال : أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى " .
( ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ( 122 ) قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ( 123 ) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ( 124 ) )
( ثم اجتباه ربه ) اختاره واصطفاه ، ( فتاب عليه ) بالعفو ، ( وهدى ) هداه إلى التوبة حين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا . ( قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي ) يعني الكتاب والرسول ، ( فلا يضل ولا يشقى ) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله في الدنيا من الضلالة ، ووقاه الله يوم القيامة سوء الحساب ، وذلك بأن الله يقول : ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ) .
وقال الشعبي عن ابن عباس : أجار الله تعالى تابع القرآن من أن يضل في الدنيا ويشقى في الآخرة ، وقرأ هذه الآية . ( ومن أعرض عن ذكري ) يعني : القرآن ، فلم يؤمن به ولم يتبعه ، ( فإن له معيشة ضنكا ) [ ص: 301 ] ضيقا ، روي عن ابن مسعود ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري أنهم قالوا : هو عذاب القبر . قال أبو سعيد : يضغط حتى تختلف أضلاعه .
وفي بعض المسانيد مرفوعا . " يلتئم عليه القبر حتى تختلف أضلاعه فلا يزال يعذب حتى يبعث " .
وقال الحسن : هو الزقوم والضريع والغسلين في النار .
وقال عكرمة : هو الحرام . وقال الضحاك : هو الكسب الخبيث .
وعن ابن عباس قال : الشقاء . وروي عنه أنه قال : كل مال أعطي العبد قل أم كثر فلم يتق فيه فلا خير فيه ، وهو الضنك في المعيشة ، وإن أقواما أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين ، فكانت معيشتهم ضنكا ، وذلك أنهم يرون أن الله ليس بمخلف عليهم فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم بالله .
قال سعيد بن جبير : يسلبه القناعة حتى لا يشبع .
( ونحشره يوم القيامة أعمى ) قال ابن عباس : أعمى البصر وقال مجاهد أعمى عن الحجة .
( قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ( 125 ) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ( 126 ) وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ( 127 ) )
( قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ) بالعين أو بصيرا بالحجة . ( قال كذلك ) أي : كما ( أتتك آياتنا فنسيتها ) فتركتها وأعرضت عنها ، ( وكذلك اليوم تنسى ) تترك في النار . قال قتادة : نسوا من الخير ولم ينسوا من العذاب . ( وكذلك ) أي وكما جزينا من أعرض عن القرآن كذلك ( نجزي من أسرف ) أشرك ، [ ص: 302 ] ( ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد ) مما يعذبهم به في الدنيا والقبر ، ( وأبقى ) وأدوم .
( أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ( 128 ) ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ( 129 ) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ( 130 ) )
( أفلم يهد لهم ) يبين لهم القرآن ، يعني : كفار مكة ، ( كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ) ديارهم ومنازلهم إذا سافروا . والخطاب لقريش كانوا يسافرون إلى الشام فيرون ديار المهلكين من أصحاب الحجر وثمود وقريات لوط .
( إن في ذلك لآيات لأولي النهى ) لذوي العقول . ( ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ) فيه تقديم وتأخير ، تقديره : ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ، والكلمة الحكم بتأخير العذاب عنهم ، أي ولولا حكم سبق بتأخير العذاب عنهم ، وأجل مسمى وهو القيامة لكان لزاما ، أي لكان العذاب لازما لهم كما لزم القرون الماضية الكافرة . ( فاصبر على ما يقولون ) نسختها آية القتال ( وسبح بحمد ربك ) ، أي صل بأمر ربك . وقيل : صل لله بالحمد له والثناء عليه ، ( قبل طلوع الشمس ) يعني صلاة الصبح ، ( وقبل غروبها ) صلاة العصر ، ( ومن آناء الليل ) ساعاتها ، واحدها إني ، ( فسبح ) يعني صلاة المغرب والعشاء . قال ابن عباس : يريد أول الليل ، ( وأطراف النهار ) يعني صلاة الظهر ، وسمى وقت الظهر أطراف النهار لأن وقته عند الزوال ، وهو طرف النصف الأول انتهاء وطرف النصف الآخر ابتداء .
وقيل : المراد من آناء الليل صلاة العشاء ، ومن أطراف النهار صلاة الظهر والمغرب ، لأن الظهر في [ ص: 303 ] آخر الطرف الأول من النهار ، وفي أول الطرف الآخر ، فهو في طرفين منه والطرف الثالث غروب الشمس ، وعند ذلك يصلى المغرب .
( لعلك ترضى ) أي ترضى ثوابه في المعاد ، وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم " ترضى " بضم التاء أي تعطى ثوابه . وقيل : ( ترضى ) أي يرضاك الله تعالى ، كما قال : " وكان عند ربه مرضيا " ( مريم : 55 ) وقيل : معنى الآية لعلك ترضى بالشفاعة ، كما قال : " ولسوف يعطيك ربك فترضى " ( الضحى : 5 ) .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الخطيب الحميدي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني إملاء ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله السعدي ، أخبرنا يزيد بن هارون ، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن جرير بن عبد الله قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر ، فقال : " إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا " ، ثم قرأ ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) .
( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ( 131 ) )
قوله تعالى : ( ولا تمدن عينيك ) قال أبو رافع : نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فبعثني إلى يهودي فقال لي : " قل له إن رسول الله يقول لك بعني كذا وكذا من الدقيق وأسلفني إلى هلال رجب " فأتيته فقلت له ذلك فقال : والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : " والله لئن باعني وأسلفني لقضيته وإني لأمين في السماء وأمين في الأرض ، اذهب بدرعي الحديد إليه " فنزلت هذه الآية : ( ولا تمدن عينيك ) لا تنظر ، ( إلى ما متعنا به ) أعطينا ، ( أزواجا ) أصنافا ، ( منهم زهرة الحياة الدنيا ) أي : زينتها وبهجتها ، وقرأ يعقوب زهرة بفتح الهاء وقرأ العامة بجزمها ، ( لنفتنهم فيه ) أي لنجعل ذلك فتنة لهم بأن أزيد لهم النعمة فيزيدوا كفرا وطغيانا ، ( ورزق ربك ) في المعاد ، يعني : الجنة ، ( خير وأبقى ) قال أبي بن كعب : من لم يتعز [ ص: 304 ] بعزاء الله تقطعت نفسه حسرات ، ومن يتبع بصره فيما في أيد الناس بطل حزنه ، ومن ظن أن نعمة الله في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قل عمله وحضر عذابه .
( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ( 132 ) وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ( 133 ) ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ( 134 ) )
( وأمر أهلك بالصلاة ) أي : قومك . وقيل : من كان على دينك ، كقوله تعالى : " وكان يأمر أهله بالصلاة " ( مريم : 55 ) ، ( واصطبر عليها ) أي اصبر على الصلاة ، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر .
( لا نسألك رزقا ) لا نكلفك أن ترزق أحدا من خلقنا ، ولا أن ترزق نفسك وإنما نكلفك عملا ( نحن نرزقك والعاقبة ) الخاتمة الجميلة المحمودة ، ( للتقوى ) أي لأهل التقوى . قال ابن عباس : الذين صدقوك واتبعوك واتقوني .
وفي بعض المسانيد أن النبي صلى الله عليه وسلم : " كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية . قوله تعالى : ( وقالوا ) يعني المشركين ، ( لولا يأتينا بآية من ربه ) أي : الآية المقترحة فإنه كان قد أتاهم بآيات كثيرة ، ( أولم تأتهم بينة ) قرأ أهل المدينة والبصرة وحفص عن عاصم : " تأتهم " لتأنيث البينة ، وقرأ الآخرون بالياء لتقدم الفعل ، ولأن البينة هي البيان فرد إلى المعنى ، ( بينة ما في الصحف الأولى ) أي : بيان ما فيها ، وهو القرآن أقوى دلالة وأوضح آية .
وقيل : أولم يأتهم بيان ما في الصحف الأولى : التوراة ، والإنجيل ، وغيرهما من أنباء الأمم أنهم اقترحوا الآيات ، فلما أتتهم ولم يؤمنوا بها ، كيف عجلنا لهم العذاب والهلاك ، فما يؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم كحال أولئك . ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله ) من قبل إرسال الرسول وإنزال القرآن ، ( لقالوا ربنا لولا ) [ ص: 305 ] هلا ( أرسلت إلينا رسولا ) يدعونا ، أي : لقالوا يوم القيامة ، ( فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) بالعذاب ، والذل ، والهوان ، والخزي ، والافتضاح .
( قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ( 135 ) )
( قل كل متربص ) منتظر دوائر الزمان ، وذلك أن المشركين قالوا نتربص بمحمد حوادث الدهر ، فإذا مات تخلصنا ، قال الله تعالى : ( فتربصوا ) فانتظروا ، ( فستعلمون ) إذا جاء أمر الله وقامت القيامة ، ( من أصحاب الصراط السوي ) المستقيم ، ( ومن اهتدى ) من الضلالة نحن أم أنتم؟ .
ابو وليد البحيرى
2022-05-09, 01:38 AM
الحلقة (287)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية 31
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ( 1 ) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ( 2 ) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ( 3 ) )
( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ ) قِيلَ اللَّامُ بِمَعْنَى مِنْ ، أَيِ اقْتَرَبَ مِنَ النَّاسِ حِسَابُهُمْ ، أَيْ : وَقْتُ مُحَاسَبَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، نَزَلَتْ فِي مُنْكِرِي الْبَعْثِ ، ( وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) عَنِ التَّأَهُّبِ لَهُ . ( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) يَعْنِي مَا يُحْدِثُ اللَّهُ مِنْ تَنْزِيلِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ يُذَكِّرُهُمْ وَيَعِظُهُمْ بِهِ .
قَالَ مُقَاتِلٌ : يُحْدِثُ اللَّهُ الْأَمْرَ [ بَعْدَ الْأَمْرِ ] قِيلَ : الذِّكْرُ الْمُحْدَثُ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَّنَهُ مِنَ السُّنَنِ وَالْمَوَاعِظِ سِوَى مَا فِي الْقُرْآنِ ، وَأَضَافَهُ إِلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ قَالَ بِأَمْرِ الرَّبِّ ، ( إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) أَيِ : اسْتَمَعُوهُ لَاعِبِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ وَلَا يَتَّعِظُونَ . ( لَاهِيَةً ) سَاهِيَةً غَافِلَةً ، ( قُلُوبُهُمْ ) مُعْرِضَةً عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، وَقَوْلُهُ ( لَاهِيَةً ) نَعْتٌ تَقَدَّمَ الِاسْمَ ، وَمِنْ حَقِّ النَّعْتِ أَنْ يَتْبَعَ الِاسْمَ فِي الْإِعْرَابِ ، وَإِذَا تَقَدَّمَ النَّعْتُ الِاسْمَ فَلَهُ حَالَتَانِ : فَصْلٌ [ ص: 310 ] وَوَصْلٌ ، فَحَالَتُهُ فِي الْفَصْلِ النَّصْبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ ) ( القَمَرِ : 7 ) ، ( وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا ) ( الإِنْسَانِ : 11 ) ، وَ ( لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ) وَفِي الْوَصْلِ حَالَةُ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ كَقَوْلِهِ ، ( أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ) ( النِّسَاءِ : 75 ) ; ( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) أَيْ أَشْرَكُوا ، قَوْلُهُ : ( وَأَسَرُّوا ) فِعْلٌ تَقَدَّمَ الْجَمْعَ وَكَانَ حَقُّهُ وَأَسَرَّ ، قَالَ الْكِسَائِيُّ : فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ ، أَرَادَ : وَالَّذِينَ ظَلَمُوا أَسَرُّوا النَّجْوَى .
وَقِيلَ : مَحَلُّ " الَّذِينَ " رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ ، مَعْنَاهُ : وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ، ثُمَّ قَالَ : وَهُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا .
وَقِيلَ : رُفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَسَرُّوا . قَالَ الْمُبَرِّدُ : هَذَا كَقَوْلِكَ إِنَّ الَّذِينَ فِي الدَّارِ انْطَلَقُوا بَنُو عَبْدِ اللَّهِ ، عَلَى الْبَدَلِ مِمَّا فِي انْطَلَقُوا ثُمَّ بَيَّنَ سِرَّهِمُ الَّذِي تَنَاجَوْا بِهِ فَقَالَ : ( هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) أَنْكَرُوا إِرْسَالَ الْبَشَرِ وَطَلَبُوا إِرْسَالَ الْمَلَائِكَةِ .
( أَفَتَأْتُونَ ) أَيْ تَحْضُرُونَ السِّحْرَ وَتَقْبَلُونَهُ ، ( وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) تَعْلَمُونَ أَنَّهُ سِحْرٌ .
( قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم ( 4 ) بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ( 5 ) ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون ( 6 ) )
قل لهم يا محمد ، ( ربي يعلم القول في السماء والأرض ) قرأ حمزة والكسائي وحفص : " قال ربي " ، على الخبر عن محمد صلى الله عليه وسلم ، ( يعلم القول في السماء والأرض ) أي لا يخفى عليه شيء ، ( وهو السميع ) لأقوالهم ، ( العليم ) بأفعالهم . ( بل قالوا أضغاث أحلام ) أباطيلها [ وأقاويلها ] وأهاويلها رآها في النوم ، ( بل افتراه ) اختلقه ، ( بل هو شاعر ) يعني أن المشركين اقتسموا القول فيه وفيما يقوله ، قال بعضهم : أضغاث أحلام ، وقال بعضهم : بل هو فرية ، وقال بعضهم : بل محمد شاعر وما جاءكم به شعر . ( فليأتنا ) محمد ( بآية ) إن كان صادقا ( كما أرسل الأولون ) من الرسل بالآيات . قال الله تعالى مجيبا لهم : ( ما آمنت قبلهم ) قبل مشركي مكة ، ( من قرية ) أي : من أهل [ ص: 311 ] قرية أتتهم الآيات ، ( أهلكناها ) أهلكناهم بالتكذيب ، ( أفهم يؤمنون ) ؟ ، إن جاءتهم آية ، معناه : أن أولئك لم يؤمنوا بالآيات لما أتتهم أفيؤمن هؤلاء؟ .
( وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( 7 ) وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ( 8 ) ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين ( 9 ) لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ( 10 ) )
قوله عز وجل : ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ) هذا جواب لقولهم : ( هل هذا إلا بشر مثلكم ) يعني : إنا لم نرسل الملائكة إلى الأولين إنما أرسلنا رجالا نوحي إليهم ، ( فاسألوا أهل الذكر ) يعني : أهل التوراة والإنجيل ، يريد علماء أهل الكتاب ، فإنهم لا ينكرون أن الرسل كانوا بشرا ، وإن أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمر المشركين بمسألتهم لأنهم إلى تصديق من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم أقرب منهم إلى تصديق من آمن به . وقال ابن زيد : أراد بالذكر القرآن أراد : فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن ، ( إن كنتم لا تعلمون ( وما جعلناهم ) أي : الرسل ، ( جسدا ) ولم يقل أجسادا لأنه اسم الجنس ، ( لا يأكلون الطعام ) هذا رد لقولهم ( مال هذا الرسول يأكل الطعام ) ( الفرقان : 7 ) ، يقول لم نجعل الرسل ملائكة بل جعلناهم بشرا يأكلون الطعام ، ( وما كانوا خالدين ) في الدنيا . ( ثم صدقناهم الوعد ) الذي وعدناهم بإهلاك أعدائهم ، ( فأنجيناهم ومن نشاء ) أي أنجينا المؤمنين الذين صدقوهم ، ( وأهلكنا المسرفين ) أي : المشركين المكذبين ، وكل مشرك مسرف على نفسه . ( لقد أنزلنا إليكم كتابا ) يا معشر قريش ، ( فيه ذكركم ) أي : شرفكم ، كما قال : ( وإنه لذكر لك ولقومك ) ( الزخرف : 44 ) ، وهو شرف لمن آمن به .
قال مجاهد : فيه حديثكم . وقال الحسن : فيه ذكركم أي : ذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم ، ( أفلا تعقلون )
[ ص: 312 ] ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين ( 11 ) فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون ( 12 ) لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون ( 13 ) قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين ( 14 ) فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ( 15 ) وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ( 16 ) )
( وكم قصمنا ) أهلكنا ، والقصم : الكسر ، ( من قرية كانت ظالمة ) أي : كافرة ، يعني أهلها ، ( وأنشأنا بعدها ) أي : أحدثنا بعد هلاك أهلها ، ( قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا ) أي [ رأوا ] عذابنا بحاسة البصر ، ( إذا هم منها يركضون ) أي يسرعون هاربين . ( لا تركضوا ) أي : قيل لهم لا تركضوا لا تهربوا ، ( وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ) أي نعمتم به ، ( ومساكنكم لعلكم تسألون ) قال ابن عباس : عن قتل نبيكم . وقال قتادة : من دنياكم شيئا ، نزلت هذه الآية في أهل حصورا ، وهي قرية باليمن وكان أهلها العرب ، فبعث الله إليهم نبيا يدعوهم إلى الله فكذبوه وقتلوه ، فسلط الله عليهم بختنصر ، حتى قتلهم وسباهم فلما استمر فيهم القتل ندموا وهربوا وانهزموا ، فقالت الملائكة لهم استهزاء : لا تركضوا وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم لعلكم تسألون .
قال قتادة : لعلكم تسألون شيئا من دنياكم ، فتعطون من شئتم وتمنعون من شئتم ، فإنكم أهل ثروة ونعمة ، يقولون ذلك استهزاء بهم ، فاتبعهم بختنصر وأخذتهم السيوف ، ونادى مناد في جو السماء : يا ثارات الأنبياء ، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم . ( قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين ) . ( فما زالت تلك دعواهم ) أي : تلك الكلمة وهي قولهم يا ويلنا ، دعاؤهم يدعون بها ويرددونها .
( حتى جعلناهم حصيدا ) بالسيوف كما يحصد الزرع ، ( خامدين ) ميتين . قوله عز وجل : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ) أي عبثا وباطلا .
[ ص: 313 ] ( لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين ( 17 ) بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون ( 18 ) وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ( 19 ) يسبحون الليل والنهار لا يفترون ( 20 ) )
( لو أردنا أن نتخذ لهوا ) اختلفوا في اللهو ، قال ابن عباس في رواية عطاء : اللهو المرأة ، وهو قول الحسن وقتادة ، وقال في رواية الكلبي : اللهو الولد ، وهو قول السدي ، وهو في المرأة أظهر لأن الوطء يسمى لهوا في اللغة ، والمرأة محل الوطء ( لاتخذناه من لدنا ) أي : من عندنا من الحور العين لا من عندكم من أهل الأرض . وقيل : معناه لو كان جائزا ذلك في صفته لم يتخذه بحيث يظهر لهم ويستر ذلك حتى لا يطلعوا عليه .
وتأويل الآية أن النصارى لما قالوا في المسيح وأمه ما قالوا رد الله عليهم بهذا وقال : ( لاتخذناه من لدنا ) لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده ، لا عند غيره ( إن كنا فاعلين ) قال قتادة ومقاتل وابن جريج : ( إن ) للنفي ، أي : ما كنا فاعلين . وقيل : ( إن كنا فاعلين ) للشرط أي : إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا ، ولكنا لم نفعله لأنه لا يليق بالربوبية . ( بل ) أي دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل ، ( نقذف ) نرمي ونسلط ، ( بالحق ) بالإيمان ، ( على الباطل ) على الكفر ، وقيل : الحق قول الله ، أنه لا ولد له ، والباطل قولهم اتخذ الله ولدا ، ( فيدمغه ) فيهلكه ، وأصل الدمغ : شج الرأس حتى يبلغ الدماغ ، ( فإذا هو زاهق ) ذاهب ، والمعنى : نبطل كذبهم بما نبين من الحق حتى يضمحل ويذهب ، ثم أوعدهم على كذبهم فقال : ( ولكم الويل ) يا معشر الكفار ، ( مما تصفون ) الله بما لا يليق به من الصاحبة والولد . وقال مجاهد : مما تكذبون . ( وله من في السماوات والأرض ) عبيدا وملكا ، ( ومن عنده ) يعني الملائكة ، ( لا يستكبرون عن عبادته ) لا يأنفون عن عبادته ولا يتعظمون عنها ، ( ولا يستحسرون ) لا يعيون ، يقال : حسر واستحسر إذا تعب وأعيا . وقال السدي : لا يتعظمون عن العبادة . ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) لا يضعفون ولا يسأمون ، قال كعب الأحبار : التسبيح [ ص: 314 ] لهم كالنفس لبني آدم .
( أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ( 21 ) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ( 22 ) لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ( 23 ) أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ( 24 ) )
( أم اتخذوا آلهة ) استفهام بمعنى الجحد ، أي : لم يتخذوا ، ( من الأرض ) يعني الأصنام من الخشب والحجارة ، وهما من الأرض ، ( هم ينشرون ) يحيون الأموات ، ولا يستحق الإلهية إلا من يقدر على الإحياء والإيجاد من العدم والإنعام بأبلغ وجوه النعم . ( لو كان فيهما ) أي في السماء والأرض ، ( آلهة إلا الله ) أي : غير الله ( لفسدتا ) لخربتا وهلك من فيهما بوجود التمانع بين الآلهة لأن كل أمر صدر عن اثنين فأكثر لم يجر على النظام ، ثم نزه نفسه فقال : ( فسبحان الله رب العرش عما يصفون ) أي : عما يصفه به المشركون من الشريك والولد . ( لا يسأل عما يفعل ) ويحكم على خلقه لأنه الرب ( وهم يسألون ) أي : الخلق يسألون عن أفعالهم وأعمالهم لأنهم عبيد ( أم اتخذوا من دونه آلهة ) استفهام إنكار وتوبيخ ، ( قل هاتوا برهانكم ) أي : حجتكم على ذلك ، ثم قال مستأنفا ، ( هذا ) يعني القرآن . ( ذكر من معي ) فيه خبر من معي على ديني ومن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية . ( وذكر ) خبر ، ( من قبلي ) من الأمم السالفة ما فعل بهم في الدنيا وما يفعل بهم في الآخرة . وعن ابن عباس في رواية عطاء : ذكر من معي : القرآن ، وذكر من قبلي : التوراة والإنجيل ، ومعناه : راجعوا القرآن والتوراة والإنجيل وسائر الكتب هل تجدون فيها أن الله اتخذ ولدا ، ( بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون )
[ ص: 315 ] ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ( 25 ) وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ( 26 ) لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ( 27 ) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ( 28 ) ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ( 29 ) )
( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه ) قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم نوحي إليه بالنون وكسر الحاء على التعظيم ، لقوله ( وما أرسلنا ) وقرأ الآخرون بالياء وفتح الحاء على الفعل المجهول ، ( أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) وحدون . قوله عز وجل : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ) نزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، ( سبحانه ) نزه نفسه عما قالوا ، ( بل عباد ) أي : هم عباد ، يعني الملائكة ، ( مكرمون ( لا يسبقونه بالقول ) لا يتقدمونه بالقول ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ، ( وهم بأمره يعملون ) معناه أنهم لا يخالفونه قولا ولا عملا . ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) أي : ما عملوا وما هم عاملون . وقيل : ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) قال ابن عباس : أي لمن قال لا إله إلا الله ، وقال مجاهد : أي لمن رضي عنه ( وهم من خشيته مشفقون ) خائفون لا يأمنون مكره . ( ومن يقل منهم إني إله من دونه ) قال قتادة : عنى به إبليس حين دعا إلى عبادة نفسه وأمر بطاعة نفسه ، فإن أحدا من الملائكة لم يقل إني إله من دون الله ( فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ) الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها .
[ ص: 316 ] ( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ( 30 ) وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ( 31 ) )
( أولم ير الذين كفروا ) قرأ ابن كثير " ألم ير " [ بغير واو ] وكذلك هو في مصاحفهم ، معناه : ألم يعلم الذين كفروا ، ( أن السماوات والأرض كانتا رتقا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء وقتادة : كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ( ففتقناهما ) فصلنا بينهما بالهواء ، والرتق في اللغة : السد ، والفتق : الشق .
قال كعب : خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض ، ثم خلق ريحا فوسطها ففتحها بها .
قال مجاهد والسدي : كانت السموات مرتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سماوات ، وكذلك الأرض كانتا مرتقة طبقة واحدة فجعلها سبع أرضين .
قال عكرمة وعطية : كانت السماء رتقا لا تمطر والأرض رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات . وإنما قال : ( رتقا ) على التوحيد وهو من نعت السموات والأرض لأنه مصدر وضع موضع الاسم ، مثل الزور والصوم ونحوهما . ( وجعلنا ) [ وخلقنا ] ( من الماء كل شيء حي ) أي : وأحيينا بالماء الذي ينزل من السماء كل شيء حي أي : من الحيوان ويدخل فيه النبات والشجر ، يعني أنه سبب لحياة كل شيء والمفسرون يقولون : [ يعني ] أن كل شيء حي فهو مخلوق من الماء . كقوله تعالى : ( والله خلق كل دابة من ماء ) ( النور : 45 ) ، قال أبو العالية : يعني النطفة ، فإن قيل : قد خلق الله بعض ما هو حي من غير الماء؟ قيل : هذا على وجه التكثير ، يعني أن أكثر الأحياء في الأرض مخلوقة من الماء أو بقاؤه بالماء ، ( أفلا يؤمنون )
( وجعلنا في الأرض رواسي ) جبالا ثوابت ، ( أن تميد بهم ) ; [ يعني كي لا تميد بهم ] ( وجعلنا فيها ) في الرواسي : ( فجاجا ) طرقا ومسالك ، والفج : الطريق الواسع [ ص: 317 ] بين الجبلين ، أي : جعلنا بين الجبال طرقا حتى يهتدوا إلى مقاصدهم ، ( سبلا ) تفسير للفجاج ، ( لعلهم يهتدون )
ابو وليد البحيرى
2022-05-09, 01:38 AM
الحلقة (288)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
مَكِّيَّةٌ
الاية32 إلى الاية 57
( وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون ( 32 ) وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ( 33 ) )
( وجعلنا السماء سقفا محفوظا ) من أن تسقط ، دليله قوله تعالى : ( ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ) ( الحج : 65 ) ، وقيل : محفوظا من الشياطين بالشهب ، دليله قوله تعالى : ( وحفظناها من كل شيطان رجيم ) ( الحجر : 17 ) ، ( وهم ) يعني الكفار ، ( عن آياتها ) ما خلق الله فيها من الشمس والقمر والنجوم وغيرها ، ( معرضون ) لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها . ( وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ) يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء ، وإنما قال : ( يسبحون ) ولم يقل يسبح على ما يقال لما لا يعقل ، لأنه ذكر عنها فعل العقلاء من الجري والسبح ، فذكر على ما يعقل .
والفلك : مدار النجوم الذي يضمها ، والفلك في كلام العرب : كل شيء مستدير ، وجمعه أفلاك ، ومنه فلك المغزل .
وقال الحسن : الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل : يريد أن الذي يجري فيه النجوم مستدير كاستدارة الطاحونة .
وقال بعضهم : الفلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب ، فكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه ، وهو معنى قول قتادة .
وقال الكلبي الفلك استدارة السماء .
وقال آخرون : الفلك موج مكفوف دون السماء يجري فيه الشمس والقمر والنجوم .
[ ص: 318 ] ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ( 34 ) كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ( 35 ) وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون ( 36 ) خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ( 37 ) )
قوله عز وجل : ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ) دوام البقاء في الدنيا ، ( أفإن مت فهم الخالدون ) أي أفهم الخالدون إن مت؟ نزلت هذه الآية حين قالوا نتربص بمحمد ريب المنون . ( كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم ) نختبركم ( بالشر والخير ) بالشدة والرخاء ، والصحة والسقم ، والغنى والفقر ، وقيل : بما تحبون وما تكرهون ، ( فتنة ) ابتلاء لننظر كيف شكركم فيما تحبون ، وصبركم فيما تكرهون ، ( وإلينا ترجعون ( وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك ) [ ما يتخذونك ] ( إلا هزوا ) [ سخريا ] قال السدي : نزلت في أبي جهل مر به النبي صلى الله عليه وسلم فضحك ، وقال : هذا نبي بني عبد مناف ( أهذا الذي ) أي يقول بعضهم لبعض أهذا الذي ، ( يذكر آلهتكم ) أي يعيبها ، يقال : فلان يذكر فلانا أي يعيبه ، وفلان يذكر الله أي يعظمه ويجله ، ( وهم بذكر الرحمن هم كافرون ) وذلك أنهم كانوا يقولون لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة ، " وهم " الثانية صلة . قوله عز وجل : ( خلق الإنسان من عجل ) اختلفوا فيه ، فقال قوم : معناه أن بنيته وخلقته من العجلة وعليها طبع ، كما قال : ( وكان الإنسان عجولا ) ( الإسراء : 11 ) . [ ص: 319 ]
قال سعيد بن جبير والسدي : لما دخلت الروح في رأس آدم وعينه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخلت جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلا إلى ثمار الجنة ، فوقع فقيل : " خلق الإنسان من عجل " ، والمراد بالإنسان آدم وأورث أولاده العجلة ، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء : خلقت منه ، كما تقول العرب : خلقت في لعب ، وخلقت من غضب ، يراد المبالغة في وصفه بذلك ، يدل على هذا قوله تعالى : " وكان الإنسان عجولا " .
وقال قوم : معناه خلق الإنسان يعني آدم من تعجيل في خلق الله إياه ، لأن خلقه كان بعد [ خلق ] كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة ، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس .
قال مجاهد : فلما أحيا الروح رأسه قال يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس . وقيل : بسرعة وتعجيل على غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة والعلقة والمضغة وغيرها .
وقال قوم : من عجل ، أي : من طين ، قال الشاعر : والنبع في الصخرة الصماء منبتة والنخل ينبت بين الماء والعجل
( سأريكم آياتي فلا تستعجلون ) [ نزل هذا في المشركين ] كانوا يستعجلون العذاب ويقولون : أمطر علينا حجارة من السماء ، وقيل : نزلت في النضر بن الحارث فقال تعالى : ( سأريكم آياتي ) أي : مواعيدي فلا تستعجلون ، أي فلا تطلبوا العذاب من قبل وقته ، فأراهم يوم بدر ، وقيل : كانوا يستعجلون القيامة .
( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( 38 ) لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون ( 39 ) )
( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) فقال تعالى : ( لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون ) لا يدفعون ( عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ) قيل : ولا عن ظهورهم السياط ، [ ص: 320 ] ( ولا هم ينصرون ) يمنعون من العذاب ، وجواب لو في قوله : ( لو يعلم الذين ) محذوف معناه : ولو علموا لما أقاموا على كفرهم ، ولما استعجلوا ، ولا قالوا : متى هذا الوعد؟ .
( بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ( 40 ) ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ( 41 ) قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون ( 42 ) أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون ( 43 ) بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ( 44 ) )
( بل تأتيهم ) يعني الساعة ( بغتة ) فجأة ، ( فتبهتهم ) أي : تحيرهم ، يقال : فلان مبهوت أي : متحير ، ( فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ) يمهلون . ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق ) نزل ، ( بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) أي : جزاء استهزائهم . ( قل من يكلؤكم ) يحفظكم ، ( بالليل والنهار من الرحمن ) إن أنزل بكم عذابه ، وقال ابن عباس : من يمنعكم من عذاب الرحمن ، ( بل هم عن ذكر ربهم ) عن القرآن ومواعظ الله ، ( معرضون ( أم لهم ) أم : صلة فيه ، وفي أمثاله ( آلهة تمنعهم من دوننا ) فيه تقديم وتأخير ، تقديره : أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم ، ثم وصف الآلهة بالضعف ، فقال تعالى : ( لا يستطيعون نصر أنفسهم ) منع أنفسهم ، فكيف ينصرون عابديهم ، ( ولا هم منا يصحبون ) قال ابن عباس : يمنعون . وقال عطية : عنه يجارون ، تقول العرب : أنا لك جار وصاحب من فلان ، أي : مجير منه . وقال مجاهد : ينصرون . وقال قتادة : ولا يصبحون من الله بخير . ( بل متعنا هؤلاء ) الكفار ، ( وآباءهم ) في الدنيا أي أمهلناهم . وقيل : أعطيناهم النعمة ، ( حتى طال عليهم العمر ) أي امتد بهم الزمان فاغتروا .
( أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) يعني ما ننقص من أطراف المشركين ونزيد [ ص: 321 ] في أطراف المؤمنين ، يريد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وفتحه ديار الشرك أرضا فأرضا ، ( أفهم الغالبون ) أم نحن .
( قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون ( 45 ) ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن ياويلنا إنا كنا ظالمين ( 46 ) ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ( 47 ) )
( قل إنما أنذركم بالوحي ) أي أخوفكم بالقرآن ، ( ولا يسمع الصم الدعاء ) قرأ ابن عامر بالتاء وضمها وكسر الميم ، " الصم " نصب ، جعل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ الآخرون بالياء وفتحها وفتح الميم ، " الصم " رفع ، ( إذا ما ينذرون ) يخوفون . ( ولئن مستهم ) أصابتهم ( نفحة ) قال ابن عباس رضي الله عنهما طرف . وقيل : قليل . قال ابن جريج : نصيب ، من قولهم : نفح فلان لفلان من ماله ، أي أعطاه حظا منه . وقيل : ضربة من قولهم : نفحت الدابة برجلها إذا ضربت ، ( من عذاب ربك ليقولن ياويلنا إنا كنا ظالمين ) أي بإهلاكنا إنا كنا مشركين ، دعوا على أنفسهم بالويل بعدما أقروا بالشرك . ( ونضع الموازين القسط ) أي : ذوات القسط ، والقسط : العدل ، ( ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا ) لا ينقص من ثواب حسناته ولا يزاد على سيئاته ، وفي الأخبار : إن الميزان له لسان وكفتان .
روي أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب ، فغشي عليه ، ثم أفاق فقال : يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال : يا داود إني [ إذا ] رضيت على عبدي ملأتها بتمرة .
( وإن كان مثقال حبة من خردل ) قرأ أهل المدينة ( مثقال ) برفع اللام هاهنا وفي سورة [ ص: 322 ] لقمان ، أي وإن وقع مثقال حبة ، ونصبها الآخرون على معنى : وإن كان ذلك الشيء مثقال حبة أي : زنة حبة من خردل ، ( أتينا بها ) أحضرناها لنجازي بها .
( وكفى بنا حاسبين ) قال السدي : محصين ، والحسب معناه : العد ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : عالمين حافظين ، لأن من حسب شيئا علمه وحفظه .
( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين ( 48 ) الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ( 49 ) وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون ( 50 ) ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ( 51 ) )
قوله عز وجل : ( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ) يعني الكتاب المفرق بين الحق والباطل ، وهو التوراة . وقال ابن زيد : الفرقان النصر على الأعداء ، كما قال الله تعالى : ( وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ) ( الأنفال : 41 ) ، يعني يوم بدر ، لأنه قال ( وضياء ) أدخل الواو فيه أي آتينا موسى النصر والضياء وهو التوراة .
ومن قال : المراد بالفرقان التوراة ، قال : الواو في قوله : ( وضياء ) زائدة مقحمة ، معناه : آتيناه التوراة ضياء ، وقيل : هو صفة أخرى للتوراة ، ( وذكرا ) تذكيرا ، ( للمتقين ( الذين يخشون ربهم بالغيب ) أي يخافونه ولم يروه ، ( وهم من الساعة مشفقون ) خائفون . ( وهذا ذكر مبارك أنزلناه ) يعني القرآن وهو ذكر لمن تذكر به ، مبارك يتبرك به ويطلب منه الخير ، ( أفأنتم ) يا أهل مكة ، ( له منكرون ) جاحدون وهذا استفهام توبيخ وتعبير . قوله عز وجل : ( ولقد آتينا إبراهيم رشده ) قال القرطبي : أي : صلاحه ، ( من قبل ) أي : من قبل موسى وهارون ، وقال المفسرون : رشده ، أي : هداه " من قبل " أي : من قبل البلوغ ، وهو حين خرج من السرب وهو صغير ، يريد هديناه صغيرا كما قال تعالى ليحيى عليه السلام : ( وآتيناه الحكم صبيا ) ( مريم : 12 ) ، ( وكنا به عالمين ) أنه أهل للهداية والنبوة .
[ ص: 323 ] ( إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ( 52 ) قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ( 53 ) قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ( 54 ) قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ( 55 ) قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين ( 56 ) وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ( 57 ) )
( إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل ) أي : الصور ، يعني الأصنام ( التي أنتم لها عاكفون ) أي : على عبادتها مقيمون . ( قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ) فاقتدينا بهم . ( قال ) إبراهيم ، ( لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ) خطأ بين بعبادتكم إياها . ( قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ) يعنون أجاد أنت فيما تقول أم [ أنت من اللاعبين؟ ] . ( قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن ) خلقهن ، ( وأنا على ذلكم من الشاهدين ) أي : على أنه الإله الذي لا يستحق العبادة غيره . وقيل : من الشاهدين على أنه خالق السموات والأرض . ( وتالله لأكيدن أصنامكم ) لأمكرن بها ، ( بعد أن تولوا مدبرين ) أي : بعد أن تدبروا منطلقين إلى عيدكم .
قال مجاهد وقتادة : إنما قال إبراهيم هذا سرا من قومه ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد فأفشاه عليه ، وقال : إنا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم .
قال السدي : كان لهم في كل سنة مجمع وعيد وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ، ثم عادوا إلى منازلهم ، فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له : يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا ، فخرج معهم إبراهيم ، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه ، وقال إني [ ص: 324 ] سقيم ، يقول أشتكي رجلي فلما مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس ، ( وتالله لأكيدن أصنامكم ) فسمعوها منه ، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهن في بهو عظيم ، مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه ، والأصنام بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو ، وإذا هم قد جعلوا طعاما فوضعوه بين يدي الآلهة ، وقالوا : إذا رجعنا وقد بركت الآلهة في طعامنا أكلنا ، فلما نظر إليهم إبراهيم وإلى ما بين أيديهم من الطعام ، قال لهم : على طريق الاستهزاء ألا تأكلون؟ ، فلما لم تجبه قال : ما لكم لا تنطقون؟ . فراغ عليهم ضربا باليمين ، وجعل يكسرهن في يده حتى إذا لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه ثم خرج فذلك قوله عز وجل .
ابو وليد البحيرى
2022-05-09, 01:39 AM
الحلقة (289)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
مَكِّيَّةٌ
الاية58 إلى الاية 78
( فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون ( 58 ) قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين ( 59 ) قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ( 60 ) قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون ( 61 ) )
( فجعلهم جذاذا ) قرأ الكسائي " جذاذا " بكسر الجيم أي كسرا وقطعا جمع جذيذ ، وهو الهشيم مثل خفيف وخفاف ، وقرأ الآخرون بضمه ، مثل الحطام والرفات ، ( إلا كبيرا لهم ) فإنه لم يكسره ووضع الفأس في عنقه ، وقيل ربطه بيده وكانت اثنين وسبعين صنما بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من حديد ورصاص وشبة وخشب وحجر ، وكان الصنم الكبير من الذهب مكللا بالجواهر في عينيه ياقوتتان تتقدان . قوله تعالى : ( لعلهم إليه يرجعون ) قيل : معناه لعلهم يرجعون إلى دينه وإلى ما يدعوهم إليه إذا علموا ضعف الآلهة وعجزها ، وقيل : لعلهم إليه يرجعون فيسألونه ، فلما رجع القوم من عيدهم إلى بيت آلهتهم ورأوا أصنامهم جذاذا . ( قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين ) أي : من المجرمين . ( قالوا ) يعني الذين سمعوا قول إبراهيم : ( وتالله لأكيدن أصنامكم ) ، ( سمعنا فتى يذكرهم ) يعيبهم ويسبهم ، ( يقال له إبراهيم ) هو الذي نظن صنع هذا ، فبلغ ذلك نمرود الجبار وأشراف قومه . ( قالوا فأتوا به على أعين الناس ) قال نمرود : يقول جيئوا به ظاهرا بمرأى من الناس ، ( لعلهم يشهدون ) عليه أنه الذي فعله ، كرهوا أن يأخذوه بغير بينة ، قال الحسن وقتادة والسدي ، وقال [ ص: 325 ] محمد بن إسحاق ( لعلهم يشهدون ) أي يحضرون عقابه وما يصنع به
( قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ( 62 ) قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ( 63 ) فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ( 64 ) )
فلما أتوا به ، ( قالوا ) له ( أأنت فعلت هذا بآلهتنا ياإبراهيم ) ؟ : . ( قال ) إبراهيم ، ( بل فعله كبيرهم هذا ) غضب من أن تعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرهن ، وأراد بذلك إبراهيم إقامة الحجة عليهم ، فذلك قوله : ( فاسألوهم إن كانوا ينطقون ) حتى يخبروا من فعل ذلك بهم .
قال القتيبي : معناه بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون على سبيل الشرط ، فجعل النطق شرطا للفعل ، أي : إن قدروا على النطق قدروا على الفعل ، فأراهم عجزهم عن النطق ، وفي [ ضمنه ] أنا فعلت .
وروي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله ( بل ) ويقول : معناه [ فعله ] من فعله ، والأول أصح لما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ، اثنتان منهن في ذات الله ، قوله : ( إني سقيم ) ( الصافات : 89 ) ، وقوله : ( بل فعله كبيرهم ) وقوله لسارة هذه أختي وقيل في قوله : ( إني سقيم ) أي : سأسقم ، وقيل : سقم القلب أي : مغتم بضلالتكم ، وقوله لسارة : هذه أختي أي في الدين ، وهذه التأويلات لنفي الكذب عن إبراهيم ، والأولى هو الأول للحديث فيه ، ويجوز أن يكون الله عز وجل أذن له في ذلك لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم ، كما أذن ليوسف حتى أمر مناديه فقال لإخوته : ( أيتها العير إنكم لسارقون ) ( يوسف : 70 ) . ولم يكونوا سرقوا . ( فرجعوا إلى أنفسهم ) أي فتفكروا بقلوبهم ، ورجعوا إلى عقولهم ، ( فقالوا ) ما نراه إلا كما قال : ( إنكم أنتم الظالمون ) يعني بعبادتكم من لا يتكلم . وقيل : أنتم الظالمون هذا الرجل في سؤالكم إياه وهذه آلهتكم حاضرة فاسألوها .
[ ص: 326 ] ( ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ( 65 ) قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ( 66 ) أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ( 67 ) قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ( 68 ) )
( ثم نكسوا على رءوسهم ) قال أهل التفسير : أجرى الله الحق على لسانهم في القول الأول ، ثم أدركتهم الشقاوة ، فهو معنى قوله : ( ثم نكسوا على رءوسهم ) أي ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم ، يقال نكس المريض إذا رجع إلى حاله الأول ، وقالوا : ( لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) فكيف نسألهم؟ فلما اتجهت الحجة لإبراهيم عليه السلام . ( قال ) لهم ، ( أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ) إن عبدتموه ، ( ولا يضركم ) إن تركتم عبادته . ( أف لكم ) أي تبا وقذرا لكم ، ( ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ) أي أليس لكم عقل تعرفون هذا ، فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب . ( قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ) أي : إن كنتم ناصرين لها .
قال ابن عمر رضي الله عنهما : إن الذي قال هذا رجل من الأكراد . وقيل : اسمه " هيزن " فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .
وقيل : قاله نمرود ، فلما أجمع نمرود وقومه على إحراق إبراهيم عليه السلام ، حبسوه في بيت ، وبنوا له بنيانا كالحظيرة .
وقيل : بنوا أتونا بقرية يقال لها " كوثى " ثم جمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب مدة حتى كان الرجل يمرض فيقول لئن عافاني الله لأجمعن حطبالإبراهيم ، وكانت المرأة تنذر في بعض ما تطلب لئن أصابته لتحطبن في نار إبراهيم ، وكان الرجل يوصي بشراء الحطب وإلقائه فيه ، وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها ، فتلقيه فيه احتسابا في دينها . [ ص: 327 ]
قال ابن إسحاق كانوا يجمعون الحطب شهرا فلما جمعوا ما أرادوا أشعلوا في كل ناحية من الحطب فاشتعلت النار واشتدت حتى أن كان الطير ليمر بها فيحترق من شدة وهجها ، فأوقدوا عليها سبعة أيام .
روي أنهم لم يعلموا كيف يلقونه فيها فجاء إبليس فعلمهم عمل المنجنيق فعملوا ، ثم عمدوا إلى إبراهيم فرفعوه على رأس البنيان وقيدوه ثم وضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين صيحة واحدة ، أي : ربنا إبراهيم خليلك يلقى في النار وليس في أرضك أحد يعبدك غيره فأذن لنا في نصرته ، فقال الله عز وجل : إنه خليلي ليس لي غيره ، وأنا إلهه وليس له إله غيري ، فإن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك ، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه ، فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه فقال : إن أردت أخمدت النار وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء ، فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل .
وروي عن أبي بن كعب أن إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ثم رموا به في المنجنيق إلى النار ، واستقبله جبريل فقال : يا إبراهيم لك حاجة؟ فقال أما إليك فلا قال جبريل : فاسأل ربك ، فقال إبراهيم حسبي من سؤالي علمه بحالي .
قال كعب الأحبار : جعل كل شيء يطفئ عنه النار إلا الوزغ فإنه كان ينفخ في النار .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبيد الله بن موسى وابن سلام عنه أخبرنا ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير عن سعيد بن المسيب عن أم شريك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ ، وقال : كان [ ص: 328 ] " ينفخ النار على إبراهيم " .
( قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ( 69 ) )
قال تعالى : ( قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) قال ابن عباس : لو لم يقل سلاما لمات إبراهيم من بردها ، ومن المعروف في الآثار أنه لم يبق يومئذ نار في الأرض إلا طفئت ، فلم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم ، ولو لم يقل وسلاما على إبراهيم بقيت ذات برد أبدا .
قال السدي : فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض ، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس .
قال كعب : ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه قالوا : وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام .
قال المنهال بن عمرو : قال إبراهيم ما كنت أياما قط أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار .
قال ابن يسار : وبعث الله عز وجل ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنب إبراهيم يؤنسه ، قالوا وبعث الله جبريل بقميص من حرير الجنة و فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه وقال جبريل : يا إبراهيم إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبائي .
ثم نظر نمرود وأشرف على إبراهيم من صرح له فرآه جالسا في روضة والملك قاعد إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب ، فناداه : يا إبراهيم كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى ، يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال : نعم ، قال : هل تخشى إن أقمت فيها أن تضرك؟ قال : لا قال : فقم فاخرج منها ، فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها ، فلما خرج إليه قال له : يا إبراهيم من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعدا إلى جنبك؟ قال : ذاك ملك الظل أرسله [ ص: 329 ] إلي ربي ليؤنسني فيها ، فقال نمرود : يا إبراهيم إني مقرب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة ، فقال له إبراهيم : إذا لا يقبل الله منك ما كنت على دينك حتى تفارقه إلى ديني ، فقال : لا أستطيع ترك ملكي . ولكن سوف أذبحها له فذبحها له نمرود ثم كف عن إبراهيم ، ومنعه الله منه . قال شعيب الجبائي : ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة .
( وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ( 70 ) ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ( 71 ) )
قوله عز وجل ( وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ) قيل معناه أنهم خسروا السعي والنفقة ولم يحصل لهم مرادهم
وقيل : معناه إن الله عز وجل أرسل على نمرود وعلى قومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ودخلت واحدة في دماغه فأهلكته قوله عز وجل : ( ونجيناه ولوطا ) من نمرود وقومه من أرض العراق ، ( إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) يعني الشام بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار ومنها بعث أكثر الأنبياء . وقال أبي بن كعب : سماها مباركة لأنه ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي هي ببيت المقدس .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، أن عمر بن الخطاب قال لكعب : ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبره فقال كعب : إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين إن الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده .
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أخبرنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق الديري ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 330 ] يقول " إنها ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم " .
وقال محمد بن إسحاق : استجاب لإبراهيم رجال قومه حين رأوا ما صنع الله به من جعل النار عليه بردا وسلاما على خوف من نمرود وملئهم وآمن به لوط ، وكان ابن أخيه وهو لوط بن هاران بن تارخ ، وهاران هو أخو إبراهيم وكان لهما أخ ثالث يقال له ناخور بن تارخ ، وآمنت به أيضا سارة وهي بنت عمه وهي سارة بنت هاران الأكبر ، عم إبراهيم فخرج من كوثى من أرض العراق مهاجرا إلى ربه ومعه لوط وسارة ، كما قال الله تعالى ( فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي ) ( العنكبوت 26 ) ، فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران فمكث بها ما شاء الله ثم خرج منها مهاجرا حتى قدم مصر ، ثم خرج من مصر إلى الشام ، فنزل السبع من أرض فلسطين ، وهي برية الشام ، ونزل لوط بالمؤتفكة وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة وأقرب فبعثه الله نبيا فذلك قوله تعالى : ( ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) .
( ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين ( 72 ) وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ( 73 ) )
( ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ) قال مجاهد وعطاء : معنى النافلة العطية وهما جميعا من عطاء الله نافلة يعني عطاء ، قال الحسن والضحاك : فضلا وعن ابن عباس وأبي بن كعب وأبي زيد وقتادة رضي الله عنهم النافلة هو يعقوب لأن الله عز وجل أعطاه إسحاق بدعائه حيث قال ( هب لي من الصالحين ) ( الصافات 100 ) ، وزاد يعقوب [ ولد الولد ] والنافلة الزيادة ( وكلا جعلنا صالحين ) يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب . ( وجعلناهم أئمة ) يقتدى بهم في الخير ( يهدون بأمرنا ) يدعون الناس إلى ديننا [ ص: 331 ] ( وأوحينا إليهم فعل الخيرات ) العمل بالشرائع ( وإقام الصلاة ) يعني المحافظة عليها ، ( وإيتاء الزكاة ) إعطاءها ( وكانوا لنا عابدين ) موحدين
( ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين ( 74 ) وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ( 75 ) ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ( 76 ) ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين ( 77 ) وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ( 78 ) )
( ولوطا آتيناه ) أي وآتينا لوطا ، وقيل واذكر لوطا آتيناه ، ( حكما ) يعني الفصل بين الخصوم بالحق ( ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث ) يعني سدوم وكان أهلها يأتون الذكران في أدبارهم ويتضارطون في أنديتهم مع أشياء أخر كانوا يعملون من المنكرات ( إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ) . ( ونوحا إذ نادى ) دعا ، ( من قبل ) أي من قبل إبراهيم ولوط ، ( فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ) قال ابن عباس : من الغرق وتكذيب قومه . وقيل لأنه كان أطول الأنبياء عمرا وأشدهم بلاء ، والكرب أشد الغم . ( ونصرناه ) منعناه ( من القوم الذين كذبوا بآياتنا ) أن يصلوا إليه بسوء وقال أبو عبيدة : أي على القوم ، ( إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين ) قوله عز وجل : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ) اختلفوا في الحرث قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وأكثر المفسرين كان الحرث كرما قد تدلت عناقيده وقال قتادة : كان زرعا ( إذ نفشت فيه غنم القوم ) أي رعته ليلا فأفسدته والنفش الرعي بالليل والهمل بالنهار [ ص: 332 ] وهما الرعي بلا راع ( وكنا لحكمهم شاهدين ) أي كان ذلك بعلمنا ومرأى منا لا يخفى علينا علمه قال الفراء : جمع اثنين فقال لحكمهم وهو يريد داود وسليمان لأن الاثنين جمع وهو مثل قوله ( فإن كان له إخوة فلأمه السدس ) ( النساء 11 ) ، وهو يريد أخوين .
قال ابن عباس وقتادة والزهري : وذلك أن رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم فقال صاحب الزرع إن هذا انفلتت غنمه ليلا ووقعت في حرثي فأفسدته فلم يبق منه شيء فأعطاه داود رقاب الغنم بالحرث فخرجا فمرا على سليمان فقال كيف قضى بينكما فأخبراه فقال سليمان : لو وليت أمرهما لقضيت بغير هذا .
وروي أنه قال غير هذا أرفق بالفريقين فأخبر بذلك داود فدعاه فقال كيف تقضي؟ ويروى أنه قال بحق النبوة والأبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين ، قال ادفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه فقال داود القضاء ما قضيت وحكم بذلك .
وقيل إن سليمان يوم حكم كان ابن إحدى عشرة سنة وأما حكم الإسلام [ في هذه المسألة ] أن ما أفسدت الماشية المرسلة بالنهار من مال الغير فلا ضمان على ربها وما أفسدت بالليل ضمنه ربها لأن في عرف الناس أن أصحاب الزرع يحفظونه بالنهار والمواشي تسرح بالنهار وترد بالليل إلى المراح .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي شهاب ، عن حرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدته فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضمانه على أهلها ، وذهب أصحاب الرأي إلى أن المالك إذا لم يكن معها فلا ضمان عليه فيما أتلفت ماشيته ليلا كان أو نهارا .
ابو وليد البحيرى
2022-05-09, 01:40 AM
الحلقة (290)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
مَكِّيَّةٌ
الاية79 إلى الاية 83
( ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ( 79 ) )
قوله عز وجل : ( ففهمناها سليمان ) أي علمناه القضية وألهمناها سليمان ، ( وكلا ) يعني داود وسليمان ، ( آتينا حكما وعلما ) قال الحسن : لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا ولكن الله حمد هذا بصوابه وأثنى على هذا باجتهاده . واختلف العلماء في أن حكم داود كان بالاجتهاد أم بالنص وكذلك حكم سليمان .
فقال بعضهم فعلا بالاجتهاد وقالوا يجوز الاجتهاد للأنبياء ليدركوا ثواب المجتهدين إلا أن داود أخطأ وأصاب سليمان . وقالوا يجوز الخطأ على الأنبياء إلا أنهم لا يقرون عليه فأما العلماء فلهم الاجتهاد في الحوادث إذا لم يجدوا فيها نص كتاب أو سنة وإذا أخطأوا فلا إثم عليهم [ فإنه موضوع عنهم ] لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد العزيز بن محمد ، عن يزيد بن عبد الله بن الهادي ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن بشر [ ص: 334 ] ابن سعيد ، عن أبي عن قيس مولى عمرو بن العاص ، عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر " .
وقال قوم إن داود وسليمان حكما بالوحي وكان حكم سليمان ناسخا لحكم داود ، وهذا القائل يقول لا يجوز للأنبياء الحكم بالاجتهاد لأنهم مستغنون عن الاجتهاد بالوحي وقالوا لا يجوز الخطأ على الأنبياء واحتج من ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب بظاهر الآية وبالخبر حيث وعد الثواب للمجتهد على الخطأ وهو قول أصحاب الرأي وذهب جماعة إلى أنه ليس كل مجتهد مصيبا بل إذا اختلف اجتهاد مجتهدين في حادثة كان الحق مع واحد لا بعينه ولو كان كل واحد مصيبا لم يكن للتقسيم معنى وقوله عليه السلام : " وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " ، لم يرد به أنه يؤجر على الخطأ بل يؤجر على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة والإثم في الخطأ عنه موضوع إذا لم يأل جهده .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرنا أبو الزناد ، عن عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كانت امرأتان معهما ابناهما فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت صاحبتها إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان وأخبرتاه فقال ائتوني بالسكين أشقه بينهما فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله فهو ابنها فقضى به للصغرى " .
قوله عز وجل ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ) أي وسخرنا الجبال والطير يسبحن مع داود إذا سبح قال ابن عباس : كان يفهم تسبيح الحجر والشجر قال وهب : كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير وقال قتادة : يسبحن أي يصلين معه إذا صلى وقيل : كان داود إذا فتر يسمعه الله تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه ( وكنا فاعلين ) [ ص: 335 ] يعني ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير
( وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ( 80 ) ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ( 81 ) )
( وعلمناه صنعة لبوس لكم ) والمراد باللبوس هنا الدروع لأنها تلبس وهو في اللغة اسم لكل ما يلبس ويستعمل في الأسلحة كلها وهو بمعنى الملبوس كالجلوس والركوب قال قتادة : أول من صنع الدروع وسردها وحلقها داود وكانت من قبل صفائح ، والدرع يجمع الخفة والحصانة ( لتحصنكم ) لتحرزكم وتمنعكم ( من بأسكم ) أي حرب عدوكم قال السدي : من وقع السلاح فيكم قرأ أبو جعفر وابن عامر وحفص عن عاصم ويعقوب : ( لتحصنكم ) بالتاء يعني الصنعة وقرأ أبو بكر عن عاصم بالنون لقوله ( وعلمناه ) وقرأ الآخرون بالياء جعلوا الفعل للبوس ، وقيل ليحصنكم الله عز وجل ( فهل أنتم شاكرون ) يقول لداود وأهل بيته وقيل يقول لأهل مكة فهل أنتم شاكرون نعمي بطاعة الرسول قوله عز وجل : ( ولسليمان الريح عاصفة ) أي وسخرنا لسليمان الريح وهي هواء متحرك وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه ويظهر للحس بحركته والريح يذكر ويؤنث عاصفة شديدة الهبوب فإن قيل قد قال في موضع آخر تجري بأمره رخاء والرخاء اللين؟ قيل كانت الريح تحت أمره إن أراد أن تشتد اشتدت وإن أراد أن تلين لانت ( تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها ) يعني الشام ، وذلك أنها كانت تجري لسليمان وأصحابه حيث شاء سليمان ، ثم تعود إلى منزله بالشام ، ( وكنا بكل شيء ) علمناه ، ( عالمين ) بصحة التدبير فيه علمنا أن ما يعطى سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه عز وجل
قال وهب بن منبه : كان سليمان عليه السلام إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره وكان امرءا غزاء قل ما يقعد عن الغزو ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله كان فيما يزعمون إذا أراد الغزو أمر بمعسكره فضرب بخشب ثم نصب له على الخشب ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصفة من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته حتى إذا استقلت به أمر الرخاء فمر به شهرا في روحته وشهرا في غدوته إلى حيث أراد وكانت تمر بعسكره الريح الرخاء وبالمزرعة [ ص: 336 ] فما تحركها ولا تثير ترابا ولا تؤذي طائرا . قال وهب : ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه [ كتبه ] بعض صحابة سليمان إما من الجن وإما من الإنس نحن نزلناه وما بنيناه مبنيا وجدناه غدونا من إصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء الله فبائتون بالشام .
قال مقاتل : نسجت الشياطين لسليمان بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم وكان يوضع له منبر من الذهب في وسط البساط فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة يقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين وتظله الطير بأجنحتها لا تقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح
وعن سعيد بن جبير قال : كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي فيجلس الإنس فيما يليه ثم يليهم الجن ثم تظلهم الطير ثم تحملهم الريح .
وقال الحسن : لما شغلت الخيل نبي الله سليمان عليه السلام حتى فاتته صلاة العصر غضب لله عز وجل فعقر الخيل فأبدله الله مكانها خيرا منها وأسرع الريح تجري بأمره كيف شاء فكان يغدو من إيلياء فيقيل بإصطخر ، ثم يروح منها فيكون رواحها ببابل .
وقال ابن زيد : كان له مركب من خشب وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه الجن والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب وإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به وبهم يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر ويمسي عند قوم بينه وبينهم شهر لا يدري القوم إلا وقد أظلهم معه الجيوش .
[ وروي أن سليمان سار من أرض العراق غاديا فقال بمدينة مرو ، وصلى العصر بمدينة بلخ ، تحمله وجنوده الريح وتظلهم الطير ثم سار من مدينة بلخ متخللا بلاد الترك ثم جاءهم إلى بلاد الصين يغدو على مسيرة شهر ويروح على مثل ذلك ثم عطف يمنة عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى على أرض القندهار ، وخرج منها إلى أرض مكران وكرمان ، ثم جاوزها حتى أتى أرض [ ص: 337 ] فارس فنزلها أياما وغدا منها فقال بكسكر ثم راح إلى الشام وكان مستقره بمدينة تدمر ، وكان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق ، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر وفي ذلك يقول النابغة :
إلا سليمان إذ قال المليك له قم في البرية فاحددها عن الفند
وجيش الجن أني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد
( ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين ( 82 ) وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ( 83 ) )
قوله عز وجل : ( ومن الشياطين ) أي وسخرنا له من الشياطين ( من يغوصون له ) أي يدخلون تحت الماء فيخرجون له من قعر البحر الجواهر ( ويعملون عملا دون ذلك ) أي دون الغوص وهو ما ذكر الله عز وجل ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ) ( سبأ 13 ) الآية . ( وكنا لهم حافظين ) حتى لا يخرجوا من أمره وقال الزجاج : معناه حفظناهم من أن يفسدوا ما عملوا وفي القصة أن سليمان كان إذا بعث شيطانا مع إنسان ليعمل له عملا قال له إذا فرغ من عمله قبل الليل أشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل وكان من عادة الشياطين أنهم إذا فرغوا من العمل ولم يشتغلوا بعمل آخر خربوا ما عملوا وأفسدوه قوله عز وجل : ( وأيوب إذ نادى ربه ) أي دعا ربه ، قال وهب بن منبه : كان أيوب عليه السلام رجلا من الروم وهو أيوب بن أموص بن رازخ بن روم بن عيس بن إسحاق بن إبراهيم ، وكانت أمه من أولاد لوط بن هاران ، وكان الله قد اصطفاه ونبأه وبسط عليه الدنيا وكانت له البثنية من أرض الشام ، كلها سهلها وجبلها وكان له فيها من أصناف المال كله من البقر والإبل والغنم والخيل والحمر ما لا يكون لرجل أفضل منه من العدة والكثرة وكان له خمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال ويحمل آلة كل فدان أتان لكل أتان ولد من اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك وكان الله عز وجل أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء وكان برا تقيا رحيما بالمساكين يطعم المساكين ويكفل الأرامل والأيتام ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل وكان شاكرا لأنعم الله مؤديا لحق الله قد امتنع من عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الغرة والغفلة والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا [ ص: 338 ] به وصدقوه رجل من أهل اليمن يقال له اليقن ، ورجلان من أهل بلدة يقال لأحدهما يلدد والآخر صافر وكانوا كهولا وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات وكان يقف فيهن حيث ما أراد حتى رفع الله عيسى فحجب عن أربع سموات فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حجب من الثلاث الباقية فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب ، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه فأدركه البغي والحسد فصعد سريعا حتى وقف من السماء موقفا كان يقفه فقال إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك ولخرج من طاعتك قال الله تعالى انطلق فقد سلطتك على ماله فانقض عدو الله إبليس حتى وقع إلى الأرض ثم جمع عفاريت الجن ومردة الشياطين وقال لهم ماذا عندكم من القوة فإني قد سلطت على مال أيوب ، وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال فقال عفريت من الشياطين أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من نار وأحرقت كل شيء آتي عليه قال له إبليس فأت الإبل ورعاءها فأتى الإبل حين وضعت رءوسها وثبتت في مراعيها فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها أحد إلا احترق فأحرق الإبل ورعاءها حتى أتى على آخرها ثم جاء عدو الله إبليس في صورة قبيحة على قعود إلى أيوب فوجده قائما يصلي فقال يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فيها غيري فقال أيوب : الحمد لله الذي هو أعطاها وهو أخذها وقديما ما وطنت مالي ونفسي على الفناء فقال إبليس فإن ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت فتركت الناس مبهوتين يتعجبون منها منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور ومنهم من يقول لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئا لمنع [ وليه ] ومنهم من يقول بل هو الذي فعل ليشمت به عدوه ويفجع به صديقه
قال أيوب : الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني عريانا خرجت من بطن أمي وعريانا أعود في التراب وعريانا أحشر إلى الله ليس لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته منك الله أولى بك وبما أعطاك ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيدا ولكنه علم منك شرا فأخرك فرجع إبليس إلى أصحابه [ خائبا ] خاسئا ذليلا فقال لهم ماذا عندكم من القوة؟ فإني لم أكلم قلبه؟ قال عفريت عندي من القوة ما شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه فقال إبليس فأت الغنم ورعاتها فانطلق حتى توسطها [ ص: 339 ] ثم صاح صيحة فتجثمت أمواتا عن آخرها ومات رعاؤها ثم جاء إبليس متمثلا بقهرمان الرعاة إلى أيوب وهو يصلي فقال له مثل القول الأول فرد عليه أيوب مثل الرد الأول ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب ، فقال عفريت عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحا عاصفا تنسف كل شيء تأتي عليه قال فأت الفدادين والحرث فانطلق ولم يشعروا حتى هبت ريح عاصف فنسفت كل شيء من ذلك حتى كأنه لم يكن ثم جاء إبليس متمثلا بقهرمان الحرث إلى أيوب وهو قائم يصلي فقال له مثل القول الأول فرد عليه أيوب مثل رده الأول كلما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن الثناء عليه ورضي منه بالقضاء ووطن نفسه بالصبر على البلاء حتى لم يبق له مال
فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله صعد [ إلى السماء ] فقال إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بولده فأنت معطيه المال فهل مسلطي على ولده فإنها المصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال قال الله تعالى انطلق فقد سلطتك على ولده فانقض عدو الله حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده ثم جعل يناطح جدره بعضها ببعض ويرميهم بالخشب والجندل حتى إذا مثل بهم كل مثلة رفع القصر فقلبه فصاروا منكسين وانطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مخدوش الوجه يسيل دمه ودماغه فأخبره ، وقال لو رأيت بنيك كيف عذبوا وقلبوا فكانوا منكسين على رءوسهم تسيل دماؤهم ودماغهم ولو رأيت كيف شقت بطونهم وتناثرت أمعاؤهم لقطع قلبك فلم يزل يقول هذا ونحوه حتى رق أيوب فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه وقال ليت أمي لم تلدني فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا به ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته فسبقت توبته إلى الله وهو أعلم فوقف إبليس ذليلا فقال يا إلهي إنما هون على أيوب المال والولد أنه يرى منك أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد فهل أنت مسلطي على جسده؟ فقال الله عز وجل انطلق فقد سلطتك على جسده ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه وكان الله عز وجل أعلم به لم يسلطه عليه إلا رحمة له ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر ورجاء للثواب فانقض عدو الله سريعا فوجد أيوب ساجدا فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل وجوهه فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها [ جميع ] جسده فخرج من قرنه إلى قدمه تآليل مثل أليات [ ص: 340 ] الغنم فوقعت فيه حكة فحك بأظفاره حتى سقطت كلها ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة فلم يزل يحكها حتى نغل لحمه وتقطع وتغير وأنتن وأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشا فرفضه خلق الله كلهم غير امرأته وهي رحمة بنت أفراثيم بن يوسف بن يعقوب كانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه فلما رأى الثلاثة من أصحابه وهم يقن ويلدد وصافر ما ابتلاه الله به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه فلما طال به البلاء انطلقوا إليه فبكتوه ولاموه وقالوا له تب إلى الله من الذنب الذي عوقبت به ، قال وحضره معهم فتى حديث السن قد آمن به وصدقه فقال لهم إنكم تكلمتم أيها الكهول وكنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم ولكن قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمم أفضل من الذي وصفتم فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم؟ ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وخيرته من خلقه وصفوته من أهل الأرض إلى يومكم هذا ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله من أمره على أنه قد سخط عليه شيئا من أمره منذ آتاه الله ما آتاه إلى يومكم هذا ولا على أنه نزع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه بها ولا أن أيوب قال على الله غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله يبتلي المؤمنين والصديقين والشهداء والصالحين وليس بلاؤه لأولئك بدليل على سخطه عليهم ولا لهوانه لهم ولكنه كرامة وخيرة لهم ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحليم أن [ يعذل ] أخاه عند البلاء ولا يعيره بالمصيبة ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين ولكنه يرحمه ويبكي معه ويستغفر له ويحزن لحزنه ويدله على مراشد أمره وليس بحليم ولا رشيد من جهل هذا فالله الله أيها الكهول وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ويكسر قلوبكم ألم تعلموا أن لله عبادا أسكتتهم خشية من غير عي ولا بكم وأنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم واقشعرت جلودهم وانكسرت قلوبهم وطاشت عقولهم إعظاما وإجلالا لله عز وجل فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله عز وجل بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين وإنهم لأبرار برءاء ومع المقصرين والمفرطين وإنهم لأكياس أقوياء فقال أيوب : إن الله عز وجل يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير فمتى نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان وليست تكون الحكمة من قبل السن والشيبة [ ص: 341 ] ولا طول التجربة وإذا جعل الله العبد حكيما في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء وهم يرون من الله سبحانه عليه نور الكرامة ثم أعرض عنهم أيوب وأقبل على ربه مستغيثا به متضرعا إليه فقال رب لأي شيء خلقتني ليتني إذ كرهتني لم تخلقني يا ليتني قد عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي الكرام فالموت كان أجمل بي ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليا وللأرملة قيما إلهي أنا عبدك إن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي جعلتني عرضا وللفتنة نصبا وقد وقع علي بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي وإن قضاءك هو الذي أذلني وإن سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي بما كان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي ولكنه ألقاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه ويسمعني ولا أسمعه لا نظر إلي فيرحمني ولا دنا مني ولا أدناني فأدلي بعذري وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب أليم ثم نودي يا أيوب إن الله عز وجل يقول ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريبا قم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد إزرك وقم مقام جبار يخاصم جبارا إن استطعت فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي لقد منتك نفسك يا أيوب أمرا ما تبلغ بمثل قوتك أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها هل كنت معي تمد بأطرافها؟ وهل علمت بأي مقدار قدرتها أم على أي شيء وضعت أكنافها؟ أبطاعتك حمل الماء الأرض أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء [ ص: 342 ] سقفا في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها ولا يقلها دعم من تحتها حتى تبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسير نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ أين أنت مني يوم نبعت الأنهار وسكرت البحار أسلطانك حبس أمواج البحار على حدودها؟ أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال؟ هل تدري على أي شيء أرسيتها؟ وبأي مثقال وزنتها أم هل لك من ذراع تطيق حملها؟ أم هل تدري من أين الماء الذي أنزلت من السماء؟ أم هل تدري من أي شيء أنشيء السحاب؟ أم هل تدري أين خزائن الثلج؟ أم أين جبال البرد أم أين خزانة الليل بالنهار [ وخزانة النهار بالليل ] ؟ وأين خزانة الريح؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار؟ ومن جعل العقول في أجواف الرجال؟ ومن شق الأسماع والأبصار؟ ومن ذلت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته؟ وقسم الأرزاق بحكمته؟ في كلام كثير من آثار قدرته ذكرها لأيوب ، فقال أيوب : صغر شأني وكل لساني وعقلي ورائي وضعفت قوتي عن هذا الأمر الذي تعرض لي يا إلهي قد علمت أن كل الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من ذلك وأعجب لو شئت عملت لا يعجزك شيء ولا يخفى عليك خافية إذ لقيني البلاء ، يا إلهي فتكلمت ولم أملك لساني وكان البلاء هو الذي أنطقني فليت الأرض انشقت لي فذهبت فيها ولم أتكلم بشيء يسخط ربي وليتني مت بغمي في أشد بلائي قبل ذلك إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني وسكت حين سكت لترحمني كلمة زلت مني فلن أعود وقد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خدي أعوذ بك اليوم منك وأستجيرك من جهد البلاء فأجرني وأستغيث بك من عقابك فأغثني وأستعين بك على أمري فأعني وأتوكل عليك فاكفني وأعتصم بك فاعصمني وأستغفرك فاغفر لي فلن أعود لشيء تكرهه مني قال الله تعالى يا أيوب نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي فقد غفرت لك ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلقت آية وتكون عبرة لأهل البلاء وعزاء للصابرين فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك وقرب عن أصحابك قربانا فاستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها فاغتسل فأذهب الله عنه كل ما كان به من البلاء ثم خرج فجلس فأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه فلم تجده فقامت كالوالهة مترددة ثم قالت يا عبد الله هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان هاهنا؟ قال لها هل تعرفينه إذا رأيتيه؟ قالت نعم وما لي لا أعرفه فتبسم وقال أنا هو فعرفته بضحكه فاعتنقته . قال ابن عباس : فوالذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى مر [ ص: 343 ] بهما كل مال لهما وولد .
فذلك قوله تعالى ( وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر ) واختلفوا في وقت ندائه والسبب الذي قال لأجله إني مسني الضر وفي مدة بلائه
روى ابن شهاب عن أنس يرفعه أن أيوب لبث في بلائه ثماني عشرة سنة .
وقال وهب : لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين لم يزد يوما .
وقال كعب : كان أيوب في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام .
وقال الحسن : مكث أيوب مطروحا على كناسة في مزبلة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف فيه الدواب لا يقربه أحد غير رحمة صبرت معه بصدق وتأتيه بطعام وتحمد الله معه إذا حمد وأيوب على ذلك لا يفتر عن ذكر الله والصبر على ابتلائه فصرخ إبليس صرخة جمع بها جنوده من أقطار الأرض فلما اجتمعوا إليه قالوا له حزنك؟ قال أعياني هذا العبد الذي لم أدع له مالا ولا ولدا فلم يزد إلا صبرا ثم سلطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة لا يقربه إلا امرأته فاستعنت بكم لتعينوني عليه فقالوا له أين مكرك الذي أهلكت به من مضى؟ قال : بطل ذلك كله في أيوب فأشيروا علي قالوا نشير عليك من أين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال من قبل امرأته قالوا فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها وليس أحد يقربه غيرها قال : أصبتم فانطلق حتى أتى امرأته وهي تصدق فتمثل لها في صورة رجل فقال أين بعلك يا أمة الله؟ قالت هو ذاك يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع فوسوس إليها وذكرها ما كانت فيه من النعم والمال وذكرها جمال أيوب وشبابه وما هو فيه من الضر وأن ذلك لا ينقطع عنهم أبدا ، قال الحسن فصرخت فلما صرخت علم أن قد جزعت فأتاها بسخلة وقال ليذبح هذه لي أيوب ويبرأ فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك أين المال أين الولد أين الصديق أين لونك الحسن أين جسمك [ الحسن ] اذبح هذه السخلة واسترح قال أيوب أتاك عدو الله فنفخ فيك ويلك أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والصحة من أعطانيه؟ قالت الله قال فكم متعنا به؟ قالت ثمانين سنة ، قال فمنذ كم ابتلانا؟ قالت منذ سبع سنين وأشهر قال ويلك [ ص: 344 ] ما أنصفت ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة أمرتيني أن أذبح لغير الله طعامك وشرابك الذي أتيتني به علي حرام [ أو حرام علي ] أن أذوق شيئا مما تأتيني به بعد إذ قلت لي هذا ، فاغربي عني فلا أراك فطردها فذهبت فلما نظر أيوب وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خر ساجدا وقال رب ( إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) فقيل له ارفع رأسك فقد استجيب لك اركض برجلك فركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها فلم يبق عليه من دائه شيء ظاهر إلا سقط وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ما كان ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج فقام صحيحا وكسي حلة ، قال فجعل يلتفت فلا يرى شيئا مما كان له من أهل ومال إلا وقد أضعفه الله حتى والله ذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب فجعل يضمه بيده فأوحى الله إليه يا أيوب ألم أغنك؟ قال بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها قال فخرج حتى جلس على مكان مشرف ثم إن امرأته قالت أرأيتك إن كان طردني إلى من أكله؟ أدعه يموت جوعا ويضيع فتأكله السباع لأرجعن إليه فلا كناسة ترى ولا تلك الحالة التي كانت وإذا الأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وذلك بعين أيوب ، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأله عنه فدعاها أيوب فقال ما تريدين يا أمة الله فبكت وقالت أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذا على الكناسة لا أدري أضاع أم ما فعل فقال أيوب : ما كان منك فبكت وقالت بعلي ، قال فهل تعرفينه إذا رأيتيه؟ فقالت وهل يخفى على أحد رآه؟ ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه ثم قالت أما أنه أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحا قال فإني أنا أيوب الذي أمرتني أن أذبح لإبليس وإني أطعت الله وعصيت الشيطان ودعوت الله سبحانه فرد علي ما ترين .
وقال وهب : لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين فلما غلب أيوب إبليس ولم يستطع منه شيئا اعترض امرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس [ من ] مراكب الناس له عظم وبهاء وكمال فقال لها أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى؟ قالت نعم قال فهل تعرفيني؟ قالت لا قال أنا إله الأرض وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان لكما من مال وولد فإنه عندي ثم أراها إياهم ببطن الوادي الذي لقيها فيه قال وهب : وقد سمعت [ ص: 345 ] أنه إنما قال لها لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسم الله عليه لعوفي مما به من البلاء والله أعلم وفي بعض الكتب إن إبليس قال لها اسجدي لي سجدة حتى أرد عليك المال والأولاد وأعافي زوجك فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها [ وما أراها ] قال لقد أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك ثم أقسم [ إن عافاه الله ] ليضربنها مائة جلدة وقال عند ذلك مسني الضر من طمع إبليس في سجود حرمتي له ودعائه إياها وإياي إلى الكفر ثم إن الله عز وجل رحم [ رحمة ] امرأة أيوب بصبرها معه على البلاء وخفف عليها وأراد أن يبر يمين أيوب ، فأمره أن يأخذ ضغثا يشتمل على مائة عود صغار فيضربها به ضربة واحدة كما قال تعالى وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ( ص : 44 ) ، وروي أن إبليس اتخذ تابوتا وجعل فيه أدوية وقعد على طريق امرأته يداوي الناس فمرت به امرأة أيوب فقالت [ يا شيخ ] إن لي مريضا أفتداويه؟ قال نعم [ والله ] لا أريد شيئا إلا أن يقول إذا شفيته أنت شفيتني فذكرت ذلك لأيوب فقال هو إبليس قد خدعك وحلف إن شفاه الله أن يضربها مائة جلدة .
وقال وهب وغيره كانت امرأة أيوب تعمل للناس وتجيئه بقوته فلما طال عليه البلاء وسئمها الناس فلم يستعملها أحد التمست له يوما من الأيام ما تطعمه فما وجدت شيئا فجزت قرنا من رأسها فباعته برغيف فأتته به فقال لها أين قرنك؟ فأخبرته فحينئذ قال ( مسني الضر )
وقال قوم إنما قال ذلك حين قصدت الدود إلى قلبه ولسانه فخشي أن يفتر عن الذكر والفكر
وقال حبيب بن أبي ثابت : لم يدع الله بالكشف عنه حتى ظهرت له ثلاثة أشياء أحدها قدم عليه صديقان حين بلغهما خبره فجاءا إليه ولم يبق له إلا عيناه ورأيا أمرا عظيما فقالا لو كان لك عند الله منزلة ما أصابك هذا والثاني أن امرأته طلبت طعاما فلم تجد ما تطعمه فباعت ذؤابتها وحملت إليه طعاما والثالث قول إبليس إني أداويه على أن يقول أنت شفيتني
وقيل إن إبليس وسوس إليه أن امرأتك زنت فقطعت ذؤابتها فحينئذ عيل صبره فدعا وحلف ليضربنها مائة جلدة . وقيل معناه مسني الضر من شماتة الأعداء حتى روي أنه قيل له [ بعدما [ ص: 346 ] عوفي ] ما كان أشد عليك في بلائك قال شماتة الأعداء . وقيل قال ذلك حين وقعت دودة من فخذه فردها إلى موضعها
وقال كلي : فقد جعلني الله طعامك فعضته عضة زاد ألمها على جميع ما قاسى من عض الديدان فإن قيل إن الله سماه صابرا وقد أظهر الشكوى والجزع بقوله : ( إني مسني الضر ) و ( مسني الشيطان بنصب ) ( ص 41 ) ، قيل ليس هذا شكاية إنما هو دعاء بدليل قوله تعالى ( فاستجبنا له ) على أن الجزع إنما هو في الشكوى إلى الخلق فأما الشكوى إلى الله عز وجل فلا يكون جزعا ولا ترك صبر كما قال يعقوب : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) ( يوسف 86 ) . قال سفيان بن عيينة : وكذلك من أظهر الشكوى إلى الناس وهو راض بقضاء الله لا يكون ذلك جزعا كما روي أن جبريل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فقال كيف تجدك؟ قال " أجدني مغموما وأجدني مكروبا " .
وقال لعائشة حين قالت وارأساه ، " بل أنا وارأساه " .
ابو وليد البحيرى
2022-05-27, 10:23 PM
الحلقة (291)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
مَكِّيَّةٌ
الاية84 إلى الاية 96
( فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ( 84 ) )
قوله عز وجل ( فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر ) وذلك أنه قال اركض برجلك فركض برجله فنبعت عين [ ماء ] فأمره أن يغتسل منها ففعل فذهب كل داء كان بظاهره ثم مشى أربعين خطوة فأمره أن يضرب برجله الأرض مرة أخرى ففعل فنبعت عين ماء بارد فأمره فشرب منها فذهب كل داء كان بباطنه فصار كأصح ما يكون من الرجال وأجملهم
( وآتيناه أهله ومثلهم معهم ) واختلفوا في ذلك فقال ابن مسعود وقتادة ، وابن عباس ، والحسن ، وأكثر المفسرين رد الله عز وجل إليه أهله وأولاده بأعيانهم أحياهم الله له وأعطاه مثلهم معهم وهو ظاهر القرآن .
قال الحسن : آتاه الله المثل من نسل ماله الذي رده الله [ إليه وأهله ] يدل عليه ما روى [ ص: 347 ] الضحاك وابن عباس أن الله عز وجل رد إلى المرأة شبابها فولدت له ستة وعشرين ذكرا .
قال وهب كان له سبع بنات وثلاثة بنين
وقال ابن يسار : كان له سبع بنين وسبع بنات
وروي عن أنس يرفعه أنه كان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله عز وجل سحابتين فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاض .
وروي أن الله تعالى بعث إليه ملكا وقال إن ربك يقرئك السلام بصبرك فاخرج إلى أندرك فخرج إليه فأرسل الله عليه جرادا من ذهب فطارت واحدة فاتبعها وردها إلى أندره فقال له الملك أما يكفيك ما في أندرك؟ فقال هذه بركة من بركات ربي ولا أشبع من بركته .
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أخبرنا محمد بن الحسين القطان ، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن همام بن منبه ، قال أخبرنا أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينا أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه [ يا أيوب ] ألم أكن أغنيك عما ترى؟ قال بلى يا رب وعزتك ولكن لا غنى بي عن بركتك " . وقال قوم أتى الله أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا فأما الذين هلكوا فإنهم لم يردوا عليه في الدنيا قال عكرمة : قيل لأيوب : إن أهلك لك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا فقال يكونون لي في الآخرة وأوتى مثلهم في الدنيا فعلى هذا يكون معنى الآية وآتيناه أهله في الآخرة ومثلهم معهم في الدنيا وأراد بالأهل الأولاد ( رحمة من عندنا ) أي نعمة من عندنا ، ( وذكرى للعابدين ) أي عظة وعبرة لهم
[ ص: 348 ] ( وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين ( 85 ) )
قوله عز وجل : ( وإسماعيل ) يعني ابن إبراهيم ، ( وإدريس ) وهو أخنوخ ، ( وذا الكفل كل من الصابرين ) على أمر الله واختلفوا في ذا الكفل .
قال عطاء : إن نبيا من أنبياء بني إسرائيل أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك فاعرض ملكك على بني إسرائيل فمن تكفل لك أن يصلي بالليل لا يفتر ويصوم بالنهار ولا يفطر ويقضي بين الناس ولا يغضب فادفع ملكك إليه ففعل ذلك فقام شاب فقال أنا أتكفل لك بهذا فتكفل ووفى به فشكر الله له ونبأه فسمي ذا الكفل .
وقال مجاهد : لما كبر اليسع قال [ لو ] أني أستخلف رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل قال فجمع الناس فقال من يتقبل مني بثلاث أستخلفه يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب فقام رجل تزدريه العين فقال أنا فرده ذلك اليوم وقال مثلها اليوم الآخر فسكت الناس وقام ذلك الرجل فقال : أنا فاستخلفه فأتاه إبليس في صورة شيخ ضعيف حين أخذ مضجعه للقائلة وكان لا ينام بالليل [ والنهار ] إلا تلك النومة فدق الباب فقال من هذا؟ قال شيخ كبير مظلوم فقام ففتح الباب فقال إن بيني وبين قومي خصومة وإنهم ظلموني وفعلوا وفعلوا فجعل يطول حتى حضر الرواح وذهبت القائلة ، فقال إذا رحت فائتني [ فإني ] آخذ حقك فانطلق وراح فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ فلم يره فقام يبتغيه فلما كان الغد جلس يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدق الباب فقال من هذا؟ فقال الشيخ المظلوم ففتح [ له الباب ] فقال ألم أقل لك إذا قعدت فائتني؟ فقال إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك وإذا قمت جحدوني قال فانطلق فإذا رحت فائتني ففاتته القائلة وراح فجعل ينظر فلا يراه فشق عليه النعاس فقال لبعض أهله لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإنه قد شق علي النوم فلما كان تلك الساعة جاء فلم يأذن له الرجل فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها فإذا هو في البيت يدق الباب من داخل فاستيقظ فقال يا فلان ألم آمرك ، فقال أما من قبلي فلم تؤت فانظر من أين أتيت فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه وإذا الرجل معه في البيت فقال أتنام والخصوم ببابك؟ فعرفه فقال أعدو [ ص: 349 ] الله؟ قال نعم أعييتني ففعلت ما ترى لأغضبك فعصمك الله فسمي ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به .
وقيل إن إبليس جاءه وقال إن لي غريما يمطلني فأحب أن تقوم معي وتستوفي حقي منه فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب وروي أنه اعتذر إليه وقال إن صاحبي هرب
وقيل إن ذا الكفل رجل كفل أن يصلي كل ليلة مائة ركعة إلى أن يقبضه الله فوفى به .
واختلفوا في أنه كان نبيا ، فقال بعضهم كان نبيا . وقيل هو إلياس . وقيل : زكريا . وقال أبو موسى : لم يكن نبيا ولكن كان عبدا صالحا .
( وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ( 86 ) وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ( 87 ) )
( وأدخلناهم في رحمتنا ) يعني ما أنعم الله عليهم من النبوة وصيرهم إليه في الجنة من الثواب ( إنهم من الصالحين ) قوله عز وجل ( وذا النون ) أي اذكر صاحب الحوت وهو يونس بن متى ، ( إذ ذهب مغاضبا ) اختلفوا في معناه
فقال الضحاك : مغاضبا لقومه وهو رواية العوفي وغيره عن ابن عباس ، قال كان يونس وقومه يسكنون فلسطين 1 فغزاهم ملك فسبى منهم تسعة أسباط ونصفا وبقي سبط ونصف فأوحى الله إلى شعياء النبي أن سر إلى حزقيل الملك وقل له حتى يوجه نبيا قويا فإني ألقي [ الرعب ] في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل ، فقال له الملك فمن ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء فقال يونس : إنه قوي أمين فدعا الملك يونس فأمره أن يخرج فقال له يونس : هل أمرك الله بإخراجي؟ قال لا قال فهل سماني لك؟ قال لا قال فهاهنا غيري أنبياء أقوياء فألحوا [ ص: 350 ] عليه فخرج من بينهم مغاضبا للنبي وللملك ولقومه فأتى بحر الروم فركبه .
وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وجماعة ذهب عن قومه مغاضبا لربه إذ كشف عن قومه العذاب بعدما أوعدهم وكره أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما أوعدهم واستحيا منهم ولم يعلم السبب الذي به رفع العذاب وكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده وأنه يسمى كذابا لا كراهية لحكم الله تعالى .
وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد فغضب والمغاضبة هاهنا كالمفاعلة التي تكون من واحد كالمسافرة والمعاقبة فمعنى قوله مغاضبا أي : غضبان
وقال الحسن : إنما غضب ربه عز وجل من أجل أنه أمره بالمسير إلى قومه لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه فسأل ربه أن ينظره ليتأهب للشخوص إليهم فقيل له إن الأمر أسرع من ذلك حتى سأل أن ينظر إلا أن يأخذ نعلا يلبسها فلم ينظر وكان في خلقه ضيق [ فذهب مغاضبا ] .
وعن ابن عباس ، قال أتى جبريل يونس فقال انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم قال ألتمس دابة قال الأمر أعجل من ذلك فغضب فانطلق إلى السفينة .
وقال وهب بن منبه : إن يونس بن متى كان عبدا صالحا وكان في خلقه ضيق فلما حمل عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل فقذفها من يده وخرج هاربا منها فلذلك أخرجه الله من أولي العزم من الرسل وقال لنبيه [ محمد صلى الله عليه وسلم ] ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ) ( الأحقاف 35 ) ، وقال : ( ولا تكن كصاحب الحوت ) ( القلم 48 ) . [ ص: 351 ]
قوله عز وجل ( فظن أن لن نقدر عليه ) أي لن نقضي بالعقوبة قاله مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس يقال قدر الله الشيء تقديرا وقدر يقدر قدرا بمعنى واحد ومنه قوله : ( نحن قدرنا بينكم الموت ) ( الواقعة 60 ) في قراءة من قرأها بالتخفيف دليل هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري : " فظن أن لن نقدر عليه " بالتشديد وقال عطاء وكثير من العلماء معناه فظن أن لن نضيق عليه الحبس من قوله تعالى : ( الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) ( الرعد : 26 ) ، أي يضيق وقال ابن زيد : هو استفهام معناه أفظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه وقرأ يعقوب يقدر [ بضم الياء ] على المجهول خفيفا
وعن الحسن قال بلغني أن يونس لما أصاب الذنب انطلق مغاضبا لربه واستزله الشيطان حتى ظن أن لن نقدر عليه وكان له سلف وعبادة فأبى الله أن يدعه للشيطان فقذفه في بطن الحوت فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة . وقال عطاء : سبعة أيام [ وقيل ثلاثة أيام ] . وقيل إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة . وقيل بلغ به تخوم الأرض السابعة فتاب إلى ربه تعالى في بطن الحوت وراجع نفسه فقال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين حين عصيتك وما صنعت من شيء فلن أعبد غيرك فأخرجه الله من بطن الحوت برحمته والتأويلات المتقدمة أولى بحال الأنبياء أنه ذهب مغاضبا لقومه أو للملك ( فنادى في الظلمات ) أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت ( أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين )
وروي عن أبي هريرة مرفوعا أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر له عظما فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه ما هذا؟ فأوحى الله إليه أن هذا تسبيح دواب البحر ، قال فسبح وهو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا يا ربنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة وفي رواية صوتا معروفا من مكان مجهول ، فقال ذاك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت فقالوا العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال نعم فشفعوا له عند ذلك [ ص: 352 ] فأمر الحوت فقذفه إلى الساحل كما قال الله تعالى ( فنبذناه بالعراء وهو سقيم ) ( الصافات 145 ) .
( فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ( 88 ) وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ( 89 ) )
فلذلك قوله عز وجل ( فاستجبنا له ) يعني أجبناه ، ( ونجيناه من الغم ) من تلك الظلمات ، ( وكذلك ننجي المؤمنين ) من كل كرب إذا دعونا واستغاثوا بنا قرأ ابن عامر وعاصم برواية أبي بكر : " نجي " بنون واحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء لأنها مكتوبة في المصحف بنون واحدة واختلف النحاة في هذه القراءة فذهب أكثرهم إلى أنها لحن لأنه لو كان على ما لم يسم فاعله لم تسكن الياء ورفع المؤمنون ومنهم من صوبها وذكر الفراء أن لها وجها آخر وهو إضمار المصدر أي نجا النجاء المؤمنين ونصب المؤمنين كقولك ضرب الضرب زيدا ثم تقول ضرب زيدا بالنصب على إضمار المصدر وسكن الياء في " نجي " كما يسكنون في بقي ونحوها ، قال القتيبي من قرأ بنون واحدة والتشديد فإنما أراد ننجي من التنجية إلا أنه أدغم وحذف نونا طلبا للخفة ولم يرضه النحويون لبعد مخرج النون من الجيم والإدغام يكون عند قرب المخرج وقراءة العامة ( ننجي ) بنونين من الإنجاء وإنما كتبت بنون واحدة لأن النون الثانية كانت ساكنة والساكن غير ظاهر على اللسان فحذفت كما فعلوا في إلا حذفوا النون من إن لخفائها واختلفوا في أن رسالة يونس متى كانت ؟ فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : كانت بعد أن أخرجه الله من بطن الحوت بدليل أن الله عز وجل ذكره في سورة الصافات ، ( فنبذناه بالعراء ) ( الصافات 145 ) ، ثم ذكر بعده ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) ( الصافات 147 ) ، وقال الآخرون إنها كانت من قبل بدليل قوله تعالى ( وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون ) ( الصافات 139 - 140 ) . قوله عز وجل ( وزكريا إذ نادى ربه ) دعا ربه ( رب لا تذرني فردا ) وحيدا لا ولد لي وارزقني وارثا ( وأنت خير الوارثين ) ثناء على الله بأنه الباقي بعد فناء الخلق وأنه أفضل من بقي حيا
[ ص: 353 ] ( فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ( 90 ) والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ( 91 ) إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ( 92 )
( فاستجبنا له ووهبنا له يحيى ) ولدا ( وأصلحنا له زوجه ) أي جعلناها ولودا بعد ما كانت عقيما قاله أكثر المفسرين وقال بعضهم كانت سيئة الخلق فأصلحها له بأن رزقها حسن الخلق . ( إنهم ) يعني الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة ( كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ) طمعا ( ورهبا ) خوفا رغبا من رحمة الله ورهبا من عذاب الله ( وكانوا لنا خاشعين ) أي متواضعين قال قتادة : ذللا لأمر الله قال مجاهد : الخشوع هو الخوف اللازم في القلب . ( والتي أحصنت فرجها ) حفظت من الحرام وأراد مريم بنت عمران ، ( فنفخنا فيها من روحنا ) أي أمرنا جبرائيل حتى نفخ في جيب درعها وأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها وأضاف الروح إليه تشريفا لعيسى عليه السلام ( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) أي دلالة على كمال قدرتنا على خلق ولد من غير أب ولم يقل آيتين وهما آيتان لأن معنى الكلام وجعلنا شأنهما وأمرهما آية ولأن الآية كانت فيهما واحدة وهي أنها أتت به من غير فحل قوله عز وجل : ( إن هذه أمتكم ) أي ملتكم ودينكم ، ( أمة واحدة ) أي دينا واحدا وهو الإسلام فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان وأصل الأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد فجعلت الشريعة أمة واحدة لاجتماع أهلها على مقصد واحد ونصب أمة على القطع ( وأنا ربكم فاعبدون )
( وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون ( 93 ) فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون ( 94 ) وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ( 95 ) حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ( 96 ) )
( وتقطعوا أمرهم بينهم ) أي اختلفوا في الدين فصاروا فرقا وأحزابا قال الكلبي : [ فرقوا دينهم بينهم ] يلعن بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض والتقطع هاهنا بمعنى التقطيع ( كل إلينا راجعون ) فنجزيهم بأعمالهم [ ص: 354 ] ( فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه ) لا يجحد ولا يبطل سعيه بل يشكر ويثاب عليه ( وإنا له كاتبون ) لعمله حافظون وقيل معنى الشكر من الله المجازاة ( وحرام على قرية ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : " وحرم " بكسر الحاء بلا ألف وقرأ الباقون بالألف " حرام " وهما لغتان مثل حل وحلال
قال ابن عباس : معنى الآية وحرام على قرية أي أهل قرية ، ( أهلكناها ) أن يرجعوا بعد الهلاك فعلى هذا تكون " لا " صلة وقال آخرون الحرام بمعنى الواجب فعلى هذا تكون " لا " ثابتا معناه واجبا على أهل قرية أهلكناهم ( أنهم لا يرجعون ) إلى الدنيا
وقال الزجاج : معناه وحرام على أهل قرية أهلكناهم أي حكمنا بهلاكهم أن تتقبل أعمالهم لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون والدليل على هذا المعنى أنه قال في الآية التي قبلها ( فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه ) أي يتقبل عمله ثم ذكر هذه الآية عقيبه وبين أن الكافر لا يتقبل عمله قوله عز وجل : ( حتى إذا فتحت ) قرأ ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب : فتحت " بالتشديد على التكثير وقرأ الآخرون بالتخفيف ، ( يأجوج ومأجوج ) يريد فتح السد عن يأجوج ومأجوج ، ( وهم من كل حدب ) أي نشز وتل والحدب المكان المرتفع ، ( ينسلون ) يسرعون النزول من الآكام والتلال كنسلان الذئب وهو سرعة مشيه واختلفوا في هذه الكناية فقال قوم عني بهم يأجوج ومأجوج بدليل ما روينا عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون " وقال قوم أراد جميع الخلق يعني أنهم يخرجون من قبورهم ويدل عليه قراءة مجاهد وهم من كل جدث بالجيم والثاء كما قال ( فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ) ( يس 51 ) . [ ص: 355 ]
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن حجاج ، أخبرنا أبو خيثمة زهير بن حرب ، أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن فرات القزاز ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة بن أسيد الغفاري ، قال اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون؟ قالوا نذكر الساعة . قال " إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج ، وثلاثة خسوف خسف بالمغرب وخسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم " .
ابو وليد البحيرى
2022-05-27, 10:28 PM
الحلقة (292)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
مَكِّيَّةٌ
الاية97 إلى الاية 112
( واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين ( 97 ) )
قوله عز وجل ( واقترب الوعد الحق ) يعني القيامة قال الفراء وجماعة الواو في قوله واقترب [ مقحمة فمعناه حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب ] الوعد الحق كما قال الله تعالى ( فلما أسلما وتله للجبين وناديناه ) ( الصافات 103 ) أي ناديناه والدليل عليه ما روي عن حذيفة قال لو أن رجلا اقتنى فلوا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة وقال قوم لا يجوز طرح الواو وجعلوا جواب حتى إذا فتحت في قوله يا ويلنا فيكون مجاز الآية حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد الحق قالوا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا قوله ( فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ) وفي قوله " هي " ثلاثة أوجه
أحدها أنها كناية عن الأبصار ثم أظهر الأبصار بيانا معناه فإذا الأبصار شاخصة أبصار الذين كفروا
والثاني أن " هي " تكون عمادا كقوله ( فإنها لا تعمى الأبصار ) ( الحج : 46 ) .
والثالث أن يكون تمام الكلام عند قوله : " هي " على معنى فإذا هي بارزة يعني من قربها كأنها حاضرة ثم ابتدأ : ( شاخصة أبصار الذين كفروا ) على تقديم الخبر على الابتداء مجازها أبصار الذين كفروا شاخصة قال الكلبي : شخصت أبصار الكفار فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم وهوله يقولون ، ( يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا ) اليوم ( بل كنا ظالمين ) بوضعنا [ ص: 356 ] العبادة في غير موضعها
( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ( 98 ) لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون ( 99 ) لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ( 100 ) إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ( 101 ) )
( إنكم ) أيها المشركون ( وما تعبدون من دون الله ) يعني الأصنام ( حصب جهنم ) أي : وقودها وقال مجاهد وقتادة : حطبها والحصب في لغة أهل اليمن : الحطب وقال عكرمة : هو الحطب بلغة الحبشة . قال الضحاك : يعني يرمون بهم في النار كما يرمى بالحصباء وأصل الحصب الرمي قال الله عز وجل ( أرسلنا عليهم حاصبا ) ( القمر 34 ) أي ريحا ترميهم بحجارة وقرأ علي بن أبي طالب : حطب جهنم ( أنتم لها واردون ) أي فيها داخلون . ( لو كان هؤلاء ) يعني الأصنام ( آلهة ) على الحقيقة ( ما وردوها ) أي ما دخل عابدوها النار ( وكل فيها خالدون ) يعني العابد والمعبودين ( لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ) قال ابن مسعود : في هذه الآية إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى [ ثم تلك التوابيت في توابيت أخر ] عليها مسامير من نار فلا يسمعون شيئا ولا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذب غيره ، ثم استثنى فقال ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ) قال بعض أهل العلم إن هاهنا بمعنى إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى يعني السعادة والعدة الجميلة بالجنة ( أولئك عنها مبعدون ) قيل الآية عامة في كل من سبقت لهم من الله السعادة وقال أكثر المفسرين عني بذلك كل من عبد من دون الله وهو لله طائع ولعبادة من يعبده كاره وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليه ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) الآيات الثلاثة ثم قام فأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله أما والله لو وجدته لخصمته فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن الزبعرى : أنت قلت [ ص: 357 ] " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " ؟ قال نعم ، قال أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح ، وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل هم يعبدون الشياطين فأنزل الله عز وجل ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ) يعني عزيرا والمسيح والملائكة ( أولئك عنها مبعدون ) وأنزل في ابن الزبعرى : ( ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ) ( الزخرف 58 ) ، وزعم جماعة أن المراد من الآية الأصنام لأن الله تعالى قال ( وما تعبدون من دون الله ) ولو أراد به الملائكة والناس لقال ومن تعبدون من دون الله .
( لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون ( 102 ) لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ( 103 ) )
( لا يسمعون حسيسها ) يعني صوتها وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم في الجنة والحس والحسيس الصوت الخفي : ( وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون ) مقيمون كما قال ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) ( الزخرف 71 ) . ( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) قال ابن عباس : الفزع الأكبر النفخة الأخيرة بدليل قوله عز وجل ( ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض ) ( النمل 87 ) ، قال الحسن : حين يؤمر بالعبد إلى النار قال ابن جريج : حين يذبح الموت وينادى يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت وقال سعيد بن جبير والضحاك : هو أن تطبق عليهم جهنم وذلك بعد أن يخرج الله منها من يريد أن يخرجه . ( وتتلقاهم الملائكة ) أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون : ( هذا يومكم الذي كنتم توعدون )
[ ص: 358 ] ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ( 104 ) ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ( 105 ) )
( يوم نطوي السماء ) قرأ أبو جعفر : " تطوى " بالتاء وضمها وفتح الواو و " السماء " رفع على المجهول وقرأ العامة بالنون وفتحها وكسر الواو ، و " السماء " نصب ، ( كطي السجل للكتب ) قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم للكتب على الجمع وقرأ الآخرون للكتاب على الواحد واختلفوا في السجل فقال السدي : السجل ملك يكتب أعمال العباد واللام زائدة أي كطي السجل للكتب كقوله ( ردف لكم ) ( النمل 72 ) ، اللام فيه زائدة وقال ابن عباس ومجاهد والأكثرون : السجل الصحيفة للكتب أي لأجل ما كتب معناه كطي الصحيفة على مكتوبها ، والسجل اسم مشتق من المساجلة وهي المكاتبة والطي هو الدرج الذي هو ضد النشر ( كما بدأنا أول خلق نعيده ) أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا كذلك نعيدهم يوم القيامة نظيره قوله تعالى : ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) ( الأنعام 94 ) ، وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنكم محشورون حفاة عراة غرلا " ثم قرأ : ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ) يعني الإعادة والبعث . قوله عز وجل ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ) قال سعيد بن جبير ومجاهد : الزبور جميع الكتب المنزلة والذكر أم الكتاب الذي عنده والمعنى من بعد ما كتب ذكره في اللوح المحفوظ .
وقال ابن عباس والضحاك : الزبور التوراة والذكر الكتب المنزلة من بعد التوراة .
وقال الشعبي : الزبور كتاب داود ، [ والذكر التوراة وقيل الزبور زبور داود ] والذكر القرآن وبعد بمعنى قبل كقوله تعالى : ( وكان وراءهم ملك ) ( الكهف 97 ) : أي أمامهم ( والأرض بعد ذلك دحاها ) ( النازعات 30 ) قبله ، ( أن الأرض ) يعني أرض الجنة ( يرثها عبادي الصالحون ) قال مجاهد : يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم دليله قوله تعالى : [ ص: 359 ] ( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض ) ( الزمر 74 ) ، وقال ابن عباس : أراد أن أراضي الكفار يفتحها المسلمون وهذا حكم من الله بإظهار الدين وإعزاز المسلمين وقيل أراد بالأرض الأرض المقدسة
( إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ( 106 ) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ( 107 ) قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون ( 108 ) فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون ( 109 ) )
( إن في هذا ) أي في هذا القرآن ( لبلاغا ) وصولا إلى البغية أي من اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجوه من الثواب وقيل بلاغا أي : كفاية يقال في هذا الشيء بلاغ و بلغة أي : كفاية والقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر ( لقوم عابدين ) أي المؤمنين الذين يعبدون الله وقال ابن عباس : عالمين وقال كعب الأحبار : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) قال ابن زيد : يعني رحمة للمؤمنين خاصة فهو رحمة لهم . [ وقال ابن عباس : هو عام في حق من آمن ومن لم يؤمن فمن آمن فهو رحمة له ] في الدنيا والآخرة ومن لم يؤمن فهو رحمة له في الدنيا بتأخير العذاب عنهم ورفع المسخ والخسف والاستئصال عنهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا رحمة مهداة " . ( قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون ) أي أسلموا ( فإن تولوا فقل آذنتكم ) أي أعلمتكم بالحرب وأن لا صلح بيننا ( على سواء ) أي إنذار بين يستوي في علمه لا استيذانا به دونكم لتتأهبوا لما يراد بكم أي آذنتكم على وجه نستوي نحن وأنتم في العلم به وقيل لتستووا في الإيمان ، ( وإن أدري ) أي وما أعلم ( أقريب أم بعيد ما توعدون ) يعني القيامة
[ ص: 360 ] ( إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون ( 110 ) وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ( 111 ) قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون ( 112 ) )
( إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون ) . ( وإن أدري لعله ) أي لعل تأخير العذاب عنكم كناية عن غير مذكور ، ( فتنة ) اختبار ، ( لكم ) ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم ( ومتاع إلى حين ) أي تتمتعون إلى انقضاء آجالكم ( قال رب احكم بالحق ) قرأ حفص عن عاصم : ( قال رب احكم ) والآخرون " قل رب احكم " افصل بيني وبين من كذبني بالحق فإن قيل كيف قال احكم بالحق والله لا يحكم إلا بالحق؟ قيل الحق هاهنا بمعنى العذاب كأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر نظيره قوله تعالى : (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ( الأعراف 89 ) ، وقال أهل المعاني معناه رب احكم بحكمك الحق فحذف الحكم وأقيم الحق مقامه والله تعالى يحكم بالحق طلب أو لم يطلب ومعنى الطلب ظهور الرغبة من الطالب في حكمه الحق ( وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون ) من الكذب والباطل
[ ص: 361 ] [ ص: 362 ] [ ص: 363 ] سُورَةُ الْحَجِّ
مَكِّيَّةٌ غَيْرَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ( هَذَانَ خَصْمَانِ ) إِلَى قَوْلِهِ ( وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ( 1 ) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ( 2 ) )
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) أَيْ احْذَرُوا عِقَابَهُ بِطَاعَتِهِ ، ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) وَالزَّلْزَلَةُ وَالزِّلْزَالُ شِدَّةُ الْحَرَكَةِ عَلَى الْحَالَةِ الْهَائِلَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ
فَقَالَ عَلْقَمَةُ وَالشَّعْبِيُّ : هِيَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ . [ وَقِيلَ قِيَامُ السَّاعَةِ ] .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ : هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : زَلْزَلَةُ السَّاعَةِ قِيَامُهَا فَتَكُونُ مَعَهَا . ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا ) يَعْنِي السَّاعَةَ وَقِيلَ الزَّلْزَلَةُ ، ( تَذْهَلُ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تُشْغَلُ ، وَقِيلَ تَنْسَى ، يُقَالُ ذَهَلْتُ عَنْ كَذَا أَيْ تَرَكْتُهُ وَاشْتُغِلْتُ بِغَيْرِهِ . ( كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) أَيْ كُلُّ امْرَأَةٍ مَعَهَا وَلَدٌ تُرْضِعُهُ يُقَالُ امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ بِلَا هَاءٍ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الصِّفَةُ مِثْلَ حَائِضٍ وَحَامِلٍ فَإِذَا أَرَادُوا الْفِعْلَ أَدْخَلُوا الْهَاءَ ( وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ) أَيْ تُسْقِطُ وَلَدَهَا مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ [ ص: 364 ]
قَالَ الْحَسَنُ : تَذْهَلُ الْمُرْضِعَةُ عَنْ وَلَدِهَا بِغَيْرِ فِطَامٍ وَتَضَعُ الْحَامِلُ مَا فِي بَطْنِهَا بِغَيْرِ تَمَامٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ بَعْدَ الْبَعْثِ لَا يَكُونُ حَمْلٌ
وَمَنْ قَالَ تَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ قَالَ هَذَا عَلَى وَجْهِ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ كَقَوْلِهِمْ أَصَابَنَا أَمْرٌ يَشِيبُ فِيهِ الْوَلِيدُ يُرِيدُ شِدَّتَهُ
( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ : " سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى " بِلَا أَلِفٍ وَهُمَا لُغَتَانِ فِي جَمْعِ السَّكْرَانِ مِثْلُ كَسْلَى وَكُسَالَى
قَالَ الْحَسَنُ : مَعْنَاهُ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى مِنَ الْخَوْفِ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى مِنَ الشَّرَابِ .
وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَتَرَى النَّاسَ كَأَنَّهُمْ سُكَارَى ( وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ )
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمَشٍ الزِّيَادَيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ التَّاجِرُ ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ بُكَيْرٍ الْكُوفِيُّ الْعَبْسِيُّ ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا آدَمُ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ قَالَ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ فَيَقُولُ مِنْ كُلِّ أَلِفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ قَالَ فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الْمَوْلُودُ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى [ النَّاسَ ] سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ قَالَ : فَيَقُولُونَ وَأَيُّنَا ذَاكَ الْوَاحِدُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ " فَقَالَ النَّاسُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ فَكَبَّرَ النَّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ أَوِ الشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ " .
وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَغَيْرِهِمَا أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا فِي [ ص: 365 ] غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلَقِ لَيْلًا فَنَادَى [ مُنَادِي ] رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَثُّوا الْمَطِيَّ حَتَّى كَانُوا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُرَ أَكْثَرَ بَاكِيًا مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَلِمَا أَصْبَحُوا لَمْ يَحُطُّوا السُّرُوجَ عَنِ الدَّوَابِّ وَلَمْ يَضْرِبُوا الْخِيَامَ وَلَمْ يَطْبُخُوا قِدْرًا وَالنَّاسُ مَا بَيْنَ بَاكٍ أَوْ جَالِسٍ حَزِينٍ مُتَفَكِّرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ ذَلِكَ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِآدَمَ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ وَلَدِكَ فَيَقُولُ آدَمُ مِنْ كُلٍّ كَمْ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى النَّارِ وَوَاحِدًا فِي الْجَنَّةِ ، قَالَ فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبَكَوْا وَقَالُوا فَمَنْ يَنْجُو إِذًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْشِرُوا وَسَدِّدُوا وَقَارَبُوا فَإِنَّ مَعَكُمْ خَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا فِي قَوْمٍ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ، ثُمَّ قَالَ إِنِّي لَأَرْجُو [ أَنْ تَكُونُوا ] ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ ثُمَّ قَالَ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ ثُمَّ قَالَ إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ صَفًّا ثَمَانُونَ مِنْهَا أُمَّتِي وَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْكُفَّارِ إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ بَلْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ ثُمَّ قَالَ وَيَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَقَالَ عُمَرُ سَبْعُونَ أَلْفًا؟ قَالَ نَعَمْ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعُونَ أَلْفًا فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ مِنْهُمْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ " .
ابو وليد البحيرى
2022-05-27, 10:35 PM
الحلقة (293)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْحَجِّ
مَكِّيَّةٌ
الاية3 إلى الاية 18
( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد ( 3 ) كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ( 4 ) يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ( 5 ) )
قوله عز وجل ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ) نزلت في النضر بن الحارث كان كثير الجدل وكان يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين وكان ينكر البعث وإحياء من صار ترابا
قوله تعالى : ( ويتبع ) أي يتبع في جداله في الله بغير علم ( كل شيطان مريد ) والمريد المتمرد المستمر في الشر ( كتب عليه ) قضي على الشيطان ( أنه من تولاه ) اتبعه ( فأنه ) يعني الشيطان [ ص: 366 ] ( يضله ) أي يضل من تولاه ، ( ويهديه إلى عذاب السعير ) ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال ( يا أيها الناس إن كنتم في ريب ) في شك ( من البعث فإنا خلقناكم ) يعني أباكم آدم الذي هو أصل النسل ( من تراب ثم من نطفة ) يعني ذريته والنطفة هي المني وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف ( ثم من علقة ) وهي الدم الغليظ المتجمد وجمعها علق وذلك أن النطفة تصير دما غليظا ثم تصير لحما ( ثم من مضغة ) وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ ( مخلقة وغير مخلقة )
قال ابن عباس وقتادة : " مخلقة " أي تامة الخلق " وغير مخلقة " غير تامة أي ناقصة الخلق .
وقال مجاهد : مصورة وغير مصورة يعني السقط
وقيل " المخلقة " الولد الذي تأتي به المرأة لوقته " وغير المخلقة " السقط .
روي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه وقال أي رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال غير مخلقة قذفها الرحم دما ولم تكن نسمة وإن قال مخلقة قال الملك : أي رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد؟ ما الأجل ما العمل ما الرزق وبأي أرض يموت؟ فيقال له اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته .
( لنبين لكم ) كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف أطوار خلقكم ولتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة
وقيل لنبين لكم ما تأتون وما تذ*رون وما تحتاجون إليه في العبادة
( ونقر في الأرحام ما نشاء ) فلا تمجه ولا تسقطه ( إلى أجل مسمى ) وقت خروجها من الرحم تامة الخلق والمدة ( ثم نخرجكم ) من بطون أمهاتكم ( طفلا ) أي صغارا ولم يقل [ ص: 367 ] أطفالا لأن العرب تذكر الجمع باسم الواحد وقيل تشبيها بالمصدر مثل عدل وزور ( ثم لتبلغوا أشدكم ) يعني الكمال والقوة
( ومنكم من يتوفى ) من قبل بلوغ الكبر ( ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ) أي الهرم والخرف ، ( لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ) أي يبلغ من السن ما يتغير عقله فلا يعقل شيئا
ثم ذكر دليلا آخر على البعث فقال ( وترى الأرض هامدة ) أي يابسة لا نبات فيها ( فإذا أنزلنا عليها الماء ) المطر ، ( اهتزت ) تحركت بالنبات وذلك أن الأرض ترتفع بالنبات فذلك تحركها ( وربت ) أي ارتفعت وزادت ، وقيل فيه تقديم وتأخير معناه ربت واهتزت وربا نباتها فحذف المضاف والاهتزاز في النبات أظهر ، يقال اهتز النبات أي : طال وإنما أنث لذكر الأرض وقرأ أبو جعفر : " وربأت " بالهمزة وكذلك في " حم السجدة " أي ارتفعت وعلت
( وأنبتت من كل زوج بهيج ) أي صنف حسن يبهج به من رآه أي : يسر فهذا دليل آخر على البعث
( ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير ( 6 ) وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ( 7 ) ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ( 8 ) )
( ذلك بأن الله هو الحق ) أي لتعلموا أن الله هو الحق ( وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير ) . ( وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ) . ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ) يعني النضر بن الحارث ، ( ولا هدى ) بيان ( ولا كتاب منير )
[ ص: 368 ] ( ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ( 9 ) ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ( 10 ) ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ( 11 ) )
( ثاني عطفه ) أي متبخترا لتكبره وقال مجاهد ، وقتادة : لاوي عنقه قال عطية ، وابن زيد : معرضا عما يدعى إليه تكبرا وقال ابن جريج : يعرض عن الحق تكبرا والعطف : الجانب وعطفا الرجل جانباه عن يمين وشمال وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان أي يلويه ويميله عند الإعراض عن الشيء نظيره قوله تعالى : ( وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا ) ( لقمان 7 ) ، وقال تعالى ( وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ) ( المنافقون 5 ) . ( ليضل عن سبيل الله ) عن دين الله ( له في الدنيا خزي ) عذاب وهوان وهو القتل ببدر فقتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط يوم بدر صبرا ( ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ) ويقال له ( ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ) فيعذبهم بغير ذنب وهو جل ذكره على أي وجه شاء تصرف في عبده فحكمه عدل وهو غير ظالم قوله عز وجل : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) الآية نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله قال هذا دين حسن وقد أصبت فيه خيرا واطمأن إليه وإن أصابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه وقل ماله ، قال ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلا شرا فينقلب عن دينه وذلك الفتنة فأنزل الله عز وجل
( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) أكثر المفسرين قالوا على شك وأصله من حرف الشيء وهو طرفه نحو حرف الجبل والحائط الذي كالقائم عليه غير مستقر فقيل للشاك في الدين إنه يعبد الله على حرف لأنه على طرف وجانب من الدين لم يدخل فيه على الثبات والتمكن وأصله كالقائم على حرف الجبل مضطرب غير مستقر يعرض أن يقع في أحد جانبي الطرف لضعف قيامه ولو عبدوا الله في الشكر على السراء والصبر على الضراء لم يكونوا على حرف قال الحسن : هو المنافق [ ص: 369 ] يعبده بلسانه دون قلبه ( فإن أصابه خير ) صحة في جسمه وسعة في معيشته ، ( اطمأن به ) أي رضي به وسكن إليه ( وإن أصابته فتنة ) بلاء في جسده وضيق في معيشته ، ( انقلب على وجهه ) ارتد ورجع على عقبه إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر ( خسر الدنيا ) يعني هذا الشاك خسر الدنيا بفوات ما كان يؤمل ، ( والآخرة ) بذهاب الدين والخلود في النار قرأ يعقوب " خاسر " بالألف والآخرة جر ( ذلك هو الخسران المبين ) الظاهر
( يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد ( 12 ) يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير ( 13 ) )
( يدعو من دون الله ما لا يضره ) إن عصاه ولم يعبده ( وما لا ينفعه ) إن أطاعه وعبده ( ذلك هو الضلال البعيد ) عن الحق والرشد ( يدعو لمن ضره أقرب من نفعه ) هذه الآية من مشكلات القرآن وفيها أسئلة
أولها قالوا قد قال الله في الآية الأولى " يدعو من دون الله ما لا يضره " وقال هاهنا " لمن ضره أقرب " فكيف التوفيق بينهما؟
قيل قوله في الآية الأولى " يدعو من دون الله ما لا يضره " أي لا يضره ترك عبادته وقوله " لمن ضره أقرب " أي ضر عبادته
فإن قيل قد قال " لمن ضره أقرب من نفعه " ولا نفع في عبادة الصنم أصلا؟
قيل هذا على عادة العرب فإنهم يقولون لما لا يكون أصلا بعيد كقوله تعالى : ( ذلك رجع بعيد ) ( ق : 3 ) أي لا رجع أصلا فلما كان نفع الصنم بعيدا على معنى أنه لا نفع فيه أصلا قيل ضره أقرب لأنه كائن
السؤال الثالث قوله ( لمن ضره أقرب ) ما وجه هذه اللام؟ اختلفوا فيه فقال بعضهم هي صلة ، مجازها يدعو من ضره أقرب وكذلك قرأها ابن مسعود . وقيل " لمن ضره " أي إلى الذي ضره أقرب من نفعه وقيل " يدعو " بمعنى يقول والخبر محذوف أي يقول لمن ضره أقرب من نفعه هو إله [ ص: 370 ]
وقيل معناه يدعو لمن ضره أقرب من نفعه يدعو فحذف يدعو الأخيرة اجتزاء بالأولى ولو قلت يضرب لمن خيره أكثر من شره يضرب ثم يحذف الأخير جاز
وقيل على التوكيد ، معناه يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه
وقيل " يدعو من " صلة قوله " ذلك هو الضلال البعيد " يقول ذلك هو الضلال البعيد يدعو ثم استأنف فقال : " لمن ضره أقرب من نفعه " فيكون " من " في محل رفع بالابتداء وخبره ( لبئس المولى ) أي الناصر وقيل المعبود . ( ولبئس العشير ) أي الصاحب والمخالط يعني الوثن والعرب تسمي الزوج عشيرا لأجل المخالطة .
( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد ( 14 ) من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ( 15 ) )
قوله عز وجل ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد ) . ( من كان يظن أن لن ينصره الله ) يعني نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ( في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب ) بحبل ( إلى السماء ) أراد بالسماء سقف البيت على قول الأكثرين أي ليشدد حبلا في سقف بيته فليختنق به حتى يموت ، ( ثم ليقطع ) الحبل بعد الاختناق وقيل " ثم ليقطع " أي ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا ( فلينظر هل يذهبن كيده ) صنيعه وحيلته ، ( ما يغيظ ) " ما " بمعنى المصدر أي هل يذهبن كيده وحيلته غيظه معناه فليختنق غيظا حتى يموت وليس هذا على سبيل الحتم أي : أن يفعله لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق والموت ولكنه كما يقال للحاسد إن لم ترض هذا فاختنق ومت غيظا
وقال ابن زيد : المراد من السماء السماء المعروفة
ومعنى الآية : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ويكيد في أمره ليقطعه عنه فليقطعه من أصله فإن أصله من السماء فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم الوحي الذي يأتيه فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا الفعل [ ص: 371 ]
وروي أن هذه الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان ، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وكان بينهم وبين اليهود حلف وقالوا لا يمكننا أن نسلم لأنا نخاف أن لا ينصر محمد ولا يظهر أمره فينقطع الحلف بيننا وبين اليهود ، فلا يميروننا ولا يئووننا فنزلت هذه الآية .
وقال مجاهد : " النصر " بمعنى الرزق والهاء راجعة إلى ( من ) ومعناه من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة نزلت فيمن أساء الظن بالله عز وجل وخاف ألا يرزقه الله " فليمدد بسبب إلى السماء " أي إلى سماء البيت فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ وهو خيفة أن لا يرزق .
وقد يأتي النصر بمعنى الرزق تقول العرب من ينصرني نصره الله أي من يعطني أعطاه الله قال أبو عبيدة : تقول العرب أرض منصورة أي ممطورة .
قرأ أبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر ، ويعقوب : " ثم ليقطع " " ثم ليقضوا " بكسر اللام والباقون بجزمها لأن الكل لام الأمر زاد ابن عامر " وليوفوا نذورهم وليطوفوا " الحج 29 ) بكسر اللام فيهما ومن كسر في " ثم ليقطع " وفي " ثم ليقضوا " فرق بأن ثم مفصول من الكلام والواو كأنها من نفس الكلمة كالفاء في قوله : " فلينظر "
( وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد ( 16 ) إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ( 17 ) ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء ( 18 ) )
( وكذلك ) أي مثل ذلك ، يعني ما تقدم من آيات القرآن ، ( أنزلناه ) يعني القرآن ( آيات بينات وأن الله يهدي من يريد إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا ) يعني عبدة الأوثان ، ( إن الله يفصل بينهم ) يحكم بينهم ( يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ) ( ألم تر ) ألم تعلم وقيل : ( ألم تر ) تقرأ بقلبك ( أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب ) [ ص: 372 ] قال مجاهد : سجودها تحول ظلالها وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجدا حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه . وقيل سجودها بمعنى الطاعة فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله خاشع له مسبح له كما أخبر الله تعالى عن السموات والأرض ( قالتا أتينا طائعين ) ( فصلت 11 ) ، وقال في وصف الحجارة ( وإن منها لما يهبط من خشية الله ) ( البقرة 74 ) ، وقال تعالى ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) ( الإسراء 44 ) ، وهذا مذهب حسن موافق لقول أهل السنة
قوله : ( وكثير من الناس ) أي من هذه الأشياء كلها تسبح الله عز وجل " وكثير من الناس " يعني المسلمين . ( وكثير حق عليه العذاب ) وهم الكفار لكفرهم وتركهم السجود وهم مع كفرهم تسجد ظلالهم لله عز وجل والواو في قوله : ( وكثير حق عليه العذاب ) واو الاستئناف
( ومن يهن الله ) أي يهنه الله ( فما له من مكرم ) أي من يذله الله فلا يكرمه أحد ( إن الله يفعل ما يشاء ) أي يكرم ويهين فالسعادة والشقاوة بإرادته ومشيئته .
ابو وليد البحيرى
2022-05-27, 10:38 PM
الحلقة (294)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْحَجِّ
مَكِّيَّةٌ
الاية19 إلى الاية 28
( هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم ( 19 ) )
قوله عز وجل : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) أي جادلوا في دينه وأمره والخصم اسم شبيه بالمصدر فلذلك قال : ( اختصموا ) بلفظ الجمع كقوله ( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ) ( ص " 21 ) ، واختلفوا في هذين الخصمين
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا يعقوب بن إبراهيم ، أخبرنا هشيم ، أخبرنا أبو هاشم ، عن أبي مجلز ، عن قيس بن عباد قال سمعت أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) نزلت في الذين برزوا يوم بدر : حمزة وعلي ، وعبيدة بن الحارث ، وعتبة ، وشيبة ابني أبي ربيعة ، والوليد بن عتبة . [ ص: 373 ]
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا حجاج بن منهال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال سمعت أبي قال أخبرنا أبو مجلز ، عن قيس بن عباد ، عن علي بن أبي طالب قال أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة قال قيس : وفيهم نزلت ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) قال هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة ، وعبيدة ، وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة .
قال محمد بن إسحاق خرج يعني يوم بدر - عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة ودعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة عوذ ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء ، وعبد الله بن رواحة فقالوا من أنتم؟ قالوا رهط من الأنصار فقالوا حين انتسبوا أكفاء كرام ثم نادى مناديهم يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قم يا عبيدة بن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي بن أبي طالب ، فلما دنوا قالوا من أنتم؟ فذكروا وقالوا نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز علي الوليد بن عتبة ، فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة ، وعلي الوليد ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان كلاهما أثبت صاحبه فكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا عبيدة إلى أصحابه وقد قطعت رجله ومخها يسيل فلما أتوا بعبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألست شهيدا يا رسول الله؟ قال : " بلى " فقال عبيدة : لو كان أبو طالب حيا لعلم أنا أحق بما قال منه حيث يقول
ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وقال ابن عباس وقتادة : نزلت الآية في المسلمين وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم وقال المؤمنون نحن أحق بالله آمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنتم تعرفون نبينا وكتابنا وكفرتم به حسدا فهذه خصومتهم في ربهم .
وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والكلبي : هم المؤمنون والكافرون كلهم من أي ملة كانوا .
وقال بعضهم جعل الأديان ستة في قوله تعالى ( إن الذين آمنوا والذين هادوا ) ( المائدة 69 ) الآية فجعل خمسة للنار وواحدا للجنة فقوله تعالى : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) ينصرف [ ص: 374 ] إليهم فالمؤمنون خصم وسائر الخمسة خصم
وقال عكرمة : هما الجنة والنار اختصمتا كما أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أخبرنا أبو طاهر الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن حسين القطان ، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن همام بن منبه ، قال حدثنا أبو هريرة : قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم قال الله عز وجل للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله فيها رجله فتقول قط قط فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا " . ثم بين الله عز وجل ما للخصمين فقال
( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) قال سعيد بن جبير : ثياب من نحاس مذاب وليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حرا منه وسمي باسم الثياب لأنها تحيط بهم كإحاطة الثياب .
وقال بعضهم يلبس أهل النار مقطعات من النار ( يصب من فوق رءوسهم الحميم ) الحميم هو الماء الحار الذي انتهت حرارته
( يصهر به ما في بطونهم والجلود ( 20 ) )
( يصهر به ) أي يذاب بالحميم ، ( ما في بطونهم ) يقال صهرت الألية والشحم بالنار إذا أذبتهما أصهرها صهرا معناه يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رءوسهم حتى يسقط ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء ( والجلود ) أي يشوي حرها جلودهم فتتساقط
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن سعيد بن زيد ، عن أبي السمح ، عن أبي جحيرة واسمه عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان " .
[ ص: 375 ] ( ولهم مقامع من حديد ( 21 ) كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق ( 22 ) إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ( 23 ) )
قوله تعالى ( ولهم مقامع من حديد ) سياط من حديد واحدتها مقمعة قال الليث : المقمعة شبه الجرز من الحديد من قولهم قمعت رأسه إذا ضربته ضربا عنيفا وفي الخبر : " لو وضع مقمع من حديد في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض " . ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم ) أي : كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفاسهم ( أعيدوا فيها ) أي ردوا إليها بالمقامع وفي التفسير إن جهنم لتجيش بهم فتلقيهم إلى أعلاها فيريدون الخروج منها فتضربهم الزبانية بمقامع من الحديد فيهوون فيها سبعين خريفا ( وذوقوا عذاب الحريق ) أي تقول لهم الملائكة ذوقوا عذاب الحريق أي : المحرق مثل الأليم والوجيع
قال الزجاج : هؤلاء أحد الخصمين وقال في الآخر وهم المؤمنون : ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ) جمع سوار ، ( ولؤلؤا ) قرأ أهل المدينة وعاصم " ولؤلؤا " هاهنا وفي سورة الملائكة بالنصب وافق يعقوب هاهنا على معنى ويحلون لؤلؤا ولأنها مكتوبة في المصاحف بالألف وقرأ الآخرون بالخفض عطفا على قوله " من ذهب " ويترك الهمزة الأولى في كل القرآن أبو جعفر وأبو بكر ، واختلفوا في وجه إثبات الألف فيه فقال أبو عمرو : أثبتوها كما أثبتوا في قالوا وكانوا وقال الكسائي : أثبتوها للهمزة لأن الهمزة حرف من الحروف ( ولباسهم فيها حرير ) أي يلبسون في الجنة ثياب الإبريسم وهو الذي حرم لبسه في الدنيا على الرجال
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة ، عن قتادة ، عن داود السراج ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 376 ] قال " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه الله إياه في الآخرة فإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو " .
( وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد ( 24 ) إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ( 25 ) )
قوله عز وجل : ( وهدوا إلى الطيب من القول ) قال ابن عباس : هو شهادة أن لا إله إلا الله . وقال ابن زيد : لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله . وقال السدي : أي القرآن . وقيل هو قول أهل الجنة : الحمد لله الذي صدقنا وعده ( الزمر : 74 ( وهدوا إلى صراط الحميد ) إلى دين الله وهو الإسلام " والحميد " هو الله المحمود في أفعاله قوله عز وجل : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ) عطف المستقبل على الماضي لأن المراد من لفظ المستقبل الماضي كما قال تعالى في موضع آخر ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ) ( النساء 167 ) ، معناه إن الذين كفروا فيما تقدم ويصدون عن سبيل الله في الحال أي وهم يصدون . ( والمسجد الحرام ) أي ويصدون عن المسجد الحرام . ( الذي جعلناه للناس ) قبلة لصلاتهم ومنسكا ومتعبدا كما قال ( وضع للناس ) ( آل عمران 96 ) . ( سواء ) قرأ حفص عن عاصم ويعقوب : " سواء " نصبا بإيقاع الجعل عليه لأن الجعل يتعدى إلى مفعولين وقيل معناه مستويا فيه ، ( العاكف فيه والباد ) وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وما بعده خبر وتمام الكلام عند قوله " للناس " وأراد بالعاكف المقيم فيه ، وبالبادي الطارئ المنتاب إليه من غيره
واختلفوا في معنى الآية فقال قوم " سواء العاكف فيه والباد " أي في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة ، وقالوا المراد منه نفس المسجد الحرام . ومعنى التسوية هو التسوية في تعظيم الكعبة في فضل الصلاة في المسجد الحرام والطواف بالبيت [ ص: 377 ]
وقال آخرون المراد منه جميع الحرم ومعنى التسوية أن المقيم والبادي سواء في النزول به ليس أحدهما أحق بالمنزل يكون فيه من الآخر غير أنه لا يزعج فيه أحدا إذا كان قد سبق إلى منزل وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد ، قالوا هما سواء في البيوت والمنازل .
وقال عبد الرحمن بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم وكان عمر بن الخطاب ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم وعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها ، وعلى القول الأول وهو الأقرب إلى الصواب يجوز لأن الله تعالى قال ( الذين أخرجوا من ديارهم ) ( الحج 40 ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " فنسب الدار إليه نسب ملك واشترى عمر دارا للسجن بمكة بأربعة آلاف درهم فدل على جواز بيعها وهذا قول طاوس وعمرو بن دينار ، وبه قال الشافعي .
قوله عز وجل ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) أي في المسجد الحرام بإلحاد بظلم وهو الميل إلى الظلم الباء في قوله " بإلحاد " زائدة كقوله : ( تنبت بالدهن ) ( المؤمنون 20 ) ، ومعناه من يرد فيه إلحادا بظلم قال الأعشى :
" ضمنت برزق عيالنا أرماحنا " ، أي رزق عيالنا وأنكر المبرد أن تكون الباء زائدة وقال معنى الآية من تكن إرادته فيه بأن يلحد بظلم
واختلفوا في هذا الإلحاد فقال مجاهد وقتادة : هو الشرك وعبادة غير الله
وقال قوم : هو كل شيء كان منهيا عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم
وقال عطاء : هو دخول الحرم غير محرم أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم من قتل صيد أو قطع شجر
وقال ابن عباس : هو أن تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم فيه من لا يظلمك وهذا معنى قول الضحاك .
وعن مجاهد أنه قال تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات .
وقال حبيب بن أبي ثابت : وهو احتكار الطعام بمكة .
وقال عبد الله بن مسعود في قوله ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) قال لو أن رجلا هم بخطيئة لم تكتب عليه ما لم يعملها ولو أن رجلا هم بقتل رجل بمكة وهو بعدن [ ص: 378 ] أبين أو ببلد آخر أذاقه الله من عذاب أليم . وقال السدي : إلا أن يتوب
وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الآخر فسئل عن ذلك فقال كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله وبلى والله .
( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ( 26 ) وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ( 27 ) )
قوله عز وجل ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ) أي وطأنا قال ابن عباس : جعلنا وقيل : بينا قال الزجاج : جعلنا مكان البيت [ مبوءا لإبراهيم .
وقال مقاتل بن حيان : هيأنا وإنما ذكرنا مكان البيت ] لأن الكعبة رفعت إلى السماء زمان الطوفان ، ثم لما أمر الله تعالى إبراهيم ببناء البيت لم يدر أين يبني فبعث الله ريحا خجوجا فكنست له ما حول البيت على الأساس .
وقال الكلبي : بعث الله سحابة بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن على قدري فبنى عليه . قوله تعالى ( أن لا تشرك بي شيئا ) أي عهدنا إلى إبراهيم وقلنا له لا تشرك بي شيئا ( وطهر بيتي للطائفين ) يعني : الذين يطوفون بالبيت ( والقائمين ) أي المقيمين ، ( والركع السجود ) أي المصلين ( وأذن في الناس ) أي : أعلم وناد في الناس ، ( بالحج ) فقال إبراهيم وما يبلغ صوتي؟ فقال عليك الأذان وعلي البلاغ فقام إبراهيم على المقام فارتفع المقام حتى صار كأطول الجبال فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا وقال : يا أيها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتا وكتب عليكم الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم فأجابه كل من كان يحج من أصلاب الآباء وأرحام [ ص: 379 ] الأمهات : لبيك اللهم لبيك قال ابن عباس : فأول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجا .
وروي أن إبراهيم صعد أبا قبيس ونادى . وقال ابن عباس عني بالناس في هذه الآية أهل القبلة وزعم الحسن أن قوله " وأذن في الناس بالحج " كلام مستأنف وأن المأمور بهذا التأذين محمد صلى الله عليه وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع
وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا " .
قوله تعالى : ( يأتوك رجالا ) مشاة على أرجلهم جمع راجل مثل قائم وقيام وصائم وصيام ( وعلى كل ضامر ) أي ركبانا على كل ضامر والضامر البعير المهزول . ( يأتين من كل فج عميق ) أي من كل طريق بعيد وإنما جمع " يأتين " لمكان كل وإرادة النوق
( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ( 28 ) )
( ليشهدوا ) ليحضروا ( وهي رواية ابن زيد عن ابن عباس ، قال : الأسواق وقال مجاهد : التجارة وما يرضى الله به من أمر الدنيا والآخرة . ( ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ) يعني عشر ذي الحجة في قول أكثر المفسرين قيل لها " معلومات " للحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها ويروى عن علي رضي الله عنه أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده وفي رواية عطاء عن ابن عباس أنها يوم عرفة والنحر وأيام التشريق وقال مقاتل : المعلومات أيام التشريق . ( على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) يعني الهدايا ، والضحايا تكون من النعم [ ص: 380 ] وهي الإبل والبقر والغنم
واختار الزجاج أن الأيام المعلومات يوم النحر وأيام التشريق لأن الذكر على بهيمة الأنعام يدل على التسمية على نحرها ونحر الهدايا يكون في هذه الأيام . ( فكلوا منها ) أمر إباحة وليس بواجب وإنما قال ذلك لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئا واتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعا يجوز للمهدي أن يأكل منه وكذلك أضحية التطوع لما
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال في قصة حجة الوداع : وقدم علي ببدن من اليمن وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فنحر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين بدنة بيده ونحر علي ما بقي ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤخذ بضعة من كل بدنة فتجعل في قدر فأكلا من لحمها وحسيا من مرقها .
واختلفوا في الهدي الواجب بالشرع هل يجوز للمهدي أن يأكل منه شيئا؟ مثل دم التمتع والقران والدم الواجب بإفساد الحج وفواته وجزاء الصيد؟
فذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يأكل منه شيئا وبه قال الشافعي ، وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر وقال ابن عمر : لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ويأكل مما سوى ذلك ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وقال مالك : يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور وعند أصحاب الرأي يأكل من دم التمتع والقران ولا يأكل من واجب سواهما
قوله عز وجل ( وأطعموا البائس الفقير ) يعني الزمن الفقير الذي لا شيء له و " البائس " الذي اشتد بؤسه والبؤس شدة الفقر
ابو وليد البحيرى
2022-05-27, 10:42 PM
الحلقة (295)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْحَجِّ
مَكِّيَّةٌ
الاية29 إلى الاية 34
( ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ( 29 ) )
( ثم ليقضوا تفثهم ) التفث الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظافر والشعث تقول العرب لمن تستقذره : ما أتفثك : أي ما أوسخك والحاج أشعث أغبر لم يحلق شعره ولم يقلم ظفره فقضاء التفث : إزالة هذه الأشياء ليقضوا تفثهم أي ليزيلوا أدرانهم والمراد منه الخروج عن الإحرام بالحلق وقص الشارب ونتف الإبط والاستحداد وقلم الأظفار ولبس الثياب قال ابن عمر [ ص: 381 ] وابن عباس : قضاء التفث مناسك الحج كلها . وقال مجاهد : هو مناسك الحج وأخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقلم الأظفار . وقيل التفث هاهنا رمي الجمار قال الزجاج : لا نعرف التفث ومعناه إلا من القرآن
قوله تعالى : ( وليوفوا نذورهم ) قال مجاهد : أراد نذر الحج والهدي وما ينذر الإنسان من شيء يكون في الحج أي ليتموها بقضائها وقيل : المراد منه الوفاء بما نذر على ظاهره وقيل : أراد به الخروج عما وجب عليه نذر أو لم ينذر والعرب تقول لكل من خرج عن الواجب عليه وفى بنذره وقرأ عاصم برواية أبي بكر " وليوفوا " بنصب الواو وتشديد الفاء
( وليطوفوا بالبيت العتيق ) أراد به الطواف الواجب عليه وهو طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق
والطواف ثلاثة : طواف القدوم وهو أن من قدم مكة يطوف بالبيت سبعا يرمل ثلاثا من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه ويمشي أربعا وهذا الطواف سنة لا شيء على من تركه
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أحمد هو أبو عيسى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو بن الحارث ، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي أنه سأل عروة بن الزبير فقال : قد حج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت ثم لم يكن عمرة ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم يكن عمرة ثم عمر مثل ذلك ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا أنس بن عياض ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم يسعى ثلاثة أطواف ويمشي أربعا ثم يصلي سجدتين ، ثم يطوف بين الصفا والمروة سبعا .
والطواف الثاني : هو طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق وهو واجب لا يحصل التحلل من الإحرام ما لم يأت به [ ص: 382 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عمر بن حفص ، حدثنا أبي ، أخبرنا الأعمش ، أخبرنا إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت : حاضت صفية ليلة النفر فقالت : ما أراني إلا حابستكم قال النبي صلى الله عليه وسلم " عقرى حلقى أطافت يوم النحر؟ قيل نعم ، قال فانفري " فثبت بهذا أن من لم يطف يوم النحر طواف الإفاضة لا يجوز له أن ينفر
والطواف الثالث : هو طواف الوداع لا رخصة فيه لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر أن يفارقها حتى يطوف بالبيت سبعا فمن تركه فعليه دم إلا المرأة الحائض يجوز لها ترك طواف الوداع
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس عن ابن عباس ، قال أمر الناس أن يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت إلا أنه رخص للمرأة الحائض .
والرمل مختص بطواف القدوم ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع
قوله : ( بالبيت العتيق ) اختلفوا في معنى " العتيق " قال ابن عباس ، وابن الزبير ومجاهد وقتادة : سمي عتيقا لأن الله أعتقه من أيدي الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه فلم يظهر عليه جبار قط . قال سفيان بن عيينة : سمي عتيقا لأنه لم يملك قط ، وقال الحسن وابن زيد : سمي به لأنه قديم وهو أول بيت وضع للناس يقال : دينار عتيق أي قديم ، وقيل سمي عتيقا لأن الله أعتقه من الغرق فإنه رفع أيام الطوفان .
( ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ( 30 ) )
( ذلك ) أي : الأمر ذلك ، يعني ما ذكر من أعمال الحج ، ( ومن يعظم حرمات الله ) أي [ ص: 383 ] معاصي الله وما نهى عنه ، وتعظيمها ترك ملابستها . قال الليث : حرمات الله ما لا يحل انتهاكها . وقال الزجاج : الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه ، وذهب قوم إلى أن معنى الحرمات هاهنا : المناسك ، بدلالة ما يتصل بها من الآيات . وقال ابن زيد : الحرمات هاهنا : البيت الحرام ، والبلد الحرام والشهر الحرام ، والمسجد الحرام ، والإحرام . ( فهو خير له عند ربه ) أي : تعظيم الحرمات خير له عند الله في الآخرة .
قوله عز وجل : ( وأحلت لكم الأنعام ) أن تأكلوها إذا ذبحتموها وهي الإبل والبقر والغنم ، ( إلا ما يتلى عليكم ) تحريمه ، وهو قوله في سورة المائدة : ( حرمت عليكم الميتة والدم ) ( المائدة : 3 ) ، الآية ، ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) أي : عبادتها ، يقول : كونوا على جانب منها فإنها رجس ، أي : سبب الرجس ، وهو العذاب ، والرجس : بمعنى الرجز . وقال الزجاج : ( من ) هاهنا للتجنيس أي : اجتنبوا الأوثان التي هي رجس ، ( واجتنبوا قول الزور ) يعني : الكذب والبهتان . وقال ابن مسعود : شهادة الزور ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيبا فقال : " يا أيها الناس عدلت شهادة الزور بالشرك بالله " ، ثم قرأ هذه الآية . وقيل : هو قول المشركين في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك .
( حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( 31 ) )
( حنفاء لله ) مخلصين له ، ( غير مشركين به ) قال قتادة : كانوا في الشرك يحجون ، ويحرمون البنات والأمهات والأخوات ، وكانوا يسمون حنفاء ، فنزلت : " حنفاء لله غير مشركين به " أي : حجاجا لله مسلمين موحدين ، يعني : من أشرك لا يكون حنيفا .
( ومن يشرك بالله فكأنما خر ) أي : سقط ، ( من السماء ) إلى الأرض ، ( فتخطفه الطير ) أي : تستلبه الطير وتذهب به ، والخطف والاختطاف : تناول الشيء بسرعة . وقرأ أهل المدينة : فتخطفه بفتح الخاء وتشديد الطاء ، أي : يتخطفه ، ( أو تهوي به الريح ) أي : تميل وتذهب به ، ( في مكان سحيق ) [ ص: 384 ] أي : بعيد ، معناه : بعد من أشرك من الحق كبعد من سقط من السماء فذهبت به الطير ، أو هوت به الريح ، فلا يصل إليه بحال . وقيل : شبه حال المشرك بحال الهاوي من السماء في أنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع بحيث تسقطه الريح ، فهو هالك لا محالة إما باستلاب الطير لحمه وإما بسقوطه إلى المكان السحيق ، وقال الحسن : شبه أعمال الكفار بهذه الحال في أنها تذهب وتبطل فلا يقدرون على شيء منها .
( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ( 32 ) لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ( 33 ) )
( ذلك ) يعني : الذي ذكرت من اجتناب الرجس وقول الزور ، ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) قال ابن عباس " شعائر الله " البدن والهدي ، وأصلها من الإشعار ، وهو إعلامها ليعرف أنها هدي ، وتعظيمها : استسمانها واستحسانها . وقيل " شعائر الله " أعلام دينه ، " فإنها من تقوى القلوب " ، أي : فإن تعظيمها من تقوى القلوب . ( لكم فيها ) أي : في البدن قبل تسميتها للهدي ، ( منافع ) في درها ونسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهورها ، ( إلى أجل مسمى ) وهو أن يسميها ويوجبها هديا ، فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها ، هذا قول مجاهد ، وقول قتادة والضحاك ، ورواه مقسم عن ابن عباس .
وقيل : معناه لكم في الهدايا منافع بعد إيجابها وتسميتها هديا بأن تركبوها وتشربوا ألبانها عند الحاجة " إلى أجل مسمى " ، يعني : إلى أن تنحروها ، وهو قول عطاء بن أبي رباح .
واختلف أهل العلم في ركوب الهدي .
فقال قوم : يجوز له ركوبها والحمل عليها غير مضر بها ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، لما أخبر أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال له : " اركبها ، فقال يا رسول الله إنها بدنة ، فقال : اركبها ويلك ، في الثانية أو الثالثة " ، وكذلك قال له : " اشرب لبنها بعدما فضل عن ري ولدها " .
وقال أصحاب الرأي : لا يركبها . [ ص: 385 ]
وقال قوم : لا يركبها إلا أن يضطر إليه .
وقال بعضهم : أراد بالشعائر : المناسك ومشاهدة مكة . " لكم فيها منافع " بالتجارة والأسواق " إلى أجل مسمى " وهو الخروج من مكة .
وقيل : " لكم فيها منافع " بالأجر والثواب في قضاء المناسك . " إلى أجل مسمى " ، أي : إلى انقضاء أيام الحج .
( ثم محلها ) أي : منحرها ، ( إلى البيت العتيق ) أي : منحرها عند البيت العتيق ، يريد أرض الحرم كلها ، كما قال : ( فلا يقربوا المسجد الحرام ) ( التوبة : 28 ) أي : الحرم كله .
وروي عن جابر في قصة حجة الوداع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحرت هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم " .
ومن قال : " الشعائر " المناسك ، قال : معنى قوله " ثم محلها إلى البيت العتيق " أي : محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق ، أي : أن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر .
( ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين ( 34 ) )
قال الله تعالى : ( ولكل أمة ) أي : جماعة مؤمنة سلفت قبلكم ، ( جعلنا منسكا ) قرأ حمزة والكسائي بكسر السين هاهنا وفي آخر السورة ، على معنى الاسم مثل المسجد والمطلع ، أي : مذبحا وهو موضع القربان ، وقرأ الآخرون بفتح السين على المصدر ، مثل المدخل والمخرج ، أي : إراقة الدماء وذبح القرابين ، ( ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) [ عند نحرها وذبحها ، وسماها بهيمة ] لأنها لا تتكلم ، وقال : " بهيمة الأنعام " وقيدها بالنعم ، لأن من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير ، لا يجوز دخلها في القرابين .
( فإلهكم إله واحد ) أي : سموا على الذبائح اسم الله وحده ، فإن إلهكم إله واحد ، [ ص: 386 ] ( فله أسلموا ) انقادوا وأطيعوا ، ( وبشر المخبتين ) قال ابن عباس وقتادة : المتواضعين . وقال مجاهد : المطمئنين إلى الله عز وجل ، " والخبت " المكان المطمئن من الأرض . وقال الأخفش : الخاشعين . وقال النخعي : المخلصين . وقال الكلبي : هم الرقيقة قلوبهم . وقال عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا .
ابو وليد البحيرى
2022-05-27, 10:46 PM
الحلقة (296)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْحَجِّ
مَكِّيَّةٌ
الاية35 إلى الاية 51
( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ( 35 ) والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ( 36 ) )
( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم ) من البلاء والمصائب ( والمقيمي الصلاة ) أي : المقيمين للصلاة في أوقاتها ، ( ومما رزقناهم ينفقون ) يتصدقون . قوله عز وجل : ( والبدن ) جمع بدنة سميت بدنة لعظمها وضخامتها ، يريد : الإبل العظام الصحاح الأجسام ، يقال بدن الرجل بدنا وبدانة إذا ضخم ، فأما إذا أسن واسترخى يقال بدن تبدينا . قال عطاء والسدي : البدن : الإبل والبقر أما الغنم فلا تسمى بدنة . ( جعلناها لكم من شعائر الله ) من أعلام دينه ، سميت شعائر لأنها تشعر ، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هدي ، ( لكم فيها خير ) النفع في الدنيا والأجر في العقبى ، ( فاذكروا اسم الله عليها ) عند نحرها ، ( صواف ) أي : قياما على ثلاث قوائم قد صفت رجليها وإحدى يديها ، ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن مسلمة ، أخبرنا يزيد بن زريع ، عن يونس ، عن زياد بن جبير قال : رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها ، قال : ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال مجاهد : الصواف إذا عقلت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث قوائم .
وقرأ ابن مسعود : " صوافن " وهي أن تعقل منها يد وتنحر على ثلاث ، وهو مثل صواف . وقرأ أبي والحسن ومجاهد : " صوافي " بالياء أي : صافية خالصة لله لا شريك له فيها .
( فإذا وجبت جنوبها ) أي : سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض . وأصل الوجوب : [ ص: 387 ] الوقوع . يقال : وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب ، ( فكلوا منها ) أمر إباحة ، ( وأطعموا القانع والمعتر ) اختلفوا في معناهما : .
فقال عكرمة وإبراهيم وقتادة : " القانع " الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل ، و " المعتر " الذي يسأل .
وروى العوفي عن ابن عباس : " القانع " الذي لا يعترض ولا يسأل ، و " المعتر " الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل ، فعلى هذين التأويلين يكون " القانع " : من القناعة ، يقال : قنع قناعة إذا رضي بما قسم له .
وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي : " القانع " : الذي يسأل ، " والمعتر " : الذي يتعرض ولا يسأل ، فيكون " القانع " من قنع يقنع قنوعا إذا سأل .
وقرأ الحسن : " والمعتري " وهو مثل المعتر ، يقال : عره واعتره وعراه واعتراه إذا أتاه يطلب معروفه ، إما سؤالا أو تعرضا .
وقال ابن زيد : " القانع " : المسكين ، " والمعتر " : الذي ليس بمسكين ، ولا يكون له ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم .
( كذلك ) أي : مثل ما وصفنا من نحرها قياما ، ( سخرناها لكم ) نعمة منا لتتمكنوا من نحرها ، ( لعلكم تشكرون ) لكي تشكروا إنعام الله عليكم .
( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين ( 37 ) )
( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ) وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة [ ص: 388 ] بدمائها قربة إلى الله ، فأنزل الله هذه الآية : " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها " قرأ يعقوب " تنال وتناله " بالتاء فيهما ، وقرأ العامة بالياء . قال مقاتل : لن يرفع إلى الله لحومها ولا دماؤها ، ( ولكن يناله التقوى منكم ) ولكن ترفع إليه منكم الأعمال الصالحة والتقوى ، والإخلاص ما أريد به وجه الله ، ( كذلك سخرها لكم ) يعني : البدن ، ( لتكبروا الله على ما هداكم ) أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه ، وهو أن يقول : الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولانا ، ( وبشر المحسنين ) قال ابن عباس : الموحدين .
( إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور ( 38 ) ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ( 39 ) )
قوله تعالى : ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة : " يدفع " ، وقرأ الآخرون : " يدافع " بالألف ، يريد : يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم عن المؤمنين . ( إن الله لا يحب كل خوان كفور ) أي : خوان في أمانة الله كفور لنعمته ، قال ابن عباس : خانوا الله فجعلوا معه شريكا وكفروا نعمه . قال الزجاج : من تقرب إلى الأصنام بذبيحته وذكر عليها اسما غير الله فهو خوان كفور . قوله عز وجل : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم : " أذن " بضم الألف والباقون بفتحها ، أي : أذن الله ، " للذين يقاتلون " ، قرأ أهل المدينة وابن عامر وحفص " يقاتلون " بفتح التاء يعني المؤمنين الذين يقاتلهم المشركون ، وقرأ الآخرون بكسر التاء يعني الذين أذن لهم بالجهاد " يقاتلون " المشركين .
قال المفسرون : كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يزالون محزونين من بين مضروب ومشجوج ، ويشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول لهم : اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال ، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال ، فنزلت هذه الآية بالمدينة .
وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة ، فكانوا [ ص: 389 ] يمنعون فأذن الله لهم في قتال الكفار الذين يمنعونهم من الهجرة ( بأنهم ظلموا ) أي : بسبب ما ظلموا ، واعتدي عليهم بالإيذاء ، ( وإن الله على نصرهم لقدير )
( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ( 40 ) الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ( 41 ) )
( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ) بدل " عن الذين " الأولى ( إلا أن يقولوا ربنا الله ) أي : لم يخرجوا من ديارهم إلا لقولهم ربنا الله وحده .
( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) بالجهاد وإقامة الحدود ، ( لهدمت ) قرأ أهل الحجاز بتخفيف الدال ، وقرأ الآخرون بالتشديد على التكثير ، فالتخفيف يكون للقليل ، والتكثير والتشديد يختص بالتكثير ، ( صوامع ) قال مجاهد والضحاك : يعني : صوامع الرهبان . وقال قتادة : صوامع الصابئين ، ( وبيع ) بيع النصارى جمع " بيعة " وهي كنيسة النصارى ، ( وصلوات ) يعني كنائس اليهود ، ويسمونها بالعبرانية صلوتا ، ( ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) يعني مساجد المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
ومعنى الآية : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شريعة كل نبي مكان صلاتهم ، لهدم في زمن موسى الكنائس ، وفي زمن عيسى البيع والصوامع ، وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد .
وقال ابن زيد : أراد بالصلوات صلوات أهل الإسلام ، فإنها تنقطع إذا دخل العدو عليهم .
( ولينصرن الله من ينصره ) أي : ينصر دينه ونبيه ، ( إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ) قال الزجاج : هذا من صفة ناصريه ، ومعنى " مكناهم في الأرض " : نصرناهم على عدوهم حتى [ ص: 390 ] يتمكنوا في البلاد . قال قتادة : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال الحسن : هم هذه الأمة ( ولله عاقبة الأمور ) أي : آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه ، يعني : يبطل كل ملك سوى ملكه ، فتصير الأمور إليه بلا منازع ولا مدع .
( وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ( 42 ) وقوم إبراهيم وقوم لوط ( 43 ) وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير ( 44 ) فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ( 45 ) )
قوله عز وجل : ( وإن يكذبوك ) يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ، ( فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط ) . ( وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ) أي : أمهلتهم وأخرت عقوبتهم ، ( ثم أخذتهم ) [ عاقبتهم ] ( فكيف كان نكير ) أي : إنكاري ، أي : كيف أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب بالعذاب والهلاك ، يخوف به من يخالف النبي صلى الله عليه وسلم ويكذبه . ( فكأين ) فكم ( من قرية أهلكناها ) بالتاء هكذا قرأ أهل البصرة ويعقوب ، وقرأ الآخرون : " أهلكناها " بالنون والألف على التعظيم ، ( وهي ظالمة ) أي : وأهلها ظالمون ، ( فهي خاوية ) ساقطة ( على عروشها ) على سقوفها ، ( وبئر معطلة ) [ أي : وكم من بئر معطلة ] متروكة مخلاة عن أهلها ( وقصر مشيد ) قال قتادة والضحاك ومقاتل : رفيع طويل ، من قولهم شاد بناءه إذا رفعه . وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء : مجصص ، من الشيد ، وهو الجص . وقيل : إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن ، أما القصر فعلى قلة جبل ، والبئر في سفحه ، ولكل واحد منهما قوم كانوا في نعمة فكفروا فأهلكهم الله ، وبقي البئر والقصر خاليين .
وروى أبو روق عن الضحاك : أن هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها حاضوراء ، وذلك [ ص: 391 ] أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح ، نجوا من العذاب ، أتوا حضرموت ومعهم صالح فلما حضروه مات صالح ، فسمي حضرموت ، لأن صالحا لما حضر مات فبنوا حاضوراء وقعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلا فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا ، ثم إنهم عبدوا الأصنام وكفروا فأرسل الله إليهم نبيا يقال له حنظلة بن صفوان ، كان حمالا فيهم ، فقتلوه في السوق فأهلكهم الله ، وعطلت بئرهم وخربت قصورهم .
( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( 46 ) ( ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ( 47 ) )
( أفلم يسيروا في الأرض ) يعني : كفار مكة ، فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية ، ( فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ) يعني : ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية فيعتبرون بها ، ( فإنها ) الهاء عماد ، ( لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) ذكر " التي في الصدور " تأكيدا كقوله : ( يطير بجناحيه ) ( الأنعام : 38 ) معناه أن العمى الضار هو عمى القلب ، فأما عمى البصر فليس بضار في أمر الدين ، قال قتادة : البصر الظاهر : بلغة ومتعة ، وبصر القلب : هو البصر النافع . ( ويستعجلونك بالعذاب ) نزلت في النضر بن الحارث حيث قال : إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ( ولن يخلف الله وعده ) فأنجز ذلك يوم بدر . ( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : " يعدون " بالياء هاهنا لقوله : ( ويستعجلونك ) وقرأ الباقون : بالتاء لأنه أعم ، لأنه خطاب للمستعجلين والمؤمنين ، واتفقوا في تنزيل " السجدة " أنه بالتاء .
قال ابن عباس : يعني يوما من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض .
وقال مجاهد وعكرمة : يوما من أيام الآخرة ، والدليل عليه ما روي عن أبي سعيد الخدري [ ص: 392 ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة ، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم ، وذلك مقدار خمسمائة سنة " .
قال ابن زيد : " وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون " هذه أيام الآخرة . وقوله : " كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون " يوم القيامة . والمعنى على هذا : أنهم يستعجلون بالعذاب ، وإن يوما من أيام عذابهم في الآخرة ألف سنة .
وقيل : معناه وإن يوما من أيام العذاب الذي استعجلوه في الثقل والاستطالة والشدة كألف سنة مما تعدون ، فكيف تستعجلونه؟ هذا كما يقال : أيام الهموم طوال ، وأيام السرور قصار .
وقيل : معناه إن يوما عنده وألف سنة في الإمهال سواء ، لأنه قادر متى شاء أخذهم لا يفوته شيء بالتأخير ، فيستوي في قدرته وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء .
( وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ( 48 ) قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين ( 49 ) فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم ( 50 ) والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم ( 51 ) )
( وكأين من قرية أمليت لها ) أي أمهلتها ، ( وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ) . ( قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين ) . ( فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم ) الرزق الكريم الذي لا ينقطع أبدا . وقيل : هو الجنة . ( والذين سعوا في آياتنا ) أي عملوا في إبطال آياتنا ، ( معاجزين ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : " معجزين " بالتشديد هاهنا وفي سورة سبإ أي : مثبطين الناس عن الإيمان ، وقرأ الآخرون : " معاجزين " بالألف أي : معاندين مشاقين . وقال قتادة : معناه ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا بزعمهم أن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار ، ومعنى يعجزوننا ، أي : يفوتوننا فلا نقدر عليهم . وهذا كقوله تعالى : ( أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ) ( العنكبوت : 4 ) ، ( أولئك أصحاب الجحيم ) وقيل : " معاجزين " مغالبين ، يريد كل واحد أن يظهر عجز صاحبه .
ابو وليد البحيرى
2022-05-27, 10:50 PM
الحلقة (297)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْحَجِّ
مَكِّيَّةٌ
الاية52 إلى الاية 75
( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ( 52 ) )
قوله عز وجل : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) الآية . قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسرين : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولي قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم ، فكان يوما في مجلس قريش فأنزل الله تعالى سورة " النجم " فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله : ( أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ) ألقى الشيطان على لسانه بما كان يحدث به نفسه ويتمناه : " تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى " ، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته ، فقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده ، وسجد جميع من في المسجد من المشركين ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص ، فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها ، لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود . وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإذا جعل لها نصيبا فنحن معه ، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال : يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كثيرا فأنزل الله هذه الآية يعزيه ، وكان به رحيما ، وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود قريش وقيل : أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم ، وقالوا : هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا فلم يدخل أحد إلا بجوار أو مستخفيا ، فلما نزلت هذه الآية قالت قريش : ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك . وكان الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه ، وشدة على من أسلم .
قال الله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ) وهو الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانا ، ( ولا نبي ) وهو الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما ، وكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا ( إلا إذا تمنى ) قال بعضهم : أي : أحب شيئا واشتهاه وحدث به نفسه ما لم يؤمر به . ( ألقى الشيطان في أمنيته ) أي : مراده .
وعن ابن عباس قال : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلا وما من نبي إلا تمنى [ ص: 394 ] أن يؤمن به قومه ولم يتمن ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضى به قومه ، فينسخ الله ما يلقي الشيطان .
وأكثر المفسرين قالوا : معنى قوله : ( تمنى ) أي : تلا وقرأ كتاب الله تعالى . " ألقى الشيطان في أمنيته " أي : في تلاوته ، قال الشاعر في عثمان حين قتل :
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
واختلفوا في أنه كان يقرأ في الصلاة أو في غير الصلاة؟ فقال قوم : كان يقرأ في الصلاة . وقال قوم : كان يقرأ في غير الصلاة . فإن قيل كيف يجوز الغلط في التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان معصوما من الغلط في أصل الدين ، وقال جل ذكره في القرآن : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) ( فصلت : 42 ) يعني إبليس؟
قيل : قد اختلف الناس في الجواب عنه ، فقال بعضهم : إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقرأ ، ولكن الشيطان ذكر ذلك بين قراءته ، فظن المشركون أن الرسول قرأه .
وقال قتادة : أغفى النبي صلى الله عليه وسلم إغفاءة فجرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان ولم يكن له خبر .
والأكثرون قالوا : جرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان على سبيل السهو والنسيان ولم يلبث أن نبهه الله عليه .
وقيل : إن شيطانا يقال له أبيض عمل هذا العمل ، وكان ذلك فتنة ومحنة من الله تعالى يمتحن عباده بما يشاء .
[ ص: 395 ] ( ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ( 53 ) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ( 54 ) )
( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) أي : يبطله ويذهبه ، ( ثم يحكم الله آياته ) فيثبتها ، ( والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض ) أي : محنة وبلية ، شك ونفاق ، ( والقاسية ) يعني الجافية ، ( قلوبهم ) عن قبول الحق وهم المشركون ، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك ، ثم نسخ ورفع فازدادوا عتوا ، وظنوا أن محمدا يقوله من تلقاء نفسه ثم يندم فيبطل ، ( وإن الظالمين ) المشركين ( لفي شقاق بعيد ) أي : في خلاف شديد . ( وليعلم الذين أوتوا العلم ) التوحيد والقرآن . وقال السدي : التصديق بنسخ الله تعالى ، ( أنه ) يعني : أن الذي أحكم الله من آيات القرآن هو ( الحق من ربك فيؤمنوا به ) أي : يعتقدوا [ ص: 396 ] أنه من الله ، ( فتخبت له قلوبهم ) أي : فتسكن إليه قلوبهم ، ( وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ) أي : طريق قويم هو الإسلام .
( ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ( 55 ) ( الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم ( 56 ) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين ( 57 ) والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ( 58 ) )
( ولا يزال الذين كفروا في مرية منه ) أي : في شك مما ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنها . وقال ابن جريج : " منه " أي : من القرآن . وقيل : من الدين ، وهو الصراط المستقيم . ( حتى تأتيهم الساعة بغتة ) يعني : القيامة . وقيل : الموت ، ( أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ) قال الضحاك وعكرمة : عذاب يوم لا ليلة له ، وهو يوم القيامة .
والأكثرون على أن اليوم العقيم يوم بدر ، لأنه ذكر الساعة من قبل وهو يوم القيامة . وسمي يوم بدر عقيما لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير ، كالريح العقيم التي لا تأتي بخير ، سحاب ولا مطر ، [ والعقم في اللغة : المنع ، يقال : رجل عقيم إذا منع من الولد ] . وقيل : لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه . وقال ابن جريج : لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل حتى قتلوا قبل المساء . ( الملك يومئذ ) يعني يوم القيامة ، ( لله ) وحده من غير منازع ، ( يحكم بينهم ) ثم بين الحكم ، فقال تعالى : ( فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين ) . ( والذين هاجروا في سبيل الله ) فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب رضاه ، ( ثم قتلوا أو ماتوا ) وهم كذلك ، قرأ ابن عامر " قتلوا " بالتشديد ( ليرزقنهم الله رزقا حسنا ) والرزق الحسن الذي لا ينقطع أبدا هو رزق الجنة ، ( وإن الله لهو خير الرازقين ) قيل : هو قوله : ( بل أحياء عند ربهم يرزقون ) ( آل عمران : 169 )
[ ص: 397 ] ( ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم ( 59 ) ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ( 60 ) ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ( 61 ) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير ( 62 ) ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير ( 63 ) )
( ليدخلنهم مدخلا يرضونه ) لأن لهم فيه ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، ( وإن الله لعليم ) بنياتهم ، ( حليم ) عنهم . ( ذلك ) أي : الأمر ذلك الذي قصصنا عليكم ، ( ومن عاقب بمثل ما عوقب به ) جازى الظالم بمثل ظلمه . قال الحسن : يعني قاتل المشركين كما قاتلوه ، ( ثم بغي عليه ) أي : ظلم بإخراجه من منزله يعني : ما أتاه المشركون من البغي على المسلمين حتى أحوجوهم إلى مفارقة أوطانهم ، نزلت في قوم من المشركين أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فكره المسلمون قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم ، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم قال الله تعالى : ( لينصرنه الله ) والعقاب الأول بمعنى الجزاء ، ( إن الله لعفو غفور ) عفا عن مساوئ المؤمنين وغفر لهم ذنوبهم . ( ذلك ) أي : ذلك النصر ( بأن الله ) القادر على ما يشاء ، فمن قدرته أنه : ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون ) قرأ أهل البصرة وحمزة والكسائي وحفص : بالياء ، وقرأ الآخرون : بالتاء ، يعني المشركين ، ( من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي ) العالي على كل شيء ، ( الكبير ) العظيم الذي كل شيء دونه . ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ) بالنبات ، ( إن الله لطيف ) بأرزاق عباده واستخراج النبات من الأرض ، ( خبير ) بما في قلوب العباد واستخراج النبات من الأرض ، إذا تأخر المطر عنهم .
[ ص: 398 ] ( له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ( 64 ) ( ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم ( 65 ) وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور ( 66 ) لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم ( 67 ) )
( له ما في السماوات وما في الأرض ) عبيدا وملكا ، ( وإن الله لهو الغني ) عن عباده ، ( الحميد ) في أفعاله . ( ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك ) أي : وسخر لكم الفلك ، ( تجري في البحر بأمره ) وقيل : " ما في الأرض " : الدواب تركب في البر ، و " الفلك " تركب في البحر ، ( ويمسك السماء أن تقع على الأرض ) يعني : لكيلا تسقط على الأرض ، ( إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم وهو الذي أحياكم ) أي : أنشأكم ولم تكونوا شيئا ، ( ثم يميتكم ) عند انقضاء آجالكم ، ( ثم يحييكم ) يوم البعث للثواب والعقاب ، ( إن الإنسان لكفور ) لنعم الله . قوله عز وجل : ( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ) قال ابن عباس : يعني شريعة هم عاملون بها . وروي عنه أنه قال : عيدا قال قتادة ومجاهد : موضع قربان يذبحون فيه . وقيل : موضع عبادة . وقيل : مألفا يألفونه .
والمنسك في كلام العرب : الموضع المعتاد لعمل خير أو شر ، ومنه " مناسك الحج " لتردد الناس إلى أماكن أعمال الحج .
( فلا ينازعنك في الأمر ) يعني في أمر الذبائح . نزلت في بديل بن ورقاء ، وبشر بن سفيان ، ويزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ما لكم تأكلون مما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون مما قتله الله .
قال الزجاج : معنى قوله ( فلا ينازعنك ) أي : لا تنازعهم أنت ، كما يقال : لا يخاصمك فلان ، [ ص: 399 ] أي : لا تخاصمه ، وهذا جائز فيما يكون بين الاثنين ، ولا يجوز : لا يضربنك فلان ، وأنت تريد : لا تضربه ، وذلك أن المنازعة والمخاصمة لا تتم إلا باثنين ، فإذا ترك أحدهما فلا مخاصمة هناك .
( وادع إلى ربك ) إلى الإيمان بربك ، ( إنك لعلى هدى مستقيم ) .
( وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ( 68 ) الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ( 69 ) ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ( 70 ) ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير ( 71 ) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ( 72 ) )
( وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ) . ( الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ) فتعرفون حينئذ الحق من الباطل . والاختلاف : ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر . ( ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك ) كله ، ( في كتاب ) يعني اللوح المحفوظ ، ( إن ذلك ) يعني : علمه لجميع ذلك ، ( على الله يسير ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا ) حجة ، ( وما ليس لهم به علم ) يعني أنهم فعلوا ما فعلوا عن جهل لا عن علم ، ( وما للظالمين ) للمشركين ، ( من نصير ) مانع يمنعهم من عذاب الله . ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ) يعني : القرآن ، ( تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر ) يعني الإنكار يتبين ذلك في وجوههم من الكراهية والعبوس ، ( يكادون يسطون ) أي : يقعون ويبسطون إليكم أيديهم بالسوء . وقيل : يبطشون ، ( بالذين يتلون عليهم آياتنا ) أي : بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ . يقال : سطا عليه وسطا به ، إذا تناوله بالبطش والعنف ، وأصل السطو : القهر .
( قل ) يا محمد ، ( أفأنبئكم بشر من ذلكم ) أي : بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن [ ص: 400 ] الذي تستمعون ، ( النار ) أي : هي النار ، ( وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير )
( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ( 73 ) ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ( 74 ) الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير ( 75 ) )
( يا أيها الناس ضرب مثل ) معنى ضرب : جعل ، كقولهم : ضرب السلطان البعث على الناس ، وضرب الجزية على أهل الذمة ، أي : جعل ذلك عليهم . ومعنى الآية : جعل لي شبه ، وشبه بي الأوثان ، أي : جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها ومعنى ( فاستمعوا له ) أي : فاستمعوا حالها وصفتها . ثم بين ذلك فقال :
( إن الذين تدعون من دون الله ) يعني : الأصنام ، قرأ يعقوب بالياء والباقون بالتاء ( لن يخلقوا ذبابا ) واحدا في صغره وقلته لأنها لا تقدر عليه . والذباب : واحد وجمعه القليل : أذبة ، والكثير : ذبان ، مثل غراب وأغربة ، وغربان ، ( ولو اجتمعوا له ) أي : لخلقه ، ( وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ) قال ابن عباس : كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ، فإذا جف جاء الذباب فاستلب منه .
وقال السدي : كانوا يضعون الطعام بين يدي الأصنام فتقع الذباب عليه فيأكلن منه .
وقال ابن زيد : كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر ، ويطيبونها بألوان الطيب فربما تسقط منها واحدة فيأخذها طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها ، فذلك قوله : ( وإن يسلبهم الذباب شيئا ) أي : وإن يسلب الذباب الأصنام شيئا مما عليها لا يقدرون أن يستنقذوه منه ، ( ضعف الطالب والمطلوب ) قال ابن عباس : " الطالب " : الذباب يطلب ما يسلب من الطيب من الصنم ، و " المطلوب " : الصنم يطلب الذباب منه السلب . وقيل : على العكس : " الطالب " : الصنم و " المطلوب " : الذباب . وقال الضحاك : " الطالب " : العابد و " المطلوب " : المعبود . ( ما قدروا الله حق قدره ) ما عظموه حق عظمته وما عرفوه حق معرفته ، ولا وصفوه حق صفته إن أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه ، ( إن الله لقوي عزيز ( الله يصطفي ) يعني يختار ( من الملائكة رسلا ) وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وغيرهم ، ( ومن الناس ) أي : يختار من الناس رسلا مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم [ ص: 401 ] وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام ، نزلت حين قال المشركون : " أأنزل عليه الذكر من بيننا " فأخبر أن الاختيار إليه ، يختار من يشاء من خلقه .
( إن الله سميع بصير ) أي : سميع لقولهم ، بصير بمن يختاره لرسالته .
ابو وليد البحيرى
2022-05-27, 10:56 PM
الحلقة (298)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية 16
( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور ( 76 ) يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ( 77 ) )
( يعلم ما بين أيديهم ) قال ابن عباس : ما قدموا ، ( وما خلفهم ) ما خلفوا ، وقال الحسن : " ما بين أيديهم " : ما عملوا " وما خلفهم " ما هم عاملون من بعد ، وقيل : " ما بين أيديهم : ملائكته وكتبه ورسله قبل أن خلقهم ، " وما خلفهم " أي : يعلم ما هو كائن بعد فنائهم . ( وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا ) أي : صلوا ، لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود ، ( واعبدوا ربكم ) وحده ، ( وافعلوا الخير ) قال ابن عباس صلة الرحم ومكارم الأخلاق ، ( لعلكم تفلحون ) لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة . واختلف أهل العلم في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية .
فذهب قوم إلى أنه يسجد عندها ، وهو قول عمر ، وعلي ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وبه قال ابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . واحتجوا بما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، أخبرنا قتيبة ، أخبرنا ابن لهيعة ، عن مشرح بن هاعان ، عن عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله : فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين؟ قال " نعم ، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما " . [ ص: 402 ]
وذهب قوم إلى أنه لا يسجد هاهنا ، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي .
وعدة سجود القرآن أربعة عشر عند أكثر أهل العلم ، منها ثلاث في المفصل .
وذهب قوم إلى أنه ليس في المفصل سجود . روي ذلك عن أبي بن كعب ، وابن عباس ، وبه قال مالك . وقد صح عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : في " اقرأ " و " إذا السماء انشقت " وأبو هريرة من متأخري الإسلام .
واختلفوا في سجود " صاد " ، فذهب الشافعي : إلى أنه سجود شكر ليس من عزائم السجود ، ويروى ذلك عن ابن عباس وذهب قوم إلى أنه يسجد فيها ، روي ذلك عن عمر ، وبه قال سفيان الثوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي ، وأحمد ، وإسحاق ، فعند ابن المبارك ، وإسحاق ، وأحمد ، وجماعة : سجود القرآن خمسة عشرة سجدة ، فعدوا سجدتي الحج وسجدة ص ، وروي عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن .
( وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ( 78 ) )
قوله عز وجل : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) قيل : جاهدوا في سبيل الله أعداء الله " حق جهاده " هو استفراغ الطاقة فيه ، قاله ابن عباس : وعنه أيضا أنه قال : لا تخافوا في الله لومة لائم فهو حق الجهاد ، كما قال تعالى : ( يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) ( المائدة : 54 ) .
قال الضحاك ومقاتل : اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته .
وقال مقاتل بن سليمان : نسخها قوله ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ( التغابن : 16 ) ، وقال أكثر المفسرين : " حق الجهاد " : أن تكون نيته خالصة صادقة لله عز وجل . وقال السدي : هو أن يطاع فلا يعصى .
وقال عبد الله بن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى ، وهو الجهاد الأكبر ، وهو حق الجهاد . وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك قال : " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد [ ص: 403 ] الأكبر " وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار ، وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس .
( هو اجتباكم ) أي : اختاركم لدينه ، ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ضيق ، معناه : أن المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرجا ، بعضها بالتوبة ، وبعضها برد المظالم والقصاص ، وبعضها بأنواع الكفارات ، فليس في دين الإسلام ذنب لا يجد العبد سبيلا إلى الخلاص من العقاب فيه .
وقيل : من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس ذلك عليكم ، وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا .
وقال مقاتل : يعني الرخص عند الضرورات ، كقصر الصلاة في السفر ، والتيمم ، وأكل الميتة عند الضرورة ، والإفطار بالسفر والمرض ، والصلاة قاعدا عند العجز . وهو قول الكلبي .
وروي عن ابن عباس أنه قال : الحرج ما كان على بني إسرائيل من الآصال التي كانت عليهم ، وضعها الله عن هذه الأمة .
( ملة أبيكم إبراهيم ) أي : كلمة أبيكم ، نصب بنزع حرف الصفة . وقيل : نصب على الإغراء ، أي : اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم ، [ وإنما أمرنا باتباع ملة إبراهيم ] لأنها داخلة في ملة محمد صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : فما وجه قوله : ( ملة أبيكم ) وليس كل المسلمين يرجع نسبهم إلى إبراهيم؟ .
قيل : خاطب به العرب وهم كانوا من نسل إبراهيم . وقيل : خاطب به جميع المسلمين ، وإبراهيم أب لهم ، على معنى وجوب احترامه وحفظ حقه كما يجب احترام الأب ، وهو كقوله تعالى : ( وأزواجه أمهاتهم ) ( الأحزاب : 6 ) [ ص: 404 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا لكم مثل الوالد [ لوالده ] " .
( هو سماكم ) يعني أن الله تعالى سماكم ( المسلمين من قبل ) يعني من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة . ( وفي هذا ) أي : في الكتاب ، هذا قول أكثر المفسرين . وقال ابن زيد : " هو " يرجع إلى إبراهيم أي أن إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه ، من قبل هذا الوقت ، وفي هذا الوقت ، وهو قوله : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) ( البقرة : 127 ) ، ( ليكون الرسول شهيدا عليكم ) يوم القيامة أن قد بلغكم ، ( وتكونوا ) أنتم ، ( شهداء على الناس ) أن رسلهم قد بلغتهم ، ( فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله ) أي : ثقوا بالله وتوكلوا عليه . قال الحسن : تمسكوا بدين الله . وروي عن ابن عباس قال : سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره . وقيل : معناه ادعوه ليثبتكم على دينه . وقيل : الاعتصام بالله هو التمسك بالكتاب والسنة ، ( هو مولاكم ) [ وليكم ] وناصركم وحافظكم ، ( فنعم المولى ونعم النصير ) الناصر لكم .
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( 1 ) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ( 2 ) )
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِيُّ ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، أَمْلَى عَلَيَّ يُونُسُ صَاحِبُ أَيْلَةَ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِئِ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ ، فَمَكَثْنَا سَاعَةً - وَفِي رِوَايَةٍ : فَنَزَلَ عَلَيْنَا يَوْمًا فَمَكَثْنَا سَاعَةً - فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ : " اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا ، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا ، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا ، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا ، وَارْضَ عَنَّا ، ثُمَّ قَالَ : لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ " ، ثُمَّ قَرَأَ ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) إِلَى عَشْرِ آيَاتٍ .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ ، وَجَمَاعَةٌ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، وَقَالُوا : " وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا " .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) " قَدْ " حَرْفُ تَأْكِيدٍ ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ : " قَدْ " تُقَرِّبُ الْمَاضِيَ مِنَ [ ص: 408 ] الْحَالِ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَلَاحَ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ ، وَأَنَّهُمْ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَجْرِيدِ ذِكْرِ الْفِعْلِ ، " وَالْفَلَاحُ " النَّجَاةُ وَالْبَقَاءُ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَدْ سَعِدَ الْمُصَدِّقُونَ بِالتَّوْحِيدِ وَبَقُوا فِي الْجَنَّةِ . ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْخُشُوعِ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مُخْبِتُونَ أَذِلَّاءُ . وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ : خَائِفُونَ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : مُتَوَاضِعُونَ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هُوَ غَضُّ الْبَصَرِ وَخَفْضُ الصَّوْتِ .
وَالْخُشُوعُ قَرِيبٌ مِنَ الْخُضُوعِ إِلَّا أَنَّ الْخُضُوعَ فِي الْبَدَنِ ، وَالْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالْبَصَرِ وَالصَّوْتِ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : " وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ " ( طه - 108 ) .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هُوَ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : هُوَ أَنْ لَا يَعْرِفَ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَلَا مَنْ عَلَى يَسَارِهِ ، وَلَا يَلْتَفِتَ مِنَ الْخُشُوعِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ النُّعَيْمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ ، أَخْبَرَنَا أَشْعَثُ بْنُ سَلِيمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ : " هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ " .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرْخَسِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَاسِمُ بْنُ بَكْرٍ الطَّيَالِسِيُّ بِبَغْدَادَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو أُمَيَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الطَرْسُوسِيُّ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ مَا كَانَ فِي صِلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا الْتَفَتَ أَعْرَضَ عَنْهُ " .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : هُوَ السُّكُونُ وَحُسْنُ الْهَيْئَةِ . وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُ : هُوَ أَنْ لَا تَرْفَعَ بَصَرَكَ عَنْ مَوْضِعِ سُجُودِكَ .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا نَزَلَ : ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) رَمَوْا بِأَبْصَارِهِمْ إِلَى مَوَاضِعِ السُّجُودِ . [ ص: 409 ]
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ النُّعَيْمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عُرُوبَةَ ، أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ " ، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ : " لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ " .
وَقَالَ عَطَاءٌ : هُوَ أَنْ لَا تَعْبَثَ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِكَ فِي الصَّلَاةِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْصَرَ رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ : " لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ " .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ ، أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَمْسَحِ الْحَصَى فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ " .
وَقِيلَ : الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ جَمْعُ الْهِمَّةِ ، وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهَا ، وَالتَّدَبُّرُ فِيمَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ .
( والذين هم عن اللغو معرضون ( 3 ) والذين هم للزكاة فاعلون ( 4 ) )
قوله عز وجل : ( والذين هم عن اللغو معرضون ) قال عطاء عن ابن عباس : عن الشرك ، وقال الحسن : عن المعاصي . وقال الزجاج : عن كل باطل ولهو وما لا يحل من القول والفعل . وقيل : هو معارضة الكفار بالشتم والسب : قال الله تعالى : " وإذا مروا باللغو مروا كراما " ( الفرقان - 72 ) ، أي : إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه . ( والذين هم للزكاة فاعلون ) أي : للزكاة الواجبة مؤدون ، فعبر عن التأدية بالفعل لأنها فعل . وقيل : الزكاة هاهنا هو العمل الصالح ، أي : والذين هم للعمل الصالح فاعلون .
[ ص: 410 ] ( والذين هم لفروجهم حافظون ( 5 ) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ( 6 ) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ( 7 ) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ( 8 ) والذين هم على صلواتهم يحافظون ( 9 ) أولئك هم الوارثون ( 10 ) )
( والذين هم لفروجهم حافظون ) الفرج : اسم يجمع سوأة الرجل والمرأة ، وحفظ الفرج : التعفف عن الحرام . ( إلا على أزواجهم ) أي : من أزواجهم ، و " على " بمعنى " من " . ( أو ما ملكت أيمانكم ) ( ما ) في محل الخفض ، يعني أو ما ملكت أيمانهم ، والآية في الرجال خاصة بدليل قوله : " أو ما ملكت أيمانهم " والمرأة لا يجوز أن تستمتع بفرج مملوكها . ( فإنهم غير ملومين ) يعني يحفظ فرجه إلا من امرأته أو أمته فإنه لا يلام على ذلك ، وإنما لا يلام فيهما إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتى ، وفي حال الحيض والنفاس ، فإنه محظور وهو على فعله ملوم . ( فمن ابتغى وراء ذلك ) أي : التمس وطلب سوى الأزواج والولائد المملوكة ، ( فأولئك هم العادون ) الظالمون المتجاوزون من الحلال إلى الحرام وفيه دليل على أن الاستمناء باليد حرام ، وهو قول أكثر العلماء . قال ابن جريج : سألت عطاء عنه فقال : مكروه ، سمعت أن قوما يحشرون وأيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء . وعن سعيد بن جبير قال : عذب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم . ( والذين هم لأماناتهم ) قرأ ابن كثير " لأمانتهم " على التوحيد هاهنا وفي سورة المعارج ، لقوله تعالى : " وعهدهم " والباقون بالجمع ، كقوله عز وجل : " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ( النساء - 57 ) ، ( وعهدهم راعون ) حافظون ، أي : يحفظون ما ائتمنوا عليه ، والعقود التي عاقدوا الناس عليها ، يقومون بالوفاء بها ، والأمانات تختلف فتكون بين الله تعالى وبين العبد كالصلاة والصيام والعبادات التي أوجبها الله عليه ، وتكون بين العبيد كالودائع والصنائع فعلى العبد الوفاء بجميعها . ( والذين هم على صلواتهم ) قرأ حمزة والكسائي " صلاتهم " على التوحيد ، والآخرون صلواتهم على الجمع . ( يحافظون ) أي : يداومون على حفظها ويراعون أوقاتها ، كرر ذكر الصلاة ليبين أن المحافظة عليها واجبة كما أن الخشوع فيها واجب . ( أولئك ) أهل هذه الصفة ، ( هم الوارثون ) يرثون منازل أهل النار من الجنة . [ ص: 411 ]
وروي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار ، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله " وذلك قوله تعالى : ( أولئك هم الوارثون )
وقال مجاهد : لكل واحد منزل في الجنة ومنزل في النار ، فأما المؤمن فيبني منزله الذي له في الجنة ويهدم منزله الذي له في النار ، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة ويبني منزله الذي في النار .
وقال بعضهم : معنى الوراثة هو أنه يئول أمرهم إلى الجنة وينالونها ، كما يئول أمر الميراث إلى الوارث .
( الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ( 11 ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ( 12 ) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ( 13 ) )
قوله تعالى : ( الذين يرثون الفردوس ) وهو أعلى الجنة قد ذكرناه في سورة الكهف ( هم فيها خالدون ) لا يموتون ولا يخرجون ، وجاء في الحديث : " أن الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده : خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس الفردوس بيده ، ثم قال : وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ، ولا ديوث " . قوله عز وجل : ( ولقد خلقنا الإنسان ) يعني : ولد آدم ، و " الإنسان " اسم الجنس ، يقع على الواحد والجمع ، ( من سلالة ) روي عن ابن عباس أنه قال : السلالة صفوة الماء . وقال مجاهد : من بني آدم . وقال عكرمة : هو يسيل من الظهر ، والعرب تسمي النطفة سلالة ، والولد سليلا وسلالة ، لأنهما مسلولان منه .
قوله : ( من طين ) يعني : طين آدم . والسلالة تولدت من طين خلق آدم منه . قال الكلبي : من نطفة سلت من طين ، والطين آدم عليه السلام ، وقيل المراد من الإنسان هو آدم . وقوله : " من سلالة : أي : سل من كل تربة . ( ثم جعلناه نطفة ) يعني الذي هو الإنسان جعلناه نطفة ، ( في قرار مكين ) حريز ، وهو الرحم ، ومكن . [ أي : قد هيئ ] لاستقرارها فيه إلى بلوغ أمدها .
[ ص: 412 ] ( ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ( 14 ) ثم إنكم بعد ذلك لميتون ( 15 ) ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ( 16 ) )
( ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما ) قرأ ابن عامر وأبو بكر " عظما " ، ( فكسونا العظام ) على التوحيد فيهما ، وقرأ الآخرون بالجمع لأن الإنسان ذو عظام كثيرة . وقيل : بين كل خلقين أربعون يوما . ( فكسونا العظام لحما ) أي ألبسنا ، ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) اختلف المفسرون فيه ، فقال ابن عباس : ومجاهد ، والشعبي ، وعكرمة ، والضحاك ، وأبو العالية : هو نفخ الروح فيه . وقال قتادة : نبات الأسنان والشعر . وروى ابن جريج عن مجاهد : أنه استواء الشباب . وعن الحسن قال : ذكرا أو أنثى . وروى العوفي عن ابن عباس : أن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتضاع ، إلى القعود إلى القيام ، إلى المشي إلى الفطام ، إلى أن يأكل ويشرب ، إلى أن يبلغ الحلم ، ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها .
( فتبارك الله ) أي : استحق التعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال . ( أحسن الخالقين ) المصورين والمقدرين . و " الخلق " في اللغة : التقدير . وقال مجاهد : يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين ، يقال : رجل خالق أي : صانع .
وقال ابن جريج : إنما جمع الخالقين لأن عيسى كان يخلق كما قال : " إني أخلق لكم من الطين " ( آل عمران - 49 ) فأخبر الله عن نفسه بأنه أحسن الخالقين . ( ثم إنكم بعد ذلك لميتون ) والميت - بالتشديد - والمائت الذي لم يمت بعد وسيموت ، والميت - بالتخفيف - : من مات ، ولذلك لم يجز التخفيف هاهنا ، كقوله : " إنك ميت وإنهم ميتون " ( الزمر - 30 ) . ( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ) .
ابو وليد البحيرى
2022-05-27, 11:00 PM
الحلقة (299)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
مَكِّيَّةٌ
الاية17 إلى الاية 50
( ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين ( 17 ) ( وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون ( 18 ) )
( ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق ) أي : سبع سموات ، سميت طرائق لتطارقها ، وهو أن بعضها فوق بعض ، يقال : طارقت النعل إذا جعلت بعضه فوق بعض . وقيل : سميت طرائق لأنها طرائق الملائكة . ( وما كنا عن الخلق غافلين ) أي كنا لهم حافظين من أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم كما قال الله تعالى : " ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه " ( الحج - 65 ) .
وقيل : ما تركناهم سدى بغير أمر ونهي .
وقيل : وما كنا عن الخلق غافلين أي : بنينا فوقهم سماء أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب . ( وأنزلنا من السماء ماء بقدر ) يعلمه الله . قال مقاتل : بقدر ما يكفيهم للمعيشة ، ( فأسكناه في الأرض ) يريد ما يبقى في الغدران والمستنقعات ، ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر . وقيل : فأسكناه في الأرض ثم أخرجنا منها ينابيع ، فماء الأرض كله من السماء ، ( وإنا على ذهاب به لقادرون ) حتى تهلكوا عطشا وتهلك مواشيكم وتخرب أراضيكم وفي الخبر : " أن الله عز وجل أنزل أربعة أنهار من الجنة : سيحان ، وجيحان ، ودجلة ، والفرات " .
وروى مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله عز وجل أنزل من الجنة خمسة أنهار : جيحون ، وسيحون ، ودجلة ، والفرات ، والنيل ، أنزلها الله عز وجل من عين واحدة من عيون الجنة ، من أسفل درجة من درجاتها ، على جناحي جبريل ، استودعها الله الجبال ، وأجراها في الأرض ، وجعل فيها منافع للناس ، فذلك قوله عز وجل : " وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض " ، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل فرفع من الأرض القرآن ، والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه ، وهذه الأنهار الخمسة ، فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى : ( وإنا على ذهاب به لقادرون ) فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا " .
وروى هذا الحديث الإمام الحسن بن يوسف ، عن عثمان بن سعيد بالإجازة ، عن سعيد بن سابق الإسكندراني ، عن مسلمة بن علي ، عن مقاتل بن حيان .
[ ص: 414 ] ( فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون ( 19 ) وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ( 20 ) )
قوله تعالى : ( فأنشأنا لكم به ) أي : بالماء ، ( جنات من نخيل وأعناب لكم فيها ) في الجنات ، ( فواكه كثيرة ومنها تأكلون ) شتاء وصيفا ، وخص النخيل والأعناب بالذكر لأنها أكثر فواكه العرب . ( وشجرة ) أي : وأنشأنا لكم شجرة ( تخرج من طور سيناء ) وهي الزيتون ، قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو " سيناء " بكسر السين . وقرأ الآخرون بفتحها واختلفوا في معناه وفي " سينين " في قوله تعالى : " وطور سينين " ( التين - 2 ) قال مجاهد : معناه البركة ، أي : من جبل مبارك . وقال قتادة : معناه الحسن ، أي : من الجبل الحسن . وقال الضحاك : هو بالنبطية ، ومعناه الحسن . وقال عكرمة : هو بالحبشية . وقال الكلبي : معناه الشجر ، أي : جبل ذو شجر . وقيل : هو بالسريانية الملتفة بالأشجار . وقال مقاتل : كل جبل فيه أشجار مثمرة فهو سينا ، وسينين بلغة النبط . وقيل : هو فيعال من السناء وهو الارتفاع . قال ابن زيد : هو الجبل الذي نودي منه موسى بين مصر وأيلة . وقال مجاهد : سينا اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده . وقال عكرمة : هو اسم المكان الذي فيه هذا الجبل .
( تنبت بالدهن ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة ويعقوب " تنبت " بضم التاء وكسر الباء ، وقرأ الآخرون بفتح التاء وضم الباء ، فمن قرأ بفتح التاء فمعناه تنبت تثمر الدهن وهو الزيتون . وقيل : تنبت ومعها الدهن ، ومن قرأ بضم التاء ، اختلفوا فيه فمنهم من قال : الباء زائدة ، معناه : تنبت الدهن ، كما يقال : أخذت ثوبه وأخذت بثوبه ، ومنهم من قال : نبت وأنبت لغتان بمعنى واحد ، كما قال زهير :
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل
أي : نبت ، ( وصبغ للآكلين ) الصبغ والصباغ : الإدام الذي يلون الخبز إذا غمس فيه وينصبغ ، والإدام كل ما يؤكل مع الخبز ، سواء ينصبغ به الخبز أو لا ينصبغ . قال مقاتل : جعل [ ص: 415 ] الله في هذه الشجرة أدما ودهنا ، فالأدم : الزيتون ، والدهن : الزيت ، وقال : خص الطور بالزيتون لأن أول الزيتون نبت بها . ويقال : أن الزيتون أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان .
( وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون ( 21 ) وعليها وعلى الفلك تحملون ( 22 ) ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ( 23 ) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ( 24 ) إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين ( 25 ) قال رب انصرني بما كذبون ( 26 ) )
قوله عز وجل : ( وإن لكم في الأنعام لعبرة ) أي : آية تعتبرون بها ، ( نسقيكم ) قرأ نافع بالنون [ وفتحها ] وقرأ أبو جعفر هاهنا بالتاء وفتحها ، ( مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون ) أي : على الإبل في البر ، وعلى الفلك في البحر . قوله عز وجل : ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ) وحدوه ، ( ما لكم من إله غيره ) معبود سواه ، ( أفلا تتقون ) أفلا تخافون عقوبته إذا عبدتم غيره . ( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ) أي : يتشرف بأن يكون له الفضل عليكم فيصير متبوعا وأنتم له تبع ، ( ولو شاء الله ) أن لا يعبد سواه ، ( لأنزل ملائكة ) يعني بإبلاغ الوحي . ( ما سمعنا بهذا ) الذي يدعونا إليه نوح ( في آبائنا الأولين ) وقيل : " ما سمعنا بهذا " أي : بإرسال بشر رسولا . ( إن هو إلا رجل به جنة ) أي : جنون ، ( فتربصوا به حتى حين ) أي : إلى أن يموت فتستريحوا منه . ( قال رب انصرني بما كذبون ) أي : أعني بإهلاكهم لتكذيبهم إياي .
[ ص: 416 ] ( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( 27 ) ( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين ( 28 ) وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ( 29 ) إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين ( 30 ) ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ( 31 ) فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ( 32 ) )
( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها ) أدخل فيها ، يقال سلكته في كذا وأسلكته فيه ، ( من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ) أي : من سبق عليه الحكم بالهلاك .
( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون فإذا استويت ) اعتدلت ( أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين ) أي : الكافرين . ( وقل رب أنزلني منزلا مباركا ) قرأ أبو بكر عن عاصم " منزلا " بفتح الميم وكسر الزاي ، أي يريد موضع النزول ، قيل : هو السفينة بعد الركوب ، وقيل : هو الأرض بعد النزول ، ويحتمل أنه أراد في السفينة ، ويحتمل بعد الخروج ، وقرأ الباقون " منزلا " بضم الميم وفتح الزاي ، أي : إنزالا فالبركة في السفينة النجاة ، وفي النزول بعد الخروج كثرة النسل من أولاده الثلاثة ، ( وأنت خير المنزلين إن في ذلك ) أي : الذي ذكرت من أمر نوح والسفينة وإهلاك أعداء الله ، ( لآيات ) لدلالات على قدرته ، ( وإن كنا لمبتلين ) وقد كنا . وقيل : وما كنا إلا مبتلين أي : مختبرين إياهم بإرسال نوح ووعظه وتذكيره لننظر ما هم عاملون قبل نزول العذاب بهم . ( ثم أنشأنا من بعدهم ) من بعد إهلاكهم ، ( قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم ) يعني : هودا وقومه . وقيل : صالحا وقومه . والأول أظهر ، ( أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون )
[ ص: 417 ] ( وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ( 33 ) ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ( 34 ) أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ( 35 ) هيهات هيهات لما توعدون ( 36 ) إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ( 37 ) إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين ( 38 ) قال رب انصرني بما كذبون ( 39 ) )
( وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة ) أي : المصير إلى الآخرة ، ( وأترفناهم ) نعمناهم ووسعنا عليهم ، ( في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ) أي : مما تشربون منه . ( ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ) لمغبونون . ( أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ) من قبوركم أحياء وأعاد " أنكم " لما طال الكلام ، ومعنى الكلام : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما مخرجون ؟ وكذلك هو في قراءة عبد الله ، نظيره في القرآن : " ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها " ( التوبة - 63 ) . ( هيهات هيهات لما توعدون ) قال ابن عباس : هي كلمة بعد ، أي : بعيد ما توعدون ، قرأ أبو جعفر " هيهات هيهات " بكسر التاء ، وقرأ نصر بن عاصم بالضم ، وكلها لغات صحيحة فمن نصب جعله مثل أين وكيف ، ومن رفع جعله مثل منذ وقط وحيث ، ومن كسر جعله مثل أمس وهؤلاء ، ووقف عليها أكثر القراء بالتاء ، ويروى عن الكسائي الوقف عليها بالهاء . ( إن هي ) يعنون الدنيا ، ( إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ) قيل فيه تقديم وتأخير ، أي : نحيا ونموت لأنهم كانوا ينكرون البعث بعد الموت . وقيل : يموت الآباء ويحيا الأبناء . وقيل : يموت قوم ويحيا قوم . ( وما نحن بمبعوثين ) بمنشرين بعد الموت . ( إن هو ) يعني الرسول ، ( إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين ) بمصدقين بالبعث بعد الموت . ( قال رب انصرني بما كذبون ) .
( قال عما قليل ليصبحن نادمين ( 40 ) فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين ( 41 ) ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ( 42 ) ( ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ( 43 ) ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ( 44 ) )
( قال عما قليل ) أي : عن قليل ، و " ما " صلة ، [ ص: 418 ] ( ليصبحن ) ليصيرن ، ( نادمين ) على كفرهم وتكذيبهم . ( فأخذتهم الصيحة ) يعني صيحة العذاب ، ( بالحق ) قيل : أراد بالصيحة الهلاك . وقيل : صاح بهم جبريل صيحة فتصدعت قلوبهم ، ( فجعلناهم غثاء ) وهو ما يحمله السيل من حشيش وعيدان شجر ، معناه : صيرناهم هلكى فيبسوا يبس الغثاء من نبات الأرض ، ( فبعدا للقوم الظالمين ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ) أي : أقواما آخرين . ( ما تسبق من أمة أجلها ) أي : ما تسبق أمة أجلها أي : وقت هلاكها ، ( وما يستأخرون ) وما يتأخرون عن وقت هلاكهم . ( ثم أرسلنا رسلنا تترى ) أي : مترادفين يتبع بعضهم بعضا غير متواصلين ، لأن بين كل نبيين زمانا طويلا وهي فعلى من المواترة ، قال الأصمعي : يقال واترت الخبر أي أتبعت بعضه بعضا ، وبين الخبرين [ هنيهة ] .
واختلف القراء فيه ، فقرأ أبو جعفر ، وابن كثير ، وأبو عمرو : بالتنوين ، ويقفون بالألف ، ولا يميله أبو عمرو ، وفي الوقف فيها كالألف في قولهم : رأيت زيدا ، وقرأ الباقون بلا تنوين ، والوقف عندهم يكون بالياء ، ويميله حمزة والكسائي ، وهو مثل قولهم : غضبى وسكرى ، وهو اسم جمع مثل شتى ، وعلى القراءتين التاء الأولى بدل من الواو ، وأصله : " وترى " من المواترة والتواتر ، فجعلت الواو تاء ، مثل : التقوى والتكلان .
( كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا ) بالهلاك ، أي : أهلكنا بعضهم في إثر بعض ، ( وجعلناهم أحاديث ) أي : سمرا وقصصا ، يتحدث من بعدهم بأمرهم وشأنهم ، وهي [ ص: 419 ] جمع أحدوثة . وقيل : جمع حديث . قال الأخفش : إنما هو في الشر ، وأما في الخير فلا يقال جعلتهم أحاديث وأحدوثة ، إنما يقال صار فلان حديثا ، ( فبعدا لقوم لا يؤمنون )
( ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين ( 45 ) إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين ( 46 ) فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون ( 47 ) فكذبوهما فكانوا من المهلكين ( 48 ) ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون ( 49 ) وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ( 50 ) )
( ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين ) أي بحجة بينة من اليد والعصا . وغيرهما . ( إلى فرعون وملئه فاستكبروا ) تعظموا عن الإيمان ، ( وكانوا قوما عالين ) متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم . ( فقالوا ) يعني فرعون وقومه ، ( أنؤمن لبشرين مثلنا ) يعني : موسى وهارون ، ( وقومهما لنا عابدون ) مطيعون متذللون ، والعرب تسمي كل من دان للملك : عابدا له . ( فكذبوهما فكانوا من المهلكين ) بالغرق . ( ولقد آتينا موسى الكتاب ) التوراة ، ( لعلهم يهتدون ) أي لكي يهتدي به قومه . ( وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) دلالة على قدرتنا ، ولم يقل آيتين ، قيل : معناه شأنهما آية . وقيل : معناه جعلنا كل واحد منهما آية ، كقوله تعالى : " كلتا الجنتين آتت أكلها " ( الكهف - 33 ) . ( وآويناهما إلى ربوة ) الربوة المكان المرتفع من الأرض ، واختلفت الأقوال فيها ، فقال عبد الله بن سلام : هي دمشق ، وهو قول سعيد بن المسيب ومقاتل ، وقال الضحاك : غوطة دمشق . وقال أبو هريرة : هي الرملة . وقال عطاء عن ابن عباس : هي بيت المقدس ، وهو قول قتادة وكعب . وقال كعب : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا . وقال ابن زيد : هي مصر . وقال السدي : أرض فلسطين . ( ذات قرار ) أي : مستوية منبسطة واسعة يستقر عليها ساكنوها . ( ومعين ) فالمعين الماء الجاري الظاهر الذي تراه العيون ، مفعول من عانه يعينه إذا أدركه البصر .
ابو وليد البحيرى
2022-05-27, 11:05 PM
الحلقة (300)
الجزء الخامس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
مَكِّيَّةٌ
الاية51 إلى الاية 96
( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ( 51 ) وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ( 52 ) فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ( 53 ) فذرهم في غمرتهم حتى حين ( 54 ) أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ( 55 ) )
قوله عز وجل : ( يا أيها الرسل ) قال الحسن ومجاهد وقتادة والسدي والكلبي وجماعة : أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة . وقال بعضهم : أراد به عيسى . وقيل : أراد به جميع الرسل عليهم السلام ، ( كلوا من الطيبات ) أي : الحلالات ، ( واعملوا صالحا ) الصلاح هو الاستقامة على ما توجبه الشريعة ، ( إني بما تعملون عليم ) ( وإن هذه ) قرأ أهل الكوفة : " وإن " بكسر الألف على الابتداء ، وقرأ الباقون بفتح الألف ، وخفف ابن عامر النون وجعل " إن " صلة ، مجازه : وهذه ( أمتكم ) وقرأ الباقون بتشديد النون على معنى وبأن هذا ، تقديره : بأن هذه أمتكم ، أي : ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها ، ( أمة واحدة ) أي : ملة واحدة وهي الإسلام ، ( وأنا ربكم فاتقون ) أي : اتقوني لهذا .
وقيل : معناه أمرتكم بما أمرت به المرسلين من قبلكم ، فأمركم واحد ، ( وأنا ربكم فاتقون ) فاحذرون . وقيل : هو نصب بإضمار فعل ، أي : اعلموا أن هذه أمتكم ، أي : ملتكم ، أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون . ( فتقطعوا أمرهم ) دينهم ، ( بينهم ) أي : تفرقوا فصاروا فرقا ، يهودا ونصارى ومجوسا ، ( زبرا ) أي : فرقا وقطعا مختلفة ، واحدها زبور وهو الفرقة والطائفة ، ومثله الزبرة وجمعها زبر ، ومنه : " زبر الحديد " ( الكهف - 96 ) . أي : صاروا فرقا كزبر الحديد . وقرأ بعض أهل الشام " زبرا " بفتح الباء ، قال قتادة ومجاهد " زبرا " أي : كتبا ، يعني دان كل فريق بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخرون . وقيل : جعلوا كتبهم قطعا مختلفة ، آمنوا بالبعض ، وكفروا بالبعض ، وحرفوا البعض ، ( كل حزب بما لديهم ) بما عندهم من الدين ، ( فرحون ) معجبون ومسرورون . ( فذرهم في غمرتهم ) قال ابن عباس : في كفرهم وضلالتهم ، وقيل : عمايتهم ، وقيل : غفلتهم ( حتى حين ) إلى أن يموتوا . ( أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ) ما نعطيهم ونجعله مددا لهم من المال والبنين في الدنيا .
[ ص: 421 ] ( نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ( 56 ) إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ( 57 ) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون ( 58 ) والذين هم بربهم لا يشركون ( 59 ) ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ( 60 ) )
( نسارع لهم في الخيرات ) أي : نعجل لهم في الخيرات ، ونقدمها ثوابا لأعمالهم لمرضاتنا عنهم ، ( بل لا يشعرون ) أن ذلك استدراج لهم . ثم ذكر المسارعين في الخيرات فقال : ( إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ) أي : خائفون ، والإشفاق : الخوف ، والمعنى أن المؤمنين بما هم عليه من خشية الله خائفون من عقابه ، قال الحسن البصري : المؤمن من جمع إحسانا وخشية ، والمنافق من جمع إساءة وأمنا . ( والذين هم بآيات ربهم يؤمنون ) يصدقون . ( والذين هم بربهم لا يشركون ) . ( والذين يؤتون ما آتوا ) أي : يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات ، وروي عن عائشة أنها كانت تقرأ " والذين يأتون ما أتوا " أي : يعملون ما عملوا من أعمال البر ، ( وقلوبهم وجلة ) أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله وأن أعمالهم لا تقبل منهم ، ( أنهم إلى ربهم راجعون ) لأنهم يوقنون أنهم يرجعون إلى الله عز وجل . قال الحسن : عملوا لله بالطاعات [ واجتهدوا فيها ] وخافوا أن ترد عليهم .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا محمد بن حامد ، حدثنا محمد بن الجهم ، أخبرنا عبد الله بن عمرو ، أخبرنا وكيع عن مالك بن مغول ، عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال : " لا يا بنت الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه " .
[ ص: 422 ] ( أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ( 61 ) ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون ( 62 ) بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ( 63 ) حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون ( 64 ) )
قوله عز وجل : ( أولئك يسارعون في الخيرات ) يبادرون إلى الأعمال الصالحات ، ( وهم لها سابقون ) أي : إليها سابقون ، كقوله تعالى : " لما نهوا " أي : إلى ما نهوا ، ولما قالوا ونحوها ، وقال ابن عباس في معنى هذه الآية : سبقت لهم من الله السعادة . وقال الكلبي : سبقوا الأمم إلى الخيرات . قوله : ( ولا نكلف نفسا إلا وسعها ) أي : طاقتها ، فمن لم يستطع القيام فليصل قاعدا ، ومن لم يستطع الصوم فليفطر ، ( ولدينا كتاب ينطق بالحق ) وهو اللوح المحفوظ ، " ينطق بالحق " يبين بالصدق ، ومعنى الآية : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إلا ما أطاقت من العمل ، وقد أثبتنا عمله في اللوح المحفوظ ، فهو ينطق به ويبينه . وقيل : هو كتب أعمال العباد التي تكتبها الحفظة ، ( وهم لا يظلمون ) ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم . ثم ذكر الكفار ، فقال : ( بل قلوبهم في غمرة ) أي : في غفلة وجهالة ، ( من هذا ) أي : من القرآن ، ( ولهم أعمال من دون ذلك ) أي : للكفار أعمال خبيثة من المعاصي والخطايا محكومة عليهم من دون ذلك ، يعني من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله تعالى في قوله " إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون " ، ( هم لها عاملون ) لا بد لهم من أن يعملوها ، فيدخلوا بها النار ، لما سبق لهم من الشقاوة . هذا قول أكثر المفسرين . وقال قتادة : هذا ينصرف إلى المسلمين ، وأن لهم أعمالا سوى ما عملوا من الخيرات هم لها عاملون ، والأول أظهر . ( حتى إذا أخذنا مترفيهم ) أي : أخذنا أغنياءهم ورؤساءهم ، ( بالعذاب ) قال ابن عباس : هو السيف يوم بدر . وقال الضحاك : يعني الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " فابتلاهم الله عز وجل بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف . ( إذا هم يجأرون ) يضجون ويجزعون ويستغيثون ، وأصل الجأر : رفع الصوت بالتضرع .
[ ص: 423 ] ( لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون ( 65 ) قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون ( 66 ) مستكبرين به سامرا تهجرون ( 67 ) أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ( 68 ) أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ( 69 ) )
( لا تجأروا اليوم ) أي لا تضجوا ، ( إنكم منا لا تنصرون ) لا تمنعون منا ولا ينفعكم تضرعكم . ( قد كانت آياتي تتلى عليكم ) يعني القرآن ، ( فكنتم على أعقابكم تنكصون ) ترجعون القهقرى تتأخرون عن الإيمان . ( مستكبرين به ) اختلفوا في هذه الكناية ، فأظهر الأقاويل أنها تعود إلى البيت الحرام كناية عن غير مذكور ، أي : مستكبرين متعظمين بالبيت الحرام ، وتعظمهم به أنهم كانوا يقولون نحن أهل حرم الله وجيران بيته ، فلا يظهر علينا أحد ، ولا نخاف أحدا ، فيأمنون فيه وسائر الناس في الخوف ، هذا قول ابن عباس ومجاهد ، وجماعة ، وقيل : " مستكبرين به " أي : بالقرآن فلم يؤمنوا به . والأول أظهر ، المراد منه الحرم ، ( سامرا ) نصب على الحال ، أي أنهم يسمرون بالليل في مجالسهم حول البيت ، ووحد سامرا وهو بمعنى السمار لأنه وضع موضع الوقت ، أراد تهجرون ليلا . وقيل : وحد سامرا ، ومعناه الجمع كقوله : " ثم نخرجكم طفلا " ( الحج - 5 ) ، ( تهجرون ) قرأ نافع " تهجرون " بضم التاء وكسر الجيم من الإهجار وهو الإفحاش في القول ، أي : تفحشون وتقولون الخنا ، وذكر أنهم كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقرأ الآخرون : " تهجرون " بفتح التاء وضم الجيم ، أي : تعرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الإيمان والقرآن ، وترفضونها : وقيل : هو من الهجر وهو القول القبيح ، يقال هجر يهجر هجرا إذا قال غير الحق . وقيل تهزئون وتقولون ما لا تعلمون ، من قولهم : هجر الرجل في منامه إذا هذى . ( أفلم يدبروا ) أي : يتدبروا ، ( القول ) يعني : ما جاءهم من القول وهو القرآن ، فيعرفوا ما فيه من الدلالات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، ( أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ) فأنكروا ، يريد إنا قد بعثنا من قبلهم رسلا إلى قومهم كذلك بعثنا محمدا صلى الله عليه وسلم إليهم . وقيل : " أم " بمعنى بل ، يعني : جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين فلذلك أنكروا . ( أم لم يعرفوا رسولهم ) محمدا صلى الله عليه وسلم ، ( فهم له منكرون ) قال ابن عباس : أليس قد عرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم صغيرا وكبيرا ، وعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ووفاءه بالعهود . وهذا على سبيل التوبيخ [ ص: 424 ] لهم على الإعراض عنه بعدما عرفوه بالصدق والأمانة .
( أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ( 70 ) ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ( 71 ) أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين ( 72 ) وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم ( 73 ) وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ( 74 ) )
( أم يقولون به جنة ) جنون ، وليس كذلك ، ( بل جاءهم بالحق ) يعني بالصدق والقول الذي لا تخفى صحته وحسنه على عاقل ، ( وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم ) قال ابن جريج ومقاتل والسدي وجماعة : " الحق " هو الله ، أي : لو اتبع الله مرادهم فيما يفعل ، وقيل : لو اتبع مرادهم ، فسمى لنفسه شريكا وولدا كما يقولون : ( لفسدت السماوات والأرض ) وقال الفراء والزجاج : والمراد بالحق القرآن أي : لو نزل القرآن بما يحبون من جعل الشريك والولد على ما يعتقدونه ( لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) وهو كقوله تعالى : " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " ( الأنبياء - 22 ) .
( بل أتيناهم بذكرهم ) بما يذكرهم ، قال ابن عباس : أي : بما فيه فخرهم وشرفهم ، يعني القرآن ، فهو كقوله تعالى : " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم " ( الأنبياء - 10 ) ، أي : شرفكم ، " وإنه لذكر لك ولقومك " ( الزخرف - 44 ) ، أي : شرف لك ولقومك . ( فهم عن ذكرهم ) يعني عن شرفهم ، ( معرضون ) ( أم تسألهم ) على ما جئتهم به ، ( خرجا ) أجرا وجعلا ( فخراج ربك خير ) أي : ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير ، ( وهو خير الرازقين ) قرأ حمزة والكسائي : " خراجا " " فخراج " كلاهما بالألف ، وقرأ ابن عامر كلاهما بغير ألف ، وقرأ الآخرون : " خرجا " بغير ألف " فخراج " بالألف . ( وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم ) وهو الإسلام . ( وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط ) أي : عن دين الحق ، ( لناكبون ) لعادلون مائلون .
[ ص: 425 ] ( ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ( 75 ) ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ( 76 ) حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون ( 77 ) وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ( 78 ) وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ( 79 ) وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون ( 80 ) )
( ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر ) قحط وجدوبة ( للجوا ) تمادوا ، ( في طغيانهم يعمهون ) ولم ينزعوا عنه . ( ولقد أخذناهم بالعذاب ) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف ، فأصابهم القحط ، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أنشدك الله والرحم ، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال : بلى ، فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فادع الله أن يكشف عنا هذا القحط ، فدعا فكشف عنهم ، فأنزل الله هذه الآية ( فما استكانوا لربهم ) أي : ما خضعوا وما ذلوا لربهم ، وأصله طلب السكون ، ( وما يتضرعون ) أي : لم يتضرعوا إلى ربهم بل مضوا على تمردهم . ( حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد ) قال ابن عباس : يعني القتل يوم بدر . وهو قول مجاهد ، وقيل : هو الموت . وقيل : هو قيام الساعة ، ( إذا هم فيه مبلسون ) آيسون من كل خير . ( وهو الذي أنشأ لكم السمع ) أي : أنشأ لكم الأسماع ( والأبصار والأفئدة ) لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا ، ( قليلا ما تشكرون ) أي : لم تشكروا هذه النعم . ( وهو الذي ذرأكم ) خلقكم ، ( في الأرض وإليه تحشرون ) تبعثون . ( وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار ) أي : تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان ، قال الفراء : جعلهما مختلفين ، يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض ، ( أفلا تعقلون ) ما ترون من صنعة فتعتبرون .
[ ص: 426 ] ( بل قالوا مثل ما قال الأولون ( 81 ) قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ( 82 ) لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين ( 83 ) قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ( 84 ) سيقولون لله قل أفلا تذكرون ( 85 ) قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ( 86 ) سيقولون لله قل أفلا تتقون ( 87 ) قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون ( 88 ) )
( بل قالوا مثل ما قال الأولون ) أي : كذبوا كما كذب الأولون . ( قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ) لمحشورون ، قالوا ذلك على طريق الإنكار والتعجب . ( لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا ) الوعد ، ( من قبل ) أي : وعد آباءنا قوم ذكروا أنهم رسل الله فلم نر له حقيقة ، ( إن هذا إلا أساطير الأولين ) أكاذيب الأولين . ( قل ) يا محمد مجيبا لهم ، يعني أهل مكة ، ( لمن الأرض ومن فيها ) من الخلق ، ( إن كنتم تعلمون ) خالقها ومالكها . ( سيقولون لله ) ولا بد لهم من ذلك لأنهم يقرون أنها مخلوقة . ( قل ) لهم إذا أقروا بذلك : ( أفلا تذكرون ) فتعلمون أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت . ( قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ) . ( سيقولون لله ) قرأ العامة " لله " ومثله ما بعده ، فجعلوا الجواب على المعنى ، كقول القائل للرجل : من مولاك؟ فيقول : لفلان ، أي أنا لفلان وهو مولاي . وقرأ أهل البصرة فيهما " الله " وكذلك هو في مصحف أهل البصرة ، وفي سائر المصاحف ، مكتوب بالألف كالأول ، ( قل أفلا تتقون ) تحذرون . ( قل من بيده ملكوت كل شيء ) الملكوت الملك ، والتاء فيه للمبالغة ، ( وهو يجير ) أي : يؤمن من يشاء ( ولا يجار عليه ) أي : لا يؤمن من أخافه الله ، أو يمنع هو من السوء من يشاء ، ولا يمنع منه من أراده بسوء ، ( إن كنتم تعلمون ) قيل : معناه أجيبوا إن كنتم تعلمون .
[ ص: 427 ] ( سيقولون لله قل فأنى تسحرون ( 89 ) ( بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ( 90 ) ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ( 91 ) عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون ( 92 ) قل رب إما تريني ما يوعدون ( 93 ) رب فلا تجعلني في القوم الظالمين ( 94 ) وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ( 95 ) ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون ( 96 ) )
( سيقولون لله قل فأنى تسحرون ) أي : تخدعون وتصرفون عن توحيده وطاعته ، والمعنى : كيف يخيل لكم الحق باطلا؟ ( بل أتيناهم بالحق ) بالصدق ( وإنهم لكاذبون ) فيما يدعون من الشريك ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ) أي : من شريك ، ( إذا لذهب كل إله بما خلق ) أي : تفرد بما خلقه فلم يرض أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره ، ومنع الإله الآخر من الاستيلاء على ما خلق . ( ولعلا بعضهم على بعض ) أي : طلب بعضهم مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم ، ثم نزه نفسه فقال : ( سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة ) قرأ أهل المدينة والكوفة غير حفص : " عالم " برفع الميم على الابتداء ، وقرأ الآخرون بجرها على نعت الله في سبحان الله ، ( فتعالى عما يشركون ) أي : تعظم عما يشركون ، ومعناه أنه أعظم من أن يوصف بهذا الوصف . قوله : ( قل رب إما تريني ) أي : إن أريتني ، ( ما يوعدون ) أي : ما أوعدتهم من العذاب . ( رب ) أي : يا رب ، ( فلا تجعلني في القوم الظالمين ) أي : لا تهلكني بهلاكهم . ( وإنا على أن نريك ما نعدهم ) من العذاب لهم ، ( لقادرون ) ( ادفع بالتي هي أحسن ) أي : ادفع بالخلة التي هي أحسن ، هي الصفح والإعراض والصبر ، ( السيئة ) يعني أذاهم ، أمرهم بالصبر على أذى المشركين والكف عن المقاتلة ، نسختها آية السيف ( نحن أعلم بما يصفون ) يكذبون ويقولون من الشرك .
ابو وليد البحيرى
2022-06-13, 11:44 PM
الحلقة (301)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
مَكِّيَّةٌ
الاية97 إلى الاية /
( وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ( 97 ) وأعوذ بك رب أن يحضرون ( 98 ) حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون ( 99 ) لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ( 100 ) فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ( 101 ) )
( وقل رب أعوذ بك ) أي : أمتنع وأعتصم بك ، ( من همزات الشياطين ) قال ابن عباس : نزعاتهم . وقال الحسن : وساوسهم . وقال مجاهد : نفخهم ونفثهم . وقال أهل المعاني : دفعهم بالإغواء إلى المعاصي ، وأصل الهمز شدة الدفع . ( وأعوذ بك رب أن يحضرون ) في شيء من أموري ، وإنما ذكر الحضور لأن الشيطان إذا حضره يوسوسه . ثم أخبر أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت ، فقال : ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون ) ولم يقل ارجعني ، وهو يسأل الله وحده الرجعة ، على عادة العرب فإنهم يخاطبون الواحد بلفظ الجمع على وجه التعظيم ، كما أخبر الله تعالى عن نفسه فقال : " ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( الحجر - 9 ) ، ومثله كثير في القرآن . وقيل : هذا الخطاب مع الملائكة الذين يقبضون روحه ابتداء بخطاب الله لأنهم استغاثوا بالله أولا ثم رجعوا إلى مسألة الملائكة الرجوع إلى الدنيا . قوله تعالى : ( لعلي أعمل صالحا فيما تركت ) أي : ضيعت ، أن أقول لا إله إلا الله . وقيل : أعمل بطاعة الله . قال قتادة : ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله ، فرحم الله امرءا عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب ، ( كلا ) كلمة ردع وزجر ، أي : لا يرجع إليها ، ( إنها ) يعني : سؤاله الرجعة ، ( كلمة هو قائلها ) [ ولا ينالها ] ( ومن ورائهم برزخ ) أي : أمامهم وبين أيديهم حاجز ، ( إلى يوم يبعثون ) والبرزخ الحاجز بين الشيئين ، واختلفوا في معناه هاهنا ، فقال مجاهد : حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا . وقال قتادة : بقية الدنيا . وقال الضحاك : البرزخ ما بين الموت إلى البعث . وقيل : هو القبر ، وهم فيه إلى يوم يبعثون . ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم ) اختلفوا في هذه النفخة ، فروى سعيد بن جبير [ ص: 429 ] عن ابن عباس : أنها النفخة الأولى " ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض " ( الزمر - 68 ) ، ( فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) " ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " ( الزمر - 68 ) ، " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " ( الصافات - 27 ) .
وعن ابن مسعود : أنها النفخة الثانية ، قال : يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد : هذا فلان ابن فلان ، فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه ، فيفرح المرء أن [ يكون له ] الحق على والده وولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه ، ثم قرأ ابن مسعود فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون .
وفي رواية عطاء عن ابن عباس : أنها الثانية فلا أنساب بينهم أي : لا يتفاخرون بالأنساب يومئذ كما كانوا يتفاخرون في الدنيا ، ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا : من أنت ومن أي قبيلة أنت؟ ولم يرد أن الأنساب تنقطع .
فإن قيل : أليس قد جاء في الحديث : " كل سبب ونسب ينقطع إلا نسبي وسببي " .
قيل : معناه لا يبقى يوم القيامة سبب ولا نسب إلا نسبه وسببه ، وهو الإيمان والقرآن .
فإن قيل : قد قال هاهنا ( ولا يتساءلون ) وقال في موضع آخر : " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " ( الصافات - 27 ) .
الجواب : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن للقيامة أحوالا ومواطن ، ففي موطن يشتد عليهم الخوف ، فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون ، وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون .
( فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ( 102 ) )
( فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ) [ ص: 430 ] ( ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ( 103 ) تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ( 104 ) ( ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون ( 105 ) قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ( 106 ) ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ( 107 ) قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ( 108 ) )
( ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ) . ( تلفح وجوههم النار ) أي : تسفع ، وقيل : تحرق ، ( وهم فيها كالحون ) عابسون .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا محمد بن أحمد الحارثي ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن سعيد بن يزيد ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وهم فيها كالحون ، قال : تشويه النار ، فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته " وبهذا الإسناد عن عبد الله بن المبارك عن حاجب بن عمر عن الحكم بن الأعرج قال : قال : أبو هريرة : " يعظم الكافر في النار مسيرة سبع ليال ، فيصير ضرسه مثل أحد ، وشفاههم عند سررهم ، سود زرق خسر مقبوحون " قوله عز وجل : ( ألم تكن آياتي تتلى عليكم ) يعني القرآن ، تخوفون بها ، ( فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا ) قرأ حمزة والكسائي : " شقاوتنا " بالألف وفتح الشين ، وهما لغتان أي : غلبت علينا شقوتنا التي كتبت علينا فلم نهتد . ( وكنا قوما ضالين ) عن الهدى . ( ربنا أخرجنا منها ) أي : من النار ، ( فإن عدنا ) لما تكره ( فإنا ظالمون قال اخسئوا ) أبعدوا ، ( فيها ) كما يقال للكلب إذا طرد : اخسأ ، ( ولا تكلمون ) في رفع العذاب ، فإني لا أرفعه عنكم ، فعند ذلك أيس المساكين من الفرج ، قال الحسن : هو آخر [ ص: 431 ] كلام يتكلم به أهل النار ثم لا يتكلمون بعدها إلا الشهيق والزفير ، ويصير لهم عواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون ، روي عن عبد الله بن عمرو : أن أهل جهنم يدعون مالكا خازن النار أربعين عاما : " يا مالك ليقض علينا ربك " ( الزخرف - 77 ) فلا يجيبهم ، ثم يقول : " إنكم ماكثون " ( الزخرف - 77 ) ، ثم ينادون ربهم : ( ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ) فيدعهم مثل عمر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم : ( اخسئوا فيها ولا تكلمون ) فلا ينبس القوم بعد ذلك بكلمة إن كان إلا الزفير والشهيق .
وقال القرطبي : إذا قيل لهم : " اخسئوا فيها ولا تكلمون " انقطع رجاؤهم ، وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض ، وأطبقت عليهم .
( إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ( 109 ) فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون ( 110 ) إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ( 111 ) )
( إنه ) الهاء في " إنه " عماد وتسمى أيضا المجهولة ، ( كان فريق من عبادي ) وهم المؤمنون ( يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا ) قرأ أهل المدينة وحمزة والكسائي : " سخريا " بضم السين هاهنا وفي سورة ص ، وقرأ الباقون بكسرهما ، واتفقوا على الضم في سورة الزخرف . قال الخليل : هما لغتان مثل قولهم : بحر لجي ، ولجي بضم اللام وكسرها ، مثل كوكب دري ودري ، قال الفراء والكسائي : الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول ، والضم بمعنى التسخير والاستعباد بالفعل ، واتفقوا في سورة الزخرف بأنه بمعنى التسخير ، ( حتى أنسوكم ) أي : أنساكم اشتغالكم بالاستهزاء بهم وتسخيرهم ، ( ذكري وكنتم منهم تضحكون ) نظيره : " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون " ( المطففين - 29 ) قال مقاتل : نزلت في بلال وعمار وخباب وصهيب وسلمان والفقراء من الصحابة ، كان كفار قريش يستهزئون بهم . ( إني جزيتهم اليوم بما صبروا ) على أذاكم واستهزائكم في الدنيا ، ( أنهم هم الفائزون ) قرأ حمزة والكسائي " أنهم " بكسر الألف على الاستئناف ، وقرأ الآخرون بفتحها ، فيكون في موضع المفعول الثاني إني جزيتهم اليوم بصبرهم الفوز بالجنة .
[ ص: 432 ] ( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين ( 112 ) قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين ( 113 ) قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون ( 114 ) أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ( 115 ) )
( قال كم لبثتم ) قرأ حمزة والكسائي : " قل كم لبثتم " على الأمر . ومعنى الآية : قولوا أيها الكافرون ، فأخرج الكلام مخرج الواحد ، والمراد منه الجماعة ، إذ كان معناه مفهوما ، ويجوز أن يكون الخطاب لكل واحد منهم ، أي قل يا أيها الكافرون ، وقرأ ابن كثير : قل كم ، على الأمر ، وقال " أن " على الخبر ، لأن الثانية جواب ، وقرأ الآخرون : " قال " فيهما جميعا ، أي : قال الله عز وجل للكفار يوم البعث : كم لبثتم؟ ( في الأرض ) أي : في الدنيا وفي القبور ( عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ) نسوا مدة لبثهم في الدنيا لعظم ما هم بصدده من العذاب ، ( فاسأل العادين ) الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم . ( قال إن لبثتم ) أي : ما لبثتم في الدنيا ، ( إلا قليلا ) سماه قليلا لأن الواحد وإن طال مكثه في الدنيا فإنه يكون قليلا في جنب ما يلبث في الآخرة ، لأن لبثه في الدنيا وفي القبر متناه ، ( لو أنكم كنتم تعلمون ) قدر لبثكم في الدنيا . قوله عز وجل : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ) لعبا وباطلا لا لحكمة ، وهو نصب على الحال ، أي : عابثين . وقيل : للعبث ، أي : لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب ، وهو مثل قوله : " أيحسب الإنسان أن يترك سدى " ( القيامة - 36 ) ، وإنما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عز وجل ، و ( وأنكم إلينا لا ترجعون ) أي : أفحسبتم أنكم إلينا لا ترجعون في الآخرة للجزاء ، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب لا " ترجعون " بفتح التاء وكسر الجيم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا بشر بن عمر ، أخبرنا عبد الله بن لهيعة ، أخبرنا عبد الله بن هبيرة ، عن حنش ، أن رجلا مصابا مر به على ابن مسعود فرقاه في أذنيه : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ) حتى ختم السورة فبرأ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بماذا رقيت في أذنه " ؟ فأخبره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال " .
[ ص: 433 ] ( فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ( 116 ) ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ( 117 ) وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ( 118 ) )
ثم نزه الله نفسه عما يصفه به المشركون ، فقال جل ذكره : ( فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ) يعني السرير الحسن . وقيل : المرتفع . ( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به ) أي : لا حجة له به ولا بينة ، لأنه لا حجة في دعوى الشرك ، ( فإنما حسابه ) جزاؤه ، ( عند ربه ) يجازيه بعمله ، كما قال تعالى : " ثم إن علينا حسابهم " ( الغاشية - 26 ) ، ( إنه لا يفلح الكافرون ) لا يسعد من جحد وكذب . ( وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ) .
سُورَةُ النُّورِ
مَدَنِيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 1 ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 2 ) )
( سُورَةٌ ) أَيْ : هَذِهِ سُورَةٌ ، ( أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو : " وَفَرَّضْنَاهَا " بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ ، أَيْ : أَوْجَبْنَا مَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَأَلْزَمْنَاكُ مُ الْعَمَلَ بِهَا . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ قَدَّرْنَا مَا فِيهَا مِنَ الْحُدُودِ . وَالْفَرْضُ : التَّقْدِيرُ . قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( الْبَقَرَةِ - 237 ) أَيْ : قَدَّرْتُمْ ، وَدَلِيلُ التَّخْفِيفِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ " ( الْقَصَصِ - 85 ) وَأَمَّا التَّشْدِيدُ فَمَعْنَاهُ : وَفَصَّلْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ . وَقِيلَ : هُوَ بِمَعْنَى الْفَرْضِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْإِيجَابِ أَيْضًا . وَالتَّشْدِيدُ لِلتَّكْثِيرِ لِكَثْرَةٍ مَا فِيهَا مِنَ الْفَرَائِضِ ، أَيْ : أَوْجَبْنَاهَا عَلَيْكُمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَكُمْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ . ( وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) وَاضِحَاتٍ ، ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) تَتَّعِظُونَ . قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) أَرَادَ إِذَا كَانَا حُرَّيْنِ بَالِغَيْنِ عَاقِلَيْنِ بِكْرَيْنِ غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ " فَاجْلِدُوا " : فَاضْرِبُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جِلْدَةٍ ، يُقَالُ جَلَدَهُ إِذَا ضَرَبَ جِلْدَهُ ، كَمَا يُقَالُ رَأَسَهُ وَبَطَنَهُ ، إِذَا ضَرَبَ رَأْسَهُ وَبَطْنَهُ ، وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَلْدِ لِئَلَّا يُبَرَّحَ . وَلَا يُضْرَبُ [ ص: 8 ] بِحَيْثُ يَبْلُغُ اللَّحْمَ ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةً وَيُغَرَّبُ عَامًا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ ، ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ .
( وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ) رَحْمَةٌ وَرِقَّةٌ ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ " رَأَفَةٌ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ أَنَّهَا سَاكِنَةٌ لِمُجَاوِرَةِ قَوْلِهِ : " وَرَحْمَةً " وَالرَّأْفَةُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ ، لَا يُنْهَى عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ .
رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ جَلَدَ جَارِيَةً لَهُ زَنَتْ ، فَقَالَ لِلْجَلَّادِ : اضْرِبْ ظَهْرَهَا وَرِجْلَيْهَا ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ : لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ، فَقَالَ يَا بُنَيَّ إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَمْ يَأْمُرْنِي بِقَتْلِهَا وَقَدْ ضَرَبْتُ فَأَوْجَعْتُ .
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ . فَقَالَ قَوْمٌ : لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فَتُعَطِّلُوا الْحُدُودَ وَلَا تُقِيمُوهَا ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ . وَقَالَ جَمَاعَةٌ : مَعْنَاهَا وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فَتُخَفِّفُوا الضَّرْبَ وَلَكِنْ أَوَجِعُوهُمَا ضَرْبًا ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ . قَالَ الزُّهْرِيُّ : يُجْتَهَدُ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالْفِرْيَةِ وَيُخَفَّفُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ . وَقَالَ قَتَادَةُ : يُجْتَهَدُ فِي حَدِّ الزِّنَا وَيُخَفَّفُ فِي الشُّرْبِ وَالْفِرْيَةِ .
( فِي دِينِ اللَّهِ ) أَيْ : فِي حُكْمِ اللَّهِ ، ( إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا تَأْخُذُهُ الرَّأْفَةُ إِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى .
( وَلْيَشْهَدْ ) وَلْيَحْضُرْ ( عَذَابَهُمَا ) حَدَّهُمَا إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِمَا ( طَائِفَةٌ ) نَفَرٌ ، ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قَالَ مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ : أَقَلُّهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَمَا فَوْقَهُ ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ : رَجُلَانِ فَصَاعِدًا . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ : ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا . وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ زَيْدٍ : أَرْبَعَةٌ بِعَدَدِ شُهُودِ الزِّنَا .
( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ( 3 ) )
قوله - عز وجل - : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها . فقال قوم : قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر ، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن ، وهن يومئذ أخصب [ ص: 9 ] أهل المدينة ، فرغب أناس من فقراء المسلمين في نكاحهن لينفقن عليهم ، فاستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية ( وحرم ذلك على المؤمنين ) أن يتزوجوا تلك البغايا ؛ لأنهن كن مشركات . وهذا قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والشعبي ، ورواية العوفي عن ابن عباس .
وقال عكرمة : نزلت في نساء بمكة والمدينة ، منهن تسع لهن رايات كرايات البيطار يعرفن بها . منهن أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي ، وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة ، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة ، فاستأذن رجل من المسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نكاح أم مهزول واشترطت له أن تنفق عليه ، فأنزل الله هذه الآية .
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة ، وكانت بمكة بغي يقال لها : عناق ، وكانت صديقة له في الجاهلية ، فلما أتى مكة دعته عناق إلى نفسها ، فقال مرثد : إن الله حرم الزنا . قالت : فانكحني ، فقال : حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله أنكح عناق ؟ فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد شيئا ، فنزلت : ( والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) فدعاني فقرأها علي وقال لي : لا تنكحها . فعلى قول هؤلاء كان التحريم خاصا في حق أولئك دون سائر الناس .
وقال قوم : المراد من النكاح هو الجماع ، ومعناه : الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة ، والزانية لا تزني إلا بزان أو مشرك . وهو قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم . ورواية الوالبي عن ابن عباس . قال يزيد بن هارون : إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك ، وإن جامعها وهو محرم فهو زان ، وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية ويقول : إذا تزوج الزاني بالزانية فهما زانيان أبدا . وقال الحسن : الزاني المجلود لا ينكح إلا زانية مجلودة ، والزانية المجلودة لا ينكحها إلا زان مجلود . قال سعيد بن المسيب وجماعة : إن حكم الآية منسوخ ، فكان نكاح الزانية حراما بهذه الآية فنسخها قوله تعالى : " وأنكحوا الأيامى منكم " فدخلت الزانية في أيامى المسلمين . [ ص: 10 ]
واحتج من جوز نكاح الزانية بما أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي ، أخبرنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي ، أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ، أخبرنا الحسن بن فرج ، أخبرنا عمرو بن خالد الحراني ، أخبرنا عبيد الله عن عبد الكريم الجزري ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن امرأتي لا تدفع يد لامس ؟ قال : طلقها ، قال : فإني أحبها وهي جميلة ، قال : استمتع بها . وفي رواية غيره " فأمسكها إذا " .
وروي أن عمر بن الخطاب ضرب رجلا وامرأة في زنى وحرص أن يجمع بينهما فأبى الغلام .
ابو وليد البحيرى
2022-06-13, 11:58 PM
الحلقة (302)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ النُّورِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية4 إلى الاية 11
( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ( 4 ) )
قوله - عز وجل - : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ) أراد بالرمي القذف بالزنا . وكل من رمى محصنا أو محصنة بالزنا فقال له : زنيت أو يا زاني فيجب عليه جلد ثمانين جلدة ، إن كان حرا ، وإن كان عبدا فيجلد أربعين ، وإن كان المقذوف غير محصن ، فعلى القاذف التعزير .
وشرائط الإحصان خمسة : الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنى ، حتى أن من زنى مرة في أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته وامتد عمره فقذفه قاذف فلا حد عليه . فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا أو أقام القاذف أربعة من الشهود على زناه سقط الحد عن القاذف ؛ لأن الحد الذي وجب عليه حد الفرية وقد ثبت صدقه .
وقوله : ( والذين يرمون المحصنات ) أي : يقذفون بالزنا المحصنات ، يعني المسلمات الحرائر العفائف ( ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) يشهدون على زناهن ( فاجلدوهم ثمانين جلدة ) أي : اضربوهم ثمانين جلدة . ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون )
[ ص: 11 ] ( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ( 5 ) والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ( 6 ) )
( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ) اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة ، وفي حكم هذا الاستثناء . فذهب قوم إلى أن القاذف ترد شهادته بنفس القذف ، وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حالته قبلت شهادته ، سواء تاب بعد إقامة الحد عليه أو قبله ؛ لقوله تعالى : " إلا الذين تابوا " . وقالوا : الاستثناء يرجع إلى الشهادة وإلى الفسق ، فبعد التوبة تقبل شهادته ، ويزول عنه اسم الفسق . يروى ذلك عن ابن عباس وعمر . وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز 55 والزهري وبه قال مالك والشافعي .
وذهب قوم إلى أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبدا وإن تاب ، وقالوا : الاستثناء يرجع إلى قوله : ( وأولئك هم الفاسقون ) وهو قول النخعي وشريح وأصحاب الرأي ، وقالوا : بنفس القذف لا ترد شهادته ما لم يحد .
قال الشافعي : وهو قبل أن يحد شر منه حين يحد ؛ لأن الحدود كفارات ، فكيف يردونها في أحسن حاليه ويقبلونها في شر حاليه . وذهب الشعبي إلى أن حد القذف يسقط بالتوبة ، وقال : الاستثناء يرجع إلى الكل .
وعامة العلماء على أنه لا يسقط بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط ، كالقصاص يسقط بالعفو ، ولا يسقط بالتوبة .
فإن قيل : إذا قبلتم شهادته بعد التوبة فما معنى قوله ( أبدا ) ؟ .
قيل : معناه لا تقبل شهادته أبدا ما دام مصرا على قذفه ؛ لأن أبد كل إنسان مدته على ما يليق بحاله . كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبدا : يراد ما دام كافرا . قوله - عز وجل - : ( والذين يرمون أزواجهم ) أي : يقذفون نساءهم ، ( ولم يكن لهم شهداء ) يشهدون على صحة ما قالوا ، ( إلا أنفسهم ) أي : غير أنفسهم ، ( فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ) قرأ حمزة والكسائي وحفص : " أربع شهادات " برفع العين على خبر الابتداء ، أي : فشهادة أحدهم التي تدرأ الحد أربع شهادات . وقرأ الآخرون بالنصب أي : فشهادة أحدهم أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين .
[ ص: 12 ] ( والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ( 7 ) )
( والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ) قرأ نافع ويعقوب " أن " خفيفة وكذلك الثانية " لعنة الله " رفع ، ثم يعقوب قرأ " غضب " برفع ، وقرأ نافع " غضب " بكسر الضاد وفتح الباء على الماضي " الله " رفع . وقرأ الآخرون " أن " بالتشديد فيهما " لعنة " نصب ، " وغضب " بفتح الضاد على الاسم ، " الله " جر . وقرأ حفص عن عاصم " والخامسة " الثانية نصب ، أي : ويشهد الشهادة الخامسة . وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وخبره في " أن " كالأولى .
وسبب نزول هذه الآية ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمرا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له : يا عاصم أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه ، أم كيف يفعل ؟ سل لي عن ذلك يا عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فسأل عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال له : يا عاصم ماذا قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عاصم لعويمر ، لم تأتني بخير ، قد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسألة التي سألته عنها ، فقال عويمر ، والله لا أنتهي حتى أسأله عنها ، فجاء عويمر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسط الناس ، فقال : يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها " . فقال سهل : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال مالك قال ابن شهاب : فكانت تلك سنة المتلاعنين .
وقال محمد بن إسماعيل أخبرنا إسحاق ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا الأوزاعي ، أخبرنا الزهري بهذا الإسناد بمثل معناه . وزاد : ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " انظروا فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين ، خدلج الساقين ، فلا أحسب عويمرا إلا قد صدق عليها ، وإن جاءت به أحيمر كأنه [ وجوه ] فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها " فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله [ ص: 13 ] - صلى الله عليه وسلم - من تصديق عويمر فكان بعد ينسب إلى أمه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا أحمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن بشار ، أخبرنا ابن أبي عدي ، عن هشام بن حسان ، أخبرنا عكرمة ، عن ابن عباس ، أن هلال بن أمية قذف امرأته عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سحماء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " البينة أو حد في ظهرك " فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " البينة وإلا حد في ظهرك " فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزل جبريل وأنزل عليه : ( والذين يرمون أزواجهم ) فقرأ حتى بلغ ( إن كان من الصادقين ) فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب " ؟ ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها : موجبة . قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ، فمضت . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الإليتين ، خدلج الساقين ، فهو لشريك بن سحماء " فجاءت به كذلك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن " .
وروى عكرمة عن ابن عباس : قال لما نزلت : ( والذين يرمون المحصنات ) الآية . قال سعد بن عبادة : لو أتيت لكاع وقد تفخذها رجل لم يكن لي أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء ، فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب ، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما قال سيدكم " ؟ قالوا : لا تلمه ، فإنه رجل غيور ، ما تزوج امرأة قط إلا بكرا ، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها . فقال سعد : يا رسول الله بأبي أنت وأمي والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكن عجبت من ذلك لما أخبرتك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فإن الله يأبى إلا ذلك " فقال صدق الله ورسوله . قال : فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية من حديقة له ، فرأى رجلا مع امرأته يزني بها ، فأمسك حتى أصبح ، فلما أصبح غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس مع أصحابه ، فقال : [ ص: 14 ] يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا مع امرأتي ، رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أتاه به ، وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه ، فقال هلال : والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أتيتك به ، والله يعلم إني لصادق وما قلت إلا حقا ، وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجا ، فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضربه . فقال : واجتمعت الأنصار فقالوا ابتلينا بما قال سعد ، يجلد هلال وتبطل شهادته ، وإنهم لكذلك ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يأمر بضربه ، إذ نزل عليه الوحي ، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل عليه ، حتى فرغ ، فأنزل الله - عز وجل - : ( والذين يرمون أزواجهم ) إلى آخر الآيات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبشر يا هلال فإن الله قد جعل لك فرجا " فقال : لقد كنت أرجو ذلك من الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرسلوا إليها ، فجاءت ، فلما اجتمعا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل لها فكذبت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ فقال هلال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي قد صدقت وما قلت إلا حقا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعنوا بينهما ، فقيل لهلال : اشهد ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فقال له عند الخامسة : يا هلال اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس ، وإن هذه الخامسة هي الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فقال هلال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فشهد الخامسة : أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم قال للمرأة : اشهدي ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، فقال لها عند الخامسة ووقفها : اتقي الله فإن الخامسة موجبة وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس ، فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة : أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقضى بأن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فيه " ، فجاءت به غلاما كأنه جمل أورق ، على الشبه المكروه ، وكان بعد أميرا على مصر ، لا يدري من أبوه .
وقال ابن عباس في سائر الروايات ، ومقاتل : لما نزلت : ( والذين يرمون المحصنات ) الآية ، فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة على المنبر فقام عاصم بن عدي الأنصاري فقال : جعلني الله فداك ، إن رأى رجل منا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى جلد ثمانين جلدة ، وسماه المسلمون فاسقا ، ولا تقبل شهادته أبدا ، فكيف لنا بالشهداء ونحن إذا التمسنا الشهداء كان الرجل فرغ من حاجته ومر ؟ وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر ، وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس بن محصن ، [ ص: 15 ] فأتى عويمر عاصما وقال : لقد رأيت شريك بن السمحاء على بطن امرأتي خولة ، فاسترجع عاصم ، وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة الأخرى ، فقال : يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بالسؤال الذي سألت في الجمعة الماضية في أهل بيتي ، فأخبره وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بني عم عاصم ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم جميعا ، وقال لعويمر : " اتق الله في زوجتك وابنة عمك ولا تقذفها بالبهتان " فقال : يا رسول الله أقسم بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر ، وإنها حبلى من غيري ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمرأة : " اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت " فقالت : يا رسول الله إن عويمرا رجل غيور ، وإنه رآني وشريكا يطيل السمر ونتحدث ، فحملته الغيرة على ما قال ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشريك : " ما تقول " ؟ فقال : ما تقوله المرأة كذب ، فأنزل الله - عز وجل - : ( والذين يرمون أزواجهم ) الآية ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نودي الصلاة جامعة ، فصلى العصر ثم قال لعويمر : قم ، فقام فقال : أشهد بالله بأن خولة لزانية وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثانية أشهد أني رأيت شريكا على بطنها ، وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثالثة أشهد بالله إنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الرابعة أشهد بالله إني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الخامسة : لعنة الله على عويمر - يعني نفسه - إن كان من الكاذبين فيما قال ، ثم أمره بالقعود ، وقال لخولة : قومي فقامت ، فقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمرا لمن الكاذبين ، ثم قالت في الثانية أشهد بالله أنه ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين ، ثم قالت في الثالثة أشهد بالله إني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين ، ثم قالت في الرابعة أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة وإنه لمن الكاذبين ، ثم قالت في الخامسة غضب الله على خولة - تعني نفسها - إن كان من الصادقين . ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقال لولا هذه الأيمان لكان لي في أمرهما رأي ، ثم قال : " تحينوا بها الولادة فإن جاءت به [ أصيهب ] [ أثيبج ] يضرب إلى السواد فهو لشريك ، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به " . قال ابن عباس فجاءت بأشبه خلق الله بشريك .
والكلام في حكم الآية : أن الرجل إذا قذف امرأته فموجبه موجب قذف الأجنبي في وجوب الحد عليه إن كانت محصنة ، أو التعزير إن لم تكن محصنة ، غير أن المخرج منهما مختلف; فإذا قذف [ ص: 16 ] أجنبيا يقام الحد عليه ، إلا أن يقيم أربعة من الشهود على زناه ، أو يقر به المقذوف فيسقط عنه حد القذف ، وفي الزوجة إذا وجد أحد هذين أو لاعن يسقط عنه الحد ، فاللعان في قذف الزوجة بمنزلة البينة ، لأن الرجل إذا رأى مع امرأته رجلا ربما لا يمكنه إقامة البينة عليه ولا يمكنه الصبر على العار ، فجعل الله اللعان حجة له على صدقه ، فقال تعالى : " فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين " ، وإذا أقام الزوج البينة على زناها أو اعترفت بالزنا سقط عنه الحد واللعان ، إلا أن يكون هناك ولد يريد نفيه فله أن يلاعن لنفيه .
وإذا أراد الإمام أن يلاعن بينهما يبدأ فيقيم الرجل ويلقنه كلمات اللعان ، فيقول : قل أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به فلانة بالزنا ، وإن كان قد رماها برجل بعينه سماه بعينه باللعان ، وإن رماها بجماعة سماهم ، ويقول الزوج كما يلقنه الإمام ، وإن كان ولد أو حمل يريد نفيه يقول : وإن هذا الولد أو الحمل لمن الزنا ما هو مني ، ويقول في الخامسة : علي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة ، وإذا أتى بكلمة منها من غير تلقين الحاكم لا تكون محسوبة ، فإذا فرغ الرجل من اللعان وقعت الفرقة بينه وبين زوجته وحرمت عليه على التأبيد ، وانتفى عنه النسب وسقط عنه حد القذف ، ووجب على المرأة حد الزنا ، إن كانت محصنة ترجم ، وإن كانت غير محصنة تجلد وتغرب ، فهذه خمسة أحكام تتعلق كلها بلعان الزوج .
( ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ( 8 ) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ( 9 ) )
قوله - عز وجل - : ( ويدرأ ) يدفع ، ( عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ) وأراد بالعذاب الحد ، كما قال في أول السورة : " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " أي : حدهما ، ومعنى الآية : أن الزوج إذا لاعن وجب على المرأة حد الزنا ، وإذا وجب عليها حد الزنا بلعانه فأرادت إسقاطه عن نفسها فإنها تلاعن ، فتقوم وتشهد بعد تلقين الحاكم أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به ، وتقول في الخامسة علي غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به .
ولا يتعلق بلعانها إلا حكم واحد وهو سقوط الحد عنها ، ولو أقام الزوج بينة على زناها فلا يسقط الحد عنها باللعان . وعند أصحاب الرأي : لا حد على من قذف زوجته ، بل موجبه اللعان ، فإن لم يلاعن يحبس حتى يلاعن ، فإذا لاعن الزوج وامتنعت المرأة عن اللعان حبست حتى تلاعن . [ ص: 17 ]
وعند الآخرين اللعان حجة على صدقه ، والقاذف إذا قعد عن إقامة الحجة على صدقه لا يحبس بل يحد كقاذف الأجنبي إذا قعد عن إقامة البينة .
وعند أبي حنيفة موجب اللعان وقوع الفرقة ونفي النسب ، وهما لا يحصلان إلا بلعان الزوجين جميعا ، وقضاء القاضي .
وفرقة اللعان فرقة فسخ عند كثير من أهل العلم وبه قال الشافعي ، وتلك الفرقة متأبدة حتى لو كذب الزوج نفسه يقبل ذلك فيما عليه دون ما له ، فيلزمه الحد ويلحقه الولد ولكن لا يرتفع تأبيد التحريم .
وعند أبي حنيفة فرقة اللعان فرقة طلاق فإذا كذب الزوج نفسه جاز له أن ينكحها . وإذا أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق به الحكم . وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر كلمات اللعان قام مقام الكل في تعلق الحكم به .
وكل من صح يمينه صح لعانه حرا أو عبدا ، مسلما أو ذميا ، وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن ، وبه قال ربيعة ومالك والثوري والشافعي وأكثر أهل العلم . وقال الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي : لا يجري اللعان إلا بين مسلمين حرين غير محدودين ، فإن كان الزوجان أو أحدهما رقيقا أو ذميا أو محدودا في قذف فلا لعان بينهما .
وظاهر القرآن حجة لمن قال يجري اللعان بينهما ، لأن الله تعالى قال : ( والذين يرمون أزواجهم ) ولم يفصل بين الحر والعبد والمحدود وغيره كما قال : " الذين يظاهرون منكم من نسائهم " ( المجادلة - 2 ) ، ثم يستوي الحر والعبد هنا في الظهار ، ولا يصح اللعان إلا عند الحاكم أو خليفته .
ويغلظ اللعان بأربعة أشياء : بعدد الألفاظ ، والمكان ، والزمان ، وأن يكون بمحضر جماعة من الناس . أما الألفاظ المستحقة فلا يجوز الإخلال بها ، وأما المكان فهو أن يلاعن في أشرف الأماكن ، إن كان بمكة فبين الركن والمقام ، وإن كان بالمدينة فعند المنبر ، وفي سائر البلاد ففي المسجد الجامع عند المنبر ، والزمان هو أن يكون بعد صلاة العصر ، وأما الجمع فأقلهم أربعة ، والتغليظ بالجمع مستحب ، حتى لو لاعن الحاكم بينهما وحده [ جاز ] ، وهل التغليظ بالمكان والزمان واجب أو مستحب فيه قولان .
( ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ( 10 ) )
قوله : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ) جواب لولا محذوف ، يعني لعاجلكم بالعقوبة ، ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان ، وإن الله تواب يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة ، حكيم فيما فرض من الحدود . [ ص: 18 ] ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( 11 ) )
قوله - عز وجل - : ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ) الآيات سبب نزول هذه الآية ما أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد العزيز بن عبد الله أخبرنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال : حدثني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لها أهل الإفك ما قالوا وكلهم حدثني طائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصا وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدق بعضا .
قالوا : قالت عائشة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه وأيهن خرج سهمها خرج بها النبي - صلى الله عليه وسلم - معه قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما أنزل الحجاب فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه . قالت : وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، [ ص: 19 ] فخمرت وجهي بجلبابي ، ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها ، فقمت إليها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول .
قالت : فهلك من هلك ، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول ، قال عروة أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه .
وقال عروة أيضا : لم يسم من أهل الإفك أيضا إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة ، كما قال الله تعالى ( والذي تولى كبره ) قال : عبد الله بن أبي ابن سلول
قال عروة : كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول : إنه الذي قال :
فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
قالت عائشة : فقدمنا المدينة ، فاشتكيت حين قدمت شهرا ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلم ثم يقول كيف تيكم ؟ ثم ينصرف ، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت حين نقهت ، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وكان متبرزنا ، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا .
قالت : فانطلقت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه أولم تسمعي ما قال ؟ قالت فقلت : ما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، قالت فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : كيف تيكم ؟ فقلت له : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت : وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت لأمي : يا أمتاه ماذا يتحدث الناس ؟ فقالت : يا بنية هوني عليك فوالله لقل ما كانت امرأة قط رضية عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها . قالت فقلت : سبحان الله أولقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت : فبكيت [ ص: 20 ] تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل [ بنوم ] ، ثم أصبحت أبكي .
قالت : ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله ، فأما أسامة فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه ، فقال أسامة : أهلك ولا نعلم إلا خيرا ، وأما علي فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك ، قالت : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة ، فقال : أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك ؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا قط أغمضه أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله .
قالت : فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ من يومه ] فاستعذر من عبد الله بن أبي وهو على المنبر ، فقال : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما يدخل على أهلي إلا معي ، قالت : فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل ، فقال أنا يا رسول الله أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، قالت : وقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، قالت : وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، قالت : فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر ، قالت : فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا وسكت .
قالت : فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم [ قالت وأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ] ولا يرقأ لي دمع حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي فبينا أبواي جالسان عندي ، وأنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها ، فجلست تبكي معي .
قالت : فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء ، قالت : فتشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه . [ ص: 21 ]
ابو وليد البحيرى
2022-06-13, 11:59 PM
الحلقة (303)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ النُّورِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية12 إلى الاية 26
قالت : فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته فاض دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي أجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال ، فقال أبي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال ، فقالت أمي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرا : إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني ، فوالله لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف حين قال : " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " ( يوسف - 18 ) ثم تحولت واضطجعت على فراشي وأنا أعلم والله يعلم أني حينئذ بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها ، فوالله ما رام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه الوحي فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه العرق مثل الجمان ، وهو في يوم شات ، من ثقل القول الذي أنزل عليه ، قالت : فسري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال : يا عائشة أما والله فقد برأك الله ، قالت : فقالت لي أمي : قومي إليه فقلت : والله لا أقوم إليه فإني لا أحمد إلا الله ، قالت : وأنزل الله تعالى : " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم " العشر الآيات ، فلما أنزل الله في براءتي قال أبو بكر الصديق ، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال ، فأنزل الله : ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) إلى قوله ( غفور رحيم ) قال أبو بكر الصديق : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا .
قالت عائشة : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال لزينب : ماذا علمت أو رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيرا ، قالت عائشة وهي التي تساميني من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فعصمها الله بالورع ، قالت : وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك .
قال ابن شهاب : فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط ، قالت عائشة : والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول : سبحان الله فوالذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط . قالت : [ ص: 22 ] ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله .
ورواه محمد بن إسماعيل عن يحيى بن بكير ، أخبرنا الليث عن يونس عن ابن شهاب بإسناد مثله ، وقال : وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ، إلى قوله : فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك .
ورواه أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : ولقد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيتي فسأل عني خادمتي ، فقالت : لا والله ما علمت عليها عيبا إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها أو عجينها ، فانتهرها بعض أصحابه ، فقال : اصدقي رسول الله حتى أسقطوا لهابه ، فقالت : سبحان الله والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر ، وفيه قالت : وأنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينه ويقول : أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك فقال لي أبواي : قومي إليه فقلت : لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمد أحدا ولكن أحمد الله الذي برأني لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه .
أما تفسير قوله : ( إن الذين جاءوا بالإفك ) بالكذب ، والإفك : أسوأ الكذب ، سمي إفكا لكونه مصروفا عن الحق ، من قولهم : أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه ، وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء لما كانت عليه من الحصانة والشرف فمن رماها بالسوء قلب الأمر عن وجهه ، ( عصبة منكم ) أي : جماعة منهم عبد الله بن أبي ابن سلول ، ومسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ، زوجة طلحة بن عبيد الله ، وغيرهم ، ( لا تحسبوه شرا لكم ) يا عائشة ويا صفوان ، وقيل : هو خطاب لعائشة ولأبويها وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ولصفوان ، يعني : لا تحسبوا الإفك شرا لكم ، ( بل هو خير لكم ) لأن الله يأجركم على ذلك ويظهر براءتكم .
( لكل امرئ منهم ) يعني من العصبة الكاذبة ( ما اكتسب من الإثم ) أي : جزاء ما اجترح من الذنب على قدر ما خاض فيه ، ( والذي تولى كبره ) أي : تحمل معظمه فبدأ بالخوض فيه ، قرأ يعقوب " كبره " بضم الكاف ، وقرأ العامة بالكسر ، قال الكسائي : هما لغتان . قال الضحاك : قام بإشاعة الحديث ، وهو عبد الله بن أبي ابن سلول . [ ص: 23 ]
وروى الزهري عن عروة عن عائشة ( والذي تولى كبره منهم ) قالت : عبد الله بن أبي ابن سلول ، والعذاب الأليم هو النار في الآخرة .
وقد روى ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة في حديث الإفك قالت : ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين ، وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس ، فقال عبد الله بن أبي ، رئيسهم : من هذه ؟ قالوا : عائشة قال : والله ما نجت منه وما نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها . وشرع في ذلك أيضا حسان ، ومسطح ، وحمنة ، فهم الذين تولوا كبره .
وقال قوم : هو حسان بن ثابت . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا بشر بن خالد ، أخبرنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سليمان عن أبي الضحى عن مسروق قال : دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشد شعرا يشبب بأبيات له ، وقال :
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة : لكنك لست كذلك ، قال مسروق فقلت لها : لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله تعالى : ( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ) قالت : وأي عذاب أشد من العمى ، وقالت : إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحد جميعا ثمانين ثمانين .
( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ( 12 ) )
قوله - عز وجل - : ( لولا ) هلا ( إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم ) بإخوانهم ( خيرا ) قال الحسن : بأهل دينهم لأن المؤمنين كنفس واحدة ، نظيره قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم ( النساء - 29 ) [ ص: 24 ] فسلموا على أنفسكم ( النور - 61 ) . ( وقالوا هذا إفك مبين ) أي كذب بين .
( لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ( 13 ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم ( 14 ) )
( لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ) أي : على ما زعموا ، ( فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ) فإن قيل : كيف يصيرون عند الله كاذبين إذ لم يأتوا بالشهداء ومن كذب فهو عند الله كاذب سواء أتى بالشهداء أو لم يأت ؟ قيل : " عند الله " أي : في حكم الله وقيل : معناه كذبوهم بأمر الله وقيل : هذا في حق عائشة ، ومعناه : أولئك هم الكاذبون في غيبي وعلمي . ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم ) خضتم ( فيه ) من الإفك ( عذاب عظيم ) قال ابن عباس أي : عذاب لا انقطاع له ، يعني : في الآخرة ، لأنه ذكر عذاب الدنيا من قبل ، فقال تعالى : " والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " ، وقد أصابه ، فإنه جلد وحد . وروت عمرة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية حد أربعة نفر : عبد الله بن أبي ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش .
[ ص: 25 ] ( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( 15 ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ( 16 ) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ( 17 ) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( 18 ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( 19 ) )
قوله - عز وجل - : ( إذ تلقونه ) تقولونه ، ( بألسنتكم ) قال مجاهد ومقاتل : يرويه بعضكم عن بعض . وقال الكلبي : وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا يتلقونه تلقيا ، وقال الزجاج : يلقيه بعضكم إلى بعض ، وقرأت عائشة " تلقونه " بكسر اللام وتخفيف القاف من الولق وهو الكذب ، ( وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا ) تظنون أنه سهل لا إثم فيه ، ( وهو عند الله عظيم ) في الوزر . ( ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك ) هذا اللفظ هاهنا معناه التعجب ( هذا بهتان عظيم ) أي : كذب عظيم يبهت ويتحير من عظمته . وفي بعض الأخبار أن أم أيوب قالت لأبي أيوب الأنصاري : أما بلغك ما يقول الناس في عائشة ؟ فقال أبو أيوب : سبحانك هذا بهتان عظيم فنزلت الآية على وفق قوله . ( يعظكم الله ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يحرم الله عليكم وقال مجاهد : ينهاكم الله . ( أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات ) في الأمر والنهي ، ( والله عليم ) بأمر عائشة وصفوان ، ( حكيم ) حكم ببراءتهما . قوله - عز وجل - : ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة ) يعني : تظهر ، ويذيع الزنا ، ( في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ) يعني عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين ، والعذاب في الدنيا الحد ، وفي الآخرة النار ، ( والله يعلم ) كذبهم وبراءة عائشة وما خاضوا فيه من سخط الله ( وأنتم لا تعلمون )
[ ص: 26 ] ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم ( 20 ) ( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( 21 ) ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ( 22 ) )
( ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم ) جواب " لولا " محذوف ، أي : لعاجلكم بالعقوبة ، قال ابن عباس : يريد مسطحا ، وحسان ، وحمنة . قوله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء ) أي : بالقبائح من الأفعال ، ( والمنكر ) ما يكرهه الله - عز وجل - ، ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا ) قال مقاتل : ما صلح . وقال ابن قتيبة : ما طهر ، ( منكم من أحد ) والآية على العموم عند بعض المفسرين ، قالوا : أخبر الله أنه لولا فضله ورحمته بالعصمة ما صلح منكم أحد . وقال قوم : هذا الخطاب للذين خاضوا في الإفك ، ومعناه : ما طهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل ، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء ، قال : ما قبل توبة أحد منكم ، ( أبدا ولكن الله يزكي ) يطهر ، ( من يشاء ) من الذنب بالرحمة والمغفرة ، ( والله سميع عليم ) قوله - عز وجل - ( ولا يأتل ) أي : ولا يحلف ، وهو يفتعل من الألية وهي القسم ، وقرأ أبو جعفر : " يتأل " بتقديم التاء وتأخير الهمزة ، وهو يتفعل من الألية . ( أولو الفضل منكم والسعة ) يعني أبا بكر الصديق ( أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ) يعني مسطحا ، وكان مسكينا مهاجرا بدريا ابن خالة أبي بكر ، حلف أبو بكر أن لا ينفق عليه ، ( وليعفوا وليصفحوا ) عنهم خوضهم في أمر عائشة ، ( ألا تحبون ) يخاطب أبا بكر ، ( أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) فلما قرأها النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي بكر قال : بلى أنا أحب أن يغفر الله لي ، ورجع [ ص: 27 ] إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا .
وقال ابن عباس والضحاك : أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعوهم ، فأنزل الله هذه الآية .
( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ( 23 ) )
قوله - عز وجل - : ( إن الذين يرمون المحصنات ) العفائف ، ( الغافلات ) عن الفواحش ، ( المؤمنات ) والغافلة عن الفاحشة أي : لا يقع في قلبها فعل الفاحشة وكانت عائشة كذلك ، قوله تعالى : ( لعنوا في الدنيا والآخرة ) عذبوا بالحدود وفي الآخرة بالنار ، ( ولهم عذاب عظيم ) قال مقاتل : هذا في عبد الله بن أبي المنافق . روي عن خصيف قال : قلت لسعيد بن جبير : من قذف مؤمنة يلعنه الله في الدنيا والآخرة ؟ فقال ذلك لعائشة خاصة .
وقال قوم : هي لعائشة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة دون سائر المؤمنات . روي عن العوام بن حوشب عن شيخ من بني كاهل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : هذه في شأن عائشة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ليس فيها توبة ، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرأ : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) إلى قوله : ( إلا الذين تابوا ) فجعل لهؤلاء توبة ، ولم يجعل لأولئك توبة .
وقال الآخرون : نزلت هذه الآية في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان [ ذلك ] حين نزلت الآية التي في أول السورة ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) إلى قوله : ( فإن الله غفور رحيم ) فأنزل الله الجلد والتوبة .
[ ص: 28 ] ( يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ( 24 ) يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ( 25 ) الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ( 26 ) )
( يوم تشهد ) قرأ حمزة والكسائي بالياء لتقديم الفعل ، وقرأ الآخرون بالتاء ، ( عليهم ألسنتهم ) وهذا قبل أن يختم على أفواههم ، ( وأيديهم وأرجلهم ) يروى أنه ( تختم ) الأفواه فتتكلم الأيدي والأرجل بما عملت في الدنيا . وقيل : معناه تشهد ألسنة بعضهم على بعض وأيديهم وأرجلهم ، ( بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ) جزاءهم الواجب . وقيل : حسابهم العدل . ( ويعلمون أن الله هو الحق المبين ) يبين لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا . قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : وذلك أن عبد الله بن أبي كان يشك في الدين فيعلم يوم القيامة أن الله هو الحق المبين . قوله - عز وجل - : ( الخبيثات للخبيثين ) قال أكثر المفسرين : الخبيثات من القول والكلام للخبيثين من الناس . ( والخبيثون ) من الناس ، ( للخبيثات ) من القول ، [ والكلام ] ، ( والطيبات ) من القول ، ( للطيبين ) من الناس ، ( والطيبون ) من الناس ، ( للطيبات ) من القول ، والمعنى : أن الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس والطيب لا يليق إلا بالطيب من الناس ، فعائشة لا يليق بها الخبيثات من القول لأنها طيبة رضي الله عنها فيضاف إليها طيبات الكلام من الثناء الحسن [ وما يليق بها ] .
وقال الزجاج : معناه لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب من الرجال والنساء ، وهذا ذم للذين قذفوا عائشة ، ومدح للذين برؤوها بالطهارة .
وقال ابن زيد : معناه الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء [ أمثال عبد الله بن أبي والشاكين في الدين ] ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء . يريد عائشة طيبها الله لرسوله الطيب - صلى الله عليه وسلم - . [ ص: 29 ]
( أولئك مبرءون ) يعني : عائشة وصفوان ذكرهما بلفظ الجمع كقوله تعالى : " فإن كان له إخوة " ( النساء - 11 ) أي : إخوان . وقيل : " أولئك مبرؤون " يعني الطيبين والطيبات منزهون ، ( مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ) فالمغفرة هي العفو عن الذنوب ، والرزق الكريم : الجنة .
وروي أن عائشة كانت تفتخر بأشياء أعطيتها لم تعطها امرأة غيرها ، منها أن جبريل أتى بصورتها في سرقة من حرير ، وقال هذه زوجتك . وروي أنه أتى بصورتها في راحته وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج بكرا غيرها ، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأسه في حجرها ، ودفن في بيتها ، وكان ينزل عليه الوحي وهو معها في لحافه ، ونزلت براءتها من السماء ، وأنها ابنة خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصديقه ، وخلقت طيبة ، ووعدت مغفرة ورزقا كريما .
وكان مسروق إذا روى عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبرأة من السماء .
ابو وليد البحيرى
2022-06-14, 12:00 AM
الحلقة (304)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ النُّورِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية27 إلى الاية 32
( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون ( 27 ) )
قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون ) قيل : معنى قوله : ( حتى تستأنسوا ) أي : حتى تستأذنوا [ وكان ابن عباس يقرأ حتى تستأذنوا ] ويقول : تستأنسوا خطأ من الكاتب . وكذلك كان يقرأ أبي ابن كعب ، والقراءة المعروفة تستأنسوا وهو بمعنى الاستئذان . وقيل : الاستئناس طلب الأنس ، وهو أن ينظر هل في البيت إنسان فيؤذنهم إني داخل . وقال الخليل : الاستئناس الاستبصار من قوله : آنست نارا ، أي : أبصرت . وقيل : هو أن يتكلم بتسبيحة أو تكبيرة أو يتنحنح ، يؤذن أهل البيت .
وجملة حكم الآية : أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد السلام والاستئذان . واختلفوا في أنه يقدم الاستئذان أم السلام ؟ فقال قوم : يقدم الاستئذان فيقول : أأدخل سلام [ ص: 30 ] عليكم ، لقوله تعالى : ( حتى تستأنسوا ) أي : تستأذنوا ، ( وتسلموا على أهلها ) والأكثرون على أنه يقدم السلام فيقول : سلام عليكم أأدخل . وفي الآية تقديم وتأخير تقديرها : حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا . وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود . وروي عن كلدة بن حنبل قال : دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم أسلم ولم أستأذن ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ارجع فقل : السلام عليكم أأدخل .
وروي عن ابن عمر أن رجلا استأذن عليه فقال : أأدخل ؟ فقال ابن عمر : لا فأمر بعضهم الرجل أن يسلم فسلم فأذن له .
وقال بعضهم : إن وقع بصره على إنسان قدم السلام ، وإلا قدم الاستئذان ، ثم سلم ، وقال أبو موسى الأشعري وحذيفة : يستأذن على ذوات المحارم ، ومثله عن الحسن ، وإن كانوا في دار واحدة يتنحنح ويتحرك أدنى حركة .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد عبد الله بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن سعيد الجريري ، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : سلم عبد الله بن قيس على عمر بن الخطاب ثلاث مرات فلم يأذن له فرجع فأرسل عمر في أثره فقال : لم رجعت ؟ قال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع " . قال عمر : لتأتين على ما تقول ببينة وإلا لأفعلن بك كذا وكذا غير أنه قد أوعده ، قال : فجاء أبو موسى الأشعري ممتقعا لونه وأنا في حلقة جالس ، فقلنا : ما شأنك ؟ فقال : سلمت على عمر ، فأخبرنا خبره ، فهل سمع أحد منكم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالوا : نعم كلنا قد سمعه ، قال فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر فأخبره بذلك .
ورواه بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري ، وفيه : قال أبو موسى الأشعري : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " . قال الحسن : الأول إعلام والثاني مؤامرة ، والثالث استئذان بالرجوع .
[ ص: 31 ] ( فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ( 28 ) )
قوله - عز وجل - : ( فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها ) أي : إن لم تجدوا في البيوت أحدا يأذن لكم في دخولها فلا تدخلوها ، ( حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا ) يعني : إذا كان في البيت قوم فقالوا : ارجع فليرجع ولا يقف على الباب ملازما ، ( هو أزكى لكم ) يعني : الرجوع أطهر وأصلح لكم ، قال قتادة : إذا لم يؤذن له فلا يقعد على الباب فإن للناس حاجات ، وإذا حضر ولم يستأذن وقعد على الباب منتظرا جاز .
وكان ابن عباس يأتي باب الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب حتى يخرج ، ولا يستأذن ، فيخرج الرجل ويقول : يا ابن عم رسول الله لو أخبرتني ، فيقول : هكذا أمرنا أن نطلب العلم وإذا وقف فلا ينظر من شق الباب إذا كان الباب مردودا : أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أخبرنا أحمد بن منصور ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري ، عن سهل بن سعد الساعدي أن رجلا اطلع على النبي - صلى الله عليه وسلم - من ستر الحجرة وفي يد النبي - صلى الله عليه وسلم - مدرى ، فقال : " لو علمت أن هذا ينظرني حتى آتيه لطعنت بالمدرى في عينيه ، وهل جعل الاستئذان إلا من أجل البصر " .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح " .
قوله تعالى : ( والله بما تعملون عليم ) من الدخول بالإذن وغير الإذن . ولما نزلت آية الاستئذان قالوا : كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام وعلى ظهر الطريق ، [ ص: 32 ] ليس فيها ساكن ؟ فأنزل الله - عز وجل - :
( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ( 29 ) قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ( 30 ) )
( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة ) ، أي : بغير استئذان ، ( فيها متاع لكم ) يعني منفعة لكم . واختلفوا في هذه البيوت ، فقال قتادة : هي الخانات والبيوت والمنازل المبنية للسابلة ليأووا إليها ويئووا أمتعتهم إليها ، جاز دخولها بغير استئذان ، والمنفعة فيها بالنزول وإيواء المتاع والاتقاء من الحر والبرد .
وقال ابن زيد : هي بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلونها للبيع والشراء وهو المنفعة . وقال إبراهيم النخعي : ليس على حوانيت السوق إذن . وكان ابن سيرين إذا جاء إلى حانوت السوق يقول : السلام عليكم أأدخل ؟ ثم يلج . وقال عطاء : هي البيوت الخربة ، والمتاع هو قضاء الحاجة فيها من البول والغائط . وقيل : هي جميع البيوت التي لا ساكن لها لأن الاستئذان إنما جاء لئلا يطلع على عورة فإن لم يخف ذلك فله الدخول بغير استئذان ، ( والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) قوله - عز وجل - : ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ) أي : عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه . وقيل : " من " صلة أي : يغضوا أبصارهم . وقيل : هو ثابت لأن المؤمنين غير مأمورين بغض البصر أصلا لأنه لا يجب الغض عما يحل النظر إليه ، وإنما أمروا بأن يغضوا عما لا يحل النظر إليه ، ( ويحفظوا فروجهم ) عما لا يحل ، قال أبو العالية : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا والحرام ، إلا في هذا الموضع فإنه أراد به الاستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه ، ( ذلك ) أي : غض البصر وحفظ الفرج ، ( أزكى لهم ) أي : خير لهم وأطهر ، ( إن الله خبير بما يصنعون ) عليم بما يفعلون ، روي عن بريدة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي : " يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة " . [ ص: 33 ]
وروي عن جرير بن عبد الله قال : سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفجأة فقال : " اصرف بصرك " . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أخبرنا زيد بن الحباب ، عن الضحاك بن عثمان قال : أخبرني زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا المرأة إلى عورة المرأة ، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد " .
( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ( 31 ) )
قوله - عز وجل - : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ) عما لا يحل ، ( ويحفظن فروجهن ) عمن لا يحل . وقيل أيضا : " يحفظن فروجهن " يعني : يسترنها حتى لا يراها أحد . وروي عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه ، وذلك بعدما أمرنا بالحجاب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : احتجبا منه ، فقلت : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه " ؟ [ ص: 34 ]
قوله تعالى : ( ولا يبدين زينتهن ) أي لا يظهرن زينتهن لغير محرم ، وأراد بها الزينة الخفية ، وهما زينتان ؛ خفية ، وظاهرة ، فالخفية : مثل الخلخال ، والخضاب في الرجل ، والسوار في المعصم ، والقرط والقلائد ، فلا يجوز لها إظهارها ، ولا للأجنبي النظر إليها ، والمراد من الزينة موضع الزينة .
قوله تعالى : ( إلا ما ظهر منها ) أراد به الزينة الظاهرة . واختلف أهل العلم في هذه الزينة الظاهرة التي استثناها الله تعالى : قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي : هو الوجه والكفان . وقال ابن مسعود : هي الثياب بدليل قوله تعالى : " خذوا زينتكم عند كل مسجد " ( الأعراف - 31 ) ، وأراد بها الثياب . وقال الحسن : الوجه والثياب . وقال ابن عباس : الكحل والخاتم والخضاب في الكف .
فما كان من الزينة الظاهرة جاز للرجل الأجنبي النظر إليه إذا لم يخف فتنة وشهوة ، فإن خاف شيئا منها غض البصر ، وإنما رخص في هذا القدر أن تبديه المرأة من بدنها لأنه ليس بعورة وتؤمر بكشفه في الصلاة ، وسائر بدنها عورة يلزمها ستره .
قوله - عز وجل - : ( وليضربن بخمرهن ) أي : ليلقين بمقانعهن ، ( على جيوبهن ) وصدورهن ليسترن بذلك شعورهن وصدورهن وأعناقهن وأقراطهن . قالت عائشة رحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله - عز وجل - : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) شققن مروطهن فاختمرن بها .
( ولا يبدين زينتهن ) يعني : الزينة الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب ، وهو ما عدا الوجه والكفين ( إلا لبعولتهن ) قال ابن عباس ومقاتل : يعني لا يضعن الجلباب ولا الخمار إلا لبعولتهن ، أي إلا لأزواجهن ، ( أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن ) فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنة ، ولا ينظرون إلى ما بين السرة والركبة ، ويجوز للزوج أن ينظر إلى جميع بدنها غير أنه يكره له النظر إلى فرجها . [ ص: 35 ] قوله تعالى : ( أو نسائهن ) أراد أنه يجوز للمرأة أن تنظر إلى بدن المرأة إلا ما بين السرة والركبة كالرجل المحرم ، هذا إذا كانت المرأة مسلمة فإن كانت كافرة فهل يجوز للمسلمة أن تنكشف لها ؟ اختلف أهل العلم فيه ، فقال بعضهم : يجوز كما يجوز أن تنكشف للمرأة المسلمة لأنها من جملة النساء ، وقال بعضهم : لا يجوز لأن الله تعالى قال : " أو نسائهن " والكافرة ليست من نسائنا ولأنها أجنبية في الدين ، فكانت أبعد من الرجل الأجنبي . كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمام مع المسلمات
قوله تعالى : ( أو ما ملكت أيمانهن ) اختلفوا فيها ، فقال قوم : عبد المرأة محرم لها ، فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفا ، وأن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة ، كالمحارم وهو ظاهر القرآن . وروي ذلك عن عائشة وأم سلمة ، وروى ثابت عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها ، وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تلقى قال : " إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك " . وقال قوم : هو كالأجنبي معها ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وقال : المراد من الآية الإماء دون العبيد . وعن ابن جريج أنه قال : أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أنه لا يحل لامرأة مسلمة أن تتجرد بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون تلك المرأة المشركة أمة لها .
قوله - عز وجل - : ( أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ) قرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو بكر " غير " بنصب الراء على القطع لأن " التابعين " معرفة و " غير " نكرة . وقيل : بمعنى " إلا " فهو استثناء ، معناه : يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم فإنهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا إربة . وقرأ الآخرون بالجر على نعت " التابعين " والإربة والأرب : الحاجة . والمراد ب " التابعين غير أولي الإربة " هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم لا همة لهم إلا ذلك ، ولا حاجة لهم في النساء ، وهو قول مجاهد وعكرمة والشعبي . وعن ابن عباس أنه الأحمق العنين . وقال الحسن هو الذي لا ينتشر ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن . وقال سعيد بن جبير : هو المعتوه ، وقال عكرمة : المجبوب . وقيل : هو المخنث . وقال مقاتل : الشيخ الهرم والعنين والخصي والمجبوب ونحوه . [ ص: 36 ]
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أحمد بن الحسين الحيري ، أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد بن معقل بن محمد الميداني ، أخبرنا محمد بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - مخنث وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا لا يدخلن عليكن هذا " فحجبوه ( أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) أراد بالطفل الأطفال ، يكون واحدا وجمعا ، أي : لم يكشفوا عن عورات النساء للجماع فيطلعوا عليها . وقيل : لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر ، وهو قول مجاهد . وقيل : لم يطيقوا أمر النساء . وقيل : لم يبلغوا حد الشهوة .
( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) كانت المرأة إذا مشت ضربت برجلها ليسمع صوت خلخالها أو يتبين خلخالها ، فنهيت عن ذلك .
( وتوبوا إلى الله جميعا ) من التقصير الواقع في أمره ونهيه ، وقيل : راجعوا طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السورة ، ( أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) قرأ ابن عامر : " أيه المؤمنون " و " يا أيه الساحر " و " أيه الثقلان " بضم الهاء فيهن ، ويقف بلا ألف على الخط ، وقرأ الآخرون بفتح الهاءات على الأصل . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا وهب بن جرير ، أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة ، عن أبي بردة أنه سمع الأغر يحدث عن ابن عمر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يا أيها الناس توبوا إلى ربكم ، فإني أتوب إلى ربي كل يوم مائة مرة " .
أخبرنا أبو الحسن عن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن حزيم الشاشي ، أخبرنا أبو محمد عبد بن حميد الكشي ، حدثني ابن أبي شيبة ، أخبرنا عبد الله بن نمير ، عن مالك بن مغول ، عن محمد بن سوقة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : إن كنا لنعد ، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس يقول : " رب اغفر لي ، وتب علي ، إنك أنت التواب الرحيم " مائة مرة . [ ص: 37 ]
وجملة الكلام في بيان العورات : أنه لا يجوز للناظر أن ينظر إلى عورة الرجل ، وعورته ما بين السرة إلى الركبة ، وكذلك المرأة مع المرأة ، ولا بأس بالنظر إلى سائر البدن إذا لم يكن خوف فتنة . وقال مالك وابن أبي ذئب : الفخذ ليس بعورة لما روي عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال أجرى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فرسا في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - .
وأكثر أهل العلم على أن الفخذ عورة ، لما أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن أبي كثير ، عن محمد بن جحش****** ، قال : مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معمر وفخذاه مكشوفتان ، قال : " يا معمر غط فخذيك ، فإن الفخذين عورة " وروي عن ابن عباس وجرهد بن خويلد ، كان من أصحاب الصفة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الفخذ عورة "
قال محمد بن إسماعيل : " وحديث أنس أسند ، وحديث جرهد أحوط " . أما المرأة مع الرجل فإن كانت أجنبية حرة : فجميع بدنها في حق الأجنبي عورة ، ولا يجوز النظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين ، وإن كانت أمة : فعورتها مثل عورة الرجل ، ما بين السرة [ ص: 38 ] إلى الركبة ، وكذلك المحارم بعضهم مع بعض . والمرأة في النظر إلى الرجل الأجنبي كهو معها . ويجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن امرأته وأمته التي تحل له ، وكذلك هي منه إلا نفس الفرج فإنه يكره النظر إليه ، وإذا زوج الرجل أمته حرم عليه النظر إلى عورتها كالأمة الأجنبية ، وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا زوج أحدكم عبده أمته فلا ينظرن إلى ما دون السرة وفوق الركبة " .
( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم ( 32 ) )
قوله - عز وجل - : ( وأنكحوا الأيامى منكم ) " الأيامى " : جمع أيم ، وهو من لا زوج له من رجل أو امرأة ، يقال : رجل أيم وامرأة أيمة ، وأيم ، ومعنى الآية : زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم ، ( والصالحين من عبادكم وإمائكم ) وهذا الأمر أمر ندب واستحباب .
يستحب لمن تاقت نفسه إلى النكاح ووجد أهبة النكاح أن يتزوج ، وإن لم يجد أهبة النكاح يكسر شهوته بالصوم ، لما أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن الحسين الطوسي ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفراييني ، أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن مسعود ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أيوب البجلي ، أخبرنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان عن الأعمش عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط " [ ص: 39 ]
وقال - صلى الله عليه وسلم - : " من أحب فطرتي فليستن بسنتي ، ومن سنتي النكاح " . أما من لا تتوق نفسه إلى النكاح وهو قادر عليه فالتخلي للعبادة له أفضل من النكاح عند الشافعي رحمه الله ، وعند أصحاب الرأي النكاح أفضل .
قال الشافعي : وقد ذكر الله تعالى عبدا كرمه فقال : " وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين " ( آل عمران - 39 ) ، والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليه ، وذكر القواعد من النساء ولم يندبهن إلى النكاح . وفي الآية دليل على أن تزويج النساء الأيامى إلى الأولياء ; لأن الله تعالى خاطبهم به ، كما أن تزويج العبيد والإماء إلى السادات ، لقوله - عز وجل - : ( والصالحين من عبادكم وإمائكم ) وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم ، روي ذلك عن عمر ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وأبي هريرة ، وعائشة ، وبه قال سعيد بن المسيب ، والحسن ، وشريح ، وإبراهيم النخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، وإليه ذهب الثوري ، والأوزاعي ، وعبد الله بن المبارك ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق . وجوز أصحاب الرأي للمرأة الحرة تزويج نفسها .
وقال مالك : إن كانت المرأة دنيئة يجوز لها تزويج نفسها ، وإن كانت شريفة فلا . والدليل على أن الولي شرط من جهة الأخبار : ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا محمد بن الحسن بن أحمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، أخبرنا قتيبة بن سعيد ، أخبرنا أبو عوانة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا نكاح إلا بولي " [ ص: 40 ]
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج ، عن سليمان بن موسى ، عن ابن شهاب ، عن عروة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، ثلاثا ، فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها ، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له "
قوله - عز وجل - : ( إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم ) قيل : الغنى هاهنا : القناعة . وقيل : اجتماع الرزقين ، رزق الزوج ورزق الزوجة . وقال عمر : عجبت لمن ابتغى الغنى بغير النكاح ، والله - عز وجل - يقول : ( إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) وروي عن بعضهم : أن الله تعالى وعد الغني بالنكاح وبالتفرق فقال تعالى : ( إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) ، وقال تعالى : " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " ( النساء - 130 ) .
ابو وليد البحيرى
2022-06-14, 12:00 AM
الحلقة (305)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ النُّورِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية33 إلى الاية 38
( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ( 33 ) )
( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا ) أي : ليطلب العفة عن الحرام والزنا الذين لا يجدون ما لا ينكحون به للصداق والنفقة ، ( حتى يغنيهم الله من فضله ) أي : يوسع عليهم من رزقه . [ ص: 41 ]
قوله تعالى : ( والذين يبتغون الكتاب ) أي : يطلبون المكاتبة ، ( مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ) سبب نزول هذه الآية ما روي أن غلاما لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه ، فأنزل الله هذه الآية فكاتبه حويطب على مائة دينار ، ووهب له منها عشرين دينارا فأداها ، وقتل يوم حنين في الحرب
والكتابة أن يقول الرجل لمملوكه : كاتبتك على كذا من المال ، ويسمي مالا معلوما ، يؤدى ذلك في نجمين أو نجوم معلومة في كل نجم كذا ، فإذا أديت فأنت حر ، والعبد يقبل ذلك ، فإذا أدى المال عتق ، ويصير العبد أحق بمكاسبه بعد الكتابة ، وإذا أعتق بعد أداء المال فما فضل في يده من المال ، يكون له ، ويتبعه أولاده الذين حصلوا في حال الكتابة في العتق ، وإذا عجز عن أداء المال كان لمولاه أن يفسخ كتابته ويرده إلى الرق ، وما في يده من المال يكون لمولاه ، لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن نافع ، أخبرنا عبد الله بن عمر كان يقول : " المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء " . ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا : " المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم " .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى : ( فكاتبوهم ) أمر إيجاب ، يجب على المولى أن يكاتب عبده الذي علم فيه خيرا إذا سأل العبد ذلك ، على قيمته أو أكثر ، وإن سأل على أقل من قيمته فلا يجب ، وهو قول عطاء وعمرو بن دينار ، ولما روي أن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه فتلكأ عنه فشكا إلى عمر ، فعلاه بالدرة وأمره بالكتابة فكاتبه . وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه أمر ندب واستحباب . ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي; لأنه عقد جوز إرفاقا بالعبد ، ومن تتمة الإرفاق أن يكون ذلك المال عليه إلى أجل حتى يؤديه على مهل ، فيحصل المقصود ، كالدية في قتل [ ص: 42 ] الخطأ ، وجبت على العاقلة على سبيل المواساة فكانت عليهم مؤجلة منجمة ، وجوز أبو حنيفة الكتابة على نجم واحد وحالة .
قوله تعالى : ( إن علمتم فيهم خيرا ) اختلفوا في معنى الخير ، فقال ابن عمر : قوة على الكسب . وهو قول مالك والثوري ، وقال الحسن ومجاهد والضحاك : مالا كقوله تعالى : " إن ترك خيرا " ( البقرة - 180 ) أي : مالا وروي أن عبدا لسلمان الفارسي قال له : كاتبني ، قال : ألك مال ؟ قال : لا . قال : تريد أن تطعمني من أوساخ الناس ، ولم يكاتبه . قال الزجاج : لو أراد به المال لقال : إن علمتم لهم خيرا . وقال إبراهيم وابن زيد وعبيدة : صدقا وأمانة وقال طاوس ، وعمرو بن دينار : مالا وأمانة وقال الشافعي : وأظهر معاني الخير في العبد : الاكتساب مع الأمانة ، فأحب أن لا يمنع من كتابته إذا كان هكذا .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أخبرنا أبو الحسن بن علي بن شريك الشافعي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، أخبرنا أبو بكر الجوربذي ، أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب أخبرني الليث عن محمد بن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ثلاثة حق على الله عونهم : المكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح يريد العفاف ، والمجاهد في سبيل الله " . وحكى محمد بن سيرين عن عبيدة : " إن علمتم فيهم خيرا " أي : أقاموا الصلاة . وقيل : هو أن يكون العبد بالغا عاقلا فأما الصبي والمجنون فلا تصح كتابتهما لأن الابتغاء منهما لا يصح . وجوز أبو حنيفة كتابة الصبي المراهق .
قوله - عز وجل - : ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : هذا خطاب للموالي ، يجب على المولى أن يحط عن مكاتبه من مال كتابته شيئا ، وهو قول عثمان وعلي والزبير وجماعة ، وبه قال الشافعي . [ ص: 43 ] ثم اختلفوا في قدره ، فقال قوم : يحط عنه ربع مال الكتابة ، وهو قول علي ، ورواه بعضهم عن علي مرفوعا ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يحط عنه الثلث . وقال الآخرون : ليس له حد بل عليه أن يحط عنه ما شاء وهو قول الشافعي .
قال نافع : كاتب عبد الله بن عمر غلاما له على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع عنه من آخر كتابته خمسة آلاف درهم . وقال سعيد بن جبير : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئا من أول نجومه مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته ، ووضع من آخر كتابته ما أحب . وقال بعضهم : هو أمر استحباب . والوجوب أظهر . وقال قوم : أراد بقوله : " وآتوهم من مال الله " أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات ، بقوله تعالى : " وفي الرقاب " ( التوبة - 60 ) وهو قول الحسن وزيد بن أسلم . وقال إبراهيم : هو حث لجميع الناس على معونتهم
ولو مات المكاتب قبل أداء النجوم ، اختلف أهل العلم فيه : فذهب كثير منهم إلى أنه يموت رقيقا ، وترتفع الكتابة سواء ترك مالا أو لم يترك ، كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع . وهو قول عمر ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، والزهري ، وقتادة ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد . وقال قوم : إن ترك وفاء بما بقي عليه من الكتابة كان حرا وإن كان فيه فضل ، فالزيادة لأولاده الأحرار ، وهو قول عطاء ، وطاوس ، والنخعي ، والحسن ، وبه قال مالك ، والثوري ، وأصحاب الرأي . ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال لأن عتقه معلق بالأداء ، وقد وجد وتبعه الأولاد والاكتساب كما في الكتابة الصحيحة ، ويفترقان في بعض الأحكام : وهي أن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم ، ولا تبطل بموت المولى ، ويعتق بالإبراء [ ص: 44 ] عن النجوم ، والكتابة الفاسدة يملك المولى فسخها قبل أداء المال ، حتى لو أدى المال بعد الفسخ لا يعتق ويبطل بموت المولى ، ولا يعتق بالإبراء عن النجوم ، وإذا عتق المكاتب بأداء المال لا يثبت التراجع في الكتابة الصحيحة ، ويثبت في الكتابة الفاسدة ، فيرجع المولى عليه بقيمة رقبته ، وهو يرجع على المولى بما دفع إليه إن كان مالا .
قوله - عز وجل - : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ) الآية نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق ، كانت له جاريتان : معاذة ومسيكة ، وكان يكرههما على الزنا بالضريبة يأخذها منهما ، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية ، يؤجرون إماءهم ، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين ، فإن يك خيرا فقد استكثرنا منه ، وإن يك شرا فقد آن لنا أن ندعه ، فأنزل الله هذه الآية . وروي أنه جاءت إحدى الجاريتين يوما ببرد وجاءت الأخرى بدينار ، فقال لهما : ارجعا فازنيا ، قالتا : والله لا نفعل ، قد جاء الإسلام وحرم الزنا ، فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشكتا إليه ، فأنزل هذه الآية
( ولا تكرهوا فتياتكم ) إماءكم ( على البغاء ) أي : الزنا ( إن أردن تحصنا ) أي : إذا أردن ، وليس معناه الشرط ، لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا وإن لم يردن تحصنا ، كقوله تعالى : " وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " ( آل عمران - 139 ) ، أي : إذا كنتم مؤمنين وقيل : شرط إرادة التحصن لأن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن ، فإذا لم ترد التحصن بغت طوعا ، والتحصن : التعفف . وقال الحسن بن الفضل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها : وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصنا ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء .
( لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ) أي : لتطلبوا من أموال الدنيا ، يريد من كسبهن وبيع أولادهن ، ( ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) يعني للمكرهات ، والوزر على المكره . وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : لهن والله لهن والله .
[ ص: 45 ] ( ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ( 34 ) الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ( 35 ) )
قوله - عز وجل - : ( ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ) من الحلال والحرام ، ( ومثلا من الذين خلوا من قبلكم ) أي : شبها من حالكم بحالهم أيها المكذبون ، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق من قبلهم من المكذبين ، ( وموعظة للمتقين ) للمؤمنين الذين يتقون الشرك والكبائر . قوله - عز وجل - : ( الله نور السماوات والأرض ) قال ابن عباس : هادي أهل السماوات والأرض ، فهم بنوره إلى الحق يهتدون وبهداه من الضلالة ينجون . وقال الضحاك : منور السماوات والأرض ، يقال : نور السماء بالملائكة ونور الأرض بالأنبياء . وقال مجاهد : مدبر الأمور في السماوات والأرض وقال أبي بن كعب والحسن وأبو العالية : مزين السماوات والأرض ، زين السماء بالشمس والقمر والنجوم ، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين . ويقال : بالنبات والأشجار . وقيل : معناه الأنوار كلها منه ، كما يقال : فلان رحمة أي منه الرحمة . وقد يذكر مثل هذا اللفظ على طريق المدح كما قال القائل :
إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نورها وجمالها
قوله تعالى : ( مثل نوره ) أي : مثل نور الله تعالى في قلب المؤمن ، وهو النور الذي يهتدي به ، كما قال " فهو على نور من ربه " ( الزمر - 22 ) ، وكان ابن مسعود يقرأ : " مثل نوره في قلب المؤمن " . وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : مثل نوره الذي أعطى المؤمن . وقال بعضهم : الكناية عائدة إلى المؤمن ، أي : مثل نور قلب المؤمن ، وكان أبي يقرأ : " مثل نور من آمن به " وهو عبد جعل الإيمان والقرآن في صدره . وقال الحسن وزيد بن أسلم : أراد بالنور القرآن . وقال سعيد بن جبير والضحاك : هو محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : أراد بالنور الطاعة ، سمى طاعة الله نورا وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضيلا [ ص: 46 ] ( كمشكاة ) وهي الكوة التي لا منفذ لها فإن كان لها منفذ فهي كوة . وقيل : المشكاة حبشية . قال مجاهد : هي القنديل ( فيها مصباح ) أي : سراج ، أصله من الضوء ، ومنه الصبح ، ومعناه : كمصباح في مشكاة ، ( المصباح في زجاجة ) يعني القنديل ، قال الزجاج : إنما ذكر الزجاجة لأن النور وضوء النار فيها أبين من كل شيء ، وضوءه يزيد في الزجاج ، ثم وصف الزجاجة ، فقال : ( الزجاجة كأنها كوكب دري ) قرأ أبو عمرو والكسائي : " دريء " بكسر الدال والهمزة ، وقرأ حمزة وأبو بكر بضم الدال والهمزة ، فمن كسر الدال فهو فعيل من الدرء ، وهو الدفع ، لأن الكوكب يدفع الشياطين من السماء ، وشبهه بحالة الدفع لأنه يكون في تلك الحالة أضوأ وأنور ويقال : هو من درأ الكوكب إذا اندفع منقبضا فيتضاعف ضوءه في ذلك الوقت . وقيل : " دري " أي : طالع ، يقال : درأ النجم إذا طلع وارتفع . ويقال : درأ علينا فلان أي طلع وظهر ، فأما رفع الدال مع الهمزة كما قرأ حمزة ، قال أكثر النحاة : هو لحن ، لأنه ليس في كلام العرب فعيل بضم الفاء وكسر العين .
قال أبو عبيدة : وأنا أرى لها وجها وذلك أنها دروء على وزن فعول من درات ، مثل سبوح وقدوس ، وقد استثقلوا كثرة الضمات فردوا بعضها إلى الكسر ، كما قالوا : عتيا وهو فعول من عتوت ، وقرأ الآخرون ( دري ) بضم الدال وتشديد الياء بلا همز ، أي : شديد الإنارة ، نسب إلى الدر في صفائه وحسنه ، وإن كان الكوكب أكثر ضوءا من الدر لكنه يفضل الكواكب بضيائه ، كما يفضل الدر ، سائر الحب . وقيل : الكوكب الدري واحد من الكواكب الخمسة العظام ، وهي زحل والمريخ ، والمشتري ، والزهرة ، وعطارد . وقيل : شبهه بالكوكب ، ولم يشبهه بالشمس والقمر ، لأن الشمس والقمر يلحقهما الخسوف ، والكواكب لا يلحقها الخسوف .
( يوقد ) قرأ أبو جعفر ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : " توقد " بالتاء وفتحها وفتح الواو والدال وتشديد القاف على الماضي ، يعني المصباح ، أي : اتقد ، يقال توقدت النار أي : اتقدت . وقرأ [ ص: 47 ] أهل الكوفة غير حفص " توقد " بالتاء وضمها وفتح القاف خفيفا ، يعني الزجاجة أي : نار الزجاجة لأن الزجاجة لا توقد ، وقرأ الآخرون بالياء وضمها خفيفا يعني المصباح ، ( من شجرة مباركة زيتونة ) أي : من زيت شجرة مباركة ، فحذف المضاف بدليل قوله تعالى ( يكاد زيتها يضيء ) وأراد بالشجرة المباركة : الزيتونة وهي كثيرة البركة ، وفيها منافع كثيرة ، لأن الزيت يسرج به ، وهو أضوأ وأصفى الأدهان ، وهو إدام وفاكهة ، ولا يحتاج في استخراجه إلى إعصار بل كل أحد يستخرجه ، وجاء في الحديث : " أنه مصحة من الباسور " ، وهي شجرة تورق من أعلاها إلى أسفلها .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو الحسن القاسم بن بكر الطيالسي ، أخبرنا أبو أمية الطوسي ، أخبرنا قبيصة بن عقبة ، أخبرنا سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عطاء الذي كان بالشام ، وليس بابن أبي رباح ، عن أسد بن ثابت وأبي أسلم الأنصاري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة " .
قوله تعالى : ( لا شرقية ولا غربية ) أي : ليست شرقية وحدها حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت ، ولا غربية وحدها فلا تصيبها الشمس بالغداة إذا طلعت ، بل هي ضاحية الشمس طول النهار ، تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها ، فتكون شرقية وغربية تأخذ حظها من الأمرين ، فيكون زيتها أضوأ ، وهذا كما يقال : فلان ليس بأسود ولا بأبيض ، يريد ليس بأسود خالص ولا بأبيض خالص ، بل اجتمع فيه كل واحد منهما ، وهذا الرمان ليس بحلو ولا حامض ، أي اجتمعت فيه الحلاوة والحموضة ، هذا قول ابن عباس في رواية عكرمة والكلبي ، والأكثرين . وقال السدي وجماعة : معناه أنها ليست في مقناة لا تصيبها الشمس ولا في مضحاة لا يصيبها الظل ، فهي لا تضرها شمس ولا ظل . [ ص: 48 ]
وقيل : معناه أنها معتدلة ليست في شرق يضرها الحر ، ولا في غرب يضرها البرد . وقيل : معناه هي شامية لأن الشام لا شرقي ولا غربي . وقال الحسن : ليست هذه من أشجار الدنيا ولو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية وإنما هو مثل ضربه الله لنوره .
( يكاد زيتها ) دهنها ، ( يضيء ) من صفائه ( ولو لم تمسسه نار ) أي : قبل أن تصيبه النار ، ( نور على نور ) يعني : نور المصباح على نور الزجاجة . واختلف أهل العلم في معنى هذا التمثيل ، فقال بعضهم : وقع هذا التمثيل لنور محمد - صلى الله عليه وسلم - ، قال ابن عباس لكعب الأحبار : أخبرني عن قوله تعالى : ( مثل نوره كمشكاة ) فقال كعب : هذا مثل ضربه الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فالمشكاة صدره ، والزجاجة قلبه ، والمصباح فيه النبوة ، توقد من شجرة مباركة هي شجرة النبوة ، يكاد نور محمد وأمره يتبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي كما يكاد ذلك الزيت يضيء ولو لم تمسسه نار . وروى سالم عن ابن عمر في هذه الآية قال : المشكاة : جوف محمد ، والزجاجة : قلبه ، والمصباح : النور الذي جعله الله فيه ، لا شرقية ولا غربية : ولا يهوديا ولا نصرانيا ، توقد من شجرة مباركة : إبراهيم ، نور على نور ، قلب إبراهيم ، ونور : قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقال محمد بن كعب القرظي : " المشكاة " إبراهيم ، و " الزجاجة " : إسماعيل و " المصباح " : محمد صلوات الله عليهم أجمعين سماه الله مصباحا كما سماه سراجا فقال تعالى : " وسراجا منيرا " ( الأحزاب - 46 ) ، " توقد من شجرة مباركة " وهي إبراهيم ، سماه مباركة لأن أكثر الأنبياء من صلبه ، " لا شرقية ولا غربية " يعني : إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، تكاد محاسن محمد - صلى الله عليه وسلم - تظهر للناس قبل أن يوحى إليه " نور على نور " : نبي من نسل نبي ، نور محمد على نور إبراهيم .
وقال بعضهم : وقع هذا التمثيل لنور قلب المؤمن . روى أبو العالية عن أبي بن كعب قال : هذا مثل المؤمن ، فالمشكاة نفسه والزجاجة صدره ، والمصباح ما جعل الله فيه من الإيمان ، والقرآن [ ص: 49 ] في قلبه يوقد من شجرة مباركة وهي الإخلاص لله وحده ، فمثله كمثل الشجرة التي التف بها الشجر خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس لا إذا طلعت ولا إذا غربت فكذلك المؤمن ، قد احترس من أن يصيبه شيء من الفتن فهو بين أربع خلال إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر ، وإن حكم عدل ، وإن قال صدق ، يكاد زيتها يضيء أي : يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يتبين له لموافقته إياه نور على نور . قال أبي فهو يتقلب في خمسة أنوار : قوله نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة
قال ابن عباس : هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار ، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوئه ، كذلك يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونورا على نور قال الكلبي : قوله ( نور على نور ) يعني إيمان المؤمن وعمله . وقال السدي : نور الإيمان ونور القرآن . وقال الحسن وابن زيد هذا مثل القرآن ، فالمصباح هو القرآن فكما يستضاء بالمصباح يهتدى بالقرآن ، والزجاجة قلب المؤمن والمشكاة فمه ولسانه والشجرة المباركة شجرة الوحي ، " يكاد زيتها يضيء " تكاد حجة القرآن تتضح وإن لم يقرأ ، نور على نور : يعني : القرآن نور من الله - عز وجل - لخلقه مع ما أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن ، فازداد بذلك نورا على نور
قوله - عز وجل - : ( يهدي الله لنوره من يشاء ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : لدين الإسلام ، وهو نور البصيرة ، وقيل : القرآن ( ويضرب الله الأمثال للناس ) يبين الله الأشياء للناس تقريبا للأفهام وتسهيلا لسبل الإدراك ، ( والله بكل شيء عليم )
( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ( 36 ) )
قوله : ( في بيوت أذن الله ) أي : ذلك المصباح في بيوت . وقيل : يوقد في بيوت ، والبيوت : هي المساجد ، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : " المساجد بيوت الله في الأرض ، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض " . [ ص: 50 ]
وروى صالح بن حيان عن ابن بريدة في قوله تعالى " " في بيوت أذن الله " ، قال : إنما هي أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي : الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة ، وبيت المقدس بناه داود وسليمان ، ومسجد المدينة بناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومسجد قباء أسس على التقوى بناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قوله : ( أن ترفع ) قال مجاهد : أن تبنى ، نظيره قوله تعالى : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت " ( البقرة - 127 ) ، قال الحسن : أي تعظم أي لا يذكر فيه الخنا من القول . ( ويذكر فيها اسمه ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يتلى فيها كتابه ، ( يسبح ) قرأ ابن عامر وأبو بكر " يسبح " بفتح الباء على غير تسمية الفاعل ، والوقف على هذه القراءة عند قوله " " والآصال " ، وقرأ الآخرون بكسر الباء ، جعلوا التسبيح فعلا للرجال ، ( يسبح له ) أي : يصلي ، ( له فيها بالغدو والآصال ) أي بالغداة والعشي . قال أهل التفسير : أراد به الصلوات المفروضات . فالتي تؤدى بالغداة صلاة الصبح ، والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين لأن اسم الأصيل يجمعهما . وقيل : أراد به صلاة الصبح والعصر .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ، أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد بن معقل الميداني ، حدثنا محمد بن يحيى ، أخبرنا عبد الله بن رجاء ، أخبرنا همام بن أبي حمزة ، أن أبا بكر بن عبد الله بن قيس حدثه عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من صلى البردين دخل الجنة " . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : التسبيح بالغدو صلاة الضحى . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن السمعان ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا الهيثم بن حميد ، أخبرني يحيى بن الحارث ، عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهر فأجره كأجر الحاج المحرم ، ومن مشى إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر ، وصلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين "
[ ص: 51 ] ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ( 37 ) ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب ( 38 ) )
( رجال ) قيل : خص الرجال بالذكر في هذه المساجد لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد ، ( لا تلهيهم ) لا تشغلهم ، ( تجارة ) قيل خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة والطاعات ، وأراد بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعا لأنه ذكر البيع بعد هذا ، كقوله : " وإذا رأوا تجارة " ( الجمعة - 11 ) يعني : الشراء ، وقال الفراء : التجارة لأهل الجلب والبيع ما باعه الرجل على يديه . قوله : ( ولا بيع عن ذكر الله ) عن حضور المساجد لإقامة الصلاة ، ( وإقام ) أي : لإقامة ، ( الصلاة ) حذف الهاء وأراد أداءها في وقتها ، لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة ، وأعاد ذكر إقامة الصلاة مع أن المراد من ذكر الله الصلوات الخمس لأنه أراد بإقام الصلاة حفظ المواقيت . روى سالم عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فقام الناس وأغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد ، فقال ابن عمر : فيهم نزلت : ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) المفروضة ، قال ابن عباس رضي الله عنه : إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها . وقيل : هي الأعمال الصالحة . ( يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ) قيل : تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشرك والكفر ، وتنفتح الأبصار من الأغطية ، وقيل : تتقلب القلوب بين الخوف والرجاء تخشى الهلاك وتطمع في النجاة ، وتقلب الأبصار من هوله أي : ناحية يؤخذ بهم ذات اليمين أم ذات الشمال ، ومن أين يؤتون الكتب من قبل الأيمان أم من قبل الشمائل ، وذلك يوم القيامة . وقيل : تتقلب القلوب في الجوف فترتفع إلى الحنجرة فلا تنزل ولا تخرج ، وتقلب البصر شخوصه من هول الأمر وشدته . ( ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ) يريد : أنهم اشتغلوا بذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ، أي بأحسن ما عملوا ، يريد : يجزيهم بحسناتهم ، وما كان من مساوئ أعمالهم لا يجزيهم بها ، ( ويزيدهم من فضله ) ما لم يستحقوه بأعمالهم ، ( والله يرزق من يشاء بغير حساب ) ثم ضرب لأعمال الكفار مثلا فقال تعالى :
ابو وليد البحيرى
2022-06-14, 12:01 AM
الحلقة (306)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ النُّورِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية39 إلى الاية 57
[ ص: 52 ] ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ( 39 ) أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ( 40 ) )
( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ) " السراب " الشعاع الذي يرى نصف النهار عند شدة الحر في البراري ، يشبه الماء الجاري على الأرض يظنه من رآه ماء ، فإذا قرب منه انفش فلم ير شيئا و " الآل " ما ارتفع من الأرض ، وهو شعاع يرى بين السماء والأرض بالغدوات شبه الملاءة يرفع فيه الشخوص يرى فيه الصغير كبيرا والقصير طويلا و " الرقراق " يكون بالعشايا ، وهو ما ترقرق من السراب ، أي جاء وذهب . و " القيعة " : جمع القاع وهو المنبسط الواسع من الأرض ، وفيه يكون السراب ، ( يحسبه الظمآن ) أي : يتوهمه العطشان ، ( ماء حتى إذا جاءه ) أي : جاء ما قد رأى أنه ماء . وقيل : جاء موضع السراب ، ( لم يجده شيئا ) على ما قدره وحسبه كذلك الكافر يحسب أن عمله نافعه فإذا أتاه ملك الموت واحتاج إلى عمله لم يجد عمله أغنى منه شيئا ولا نفعه . ( ووجد الله عنده ) أي : عند عمله ، أي : وجد الله بالمرصاد . وقيل : قدم على الله ، ( فوفاه حسابه ) أي جزاء عمله ، ( والله سريع الحساب أو كظلمات ) وهذا مثل آخر ضربه الله لأعمال الكفار ، يقول : مثل أعمالهم من فسادها وجهالتهم فيها كظلمات ، ( في بحر لجي ) وهو العميق الكثير الماء ، ولجة البحر : معظمه ، ( يغشاه ) يعلوه ، ( موج من فوقه موج ) متراكم ، ( من فوقه سحاب ) ، ، قرأ ابن كثير برواية القواس : " سحاب " بالرفع والتنوين ، ( ظلمات ) بالجر على البدل من قوله " أو كظلمات " . وروى أبو الحسن البري عنه : " سحاب ظلمات " بالإضافة ، وقرأ الآخرون " سحاب ظلمات " ، كلاهما بالرفع والتنوين ، فيكون تمام الكلام عند قوله " سحاب " ثم ابتدأ فقال : ( ظلمات بعضها فوق بعض ) ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر بعضها فوق بعض ، أي : ظلمة الموج على ظلمة البحر ، وظلمة الموج فوق الموج ، وظلمة السحاب على ظلمة الموج ، وأراد بالظلمات أعمال الكافر وبالبحر اللجي قلبه ، وبالموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة ، وبالسحاب الختم والطبع على قلبه . [ ص: 53 ] قال أبي بن كعب : في هذه الآية الكافر يتقلب في خمسة من الظلم : فكلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار .
( إذا أخرج ) يعني الناظر ، ( يده لم يكد يراها ) يعني لم يقرب من أن يراها من شدة الظلمة . وقال الفراء : " يكد " صلة ، أي : لم يرها ، قال المبرد : يعني لم يرها إلا بعد الجهد ، كما يقول القائل : ما كدت أراك من الظلمة وقد رآه ، ولكن بعد يأس وشدة . وقيل : معناه قرب من رؤيتها ولم يرها ، كما يقال : كاد النعام يطير . ( ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) قال ابن عباس : من لم يجعل الله له دينا وإيمانا فلا دين له . وقيل : من لم يهده الله فلا إيمان له ولا يهديه أحد . وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في عتبة بن ربيعة بن أمية كان يلتمس الدين في الجاهلية ويلبس المسوح فلما جاء الإسلام كفر . والأكثرون على أنه عام في جميع الكفار .
( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ( 41 ) ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ( 42 ) ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ( 43 ) )
قوله - عز وجل - : ( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات ) باسطات أجنحتهن بالهواء . قيل خص الطير بالذكر من جملة الحيوان لأنها تكون بين السماء والأرض فتكون خارجة عن حكم من في السماء والأرض ، ( كل قد علم صلاته وتسبيحه ) قال مجاهد : الصلاة لبني آدم ، والتسبيح لسائر الخلق . وقيل : إن ضرب الأجنحة صلاة الطير وصوته تسبيحه . قوله : ( كل قد علم ) أي : كل مصل ومسبح علم الله صلاته وتسبيحه . وقيل : معناه كل مصل ومسبح منهم قد علم صلاة نفسه وتسبيحه ، ( والله عليم بما يفعلون ) . ( ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ) . ( ألم تر أن الله يزجي ) يعني : يسوق بأمره ، ( سحابا ) إلى حيث يريد ، ( ثم يؤلف بينه ) أي : يجمع بين قطع السحاب المتفرقة بعضها إلى بعض ، ( ثم يجعله ركاما ) متراكما بعضه فوق [ ص: 54 ] بعض ، ( فترى الودق ) يعني المطر ، ( يخرج من خلاله ) وسطه وهو جمع الخلل ، كالجبال جمع الجبل . ( وينزل من السماء من جبال فيها من برد ) يعني : ينزل البرد ، و " من " صلة ، وقيل : معناه وينزل من السماء من جبال ، أي : مقدار جبال في الكثرة من البرد ، و " من " في قوله " من جبال " صلة ، أي : وينزل من السماء جبالا من برد . وقيل : معناه وينزل من جبال في السماء تلك الجبال من برد . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أخبر الله - عز وجل - أن في السماء جبالا من برد ، ومفعول الإنزال محذوف تقديره : وينزل من السماء من جبال فيها برد ، فاستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه . قال أهل النحو ذكر الله تعالى " من " ثلاث مرات في هذه الآية فقوله " من السماء " لابتداء الغاية ، لأن ابتداء الإنزال من السماء ، وقوله تعالى " من جبال " للتبعيض لأن ما ينزله الله تعالى بعض تلك الجبال التي في السماء ، وقوله تعالى : " من برد " للتجنيس لأن تلك الجبال من جنس البرد . ( فيصيب به ) يعني بالبرد ( من يشاء ) فيهلك زروعه وأمواله ، ( ويصرفه عن من يشاء ) فلا يضره ، ( يكاد سنا برقه ) يعني ضوء برق السحاب ، ( يذهب بالأبصار ) شدة ضوئه وبريقه ، وقرأ أبو جعفر : " يذهب " بضم الياء وكسر الهاء .
( يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ( 44 ) )
( يقلب الله الليل والنهار ) يصرفهما في اختلافهما وتعاقبهما يأتي بالليل ويذهب بالنهار ، ويأتي بالنهار ويذهب بالليل . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا الحميدي ، أخبرنا سفيان ، أخبرنا الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال الله تعالى : " يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار " قوله تعالى : ( إن في ذلك ) يعني في ذلك الذي ذكرت من هذه الأشياء ، ( لعبرة لأولي الأبصار ) يعني : دلالة لأهل العقول والبصائر على قدرة الله تعالى وتوحيده .
[ ص: 55 ] ( والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ( 45 ) لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( 46 ) ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ( 47 ) )
قوله - عز وجل - : ( والله خلق كل دابة ) قرأ حمزة والكسائي ، " خالق كل " بالإضافة ، وقرأ الآخرون " خلق كل " على الفعل ، ( من ماء ) يعني : من نطفة ، وأراد به كل حيوان يشاهد في الدنيا ، ولا يدخل فيه الملائكة ولا الجن ، لأنا لا نشاهدهم . وقيل : أصل جميع الخلق من الماء ، وذلك أن الله تعالى خلق ماء ثم جعل بعضه ريحا فخلق منها الملائكة ، وبعضه نارا فخلق منها الجن ، وبعضها طينا فخلق منها آدم ، ( فمنهم من يمشي على بطنه ) كالحيات والحيتان والديدان ، ( ومنهم من يمشي على رجلين ) مثل بني آدم والطير ، ( ومنهم من يمشي على أربع ) كالبهائم والسباع ، ولم يذكر من يمشي على أكثر من أربع مثل حشرات الأرض ، لأنها في الصورة كالتي يمشي على الأربع ، وإنما قال : " من يمشي " و " من " إنما تستعمل فيمن يعقل دون من لا يعقل من الحيات والبهائم ، لأنه ذكر كل دابة ، فدخل فيه الناس وغيرهم ، وإذا جمع اللفظ من يعقل ومن لا يعقل تجعل الغلبة لمن يعقل . ( يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ) ( لقد أنزلنا ) إليك ، ( آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ) يعني : المنافقين يقولونه ، ( ثم يتولى ) يعرض عن طاعة الله ورسوله ، ( فريق منهم من بعد ذلك ) ، ، أي : من بعد قولهم : آمنا ويدعو إلى غير حكم الله . قال الله - عز وجل - : ( وما أولئك بالمؤمنين ) نزلت هذه الآية في بشر المنافق ، كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض ، فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقال المنافق نتحاكم إلى كعب بن الأشرف ، فإن محمدا يحيف علينا ، فأنزل الله هذه الآية
[ ص: 56 ] ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ( 48 ) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ( 49 ) أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون ( 50 ) إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ( 51 ) ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ( 52 ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون ( 53 ) )
وقال : ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ) الرسول بحكم الله ، ( إذا فريق منهم معرضون ) أي عن الحكم . وقيل : عن الإجابة . ( وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ) مطيعين منقادين لحكمه ، أي : إذا كان الحق لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لثقتهم بأنه كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضا بالحق . ( أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا ) أي : شكوا ، هذا استفهام ذم وتوبيخ ، أي : هم كذلك ، ( أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ) أي : بظلم ، ( بل أولئك هم الظالمون ) لأنفسهم بإعراضهم عن الحق . ( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ) إلى كتاب الله ورسوله ، ( ليحكم بينهم ) هذا ليس على طريق الخبر لكنه تعليم أدب الشرع على معنى أن المؤمنين كذا ينبغي أن يكونوا ، ونصب القول على الخبر واسمه في قوله تعالى : ( أن يقولوا سمعنا وأطعنا ) أي : سمعنا الدعاء وأطعنا بالإجابة . ( وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : فيما ساءه وسره ( ويخش الله ) على ما عمل من الذنوب . ( ويتقه ) فيما بعده ، ( فأولئك هم الفائزون ) الناجون ، قرأ أبو عمرو وأبو بكر " يتقه " ساكنة الهاء ، ويختلسها أبو جعفر ويعقوب وقالون ، كما في نظائرها ويشبعها الباقون كسرا ، وقرأ حفص " يتقه " بسكون القاف واختلاس الهاء ، وهذه اللغة إذا سقطت الياء للجزم يسكنون ما قبلها ، يقولون : لم أشتر طعاما بسكون الراء . قوله - عز وجل - : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم ) جهد اليمين أن يحلف بالله ، ولا حلف فوق [ ص: 57 ] الحلف بالله ، ( لئن أمرتهم ليخرجن ) وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أينما كنت نكن معك ، لئن خرجت خرجنا ، وإن أقمت أقمنا ، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا ، فقال تعالى : ( قل ) لهم ( لا تقسموا ) لا تحلفوا ، وقد تم الكلام ، ثم قال : ( طاعة معروفة ) أي : هذه طاعة بالقول وباللسان دون الاعتقاد ، وهي معروفة أي : أمر عرف منكم أنكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون ، هذا معنى قول مجاهد رضي الله عنه . وقيل : معناه طاعة معروفة بنية خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان لا يوافقها الفعل . وقال مقاتل بن سليمان : لتكن منكم طاعة معروفة . ( إن الله خبير بما تعملون )
( قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين ( 54 ) وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ( 55 ) )
( قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا ) أي : تولوا عن طاعة الله ورسوله ، ( فإنما عليه ما حمل ) يعني : على الرسول ما كلف وأمر به من تبليغ الرسالة ، ( وعليكم ما حملتم ) من الإجابة والطاعة ، ( وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) أي : التبليغ البين . قوله - عز وجل - : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ) قال أبو العالية في هذه الآية : مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد الوحي عشر سنين مع أصحابه ، وأمروا بالصبر على أذى الكفار ، وكانوا يصبحون ويمسون خائفين ، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة ، وأمروا بالقتال وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه ، فقال رجل منهم : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟ فأنزل الله هذه الآية ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم ) [ ص: 58 ] أدخل اللام لجواب اليمين المضمرة ، يعني : والله ليستخلفنهم ، أي : ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم ، فيجعلهم ملوكها وساستها وسكانها ، ( كما استخلف الذين من قبلهم ) قرأ أبو بكر عن عاصم : " كما استخلف " بضم التاء وكسر اللام على ما لم يسم فاعله ، وقرأ الآخرون بفتح التاء واللام لقوله تعالى : " وعد الله " . قال قتادة : ) ( كما استخلف ) داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء . وقيل : " كما استخلف الذين من قبلهم " أي : بني إسرائيل حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم ، ( وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ) أي : اختار ، قال ابن عباس : يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على سائر الأديان ، ) ( وليبدلنهم ) قرأ ابن كثير وأبو بكر ويعقوب بالتخفيف من الإبدال ، وقرأ الآخرون بالتشديد من التبديل ، وهما لغتان ، وقال بعضهم : التبديل تغيير حال إلى حال ، والإبدال رفع الشيء وجعل غيره مكانه ، ( من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ) آمنين ، ( لا يشركون بي شيئا ) فأنجز الله وعده ، وأظهر دينه ، ونصر أولياءه ، وأبدلهم بعد الخوف أمنا وبسطا في الأرض .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن الحكم ، أخبرنا النضر ، أخبرنا إسرائيل ، أخبرنا سعيد الطاهري ، أخبرنا محمد بن خليفة ، عن عدي بن حاتم قال : بينا أنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة ، ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل ، فقال : " يا عدي هل رأيت الحيرة ؟ قلت : لم أرها وقد أنبئت عنها " ، قال : " فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله " ، قلت فيما بيني وبين نفسي : فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد ؟ ، " ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى " قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : " كسرى بن هرمز ، لئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب وفضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه ، وليلقين الله أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم فليقولن له : ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك ؟ فيقول : بلى ، فيقول : ألم أعطك مالا وأفضل عليك ؟ فيقول : بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم ، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم " ، قال عدي : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة " ، قال عدي : فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله ، وكنت ممن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - يخرج ملء كفه [ ص: 59 ]
وفي الآية دلالة على خلافة الصديق وإمامة الخلفاء الراشدين . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد ، أخبرني حماد هو ابن مسلمة بن دينار ، عن سعيد بن جمهان ، عن سفينة قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ، ملكا " . ثم قال : أمسك خلافة أبي بكر سنتين ، وخلافة عمر عشرا ، وعثمان اثنتا عشر ، وعلي ستة . قال علي : قلت لحماد : سفينة ، القائل ، لسعيد أمسك ؟ قال : نعم . قوله - عز وجل - : ( ومن كفر بعد ذلك ) أراد به كفران النعمة ، ولم يرد الكفر بالله ، ( فأولئك هم الفاسقون ) العاصون لله . قال أهل التفسير : أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه ، فلما قتلوه غير الله ما بهم وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانا .
أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم المعروف بابن أبي نصر ، أخبرنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدرة المعروف بالطرابلسي ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن حميد بن هلال قال : قال عبد الله بن سلام في عثمان : إن الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى اليوم ، فوالله لئن قتلتموه ليذهبون ثم لا يعودون أبدا ، فوالله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يد له ، وإن سيف الله لم يزل مغمودا عنكم ، والله لئن قتلتموه ليسلنه الله ثم لا يغمده عنكم ، إما قال : أبدا ، وإما قال : إلى يوم القيامة ، فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفا ، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفا
( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ( 56 ) لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير ( 57 ) )
قوله - عز وجل - : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ) أي : افعلوها على رجاء الرحمة . ( لا تحسبن الذين كفروا ) قرأ عامر وحمزة " لا يحسبن " بالياء ، أي : [ ص: 60 ] لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم ( معجزين في الأرض ) وقرأ الآخرون بالتاء ، يقول : لا تحسبن يا محمد الذين كفروا معجزين فائتين عنا ، ( ومأواهم النار ولبئس المصير )
ابو وليد البحيرى
2022-06-14, 12:02 AM
الحلقة (307)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ النُّورِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية58 إلى الاية 64
( ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( 58 ) )
قوله - عز وجل - : ( ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ) الآية : قال ابن عباس رضي الله عنهما وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه ، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك ، فأنزل الله هذه الآية وقال مقاتل : نزلت في أسماء بنت مرثد ، كان لها غلام كبير ، فدخل عليها في وقت كرهته ، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها ، فأنزل الله تعالى " ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم اللام لام الأمر . ( الذين ملكت أيمانكم ) يعني : العبيد والإماء ، ( والذين لم يبلغوا الحلم منكم ) من الأحرار ، ليس المراد منهم الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء ، بل الذين عرفوا أمر النساء ولكن لم يبلغوا .
) ( ثلاث مرات ) أي : ليستأذنوا في ثلاث أوقات ، ( من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ) يريد المقيل ، ( ومن بعد صلاة العشاء ) وإنما خص هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب ، فربما يبدو من الإنسان ما لا يحب أن يراه أحد ، أمر العبيد والصبيان بالاستئذان في هذه الأوقات ، وأما غيرهم فليستأذنوا في جميع الأوقات ( ثلاث عورات لكم ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : " ثلاث " بنصب الثاء بدلا عن قوله : " ثلاث مرات " ، وقرأ الآخرون [ ص: 61 ] بالرفع ، أي : هذه الأوقات ثلاث عورات لكم ، سميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته ، ) ( ليس عليكم ) جناح ، ) ( ولا عليهم ) يعني : على العبيد والخدم والصبيان ، ) ( جناح ) في الدخول عليكم من غير استئذان ، ) ( بعدهن ) أي : بعد هذه الأوقات الثلاثة ، ) ( طوافون عليكم ) أي : العبيد والخدم يطوفون عليكم فيترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالهم بغير إذن ، ( بعضكم على بعض ) أي : يطوف ، ( بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ) واختلف العلماء في حكم هذه الآية : فقال قوم : منسوخ .
قال ابن عباس رضي الله عنه : لم يكن للقوم ستور ولا حجاب ، فكان الخدم والولائد يدخلون فربما يرون منهم ما لا يحبون ، فأمروا بالاستئذان ، وقد بسط الله الرزق واتخذ الناس الستور فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان وذهب قوم إلى أنها غير منسوخة ، روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قالت : سألت الشعبي عن هذه الآية : " ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " أمنسوخة هي ؟ قال : لا والله ، قلت : إن الناس لا يعملون بها ، قال : الله المستعان وقال سعيد بن جبير في هذه الآية : إن ناسا يقولون نسخت ، والله ما نسخت ، ولكنها مما تهاون به الناس .
( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم ( 59 ) )
قوله تعالى : ( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم ) أي : الاحتلام ، يريد الأحرار الذين بلغوا ، ) ( فليستأذنوا ) أي : يستأذنون في جميع الأوقات في الدخول عليكم ، ( كما استأذن الذين من قبلهم ) من الأحرار والكبار . [ ص: 62 ] وقيل : يعني الذين كانوا مع إبراهيم وموسى وعيسى . ( كذلك يبين الله لكم آياته ) دلالاته . وقيل : أحكامه ، ) ( والله عليم ) بأمور خلقه ، ) ( حكيم ) بما دبر لهم . قال سعيد بن المسيب : يستأذن الرجل على أمه ، فإنما أنزلت هذه الآية في ذلك . وسئل حذيفة : أيستأذن الرجل على والدته ؟ قال : نعم ، إن لم يفعل رأى منها ما يكره .
( والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم ( 60 ) ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ( 61 ) )
قوله تعالى : ( والقواعد من النساء ) يعني اللاتي قعدن عن الولد والحيض من الكبر ، لا يلدن ولا يحضن ، واحدتها " قاعد " بلا هاء . وقيل : قعدن عن الأزواج ، وهذا معنى قوله : ( اللاتي لا يرجون نكاحا ) أي : لا يردن الرجال لكبرهن ، قال ابن قتيبة : سميت المرأة قاعدا إذا كبرت ، لأنها تكثر القعود . وقال ربيعة الرأي : هن العجز ، اللائي إذا رآهن الرجال استقذروهن ، فأما من كانت فيها بقية من جمال ، وهي محل الشهوة ، فلا تدخل في هذه الآية ، ( فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن ) عند الرجال ، يعني : يضعن بعض ثيابهن ، وهي الجلباب والرداء الذي فوق الثياب ، والقناع الذي فوق الخمار ، فأما الخمار فلا يجوز وضعه ، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وأبي بن كعب : " أن يضعن من ثيابهن " ، ( غير متبرجات بزينة ) أي : من غير أن يردن بوضع الجلباب ، والرداء إظهار زينتهن ، والتبرج هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تتنزه عنه . ) ( وأن يستعففن ) فلا يلقين الجلباب والرداء ، ( خير لهن والله سميع عليم ) قوله تعالى : ( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ) الآية ، اختلف العلماء في هذه الآية ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما لما أنزل الله - عز وجل - قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( النساء - 29 ) ، تحرج المسلمون عن مؤاكلة [ ص: 63 ] المرضى والزمنى والعمي والعرج ، وقالوا الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله عن أكل المال بالباطل . والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض يضعف عن التناول فلا يستوفي الطعام ، فأنزل الله هذه الآية وعلى هذا التأويل يكون " على " بمعنى " في " أي : ليس في الأعمى ، يعني : ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض .
وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء ، لأن الناس يتقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم ، ويقول الأعمى : ربما أكل أكثر ، ويقول الأعرج : ربما أخذ مكان الاثنين ، فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد : نزلت الآية ترخيصا لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية ، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب الطعام فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بعض من سمى الله في هذه الآية ، فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام ويقولون ذهب بنا إلى بيت غيره ؟ فأنزل الله هذه الآية وقال سعيد بن المسيب : كان المسلمون إذا غزوا خلفوا زمناهم ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها [ ص: 64 ] وهم غيب ، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم قال الحسن : نزلت هذه الآية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد . قال : تم الكلام عند قوله : " ولا على المريض حرج " ، وقوله تعالى : ) ( ولا على أنفسكم ) كلام منقطع عما قبله
وقيل : لما نزل قوله : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( النساء - 29 ) ، قالوا : لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فأنزل الله - عز وجل - ( ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ) أي : لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم . قيل : أراد من أموال عيالكم وأزواجكم وبيت المرأة كبيت الزوج . وقال ابن قتيبة : أراد من بيوت أولادكم ، نسب بيوت الأولاد إلى الآباء كما جاء في الحديث : " أنت ومالك لأبيك " ، ( أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : عني بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته ، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ، ويشرب من لبن ماشيته ، ولا يحمل ولا يدخر . وقال الضحاك : يعني في بيوت عبيدكم ومماليككم ، وذلك أن السيد يملك منزل عبده ، والمفاتيح الخزائن ، لقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب ( الأنعام - 59 ) ويجوز أن يكون الذي يفتح به . قال عكرمة : إذا ملك الرجل [ ص: 65 ] المفتاح فهو خازن ، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير . وقال السدي : الرجل يولي طعامه غيره يقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه وقال قوم : " ما ملكتم مفاتحه " ما خزنتموه عندكم قال مجاهد وقتادة : من بيوت أنفسكم مما أحرزتم وملكتم .
) ( أو صديقكم ) الصديق الذي صدقك في المودة . قال ابن عباس : نزلت في الحارث بن عمرو رضي الله عنه ، خرج غازيا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلف مالك بن زيد على أهله ، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله ، فقال : تحرجت أن آكل طعامك بغير إذنك فأنزل الله هذه الآية . وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرم بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية . والمعنى : ( ليس عليكم جناح أن تأكلوا ) من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا ، من غير أن تتزودوا وتحملوا .
قوله : ( ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا ) نزلت في بني ليث بن عمرو ، وهم حي من بني كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فربما قعد الرجل والطعام ، بين يديه من الصباح إلى الرواح ، وربما كانت معه الإبل الحفل ، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل ، هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه ، فيقول : والله إني لأجنح ، أي : أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير ، فنزلت هذه الآية . وقال عكرمة وأبو صالح : نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم ، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاءوا ، جميعا أو أشتاتا متفرقين . [ ص: 66 ]
( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ) أي : يسلم بعضكم على بعض ، هذا في دخول الرجل بيت نفسه يسلم على أهله ومن في بيته ، وهو قول جابر وطاوس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار . وقال قتادة : إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهو أحق من سلمت عليه ، وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . حدثنا أن الملائكة ترد عليه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن لم يكن في البيت أحد فليقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، السلام على أهل البيت ورحمة الله . وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : ( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ) قال : إذا دخلت المسجد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ( تحية من عند الله ) نصب على المصدر ، أي : تحيون أنفسكم تحية ، ) ( مباركة طيبة ) وقال ابن عباس رضي الله عنهما : حسنة جميلة . وقيل : ذكر البركة والطيبة هاهنا لما فيه من الثواب والأجر ( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون )
( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور ( 62 ) )
قوله - عز وجل - : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه ) أي : مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ( على أمر جامع ) يجمعهم من حرب حضرت ، أو صلاة أو جمعة أو عيد أو جماعة [ ص: 67 ] أو تشاور في أمر نزل ، ) ( لم يذهبوا ) يتفرقوا عنه ، لم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر ، ) ( حتى يستأذنوه ) قال المفسرون : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد ، لحاجة أو عذر ، لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يراه ، فيعرف أنه إنما قام يستأذن ، فيأذن لمن شاء منهم . قال مجاهد : وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده .
قال أهل العلم : وكذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن ، وإذا استأذن فللإمام إن شاء أذن له وإن شاء لم يأذن ، وهذا إذا لم يكن له سبب يمنعه من المقام ، فإن حدث سبب يمنعه من المقام بأن يكون في المسجد فتحيض منهم امرأة ، أو يجنب رجل ، أو يعرض له مرض ، فلا يحتاج إلى الاستئذان . ( إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم ) أي : أمرهم ، ( فأذن لمن شئت منهم ) في الانصراف ، معناه إن شئت فأذن وإن شئت فلا تأذن ، ( واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم )
( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ( 63 ) )
( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يقول احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه ، فإن دعاءه موجب لنزول البلاء بكم ليس كدعاء غيره وقال مجاهد وقتادة : لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا : يا محمد ، يا عبد الله ، ولكن فخموه وشرفوه ، فقولوا : يا نبي الله ، يا رسول الله ، في لين وتواضع .
( قد يعلم الله الذين يتسللون ) أي : يخرجون ) ( منكم لواذا ) أي : يستر بعضهم بعضا ويروغ في خيفة ، فيذهب " واللواذ " مصدر لاوذ يلاوذ ، ملاوذة ، ولواذا . [ ص: 68 ]
قيل : كان هذا في حفر الخندق ، فكان المنافقون ينصرفون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختفين . قال ابن عباس رضي الله عنهما : " لواذا " أي : يلوذ بعضهم ببعض ، وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار . ومعنى قوله : ) ( قد يعلم الله ) للتهديد بالمجازاة . ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) أي : أمره و " عن " صلة . وقيل : معناه يعرضون عن أمره وينصرفون عنه بغير إذنه . ( أن تصيبهم فتنة ) أي لئلا تصيبهم فتنة ، قال مجاهد : بلاء في الدنيا ، ( أو يصيبهم عذاب أليم ) وجيع في الآخرة . وقيل : عذاب أليم عاجل في الدنيا . ثم عظم نفسه فقال :
( ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم ( 64 ) )
( ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض ) ملكا وعبيدا ، ( قد يعلم ما أنتم عليه ) من الإيمان والنفاق أي : يعلم ، و " قد " صلة ( ويوم يرجعون إليه ) يعني : يوم البعث ، ( فينبئهم بما عملوا ) من الخير والشر ، ( والله بكل شيء عليم ) أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا عبد الله بن محمد بن شيبة ، حدثنا محمد بن إبراهيم الكرابيسي ، حدثنا سليمان بن توبة ، حدثنا أبو داود الأنصاري ، أخبرنا محمد بن إبراهيم الشامي ، حدثنا شعيب بن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تنزلوا النساء الغرف ، ولا تعلموهن الكتابة ، وعلموهن الغزل ، وسورة النور " .
ابو وليد البحيرى
2022-06-14, 12:03 AM
الحلقة (308)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْفُرْقَانِ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية 20
سُورَةُ الْفُرْقَانِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ( 1 ) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ( 2 ) )
( تَبَارَكَ ) تَفَاعَلَ ، مِنَ الْبَرَكَةِ . عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : مَعْنَاهُ : جَاءَ بِكُلِّ بَرَكَةٍ ، دَلِيلُهُ قَوْلُ الْحَسَنِ : مَجِيءُ الْبَرَكَةِ مِنْ قِبَلِهِ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : تَعَظَّمَ ، ( الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ) أَيْ : الْقُرْآنَ ، ) ( عَلَى عَبْدِهِ ) مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . ( لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) أَيْ : لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ . قِيلَ : النَّذِيرُ هُوَ الْقُرْآنُ . وَقِيلَ : مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . ) ( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ ، ) ( فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) فَسَوَّاهُ وَهَيَّأَهُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ ، لَا خَلَلَ فِيهِ وَلَا تَفَاوُتَ ، وَقِيلَ : قَدَّرَ لِكُلِّ شَيْءٍ تَقْدِيرًا مِنَ الْأَجَلِ وَالرِّزْقِ ، فَجَرَتِ الْمَقَادِيرُ عَلَى مَا خَلَقَ . [ ص: 72 ]
( واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ( 3 ) وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا ( 4 ) وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ( 5 ) قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما ( 6 ) )
قوله - عز وجل - : ) ( واتخذوا ) يعني عبدة الأوثان ، ) ( من دونه آلهة ) يعني : الأصنام ، ) ( لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ) أي : دفع ضر ولا جلب نفع ، ( ولا يملكون موتا ولا حياة ) أي : إماتة وإحياء ، ( ولا نشورا ) أي : بعثا بعد الموت . ( وقال الذين كفروا ) يعني : المشركين ، يعني : النضر بن الحارث وأصحابه ، ) ( إن هذا ) ما هذا القرآن ، ( إلا إفك ) كذب ، ) ( افتراه ) اختلقه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ( وأعانه عليه قوم آخرون ) قال مجاهد : يعني اليهود . وقال الحسن : هو عبيد بن الخضر الحبشي الكاهن . وقيل : جبر ، ويسار ، وعداس بن عبيد ، كانوا بمكة من أهل الكتاب ، فزعم المشركون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يأخذ منهم ، قال الله تعالى : ) فقد جاءوا ) يعني قائلي هذه المقالة ، ( ظلما وزورا ) أي : بظلم وزور . فلما حذف الباء انتصب ، يعني جاؤوا شركا وكذبا بنسبتهم كلام الله تعالى إلى الإفك والافتراء . ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها ) يعني النضر بن الحارث كان يقول : إن هذا القرآن ليس من الله وإنما هو مما سطره الأولون مثل حديث رستم وإسفنديار " اكتتبها " : انتسخها محمد من جبر ، ويسار ، وعداس ، ومعنى " اكتتب " يعني طلب أن يكتب له ، لأنه كان لا يكتب ، ( فهي تملى عليه ) يعني تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها ، ( بكرة وأصيلا ) غدوة وعشيا . قال الله - عز وجل - ردا عليهم : ( قل أنزله ) يعني القرآن ، ( الذي يعلم السر ) يعني الغيب ، ( في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما )
[ ص: 73 ] ( وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ( 7 ) أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( 8 ) انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ( 9 ) تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا ( 10 ) )
( وقالوا مال هذا الرسول ) يعنون محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ) ( يأكل الطعام ) كما نأكل نحن ، ( ويمشي في الأسواق ) يلتمس المعاش كما نمشي ، فلا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة ، وكانوا يقولون له : لست أنت بملك ولا بملك ، لأنك تأكل والملك لا يأكل ، ولست بملك لأن الملك لا يتسوق ، وأنت تتسوق وتتبذل . وما قالوه فاسد; لأن أكله الطعام لكونه آدميا ، ومشيه في الأسواق لتواضعه ، وكان ذلك صفة له ، وشيء من ذلك لا ينافي النبوة . ( لولا أنزل إليه ملك ) فيصدقه ، ( فيكون معه نذيرا ) داعيا . ( أو يلقى إليه كنز ) أي : ينزل عليه كنز من السماء ينفقه ، فلا يحتاج إلى التردد والتصرف في طلب المعاش ، ( أو تكون له جنة ) بستان ، ) ( يأكل منها ) قرأ حمزة والكسائي : " نأكل " بالنون أي : نأكل نحن منها ، ( وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ) مخدوعا . وقيل : مصروفا عن الحق . ) ( انظر ) يا محمد ، ( كيف ضربوا لك الأمثال ) يعني الأشباه ، فقالوا : مسحور ، محتاج ، وغيره ، ) ( فضلوا ) عن الحق ، ( فلا يستطيعون سبيلا ) إلى الهدى ومخرجا عن الضلالة . ( تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك ) الذي قالوا ، أو أفضل من الكنز والبستان الذي ذكروا ، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : يعني خيرا من المشي في الأسواق والتماس المعاش . ثم بين ذلك الخير فقال : ( جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا ) بيوتا مشيدة ، والعرب تسمي كل بيت مشيد قصرا ، وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم برواية أبي بكر : " ويجعل " برفع اللام ، وقرأ الآخرون بجزمها على محل الجزاء في قوله : " إن شاء جعل لك " . [ ص: 74 ]
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن الحارث ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن يحيى بن أيوب ، حدثني عبد الله بن زخر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم بن أبي عبد الرحمن ، عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت : لا يا رب ، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما ، وقال ثلاثا أو نحو هذا ، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك " .
حدثنا أبو طاهر المطهر بن علي بن عبيد الله الفارسي ، أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الصالحاني ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ ، أخبرنا أبو يعلى ، حدثنا محمد بن بكار ، حدثنا أبو معشر عن سعيد يعني المقبري ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو شئت لسارت معي جبال الذهب ، جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة ، فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ، ويقول : إن شئت نبيا عبدا ، وإن شئت نبيا ملكا ، فنظرت إلى جبريل فأشار إلي أن ضع نفسك ، فقلت : نبيا عبدا " قال : فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك لا يأكل متكئا يقول : " آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد " .
( بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا ( 11 ) ( إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا ( 12 ) )
قوله - عز وجل - : ( بل كذبوا بالساعة ) بالقيامة ، ( وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا ) نارا مستعرة . ( إذا رأتهم من مكان بعيد ) قال الكلبي والسدي : من مسيرة عام . وقيل : من مسيرة مائة سنة . وقيل : خمسمائة سنة . وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا " . قالوا : وهل لها من عينين ؟ قال : نعم ألم تستمعوا قول الله تعالى : ( إذا رأتهم من مكان بعيد ) [ ص: 75 ] وقيل إذا رأتهم زبانيتها . ( سمعوا لها تغيظا ) غليانا ، كالغضبان إذا غلى صدره من الغضب . ) ( وزفيرا ) صوتا . فإن قيل : كيف يسمع التغيظ ؟ قيل : معناه رأوا وعلموا أن لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا ، كما قال الشاعر :
ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
أي وحاملا رمحا . وقيل : سمعوا لها تغيظا ، أي : صوت التغيظ من التلهب والتوقد ، قال عبيد بن عمير : تزفر جهنم يوم القيامة زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه .
( وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ( 13 ) لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ( 14 ) قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا ( 15 ) )
( وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا ) قال ابن عباس : تضيق عليهم كما يضيق الزج . في الرمح ، ) ( مقرنين ) مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال . وقيل : مقرنين مع الشياطين في السلاسل ، ( دعوا هنالك ثبورا ) قال ابن عباس : ويلا . وقال الضحاك : هلاكا ، وفي الحديث : " إن أول من يكسى حلة من النار إبليس ، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه ، وذريته من خلفه ، وهو يقول : يا ثبوراه ، وهم ينادون : يا ثبورهم ، حتى يقفوا على النار فينادون : يا ثبوراه ، وينادي : يا ثبورهم ، فيقال لهم ( لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ) قيل : أي هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة ، فادعوا أدعية كثيرة . قوله - عز وجل - : ) ( قل أذلك ) يعني الذي ذكرته من صفة النار وأهلها ، ( خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ) ثوابا ، ) ( ومصيرا ) مرجعا .
[ ص: 76 ] ( لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا ( 16 ) ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل ( 17 ) قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا ( 18 ) فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا ( 19 ) )
( لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا ) مطلوبا ، وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم في الدنيا حين قالوا : ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ( آل عمران - 194 ) ، يقول : كان أعطى الله المؤمنين جنة خلد وعدا ، وعدهم على طاعتهم إياه في الدنيا ومسألتهم إياه ذلك . قال محمد بن كعب القرظي : الطلب من الملائكة للمؤمنين وذلك قولهم : ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ( غافر - 8 ) . ) ( ويوم يحشرهم ) قرأ ابن كثير ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، وحفص : " يحشرهم " بالياء ، وقرأ الباقون بالنون ، ( وما يعبدون من دون الله ) قال مجاهد : من الملائكة والجن والإنس وعيسى وعزير . وقال عكرمة والضحاك والكلبي : يعني الأصنام ، ثم يخاطبهم ) ( فيقول ) قرأ ابن عامر بالنون والآخرون بالياء ، ( أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل ) أخطأوا الطريق . ) ( قالوا سبحانك ) نزهوا الله من أن يكون معه إله ، ( ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ) يعني : ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك ، بل أنت ولينا من دونهم . وقيل : ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك . وقرأ أبو جعفر " أن نتخذ " بضم النون وفتح الخاء ، فتكون " من " الثاني صلة . ( ولكن متعتهم وآباءهم ) في الدنيا بطول العمر والصحة والنعمة ، ) ( حتى نسوا الذكر ) تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن . وقيل : تركوا ذكرك وغفلوا عنه ، ( وكانوا قوما بورا ) يعني هلكى غلب عليهم الشقاء والخذلان ، رجل يقال له بائر ، وقوم بور ، وأصله من البوار وهو الكساد والفساد ، ومنه بوار السلعة وهو كسادها . وقيل هو اسم مصدر كالزور ، يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث . ( فقد كذبوكم ) هذا خطاب مع المشركين ، أي : كذبكم المعبودون ، ( بما تقولون ) إنهم آلهة ، ( فما تستطيعون ) قرأ حفص بالتاء يعني العابدين ، وقرأ الآخرون بالياء يعني : الآلهة . [ ص: 77 ] ( صرفا ) يعني : صرفا من العذاب عن أنفسهم ، ( ولا نصرا ) يعني : ولا نصر أنفسهم . وقيل : ولا نصركم أيها العابدون من عذاب الله بدفع العذاب عنكم . وقيل : " الصرف " : الحيلة ، ومنه قول العرب : إنه ليصرف ، أي : يحتال ، ) ( ومن يظلم ) يشرك ، ( منكم نذقه عذابا كبيرا )
( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا ( 20 ) )
قوله - عز وجل - : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين ) يا محمد ، ( إلا إنهم ليأكلون الطعام ) روى الضحاك عن ابن عباس قال : لما عير المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، أنزل الله - عز وجل - هذه الآية . يعني : ما أنا إلا رسول وما كنت بدعا من الرسل ، وهم كانوا بشرا يأكلون الطعام ، ( ويمشون في الأسواق ) وقيل : معناه وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل لهم مثل هذا أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كما قال في موضع آخر : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ( فصلت - 43 ) .
( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ) أي بلية ، فالغني فتنة للفقير ، يقول الفقير : ما لي لم أكن مثله ؟ والصحيح فتنة للمريض ، والشريف فتنة للوضيع . وقال ابن عباس : أي جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى . وقيل : نزلت في ابتلاء الشريف بالوضيع; وذلك أن الشريف إذا أراد أن يسلم فرأى الوضيع قد أسلم قبله أنف ، وقال : أسلم بعده فيكون له علي السابقة والفضل ؟ ! فيقيم على كفره ويمتنع من الإسلام ، فذلك افتتان بعضهم ببعض ، وهذا قول الكلبي وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، والوليد بن عقبة ، والعاص بن وائل ، والنضر بن الحارث; وذلك أنهم لما رأوا أبا ذر ، وابن مسعود ، وعمارا ، وبلالا وصهيبا ، وعامر بن فهيرة ، وذويهم ، قالوا : نسلم فنكون مثل هؤلاء ؟ . وقال : نزلت في ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش ، كانوا يقولون : انظروا إلى هؤلاء [ ص: 78 ] الذين اتبعوا محمدا من موالينا وأراذلنا ، فقال الله تعالى لهؤلاء المؤمنين : ( أتصبرون ) يعني على هذه الحالة من الفقر والشدة والأذى .
( وكان ربك بصيرا ) بمن صبر وبمن جزع . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، حدثنا زكريا بن يحيى المروزي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والجسم فلينظر إلى من دونه في المال والجسم " .
ابو وليد البحيرى
2022-06-14, 12:04 AM
الحلقة (309)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْفُرْقَانِ
مَكِّيَّةٌ
الاية21 إلى الاية 38
( وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا ( 21 ) يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا ( 22 ) )
قوله - عز وجل - : ( وقال الذين لا يرجون لقاءنا ) أي : لا يخافون البعث ، قال الفراء : " الرجاء " بمعنى الخوف ، لغة تهامة ، ومنه قوله تعالى : ما لكم لا ترجون لله وقارا ( نوح - 13 ) ، أي : لا تخافون لله عظمة . ( لولا أنزل علينا الملائكة ) فتخبرنا أن محمدا صادق ، ( أو نرى ربنا ) فيخبرنا بذلك . ( لقد استكبروا ) أي : تعظموا . ) ( في أنفسهم ) بهذه المقالة ، ( وعتوا عتوا كبيرا ) قال مجاهد : " عتوا " طغوا في القول و " العتو " : أشد الكفر وأفحش الظلم ، وعتوهم طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به . ( يوم يرون الملائكة ) عند الموت . وقيل : في القيامة . ( لا بشرى يومئذ للمجرمين ) للكافرين ، وذلك أن الملائكة يبشرون المؤمنين يوم القيامة ، ويقولون للكفار : لا بشرى لكم ، هكذا قال عطية ، وقال بعضهم : معناه أنه لا بشرى يوم القيامة للمجرمين ، أي : لا بشارة لهم بالجنة ، كما يبشر المؤمنون . ( ويقولون حجرا محجورا ) قال عطاء عن ابن عباس : تقول الملائكة حراما محرما أن يدخل الجنة ، إلا من قال لا إله إلا الله . وقال مقاتل : إذا خرج الكفار من قبورهم قالت لهم الملائكة حراما محرما عليكم أن يكون لكم البشرى . وقال بعضهم : هذا قول الكفار للملائكة . قال ابن جريج : كانت العرب إذا نزلت بهم شدة رأوا ما يكرهون ، قالوا حجرا محجورا ، فهم يقولونه إذا عاينوا الملائكة . [ ص: 79 ] قال مجاهد : يعني عوذا معاذا ، يستعيذون به من الملائكة .
( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ( 23 ) أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ( 24 ) )
( وقدمنا ) وعمدنا ، ( إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) أي : باطلا لا ثواب له ، فهم لم يعملوه لله - عز وجل - . واختلفوا في " الهباء " ، قال علي " هو ما يرى في الكوة إذا وقع ضوء الشمس فيها كالغبار ، ولا يمس بالأيدي ، ولا يرى في الظل ، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد ، و " المنثور " : المتفرق . وقال ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير : هو ما تسفيه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر . وقال مقاتل : هو ما يسطع من حوافر الدواب عند السير . وقيل : " الهباء المنثور " : ما يرى في الكوة ، و " الهباء المنبث " : هو ما تطيره الرياح من سنابك الخيل . قوله - عز وجل - : ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا ) أي : من هؤلاء المشركين المتكبرين ، ) ( وأحسن مقيلا ) موضع قائلة ، يعني : أهل الجنة لا يمر بهم يوم القيامة إلا قدر النهار من أوله إلى وقت القائلة حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة . قال ابن مسعود : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، وقرأ " ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم " هكذا كان يقرأ . وقال ابن عباس في هذه الآية : الحساب ذلك اليوم في أوله ، وقال القوم حين قالوا في منازلهم في الجنة . [ ص: 80 ] قال الأزهري : " القيلولة " و " المقيل " : الاستراحة نصف النهار ، وإن لم يكن مع ذلك نوم ، لأن الله تعالى قال : " وأحسن مقيلا " ، والجنة لا نوم فيها . ويروى أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس .
( ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا ( 25 ) الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا ( 26 ) ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ( 27 ) )
قوله - عز وجل - : ( ويوم تشقق السماء بالغمام ) أي : عن الغمام ، الباء وعن يتعاقبان ، كما يقال : رميت عن القوس وبالقوس ، وتشقق بمعنى تتشقق ، أدغموا إحدى التاءين ، وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة بتخفيف الشين هاهنا ، وفي سورة " ق " بحذف إحدى التاءين ، وقرأ الآخرون بالتشديد ، أي : تتشق بالغمام ، وهو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم . ( ونزل الملائكة تنزيلا ) قرأ ابن كثير : و " ننزل " بنونين خفيف ورفع اللام ، " الملائكة " نصب ، قال ابن عباس : تشقق السماء الدنيا فينزل أهلها ، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس ، ثم تشقق السماء الثانية فينزل أهلها ، وهم أكثر ممن في السماء الدنيا ، ومن الجن والإنس ، ثم كذلك حتى تشقق السماء السابعة وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها ، ثم ينزل الكروبيون ثم حملة العرش . ( الملك يومئذ الحق للرحمن ) أي : [ الملك ] الذي هو الملك الحق حقا ملك الرحمن يوم القيامة . قال ابن عباس : يريد أن يوم القيامة لا ملك يقضى غيره . ( وكان يوما على الكافرين عسيرا ) شديدا ، فهذا الخطاب يدل على أنه لا يكون على المؤمن عسيرا ، وجاء في الحديث : " أنه يهون يوم القيامة على المؤمنين حتى يكون عليهم أخف من صلاة مكتوبة صلوها في الدنيا " ( ويوم يعض الظالم على يديه ) أراد بالظالم عقبة بن أبي معيط ، وذلك أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا إليه أشراف قومه ، وكان يكثر مجالسة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقدم ذات [ ص: 81 ] يوم من سفر فصنع طعاما فدعا الناس ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما قرب الطعام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طعامه ، وكان عقبة صديقا لأبي بن خلف ، فلما أخبر أبي بن خلف قال له : يا عقبة صبأت قال : لا والله ما صبأت ، ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له ، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم ، فشهدت له فطعم ، فقال : ما أنا بالذي أرضى عنك أبدا إلا أن تأتيه فتبزق في وجهه ، ففعل ذلك عقبة ، فقال عليه السلام : " لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف " فقتل عقبة يوم بدر صبرا . وأما أبي بن خلف فقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد بيده
وقال الضحاك : لما بزق عقبة في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد بزاقه في وجهه فاحترق خداه ، وكان أثر ذلك فيه حتى الموت . وقال الشعبي كان عقبة بن أبي معيط خليل أمية بن خلف فأسلم عقبة ، فقال أمية : وجهي من وجهك حرام أن بايعت محمدا ، فكفر وارتد ، فأنزل الله - عز وجل - : " ويوم يعض الظالم " يعني : عقبة بن أبي معيط بن عبد شمس بن مناف " على يديه " ندما وأسفا على ما فرط في جنب الله ، وأوبق نفسه بالمعصية والكفر بالله بطاعة خليله الذي صده عن سبيل ربه . قال عطاء : يأكل يديه حتى تبلغ مرفقيه ثم تنبتان ، ثم يأكل هكذا ، كلما نبتت يده أكلها تحسرا على ما فعل . ( يقول ياليتني اتخذت ) في الدنيا ، ( مع الرسول سبيلا ) ليتني اتبعت محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، واتخذت معه سبيلا إلى الهدى . قرأ أبو عمرو : " يا ليتني اتخذت " بفتح الياء ، والآخرون بإسكانها .
( ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ( 28 ) لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا ( 29 ) )
( ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ) يعني : أبي بن خلف . ( لقد أضلني عن الذكر ) عن الإيمان والقرآن ، ) ( بعد إذ جاءني ) يعني : الذكر مع الرسول ، ) ( وكان الشيطان ) وهو كل متمرد عات من الإنس والجن ، وكل من صد عن سبيل الله فهو شيطان . ) ( للإنسان خذولا ) أي : تاركا يتركه ويتبرأ منه عند نزول البلاء والعذاب ، وحكم هذه الآية عام في حق كل متحابين اجتمعا على معصية الله . [ ص: 82 ] أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن العلاء ، أخبرنا أبو أسامة ، عن يزيد ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " مثل الجليس الصالح والسوء ، كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن حياة بن شريح ، أخبرني سالم بن غيلان أن الوليد بن قيس التجيبي أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري - قال سالم : أو عن أبي الهيثم عن أبي سعيد - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي " . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن كساب النيسابوري ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، حدثنا حميد بن عياش الرملي ، أخبرنا مؤمل بن إسماعيل ، حدثنا زهير بن محمد الخراساني ، حدثنا موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " .
( وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ( 30 ) )
( وقال الرسول ) يعني : ويقول الرسول في ذلك اليوم : ( يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) أي : متروكا فأعرضوا عنه ، ولم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه . وقيل : جعلوه بمنزلة الهجر وهو الهذيان ، والقوي السيء ، فزعموا أنه شعر وسحر ، وهو قول النخعي ومجاهد . [ ص: 83 ] وقيل : قال الرسول يعني : محمدا - صلى الله عليه وسلم - يشكوا قومه إلى الله يا رب : إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا فعزاه الله تعالى فقال : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين )
( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ( 31 ) وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ( 32 ) ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ( 33 ) الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ( 34 ) )
( وكذلك جعلنا ) يعني : كما جعلنا لك أعداء من مشركي قومك كذلك جعلنا ، ( لكل نبي عدوا من المجرمين ) يعني : المشركين . قال مقاتل : يقول لا يكبرن عليك ، فإن الأنبياء قبلك قد لقيت هذا من قومهم ، فاصبر لأمري كما صبروا ، فإني ناصرك وهاديك ، ( وكفى بربك هاديا ونصيرا وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ) كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود . قال الله تعالى : ) ( كذلك ) فعلت ، ( لنثبت به فؤادك ) أي : أنزلناه متفرقا ليقوى به قلبك فتعيه وتحفظه ، فإن الكتب أنزلت على الأنبياء يكتبون ويقرءون ، وأنزل الله القرآن على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ ، ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور ، ففرقناه ليكون أوعى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأيسر على العامل به . ( ورتلناه ترتيلا ) قال ابن عباس : بيناه بيانا ، والترتيل : التبيين في ترسل وتثبت . وقال السدي : فصلناه تفصيلا . وقال مجاهد : بعضه في إثر بعض . وقال النخعي والحسن وقتادة : فرقناه تفريقا ، آية بعد آية . ( ولا يأتونك ) يا محمد يعني : هؤلاء المشركين ، ) ( بمثل ) يضربونه في إبطال أمرك ( إلا جئناك بالحق ) يعني بما ترد به ما جاءوا به من المثل وتبطله ، فسمي ما يوردون من الشبه مثلا وسمي ما يدفع به الشبه حقا ، ) ( وأحسن تفسيرا ) أي : بيانا وتفصيلا و " التفسير " : تفعيل ، من الفسر ، وهو كشف ما قد غطي . ثم ذكر مآل هؤلاء المشركين فقال : ) ( الذين ) [ أي : هم الذين ] ( يحشرون على وجوههم ) فيساقون ويجرون ، ( إلى جهنم أولئك شر مكانا ) أي : مكانة ومنزلة ، ويقال : منزلا ومصيرا ، ) ( وأضل سبيلا ) أخطأ طريقا .
[ ص: 84 ] ( ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا ( 35 ) فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا ( 36 ) وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما ( 37 ) وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا ( 38 ) )
( ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا ) معينا وظهيرا . ( فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا ) يعني القبط ، ( فدمرناهم ) فيه إضمار ، أي : فكذبوهما فدمرناهم ، ( تدميرا ) أهلكناهم إهلاكا . ( وقوم نوح لما كذبوا الرسل ) أي : الرسول ، ومن كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل ، فلذلك ذكر بلفظ الجمع . ( أغرقناهم وجعلناهم للناس آية ) يعني : لمن بعدهم عبرة ، ( وأعتدنا للظالمين ) في الآخرة ، ) ( عذابا أليما ) سوى ما حل به من عاجل العذاب . ( وعادا وثمود ) أي : وأهلكنا عادا وثمود ، ) ( وأصحاب الرس ) اختلفوا فيهم ، قال وهب بن منبه : كانوا أهل بئر قعودا عليها ، وأصحاب مواشي ، يعبدون الأصنام ، فوجه الله إليهم شعيبا يدعوهم إلى الإسلام ، فتمادوا في طغيانهم ، وفي أذى شعيب عليه السلام ، فبينما هم حول البئر في منازلهم انهارت البئر ، فخسف بهم وبديارهم ورباعهم ، فهلكوا جميعا . و " الرس " : البئر ، وكل ركية لم تطو بالحجارة والآجر فهو رس . وقال قتادة والكلبي : " الرس " بئر بفلج اليمامة ، قتلوا نبيهم فأهلكهم الله - عز وجل - . وقال بعضهم : هم بقية ثمود قوم صالح ، وهم أصحاب البئر التي ذكر الله تعالى في قوله : " وبئر معطلة وقصر مشيد " ( الحج - 45 ) . وقال سعيد بن جبير : كان لهم نبي يقال له حنظلة بن صفوان فقتلوه فأهلكهم الله تعالى . وقال كعب ومقاتل والسدي : " الرس " : بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار ، وهم الذين ذكرهم الله في سورة يس . وقيل : هم أصحاب الأخدود ، [ والرس هو الأخدود ] الذي حفروه . وقال عكرمة : هم قوم رسوا نبيهم في بئر . وقيل : الرس المعدن ، وجمعه رساس . [ ص: 85 ] ( وقرونا بين ذلك كثيرا ) أي : وأهلكنا قرونا كثيرا بين عاد وأصحاب الرس .
ابو وليد البحيرى
2022-06-14, 12:04 AM
الحلقة (310)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْفُرْقَانِ
مَكِّيَّةٌ
الاية39 إلى الاية 62
( وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا ( 39 ) ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا ( 40 ) وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ( 41 ) إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ( 42 ) أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ( 43 ) )
( وكلا ضربنا له الأمثال ) أي : الأشباه في إقامة الحجة عليهم ، فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار ) ( وكلا تبرنا تتبيرا ) أي : أهلكنا إهلاكا . وقال الأخفش : كسرنا تكسيرا . قال الزجاج : كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته . ( ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء ) يعني الحجارة ، وهي قريات قوم لوط ، وكانت خمس قرى ، فأهلك الله أربعا منها ، ونجت واحدة ، وهي أصغرها ، وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث ، ( أفلم يكونوا يرونها ) إذ مروا بهم في أسفارهم فيعتبروا ويتذكروا ، لأن مدائن قوم لوط كانت على طريقهم عند ممرهم إلى الشام ، ( بل كانوا لا يرجون ) لا يخافون ، ) ( نشورا ) بعثا . قوله - عز وجل - : ( وإذا رأوك إن يتخذونك ) يعني : ما يتخذونك ، ) ( إلا هزوا ) أي : مهزوءا به ، نزلت في أبي جهل ، كان إذ مر بأصحابه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال مستهزئا : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ) ؟ ! ) ( إن كاد ليضلنا ) أي : قد قارب أن يضلنا ، ( عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ) أي : لو لم نصبر عليها لصرفنا عنها ، ( وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ) من أخطأ طريقا . ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه ) وذلك أن الرجل من المشركين كان يعبد الحجر فإذا رأى حجرا أحسن منه طرح الأول وأخذ الآخر فعبده . وقال ابن عباس : أرأيت من ترك عبادة الله وخالقه ثم هوي حجرا فعبده ما حاله عندي ؟ ( أفأنت تكون عليه وكيلا ) أي : حافظا ، يقول : أفأنت [ ص: 86 ] عليه كفيل تحفظه من اتباع هواه وعبادة من يهوى من دون الله ؟ أي : لست كذلك . قال الكلبي : نسختها آية القتال .
( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ( 44 ) ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ( 45 ) ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا ( 46 ) وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا ( 47 ) )
( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون ) ما تقول سماع طالب الإفهام ، ) ( أو يعقلون ) ما يعاينون من الحجج والإعلام ، ) ( إن هم ) ما هم ، ( إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها وتنقاد لأربابها الذين يتعهدونها ، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ، ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم ورزقهم ، ولأن الأنعام تسجد وتسبح لله وهؤلاء الكفار لا يفعلون . قوله - عز وجل - : ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ) معناه ألم تر إلى مد ربك الظل ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، جعله ممدودا لأنه ظل لا شمس معه ، كما قال : " في ظل الجنة " ، " وظل ممدود " ( الواقعة - 30 ) إذ لم يكن معه شمس . ( ولو شاء لجعله ساكنا ) دائما ثابتا لا يزول ولا تذهبه الشمس . قال أبو عبيدة : " الظل " : ما نسخته الشمس ، وهو بالغداة ، و " الفيء " : ما نسخ الشمس ، وهو بعد الزوال ، سمي فيئا لأنه فاء من جانب المشرق إلى جانب المغرب ، ( ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ) أي : على الظل . ومعنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرف الظل ، ولولا النور لما عرفت الظلمة ، والأشياء تعرف بأضدادها . ( ثم قبضناه ) يعني الظل ، ( إلينا قبضا يسيرا ) بالشمس التي تأتي عليه ، و " القبض " : جمع المنبسط من الشيء ، معناه : أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس ، فإذا طلعت الشمس قبض الله الظل جزءا فجزءا " قبضا يسيرا " ، أي : خفيا . ( وهو الذي جعل لكم الليل لباسا ) أي : سترا تستترون به ، يريد أن ظلمته تغشى كل شيء ، كاللباس الذي يشتمل على لابسه ، ) ( والنوم سباتا ) راحة لأبدانكم وقطعا لعملكم ، وأصل " السبت " : القطع ، والنائم مسبوت لأنه انقطع عمله وحركته . ( وجعل النهار نشورا ) أي : يقظة وزمانا ، تنتشرون فيه لابتغاء الرزق ، وتنتشرون لأشغالكم .
[ ص: 87 ] ( وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا ( 48 ) )
( وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ) يعني المطر ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) وهو الطاهر في نفسه المطهر لغيره ، فهو اسم لما يتطهر به ، كالسحور اسم لما يتسحر به ، والفطور اسم لما يفطر به ، والدليل عليه ما روينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في البحر : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وأراد به المطهر ، فالماء مطهر لأنه يطهر الإنسان من الحدث والنجاسة ، كما قال في آية أخرى : وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ( الأنفال - 11 ) ، فثبت به أن التطهير يختص بالماء .
وذهب أصحاب الرأي إلى أن " الطهور " هو الطاهر ، حتى جوزوا إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة ، مثل الخل وماء الورد والمرق ونحوها . ولو جاز إزالة النجاسة بها لجاز إزالة الحدث بها . وذهب بعضهم إلى أن " الطهور " ما يتكرر منه التطهير ، كالصبور اسم لمن يتكرر منه الصبر ، والشكور اسم لمن يتكرر منه الشكر ، وهو قول مالك ، حتى جوز الوضوء بالماء الذي توضأ منه مرة . وإن وقع في الماء شيء غير طعمه أو لونه أو ريحه هل تزول طهوريته ؟ نظر : إن كان الواقع شيئا لا يمكن صون الماء عنه ، كالطين والتراب وأوراق الأشجار ، لا تزول ، فيجوز الطهارة به كما لو تغير لطول المكث في قراره ، وكذلك لو وقع فيه ما لا يخالطه ، كالدهن يصب فيه فيتروح الماء [ ص: 88 ] برائحته يجوز الطهارة به ، لأن تغيره للمجاورة لا للمخالطة . وإن كان شيئا يمكن صون الماء منه ويخالطه كالخل والزعفران ونحوهما تزول [ طهوريته فلا يجوز الوضوء به . وإن لم يتغير أحد أوصافه ، ينظر : إن كان الواقع فيه شيئا طاهرا لا تزول ] طهوريته ، فتجوز الطهارة به ، سواء كان الماء قليلا أو كثيرا ، وإن كان الواقع فيه شيئا نجسا ، ينظر : فإن كان الماء قليلا أقل من القلتين ينجس الماء ، وإن كان قدر قلتين فأكثر فهو طاهر يجوز الوضوء به . والقلتان خمس قرب ، ووزنه خمسمائة رطل ، والدليل عليه ما : أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي ، حدثنا عبد الرحيم بن المنيب ، أخبرنا جرير عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الماء يكون في الفلاة وما يرده من الدواب والسباع ؟ فقال : " إذا كان الماء قلتين ليس يحمل الخبث " وهذا قول الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وجماعة من أهل الحديث : أن الماء إذا بلغ هذا الحد لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير أحد أوصافه .
وذهب جماعة إلى أن الماء القليل لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه ، وهو قول الحسن وعطاء والنخعي والزهري . واحتجوا بما : أخبرنا أبو القاسم بن عبد الله بن محمد الحنفي ، أخبرنا أبو الحارث طاهر بن محمد الطاهري ، حدثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حكيم ، حدثنا أبو الموجه محمد بن عمرو بن الموجه ، حدثنا صدقة بن الفضل أخبرنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج ، عن أبي سعيد الخدري قال : قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ وهي بئر يلقى فيه الحيض ولحوم الكلاب والنتن ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الماء طهور لا ينجسه شيء " .
[ ص: 89 ] ( لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ( 49 ) ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ( 50 ) )
قوله - عز وجل - : ) ( لنحيي به ) أي : بالمطر ، ( بلدة ميتا ) ولم يقل : " ميتة " لأنه رجع به إلى الموضع والمكان ، ( ونسقيه مما خلقنا أنعاما ) أي : نسقي من ذلك الماء أنعاما ، ( وأناسي كثيرا ) أي : بشرا كثيرا ، والأناسي : [ جمع أنسي ، وقيل ] جمع إنسان ، وأصله : " أناسين " مثل : بستان وبساتين ، فجعل الياء عوضا عن النون . ( ولقد صرفناه بينهم ) يعني : المطر ، مرة ببلدة ومرة ببلد آخر . قال ابن عباس : ما من عام بأمطر من عام ولكن الله يصرفه في الأرض ، وقرأ هذه الآية . وهذا كما روي مرفوعا : " ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا السماء تمطر فيها يصرفه الله حيث يشاء " .
وذكر ابن إسحاق وابن جريج ومقاتل وبلغوا به ابن مسعود يرفعه قال : " ليس من سنة بأمطر من أخرى ، ولكن الله قسم هذه الأرزاق ، فجعلها في السماء الدنيا ، في هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم ، وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم ، فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار " . وقيل : المراد من تصريف المطر تصريفه وابلا وطلا ورذاذا ونحوها . وقيل : التصريف راجع إلى الريح .
) ( ليذكروا ) أي : ليتذكروا ويتفكروا في قدرة الله تعالى ، ( فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) جحودا ، وكفرانهم هو أنهم إذا مطروا قالوا مطرنا بنوء كذا . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك بن أنس ، عن صالح بن كيسان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن زيد بن خالد الجهني أنه قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء [ ص: 90 ] كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي ، وكافر بالكواكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب "
( ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا ( 51 ) فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ( 52 ) وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا ( 53 ) وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ( 54 ) )
قوله - عز وجل - : ( ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا ) رسولا ينذرهم ، ولكن بعثناك إلى القرى كلها ، وحملناك ثقل النذارة جميعها ، لتستوجب بصبرك عليه ما أعددنا لك من الكرامة والدرجة الرفيعة . ( فلا تطع الكافرين ) فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم . ( وجاهدهم به ) أي : بالقرآن ، ( جهادا كبيرا ) شديدا . ( وهو الذي مرج البحرين ) خلطهما وأفاض أحدهما في الآخر ، وقيل : أرسلهما في مجاريهما وخلاهما كما يرسل الخيل في المرج ، وأصل " المرج " : الخلط والإرسال ، يقال : مرجت الدابة وأمرجتها إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث تشاء ، ( هذا عذب فرات ) شديد العذوبة ، و " الفرات " : أعذب المياه ، ( وهذا ملح أجاج ) شديد الملوحة . وقيل : أجاج أي : مر ( وجعل بينهما برزخا ) أي : حاجزا بقدرته لئلا يختلط العذب بالملح ولا الملح بالعذب ، ) ( وحجرا محجورا ) أي : سترا ممنوعا فلا يبغيان ، ولا يفسد الملح العذب . ( وهو الذي خلق من الماء ) من النطفة ، ( بشرا فجعله نسبا وصهرا ) أي : جعله ذا نسب وصهر ، قيل : " النسب " ما لا يحل نكاحه ، و " الصهر " : ما يحل نكاحه ، فالنسب ما يوجب الحرمة ، والصهر ما لا يوجبها ، وقيل : - وهو الصحيح - : النسب : من القرابة ، والصهر : الخلطة التي تشبه القرابة ، وهو السبب المحرم للنكاح ، وقد ذكرنا أن الله تعالى حرم بالنسب سبعا وبالسبب سبعا ، في قوله " حرمت عليكم أمهاتكم " ( النساء - 23 ) ، ( وكان ربك قديرا )
[ ص: 91 ] ( ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا ( 55 ) ( وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ( 56 ) قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ( 57 ) وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا ( 58 ) الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا ( 59 ) )
( ويعبدون من دون الله ) يعني : هؤلاء المشركين ، ) ( ما لا ينفعهم ) إن عبدوه ، ) ( ولا يضرهم ) إن تركوه ، ( وكان الكافر على ربه ظهيرا ) أي : معينا للشيطان على ربه بالمعاصي . قال الزجاج : أي : يعاون الشيطان على معصية الله لأن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان . وقيل : معناه وكان الكافر على ربه ظهيرا ، أي : هينا ذليلا كما يقال الرجل : جعلني بظهير ، أي : جعلني هينا . ويقال : ظهرت به ، إذا جعله خلف ظهره فلم يلتفت إليه . ( وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ) أي : منذرا . ( قل ما أسألكم عليه ) على تبليغ الوحي ، ) ( من أجر ) فتقولوا إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه فلا نتبعه ، ( إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ) هذا من الاستثناء المنقطع ، مجازه : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بالإنفاق من ماله في سبيله فعل ذلك ، والمعنى : لا أسألكم لنفسي أجرا ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله واتخاذ السبيل إلى جنته . ( وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده ) أي : صل له شكرا على نعمه . وقيل : قل : سبحان الله ، والحمد لله . ( وكفى به بذنوب عباده خبيرا ) عالما فيجازيهم بها . ( الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا ) بالرحمن . قال الكلبي : يقول فاسأل الخبير [ بذلك ، يعني : بما ذكر من خلق السماوات والأرض والاستواء على العرش . وقيل : ] الخطاب للرسول والمراد منه غيره لأنه كان مصدقا به ، والمعنى : أيها الإنسان لا ترجع في طلب العلم بهذا إلى غيري . وقيل : الباء بمعنى " عن " ، أي : فاسأل عنه خبيرا وهو الله - عز وجل - . وقيل : جبريل عليه السلام .
( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا ( 60 ) تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ( 61 ) وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ( 62 ) )
[ ص: 92 ] ( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن ) ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب ، كانوا يسمونه رحمن اليمامة . ) ( أنسجد لما تأمرنا ) قرأ حمزة والكسائي " يأمرنا " بالياء ، أي : لما يأمرنا محمد بالسجود له ، وقرأ الآخرون بالتاء ، أي : لما تأمرنا أنت يا محمد ، ) ( وزادهم ) يعني : زادهم قول القائل لهم : " اسجدوا للرحمن " ( نفورا ) عن الدين والإيمان . قوله - عز وجل - ( تبارك الذي جعل في السماء بروجا ) قال الحسن ومجاهد وقتادة : " البروج " : هي النجوم الكبار ، سميت بروجا لظهورها ، وقال عطية العوفي : " بروجا " أي : قصورا فيها الحرس كما قال : " ولو كنتم في بروج مشيدة " ( النساء - 78 ) . وقال عطاء عن ابن عباس : هي البروج الاثنا عشر التي هي منازل الكواكب السبعة السيارة ، وهي الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، فالحمل والعقرب بيتا المريخ ، والثور والميزان بيتا الزهرة ، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد ، والسرطان بيت القمر ، والأسد بيت الشمس ، والقوس والحوت بيتا المشترى ، والجدي والدلو بيتا زحل ، وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع فيكون نصيب كل واحد منها ثلاثة بروج تسمى المثلثات ، فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية .
) ( وجعل فيها سراجا ) يعني الشمس ، كما قال : " وجعل الشمس سراجا " ( نوح - 16 ) ، وقرأ حمزة والكسائي : " سرجا " بالجمع ، يعني النجوم . ) ( وقمرا منيرا ) والقمر قد دخل في " السرج " على قراءة من قرأ بالجمع ، غير أنه خصه بالذكر لنوع فضيلة ، كما قال : " فيهما فاكهة ونخل ورمان " ( الرحمن - 68 ) ، خص النخل والرمان بالذكر مع دخولهما في الفاكهة . ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة ) اختلفوا فيها ، قال ابن عباس والحسن وقتادة : يعني خلفا وعوضا ، يقوم أحدهما مقام صاحبه ، فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر . [ ص: 93 ] قال شقيق : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب ، قال فاتتني الصلاة الليلة ، فقال : أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك ، فإن الله - عز وجل - جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر . [ قال مجاهد : يعني جعل كل واحد منهما مخالفا لصاحبه فجعل هذا أسود وهذا أبيض . وقال ابن زيد وغيره ] يعني يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر فهما يتعاقبان في الضياء والظلمة والزيادة والنقصان . ) ( لمن أراد أن يذكر ) قرأ حمزة بتخفيف الذال والكاف وضمها من الذكر ، وقرأ الآخرون بتشديدهما أي : يتذكر ويتعظ ) ( أو أراد شكورا ) قالمجاهد : أي : شكر نعمة ربه عليه فيهما .
ابو وليد البحيرى
2022-06-29, 10:36 PM
الحلقة (311)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْفُرْقَانِ
مَكِّيَّةٌ
الاية63 إلى الاية 74
( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ( 63 ) )
قوله - عز وجل - : ) ( وعباد الرحمن ) أي : أفاضل العباد . وقيل : هذه الإضافة للتخصيص والتفضيل ، وإلا فالخلق كلهم عباد الله . ( الذين يمشون على الأرض هونا ) أي : بالسكينة والوقار متواضعين غير أشرين ولا مرحين ، ولا متكبرين . وقال الحسن : علماء وحكماء . وقال محمد بن الحنفية : أصحاب وقار وعفة لا يسفهون ، وإن سفه عليهم حلموا ، و " الهون " في اللغة : الرفق واللين . ( وإذا خاطبهم الجاهلون ) يعني السفهاء بما يكرهون ، ) ( قالوا سلاما ) قال مجاهد : سدادا من القول . وقال مقاتل بن حيان : قولا يسلمون فيه من الإثم . وقال الحسن : إن جهل عليهم جاهل حلموا ولم يجهلوا ، وليس المراد منه السلام المعروف . وروي عن الحسن : معناه سلموا عليهم ، دليله قوله - عز وجل - : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم ( القصص - 55 ) . قال الكلبي وأبو العالية : هذا قبل أن يؤمر بالقتال ، ثم نسختها آية القتال . وروي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال : هذا وصف نهارهم ، ثم قرأ ( والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ) قال : هذا وصف ليلهم .
[ ص: 94 ] ( والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ( 64 ) والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ( 65 ) إنها ساءت مستقرا ومقاما ( 66 ) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ( 67 ) )
قوله تعالى : ( والذين يبيتون لربهم ) يقال لمن أدرك الليل : بات ، نام أو لم ينم ، يقال : بات فلان قلقا ، والمعنى : يبيتون لربهم بالليل في الصلاة ، ) ( سجدا ) على وجوههم ، ) ( وقياما ) على أقدامهم . قال ابن عباس : من صلى بعد العشاء الآخرة ركعتين أو أكثر فقد بات لله ساجدا وقائما . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا أبو نعيم عن سفيان ، عن عثمان بن حكيم ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن عثمان بن عفان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله " قوله - عز وجل - : ( والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ) أي : ملحا دائما ، لازما غير مفارق من عذب به من الكفار ، ومنه سمي الغريم لطلبه حقه وإلحاحه على صاحبه وملازمته إياه . قال محمد بن كعب القرظي : سأل الله الكفار ثمن نعمه فلم يؤدوا فأغرمهم فيه ، فبقوا في النار . قال الحسن : كل غريم يفارق غريمه إلا جهنم . و " الغرام " : الشر اللازم ، وقيل : " غراما " هلاكا . ( إنها ساءت مستقرا ومقاما ) أي : بئس موضع قرار وإقامة . ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة " يقتروا " بفتح الياء وكسر التاء ، وقرأ أهل المدينة وابن عامر بضم الياء وكسر التاء ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم التاء ، وكلها لغات صحيحة . يقال : أقتر وقتر بالتشديد ، وقتر يقتر . واختلفوا في معنى الإسراف والإقتار ، فقال بعضهم : " الإسراف " : النفقة في معصية الله وإن قلت ، و " الإقتار " : منع حق الله تعالى . وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج . وقال الحسن في هذه الآية لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عن فرائض الله . [ ص: 95 ] وقال قوم : " الإسراف " : مجاوزة الحد في الإنفاق ، حتى يدخل في حد التبذير ، و " الإقتار " : التقصير عما لا بد منه ، وهذا معنى قول إبراهيم : لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف . ) ( وكان بين ذلك قواما ) قصدا وسطا بين الإسراف والإقتار ، حسنة بين السيئتين . قال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية : أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثوبا للجمال ، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم ، ومن الثياب ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحر والقر . قال عمر بن الخطاب : كفى سرفا أن لا يشتهي الرجل شيئا إلا اشتراه فأكله
( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ( 68 ) )
قوله - عز وجل - : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) الآية . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف بن جريج أخبرهم قال : قال يعلى وهو يعلى بن مسلم ، أن سعيد بن جبير ، أخبره عن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فأتوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة ، فنزلت : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ( ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ) ونزل : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ( الزمر - 53 ) . [ ص: 96 ]
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا جرير عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عمرو بن شرحبيل قال : قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال : " أن تدعو لله ندا وهو خلقك " قال " ثم أي ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " ، قال : ثم أي ؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " ، فأنزل الله تصديقها : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما قوله - عز وجل - : ( ومن يفعل ذلك ) أي : شيئا من هذه الأفعال ) ( يلق أثاما ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنما يريد جزاء الإثم . وقال أبو عبيدة : " الآثام " : العقوبة . وقال مجاهد : " الآثام " : واد في جهنم ، يروى ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص ويروى في الحديث : " الغي والآثام بئران يسيل فيهما صديد أهل النار " .
( يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ( 69 ) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ( 70 ) )
( يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ) قرأ ابن عامر وأبو بكر " يضاعف " و " يخلد " برفع الفاء والدال على الابتداء ، وشدد ابن عامر : " يضعف " ، وقرأ الآخرون بجزم الفاء والدال على جواب الشرط . ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ) قال قتادة : إلا من تاب من ذنبه ، وآمن بربه ، وعمل عملا صالحا فيما بينه وبين ربه . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله ، حدثنا موسى بن محمد ، حدثنا موسى بن هارون الحمال ، حدثنا إبراهيم بن محمد الشافعي ، حدثنا عبد الله بن رجاء عن عبيد الله بن عمر ، عن علي بن يزيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : قرأناها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنتين : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) الآية ، ثم نزلت : ) ( إلا من تاب ) فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فرح بشيء قط كفرحه بها وفرحه ب : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ( الفتح 1 - 2 ) [ ص: 97 ]
) ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ) فذهب جماعة إلى أن هذا التبديل في الدنيا; قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، والسدي ، والضحاك : يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام ، فيبدلهم بالشرك إيمانا ، وبقتل المؤمنين قتل المشركين ، وبالزنا عفة وإحصانا . وقال قوم : يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في الإسلام حسنات يوم القيامة وهو قول سعيد بن المسيب ، ومكحول ، يدل عليه ما : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم علي بن أبي أحمد الخزاعي ، أخبرنا الهيثم بن كليب ، أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا أبو عمار الحسين بن خريت ، حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إني لأعلم آخر رجل يخرج من النار ، يؤتى به يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، ويخبأ عنه كبارها ، فيقال له عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ، وهو مقر لا ينكر ، وهو مشفق من كبارها ، فيقال : أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة ، فيقول : رب إن لي ذنوبا ما أراها هاهنا ، قال أبو ذر : لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه . وقال بعضهم : إن الله - عز وجل - يمحو بالندم جميع السيئات ، ثم يثبت مكان كل سيئة حسنة .
( ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ( 71 ) )
قوله - عز وجل - : ( ومن تاب وعمل صالحا ) قال بعض أهل العلم : هذا في التوبة عن غير ما سبق ذكره في الآية الأولى من القتل والزنا ، يعني : من تاب من الشرك وعمل صالحا ، أي : أدى الفرائض ممن لم يقتل ولم يزن ، ) ( فإنه يتوب إلى الله ) أي : يعود إليه بعد الموت ، ) ( متابا ) حسنا يفضل به على غيره ممن قتل وزنى ، فالتوبة الأولى وهو قوله : " ومن تاب " رجوع عن الشرك ، والثاني رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة . [ ص: 98 ] وقال بعضهم : هذه الآية أيضا في التوبة عن جميع السيئات . ومعناه : ومن أراد التوبة وعزم عليها فليتب لوجه الله . وقوله : ( يتوب إلى الله ) خبر بمعنى الأمر ، أي : ليتب إلى الله . وقيل : معناه فليعلم أن توبته ومصيره إلى الله .
( والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما ( 72 ) )
( والذين لا يشهدون الزور ) قال الضحاك وأكثر المفسرين : يعني الشرك . وقال علي بن طلحة : يعني شهادة الزور . وكان عمر بن الخطاب : يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ، ويسخم وجهه ، ويطوف به في السوق . وقال ابن جريج : يعني الكذب وقال مجاهد : يعني أعياد المشركين . وقيل : النوح قال قتادة : لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم . وقال محمد بن الحنفية : لا يشهدون اللهو والغناء . قال ابن مسعود : " الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع " . وأصل " الزور " تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته ، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق [ ص: 99 ]
( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) قال مقاتل : إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا ، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد ، نظيره قوله : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه ( القصص - 55 ) ، قال السدي : وهي منسوخة بآية القتال قال الحسن والكلبي : " اللغو " : المعاصي كلها ، يعني إذا مروا بمجلس اللهو والباطل مروا كراما مسرعين معرضين . يقال : تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه .
( والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ( 73 ) والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ( 74 ) )
( والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا ) لم يقعوا ولم يسقطوا ، ( عليها صما وعميانا ) كأنهم صم عمي ، بل يسمعون ما يذكرون به فيفهمونه ويرون الحق فيه فيتبعونه . قال القتيبي لم يتغافلوا عنها ، كأنهم صم لم يسمعوها وعمي لم يروها . ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا ) قرأ بغير ألف : أبو عمرو ، والكسائي ، وأبو بكر . وقرأ الباقون بالألف على الجمع ، ) ( قرة أعين ) أي : أولادا أبرارا أتقياء ، يقولون اجعلهم صالحين فتقر أعيننا بذلك . قال القرظي : ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله - عز وجل - . وقاله الحسن ، ووحد القرة لأنها مصدر ، وأصلها من البرد ، لأن العرب تتأذى من الحر وتستروح إلى البرد ، وتذكر قرة العين عند السرور ، وسخنة العين عند الحزن ، ويقال : دمع العين عند السرور بارد ، وعند الحزن حار . وقال الأزهري : معنى قرة الأعين : أن يصادف قلبه من يرضاه ، فتقر عينه به عن النظر إلى غيره . ( واجعلنا للمتقين إماما ) أي : أئمة يقتدون في الخير بنا ، ولم يقل : أئمة ، كقوله تعالى : " إنا رسول رب العالمين " ( الشعراء - 16 ) ، وقيل : أراد أئمة كقوله : " فإنهم عدو لي " ( الشعراء - 77 ) ، أي : أعداء ، ويقال : أميرنا هؤلاء ، أي : أمراؤنا . وقيل : لأنه مصدر كالصيام والقيام ، يقال : أم إماما ، كما يقال : قام قياما ، وصام صياما . قال الحسن : نقتدي بالمتقين ويقتدي بنا المتقون . وقال ابن عباس : اجعلنا أئمة هداة ، كما قال : وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ( السجدة - 24 ) ، ولا تجعلنا أئمة ضلالة كما قال : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ( القصص - 41 ) ، وقيل : هذا من المقلوب ، يعني : واجعل المتقين لنا إماما ، واجعلنا مؤتمين مقتدين بهم ، وهو قول مجاهد .
ابو وليد البحيرى
2022-06-29, 10:43 PM
الحلقة (312)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ
الاية1 إلى الاية 30
( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما ( 75 ) خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ( 76 ) قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ( 77 ) )
( أولئك يجزون ) أي : يثابون ، ) ( الغرفة ) أي : الدرجة الرفيعة في الجنة ، و " الغرفة " : كل بناء مرتفع عال . وقال عطاء : يريد غرف الدر والزبرجد والياقوت في الجنة ، ) ( بما صبروا ) على أمر الله تعالى وطاعته . وقيل : على أذى المشركين . وقيل : عن الشهوات ) ( ويلقون فيها ) قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : بفتح الياء وتخفيف القاف ، كما قال : " فسوف يلقون غيا " ( مريم - 59 ) ، وقرأ الآخرون بضم الياء وتشديد القاف كما قال : " ولقاهم نضرة وسرورا " ( الإنسان - 11 ) ، وقوله : ( تحية ) أي ملكا ، وقيل : بقاء دائما ) ( وسلاما ) أي : يسلم بعضهم على بعض . وقال الكلبي : يحيي بعضهم بعضا بالسلام ، ويرسل الرب إليهم بالسلام . وقيل : " سلاما " أي : سلامة من الآفات . ( خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ) أي : موضع قرار وإقامة . ( قل ما يعبأ بكم ربي ) قال مجاهد وابن زيد : أي : ما يصنع وما يفعل بكم . قال أبو عبيدة يقال : ما عبأت به شيئا أي : لم أعده ، فوجوده وعدمه سواء ، مجازه : أي وزن وأي مقدار لكم عنده ، ) ( لولا دعاؤكم ) إياه ، وقيل : لولا إيمانكم ، وقيل : لولا عبادتكم ، وقيل : لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام ، فإذا آمنتم ظهر لكم قدر . وقال قوم : معناها : قل ما يعبأ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاعتكم إياه يعني إنه خلقكم لعبادته ، كما قال : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( الذاريات - 56 ) وهذا قول ابن عباس ومجاهد . وقال قوم : " قل ما يعبأ " ما يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة ، أو ما يفعل بعذابكم لولا شرككم ، كما قال الله تعالى : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ( النساء - 147 ) . وقيل : ما يعبأ بعذابكم لولا دعاؤكم إياه في الشدائد ، كما قال : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله ( العنكبوت - 65 ) ، وقال : فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ( الأنعام - 42 ) . وقيل : " قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم " يقول : ما خلقتكم ولي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم .
) ( فقد كذبتم ) أيها الكافرون ، يخاطب أهل مكة ، يعني : إن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوه . ( فسوف يكون لزاما ) هذا تهديده لهم ، أي : يكون تكذيبكم لزاما ، قال ابن عباس : موتا . وقال أبو عبيدة : هلاكا وقال ابن زيد : قتالا . والمعنى : يكون [ ص: 101 ] التكذيب لازما لمن كذب ، فلا يعطى التوبة حتى يجازى بعمله . وقال ابن جرير عذابا دائما لازما وهلاكا مقيما يلحق بعضكم ببعض . واختلفوا فيه ، فقال قوم : هو يوم بدر قتل منهم سبعون وأسر سبعون . وهو قول عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومجاهد ومقاتل ، يعني : أنهم قتلوا يوم بدر واتصل بهم عذاب الآخرة لازما لهم . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عمر بن حفص بن غياث ، أخبرنا أبي ، أخبرنا الأعمش ، حدثنا مسلم ، عن مسروق قال : قال عبد الله : خمس قد مضين : الدخان ، والقمر ، والروم ، والبطشة ، واللزام " ( فسوف يكون لزاما ) وقيل : اللزام هو عذاب الآخرة .
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْ آخَرِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " أُعْطِيتُ طه وَالطَّوَاسِينَ مِنْ [ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ] "
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( طسم ( 1 ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) )
( طسم ) قَرَأَ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَأَبُو بَكْرٍ : طسم ، وَ طس ، وَ حم ، وَ يس بِكَسْرِ الطَّاءِ وَالْيَاءِ وَالْحَاءِ ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ عَلَى التَّفْخِيمِ ، وَأَظْهَرَ النُّونَ فِي يس عِنْدَ الْمِيمِ فِي " طسم " : أَبُو جَعْفَرٍ ، وَحَمْزَةُ ، وَأَخْفَاهَا الْآخَرُونَ . وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " طسم " عَجَزَتِ الْعُلَمَاءُ عَنْ تَفْسِيرِهَا . وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ قَسَمٌ ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَالَ قَتَادَةُ : اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : اسْمٌ لِلسُّورَةِ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ : أَقْسَمَ اللَّهُ بِطَوْلِهِ وَسَنَائِهِ وَمُلْكِهِ . [ ص: 106 ] ) ( تِلْكَ ) أَيْ : هَذِهِ الْآيَاتُ ، ( آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ )
( لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ( 3 ) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ( 4 ) )
( لعلك باخع نفسك ) قاتل نفسك ، ( ألا يكونوا مؤمنين ) أي : إن لم يؤمنوا ، وذلك حين كذبه أهل مكة فشق عليه ذلك ، وكان يحرص على إيمانهم ، فأنزل الله هذه الآية . ) ( إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ) قال قتادة : لو شاء الله لأنزل عليهم آية يذلون بها ، فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله . وقال ابن جريج : معناه : لو شاء الله لأراهم أمرا من أمره ، لا يعمل أحد منهم بعده معصية .
وقوله - عز وجل - : ( خاضعين ) ولم يقل خاضعة وهي صفة الأعناق ، وفيه أقاويل : أحدها : أراد أصحاب الأعناق ، فحذف الأصحاب وأقام الأعناق مقامهم ، لأن الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون ، فجعل الفعل أولا للأعناق ، ثم جعل خاضعين للرجال . وقال الأخفش : رد الخضوع على المضمر الذي أضاف الأعناق إليه . وقال قوم : ذكر الصفة لمجاورتها المذكر ، وهو قوله " هم " على عادة العرب في تذكير المؤنث إذا أضافوه إلى مذكر ، وتأنيث المذكر إذا أضافوه إلى مؤنث . وقيل : أراد فظلوا خاضعين فعبر بالعنق عن جميع البدن ، كقوله : ذلك بما قدمت يداك ( الحج - 10 ) و ألزمناه طائره في عنقه " ( الإسراء - 13 ) . وقال مجاهد : أراد بالأعناق الرؤساء والكبراء ، أي : فظلت كبراؤهم خاضعين . وقيل : أراد بالأعناق الجماعات ، يقال : جاء القوم عنقا عنقا ، أي : جماعات وطوائف . وقيل : إنما قال خاضعين على وفاق رءوس الآي ليكون على نسق واحد .
[ ص: 107 ] ( وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين ( 5 ) فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ( 6 ) أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ( 7 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 8 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 9 ) وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين ( 10 ) )
( وما يأتيهم من ذكر ) وعظ وتذكير ، ( من الرحمن محدث ) أي : محدث إنزاله ، فهو محدث في التنزيل . قال الكلبي : كلما نزل شيء من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول ، ( إلا كانوا عنه معرضين ) أي : عن الإيمان به . ) ( فقد كذبوا فسيأتيهم ) أي : فسوف يأتيهم ، ) ( أنباء ) أخبار وعواقب ، ) ( ما كانوا به يستهزئون ) ( أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج ) صنف وضرب ، ) ( كريم ) حسن من النبات مما يأكل الناس والأنعام ، يقال : نخلة كريمة إذا طاب حملها ، وناقة كريمة إذا كثر لبنها . قال الشعبي : الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم ) ( إن في ذلك ) الذي ذكرت ، ) ( لآية ) دلالة على وجودي وتوحيدي وكمال قدرتي ، ( وما كان أكثرهم مؤمنين ) مصدقين ، أي : سبق علمي فيهم أن أكثرهم لا يؤمنون . وقال سيبويه : " كان " هاهنا صلة ، مجازه : وما أكثرهم مؤمنين . ( وإن ربك لهو العزيز ) العزيز بالنقمة من أعدائه ، ) ( الرحيم ) ذو الرحمة بأوليائه . قوله - عز وجل - : ) ( وإذ نادى ربك موسى ) واذكر يا محمد إذ نادى ربك موسى حين رأى الشجرة والنار ، ( أن ائت القوم الظالمين ) يعني : الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية ، وظلموا بني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب .
[ ص: 108 ] ( قوم فرعون ألا يتقون ( 11 ) قال رب إني أخاف أن يكذبون ( 12 ) ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ( 13 ) ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون ( 14 ) قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ( 15 ) فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين ( 16 ) أن أرسل معنا بني إسرائيل ( 17 ) )
( قوم فرعون ألا يتقون ) ألا يصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته . ) ( قال ) يعني موسى ، ( رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ) من تكذيبهم إياي ، ) ( ولا ينطلق لساني ) قال هذا للعقدة التي كانت على لسانه ، قرأ يعقوب " ويضيق " ، " ولا ينطلق " بنصب القافين على معنى وأن يضيق ، وقرأ العامة برفعهما ردا على قوله : " إني أخاف " ، ( فأرسل إلى هارون ) ليؤازرني ويظاهرني على تبليغ الرسالة .
) ( ولهم علي ذنب ) أي : دعوى ذنب ، وهو قتله القبطي ، ( فأخاف أن يقتلون ) أي : يقتلونني به . ) ( قال ) الله تعالى ، ) ( كلا ) أي : لن يقتلوك ، ( فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ) سامعون ما يقولون ، ذكر " معكم " بلفظ الجمع ، وهما اثنان ، أجراهما مجرى الجماعة . وقيل : أراد معكما ومع بني إسرائيل نسمع ما يجيبكم فرعون . ( فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين ) ولم يقل : رسولا رب العالمين ، لأنه أراد الرسالة ، أي : أنا ذو رسالة رب العالمين ، كما قال كثير :
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول
أي : بالرسالة ، وقال أبو عبيدة : يجوز أن يكون الرسول بمعنى الاثنين والجمع ، تقول العرب : هذا رسولي ووكيلي وهذان وهؤلاء رسولي ووكيلي ، كما قال الله تعالى : " وهم لكم عدو " ( الكهف - 50 ) ، وقيل : معناه كل واحد منا رسول رب العالمين ) ( أن أرسل ) أي : بأن أرسل ( معنا بني إسرائيل ) إلى فلسطين ، ولا تستعبدهم ، وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة ، وكانوا في ذلك الوقت ستمائة وثلاثين ألفا ، فانطلق موسى إلى مصر وهارون بها فأخبره بذلك . [ ص: 109 ]
وفي القصة أن موسى رجع إلى مصر وعليه جبة صوف وفي يده عصا ، والمكتل معلق في رأس العصا ، وفيه زاده ، فدخل دار نفسه وأخبر هارون بأن الله أرسلني إلى فرعون وأرسلني إليك حين تدعو فرعون إلى الله ، فخرجت أمهما وصاحت وقالت : إن فرعون يطلبك ليقتلك فلو ذهبتما إليه قتلكما فلم يمتنع موسى لقولها ، وذهبا إلى باب فرعون ليلا ودقا الباب ، ففزع البوابون وقالوا : من بالباب ؟ وروي أنه اطلع البواب عليهما فقال : من أنتما ؟ فقال موسى : أنا رسول رب العالمين ، فذهب البواب إلى فرعون وقال : إن مجنونا بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين ، فترك حتى أصبح ، ثم دعاهما . وروي أنهما انطلقا جميعا إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول عليه ، فدخل البواب فقال لفرعون : هاهنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين ، فقال فرعون : ائذن له لعلنا نضحك منه ، فدخلا عليه وأديا رسالة الله - عز وجل - ، فعرف فرعون موسى لأنه نشأ في بيته .
( قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ( 18 ) وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين ( 19 ) ( قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ( 20 ) )
( قال ألم نربك فينا وليدا ) صبيا ( ولبثت فينا من عمرك سنين ) وهو ثلاثون سنة . ( وفعلت فعلتك التي فعلت ) يعني : قتل القبطي ( وأنت من الكافرين ) قال الحسن والسدي : يعني وأنت من الكافرين بإلهك وكنت على ديننا هذا الذي تعيبه . وقال أكثر المفسرين : معنى قوله : " وأنت من الكافرين " ، أي : من الجاحدين لنعمتي وحق تربيتي ، يقول ربيناك فينا فكافأتنا أن قتلت منا نفسا ، وكفرت بنعمتنا . وهذا رواية العوفي عن ابن عباس ، وقال : إن فرعون لم يكن يعلم ما الكفر بالربوبية . ) ( قال ) موسى ، ) ( فعلتها إذا ) أي : فعلت ما فعلت حينئذ ، ) ( وأنا من الضالين ) أي : من الجاهلين ، أي لم يأتني من الله شيء . وقيل : من الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله . وقيل : من الضالين عن طريق الصواب من غير تعمد . وقيل : من المخطئين .
[ ص: 110 ] ( ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين ( 21 ) وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ( 22 ) )
( ففررت منكم لما خفتكم ) إلى مدين ، ( فوهب لي ربي حكما ) يعني النبوة ، وقال مقاتل : يعني العلم والفهم ، ( وجعلني من المرسلين ) ( وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ) اختلفوا في تأويلها : فحملها بعضهم على الإقرار وبعضهم على الإنكار . فمن قال هو إقرار ، قال عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه ، ولم يقتله كما قتل سائر غلمان بني إسرائيل ، ولم يستعبده كما استعبد بني إسرائيل مجازه : بلى وتلك نعمة علي أن عبدت بني إسرائيل ، وتركتني فلم تستعبدني . ومن قال : هو إنكار قال : قوله : وتلك نعمة هو على طريق الاستفهام ، أي : أوتلك نعمة ؟ حذف ألف الاستفهام ، كقوله : " أفهم الخالدون " ( الأنبياء - 34 ) ؟ قال الشاعر
تروح من الحي أو تبتكر وماذا يضرك لو تنتظر ؟
[ ص: 111 ] ( قال فرعون وما رب العالمين ( 23 ) قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ( 24 ) قال لمن حوله ألا تستمعون ( 25 ) قال ربكم ورب آبائكم الأولين ( 26 ) قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ( 27 ) قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ( 28 ) قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ( 29 ) قال أولو جئتك بشيء مبين ( 30 ) )
( قال فرعون وما رب العالمين ) يقول : أي شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله إلي ؟ يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه ب " ما " ، وهو سؤال عن جنس الشيء ، والله منزه عن الجنسية ، فأجابه موسى عليه السلام بذكر أفعاله التي يعجز عن الإتيان بمثلها . ( قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ) إنه خالقهما . قال أهل المعاني : أي كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينونها فأيقنوا أن إله الخلق هو الله - عز وجل - ، فلما قال موسى ذلك تحير فرعون في جواب موسى . ) ( قال لمن حوله ) من أشراف قومه . قال ابن عباس : كانوا خمسمائة رجل عليهم الأسورة ، قال لهم فرعون استبعادا لقول موسى : ) ( ألا تستمعون ) وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم ملوكهم . فزادهم موسى في البيان . ( قال ربكم ورب آبائكم الأولين ) ( قال ) يعني : فرعون : ( إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ) يتكلم بكلام لا نعقله ولا نعرف صحته ، وكان عندهم أن من لا يعتقد ما يعتقدون ليس بعاقل ، فزاد موسى في البيان : ( قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ) ( قال ) فرعون - حين لزمته الحجة وانقطع عن الجواب - تكبرا عن الحق : ( لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ) من المحبوسين ، قال الكلبي : كان سجنه أشد من القتل ، لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان وحده فردا لا يسمع ولا يبصر فيه شيئا ، يهوي به في الأرض . ) ( قال ) له موسى حين توعده بالسجن : ) ( أولو جئتك ) أي : وإن جئتك ، ) ( بشيء مبين ) بآية مبينة ، ومعنى الآية : أتفعل ذلك وإن أتيتك بحجة بينة ؟ وإنما قال ذلك موسى لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بعد البيان .
ابو وليد البحيرى
2022-06-29, 10:48 PM
الحلقة (313)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ
الاية31 إلى الاية 85
( قال فأت به إن كنت من الصادقين ( 31 ) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ( 32 ) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ( 33 ) قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم ( 34 ) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون ( 35 ) قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين ( 36 ) يأتوك بكل سحار عليم ( 37 ) فجمع السحرة لميقات يوم معلوم ( 38 ) وقيل للناس هل أنتم مجتمعون ( 39 ) ( لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ( 40 ) فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ( 41 ) قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين ( 42 ) قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون ( 43 ) )
( قال ) له فرعون ، ) ( فأت به ) فإنا لن نسجنك حينئذ ، ( إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ) فقال : وهل غيرها ؟ . ) ( ونزع ) موسى ، ( يده فإذا هي بيضاء للناظرين ) ( قال ) فرعون ( للملأ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون ) ؟ ( قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين ) . ( يأتوك بكل سحار عليم ) . ( فجمع السحرة لميقات يوم معلوم ) وهو يوم الزينة . وروي عن ابن عباس قال : وافق ذلك اليوم يوم السبت ، في أول يوم من السنة ، وهو يوم النيروز . ( وقيل للناس هل أنتم مجتمعون ) لتنظروا إلى ما يفعل الفريقان ولمن تكون الغلبة ؟ ) ( لعلنا ) لكي ، ( نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ) لموسى ، وقيل : إنما قالوا ذلك على طريق الاستهزاء ، وأرادوا بالسحرة موسى وهارون وقومهما . ) ( فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ) . ( قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين ) . ( قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون ) .
[ ص: 113 ] ( فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ( 44 ) فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون ( 45 ) فألقي السحرة ساجدين ( 46 ) قالوا آمنا برب العالمين ( 47 ) رب موسى وهارون ( 48 ) قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين ( 49 ) قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون ( 50 ) إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين ( 51 ) وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون ( 52 ) )
( فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ) . ( فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون ) . ( فألقي السحرة ساجدين ) . ( قالوا آمنا برب العالمين ) . ( رب موسى وهارون ) . ( قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين ) . ( قالوا لا ضير ) لا ضرر ، ( إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين ) من أهل زماننا . ( وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون ) يتبعكم فرعون وقومه ليحولوا بينكم وبين الخروج من مصر .
وروي عن ابن جريج قال : أوحى الله تعالى إلى موسى : أن اجمع بني إسرائيل كل أربعة أهل أبيات في بيت ، ثم اذبحوا أولاد الضأن ، فاضربوا بدمائها على أبوابكم ، فإني سآمر الملائكة فلا يدخلوا بيتا على بابه دم ، وسآمرها فتقتل أبكار آل فرعون من أنفسهم وأموالهم ، ثم اخبزوا خبزا فطيرا فإنه أسرع لكم ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر ، فيأتيك أمري ، ففعل ذلك ، فلما أصبحوا قال فرعون : هذا عمل موسى وقومه ، قتلوا أبكارنا من أنفسنا ، وأخذوا أموالنا . فأرسل في أثره ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور مع كل ملك ألف ، وخرج فرعون في الكرسي العظيم .
[ ص: 114 ] ( فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ( 53 ) إن هؤلاء لشرذمة قليلون ( 54 ) وإنهم لنا لغائظون ( 55 ) وإنا لجميع حاذرون ( 56 ) فأخرجناهم من جنات وعيون ( 57 ) وكنوز ومقام كريم ( 58 ) )
( فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ) يحشرون الناس يعني : الشرط ليجمعوا السحرة . وقيل : حتى يجمعوا له الجيش ، وذكر بعضهم : أنه كان له ألف مدينة واثنا عشرة ألف قرية . وقال لهم : ( إن هؤلاء لشرذمة ) عصابة ) ( قليلون ) والشرذمة القطعة من الناس غير الكثير ، وجمعها شراذم . قال أهل التفسير : كانت الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف . وعن ابن مسعود قال : كانوا ستمائة وسبعين ألفا ولا يحصى عدد أصحاب فرعون . ( وإنهم لنا لغائظون ) يقال : غاظه وأغاظه وغيظه إذا أغضبه ، والغيظ والغضب واحد ، يقول : أغضبونا بمخالفتهم ديننا وقتلهم أبكارنا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها ، وخروجهم من أرضنا بغير إذن منا . ( وإنا لجميع حاذرون ) قرأ أهل الحجاز والبصرة : " حذرون " و " فرهين " بغير ألف ، وقرأ الآخرون " حاذرون " و " فارهين " بالألف فيهما ، وهما لغتان . وقال أهل التفسير : حاذرون ، أي : مؤدون ومقوون ، أي : ذوو أداة وقوة مستعدون شاكون في السلاح ومعنى " حاذرون " أي : خائفون شرهم . وقال الزجاج : " الحاذر " : المستعد ، و " الحذر " : المتيقظ . وقال الفراء : " الحاذر " : الذي يحذرك الآن ، و " الحذر " : المخوف . وكذلك لا تلقاه إلا حذرا ، والحذر : اجتناب الشيء خوفا منه . ( فأخرجناهم من جنات ) وفي القصة : البساتين كانت ممتدة على حافتي النيل ، ( وعيون ) أنهار جارية . ( وكنوز ) يعني الأموال الظاهرة من الذهب والفضة . قال مجاهد : سماها كنوزا لأنه لم يعط حق الله منها ، وما لم يعط حق الله منه فهو كنز وإن كان ظاهرا ، قيل : كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام ، كل غلام على فرس عتيق ، في عنق كل فرس طوق من ذهب ، ) ( ومقام كريم ) أي : مجلس حسن ، قال المفسرون : أراد مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت تحفها الأتباع . وقال مجاهد ، وسعيد [ ص: 115 ] بن جبير : هي المنابر . وذكر بعضهم : أنه كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب يجلس عليها الأشراف عليهم الأقبية من الديباج مخوصة بالذهب .
( كذلك وأورثناها بني إسرائيل ( 59 ) فأتبعوهم مشرقين ( 60 ) ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ( 61 ) قال كلا إن معي ربي سيهدين ( 62 ) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ( 63 )
( كذلك ) كما وصفنا ، ( وأورثناها ) بهلاكهم ، ( بني إسرائيل ) وذلك أن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه ، فأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والمساكن . ( فأتبعوهم مشرقين ) أي : لحقوهم في وقت إشراق الشمس ، وهو إضاءتها ، أي : أدرك قوم فرعون موسى وأصحابه وقت شروق الشمس . ( فلما تراءى الجمعان ) أي : تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه ، وكسر حمزة الراء من " تراءى " وفتحها الآخرون . ( قال أصحاب موسى إنا لمدركون ) أي : سيدركنا قوم فرعون ولا طاقة لنا بهم . ) ( قال ) موسى ثقة بوعد الله إياه : ) ( كلا ) لن يدركونا ، ( إن معي ربي سيهدين ) يدلني على طريق النجاة . ( فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ) أي : فضربه " فانفلق " فانشق ، ) ( فكان كل فرق ) قطعة من الماء ، ( كالطود العظيم ) كالجبل الضخم ، قال ابن جريج وغيره : لما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح ، والبحر يرمي بموج مثل الجبال ، فقال يوشع : يا مكلم الله أين أمرت فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا ؟ قال موسى : هاهنا ، فخاض يوشع الماء وجاز البحر ، ما يواري حافر دابته الماء . وقال الذي يكتم إيمانه : يا مكلم الله أين أمرت ؟ قال : هاهنا ، فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه ، ثم أقحمه البحر ، فارتسب في الماء ، وذهب القوم يصنعون مثل ذلك ، فلم يقدروا ، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع ، فأوحى الله إليه : أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه فانفلق ، فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتل سرجه ولا لبده .
[ ص: 116 ] ( وأزلفنا ثم الآخرين ( 64 ) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ( 65 ) ثم أغرقنا الآخرين ( 66 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 67 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 68 ) واتل عليهم نبأ إبراهيم ( 69 ) إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ( 70 ) قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ( 71 ) قال هل يسمعونكم إذ تدعون ( 72 ) أو ينفعونكم أو يضرون ( 73 )
( وأزلفنا ) يعني : وقربنا ( ثم الآخرين ) يعني : قوم فرعون ، يقول : قدمناهم إلى البحر ، وقربناهم إلى الهلاك ، وقال أبو عبيدة : " وأزلفنا " : جمعنا ، ومنه ليلة المزدلفة أي : ليلة الجمع . وفي القصة أن جبريل كان بين بني إسرائيل وقوم فرعون وكان يسوق بني إسرائيل ، ويقولون : ما رأينا أحسن سياقة من هذا الرجل ، وكان يزع قوم فرعون ، وكانوا يقولون : ما رأينا أحسن زعة من هذا . ( وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ) . ( ثم أغرقنا الآخرين ) فرعون وقومه . وقال سعيد بن جبير : كان البحر ساكنا قبل ذلك ، فلما ضربه موسى بالعصا اضطرب فجعل يمد ويجزر . ( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ) أي : من أهل مصر ، قيل : لم يكن آمن من أهل مصر إلا آسية امرأة فرعون وحزبيل المؤمن ، ومريم بنت ناقوسا التي دلت على عظام يوسف عليه السلام . ( وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) العزيز في الانتقام من أعدائه ، الرحيم بالمؤمنين حين أنجاهم . قوله : ( واتل عليهم نبأ إبراهيم ) . قوله : ( إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ) أي شيء تعبدون ؟ . ( قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ) أي : نقيم على عبادتها . قال بعض أهل العلم : إنما قال : ) ( فنظل ) لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار ، دون الليل ، يقال : ظل يفعل كذا إذا فعل بالنهار . ) ( قال هل يسمعونكم ) أي : هل يسمعون دعاءكم ) ( إذ تدعون ) قال ابن عباس يسمعون لكم . ) ( أو ينفعونكم ) قيل بالرزق ، ) ( أو يضرون ) إن تركتم عبادتها .
[ ص: 117 ] ( قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ( 74 ) قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون ( 75 ) أنتم وآباؤكم الأقدمون ( 76 ) فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ( 77 ) الذي خلقني فهو يهدين ( 78 ) والذي هو يطعمني ويسقين ( 79 ) )
( قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) معناه : إنها لا تسمع قولا ولا تجلب نفعا ، ولا تدفع ضرا ، لكن اقتدينا بآبائنا . فيه إبطال التقليد في الدين . ) ( قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون ) الأولون . ( فإنهم عدو لي ) أي : أعداء لي ، ووحده على معنى أن كل معبود لكم عدو لي . فإن قيل : كيف وصف الأصنام بالعداوة وهي جمادات ؟ قيل : معناه فإنهم عدو لي لو عبدتهم يوم القيامة كما قال تعالى : " سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " ( مريم - 82 ) . وقال الفراء هو من المقلوب ، أراد : فإني عدو لهم ، لأن من عاديته فقد عاداك . وقيل : " فإنهم عدو لي " على معنى إني لا أتولاهم ولا أطلب من جهتهم نفعا ، كما لا يتولى العدو ، ولا يطلب من جهته النفع .
قوله : ( إلا رب العالمين ) اختلفوا في هذا الاستثناء ، قيل : هو استثناء منقطع ، كأنه قال : فإنهم عدو لي لكن رب العالمين وليي . وقيل : إنهم كانوا يعبدون الأصنام مع الله ، فقال إبراهيم : كل من تعبدون أعدائي إلا رب العالمين . وقيل : إنهم غير معبود لي إلا رب العالمين ، فإني أعبده . وقال الحسين بن الفضل : معناه إلا من عبد رب العالمين . ثم وصف معبوده فقال : ( الذي خلقني فهو يهدين ) أي : يرشدني إلى طريق النجاة . ( والذي هو يطعمني ويسقين ) أي : يرزقني ويغذوني بالطعام والشراب ، فهو رازقي ومن عنده رزقي .
[ ص: 118 ] ( وإذا مرضت فهو يشفين ( 80 ) والذي يميتني ثم يحيين ( 81 ) والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ( 82 ) رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين ( 83 ) ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ( 84 ) واجعلني من ورثة جنة النعيم ( 85 ) )
( وإذا مرضت ) أضاف المرض إلى نفسه وإن كان المرض والشفاء كله من الله ، استعمالا لحسن الأدب كما قال الخضر : " فأردت أن أعيبها " ( الكهف - 79 ) ، وقال : " فأراد ربك أن يبلغا أشدهما " ( الكهف - 82 ) . ) ( فهو يشفين ) أي : يبرئني من المرض . ( والذي يميتني ثم يحيين ) أدخل " ثم " هاهنا للتراخي ، أي : يميتني في الدنيا ويحييني في الآخرة . ) ( والذي أطمع ) أي : أرجو ، ( أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) أي : خطاياي يوم الحساب . قال مجاهد : هو قوله : " إني سقيم " ، وقوله : " بل فعله كبيرهم هذا " ، وقوله لسارة : " هذه أختي " ، وزاد الحسن وقوله للكواكب : " هذا ربي " . وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حفص بن غياث ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة قال : قلت يا رسول الله : ابن جدعان ، كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المساكين ، فهل ذاك نافعه ؟ قال : " لا ينفعه إنه لم يقل يوما ، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قومه ، وإخبار أنه لا يصلح للإلهية من لا يفعل هذه الأفعال . ( رب هب لي حكما ) قال ابن عباس : معرفة حدود الله وأحكامه . وقال مقاتل : الفهم والعلم . وقال الكلبي : النبوة ( وألحقني بالصالحين ) بمن قبلي من النبيين في المنزلة والدرجة . ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) أي : ثناء حسنا ، وذكرا جميلا وقبولا عاما في الأمم التي تجيء بعدي ، فأعطاه الله ذلك ، فجعل كل أهل الأديان يتولونه ويثنون عليه . قال القتيبي : وضع اللسان موضع القول على الاستعارة لأن القول يكون به . ( واجعلني من ورثة جنة النعيم ) أي : ممن تعطيه جنة النعيم .
ابو وليد البحيرى
2022-06-29, 10:52 PM
الحلقة (314)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ
الاية86 إلى الاية 155
( واغفر لأبي إنه كان من الضالين ( 86 ) ولا تخزني يوم يبعثون ( 87 ) يوم لا ينفع مال ولا بنون ( 88 ) إلا من أتى الله بقلب سليم ( 89 ) وأزلفت الجنة للمتقين ( 90 ) وبرزت الجحيم للغاوين ( 91 ) وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون ( 92 ) من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون ( 93 ) فكبكبوا فيها هم والغاوون ( 94 ) وجنود إبليس أجمعون ( 95 ) قالوا وهم فيها يختصمون ( 96 ) )
( واغفر لأبي إنه كان من الضالين ) وقال هذا قبل أن يتبين له أنه عدو لله ، كما سبق ذكره في سورة التوبة . ) ( ولا تخزني ) لا تفضحني ( يوم يبعثون ) ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) أي : خالص من الشرك والشك فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد ، هذا قول أكثر المفسرين . قال سعيد بن المسيب : القلب السليم هو الصحيح ، وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض . قال الله تعالى : " في قلوبهم مرض " ( البقرة - 10 ) ، قال ابن عثمان النيسابوري : هو القلب الخالي من البدعة المطمئن على السنة . ) ( وأزلفت ) قربت ) ( الجنة للمتقين ) ( وبرزت ) أظهرت ، ) ( الجحيم للغاوين ) للكافرين . ) ( وقيل لهم ) يوم القيامة ، ) ( أين ما كنتم تعبدون ) ( من دون الله هل ينصرونكم ) يمنعونكم من العذاب ، ) ( أو ينتصرون ) لأنفسهم . ) ( فكبكبوا فيها ) قال ابن عباس : جمعوا . وقال مجاهد : دهوروا . وقال مقاتل : قذفوا . وقال الزجاج : طرح بعضهم على بعض . وقال القتيبي : ألقوا على رءوسهم . ) ( هم والغاوون ) يعني : الشياطين ، قال قتادة ، ومقاتل . وقال الكلبي : كفرة الجن . ( وجنود إبليس أجمعون ) وهم أتباعه ومن أطاعه من الجن والإنس . ويقال : ذريته . ) ( قالوا ) أي : قال الغاوون للشياطين والمعبودين ، ( وهم فيها يختصمون ) مع المعبودين ويجادل بعضهم بعضا .
[ ص: 120 ] ( تالله إن كنا لفي ضلال مبين ( 97 ) إذ نسويكم برب العالمين ( 98 ) وما أضلنا إلا المجرمون ( 99 ) فما لنا من شافعين ( 100 ) ولا صديق حميم ( 101 ) فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين ( 102 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 103 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 104 ) كذبت قوم نوح المرسلين ( 105 ) )
( تالله إن كنا لفي ضلال مبين ) .( إذ نسويكم ) نعدلكم ، ( برب العالمين ) فنعبدكم . ( وما أضلنا ) أي : ما دعانا إلى الضلال ، ) ( إلا المجرمون ) قال مقاتل : يعني الشياطين . وقال الكلبي : إلا أولونا الذين اقتدينا بهم . وقال أبو العالية وعكرمة : يعني : إبليس ، وابن آدم الأول ، وهو قابيل ، لأنه أول من سن القتل ، وأنواع المعاصي . ( فما لنا من شافعين ) أي : من يشفع لنا من الملائكة والنبيين والمؤمنين . ( ولا صديق حميم ) أي : قريب يشفع لنا ، يقوله الكفار حين تشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون ، والصديق هو الصادق في المودة بشرط الدين . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا محمد بن الحسين اليقطيني ، أخبرنا أحمد بن عبد الله يزيد العقيلي ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا من سمع أبا الزبير يقول : أشهد لسمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل صديقي فلان ، وصديقه في الجحيم ، فيقول الله تعالى : أخرجوا له صديقه إلى الجنة ، فيقول من بقي : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " قال الحسن : استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة . ( فلو أن لنا كرة ) أي : رجعة إلى الدنيا ، ( فنكون من المؤمنين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) العزيز الذي لا يغالب ، فالله عزيز ، وهو في وصف عزته رحيم . قوله - عز وجل - : ( كذبت قوم نوح المرسلين ) قيل للحسن البصري : يا أبا سعيد أرأيت قوله : ( كذبت قوم نوح المرسلين ) و ( كذبت عاد المرسلين ) و ( كذبت ثمود المرسلين ) وإنما [ ص: 121 ] أرسل إليهم رسول واحد ؟ قال : إن الآخر جاء بما جاء الأول ، فإذا كذبوا واحدا فقد كذبوا الرسل أجمعين .
( إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون ( 106 ) إني لكم رسول أمين ( 107 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 108 ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ( 109 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 110 ) قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ( 111 ) ( قال وما علمي بما كانوا يعملون ( 112 ) إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون ( 113 ) وما أنا بطارد المؤمنين ( 114 ) إن أنا إلا نذير مبين ( 115 ) قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين ( 116 )
( إذ قال لهم أخوهم ) في النسب لا في الدين . ( نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين ) على الوحي . ( فاتقوا الله ) بطاعته وعبادته ، ) ( وأطيعون ) فيما آمركم به من الإيمان والتوحيد . ( وما أسألكم عليه من أجر إن أجري ) ثوابي ، ( إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون ) . ( قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ) قرأ يعقوب : " وأتباعك الأرذلون " السفلة . وعن ابن عباس قال : الصاغة . وقال عكرمة الحاكة والأساكفة . ) ( قال ) نوح ، ( وما علمي بما كانوا يعملون ) أي : ما أعلم أعمالهم وصنائعهم ، وليس علي من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء إنما كلفت أن أدعوهم إلى الله ، ولي منهم ظاهر أمرهم . ( إن حسابهم ) ما حسابهم ، ( إلا على ربي لو تشعرون ) لو تعلمون ذلك ما عبتموهم بصنائعهم . قال الزجاج : الصناعات لا تضر في الديانات . وقيل : معناه : أي : لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم ويوفقهم ويخذلكم . ) ( وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين ) . ( قالوا لئن لم تنته يا نوح ) عما تقول ، ( لتكونن من المرجومين ) قال مقاتل والكلبي : من المقتولين بالحجارة . وقال الضحاك : من المشتومين .
[ ص: 122 ] ( قال رب إن قومي كذبون ( 117 ) فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين ( 118 ) فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ( 119 ) ثم أغرقنا بعد الباقين ( 120 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 121 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 122 ) كذبت عاد المرسلين ( 123 ) إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون ( 124 ) إني لكم رسول أمين ( 125 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 126 ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ( 127 ) أتبنون بكل ريع آية تعبثون ( 128 )
( قال رب إن قومي كذبون فافتح ) فاحكم ، ( بيني وبينهم فتحا ) حكما ، ( ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ) الموقر المملوء من الناس والطير والحيوان كلها . ( ثم أغرقنا بعد الباقين ) أي : أغرقنا بعد إنجاء نوح وأهله : من بقي من قومه . ( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) قوله - عز وجل - : ( كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ) يعني في النسب لا في الدين ، ( ألا تتقون ) ( إني لكم رسول أمين ) على الرسالة ، قال الكلبي : أمين فيكم قبل الرسالة ، فكيف تتهمونني اليوم ؟ . ( فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ) ( أتبنون بكل ريع ) قال الوالبي عن ابن عباس : أي : بكل شرف . وقال الضحاك ومقاتل والكلبي : بكل طريق ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس ، وعن مجاهد قال : هو الفج بين الجبلين . وعنه أيضا : إنه المنظرة . ( آية ) أي : علامة ، ( تعبثون ) بمن مر بالطريق ، والمعنى : أنهم كانوا يبنون المواضع المرتفعة ليشرفوا على المارة والسابلة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم . وعن سعيد بن جبير ومجاهد : هذا في بروج الحمام أنكر عليهم هود اتخاذها ، بدليل قوله : ( تعبثون ) أي : تلعبون ، وهم كانوا [ ص: 123 ] يلعبون بالحمام . وقال أبو عبيدة : الريع : المكان المرتفع .
( وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ( 129 ) وإذا بطشتم بطشتم جبارين ( 130 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 131 ) واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون ( 132 ) أمدكم بأنعام وبنين ( 133 ) وجنات وعيون ( 134 ) إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ( 135 ) قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ( 136 ) ( إن هذا إلا خلق الأولين ( 137 )
( وتتخذون مصانع ) قال ابن عباس : أبنية . وقال مجاهد : قصورا مشيدة . وعن الكلبي : أنها الحصون . وقال قتادة : مآخذ الماء ، يعني الحياض ، واحدتها مصنعة ) ( لعلكم تخلدون ) أي : كأنكم تبقون فيها خالدين . والمعنى : أنهم كانوا يستوثقون المصانع كأنهم لا يموتون . ( وإذا بطشتم ) أخذتم وسطوتم ، ( بطشتم جبارين ) قتلا بالسيف وضربا بالسوط ، " والجبار " : الذي يقتل ويضرب على الغضب . ( فاتقوا الله وأطيعون ) . ( واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون ) أي : أعطاكم من الخير ما تعلمون ، ثم ذكر ما أعطاهم فقال : ( أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون ) أي : بساتين وأنهار . ( إني أخاف عليكم ) قال ابن عباس : إن عصيتموني ، ( عذاب يوم عظيم قالوا سواء علينا ) أي : مستو عندنا ، ( أوعظت أم لم تكن من الواعظين ) الوعظ كلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد . قال الكلبي : نهيتنا أم لم تكن من الناهين لنا . ) ( إن هذا ) ما هذا ( إلا خلق الأولين ) قرأ ابن كثير ، وأبو جعفر ، وأبو عمرو ، والكسائي ، ويعقوب : " خلق " بفتح الخاء وسكون اللام ، أي : اختلاق الأولين وكذبهم دليل هذه القراءة قوله [ ص: 124 ] تعالى : " وتخلقون إفكا " ( العنكبوت - 17 ) ، وقرأ الآخرون " خلق " بضم الخاء واللام ، أي : عادة الأولين من قبلنا ، وأمرهم أنهم يعيشون ما عاشوا ثم يموتون ولا بعث ولا حساب .
( وما نحن بمعذبين ( 138 ) فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 139 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 140 ) كذبت ثمود المرسلين ( 141 ) إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون ( 142 ) إني لكم رسول أمين ( 143 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 144 ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ( 145 ) أتتركون في ما هاهنا آمنين ( 146 ) في جنات وعيون ( 147 ) وزروع ونخل طلعها هضيم ( 148 )
( وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) قوله - عز وجل - : ( كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتتركون في ما هاهنا ) أي : في الدنيا ( آمنين ) من العذاب . ( في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها ) ثمرها ، يريد ما يطلع منها من الثمر ، ( هضيم ) قال ابن عباس : لطيف ، ومنه : هضيم الكشح ، إذا كان لطيفا . وروى عطية عنه : يانع نضيج . وقال عكرمة : هو اللين . وقال الحسن : هو الرخو . وقال مجاهد : متهشم متفتت إذا مس ، وذلك أنه ما دام رطبا فهو هضيم ، فإذا يبس فهو هشيم . وقال الضحاك ومقاتل : قد ركب بعضه بعضا [ حتى هضم بعضه بعضا ] أي : كسره . وقال أهل اللغة : هو المنضم بعضه إلى بعض في وعائه قبل أن يظهر . وقال الأزهري : الهضيم هو الداخل بعضه في بعض من النضج والنعومة . وقيل : هضيم أي : هاضم يهضم الطعام . وكل هذا للطافته .
[ ص: 125 ] ( وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ( 149 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 150 ) ولا تطيعوا أمر المسرفين ( 151 ) الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ( 152 ) قالوا إنما أنت من المسحرين ( 153 ) ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين ( 154 ) قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ( 155 ) )
( وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ) وقرئ : " فرهين " قيل : معناهما واحد . وقيل : فارهين أي : حاذقين بنحتها ، من قولهم فره الرجل فراهة فهو فاره ، ومن قرأ " فرهين " قال ابن عباس : أشرين بطرين . وقال عكرمة : ناعمين . وقال مجاهد : شرهين . قال قتادة : معجبين بصنيعكم ، قال السدي : متجبرين . وقال أبو عبيدة : مرحين . وقال الأخفش فرحين . والعرب تعاقب بين الهاء والحاء مثل : مدحته ومدهته . قال الضحاك : كيسين . ( فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين ) قال ابن عباس : المشركين . وقال مقاتل : هم التسعة الذين عقروا الناقة . ( الذين يفسدون في الأرض ) بالمعاصي ، ( ولا يصلحون ) لا يطيعون الله فيما أمرهم به . ( قالوا إنما أنت من المسحرين ) قال مجاهد وقتادة : من المسحورين المخدوعين ، أي : ممن سحر مرة بعد مرة . وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : أي : من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب ، يقال : سحره ، أي : علله بالطعام والشراب ، يريد : إنك تأكل الطعام والشراب ولست بملك ، بل : ( ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية ) على صحة ما تقول ، ( إن كنت من الصادقين ) أنك رسول الله إلينا . ( قال هذه ناقة لها شرب ) حظ ونصيب من الماء ، ( ولكم شرب يوم معلوم )
ابو وليد البحيرى
2022-06-29, 10:59 PM
الحلقة (315)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ
الاية156 إلى الاية 215
[ ص: 126 ] ( ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم ( 156 ) فعقروها فأصبحوا نادمين ( 157 ) فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 158 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 159 ) ) ( كذبت قوم لوط المرسلين ( 160 ) إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون ( 161 ) إني لكم رسول أمين ( 162 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 163 ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ( 164 ) أتأتون الذكران من العالمين ( 165 ) وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون ( 166 ) قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين ( 167 ) قال إني لعملكم من القالين ( 168 ) رب نجني وأهلي مما يعملون ( 169 ) فنجيناه وأهله أجمعين ( 170 ) إلا عجوزا في الغابرين ( 171 ) )
( ولا تمسوها بسوء ) بعقر ، ( فيأخذكم عذاب يوم عظيم فعقروها فأصبحوا نادمين ) على عقرها حين رأوا العذاب . ( فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) قوله تعالى : ( كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتأتون الذكران ) قال مقاتل : يعني جماع الرجال . ( من العالمين ) يعني من بني آدم . ( وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم ) قال مجاهد : تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال ، ( بل أنتم قوم عادون ) معتدون ، مجاوزون الحلال إلى الحرام . ( قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين ) من قريتنا . ( قال إني لعملكم من القالين ) المبغضين ، ثم دعا فقال : ( رب نجني وأهلي مما يعملون ) من العمل الخبيث . قال الله تعالى : ( فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ) وهي امرأة لوط ، بقيت في العذاب والهلاك .
[ ص: 127 ] ( ثم دمرنا الآخرين ( 172 ) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين ( 173 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 174 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 175 ) كذب أصحاب الأيكة المرسلين ( 176 ) إذ قال لهم شعيب ألا تتقون ( 177 ) إني لكم رسول أمين ( 178 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 179 ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ( 180 ) أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين ( 181 ) وزنوا بالقسطاس المستقيم ( 182 ) ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( 183 ) )
( واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين ( 184 ) )
( ثم دمرنا الآخرين ) أي : أهلكناكم . ( وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين ) قال وهب بن منبه : الكبريت والنار . ( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) قوله - عز وجل - : ) ( كذب أصحاب الأيكة المرسلين ) وهم قوم شعيب عليه السلام ، قرأ العراقيون : " الآيكة " هاهنا وفي " ص " بالهمزة وسكون اللام وكسر التاء ، وقرأ الآخرون : " ليكة " بفتح اللام والتاء غير مهموز ، جعلوها اسم البلد ، وهو لا ينصرف ، ولم يختلفوا في سورة " الحجر " و " ق " أنهما مهموزان مكسوران ، والأيكة : الغيضة من الشجر الملتف . ( إذ قال لهم شعيب ) ولم يقل أخوهم; لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب ، فلما ذكر مدين قال أخاهم شعيبا لأنه كان منهم ، وكان الله تعالى بعثه إلى قومه أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة . ) ( ألا تتقون ) ( إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ) وإنما كانت دعوة هؤلاء الأنبياء كلهم فيما حكى الله عنهم على صيغة واحدة لاتفاقهم على الأمر بالتقوى والطاعة والإخلاص في العبادة والامتناع من أخذ الأجر على الدعوة وتبليغ الرسالة . ( أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين ) الناقصين لحقوق الناس بالكيل والوزن . [ ص: 128 ] ) ( وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين واتقوا الذي خلقكم والجبلة ) الخليقة ، ) ( الأولين ) يعني : الأمم المتقدمين ، والجبلة : الخلق ، يقال : جبل أي : خلق .
( قالوا إنما أنت من المسحرين ( 185 ) وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين ( 186 ) فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين ( 187 ) قال ربي أعلم بما تعملون ( 188 ) فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ( 189 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 190 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 191 ) وإنه لتنزيل رب العالمين ( 192 ) نزل به الروح الأمين ( 193 ) على قلبك لتكون من المنذرين ( 194 ) بلسان عربي مبين ( 195 ) )
( قالوا إنما أنت من المسحرين ( 185 ) وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين ( 186 ) فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين ( 187 ) قال ربي أعلم بما تعملون ( 188 ) ) أي : من نقصان الكيل والوزن ، وهو مجازيكم بأعمالكم ، وليس العذاب إلي وما علي إلا الدعوة . ) ( فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة ) وذلك أنه أخذهم حر شديد ، فكانوا يدخلون الأسراب فإذا دخلوها وجدوها أشد حرا فخرجوا ، فأظلتهم سحابة ، وهي الظلة ، فاجتمعوا تحتها ، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا ، ذكرناه في سورة هود . ( إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) قوله - عز وجل - : ) ( وإنه ) يعني القرآن . ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين ) قرأ أهل الحجاز ، وأبو عمرو ، وحفص : " نزل " خفيف ، " الروح الأمين " برفع الحاء والنون ، أي " نزل جبريل بالقرآن . وقرأ الآخرون بتشديد الزاي وفتح الحاء والنون أي : نزل الله به جبريل ، لقوله - عز وجل - : " وإنه لتنزيل رب العالمين " . ) ( على قلبك ) يا محمد حتى وعيته ، ( لتكون من المنذرين ) المخوفين . ( بلسان عربي مبين ) [ قال ابن عباس : بلسان قريش ليفهموا ما فيه ] .
[ ص: 129 ] ( وإنه لفي زبر الأولين ( 196 ) أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ( 197 ) ولو نزلناه على بعض الأعجمين ( 198 ) فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ( 199 ) كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ( 200 ) )
( وإنه ) أي : ذكر إنزال القرآن ، قاله أكثر المفسرين . وقال مقاتل : ذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - ونعته ، ( لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية ) [ قرأ ابن عامر : " تكن " بالتاء " آية " بالرفع ، جعل الآية اسما وخبره : ) ( أن يعلمه ) وقرأ الآخرون بالياء ، " آية " نصب ، جعلوا الآية خبر يكن ، معناه : أولم يكن لهؤلاء المنكرين علم بني إسرائيل آية ، أي : علامة ودلالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لأن العلماء الذين كانوا من بني إسرائيل ، كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم ، وهم : عبد الله بن سلام وأصحابه . قال ابن عباس : بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة فسألوهم عن محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : إن هذا لزمانه ، وإنا نجد في التوراة نعته وصفته ، فكان ذلك آية على صدقه .
قوله تعالى : ) ( أن يعلمه ) يعني : يعلم محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ( علماء بني إسرائيل ) قال عطية : كانوا خمسة : عبد الله بن سلام ، وابن يامين ، وثعلبة ، وأسد ، وأسيد . ) ( ولو نزلناه ) يعني القرآن ، ) ( على بعض الأعجمين ) جمع الأعجمي ، وهو الذي لا يفصح ولا يحسن العربية وإن كان عربيا في النسب ، والعجمي : منسوب إلى العجم ، وإن كان فصيحا . ومعنى الآية : ولو نزلناه على رجل ليس بعربي اللسان . ) ( فقرأه عليهم ) بغير لغة العرب ، ( ما كانوا به مؤمنين ) وقالوا : ما نفقه قولك ، نظيره قوله - عز وجل - : " ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته " ( فصلت - 44 ) ، وقيل : معناه ولو نزلناه على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفة من اتباعه . ( كذلك سلكناه ) قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد : أدخلنا الشرك والتكذيب ( في قلوب المجرمين )
[ ص: 130 ] ( لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ( 201 ) فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون ( 202 ) فيقولوا هل نحن منظرون ( 203 ) أفبعذابنا يستعجلون ( 204 ) أفرأيت إن متعناهم سنين ( 205 ) ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ( 206 ) ( ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ( 207 ) وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ( 208 ) ذكرى وما كنا ظالمين ( 209 ) وما تنزلت به الشياطين ( 210 ) وما ينبغي لهم وما يستطيعون ( 211 ) إنهم عن السمع لمعزولون ( 212 ) فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين ( 213 )
( لا يؤمنون به ) أي : بالقرآن ( حتى يروا العذاب الأليم ) يعني : عند الموت . ) ( فيأتيهم ) يعني : العذاب ) ( بغتة ) فجأة ) ( وهم لا يشعرون ) به في الدنيا . ( فيقولوا هل نحن منظرون ) أي : لنؤمن ونصدق ، يتمنون الرجعة والنظرة . قال مقاتل : لما أوعدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب ، قالوا : إلى متى توعدنا بالعذاب ؟ متى هذا العذاب ؟ قال الله تعالى : ( أفبعذابنا يستعجلون أفرأيت إن متعناهم سنين ) كثيرة في الدنيا ، يعني : كفار مكة ، ولم نهلكهم . ( ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ) يعني : بالعذاب . ( ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ) به في تلك السنين . والمعنى : أنهم وإن طال تمتعهم بنعيم الدنيا فإذا أتاهم العذاب لم يغن عنهم طول التمتع شيئا ، ويكون كأنهم لم يكونوا في نعيم قط . ( وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ) رسل ينذرونهم . ) ( ذكرى ) محلها نصب ، أي : ينذرونهم ، تذكرة ، وقيل : رفع أي : تلك ذكرى ( وما كنا ظالمين ) في تعذيبهم حيث قدمنا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم . ( وما تنزلت به الشياطين ) وذلك أن المشركين كانوا يقولون إن الشياطين يلقون القرآن على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فقال جل ذكره : " وما تنزلت به " ، أي : بالقرآن ، الشياطين . ) ( وما ينبغي لهم ) أن ينزلوا بالقرآن ) ( وما يستطيعون ) ذلك . ) ( إنهم عن السمع ) أي : عن استراق السمع من السماء ) ( لمعزولون ) أي : محجوبون بالشهب مرجومون . ( فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يحذر [ ص: 131 ] به غيره ، يقول : أنت أكرم الخلق علي ولو اتخذت إلها غيري لعذبتك .
( وأنذر عشيرتك الأقربين ( 214 ) )
( وأنذر عشيرتك الأقربين ) روى محمد بن إسحاق ، عن عبد الغفار بن القاسم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، عن عبد الله بن عباس ، عن علي بن أبي طالب . قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا علي إن الله يأمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعا وعرفت أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمت عليها جاءني جبريل ، فقال لي : يا محمد إلا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك ، فاصنع لنا صاعا من طعام واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عسا من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به " . قال علي رضي الله عنه : ففعلت ما أمرني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب ، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعته فجئت به ، فلما وضعته تناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جذبة من اللحم ، فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ، ثم قال : " خذوا باسم الله " فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة ، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم ، ثم قال : " اسق القوم " فجئتهم بذلك العس ، فشربوا حتى رووا جميعا ، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله . فلما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكلمهم بدره أبو لهب فقال : سحركم صاحبكم ، فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال الغد : " يا علي إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القوم فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم " ، ففعلت ثم جمعتهم فدعاني بالطعام فقربته ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة . وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يوازرني على أمري هذا ؟ ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فأحجم القوم عنها جميعا ، فقلت - وأنا أحدثهم سنا - أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه . قال : فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا " ، فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع . [ ص: 132 ]
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا الأعمش ، حدثنا عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : لما نزلت : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) " ورهطك منهم المخلصين " خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صعد الصفا ، فهتف يا صاحباه ، فقالوا : من هذا ؟ فاجتمعوا إليه فقال : " أرأيتكم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من صفح هذا الجبل أكنتم مصدقي " ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " فقال أبو لهب : تبا لك ما جمعتنا إلا لهذا ، ثم قام : فنزلت " تبت يدا أبي لهب وقد تب " هكذا قرأ الأعمش يومئذ .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثني عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت ) ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) صعد النبي على الصفا فجعل ينادي : " يا بني فهر ، يا بني عدي - لبطون قريش - حتى اجتمعوا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش ، فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا : نعم ، ما جربنا عليك إلا صدقا ، قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " ، فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت : تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب
[ ص: 133 ] ) ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ( 215 )
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن أبا هريرة قال : قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل الله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) فقال : " يا معشر قريش ، أو كلمة نحوها ، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا ، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا ، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا " .
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أخبرني جدي أبو سهل بن عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أخبرنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير ، عن عياض بن حمار المجاشعي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله - عز وجل - أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا ، وإنه قال : إن كل مال نحلته عبادي فهو لهم حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، وإن الله تعالى أمرني أن أخوف قريشا ، فقلت : يا رب إنهم إذا يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة ، فقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وقد أنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه في المنام واليقظة ، فاغزهم نغزك ، وأنفق ننفق عليك ، وابعث جيشا نمددك بخمسة أمثالهم ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، ثم قال : أهل الجنة ثلاثة : إمام مقسط ، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ، ورجل غني متصدق ، وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا دين له ، الذين هم فيكم تبع لا يبتغون بذلك أهلا ولا مالا ورجل إن أصبح أصبح يخادعك عن أهلك ومالك ، ورجل لا يخفى له طمع - وإن دق - إلا ذهب به ، والشنظير الفاحش . قال : وذكر البخل والكذب " . قوله - عز وجل - : ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ) .
ابو وليد البحيرى
2022-06-29, 11:04 PM
الحلقة (316)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ النَّمْلِ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية 9
[ ص: 134 ] ( فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ( 216 ) وتوكل على العزيز الرحيم ( 217 ) الذي يراك حين تقوم ( 218 ) وتقلبك في الساجدين ( 219 ) إنه هو السميع العليم ( 220 ) )
( فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ) من الكفر وعبادة غير الله . ) ( وتوكل ) قرأ أهل المدينة ، والشام : " فتوكل " بالفاء ، وكذلك هو في مصاحفهم وقرأ الباقون بالواو " وتوكل " ) ( على العزيز الرحيم ) ليكفيك كيد الأعداء . ( الذي يراك حين تقوم ) إلى صلاتك ، عن أكثر المفسرين . وقال مجاهد : الذي يراك أينما كنت . وقيل : حين تقوم لدعائهم . ( وتقلبك في الساجدين ) أي : يرى تقلبك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك . قال عكرمة وعطية عن ابن عباس : في الساجدين أي : في المصلين . وقال مقاتل والكلبي : أي مع المصلين في الجماعة ، يقول : يراك حين تقوم وحدك للصلاة ويراك إذا صليت مع المصلين في الجماعة . وقال مجاهد : يرى تقلب بصرك في المصلين ، فإنه كان يبصر من خلفه كما يبصر من أمامه . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " هل ترون قبلتي هاهنا ، فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم ، إني لأراكم من وراء ظهري " وقال الحسن : " وتقلبك في الساجدين " أي : تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين . وقال سعيد بن جبير : يعني وتصرفك في أحوالك ، كما كانت الأنبياء من قبلك . والساجدون : هم الأنبياء . وقال عطاء عن ابن عباس : أراد تقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة . ( إنه هو السميع العليم ) .
[ ص: 135 ] ( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ( 221 ) تنزل على كل أفاك أثيم ( 222 ) يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ( 223 ) والشعراء يتبعهم الغاوون ( 224 ) ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ( 225 ) )
( هل أنبئكم ) أخبركم ( على من تنزل الشياطين ) هذا جواب قولهم : تنزل عليه شيطان ، ثم بين فقال : ) ( تنزل ) أي : تتنزل ) ( على كل أفاك ) كذاب ) ( أثيم ) فاجر ، قال قتادة : هم الكهنة ، يسترق الجن السمع ثم يلقون إلى أوليائهم من الإنس . وهو قوله - عز وجل - : ) ( يلقون السمع ) ( يلقون السمع ) أي : يستمعون من الملائكة مستقرين ، فيلقون إلى الكهنة ) ( وأكثرهم كاذبون ) لأنهم يخلطون به كذبا كثيرا . قوله - عز وجل - : ) ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) قال أهل التفسير : أراد شعراء الكفار الذين كانوا يهجون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر مقاتل أسماءهم ، فقال : منهم عبد الله بن الزبعرى السهمي ، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ، ومشافع بن عبد مناف . وأبو عزة بن عبد الله الجمحي ، وأمية بن أبي الصلت الثقفي ، تكلموا بالكذب وبالباطل ، وقالوا : نحن نقول مثل ما يقول محمد . وقالوا الشعر ، واجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم حين يهجون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، ويروون عنهم وذلك . قوله : ) والشعراء يتبعهم الغاوون ( هم الرواة الذين يروون هجاء [ النبي صلى الله عليه وسلم و المسلمين . وقال قتادة ومجاهد : الغاوون هم الشياطين . وقال الضحاك : تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين ، ومع كل واحد منهما غواة من قومه ، وهم السفهاء فنزلت هذه الآية . وهي رواية عطية عن ابن عباس . ( ألم تر أنهم في كل واد ) من أودية الكلام ) ( يهيمون ) جائرون وعن طريق الحق حائدون ، والهائم : الذاهب على وجهه لا مقصد له . [ ص: 136 ]
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية : في كل لغو يخوضون وقال مجاهد : في كل فن يفتنون . وقال قتادة : يمدحون بالباطل ويستمعون ويهجون بالباطل فالوادي مثل لفنون الكلام ، كما يقال : أنا في واد وأنت في واد . وقيل : " في كل واد يهيمون " أي : على كل حرف من حروف الهجاء يصوغون القوافي .
( وأنهم يقولون ما لا يفعلون ( 226 ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ( 227 ) )
( وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) أي : يكذبون في شعرهم ، يقولون : فعلنا وفعلنا ، وهم كذبة . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة عن الأعمش ، عن ذكوان ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا ، خير له من أن يمتلئ شعرا " ثم استثنى شعراء المسلمين الذين كانوا يجيبون شعراء الجاهلية ، ويهجون شعراء الكفار ، وينافحون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، منهم حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، فقال : ( ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل " . [ ص: 137 ]
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أخبرنا الهيثم بن كليب ، أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا جعفر بن سليمان ، حدثنا ثابت ، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه ويقول :
خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر : يا ابن رواحة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي حرم الله تقول الشعر ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " خل عنه يا عمر ، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل " أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا شعبة ، أخبرني عدي أنه سمع البراء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان : " اهجهم أو هاجهم وجبريل معك " .
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي ، أخبرنا الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري وعلي بن حجر - المعنى واحد - قالا حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ينافح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله يؤيد حسان بروح القدس ، ما ينافح أو يفاخر عن رسول الله " . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغفار بن محمد ، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث ، [ ص: 138 ] حدثني أبي عن جدي ، حدثنا خالد بن زيد ، حدثني سعيد بن أبي هلال عن عمارة بن غزية ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي عن سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " اهجوا قريشا فإنه أشد عليهم من رشق النبل " ، فأرسل إلى ابن رواحة فقال : " اهجهم " ، فهجاهم فلم يرض ، فأرسل إلى كعب بن مالك ، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت ، فلما دخل عليه قال حسان : قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه ، فجعل يحركه ، فقال : والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تعجل ، فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها ، وإن لي فيهم نسبا حتى يخلص لك نسبي " ، فأتاه حسان ثم رجع ، فقال : يا رسول الله قد خلص لي نسبك ، والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين . قالت عائشة : فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان : " إن روح القدس لا يزال يؤيدك ، ما نافحت عن الله ورسوله " ، وقالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " هجاهم حسان فشفى واشتفى " ، قال حسان :
هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت محمدا برا حنيفا رسول الله شيمته الوفاء
فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس له كفاء
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري ، أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن أن مروان بن الحكم أخبره أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبره أن أبي بن كعب أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن من الشعر لحكمة " قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : الشعر كلام ، فمنه حسن ، ومنه قبيح ، فخذ الحسن ودع القبيح وقال الشعبي : كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول الشعر ، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول الشعر ، وكان علي رضي الله تعالى عنه أشعر الثلاثة . [ ص: 139 ]
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشده; فروي أنه دعا عمر بن أبي ربيعة المخزومي فاستنشده القصيدة التي قالها فقال :
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر غداة غد أم رائح فمهجر
فأنشده ابن أبي ربيعة القصيدة إلى آخرها ، وهي قريبة من سبعين بيتا ، ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها ، وكان حفظها بمرة واحدة . ( وذكروا الله كثيرا ) أي : لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله ( وانتصروا من بعد ما ظلموا ) قال مقاتل : انتصروا من المشركين ، لأنهم بدءوا بالهجاء . ثم أوعد شعراء المشركين فقال : ( وسيعلم الذين ظلموا ) أشركوا وهجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أي منقلب ينقلبون ) أي مرجع يرجعون بعد الموت . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : إلى جهنم والسعير . والله أعلم .
سُورَةُ النَّمْلِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ( 1 ) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 2 ) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 3 ) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ( 4 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ( 5 ) )
( طس ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي حُرُوفِ الْهِجَاءِ . ) ( تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ ) أَيْ : هَذِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ ) ( وَكِتَابٌ مُبِينٌ ) أَيْ : وَآيَاتُ كِتَابٍ مُبِينٍ . ( هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) يَعْنِي : هُوَ هُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ ، وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ بِالْجَنَّةِ . ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) . ( إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ) الْقَبِيحَةَ حَتَّى رَأَوْهَا حَسَنَةً ( فَهُمْ يَعْمَهُونَ ) أَيْ : يَتَرَدَّدُونَ فِيهَا مُتَحَيِّرِينَ . ( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ ) شِدَّةُ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ بِبَدْرٍ ( وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ) لِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وَصَارُوا إِلَى النَّارِ .
[ ص: 144 ] ( وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ( 6 ) إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون ( 7 ) فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين ( 8 ) )
( وإنك لتلقى القرآن ) أي : تؤتى القرآن وتلقن ( من لدن حكيم عليم ) أي : وحيا من عند الله الحكيم العليم . قوله - عز وجل - : ( إذ قال موسى لأهله ) أي : واذكر يا محمد إذ قال موسى لأهله في مسيره من مدين إلى مصر : ( إني آنست نارا ) أي : أبصرت نارا . ( سآتيكم منها بخبر ) أي : امكثوا مكانكم ، سآتيكم بخبر عن الطريق ، وكان قد ترك الطريق ( أو آتيكم بشهاب قبس ) قرأ أهل الكوفة : " بشهاب " بالتنوين ، جعلوا القبس نعتا للشهاب ، وقرأ الآخرون بلا تنوين على الإضافة ، وهو إضافة الشيء إلى نفسه ، لأن الشهاب والقبس متقاربان في المعنى ، وهو العود الذي في أحد طرفيه نار ، وليس في الطرف الآخر نار . وقال بعضهم : الشهاب هو شيء ذو نور ، مثل العمود ، والعرب تسمي كل أبيض ذي نور شهابا ، والقبس : القطعة من النار ) ( لعلكم تصطلون ) تستدفئون من البرد ، وكان ذلك في شدة الشتاء . ( فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها ) أي : بورك على من في النار أو من في النار ، والعرب تقول : باركه الله وبارك فيه ، وبارك عليه ، بمعنى واحد . وقال قوم : البركة راجعة إلى موسى والملائكة ، معناه : بورك في من طلب النار ، وهو موسى عليه السلام ) ( ومن حولها ) وهم الملائكة الذين حول النار ، ومعناه : بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين حول النار ، وهذا تحية من عند الله - عز وجل - لموسى بالبركة ، كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت . ومذهب أكثر المفسرين أن المراد بالنار النور ، ذكر بلفظ النار لأن موسى حسبه نارا ، و " من في النار " هم الملائكة ، وذلك أن النور الذي رآه موسى كان فيه ملائكة لهم زجل بالتقديس والتسبيح ، [ ص: 145 ] و " من حولها " هو موسى لأنه كان بالقرب منها ، ولم يكن فيها . وقيل : " من في النار ومن حولها " جميعا الملائكة . وقيل : " من في النار " موسى و " من حولها " الملائكة ، وموسى وإن لم يكن في النار كان قريبا منها ، كما يقال : بلغ فلان المنزل ، إذا قرب منه ، وإن لم يبلغه بعد . وذهب بعضهم إلى أن البركة راجعة إلى النار . وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : معناه بوركت النار . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سمعت أبيا يقرأ : أن بوركت النار ومن حولها ، و " من " قد تأتي بمعنى ما ، كقوله تعالى : فمنهم من يمشي على بطنه ( النور - 45 ) ، و " ما " قد يكون صلة في الكلام ، كقوله " جند ما هنالك " ( ص - 11 ) ، ومعناه : بورك في النار وفيمن حولها ، وهم الملائكة وموسى عليهم السلام ، وسمى النار مباركة كما سمى البقعة مباركة فقال : " في البقعة المباركة " .
وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن في قوله : ( بورك من في النار ) يعني قدس من في النار ، وهو الله ، عنى به نفسه ، على معنى أنه نادى موسى منها وأسمعه كلامه من جهتها كما روي : أنه مكتوب في التوراة : " جاء الله من سيناء ، وأشرف من ساعين ، واستعلى من جبال فاران " فمجيئه من سيناء : بعثة موسى منها ، ومن ساعين بعثة المسيح منها ، ومن جبال فاران بعثة المصطفى منها ، وفاران مكة . قيل : كان ذلك نوره - عز وجل - . قال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها ، والنار إحدى حجب الله تعالى ، كما جاء في الحديث : " حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " ثم نزه الله نفسه وهو المنزه من كل سوء وعيب ، فقال جل ذكره . ( وسبحان الله رب العالمين )
( يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ( 9 ) )
ثم تعرف إلى موسى بصفاته ، فقال : ( يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ) والهاء في قوله ) ( إنه ) عماد ، وليس بكناية ، وقيل : هي [ ص: 146 ] كناية عن الأمر والشأن ، أي : الأمر والشأن ، أي : المعبود أنا
ابو وليد البحيرى
2022-06-29, 11:10 PM
الحلقة (317)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ النَّمْلِ
مَكِّيَّةٌ
الاية10 إلى الاية 21
( وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون ( 10 ) إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ( 11 ) )
ثم أرى موسى آية على قدرته ، فقال : ( وألق عصاك فلما رآها تهتز ) تتحرك ) ( كأنها جان ) وهي الحية الصغيرة التي يكثر اضطرابها ) ( ولى مدبرا ) هرب من الخوف ) ( ولم يعقب ) لم يرجع ، يقال : عقب فلان إذا رجع ، وكل راجع معقب . وقال قتادة : ولم يلتفت ، فقال الله - عز وجل - : ( يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون ) يريد إذا آمنتهم لا يخافون ، أما الخوف الذي هو شرط الإيمان فلا يفارقهم ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنا أخشاكم لله " . وقوله : ( إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ) واختلف في هذا الاستثناء ، قيل : هذا إشارة إلى أن موسى حين قتل القبطي خاف من ذلك ، ثم تاب فقال : رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ، فغفر له . قال ابن جريج : قال الله تعالى لموسى : إنما أخفتك لقتلك النفس . وقال : معنى الآية : لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم ، فإن أصابه أخافه حتى يتوب ، فعلى هذا التأويل يكون الاستثناء صحيحا وتناهى الخبر عن الرسل عند قوله : ) ( إلا من ظلم ) ثم ابتدأ الخبر عن حال من ظلم من الناس كافة . وفي الآية متروك استغني عن ذكره بدلالة الكلام عليه ، تقديره : فمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم .
وقال بعض العلماء : ليس هذا باستثناء من المرسلين لأنه لا يجوز عليهم الظلم ، بل هو استثناء من المتروك في الكلام ، معناه : لا يخاف لدي المرسلون ، إنما الخوف على غيرهم من الظالمين ، إلا من ظلم ثم تاب ، وهذا من الاستثناء المنقطع ، معناه لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف ، فإن تاب وبدل حسنا بعد سوء فإن الله غفور رحيم ، يعني يغفر الله له ويزيل الخوف عنه . [ ص: 147 ]
وقال بعض النحويين : " إلا " هاهنا بمعنى : " ولا " يعني : لا يخاف لدي المرسلون ولا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء ، يقول : لا يخاف لدي المرسلون ولا المذنبون التائبون ، كقوله تعالى : " لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " ( البقرة - 150 ) ، يعني : ولا الذين ظلموا
( وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين ( 12 ) فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين ( 13 ) ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ( 14 ) ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ( 15 ) )
ثم أراه الله آية أخرى فقال : ( وأدخل يدك في جيبك ) والجيب حيث جيب من القميص ، أي : قطع ، قال أهل التفسير : كانت عليه مدرعة من صوف لا كم لها ولا أزرار ، فأدخل يده في جيبه وأخرجها ، فإذا هي تبرق مثل البرق ، فذلك قوله : ( تخرج بيضاء من غير سوء ) من غير برص ) ( في تسع آيات ) يقول هذه آية مع تسع آيات أنت مرسل بهن ( إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة ) بينة واضحة يبصر بها ( قالوا هذا سحر مبين ) ظاهر . ) ( وجحدوا بها ) أي : أنكروا الآيات ولم يقروا أنها من عند الله ) ( واستيقنتها أنفسهم ) أي : علموا أنها من عند الله ، قوله : ( ظلما وعلوا ) أي : شركا وتكبرا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى ( فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) قوله - عز وجل - : ( ولقد آتينا داود وسليمان علما ) أي : علم القضاء ومنطق الطير والدواب وتسخير الشياطين وتسبيح الجبال ( وقالا الحمد لله الذي فضلنا ) بالنبوة والكتاب وتسخير الشياطين والجن والإنس ( على كثير من عباده المؤمنين )
[ ص: 148 ] ) ( وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ( 16 ) )
( وورث سليمان داود ) نبوته وعلمه وملكه دون سائر أولاده وكان لداود تسعة عشر ابنا ، وأعطي سليمان ما أعطي داود من الملك ، وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين . قال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبدا من سليمان ، وكان سليمان شاكرا لنعم الله تعالى .
( وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير ) سمى صوت الطير منطقا لحصول الفهم منه ، كما يفهم من كلام الناس . روي عن كعب قال صاح ورشان عند سليمان عليه السلام ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : إنه يقول لدوا للموت وابنوا للخراب ، وصاحت فاختة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا قال : إنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح طاوس ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : كما تدين تدان ، وصاح هدهد ، فقال : أتدرون ما يقول هذا ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : من لا يرحم لا يرحم ، وصاح صرد ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، قال : وصاحت طوطى ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا قال : فإنها تقول : كل حي ميت وكل حديد بال ، وصاح خطاف ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : قدموا خيرا تجدوه ، وهدرت حمامة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا قال : فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه ، وصاح قمري ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : سبحان ربي الأعلى ، قال : والغراب يدعو على العشار ، والحدأة تقول : كل شيء هالك إلا الله ، والقطاة تقول : من سكت سلم ، والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه ، والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس ، والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده ، والضفدعة تقول : سبحان المذكور بكل لسان . وعن مكحول قال : صاح دراج عند سليمان ، فقال : هل تدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : الرحمن على العرش استوى . [ ص: 149 ]
وعن فرقد السبخي قال مر سليمان على بلبل فوق شجر يحرك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ فقالوا الله ونبيه أعلم ، قال يقول : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء . وروي أن جماعة من اليهود قالوا لابن عباس : إنا سائلوك عن سبعة أشياء فإن أخبرتنا آمنا وصدقنا ، قال : سلوا تفقها ولا تسألوا تعنتا ، قالوا : أخبرنا ما يقول القنبر في صفيره ، والديك في صقيعه ، والضفدع في نقيقه ، والحمار في نهيقه ، والفرس في صهيله ، وماذا يقول الزرزور والدراج ؟ قال : نعم ، أما القنبر فيقول : اللهم العن مبغضي محمد وآل محمد ، وأما الديك فيقول : اذكروا الله يا غافلين ، وأما الضفدع فيقول : سبحان المعبود في لجج البحار ، وأما الحمار فيقول : اللهم العن العشار ، وأما الفرس فيقول : إذا التقى الصفان سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، وأما الزرزور فيقول : اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رازق ، وأما الدراج فيقول : الرحمن على العرش استوى ، قال : فأسلم اليهود وحسن إسلامهم .
وروي عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي قال : إذا صاح النسر قال : يا ابن آدم ، عش ما شئت آخره الموت ، وإذا صاح العقاب قال : في البعد من الناس أنس ، وإذا صاح القنبر قال : إلهي العن مبغضي آل محمد ، وإذا صاح الخطاف ، قرأ : الحمد لله رب العالمين ، ويمد الضالين كما يمد القارئ . قوله تعالى : ( وأوتينا من كل شيء ) يؤتى الأنبياء والملوك ، قال ابن عباس : من أمر الدنيا والآخرة . وقال مقاتل : يعني النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والرياح ( إن هذا لهو الفضل المبين ) الزيادة الظاهرة على ما أعطى غيرنا . وروى أن سليمان عليه السلام أعطي مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر ، ملك جميع أهل الدنيا من الجن والإنس والدواب والطير والسباع وأعطي على ذلك منطق كل شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة .
( وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون ( 17 ) )
قوله - عز وجل - : ( وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير ) في مسيره له ) ( فهم يوزعون ) فهم يكفون . قال قتادة : كان على كل صف من جنوده وزعة ترد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير ، والوازع الحابس ، وهو النقيب . وقال مقاتل : يوزعون يساقون ، [ ص: 150 ] وقال السدي : يوقفون . وقيل : يجمعون . وأصل الوزع الكف والمنع . قال محمد بن كعب القرظي : كان معسكر سليمان مائة فرسخ ، خمسة وعشرون منها للإنس ، وخمسة وعشرون للجن ، وخمسة وعشرون للوحش ، وخمسة وعشرون للطير ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب ، فيها ثلاثمائة صريحة وسبعمائة سرية فيأمر الريح العاصف فترفعه ، ويأمر الرخاء فتسير به ، وأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض : إني قد زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح ، فأخبرتك .
( حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ( 18 ) )
قوله - عز وجل - : ( حتى إذا أتوا على وادي النمل ) روي عن وهب بن منبه عن كعب قال : كان سليمان إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه ، وقد اتخذ مطابخ ومخابز يحمل فيها تنانير الحديد وقدور عظام ، يسع كل قدر عشر جزائر وقد اتخذ ميادين للدواب أمامه ، فيطبخ الطباخون ، ويخبز الخبازون ، وتجري الدواب بين يديه بين السماء والأرض ، والريح تهوي بهم ، فسار من اصطخر إلى اليمن فسلك مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال سليمان : هذه دار هجرة نبي في آخر الزمان ، طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه ، ورأى حول البيت أصناما تعبد من دون الله فلما جاوز سليمان البيت بكى البيت ، فأوحى الله إلى البيت ما يبكيك ؟ فقال : يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك وقوم من أوليائك مروا علي فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي ، والأصنام تعبد حولي من دونك فأوحى الله إليه أن لا تبك ، فإني سوف أملؤك وجوها سجدا ، وأنزل فيك قرآنا جديدا وأبعث منك نبيا في آخر الزمان أحب أنبيائي إلي ، وأجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني ، وأفرض على عبادي فريضة يذفون إليك ذفيف النسور إلى وكرها ، ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضتها ، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشياطين ثم مضى سليمان حتى مر بوادي السدير واد من الطائف ، فأتى على وادي النمل ، هكذا قال كعب : إنه واد بالطائف . وقال قتادة ومقاتل : هو أرض بالشام . وقيل : واد كان يسكنه الجن ، وأولئك النمل مراكبهم [ ص: 151 ]
وقال نوف الحميري : كان نمل ذلك الوادي أمثال الذباب . وقيل : كالبخاتي . والمشهور : أنه النمل الصغير . وقال الشعبي : كانت تلك النملة ذات جناحين . وقيل : كانت نملة عرجاء فنادت : ( قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ) ولم تقل : ادخلن ، لأنه لما جعل لهم قولا كالآدميين خوطبوا بخطاب الآدميين ) ( لا يحطمنكم ) لا يكسرنكم ) ( سليمان وجنوده ) والحطم الكسر ) ( وهم لا يشعرون ) فسمع سليمان قولها ، وكان لا يتكلم خلق إلا حملت الريح ذلك فألقته في مسامع سليمان . قال مقاتل : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال . قال الضحاك : كان اسم تلك النملة طاحية ، قال مقاتل : كان اسمها جرمى . فإن قيل : كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض ؟ قيل : كان جنوده ركبانا وفيهم مشاة على الأرض تطوى لهم . وقيل : يحتمل أن يكون هذا قبل تسخير الله الريح لسليمان . قال أهل التفسير : علم النمل أن سليمان نبي ليس فيه جبرية ولا ظلم . ومعنى الآية : أنكم لو لم تدخلوا مساكنكم وطؤوكم ولم يشعروا بكم . ويروى أن سليمان لما بلغ وادي النمل حبس جنوده حتى دخل النمل بيوتهم .
( فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ( 19 ) )
قوله - عز وجل - : ( فتبسم ضاحكا من قولها ) قال الزجاج : أكثر ضحك الأنبياء التبسم . وقوله ) ( ضاحكا ) أي : متبسما . قيل : كان أوله التبسم وآخره الضحك . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن سليمان ، حدثني ابن وهب ، أخبرنا عمرو ، هو ابن الحارث ، أخبرنا النضر ، [ ص: 152 ] حدثه عن سليمان بن يسار ، عن عائشة قالت : ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته ، إنما كان يتبسم . أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي ، أخبرنا الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن المغيرة عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال : ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال مقاتل : كان ضحك سليمان من قول النملة تعجبا ، لأن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجب وضحك ، ثم حمد سليمان ربه على ما أنعم عليه . ( وقال رب أوزعني ) ألهمني ( أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) أي : أدخلني في جملتهم ، وأثبت اسمى مع أسمائهم واحشرني في زمرتهم ، قال ابن عباس : يريد مع إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ومن بعدهم من النبيين . وقيل : أدخلني الجنة برحمتك من عبادك الصالحين .
( وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ( 20 ) )
قوله - عز وجل - : ) ( وتفقد الطير ) أي : طلبها وبحث عنها ، والتفقد : طلب ما فقد ، ومعنى الآية : طلب ما فقد من الطير ( فقال ما لي لا أرى الهدهد ) أي : ما للهدهد لا أراه ؟ . تقول العرب : ما لي أراك كئيبا ؟ أي : مالك ؟ والهدهد : طائر معروف . وكان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه ، قيل : إخلاله بالنوبة ، وذلك أن سليمان كان إذا نزل منزلا يظله وجنده الطير من الشمس ، فأصابته الشمس من موضع الهدهد ، فنظر فرآه خاليا .
وروي عن ابن عباس : أن الهدهد كان دليل سليمان على الماء وكان يعرف موضع الماء ويرى الماء تحت الأرض ، كما يرى في الزجاجة ، ويعرف قربه وبعده فينقر الأرض ، ثم تجيء الشياطين فيسلخونه ويستخرجون الماء . قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق : يا وصاف انظر ما تقول ، إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب ، فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه ، [ ص: 153 ] فقال له ابن عباس : ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر . وفي رواية : إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر . فنزل سليمان منزلا فاحتاج إلى الماء فطلبوا فلم يجدوا ، فتفقد الهدهد ليدل على الماء ، فقال : ما لي لا أرى الهدهد ، على تقرير أنه مع جنوده ، وهو لا يراه ، ثم أدركه الشك في غيبته ، فقال : ( أم كان من الغائبين ) يعني أكان من الغائبين ؟ والميم صلة ، وقيل : " أم " بمعنى " بل " ، ثم أوعده على غيبته ، فقال : ( لأعذبنه عذابا شديدا )
( لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ( 21 ) )
( لأعذبنه عذابا شديدا ) واختلفوا في العذاب الذي أوعده به ، فأظهر الأقاويل أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطا ، لا يمتنع من النمل ولا من هوام الأرض . وقال مقاتل وابن حيان : لأطلينه بالقطران ولأشمسنه . وقيل : لأودعنه القفص . وقيل : لأفرقن بينه وبين إلفه . وقيل : لأحبسنه مع ضده . ) ( أو لأذبحنه ) لأقطعن حلقه ( أو ليأتيني بسلطان مبين ) بحجة بينة في غيبته ، وعذر ظاهر ، قرأ ابن كثير : " ليأتينني " بنونين ، الأولى مشددة ، وقرأ الآخرون بنون واحدة مشددة .
وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم ، فتجهز للمسير ، واستصحب من الجن والإنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ معسكره مائة فرسخ ، فحملهم الريح ، فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم ، وكان ينحر كل يوم بمقامه بمكة خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة وقال لمن حضره من أشراف قومه : إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا ، يعطى النصر على جميع من ناوأه ، وتبلغ هيبته مسيرة شهر ، القريب والبعيد عنده في الحق سواء ، لا تأخذه في الله لومة لائم . قالوا فبأي دين يدين يا نبي الله ؟ قال : يدين بدين الحنيفية ، فطوبى لمن أدركه وآمن به ، فقالوا : كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله ؟ قال مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب ، فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل ، قال : فأقام بمكة حتى قضى نسكه ، ثم خرج من مكة صباحا ، وسار نحو اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال ، وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها فأحب [ ص: 154 ] النزول بها ليصلي ويتغدى ، فلما نزل قال الهدهد : إن سليمان قد اشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها ، ففعل ذلك ، فنظر يمينا وشمالا فرأى بستانا لبلقيس ، فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه ، وكان اسم هدهد سليمان " يعفور " واسم هدهد اليمن " عنفير " ، فقال عنفير اليمن ليعفور سليمان : من أين أقبلت وأين تريد ؟ قال : أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود . فقال : ومن سليمان ؟ قال ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والرياح ، فمن أين أنت ؟ قال : أنا من هذه البلاد ، قال : ومن ملكها ؟ قال : امرأة يقال لها بلقيس ، وإن لصاحبكم ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه ، فإنها ملكة اليمن كلها ، وتحت يدها اثنا عشر ألف قائد ، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل ، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها ؟ قال : أخاف أن يتفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء ، قال الهدهد اليماني : إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة ، فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها ، وما رجع إلى سليمان إلا في وقت العصر . قال : فلما نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة وكان نزل على غير ماء ، فسأل الإنس والجن والشياطين عن الماء فلم يعلموا ، فتفقد الطير ، ففقد الهدهد ، فدعا عريف الطير - وهو النسر - فسأله عن الهدهد ، فقال : أصلح الله الملك ، ما أدري أين هو ، وما أرسلته مكانا ، فغضب عند ذلك سليمان ، وقال : ) ( لأعذبنه عذابا شديدا ) الآية . ثم دعا العقاب سيد الطير فقال : علي بالهدهد الساعة ، فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ثم التفت يمينا وشمالا فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن ، فانقض العقاب نحوه يريده ، فلما رأى الهدهد ذلك علم أن العقاب يقصده بسوء فناشده ، فقال : بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا رحمتني ولم تتعرض لي بسوء ، قال : فولى عنه العقاب ، وقال له : ويلك ثكلتك أمك ، إن نبي الله قد حلف أن يعذبك أو يذبحك ، ثم طارا متوجهين نحو سليمان ، فلما انتهيا إلى المعسكر تلقاه النسر والطير ، فقالوا له : ويلك أين غبت في يومك هذا ؟ ولقد توعدك نبي الله ، وأخبراه بما قال ، فقال الهدهد : أوما استثنى رسول الله ؟ قالوا : بلى ، قال : " أو ليأتيني بسلطان مبين " ، قال : فنجوت إذا ، ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه ، فقال العقاب قد أتيتك به يا نبي الله ، فلما قرب الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان ، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه وقال : أين كنت ؟ لأعذبنك عذابا شديدا ، فقال الهدهد : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى ، فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه ، ثم سأله فقال : ما الذي أبطأ بك عني ؟ فقال الهدهد ما أخبر الله عنه في قوله : ) ( فمكث غير بعيد )
ابو وليد البحيرى
2022-06-29, 11:14 PM
الحلقة (318)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ النَّمْلِ
مَكِّيَّةٌ
الاية22 إلى الاية 37
( فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين ( 22 ) ( إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ( 23 ) )
( فمكث غير بعيد ) قرأ عاصم ويعقوب : ) ( فمكث ) بفتح الكاف ، وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان ) ( غير بعيد ) أي : غير طويل ( فقال أحطت بما لم تحط به ) والإحاطة : العلم بالشيء من جميع جهاته ، يقول : علمت ما لم تعلم ، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك ) ( وجئتك من سبإ ) قرأ أبو عمرو ، والبزي عن ابن كثير من " سبأ " و " لسبأ " في سورة سبأ ، مفتوحة الهمزة ، وقرأ القواص عن ابن كثير ساكنة بلا همزة ، وقرأ الآخرون بالإجراء ، فمن لم يجره جعله اسم البلد ، ومن أجراه جعله اسم رجل ، فقد جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن سبأ فقال : " كان رجلا له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة " . ) ( بنبإ ) بخبر ) ( يقين ) فقال سليمان : وما ذاك ؟ قال : ) ( إني وجدت امرأة تملكهم ) ( إني وجدت امرأة تملكهم ) وكان اسمها بلقيس بنت شراحيل ، من نسل يعرب بن قحطان ، وكان أبوها ملكا عظيم الشأن ، قد ولد له أربعون ملكا هو آخرهم ، وكان يملك أرض اليمن كلها ، وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤا لي ، وأبى أن يتزوج فيهم ، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن ، فولدت له بلقيس ، ولم يكن له ولد غيرها ، وجاء في الحديث : إن إحدى أبوي بلقيس كان جنيا . فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك فطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها قوم آخرون ، فملكوا عليهم رجلا وافترقوا فرقتين ، كل فرقة استولت على طرف من أرض اليمن ، ثم إن الرجل الذي ملكوه أساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ويفجر بهن ، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه ، فلما رأت ذلك بلقيس [ ص: 156 ] أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه ، فأجابها الملك ، وقال : ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك ، فقالت لا أرغب عنك ، كفؤ كريم ، فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم ، فجمعهم وخطبها إليهم ، فقالوا : لا نراها تفعل هذا ، فقال لهم : إنها ابتدأتني فأنا أحب أن تسمعوا قولها فجاؤوها ، فذكروا لها ، فقالت : نعم أحببت الولد . فزوجوها منه ، فلما زفت إليه خرجت في أناس كثير من حشمها ، فلما جاءته سقته الخمر حتى سكر ، ثم جزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها ، فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلا ورأسه منصوب على باب دارها ، فعلموا أن تلك المناكحة كانت مكرا وخديعة منها ، فاجتمعوا إليها وقالوا : أنت بهذا الملك أحق من غيرك ، فملكوها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عثمان بن الهيثم ، أخبرنا عوف ، عن الحسن ، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " . قوله تعالى : ) ( وأوتيت من كل شيء ) يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدة ) ( ولها عرش عظيم ) سرير ضخم كان مضروبا من الذهب مكللا بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ، وقوائمه من الياقوت والزمرد ، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق . قال ابن عباس : كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعا في ثلاثين ذراعا : وطوله في السماء ثلاثون ذراعا . وقال مقاتل : كان طوله ثمانين ذراعا وطوله في السماء ثمانين ذراعا . وقيل : كان طوله ثمانين ذراعا وعرضه أربعين ذراعا وارتفاعه ثلاثين ذراعا .
( وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ( 24 ) ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون ( 25 ) الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ( 26 ) قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ( 27 ) [ ص: 157 ]
) ( ألا يسجدوا ) قرأ أبو جعفر والكسائي : " ألا يسجدوا " بالتخفيف ، وإذا وقفوا يقفون " ألا يا " : ألا يا ثم يبتدئون : " اسجدوا " ، على معنى : ألا يا هؤلاء اسجدوا ، وجعلوه أمرا من عند الله مستأنفا ، وحذفوا هؤلاء اكتفاء بدلالة " يا " عليها ، وذكر بعضهم سماعا من العرب : ألا يا ارحمونا ، يريدون ألا يا قوم ، وقال الأخطل :
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بكر وإن كان حيانا عدا آخر الدهر
يريد : ألا يا اسلمي يا هند ، وعلى هذا يكون قوله " ألا " كلاما معترضا من غير القصة ، إما من الهدهد ، وإما من سليمان . قال أبو عبيدة : هذا أمر من الله مستأنف يعني : يا أيها الناس اسجدوا . وقرأ الآخرون : " ألا يسجدوا " بالتشديد ، بمعنى : وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا ( لله الذي يخرج الخبء ) أي : الخفي المخبأ ) ( في السماوات والأرض ) أي : ما خبأت . قال أكثر المفسرين : خبء السماء : المطر ، وخبء الأرض : النبات . وفي قراءة عبد الله : " يخرج الخبء من السماوات والأرض " ، و " من " و " في " يتعاقبان ، تقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم ، يريد : منكم . وقيل : معنى " الخبء " الغيب ، يريد : يعلم غيب السماوات والأرض . ( ويعلم ما تخفون وما تعلنون ) قرأ الكسائي ، وحفص ، عن عاصم : بالتاء فيهما ، لأن أول الآية خطاب على قراءة الكسائي بتخفيف ألا وقرأ الآخرون بالياء . ( الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ) أي : هو المستحق للعبادة والسجود لا غيره . وعرش ملكة سبأ وإن كان عظيما فهو صغير حقير في جنب عرشه - عز وجل - ، تم هاهنا كلام الهدهد ، فلما فرغ الهدهد من كلامه . ) ( قال ) سليمان للهدهد : ) ( سننظر أصدقت ) فيما أخبرت ) ( أم كنت من الكاذبين ) ؟ فدلهم الهدهد على الماء ، فاحتفروا الركايا وروي الناس والدواب ، ثم كتب سليمان كتابا : من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : بسم الله الرحمن الرحيم ، السلام على من اتبع الهدى ، [ ص: 158 ] أما بعد : فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين . قال ابن جريج لم يزد سليمان على ما قص الله في كتابه . وقال قتادة : وكذلك الأنبياء كانت تكتب جملا لا يطيلون ولا يكثرون . فلما كتب الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه . فقال للهدهد ( اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم )
( اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون ( 28 ) قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ( 29 ) )
( اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ) قرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة : ساكنة الهاء ، ويختلسها أبو جعفر ، ويعقوب وقالون كسرا ، والآخرون بالإشباع كسرا ) ( ثم تول عنهم ) تنح عنهم فكن قريبا منهم ) ( فانظر ماذا يرجعون ) يردون من الجواب . وقال ابن زيد : في الآية تقديم وتأخير مجازها : اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ، ثم تول عنهم ، أي : انصرف إلي ، فأخذ الهدهد الكتاب فأتى به إلى بلقيس ، وكانت بأرض يقال لها " مأرب " من صنعاء على ثلاثة أيام ، فوافاها في قصرها وقد غلقت الأبواب ، وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها ، فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها ، فألقى الكتاب على نحرها ، هذا قول قتادة . وقال مقاتل : حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه ، حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها .
وقال ابن منبه ، وابن زيد : كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع ، فإذا نظرت إليها سجدت لها ، فجاء الهدهد الكوة فسدها بجناحيه فارتفعت الشمس ولم تعلم ، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر ، فرمى بالصحيفة إليها ، فأخذت بلقيس الكتاب ، وكانت قارئة ، فلما رأت الخاتم أرعدت وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه ، وعرفت أن الذي أرسل الكتاب إليها أعظم ملكا منها ، فقرأت الكتاب ، وتأخر الهدهد غير بعيد ، فجاءت حتى قعدت على سرير مملكتها وجمعت الملأ من قومها ، وهم اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد مائة ألف مقاتل . وعن ابن عباس قال : كان مع بلقيس مائة ألف قيل ، مع كل قيل مائة ألف والقيل الملك دون الملك الأعظم ، وقال قتادة ومقاتل : كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة آلاف ، قال : فجاءوا وأخذوا مجالسهم . ) ( قالت ) لهم بلقيس : ) ( يا أيها الملأ ) وهم أشراف الناس وكبراؤهم ( إني ألقي إلي كتاب كريم ) [ ص: 159 ] قال عطاء والضحاك : سمته كريما لأنه كان مختوما . وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كرامة الكتاب ختمه " وقال قتادة ومقاتل : " كتاب كريم " أي : حسن ، وهو اختيار الزجاج ، وقال : حسن ما فيه ، وروي عن ابن عباس : " كريم " ، أي : شريف لشرف صاحبه ، وقيل : سمته كريما لأنه كان مصدرا ببسم الله الرحمن الرحيم ثم بينت ممن الكتاب فقالت : ) ( إنه من سليمان )
( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ( 30 ) ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ( 31 ) قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ( 32 ) قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ( 33 ) قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ( 34 ) )
( إنه من سليمان ) وبينت المكتوب فقالت : ( وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) ( ألا تعلوا علي ) قال ابن عباس : أي : لا تتكبروا علي . وقيل : لا تتعظموا ولا تترفعوا علي . معناه : لا تمتنعوا من الإجابة ، فإن ترك الإجابة من العلو والتكبر ) ( وأتوني مسلمين ) مؤمنين طائعين . قيل : هو من الإسلام ، وقيل : هو من الاستسلام . ( قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ) أشيروا علي فيما عرض لي ، وأجيبوني فيما أشاوركم فيه ) ( ما كنت قاطعة ) قاضية وفاصلة ) ( أمرا حتى تشهدون ) أي : تحضرون . ) ( قالوا ) مجيبين لها : ) ( نحن أولو قوة ) في القتال ) ( وأولو بأس شديد ) عند الحرب ، قال مقاتل : أرادوا بالقوة كثرة العدد ، وبالبأس الشديد الشجاعة ، وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك ، ثم قالوا : ) ( والأمر إليك ) أيتها الملكة في القتال وتركه ) ( فانظري ) من الرأي ) ( ماذا تأمرين ) تجدينا لأمرك مطيعين . ) ( قالت ) بلقيس مجيبة لهم عن التعريض للقتال : ( إن الملوك إذا دخلوا قرية ) عنوة ، [ ص: 160 ] ) ( أفسدوها ) خربوها ( وجعلوا أعزة أهلها أذلة ) أي : أهانوا أشرافها وكبراءها ، كي يستقيم لهم الأمر ، تحذرهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم ، وتناهى الخبر عنها هاهنا ، فصدق الله قولها فقال : ) ( وكذلك يفعلون ) أي : كما قالت هي يفعلون .
( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ( 35 ) )
ثم قالت : ( وإني مرسلة إليهم بهدية ) والهدية هي : العطية على طريق الملاطفة . وذلك أن بلقيس كانت امرأة لبيبة قد سيست وساست ، فقالت للملأ من قومها : إني مرسلة إليهم ، أي : إلى سليمان وقومه ، بهدية أصانعه بها عن ملكي وأختبره بها أملك هو أم نبي ؟ فإن يكن ملكا قبل الهدية وانصرف ، وإن كان نبيا لم يقبل الهدية ولم يرضه منا إلا أن نتبعه على دينه ، فذلك قوله تعالى : ( فناظرة بم يرجع المرسلون ) فأهدت إليه وصفاء ووصائف ، قال ابن عباس ألبستهم لباسا واحدا كي لا يعرف ذكر من أنثى . وقال مجاهد : ألبس الغلمان لباس الجواري وألبس الجواري لباس الغلمان . واختلفوا في عددهم ، فقال ابن عباس : مائة وصيف ومائة وصيفة وقال مجاهد : ومقاتل مائتا غلام ومائتا جارية .
وقال قتادة ، وسعيد بن جبير : أرسلت إليه بلبنة من ذهب في حرير وديباج . وقال ثابت البناني : أهدت إليه صفائح من الذهب في أوعية الديباج . وقيل : كانت أربع لبنات من ذهب . وقال وهب وغيره : عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية ، فألبست الغلمان لباس الجواري ، وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب ، وفي أعناقهم أطواقا من ذهب وفي آذانهم أقراطا وشنوفا مرصعات بأنواع الجواهر ، وألبست الجواري لباس الغلمان; الأقبية والمناطق ، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برذون ، على كل فرس لجام من ذهب مرصع بالجواهر وغواشيها من الديباج الملون ، وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة ، [ ص: 161 ] وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع ، وأرسلت إليه المسك والعنبر والعود الألنجوج ، وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معوجة الثقب ، ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو ، وضمت إليه ، رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل ، وكتبت معه كتابا بنسخة الهدية ، وقالت فيه : إن كنت نبيا فميز بين الوصائف والوصفاء ، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها ، واثقب الدر ثقبا مستويا ، وأدخل خيطا في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جن . وأمرت بلقيس الغلمان ، فقالت : إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء ، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال .
ثم قالت للرسول : انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك ولا يهولنك منظره ، فإنا أعز منه ، وإن رأيت الرجل بشاشا لطيفا فاعلم أنه نبي مرسل فتفهم قوله ، ورد الجواب . فانطلق الرسول بالهدايا ، وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان فأخبره الخبر كله ، فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا ، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميدانا واحدا بلبنات الذهب والفضة ، وأن يجعلوا حول الميدان حائطا ، شرفها من الذهب والفضة ، ثم قال : أي الدواب أحسن مما رأيتم في البر والبحر ؟ قالوا : يا نبي الله إنا رأينا دوابا في بحر كذا وكذا منطقة مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص ، فقال : علي بها الساعة ، فأتوا بها ، فقال : شدوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة ، وألقوا لها علوفتها فيها ، ثم قال للجن : علي بأولادكم ، فاجتمع خلق كثير ، فأقامهم على يمين الميدان ويساره ، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ، ووضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره ، وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفا فراسخ ، وأمر الإنس فاصطفوا فراسخ وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير ، فاصطفوا فراسخ عن يمينه وعن يساره . فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لبن الذهب والفضة ، تقاصرت أنفسهم ورموا بما معهم من الهدايا ، وفي بعض الروايات أن سليمان لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر موضع اللبنات التي معهم ، فلما رأى الرسل موضع اللبنات خاليا وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان ، فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر عجيب ، ففزعوا ، فقالت لهم الشياطين : جوزوا فلا بأس عليكم ، فكانوا [ ص: 162 ] يمرون على كردوس كردوس من الجن والإنس والطير والهوام والسباع والوحوش ، حتى وقفوا بين يدي سليمان ، فنظر إليهم سليمان نظرا حسنا بوجه طلق ، وقال : ما وراءكم ؟ فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا له ، وأعطاه كتاب الملكة ، فنظر فيه ، ثم قال : أين الحقة ؟ فأتى بها فحركها ، وجاء جبريل فأخبره بما في الحقة ، فقال : إن فيها درة ثمينة غير مثقوبة ، وجزعة مثقوبة معوجة الثقب ، فقال الرسول : صدقت ، فاثقب الدرة ، وأدخل الخيط في الخرزة ، فقال سليمان : من لي بثقبها فسأل سليمان الإنس ثم الجن ، فلم يكن عندهم علم ذلك ، ثم سأل الشياطين ، فقالوا : نرسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر ، فقال لها سليمان : ما حاجتك ؟ فقالت : تصير رزقي في الشجرة ، فقال لك ذلك .
وروي أنه جاءت دودة تكون في الصفصاف فقالت : أنا أدخل الخيط في الثقب على أن يكون رزقي في الصفصاف ، فجعل لها ذلك ، فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب وخرجت من الجانب الآخر . ثم قال : من لهذه الخرزة فيسلكها في الخيط ؟ فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر ، فقال سليمان : ما حاجتك ؟ فقالت : تجعل رزقي في الفواكه ، قال : لك ذلك ، ثم ميز بين الجواري والغلمان ، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم ، فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه ، والغلام كما يأخذه من الآنية يضرب به وجهه ، وكانت الجارية تصب الماء على بطن ساعدها ، والغلام على ظهر الساعد ، وكانت الجارية تصب الماء صبا وكان الغلام يحدر الماء على يديه حدرا ، فميز بينهم بذلك ، ثم رد سليمان الهدية ، كما قال الله تعالى : ( فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال )
( فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ( 36 ) )
( فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال ) قرأ حمزة ، ويعقوب : " أتمدوني " بنون واحدة مشددة وإثبات الياء ، وقرأ الآخرون : بنونين خفيفين ، ويثبت الياء أهل الحجاز والبصرة ، والآخرون يحذفونها ) ( فما آتاني الله ) أعطاني الله من النبوة والدين والحكمة والملك ) ( خير ) أفضل ( مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ) لأنكم أهل مفاخرة في الدنيا ومكاثرة بها ، تفرحون بإهداء بعضكم لبعض ، فأما أنا فلا أفرح بها ، وليست الدنيا من حاجتي ، لأن الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحدا ، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة ، ثم قال للمنذر بن عمرو وأمير الوفد : ) ( ارجع إليهم )
[ ص: 163 ] ) ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ( 37 ) قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ( 38 ) )
( ارجع إليهم ) بالهدية ( فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم ) لا طاقة لهم ) ( بها ولنخرجنهم منها ) أي : من أرضهم وبلادهم وهي سبأ ) ( أذلة وهم صاغرون ) ذليلون إن لم يأتوني مسلمين . قال وهب وغيره من أهل الكتب : فلما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان ، قالت : قد عرفت - والله - ما هذا بملك وما لنا به طاقة ، فبعثت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض في آخر قصر من سبعة قصور لها ، ثم أغلقت دونه الأبواب ، ووكلت به حراسا يحفظونه ، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها : احتفظ بما قبلك وسرير ملكي ، لا يخلص إليه أحد ولا يرينه حتى آتيك ، ثم أمرت مناديا ينادي في أهل مملكتها يؤذنهم بالرحيل ، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن ، تحت يدي كل قيل ألوف كثيرة . قال ابن عباس : وكان سليمان رجلا مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه ، فخرج يوما فجلس على سرير ملكه ، فرأى رهجا قريبا منه ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : بلقيس وقد نزلت منا بهذا المكان ، وكان على مسيرة فرسخ من سليمان ، قال ابن عباس : وكان بين الكوفة والحيرة قدر فرسخ ، فأقبل سليمان حينئذ على جنوده . ( قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ) أي : مؤمنين ، وقال ابن عباس : طائعين . واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها ، فقال أكثرهم : لأن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها ، فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها . وقيل : ليريها قدرة الله - عز وجل - وعظم سلطانه في معجزة يأتي بها في عرشها . [ ص: 164 ]
وقال قتادة : لأنه أعجبته صفته لما وصفه الهدهد ، فأحب أن يراه . قال ابن زيد : أراد أن يأمر بتنكيره وتغييره ليختبر بذلك عقلها .
ابو وليد البحيرى
2022-06-29, 11:18 PM
الحلقة (319)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ النَّمْلِ
مَكِّيَّةٌ
الاية38 إلى الاية 59
( قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين ( 39 ) قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ( 40 ) )
( قال عفريت من الجن ) وهو المارد القوي ، قال وهب : اسمه كوذى وقيل : ذكوان ، قال ابن عباس : العفريت الداهية . وقال الضحاك : هو الخبيث . وقال الربيع : الغليظ ، قال الفراء : القوي الشديد ، وقيل : هو صخرة الجني ، وكان بمنزلة جبل يضع قدمه عند منتهى طرفه ( أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ) أي : من مجلسك الذي تقضي فيه ، قال ابن عباس : وكان له كل غداة مجلس يقضي فيه إلى منتهى النهار ) ( وإني عليه ) أي : على حمله ) ( لقوي أمين ) على ما فيه من الجواهر ، فقال سليمان : أريد أسرع من هذا . ( قال الذي عنده علم من الكتاب ) واختلفوا فيه فقال بعضهم هو جبريل . وقيل : هو ملك من الملائكة أيد الله به نبيه سليمان عليه السلام . وقال أكثر المفسرين : هو آصف بن برخياء ، وكان صديقا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى . وروى جويبر ، ومقاتل ، عن الضحاك عن ابن عباس قال : إن آصف قال لسليمان حين صلى : مد عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمد سليمان عينيه ، فنظر نحو اليمين ، ودعا آصف فبعث الله الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يخدون به خدا حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان . [ ص: 165 ]
وقال الكلبي : خر آصف ساجدا ودعا باسم الله الأعظم فغاب عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسي سليمان . وقيل : كانت المسافة مقدار شهرين . واختلفوا في الدعاء الذي دعا به آصف ، فقال مجاهد ، ومقاتل : يا ذا الجلال والإكرام . وقال الكلبي : يا حي يا قيوم . وروي ذلك عن عائشة . وروي عن الزهري قال : دعاء الذي عنده علم من الكتاب : يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها . وقال محمد بن المنكدر : إنما هو سليمان ، قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله علما وفهما : ( أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) قال سليمان : هات ، قال : أنت النبي ابن النبي ، وليس أحد أوجه عند الله منك ، فإن دعوت الله وطلبت إليه كان عندك ، فقال : صدقت ، ففعل ذلك ، فجيء بالعرش في الوقت .
وقوله تعالى : ( قبل أن يرتد إليك طرفك ) قال سعيد بن جبير : يعني : من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى ، وهو أن يصل إليك من كان منك على مد بصرك . قال قتادة : قبل أن يأتيك الشخص من مد البصر . وقال مجاهد : يعني إدامة النظر حتى يرتد الطرف خاسئا . وقال وهب : تمد عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه ، حتى أمثله بين يديك ) ( فلما رآه ) يعني : رأى سليمان العرش ) ( مستقرا عنده ) محمولا إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف ( قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر ) نعمته ) ( أم أكفر ) فلا أشكرها ( ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ) أي : يعود نفع شكره إليه ، وهو أن يستوجب به تمام النعمة ودوامها ، لأن الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة ( ومن كفر فإن ربي غني ) عن شكره ) ( كريم ) بالإفضال على من يكفر نعمه .
( قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون ( 41 ) )
قوله تعالى : ( قال نكروا لها عرشها ) يقول : غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته ، قال قتادة ومقاتل : هو أن يزاد فيه وينقص ، وروي أنه جعل أسفله أعلاه وأعلاه أسفله ، وجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر ومكان الأخضر أحمر ) ( ننظر أتهتدي ) إلى عرشها فتعرفه ) ( أم تكون من ) الجاهلين ) ( الذين لا يهتدون ) إليه ، وإنما حمل سليمان على ذلك كما ذكره وهب ومحمد بن كعب [ ص: 166 ] وغيرهما : أن الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أسرار الجن وذلك أن أمها كانت جنية ، وإذا ولدت له ولدا لا ينفكون من تسخير سليمان وذريته من بعده ، فأساؤا الثناء عليها ليزهدوه فيها ، وقالوا : إن في عقلها شيئا وإن رجلها كحافر الحمار وأنها شعراء الساقين فأراد سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح .
( فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين ( 42 ) وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين ( 43 ) )
( فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو ) قال مقاتل : عرفته لكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها . وقال عكرمة : كانت حكيمة لم تقل : نعم ، خوفا من أن تكذب ، ولم تقل : لا خوفا من التكذيب ، قالت : كأنه هو ، فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ولم تنكر . وقيل اشتبه عليها أمر العرش ، لأنها تركته في بيت خلف سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها ، وقيل لها : فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب ، فقال : ( وأوتينا العلم ) بصحة نبوة سليمان بالآيات المتقدمة من أمر الهدية والرسل ، ( من قبلها ) من قبل الآية في العرش ( وكنا مسلمين ) منقادين طائعين لأمر سليمان . وقيل قوله : وأوتينا العلم من قبلها قاله سليمان ، يقول : وأوتينا العلم بالله وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة ، وكنا مسلمين ، هذا قول مجاهد . وقيل : معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين طائعين لله - عز وجل - . قوله - عز وجل - : ( وصدها ما كانت تعبد من دون الله ) أي : منعها ما كانت تعبد من دون الله ، وهو الشمس ، أن تعبد الله ، أي : صدها عبادة الشمس عن التوحيد وعبادة الله ، فعلى هذا التأويل يكون " ما " في محل الرفع . [ ص: 167 ]
وقيل : معناه صدها عن عبادة الله لا نقصان عقلها كما قالت الجن : إن في عقلها شيئا ، بل كانت تعبد من دون الله . وقيل : معناه وصدها سليمان ما كانت تعبد من دون الله ، أي : منعها ذلك وحال بينها وبينه ، فيكون محل " ما " نصبا . ( إنها كانت من قوم كافرين ) هذا استئناف ، أخبر الله تعالى أنها كانت من قوم يعبدون الشمس ، فنشأت بينهم ولم تعرف إلا عبادة الشمس .
( قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ( 44 ) )
قوله - عز وجل - : ( قيل لها ادخلي الصرح ) الآية ، وذلك أن سليمان أراد أن ينظر إلى قدميها وساقيها من غير أن يسألها كشفها ، لما قالت الشياطين : إن رجليها كحافر الحمار ، وهي شعراء الساقين ، أمر الشياطين فبنوا له صرحا أي : قصرا من زجاج ، وقيل بيتا من زجاج كأنه الماء بياضا ، وقيل : الصرح صحن الدار ، وأجرى تحته الماء ، وألقى فيه كل شيء من دواب البحر السمك والضفادع وغيرهما ، ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس . وقيل : اتخذ صحنا من قوارير وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضفادع ، فكان الواحد إذا رآه ظنه ماء . وقيل : إنما بنى الصرح ليختبر فهمها كما فعلت هي بالوصفاء والوصائف فلما جلس على السرير دعا بلقيس ، فلما جاءت قيل لها ادخلي الصرح . [ ص: 168 ]
( فلما رأته حسبته لجة ) وهي معظم الماء ، ( وكشفت عن ساقيها ) لتخوضه إلى سليمان ، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس قدما وساقا إلا أنها كانت شعراء الساقين ، فلما رأى سليمان ذلك صرف بصره عنه وناداها ( قال إنه صرح ممرد ) مملس مستو ، ( من قوارير ) وليس بماء ، ثم إن سليمان دعاها إلى الإسلام ، وكانت قد رأت حال العرش والصرح فأجابت ، و ( قالت رب إني ظلمت نفسي ) بالكفر . وقال مقاتل : لما رأت السرير والصرح علمت أن ملك سليمان من الله فقالت : رب إني ظلمت نفسي بعبادة غيرك ، ( وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) أي : أخلصت له التوحيد . وقيل : إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة ، قالت في نفسها : إن سليمان يريد أن يغرقني ، وكان القتل علي أهون من هذا ، فقولها : " ظلمت نفسي " تعني بذلك الظن .
واختلفوا في أمرها بعد إسلامها ، قال عون بن عبد الله : سأل رجل عبد الله بن عتبة : هل تزوجها سليمان ؟ قال : انتهى أمرها إلى قولها : أسلمت مع سليمان لله رب العالمين ، يعني : لا علم لنا وراء ذلك . وقال بعضهم : تزوجها ، ولما أراد أن يتزوجها كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها ، فسأل الإنس : ما يذهب هذا ؟ قالوا : الموسى ، فقالت المرأة : لم تمسني حديدة قط ، فكره سليمان الموسى ، وقال : إنها تقطع ساقيها ، فسأل الجن فقالوا : لا ندري ، ثم سأل الشياطين فقالوا : إنا نحتال لك حيلة حتى تكون كالفضة البيضاء ، فاتخذوا النورة والحمام ، فكانت النورة والحمامات من يومئذ فلما تزوجها سليمان أحبها حبا شديدا ، وأقرها على ملكها ، وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا ، وهي : سلحين وبينون وعمدان . ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة بعد أن ردها إلى ملكها ويقيم عندها ثلاثة أيام ، يبتكر من الشام إلى اليمن ، ومن اليمن إلى الشام ، وولدت له فيما ذكر وروي عن وهب قال : زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان : اختاري رجلا من قومك أزوجكه ، قالت : ومثلي يا نبي الله تنكح الرجال وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان ؟ قال : نعم ، إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك ، ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله لك ، فقالت : زوجني إن كان لا بد من ذلك ذا تبع ملك همذان فزوجه إياها ، ثم ردها إلى اليمن ، وسلط زوجها ذا تبع على اليمن ، ودعا زوبعة أمير جن اليمن ، فقال : اعمل لذي تبع ما [ ص: 169 ] استعملك فيه ، فلم يزل بها ملكا يعمل له فيها ما أراد حتى مات سليمان ، فلما أن حال الحول ، وتبينت الجن موت سليمان أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته : يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات ، فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا ، وانقضى ملك ذي تبع ، وملك بلقيس مع ملك سليمان . وقيل : إن الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة .
( ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون ( 45 ) قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون ( 46 ) قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون ( 47 ) )
قوله - عز وجل - : ( ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن ) أي : أن ( اعبدوا الله ) وحده ، ( فإذا هم فريقان ) مؤمن وكافر ( يختصمون ) في الدين ، قال مقاتل : واختصامهم ما ذكر في سورة الأعراف : " قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم " ، إلى قوله : " يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين " ( الأعراف - 75 - 77 ) . ( فقال ) لهم صالح ، ( يا قوم لم تستعجلون بالسيئة ) بالبلاء والعقوبة ، ( قبل الحسنة ) العافية والرحمة ، ( لولا ) هلا ( تستغفرون الله ) بالتوبة من كفركم ، ( لعلكم ترحمون ) ( قالو اطيرنا ) أي : تشاءمنا ، وأصله : تطيرنا ، ( بك وبمن معك ) قيل : إنما قالوا ذلك لتفرق كلمتهم . وقيل : لأنه أمسك عنهم المطر في ذلك الوقت وقحطوا ، فقالوا : أصابنا هذا الضر والشدة من شؤمك وشؤم أصحابك . ( قال طائركم عند الله ) أي : ما يصيبكم من الخير والشر عند الله بأمره ، وهو مكتوب عليكم ، سمي طائرا لسرعة نزوله بالإنسان ، فإنه لا شيء أسرع من قضاء محتوم . قال ابن عباس : الشؤم أتاكم من عند الله لكفركم . وقيل : طائركم أي : عملكم عند الله ، سمي طائرا لسرعة صعوده إلى السماء . ( بل أنتم قوم تفتنون ) قال ابن عباس : تختبرون بالخير والشر ، نظيره قوله تعالى : " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " ( الأنبياء - 35 ) ، وقال محمد بن كعب القرظي : تعذبون .
[ ص: 170 ] ( وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ( 48 ) قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ( 49 ) ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون ( 50 ) فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ( 51 ) )
قوله تعالى : ( وكان في المدينة ) يعني : مدينة ثمود ، وهي الحجر ، ( تسعة رهط ) من أبناء أشرافهم ، ( يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) وهم الذين اتفقوا على عقر الناقة ، وهم غواة قوم صالح ، ورأسهم قدار بن سالف ، وهو الذي تولى عقرها ، كانوا يعملون بالمعاصي . قالوا ( تقاسموا بالله ) تحالفوا ، يقول بعضهم لبعض : أي : احلفوا بالله أيها القوم . وموضع " تقاسموا " جزم على الأمر ، وقال قوم : محله نصب على الفعل الماضي ، يعني : أنهم تحالفوا وتواثقوا ، تقديره : قالوا متقاسمين بالله ، ( لنبيتنه ) أي : لنقتلنه بياتا أي : ليلا ( وأهله ) أي : وقومه الذين أسلموا معه ، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي " لتبيتنه " و " لتقولن " بالتاء فيهما وضم لام الفعل على الخطاب ، وقرأ الآخرون بالنون فيهما وفتح لام الفعل ، ( ثم لنقولن لوليه ) أي : لولي دمه ، ( ما شهدنا ) ما حضرنا ، ( مهلك أهله ) أي : إهلاكهم ، ولا ندري من قتله ، ومن فتح الميم فمعناه هلاك أهله ، ( وإنا لصادقون ) في قولنا ما شهدنا ذلك . ( ومكروا مكرا ) غدروا غدرا حين قصدوا تبييت صالح والفتك به ، ( ومكرنا مكرا ) جزيناهم على مكرهم بتعجيل عقوبتهم ، ( وهم لا يشعرون ) ( فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا ) قرأ أهل الكوفة " أنا " بفتح الألف ردا على العاقبة ، أي : كانت العاقبة أنا دمرناهم ، وقرأ الآخرون : " إنا " بالكسر على الاستئناف ، ( دمرناهم ) أي : أهلكناهم التسعة . واختلفوا في كيفية هلاكهم ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه ، فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم ، فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة ، فقتلهم . قال مقاتل : نزلوا في سفح جبل ينظر بعضهم بعضا ليأتوا دار صالح ، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم . ( وقومهم أجمعين ) أهلكهم الله بالصيحة .
( فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون ( 52 ) وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ( 53 ) ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون ( 54 ) أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون ( 55 ) ) ( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ( 56 ) فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين ( 57 ) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين ( 58 ) قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون ( 59 ) )
( فتلك بيوتهم خاوية ) نصب على الحال أي : خالية ، ( بما ظلموا ) أي : بظلمهم وكفرهم ، [ ص: 171 ] ( إن في ذلك لآية ) لعبرة ، ( لقوم يعلمون ) قدرتنا . ( وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ) يقال : كان الناجون منهم أربعة آلاف . قوله تعالى : ( ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ) وهي الفعلة القبيحة ، ( وأنتم تبصرون ) أي : تعلمون أنها فاحشة . وقيل : معناه يرى بعضكم بعضا وكانوا لا يستترون عتوا منهم . ( أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) من أدبار الرجال . ( فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها ) قضينا عليها وجعلناها بتقديرنا ، ( من الغابرين ) أي : الباقين في العذاب . ( وأمطرنا عليهم مطرا ) وهو الحجارة ، ( فساء ) فبئس ، ( مطر المنذرين ) قوله تعالى : ( قل الحمد لله ) هذا خطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يحمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية . وقيل : على جميع نعمه . ( وسلام على عباده الذين اصطفى ) قال مقاتل : هم الأنبياء والمرسلون دليله قوله - عز وجل - : " وسلام على المرسلين " . [ ص: 172 ]
وقال ابن عباس في رواية أبي مالك هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال الكلبي : هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين ( آلله خير أم ما يشركون ) قرأ أهل البصرة وعاصم : ( يشركون ) بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء ، يخاطب أهل مكة ، وفيه إلزام الحجة على المشركين بعد هلاك الكفار ، يقول : آلله خير لمن عبده ، أم الأصنام لمن عبدها ؟ والمعنى : أن الله نجى من عبده من الهلاك ، والأصنام لم تغن شيئا عن عابديها عند نزول العذاب .
ابو وليد البحيرى
2022-06-29, 11:23 PM
الحلقة (320)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ النَّمْلِ
مَكِّيَّةٌ
الاية60 إلى الاية 87
( أم من خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون ( 60 ) أم من جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ( 61 ) )
( أمن خلق السماوات والأرض ) معناه آلهتكم خير أم الذي خلق السماوات والأرض ، ( وأنزل لكم من السماء ماء ) يعني المطر ، ( فأنبتنا به حدائق ) ؟ بساتين جمع حديقة ، قال الفراء : الحديقة البستان المحاط عليه ، فإن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة ، ( ذات بهجة ) أي : منظر حسن ، والبهجة : الحسن يبتهج به من يراه ، ( ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ) أي : ما ينبغي لكم ، لأنكم لا تقدرون عليها . ( أإله مع الله ) استفهام على طريق الإنكار ، أي : هل معه معبود سواه أعانه على صنعه ؟ بل ليس معه إله . ( بل هم قوم ) يعني كفار مكة ، ( يعدلون ) يشركون . ( أمن جعل الأرض قرارا ) لا تميد بأهلها ، ( وجعل خلالها ) وسطها ( أنهارا ) تطرد بالمياه ، ( وجعل لها رواسي ) جبالا ثوابت ، ( وجعل بين البحرين ) العذب والمالح ، ( حاجزا ) [ ص: 173 ] مانعا لئلا يختلط أحدهما بالآخر ، ( أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ) توحيد ربه وسلطانه .
( أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون ( 62 ) أم من يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون ( 63 ) ( أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( 64 ) قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ( 65 ) )
( أمن يجيب المضطر ) المكروب المجهود ، ( إذا دعاه ويكشف السوء ) الضر ( ويجعلكم خلفاء الأرض ) سكانها يهلك قرنا وينشئ آخر . وقيل : يجعل أولادكم خلفاءكم وقيل : جعلكم خلفاء الجن في الأرض . ( أإله مع الله قليلا ما تذكرون ) قرأ أبو عمرو بالياء والآخرون بالتاء . ( أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ) إذا سافرتم ، ( ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ) أي : قدام المطر ، ( أإله مع الله تعالى الله عما يشركون أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ) بعد الموت ، ( ومن يرزقكم من السماء والأرض ) أي : من السماء المطر ومن الأرض النبات . ( أإله مع الله قل هاتوا برهانكم ) حجتكم على قولكم أن مع الله إلها آخر . ( إن كنتم صادقين ) ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) نزلت في المشركين حيث سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وقت قيام الساعة ( وما يشعرون أيان يبعثون )
[ ص: 174 ] ( بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون ( 66 ) وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون ( 67 ) لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين ( 68 ) )
( بل ادارك علمهم ) قرأ أبو جعفر ، وابن كثير ، وأبو عمرو : " أدرك " على وزن أفعل أي : بلغ ولحق ، كما يقال : أدركه علمي إذا لحقه وبلغه ، يريد : ما جهلوا في الدنيا وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة . قال مجاهد : يدرك علمهم ، ( في الآخرة ) ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم . قال مقاتل : بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكوا وعموا عنه في الدنيا وهو قوله : ( بل هم في شك منها ) يعني : هم اليوم في شك من الساعة ، وقرأ الآخرون : " بل ادارك " موصولا مشددا مع ألف بعد الدال المشددة ، أي : تدارك وتتابع علمهم في الآخرة وتلاحق . وقيل : معناه اجتمع علمهم في الآخرة أنها كائنة ، وهم في شك في وقتهم ، فيكون بمعنى الأول . وقيل : هو على طريق الاستفهام ، معناه : هل تدارك وتتابع علمهم بذلك في الآخرة ؟ أي : لم يتتابع وضل وغاب علمهم به فلم يبلغوه ولم يدركوه ، لأن في الاستفهام ضربا من الجحد يدل عليه . قراءة ابن عباس " بلى " بإثبات الياء ، " أدارك " بفتح الألف على الاستفهام ، أي : لم يدرك ، وفي حرف أبي " أم تدارك علمهم " ، والعرب تضع " بل " موضع " أم " و " أم " موضع " بل " وجملة القول فيه : أن الله أخبر أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يستوي علمهم في الآخرة وما وعدوا فيها من الثواب والعقاب ، وإن كانت علومهم مختلفة في الدنيا . وذكر علي بن عيسى أن معنى " بل " هاهنا : " لو " ومعناه : لو أدركوا في الدنيا ما أدركوا في الآخرة لم يشكوا .
قوله - عز وجل - : ( بل هم في شك منها ) بل هم اليوم في الدنيا في شك من الساعة . ( بل هم منها عمون ) جمع عم ، وهو أعمى القلب . قال الكلبي : يقول هم جهلة بها . ( وقال الذين كفروا ) يعني مشركي مكة ، ( أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون ) من قبورنا أحياء ، قرأ أهل المدينة : " إذا " غير مستفهم ، " أئنا " بالاستفهام ، وقرأ ابن عامر ، والكسائي : " أإذا " بهمزتين ، " أإننا " بنونين ، وقرأ الآخرون باستفهامها . ( لقد وعدنا هذا ) أي : هذا البعث ، ( نحن وآباؤنا من قبل ) أي : من قبل محمد ، [ ص: 175 ] وليس ذلك بشيء ( إن هذا ) ما هذا ، ( إلا أساطير الأولين ) أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها .
( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ( 69 ) ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ( 70 ) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( 71 ) قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون ( 72 ) وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون ( 73 ) وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ( 74 ) وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ( 75 ) إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ( 76 ) )
( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ) ( ولا تحزن عليهم ) على تكذيبهم إياك وإعراضهم عنك ، ( ولا تك في ضيق مما يمكرون ) نزلت في المستهزئين الذين اقتسموا عقاب مكة . ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف ) أي : دنا وقرب ، ( لكم ) وقيل : تبعكم ، والمعنى : ردفكم ، أدخل اللام كما أدخل في قوله " لربهم يرهبون " ( الأعراف - 154 ) ، قال الفراء : اللام صلة زائدة ، كما تقول : نقدته مائة ، ونقدت له ( بعض الذي تستعجلون ) من العذاب ، فحل بهم ذلك يوم بدر . ( وإن ربك لذو فضل على الناس ) قال مقاتل : على أهل مكة حيث لم يعجل عليهم العذاب ، ( ولكن أكثرهم لا يشكرون ) ذلك . ( وإن ربك ليعلم ما تكن ) ما تخفي ( صدورهم وما يعلنون ) ( وما من غائبة ) أي : جملة غائبة من مكتوم سر ، وخفي أمر ، وشيء غائب ، ( في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ) أي : في اللوح المحفوظ . ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل ) أي : يبين لهم ، ( أكثر الذي هم فيه يختلفون ) من أمر الدين ، قال الكلبي : إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابا يطعن بعضهم على [ ص: 176 ] بعض ، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه .
( وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين ( 77 ) إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم ( 78 ) فتوكل على الله إنك على الحق المبين ( 79 ) إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ( 80 ) وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ( 81 ) )
( وإنه ) يعني القرآن ، ( لهدى ورحمة للمؤمنين ) ( إن ربك يقضي ) يفصل ( بينهم ) أي : بين المختلفين في الدين يوم القيامة ، ( بحكمه ) الحق ، ( وهو العزيز ) المنيع فلا يرد له أمر ، ( العليم ) بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء . ( فتوكل على الله إنك على الحق المبين ) البين . ( إنك لا تسمع الموتى ) يعني الكفار ، ( ولا تسمع الصم الدعاء ) قرأ ابن كثير : " لا يسمع " بالياء وفتحها وفتح الميم " الصم " رفع ، وكذلك في سورة الروم ، وقرأ الباقون بالتاء وضمها وكسر الميم ، " الصم " نصب . ( إذا ولوا مدبرين ) معرضين . فإن قيل ما معنى قوله : ( ولوا مدبرين ) وإذا كانوا صما لا يسمعون سواء ولوا أو لم يولوا ؟ . قيل ذكره : على سبيل التأكيد والمبالغة . وقيل : الأصم إذا كان حاضرا فقد يسمع برفع الصوت ويفهم بالإشارة ، فإذا ولى لم يسمع ولم يفهم . قال قتادة : الأصم إذا ولى مدبرا ثم ناديته لم يسمع ، كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان . ومعنى الآية : أنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت الذي لا سبيل إلى إسماعه ، والأصم الذي لا يسمع . ( وما أنت بهادي العمي ) قرأ الأعمش ، وحمزة : " تهدي " بالتاء وفتحها على الفعل " العمي " بنصب الياء هاهنا وفي الروم . وقرأ الآخرون بهادي بالباء على الاسم ، " العمي " بكسر الياء ، ( عن ضلالتهم ) أي : ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى قلبه عن الإيمان ، ( إن تسمع ) ما تسمع ، ( إلا من يؤمن بآياتنا ) إلا من يصدق بالقرآن أنه من الله ، ( فهم مسلمون ) مخلصون .
[ ص: 177 ] ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ( 82 ) )
قوله تعالى : ( وإذا وقع القول عليهم ) وجب العذاب عليهم ، وقال قتادة : إذا غضب الله عليهم ، ( أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم ) واختلفوا في كلامها ، فقال السدي : تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام . وقال بعضهم : كلامها أن تقول لواحد : هذا مؤمن ، وتقول لآخر : هذا كافر . وقيل كلامها ما قال الله تعالى : ( أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ) قال مقاتل تكلمهم بالعربية ، فتقول : إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ، تخبر الناس أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن والبعث .
قرأ أهل الكوفة : " أن الناس " بفتح الألف ، أي : بأن الناس ، وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف ، أي : إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون قبل خروجها . قال ابن عمر : وذلك حين لا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر . وقرأ سعيد بن جبير ، وعاصم الجحدري ، وأبو رجاء العطاردي : " تكلمهم " بفتح التاء وتخفيف اللام من " الكلم " وهو الجرح . قال أبو الجوزاء : سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - عن هذه الآية : " تكلمهم أو تكلمهم " ؟ قال : كل ذلك تفعل ، تكلم المؤمن ، وتكلم الكافر . أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرنا العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " بادروا بالأعمال ستا : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدجال ، ودابة الأرض ، وخاصة أحدكم ، وأمر العامة " . أخبرنا إسماعيل بن عبد الله ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج ، أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أخبرنا [ ص: 178 ] محمد بن بشر ، عن أبي حيان ، عن أبي زرعة ، عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا " .
وأخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن فنجويه ، أخبرنا أبو بكر بن خرجة ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي ، أخبرنا هشيم بن حماد ، أخبرنا عمرو بن محمد العبقري ، عن طلحة عن عمرو ، عن عبد الله بن عمير الليثي ، عن أبي سريحة الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر ، فتخرج خروجا بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية ولا يدخل ذكرها القرية " ، يعني مكة ، " ثم تمكث زمانا طويلا ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة ، فيفشو ذكرها بالبادية ، ويدخل ذكرها القرية - يعني مكة - فبينما الناس يوما في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله - عز وجل - يعني المسجد الحرام - لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو " كذا قال ابن عمر ، وما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك فارفض الناس عنها وثبتت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله ، فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية ، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب ، حتى أن الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول : يا فلان الآن تصلي ؟ فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه ، فيتجاور الناس في ديارهم ، ويصطحبون في أسفارهم ، ويشتركون في الأموال ، يعرف الكافر من المؤمن ، فيقال للمؤمن : يا مؤمن ، ويقال للكافر : يا كافر "
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسن بن محمد ، أخبرنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، أخبرنا أبي ، حدثنا بهز ، حدثنا حماد ، هو ابن أبي سلمة ، أخبرنا علي بن زيد ، عن أوس بن خالد ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتختم أنف الكافر [ ص: 179 ] بالخاتم ، حتى إن أهل الخوان ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا يا كافر " . وروي عن علي قال : ليست بدابة لها ذنب ، ولكن لها لحية ، كأنه يشير إلى أنه رجل والأكثرون على أنها دابة . وروى ابن جريج عن أبي الزبير أنه وصف الدابة فقال : رأسها رأس الثور وعينها عين الخنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن أيل ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هر وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا ، ومعها عصا موسى ، وخاتم سليمان ، فلا يبقى مؤمن إلا نكتته في مسجده بعصا موسى نكتة بيضاء يضيء بها وجهه ، ولا يبقى كافر إلا نكتت وجهه بخاتم سليمان فيسود بها وجهه ، حتى إن الناس يتبايعون في الأسواق : بكم يا مؤمن ؟ بكم يا كافر ؟ ثم تقول لهم الدابة : يا فلان أنت من أهل الجنة ، ويا فلان أنت من أهل النار ، فذلك قوله - عز وجل - : ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض ) الآية .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني عقيل بن محمد الجرجاني الفقيه ، أخبرنا أبو الفرج المعافى بن زكريا البغدادي ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، أخبرنا أبو كريب ، أخبرنا الأشجعي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن ابن عمر قال : تخرج الدابة من صدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها . وبه عن محمد بن جرير الطبري قال : حدثني عصام بن داود بن الجراح ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان بن سعيد ، أخبرنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدابة ، قلت : يا رسول الله من أين تخرج ؟ قال : " من أعظم المساجد حرمة على الله ، بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضرب الأرض تحتهم ، وتنشق الصفا مما يلي المشعر ، وتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدر منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش ، لن يدركها [ ص: 180 ] طالب ولن يفوتها هارب ، تسمي الناس مؤمنا وكافرا ، أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري وتكتب بين عينيه مؤمن ، وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء ، وتكتب بين عينيه كافر " . وروي عن ابن عباس : أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم ، وقال : إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه . وعن عبد الله بن عمر ، قال : تخرج الدابة من شعب فيمس رأسها في السحاب ورجلاها في الأرض ما خرجتا ، فتمر بالإنسان يصلي فتقول : ما الصلاة من حاجتك ، فتخطمه .
وعن ابن عمر قال : تخرج الدابة ليلة جمع الناس والناس يسيرون إلى منى . وعن سهيل بن صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " بئس الشعب شعب أجياد " ، مرتين أو ثلاثا ، قيل : ولم ذلك يا رسول الله ؟ قال : " تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين " وقال وهب : وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير ، فتخبر من رآها أن أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون .
( ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون ( 83 ) حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون ( 84 ) )
قوله تعالى : ( ويوم نحشر من كل أمة فوجا ) أي : من كل قرن جماعة ، ( ممن يكذب بآياتنا ) وليس " من " هاهنا للتبعيض ، لأن جميع المكذبين يحشرون ، ( فهم يوزعون ) يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ثم يساقون إلى النار . ( حتى إذا جاءوا ) يوم القيامة ، ( قال ) الله لهم : ( أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما ) ولم تعرفوها حق معرفتها ، ( أم ماذا كنتم تعملون ) حين لم تفكروا فيها . ومعنى الآية : أكذبتم [ ص: 181 ] بآياتي غير عالمين بها ، ولم تفكروا في صحتها بل كذبتم بها جاهلين ؟
( ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ( 85 ) ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( 86 ) ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين ( 87 ) )
( ووقع القول ) وجب العذاب ، ( عليهم بما ظلموا ) بما أشركوا ، ( فهم لا ينطقون ) قال قتادة : كيف ينطقون ولا حجة لهم ، نظيره قوله تعالى : " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " ( المرسلات - 36 ) ، وقيل : لا ينطقون لأن أفواههم مختومة . قوله - عز وجل - : ( ألم يروا أنا جعلنا ) خلقنا ( الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا ) مضيئا يبصر فيه ، ( إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) يصدقون فيعتبرون .
قوله تعالى : ( ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض ) والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل ، وقال الحسن : الصور هو القرن ، وأول بعضهم كلامه أن الأرواح تجمع في القرن ثم ينفخ فيه فتذهب الأرواح إلى الأجساد فتحيا الأجساد . وقوله : ( ففزع من في السماوات ومن في الأرض ) أي : فصعق ، كما قال في آية أخرى : " فصعق من في السماوات ومن في الأرض " ( الزمر - 68 ) ، أي : ماتوا ، والمعنى أنهم يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا . وقيل : ينفخ إسرافيل في الصور . ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام لرب العالمين . قوله : ( إلا من شاء الله ) اختلفوا في هذا الاستثناء ، روي عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل جبريل عن قوله : ( إلا من شاء الله ) قال : هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش .
وروى سعيد بن جبير ، وعطاء عن ابن عباس : هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم لا يصل [ ص: 182 ] الفزع إليهم . وفي بعض الآثار : " الشهداء ثنية الله - عز وجل - " أي : الذين استثناهم الله تعالى . وقال الكلبي ، ومقاتل : يعني جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ، فلا يبقى بعد النفخة إلا هؤلاء الأربعة ، ثم يقبض الله روح ميكائيل ، ثم روح إسرافيل ، ثم روح ملك الموت ، ثم روح جبريل فيكون آخرهم موتا جبريل عليه السلام . .
ويروى أن الله تعالى يقول لملك الموت : خذ نفس إسرافيل ، ثم يقول : من بقي يا ملك الموت ؟ فيقول : سبحانك ربي تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام ، بقي جبريل وميكائيل وملك الموت ، فيقول : خذ نفس ميكائيل ، فيأخذ نفسه ، فيقع كالطود العظيم ، فيقول : من بقي ؟ فيقول : سبحانك ربي تباركت وتعاليت ، بقي جبريل وملك الموت ، فيقول : مت يا ملك الموت ، فيموت ، فيقول : يا جبريل من بقي ؟ فيقول : تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني ، قال : فيقول يا جبريل لا بد من موتك ، فيقع ساجدا يخفق بجناحيه فيروى أن فضل خلقه على فضل ميكائيل كالطود العظيم على ظرب من الظراب . ويروى أنه يبقى مع هؤلاء الأربعة حملة العرش فيقبض روح جبريل وميكائيل ، ثم أرواح حملة العرش ، ثم روح إسرافيل ، ثم روح ملك الموت .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن علي الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرنا محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من يرفع رأسه ، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أكان ممن استثنى الله - عز وجل - أم رفع رأسه قبلي ؟ ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب " [ ص: 183 ]
قال الضحاك : هم رضوان ، والحور ، ومالك ، والزبانية . وقيل : عقارب النار وحياتها . قوله - عز وجل - : ( وكل ) أي : الذين أحيوا بعد الموت ، ( أتوه ) قرأ الأعمش ، وحمزة ، وحفص : " أتوه " مقصورا بفتح التاء على الفعل ، أي : جاءوه ، وقرأ الآخرون بالمد وضم التاء كقوله تعالى : " وكلهم آتيه يوم القيامة فردا " ( مريم - 95 ) ، ( داخرين ) صاغرين .
ابو وليد البحيرى
2022-07-08, 10:20 PM
الحلقة (321)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْقَصَصِ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية 14
( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون ( 88 ) ( من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ( 89 ) )
قوله - عز وجل - : ( وترى الجبال تحسبها جامدة ) قائمة واقفة ، ( وهي تمر مر السحاب ) أي : تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض . فتستوي بها وذلك أن كل شيء عظيم وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وبعد ما بين أطرافه فهو في حسبان الناظر واقف وهو سائر ، كذلك سير الجبال لا يرى يوم القيامة لعظمتها ، كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه وهو سائر ، ( صنع الله ) نصب على المصدر ، ( الذي أتقن كل شيء ) أي : أحكم ، ( إنه خبير بما تفعلون ) قرأ ابن كثير ، وأهل البصرة : بالياء والباقون بالتاء . ( من جاء بالحسنة ) بكلمة الإخلاص ، وهي شهادة أن لا إله إلا الله ، قال أبو معشر : كان إبراهيم يحلف ولا يستثني : أن الحسنة لا إله إلا الله . وقال قتادة : بالإخلاص . وقيل : هي كل طاعة ( فله خير منها ) قال ابن عباس : فمنها يصل الخير إليه ، يعني : له من تلك الحسنة خير يوم القيامة ، وهو الثواب والأمن من العذاب ، أما أن يكون له شيء خير من الإيمان فلا لأنه ليس شيء خيرا من قوله لا إله إلا الله . وقيل : فله خير منها يعني : رضوان الله ، قال تعالى : " ورضوان من الله أكبر " ( التوبة - 72 ) ، وقال محمد بن كعب ، وعبد الرحمن بن زيد : " فله خير منها " يعني : [ ص: 184 ] الأضعاف ، أعطاه الله تعالى بالواحدة عشرا فصاعدا وهذا حسن لأن للأضعاف خصائص ، منها : أن العبد يسأل عن عمله ولا يسأل عن الأضعاف ، ومنها : أن للشيطان سبيلا إلى عمله وليس له سبيل إلى الأضعاف ، ولا مطمع للخصوم في الأضعاف ، ولأن الحسنة على استحقاق العبد والتضعيف كما يليق بكرم الرب تبارك وتعالى . ( وهم من فزع يومئذ آمنون ) قرأ أهل الكوفة : " من فزع " بالتنوين " يومئذ " بفتح الميم ، وقرأ الآخرون بالإضافة لأنه أعم فإنه يقتضي الأمن من جميع فزع ذلك اليوم ، وبالتنوين كأنه فزع دون فزع ، ويفتح أهل المدينة الميم من يومئذ .
( ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ( 90 ) إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين ( 91 ) وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين ( 92 ) وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون ( 93 ) )
( ومن جاء بالسيئة ) يعني الشرك ، ( فكبت وجوههم في النار ) يعني ألقوا على وجوههم ، يقال : كببت الرجل : إذا ألقيته على وجهه ، فانكب وأكب ، وتقول لهم خزنة جهنم : ( هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ) في الدنيا من الشرك . قوله تعالى : ( إنما أمرت ) يقول الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - قل إنما أمرت ، (أن أعبد رب هذه البلدة ) يعني : مكة ، ( الذي حرمها ) جعلها الله حرما آمنا ، لا يسفك فيها دم ، ولا يظلم فيها أحد ، ولا يصاد صيدها ، ولا يختلى خلاها ، ( وله كل شيء ) خلقا وملكا ، ( وأمرت أن أكون من المسلمين ) لله . ( وأن أتلو القرآن ) يعني : وأمرت أن أتلو القرآن ، ( فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ) أي : نفع اهتدائه يرجع إليه ، ( ومن ضل ) عن الإيمان وأخطأ عن طريق الهدى ، ( فقل إنما أنا من المنذرين ) من المخوفين فليس علي إلا البلاغ . نسختها آية القتال . ( وقل الحمد لله ) على نعمه ، ( سيريكم آياته ) يعني : يوم بدر ، من القتل والسبي وضرب [ ص: 185 ] الملائكة وجوههم وأدبارهم ، نظيره قوله - عز وجل - : " سأريكم آياتي فلا تستعجلون " ( الأنبياء - 37 ) ، وقال مجاهد سيريكم آياته في السماء والأرض وفي أنفسكم ، كما قال : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم " ( فصلت - 53 ) ، ( فتعرفونها ) يعني : تعرفون الآيات والدلالات ، ( وما ربك بغافل عما تعملون ) وعدهم بالجزاء على أعمالهم .
سُورَةُ الْقَصَصِ
سُورَةُ الْقَصَصِ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) إِلَى قَوْلِهِ : ( لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) وَفِيهَا آيَةٌ نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( طسم ( 1 ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 3 ) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( 4 ) )
( طسم )
( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ) ( نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ ) بِالصِّدْقِ ( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ .
( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا ) اسْتَكْبَرَ وَتَجَبَّرَ وَتَعَظَّمَ ( فِي الْأَرْضِ ) أَرْضِ مِصْرَ ( وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ) فِرَقًا وَأَصْنَافًا فِي الْخِدْمَةِ وَالتَّسْخِيرِ ( يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ ) أَرَادَ بِالطَّائِفَةِ : بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ فَسَّرَ الِاسْتِضْعَافَ فَقَالَ : ( يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ) سَمَّى هَذَا اسْتِضْعَافًا ؛ لِأَنَّهُمْ عَجَزُوا وَضَعُفُوا عَنْ دَفْعِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ( إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ )
[ ص: 190 ] ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ( 5 ) ( ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ( 6 ) وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ( 7 ) )
( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ) يعني : بني إسرائيل ، ( ونجعلهم أئمة ) قادة في الخير يقتدى بهم . وقال قتادة : ولاة وملوكا ، دليله : قوله - عز وجل - : " وجعلكم ملوكا " ( المائدة - 20 ) . وقال مجاهد : دعاة إلى الخير . ( ونجعلهم الوارثين ) يعني : أملاك فرعون وقومه يخلفونهم في مساكنهم .
( ونمكن لهم في الأرض ) نوطن لهم في أرض مصر والشام ، ونجعلها لهم مكانا يستقرون فيه ، ( ونري فرعون وهامان وجنودهما ) قرأ الأعمش ، وحمزة ، والكسائي : " ويرى " بالياء وفتحها ، ( فرعون وهامان وجنودهما ) مرفوعات على أن الفعل لهم ، وقرأ الآخرون بالنون وضمها ، وكسر الراء ، ونصب الياء ونصب ما بعده بوقوع الفعل عليه ، ( منهم ما كانوا يحذرون ) والحذر هو التوقي من الضرر ، وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل فكانوا على وجل منه ، فأراهم الله ما كانوا يحذرون .
( وأوحينا إلى أم موسى ) وحي إلهام لا وحي نبوة ، قال قتادة : قذفنا في قلبها ، وأم موسى يوخابذ بنت لاوي بن يعقوب ، ( أن أرضعيه ) واختلفوا في مدة الرضاع ، قيل : ثمانية أشهر . وقيل : أربعة أشهر . وقيل : ثلاثة أشهر كانت ترضعه في حجرها ، وهو لا يبكي ولا يتحرك ، ( فإذا خفت عليه ) يعني : من الذبح ، ( فألقيه في اليم ) واليم : البحر ، وأراد هاهنا النيل ، ( ولا تخافي ) قيل : لا تخافي عليه من الغرق ، وقيل : من الضيعة ، ( ولا تحزني ) على فراقه ، ( إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) روى عطاء عن الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال . [ ص: 191 ] إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر ، استطالوا على الناس ، وعملوا بالمعاصي ، ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ، فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم على يد نبيه . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : إن أم موسى لما تقاربت ولادتها ، وكانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى ، فلما ضرب بها الطلق أرسلت إليها فقالت : قد نزل بي ما نزل ، فلينفعني حبك إياي اليوم ، قالت : فعالجت قبالتها ، فلما أن وقع موسى بالأرض هالها نور بين عيني موسى ، فارتعش كل مفصل منها ، ودخل حب موسى قلبها . ثم قالت لها : يا هذا ما جئت إليك حين دعوتني إلا ومن رأيي قتل مولودك ، ولكن وجدت لابنك هذا حبا ما وجدت حب شيء مثل حبه ، فاحفظي ابنك فإني أراه هو عدونا ، فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون ، فجاءوا إلى بابها ليدخلوا على أم موسى ، فقالت أخته يا أماه هذا الحرس بالباب ، فلفت موسى في خرقة ، فوضعته في التنور وهو مسجور ، وطاش عقلها ، فلم تعقل ما تصنع .
قال : فدخلوا فإذا التنور مسجور ، ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن ، فقالوا لها : ما أدخل عليك القابلة ؟ قالت : هي مصافية لي فدخلت علي زائرة ، فخرجوا من عندها ، فرجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى : فأين الصبي ؟ قالت لا أدري ، فسمعت بكاء الصبي من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله - سبحانه وتعالى - النار عليه بردا وسلاما ، فاحتملته . قال : ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها ، فقذف الله في نفسها أن تتخذ له تابوتا ثم تقذف التابوت في اليم وهو النيل ، فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون فاشترت منه تابوتا صغيرا ، فقال لها النجار : ما تصنعين بهذا التابوت ؟ قالت : ابن لي أخبئه في التابوت ، وكرهت الكذب . قال ولم تقل : أخشى عليه كيد فرعون ، فلما اشترت التابوت وحملته وانطلقت به انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى ، فلما هم بالكلام أمسك الله لسانه فلم يطق الكلام ، وجعل يشير بيده فلم يدر الأمناء ما يقول . فلما أعياهم أمره قال كبيرهم : اضربوه فضربوه وأخرجوه ، فلما انتهى النجار إلى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم ، فانطلق - أيضا - يريد الأمناء فأتاهم ليخبرهم فأخذ الله لسانه وبصره فلم يطق الكلام ولم يبصر شيئا ، فضربوه وأخرجوه ، فوقع في واد يهوي فيه حيران ، فجعل الله عليه إن رد لسانه وبصره أن لا يدل عليه وأن يكون معه يحفظه حيث ما كان ، فعرف الله منه الصدق فرد عليه لسانه وبصره فخر لله [ ص: 192 ] ساجدا ، فقال : يا رب دلني على هذا العبد الصالح ، فدله الله عليه ، فخرج من الوادي فآمن به وصدقه ، وعلم أن ذلك من الله - عز وجل - . وقال وهب بن منبه : لما حملت أم موسى بموسى كتمت أمرها جميع الناس ، فلم يطلع على حبلها أحد من خلق الله ، وذلك شيء ستره الله لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل ، فلما كانت السنة التي يولد فيها بعث فرعون القوابل وتقدم إليهن ففتشن النساء تفتيشا لم يفتشن قبل ذلك مثله . وحملت أم موسى بموسى فلم ينتأ بطنها ، ولم يتغير لونها ، ولم يظهر لبنها ، وكانت القوابل لا تتعرض لها ، فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة ، ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم ، فأوحى الله إليها " أن أرضعيه ، فإذا خفت عليه " الآية ، فكتمته أمه ثلاثة أشهر ترضعه في حجرها ، لا يبكي ولا يتحرك ، فلما خافت عليه عملت تابوتا له مطبقا ثم ألقته في البحر ليلا .
قال ابن عباس وغيره : وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها ، وكانت من أكرم الناس عليه ، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون ، وكان بها برص شديد ، وكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة فنظروا في أمرها ، فقالوا له : أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر ، يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك ، وذلك في يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس ، فلما كان يوم الاثنين غدا فرعون إلى مجلس كان على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم ، وأقبلت ابنة فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن ، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج ، فقال فرعون : إن هذا لشيء في البحر قد تعلق بالشجرة ايتوني به ، فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه ، فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه ، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا لم يره غيرها فعالجته ففتحت الباب فإذا هي بصبي صغير في مهده ، وإذا نور بين عينيه ، وقد جعل الله رزقه في إبهامه يمصه لبنا ، فألقى الله لموسى المحبة في قلب آسية ، وأحبه فرعون وعطف عليه ، وأقبلت بنت فرعون ، فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت بنت فرعون إلى ما كان يسيل من ريقه فلطخت به برصها فبرأت ، فقبلته وضمته إلى صدرها ، فقال الغواة من قوم فرعون : أيها الملك إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه بني إسرائيل هو هذا ، رمي به في البحر فرقا منك فاقتله ، فهم فرعون بقتله . قالت آسية : قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ، وكانت لا تلد ، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها ، وقال فرعون أما أنا فلا حاجة لي فيه ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو قال فرعون يومئذ هو قرة عين لي كما هو [ ص: 193 ] لك لهداه الله كما هداها " . فقيل لآسية سميه فقالت : سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر فمو هو الماء ، وسي هو الشجر فذلك قوله - عز وجل - : ( فالتقطه آل فرعون )
( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ( 8 ) وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ( 9 ) )
( فالتقطه آل فرعون ) والالتقاط هو وجود الشيء من غير طلب ، ( ليكون لهم عدوا وحزنا ) وهذه اللام تسمى لام العاقبة ولام الصيرورة ؛ لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوا وحزنا ولكن صار عاقبة أمرهم إلى ذلك . قرأ حمزة والكسائي : " حزنا " بضم الحاء وسكون الزاي ، وقرأ الآخرون بفتح الحاء والزاي ، وهما لغتان ، ( إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ) عاصين . آثمين .
قوله تعالى : ( وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك ) قال وهب : لما وضع التابوت بين يدي فرعون فتحوه فوجد فيه موسى فلما نظر إليه قال عبراني من الأعداء فغاظه ذلك ، وقال : كيف أخطأ هذا الغلام الذبح ؟ وكان فرعون قد استنكح امرأة من بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم وكانت من خيار النساء ومن بنات الأنبياء وكانت أما للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم وتعطيهم . قالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه : هذا الوليد أكبر من ابن سنة وإنما أمرت أن يذبح الولدان لهذه السنة فدعه يكون قرة عين لي وذلك ، ( لا تقتلوه ) وروي أنها قالت له : إنه أتانا من أرض أخرى ليس من بني إسرائيل ( عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ) أن هلاكهم على يديه ، فاستحياه فرعون ، وألقى الله عليه محبته وقال لامرأته : عسى أن ينفعك فأما أنا فلا أريد نفعه . قال وهب قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية : عسى أن ينفعنا لنفعه الله ، ولكنه أبى ؛ للشقاء الذي كتبه الله عليه .
[ ص: 194 ] ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ( 10 ) وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون ( 11 ) )
وقوله تعالى : ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ) أي : خاليا من كل شيء إلا من ذكر موسى وهمه ، وهذا قول أكثر المفسرين . وقال الحسن : " فارغا " أي : ناسيا للوحي الذي أوحى الله إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر ولا تخاف ولا تحزن ، والعهد الذي عهد أن يرده إليها ويجعله من المرسلين ، فجاءها الشيطان فقال : كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه وتوليت أنت قتله فألقيته في البحر ، وأغرقته ، ولما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه في النيل قالت : إنه وقع في يد عدوه الذي فررت منه ، فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها . وقال أبو عبيدة : " فارغا " أي : فارغا من الحزن ؛ لعلمها بصدق وعد الله تعالى . وأنكر القتيبي هذا ، وقال : كيف يكون هذا والله تعالى يقول : " إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها " ؟ والأول أصح .
قول الله - عز وجل - : ( إن كادت لتبدي به ) قيل الهاء في " به " راجعة إلى موسى ، أي : كادت لتبدي به أنه ابنها من شدة وجدها . وقال عكرمة عن ابن عباس : كادت تقول : وابناه . وقال مقاتل : لما رأت التابوت يرفعه موج ويضعه آخر خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شفقتها . وقال الكلبي : كادت تظهر أنه ابنها ، وذلك حين سمعت الناس يقولون لموسى بعدما شب : موسى بن فرعون ، فشق عليها فكادت تقول : بل هو ابني . وقال بعضهم : الهاء عائدة إلى الوحي أي : كادت تبدي بالوحي الذي أوحى الله إليها أن يرده إليها . ( لولا أن ربطنا على قلبها ) بالعصمة والصبر والتثبيت ، ( لتكون من المؤمنين ) المصدقين لوعد الله حين قال لها : ( إنا رادوه إليك )
( وقالت لأخته ) أي : لمريم أخت موسى : ( قصيه ) اتبعي أثره حتى تعلمي خبره ، ( فبصرت به عن جنب ) أي : عن بعد ، وفي القصة أنها كانت تمشي جانبا وتنظر اختلاسا لترى أنها لا تنظره ، [ ص: 195 ] ( وهم لا يشعرون ) أنها أخته وأنها ترقبه . قال ابن عباس : إن امرأة فرعون كان همها من الدنيا أن تجد له مرضعة ، فكلما أتوا بمرضعة لم يأخذ ثديها فذلك قوله - عز وجل - : ( وحرمنا عليه المراضع )
( وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ( 12 ) فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 13 ) ( ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ( 14 ) )
( وحرمنا عليه المراضع ) والمراد من التحريم المنع ، والمراضع : جمع المرضع ، ( من قبل ) أي : من قبل مجيء أم موسى ، فلما رأت أخت موسى التي أرسلتها أمه في طلبه ذلك قالت لهم : هل أدلكم ؟ وفي القصة أن موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثديا ويصيح وهم في طلب مرضعة له .
( فقالت ) يعني أخت موسى : ( هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه ) أي : يضمنونه ( لكم ) ويرضعونه ، وهي امرأة قد قتل ولدها فأحب شيء إليها أن تجد صغيرا ترضعه ، ( وهم له ناصحون ) والنصح ضد الغش ، وهو تصفية العمل من شوائب الفساد . قالوا : نعم فأتينا بها . قال ابن جريج والسدي : لما قالت أخت موسى : " وهم له ناصحون " أخذوها وقالوا : إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله . فقالت : ما أعرفه ، وقلت : هم للملك ناصحون . وقيل : إنها قالت : إنما قلت هذا رغبة في سرور الملك واتصالنا به . وقيل إنها لما قالت : " هل أدلكم على أهل بيت " قالوا لها : من ؟ قالت : أمي قالوا : ولأمك ابن ؟ قالت : نعم هارون ، وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها . قالوا : صدقت ، فأتينا بها ، فانطلقت إلى أمها وأخبرتها بحال ابنها ، وجاءت بها إليهم ، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها ، وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه ريا . قال السدي : كانوا يعطونها كل يوم دينارا فذلك قوله تعالى : ( فرددناه إلى أمه كي تقر عينها )
( فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ) برد موسى إليها ، ( ولا تحزن ) أي : ولئلا تحزن . ( ولتعلم أن وعد الله حق ) برده إليها . ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) أن الله وعدها رده إليها .
( ولما بلغ أشده ) قال الكلبي : الأشد ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة . قال مجاهد [ ص: 196 ] وغيره : ثلاث وثلاثون سنة . ( واستوى ) أي : بلغ أربعين سنة ، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقيل : استوى انتهى شبابه ( آتيناه حكما وعلما ) أي : الفقه والعقل والعلم في الدين ، فعلم موسى وحكم قبل أن يبعث نبيا ، ( وكذلك نجزي المحسنين )
ابو وليد البحيرى
2022-07-08, 10:25 PM
الحلقة (322)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْقَصَصِ
مَكِّيَّةٌ
الاية15 إلى الاية 28
( ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ( 15 ) )
قوله تعالى : ( ودخل المدينة ) يعني : دخل موسى المدينة . قال السدي : هي مدينة " منف " من أرض مصر . وقال مقاتل : كانت قرية " حابين " على رأس فرسخين من مصر . وقيل : مدينة " عين الشمس " ، ( على حين غفلة من أهلها ) وقت القائلة واشتغال الناس بالقيلولة . وقال محمد بن كعب القرظي : دخلها فيما بين المغرب والعشاء . واختلفوا في السبب الذي من أجله دخل المدينة في هذا الوقت . قال السدي : وذلك أن موسى - عليه السلام - كان يسمى : ابن فرعون ، فكان يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ملابسه ، فركب فرعون يوما وليس عنده موسى ، فلما جاء موسى قيل له : إن فرعون قد ركب ، فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض " منف " فدخلها نصف النهار ، وليس في طرفها أحد ، فذلك قوله - عز وجل - : ( ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها ) قال ابن إسحاق : كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يستمعون منه ويقتدون به ، فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه ، فخالفهم في دينه حتى ذكر ذلك منه وخافوه وخافهم ، فكان لا يدخل قرية إلا خائفا مستخفيا ، فدخلها يوما على حين غفلة من أهلها . وقال ابن زيد : لما علا موسى فرعون بالعصا في صغره ، فأراد فرعون قتله ، قالت امرأته : هو صغير ، فترك قتله وأمر بإخراجه من مدينته ، فلم يدخل عليهم إلا بعد أن كبر وبلغ أشده فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها يعني : عن ذكر موسى ، أي : من بعد نسيانهم خبره وأمره لبعد عهدهم به .
[ ص: 197 ]
وروي عن علي في قوله : " حين غفلة " كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم . ( فوجد فيها رجلين يقتتلان ) يختصمان ويتنازعان ، ( هذا من شيعته ) بني إسرائيل ، ( وهذا من عدوه ) من القبط . قيل : الذي كان من شيعته : السامري . والذي من عدوه من القبط قيل : طباخ فرعون اسمه فليثون . وقيل : " هذا من شيعته . وهذا من عدوه " أي : هذا مؤمن وهذا كافر ، وكان القبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل الحطب إلى المطبخ . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع ، وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى ؛ لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم ، فوجد موسى رجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر من آل فرعون ، ( فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ) فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، والاستغاثة : طلب الغوث ، فغضب موسى واشتد غضبه ; لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ، ولا يعلم الناس إلا أنه من قبل الرضاعة من أم موسى ، فقال للفرعوني : خل سبيله ، فقال : إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك ، فنازعه . فقال الفرعوني لقد هممت أن أحمله عليك ، وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدة في القوة والبطش ، ( فوكزه موسى ) وقرأ ابن مسعود : " فلكزه موسى " ، ومعناهما واحد ، وهو الضرب بجمع الكف . وقيل : " الوكز " الضرب في الصدر " واللكز " في الظهر . وقال الفراء : معناهما واحد ، وهو الدفع . قال أبو عبيدة : الوكز الدفع بأطراف الأصابع ، وفي بعض التفاسير : عقد موسى ثلاثا وثمانين وضربه في صدره ، ( فقضى عليه ) أي : فقتله وفرغ من أمره ، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه . فندم موسى - عليه السلام - ولم يكن قصده القتل ، فدفنه في الرمل ، ( قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ) أي : بين الضلالة .
( قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ( 16 ) قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ( 17 ) )
( قال رب إني ظلمت نفسي ) بقتل القبطي من غير أمر ، ( فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم )
( قال رب بما أنعمت علي ) بالمغفرة ، ( فلن أكون ظهيرا ) عونا ، ( للمجرمين ) قال [ ص: 198 ] ابن عباس : للكافرين . وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرا ، وهو قول مقاتل . قال قتادة : لن أعين بعدها على خطيئة ، قال ابن عباس : لم يستثن فابتلي به في اليوم الثاني .
( فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين ( 18 ) فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ( 19 ) وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ( 20 ) )
( فأصبح في المدينة ) أي : في المدينة التي قتل فيها القبطي ( خائفا ) من قتله القبطي ، ( يترقب ) ينتظر سوءا . والترقب : انتظار المكروه . قال الكلبي : ينتظر متى يؤخذ به ، ( فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ) يستغيثه ويصيح به من بعد . قال ابن عباس : أتي فرعون فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا منا رجلا فخذ لنا بحقنا ، فقال : ابغوا لي قاتله ومن يشهد عليه ، فلا يستقيم أن يقضي بغير بينة ، فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة إذ مر موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا فاستغاثه على الفرعوني فصادف موسى ، وقد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي ، ( قال له موسى ) للإسرائيلي : ( إنك لغوي مبين ) ظاهر الغواية قاتلت بالأمس رجلا فقتلته بسببك ، وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه ؟ وقيل : إنما قال موسى للفرعوني : إنك لغوي مبين بظلمك ، والأول أصوب ، وعليه الأكثرون أنه قال ذلك للإسرائيلي .
( فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما ) وذلك أن موسى أدركته الرقة بالإسرائيلي فمد يده ليبطش بالفرعوني ، فظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به لما رأى من غضبه وسمع قوله : إنك لغوي مبين ، ( قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد ) ما تريد ، ( إلا أن تكون جبارا في الأرض ) بالقتل ظلما ، ( وما تريد أن تكون من المصلحين ) فلما سمع القبطي ما قال الإسرائيلي علم أن موسى هو الذي قتل ذلك الفرعوني ، فانطلق إلى فرعون وأخبره بذلك ، وأمر فرعون بقتل موسى . قال ابن عباس : فلما أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى أخذوا الطريق الأعظم .
( وجاء رجل ) من شيعة موسى ، ( من أقصى المدينة ) أي : من آخرها ، قال أكثر أهل التأويل : اسمه " حزبيل " مؤمن من آل فرعون ، وقيل : اسمه " شمعون " ، وقيل : " شمعان " ، ( يسعى ) [ ص: 199 ] أي : يسرع في مشيه ، فأخذ طريقا قريبا حتى سبق إلى موسى فأخبره وأنذره حتى أخذ طريقا آخر ، ( قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ) يعني : أشراف قوم فرعون يتشاورون فيك ، ( ليقتلوك ) قال الزجاج : يأمر بعضهم بعضا بقتلك ، ( فاخرج ) من المدينة ، ( إني لك من الناصحين ) في الأمر لك بالخروج .
( فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ( 21 ) ( ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ( 22 ) ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ( 23 ) )
( فخرج منها ) موسى ، ( خائفا يترقب ) أي : ينتظر الطلب ، ( قال رب نجني من القوم الظالمين ) الكافرين ، وفي القصة : أن فرعون بعث في طلبه حين أخبر بهربه فقال اركبوا ثنيات الطريق فإنه لا يعرف كيف الطريق .
( ولما توجه تلقاء مدين ) أي : قصد نحوها ماضيا إليها ، يقال : داره تلقاء دار فلان ، إذا كانت في محاذاتها ، وأصله من اللقاء ، قال الزجاج : يعني سلك الطريق الذي تلقاء مدين فيها ، ومدين هو مدين بن إبراهيم ، سميت البلدة باسمه ، وكان موسى قد خرج خائفا بلا ظهر ولا حذاء ولا زاد ، وكانت مدين على مسيرة ثمانية أيام من مصر ، ( قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ) أي : قصد الطريق إلى مدين ، قال ذلك لأنه لم يكن يعرف الطريق إليها قبل ، فلما دعا جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به إلى مدين . قال المفسرون : خرج موسى من مصر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر والبقل ، حتى يرى خضرته في بطنه ، وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه . قال ابن عباس : وهو أول ابتلاء من الله - عز وجل - لموسى عليه السلام .
( ولما ورد ماء مدين ) وهو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم ، ( وجد عليه أمة ) جماعة ( من الناس يسقون ) مواشيهم ، ( ووجد من دونهم ) يعني : سوى الجماعة ، ( امرأتين تذودان ) يعني : تحبسان وتمنعان أغنامهما عن الماء حتى يفرغ الناس وتخلو لهم البئر ، قال الحسن : تكفان الغنم عن أن تختلط بأغنام الناس ، وقال قتادة : تكفان الناس عن أغنامهما . وقيل : تمنعان أغنامهما [ ص: 200 ] عن أن تشذ وتذهب . والقول الأول أصوبها ، لما بعده ، وهو قوله : ( قال ) يعني : موسى للمرأتين ، ( ما خطبكما ) ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس ؟ ( قالتا لا نسقي ) أغنامنا ، ( حتى يصدر الرعاء ) قرأ أبو جعفر ، وأبو عمرو ، وابن عامر : " يصدر " بفتح الياء وضم الدال على اللزوم ، أي : حتى يرجع الرعاء عن الماء ، وقرأ الآخرون : بضم الياء وكسر الدال ، أي : حتى يصرفوا هم مواشيهم عن الماء ، و " الرعاء " جمع راع ، مثل : تاجر وتجار . ومعنى الآية : لا نسقي مواشينا حتى يصدر الرعاء ، لأنا امرأتان لا نطيق أن نسقي ، ولا نستطيع أن نزاحم الرجال ، فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض .
( وأبونا شيخ كبير ) لا يقدر أن يسقي مواشيه ، فلذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم . واختلفوا في اسم أبيهما ، فقال مجاهد ، والضحاك ، والسدي والحسن : هو شعيب النبي عليه السلام . وقال وهب بن منبه ، وسعيد بن جبير : هو يثرون بن أخي شعيب ، وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعدما كف بصره ، فدفن بين المقام وزمزم . وقيل : رجل ممن آمن بشعيب قالوا : فلما سمع موسى قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس .
[ ص: 201 ]
وقال ابن إسحاق : إن موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر ، فسقى غنم المرأتين . ويروى : أن القوم لما رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر ، فجاء موسى ورفع الحجر وحده ، وسقى غنم المرأتين . ويقال : إنه نزع ذنوبا واحدا ودعا فيه بالبركة ، فروى منه جميع الغنم ، فذلك قوله : ( فسقى لهما ثم تولى إلى الظل )
( فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ( 24 ) فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ( 25 ) )
( فسقى لهما ثم تولى إلى الظل ) ظل شجرة ، فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع ، ( فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير ) طعام ، ( فقير ) قال أهل اللغة اللام بمعنى " إلى " ، يقال : هو فقير له ، وفقير إليه ، يقول : إني لما أنزلت إلي من خير ، أي : طعام ، فقير محتاج ، كان يطلب الطعام لجوعه . قال ابن عباس : سأل الله تعالى فلقة خبز يقيم بها صلبه . قال الباقر : لقد قالها وإنه لمحتاج إلى شق تمرة . وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لقد قال موسى : ( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) وهو أكرم خلقه عليه ، ولقد افتقر إلى شق تمرة . وقال مجاهد : ما سأله إلا الخبز . قالوا : فلما رجعتا إلى أبيهما سريعا قبل الناس وأغنامهما حفل بطان ، قال لهما : ما أعجلكما ؟ قالتا : وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا أغنامنا ، فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي .
قال الله تعالى : ( فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة ، ولكن جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء ، ( قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) قال أبو حازم سلمة بن [ ص: 202 ] دينار : لما سمع ذلك موسى أراد أن لا يذهب ، ولكن كان جائعا فلم يجد بدا من الذهاب ، فمشت المرأة ومشى موسى خلفها ، فكانت الريح تضرب ثوبها فتصف ردفها ، فكره موسى أن يرى ذلك منها ، فقال لها : امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت ، ففعلت ذلك ، فلما دخل على شعيب إذا هو بالعشاء مهيأ ، فقال : اجلس يا شاب فتعش ، فقال موسى : أعوذ بالله ، فقال شعيب : ولم ذاك ألست بجائع ؟ قال : بلى ، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما ، وإنا من أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضا من الدنيا ، فقال له شعيب : لا والله يا شاب ، ولكنها عادتي وعادة آبائي ، نقري الضيف ، ونطعم الطعام ، فجلس موسى وأكل .
( فلما جاءه وقص عليه القصص ) يعني : أمره أجمع من قتله القبطي وقصد فرعون قتله ، ( قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) يعني : فرعون وقومه ، وإنما قال هذا لأنه لم يكن لفرعون سلطان على مدين .
( قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ( 26 ) قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ( 27 ) )
( قالت إحداهما يا أبت استأجره ) اتخذه أجيرا ليرعى أغنامنا ، ( إن خير من استأجرت القوي الأمين ) يعني : خير من استعملت من قوي على العمل وأدى الأمانة ، فقال لها أبوها : وما علمك بقوته وأمانته ؟ قالت : أما قوته : فإنه رفع حجرا من رأس البئر لا يرفعه إلا عشرة . وقيل : إلا أربعون رجلا وأما أمانته : فإنه قال لي امشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك .
( قال ) شعيب عند ذلك : ( إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ) واسمها " صفورة " و " ليا " في قول شعيب الجبائي ، وقال ابن إسحاق : " صفورة " و " شرقا " وقال غيرهما : الكبرى " صفراء " والصغرى " صفيراء " . وقيل زوجه الكبرى . وذهب أكثرهم إلى أنه زوجه الصغرى منهما واسمها [ ص: 203 ] " صفورة " ، وهي التي ذهبت لطلب موسى ، ( على أن تأجرني ثماني حجج ) يعني : أن تكون أجيرا لي ثمان سنين ، قال الفراء : يعني : تجعل ثوابي من تزويجها أن ترعى غنمي ثماني حجج ، تقول العرب : آجرك الله بأجرك أي : أثابك ، والحجج : السنون ، واحدتها حجة ، ( فإن أتممت عشرا فمن عندك ) أي : إن أتممت عشر سنين فذلك تفضل منك وتبرع ، ليس بواجب عليك ، ( وما أريد أن أشق عليك ) أي : ألزمك تمام العشر إلا أن تتبرع ( ستجدني إن شاء الله من الصالحين ) قال عمر : يعني : في حسن الصحبة والوفاء بما قلت .
( قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل ( 28 ) )
( قال ) موسى ، ( ذلك بيني وبينك ) يعني : هذا الشرط بيني وبينك ، فما شرطت علي فلك وما شرطت من تزويج إحداهما فلي ، والأمر بيننا ، تم الكلام ، ثم قال : ( أيما الأجلين قضيت ) يعني : أي الأجلين : و " ما " صلة ، " قضيت " : أتممت وفرغت منه ، الثمان أو العشر ، ( فلا عدوان علي ) لا ظلم علي بأن أطالب بأكثر منهما ، ( والله على ما نقول وكيل ) قال ابن عباس ومقاتل : شهيد فيما بيني وبينك . وقيل : حفيظ . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن عبد الرحيم ، أخبرنا سعيد بن سليمان ، أخبرنا مروان بن شجاع ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا أدري حتى أقدم على خير العرب فأسأله ، فقدمت فسألت ابن عباس قال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال فعل وروي عن أبي ذر مرفوعا : إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى ؟ فقل : خيرهما وأبرهما ، وإذا سئلت : فأي المرأتين تزوج ؟ فقل : الصغرى منهما ، وهي التي جاءت ، فقالت يا أبت استأجره ، فتزوج أصغرهما وقضى أوفاهما .
[ ص: 204 ]
وقال وهب : أنكحه الكبرى . وروي عن شداد بن أوس مرفوعا : بكى شعيب النبي - صلى الله عليه وسلم - من حب الله - عز وجل - حتى عمي فرد الله عليه بصره ، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره ، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره ، فقال الله : ما هذا البكاء ؟ أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار ؟ قال : لا يا رب ، ولكن شوقا إلى لقائك ، فأوحى الله إليه إن يكن ذلك فهنيئا لك لقائي يا شعيب ، لذلك أخدمتك موسى كليمي .
ولما تعاقدا هذا العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه ، واختلفوا في تلك العصا; قال عكرمة : خرج بها آدم من الجنة فأخذها جبريل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلا فدفعها إليه . وقال آخرون : كانت من آس الجنة ، حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء ، وكان لا يأخذها غير نبي إلا أكلته ، فصارت من آدم إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب ، فكانت عصا الأنبياء عنده فأعطاها موسى . وقال السدي : كانت تلك العصا استودعها إياه ملك في صورة رجل ، فأمر ابنته أن تأتيه بعصا فدخلت فأخذت العصا فأتته بها ، فلما رآها شعيب قال لها : ردي هذه العصا ، وأتيه بغيرها ، فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها فلا يقع في يدها إلا هي ، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات فأعطاها موسى [ ص: 205 ] فأخرجها موسى معه ، ثم إن الشيخ ندم وقال : كانت وديعة ، فذهب في أثره ، وطلب أن يرد العصا فأبى موسى أن يعطيه . وقال : هي عصاي ، فرضيا أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما ، فلقيهما ملك في صورة رجل فحكم أن يطرح العصا فمن حملها فهي له ، فطرح موسى العصا فعالجها الشيخ ليأخذها فلم يطقها ، فأخذها موسى بيده فرفعها فتركها له الشيخ .
ثم إن موسى لما أتم الأجل وسلم شعيب ، ابنته إليه ، قال موسى للمرأة : اطلبي من أبيك أن يجعل لنا بعض الغنم ، فطلبت من أبيها ، فقال شعيب : لكما كل ما ولدت هذا العام على غير شيتها . وقيل : أراد شعيب أن يجازي موسى على حسن رعيته إكراما له وصلة لابنته ، فقال له إني قد وهبت لك من الجدايا التي تضعها أغنامي هذه السنة كل أبلق وبلقاء ، فأوحى الله إلى موسى في المنام أن اضرب بعصاك الماء الذي في مستقى الأغنام قال : فضرب موسى بعصاه الماء ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله - عز وجل - إلى موسى وامرأته فوفى له شرطه وسلم الأغنام إليه .
ابو وليد البحيرى
2022-07-08, 10:29 PM
الحلقة (323)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْقَصَصِ
مَكِّيَّةٌ
الاية29 إلى الاية 47
( فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ( 29 ) )
قوله - عز وجل - : ( فلما قضى موسى الأجل ) يعني أتمه وفرغ منه ، ( وسار بأهله ) قال مجاهد : لما قضى موسى الأجل مكث بعد ذلك عند صهره عشرا آخر فأقام عنده عشرين سنة ، ثم استأذنه في العود إلى مصر ، فأذن له ، فخرج بأهله إلى جانب مصر ، ( آنس ) يعني : أبصر ، ( من جانب الطور نارا ) وكان في البرية في ليلة مظلمة ، شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق ، ( قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر ) [ ص: 206 ] عن الطريق ، لأنه كان قد أخطأ الطريق ، ( أو جذوة من النار ) يعني : قطعة وشعلة من النار . وفيها ثلاث لغات ، قرأ عاصم : " جذوة " بفتح الجيم ، وقرأ حمزة بضمها ، وقرأ الآخرون بكسرها ، قال قتادة ومقاتل : هي العود الذي قد احترق بعضه ، وجمعها " جذى " ( لعلكم تصطلون ) تستدفئون .
( فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن ياموسى إني أنا الله رب العالمين ( 30 ) وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ( 31 ) اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين ( 32 ) )
( فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن ) من جانب الوادي الذي عن يمين موسى ، ( في البقعة المباركة ) لموسى ، جعلها الله مباركة لأن الله كلم موسى هناك وبعثه نبيا . وقال عطاء : يريد المقدسة ، ( من الشجرة ) من ناحية الشجرة ، قال ابن مسعود : كانت سمرة خضراء تبرق ، وقال قتادة ومقاتل والكلبي : كانت عوسجة . قال وهب من العليق ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : أنها العناب ، ( أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين )
( وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز ) تتحرك ، ( كأنها جان ) وهي الحية الصغيرة من سرعة حركتها ، ( ولى مدبرا ) هاربا منها ، ( ولم يعقب ) لم يرجع ، فنودي : ( يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين )
( اسلك ) أدخل ( يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ) برص ، فخرجت ولها شعاع كضوء الشمس ، ( واضمم إليك جناحك من الرهب ) قرأ أهل الكوفة ، والشام : بضم الراء وسكون الهاء ، ويفتح الراء حفص ، وقرأ الآخرون بفتحهما ، وكلها لغات بمعنى الخوف [ ص: 207 ] ومعنى الآية : إذا هلك أمر يدك وما ترى من شعاعها فأدخلها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى . " والجناح " : اليد كلها . وقيل : هو العضد . وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم : أمره الله أن يضم يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية ، وقال : ما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه . قال مجاهد : كل من فزع فضم جناحيه إليه ذهب عنه الفزع . وقيل : المراد من ضم الجناح : السكون ، أي : سكن روعك واخفض عليك جانبك ، لأن من شأن الخائف أن يضطرب قلبه ويرتعد بدنه ، ومثله قوله : " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " ( الإسراء - 24 ) ، يريد الرفق ، وقوله : " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " ( الشعراء - 215 ) ، أي : ارفق بهم وألن جانبك لهم .
قال الفراء : أراد بالجناح العصا ، معناه : اضمم إليك عصاك . وقيل : " الرهب " الكم بلغة حمير ، قال الأصمعي : سمعت بعض الأعراب يقول : أعطني ما في رهبك ، أي : في كمك ، معناه : اضمم إليك يدك وأخرجها من الكم ، لأنه تناول العصا ويده في كمه . ( فذانك ) يعني : العصا ، واليد البيضاء ، ( برهانان ) آيتان ، ( من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين )
( قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون ( 33 ) وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون ( 34 ) )
( قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون )
( وأخي هارون هو أفصح مني لسانا ) وإنما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه من وضع الجمرة في فيه ، ( فأرسله معي ردءا ) عونا ، يقال ردأته أي : أعنته ، قرأ نافع ( ردا ) بفتح الدال [ ص: 208 ] من غير همز طلبا للخفة ، وقرأ الباقون بسكون الدال مهموزا ، ( يصدقني ) قرأ عاصم ، وحمزة : برفع القاف على الحال ، أي : ردءا مصدقا ، وقرأ الآخرون بالجزم على جواب الدعاء والتصديق لهارون في قول الجميع ، قال مقاتل : لكي يصدقني فرعون ، ( إني أخاف أن يكذبون ) يعني فرعون وقومه .
( قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ( 35 ) ( فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ( 36 ) وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون ( 37 ) وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين ( 38 ) )
( قال سنشد عضدك بأخيك ) أي : نقويك بأخيك ، وكان هارون يومئذ بمصر ، ( ونجعل لكما سلطانا ) حجة وبرهانا ، ( فلا يصلون إليكما بآياتنا ) أي : لا يصلون إليكما بقتل ولا سوء لمكان آياتنا ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : ونجعل لكما سلطانا بآياتنا بما نعطيكما من المعجزات فلا يصلون إليكما ، ( أنتما ومن اتبعكما الغالبون ) أي : لكما ولأتباعكما الغلبة على فرعون وقومه .
( فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات ) واضحات ، ( قالوا ما هذا إلا سحر مفترى ) مختلق ، ( وما سمعنا بهذا ) بالذي تدعونا إليه ، ( في آبائنا الأولين )
( وقال موسى ) قرأ أهل مكة بغير واو ، وكذلك هو في مصاحفهم ، ( ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ) بالمحق من المبطل ، ( ومن تكون له عاقبة الدار ) العقبى المحمودة في الدار الآخرة ، ( إنه لا يفلح الظالمون ) أي : الكافرون .
( وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين ) فاطبخ لي الآجر ، وقيل : إنه أول من اتخذ من الآجر وبنى به ، ( فاجعل لي صرحا ) قصرا عاليا ، وقيل : منارة ، قال أهل التفسير لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح ، جمع هامان العمال والفعلة [ ص: 209 ] حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ، ومن يطبخ الآجر والجص وينجر الخشب ويضرب المسامير ، فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق ، أراد الله - عز وجل - أن يفتنهم فيه ، فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه وأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي ملطخة دما ، فقال قد قتلت إله موسى ، وكان فرعون يصعد على البراذين ، فبعث الله جبريل جنح غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقعت قطعة منها على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة في البحر وقطعة في المغرب ، ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلا هلك ، فذلك قوله تعالى : ( فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى ) أنظر إليه وأقف على حاله ، ( وإني لأظنه ) يعني موسى ، ( من الكاذبين ) في زعمه أن للأرض والخلق إلها غيري ، وأنه رسوله .
( واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ( 39 ) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ( 40 ) وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ( 41 ) وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ( 42 ) )
( واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ) قرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ويعقوب : " يرجعون " بفتح الياء وكسر الجيم ، والباقون بضم الياء وفتح الجيم .
( فأخذناه وجنوده فنبذناهم ) فألقيناهم ، ( في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين )
( وجعلناهم أئمة ) قادة ورؤساء ، ( يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ) لا يمنعون من العذاب .
( وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ) خزيا وعذابا ، ( ويوم القيامة هم من المقبوحين ) المبعدين الملعونين ، وقال أبو عبيدة : من المهلكين . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : من [ ص: 210 ] المشوهين بسواد الوجوه وزرقة العيون ، يقال : قبحه الله وقبحه : إذا جعله قبيحا ، ويقال : قبحه قبحا ، وقبوحا ، إذا أبعده من كل خير .
( ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون ( 43 ) ( وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ( 44 ) ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ( 45 ) )
قوله تعالى : ( ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ) يعني : قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم كانوا قبل موسى ، ( بصائر للناس ) أي : ليبصروا بذلك الكتاب ويهتدوا به ، ( وهدى ) من الضلالة لمن عمل به ، ( ورحمة ) لمن آمن به ، ( لعلهم يتذكرون ) بما فيه من المواعظ والبصائر .
( وما كنت ) يا محمد ، ( بجانب الغربي ) يعني : بجانب الجبل الغربي ، قاله قتادة والسدي ، وقال الكلبي : بجانب الوادي الغربي . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يريد حيث ناجى موسى ربه ، ( إذ قضينا إلى موسى الأمر ) يعني عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه ، ( وما كنت من الشاهدين ) الحاضرين ذلك المقام فتذكره من ذات نفسك .
( ولكنا أنشأنا قرونا ) خلقنا أمما بعد موسى عليه السلام ، ( فتطاول عليهم العمر ) أي : طالت عليهم المهلة فنسوا عهد الله وتركوا أمره ، وذلك أن الله تعالى قد عهد إلى موسى وقومه عهودا في محمد - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به ، فلما طال عليهم العمر وخلفت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها . ( وما كنت ثاويا ) مقيما ، ( في أهل مدين ) كمقام موسى وشعيب فيهم ، ( تتلو عليهم آياتنا ) تذكرهم بالوعد والوعيد ، قال مقاتل : يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم ، ( ولكنا كنا مرسلين ) أي : أرسلناك رسولا وأنزلنا عليك كتابا فيه هذه الأخبار ، فتتلوها عليهم ولولا ذلك لما علمتها ولم تخبرهم بها .
[ ص: 211 ] ( وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ( 46 ) ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ( 47 ) )
( وما كنت بجانب الطور ) بناحية الجبل الذي كلم الله عليه موسى ، ( إذ نادينا ) قيل : إذ نادينا موسى : خذ الكتاب بقوة . وقال وهب : قال موسى : يا رب أرني محمدا ، قال : إنك لن تصل إلى ذلك ، وإن شئت ناديت أمته وأسمعتك صوتهم ، قال : بلى يا رب ، قال الله تعالى : يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير : ونادى يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ورفعه بعضهم - ، قال الله : يا أمة محمد ، فأجابوه من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات : لبيك اللهم لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك . قال الله تعالى : يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي وعفوي سبق عقابي ، قد أعطيتكم من قبل أن تسألوني وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني ، وقد غفرت لكم من قبل أن تعصوني ، من جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي دخل الجنة ، وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر . قوله تعالى : ( ولكن رحمة من ربك ) أي : ولكن رحمناك رحمة بإرسالك والوحي إليك وإطلاعك على الأخبار الغائبة عنك ، ( لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك ) يعني : أهل مكة ، ( لعلهم يتذكرون )
( ولولا أن تصيبهم مصيبة ) عقوبة ونقمة ، ( بما قدمت أيديهم ) من الكفر والمعصية ، [ ص: 212 ] ( فيقولوا ربنا لولا ) هلا ( أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ) وجواب " لولا " محذوف ، أي : لعاجلناهم بالعقوبة ، يعني : لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم . وقيل : معناه لما بعثناك إليهم رسولا ولكن بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل .
ابو وليد البحيرى
2022-07-08, 10:36 PM
الحلقة (324)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْقَصَصِ
مَكِّيَّةٌ
الاية48 إلى الاية 75
( فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون ( 48 ) قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ( 49 ) فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( 50 ) )
( فلما جاءهم الحق من عندنا ) يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ( قالوا ) يعني : كفار مكة ، ( لولا ) هلا ( أوتي ) محمد ، ( مثل ما أوتي موسى ) من الآيات كاليد البيضاء والعصا وقيل : مثل ما أوتي موسى كتابا جملة واحدة . قال الله تعالى : ( أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ) أي : فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد ( قالوا سحران تظاهرا ) قرأ أهل الكوفة : " سحران " ، أي : التوراة والقرآن : " تظاهرا " يعني : كل سحر يقوي الآخر ، نسب التظاهر إلى السحرين على الاتساع ، قال الكلبي : كانت مقالتهم تلك حين بعثوا إلى رءوس اليهود بالمدينة ، فسألوهم عن محمد فأخبروهم أن نعته في كتابهم التوراة ، فرجعوا فأخبروهم بقول اليهود ، فقالوا : سحران تظاهرا . وقرأ الآخرون : " ساحران " يعنون محمدا وموسى عليه السلام ، لأن معنى التظاهر بالناس وأفعالهم أشبه منه بالكتب ، ( وقالوا إنا بكل كافرون )
( قل ) يا محمد ، ( فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما ) يعني : من التوراة والقرآن ، ( أتبعه إن كنتم صادقين )
( فإن لم يستجيبوا لك ) أي : لم يأتوا بما طلبت ، ( فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين )
[ ص: 213 ] ( ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ( 51 ) الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ( 52 ) )
( ولقد وصلنا لهم القول ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : بينا . قال الفراء : أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضا . قال قتادة : وصل لهم القول في هذا القرآن ، يعني كيف صنع بمن مضى . قال مقاتل : بينا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم . وقال ابن زيد : وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا ، ( لعلهم يتذكرون )
( الذين آتيناهم الكتاب من قبله ) من قبل محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم . وقيل : من قبل القرآن ، ( هم به يؤمنون ) نزلت في مؤمني أهل الكتاب; عبد الله بن سلام وأصحابه . وقال مقاتل : بل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال سعيد بن جبير : هم أربعون رجلا قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا : يا نبي الله إن لنا أموالا فإن أذنت لنا انصرفنا وجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها فأذن لهم ، فانصرفوا فأتوا بأموالهم ، فواسوا بها المسلمين ، فنزل فيهم : ( الذين آتيناهم الكتاب ) إلى قوله تعالى : ( ومما رزقناهم ينفقون ) . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : نزلت في ثمانين من أهل الكتاب ، أربعون من نجران ، واثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية من الشام . ثم وصفهم الله فقال : ( وإذا يتلى عليهم )
[ ص: 214 ] ( وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ( 53 ) أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون ( 54 ) وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ( 55 ) )
( وإذا يتلى عليهم ) يعني القرآن ، ( قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا ) وذلك أن ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، ( إنا كنا من قبله مسلمين ) أي : من قبل القرآن مسلمين مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أنه نبي حق .
( أولئك يؤتون أجرهم مرتين ) لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ، ( بما صبروا ) على دينهم . قال مجاهد : نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأوذوا أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حفص الجويني ، أخبرنا أحمد بن سعيد الدارمي ، أخبرنا عثمان ، أخبرنا شعبة ، عن صالح ، عن الشعبي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده " . قوله - عز وجل - : ( ويدرءون بالحسنة السيئة ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك ، قال مقاتل : يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو ، ( ومما رزقناهم ينفقون ) في الطاعة .
( وإذا سمعوا اللغو ) القبيح من القول ، ( أعرضوا عنه ) وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون : تبا لكم تركتم دينكم ، فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم ، [ ص: 215 ] ( وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) لنا ديننا ولكم دينكم ، ( سلام عليكم ) ليس المراد منه سلام التحية ، ولكنه سلام المتاركة ، معناه : سلمتم منا لا نعارضكم بالشتم والقبيح من القول ، ( لا نبتغي الجاهلين ) أي : دين الجاهلين ، يعني : لا نحب دينكم الذي أنتم عليه . وقيل : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه ، وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال .
( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ( 56 ) وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 57 ) )
قوله تعالى : ( إنك لا تهدي من أحببت ) أي : أحببت هدايته . وقيل : أحببته لقرابته ، ( ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ) قال مجاهد ، ومقاتل : لمن قدر له الهدى ، نزلت في أبي طالب قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : قل لا إله إلا الله ، أشهد لك بها يوم القيامة ، قال : لولا أن تعيرني قريش ، يقولون : إنما حمله على ذلك الجزع ، لأقررت بها عينك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) مكة ، نزلت في الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف ، وذلك أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنا لنعلم أن الذي تقول حق ، ولكنا إن اتبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة . وهو معنى قوله : ( نتخطف من أرضنا ) ، والاختطاف : الانتزاع بسرعة . قال الله تعالى : ( أولم نمكن لهم حرما آمنا ) وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تغير بعضهم على بعض ، ويقتل بعضهم بعضا ، وأهل مكة آمنون حيث كانوا ، لحرمة الحرم ، ومن المعروف أنه كان يأمن فيه الظباء من الذئاب والحمام من الحدأة ، ( يجبى ) قرأ أهل المدينة ويعقوب : " تجبى " بالتاء لأجل الثمرات ، والآخرون بالياء للحائل بين الاسم المؤنث والفعل ، أي : يجلب ويجمع ، ( إليه ) يقال : جبيت الماء في الحوض أي : جمعته ، قال مقاتل : يحمل إلى الحرم ، ( ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ) أن ما يقوله حق .
[ ص: 216 ] ( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين ( 58 ) وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ( 59 ) ( وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون ( 60 ) أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ( 61 ) )
قوله - عز وجل - : ( وكم أهلكنا من قرية ) أي من أهل قرية ، ( بطرت معيشتها ) أي : في معيشتها ، أي : أشرت وطغت ، قال عطاء : عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام ، ( فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لم يسكنها إلا المسافرون ومار الطريق يوما أو ساعة ، معناه : لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا . وقيل : معناه : لم يعمر منها إلا أقلها وأكثرها خراب ، ( وكنا نحن ، الوارثين ) " إنا نحن نرث الأرض ومن عليها " ( مريم - 40 ) .
( وما كان ربك مهلك القرى ) أي : القرى الكافرة أهلها ، ( حتى يبعث في أمها رسولا ) يعني : في أكبرها وأعظمها رسولا ينذرهم ، وخص الأعظم ببعثة الرسول فيها ، لأن الرسول يبعث إلى الأشراف ، والأشراف يسكنون المدائن ، والمواضع التي هي أم ما حولها ، ( يتلو عليهم آياتنا ) قال مقاتل : يخبرهم الرسول أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا ، ( وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ) مشركون ، يريد : أهلكتهم بظلمهم .
( وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها ) تتمتعون بها أيام حياتكم ثم هي إلى فناء وانقضاء ، ( وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون ) أن الباقي خير من الفاني . قرأ عامة القراء : " تعقلون " بالتاء وأبو عمرو بالخيار بين التاء والياء .
( أفمن وعدناه وعدا حسنا ) أي الجنة ( فهو لاقيه ) مصيبه ومدركه وصائر إليه ( كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ) ويزول عن قريب ( ثم هو يوم القيامة من المحضرين ) النار ، قال [ ص: 217 ] قتادة : يعني المؤمن والكافر ، قال مجاهد : نزلت في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي جهل . وقال محمد بن كعب : نزلت في حمزة وعلي ، وأبي جهل . وقال السدي : نزلت في عمار والوليد بن المغيرة .
( ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ( 62 ) قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ( 63 ) وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ( 64 ) ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ( 65 ) )
( ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) في الدنيا أنهم شركائي .
( قال الذين حق عليهم القول ) وجب عليهم العذاب وهم رءوس الضلالة ، ( ربنا هؤلاء الذين أغوينا ) أي : دعوناهم إلى الغي ، وهم الأتباع ، ( أغويناهم كما غوينا ) أضللناهم كما ضللنا ، ( تبرأنا إليك ) منهم ( ما كانوا إيانا يعبدون ) برئ بعضهم من بعض وصاروا أعداء ، كما قال تعالى : " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو " ( الزخرف - 67 ) .
( وقيل ) للكفار : ( ادعوا شركاءكم ) أي : الأصنام لتخلصكم من العذاب ، ( فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ) يجيبوهم ، ( ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ) وجواب " لو " محذوف على تقدير : لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما رأوا العذاب .
( ويوم يناديهم ) أي : يسأل الله الكفار ، ( فيقول ماذا أجبتم المرسلين )
[ ص: 218 ] ( فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون ( 66 ) فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين ( 67 ) وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ( 68 ) وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ( 69 ) وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون ( 70 ) )
( فعميت ) خفيت واشتبهت ( عليهم الأنباء ) أي : الأخبار والأعذار ، وقال مجاهد : الحجج ، ( يومئذ ) فلا يكون لهم عذر ولا حجة ، ( فهم لا يتساءلون ) لا يجيبون ، وقال قتادة : لا يحتجون ، وقيل : يسكتون لا يسأل بعضهم بعضا .
( فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين ) السعداء الناجين .
قوله تعالى : ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ) نزلت هذه الآية جوابا للمشركين حين قالوا : " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " ، يعني : الوليد بن المغيرة ، أو عروة بن مسعود الثقفي ، أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم . قوله - عز وجل - : ( ما كان لهم الخيرة ) قيل : " ما " للإثبات ، معناه : ويختار الله ما كان لهم الخيرة ، أي : يختار ما هو الأصلح والخير . وقيل : هو للنفي أي : ليس إليهم الاختيار ، وليس لهم أن يختاروا على الله ، كما قال تعالى : " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة " ( الأحزاب - 36 ) ، " والخيرة " : اسم من الاختيار يقام مقام المصدر ، وهي اسم للمختار أيضا كما يقال : محمد خيرة الله من خلقه . ثم نزه نفسه فقال : ( سبحان الله وتعالى عما يشركون )
( وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ) يظهرون .
( وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة ) يحمده أولياؤه في الدنيا ، ويحمدونه في الآخرة في الجنة ، ( وله الحكم ) فصل القضاء بين الخلق . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : [ ص: 219 ] حكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل معصيته بالشقاء ، ( وإليه ترجعون )
( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ( 71 ) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ( 72 ) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ( 73 ) ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ( 74 ) ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون ( 75 ) )
قوله - عز وجل - : ( قل أرأيتم ) أخبروني يا أهل مكة ( إن جعل الله عليكم الليل سرمدا ) دائما ، ( إلى يوم القيامة ) لا نهار معه ، ( من إله غير الله يأتيكم بضياء ) بنهار تطلبون فيه المعيشة ، ( أفلا تسمعون ) سماع فهم وقبول .
( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة ) لا ليل فيه ، ( من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ) ما أنتم عليه من الخطأ .
( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ) أي : في الليل ، ( ولتبتغوا من فضله ) بالنهار ، ( ولعلكم تشكرون ) نعم الله - عز وجل - .
( ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) كرر ذكر النداء للمشركين لزيادة التقريع والتوبيخ .
( ونزعنا ) أخرجنا ، ( من كل أمة شهيدا ) يعني : رسولهم الذي أرسل إليهم ، كما قال : " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد " ( النساء - 41 ) ، ( فقلنا هاتوا برهانكم ) حجتكم بأن معي شريكا . ( فعلموا أن الحق ) التوحيد ، ( لله وضل عنهم ما كانوا يفترون ) في الدنيا .
ابو وليد البحيرى
2022-07-08, 10:41 PM
الحلقة (325)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْقَصَصِ
مَكِّيَّةٌ
الاية76 إلى الاية 88
( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ( 76 ) )
قوله - عز وجل - : ( إن قارون كان من قوم موسى ) كان ابن عمه; لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب عليه السلام وموسى بن عمران بن قاهث ، وقال ابن إسحاق : كان قارون عم موسى ، كان أخا عمران ، وهما ابنا يصهر ، ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من قارون ، ولكنه نافق كما نافق السامري ، ( فبغى عليهم ) قيل : كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل ، فكان يبغي عليهم ويظلمهم ، وقال قتادة : بغى عليهم بكثرة المال . وقال الضحاك : بغى عليهم بالشرك . وقال شهر بن حوشب : زاد في طول ثيابه شبرا ، وروينا عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء " وقيل : بغى عليهم بالكبر والعلو . ( وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه ) هي جمع مفتح وهو الذي يفتح به الباب ، هذا قول قتادة ومجاهد وجماعة ، وقيل : مفاتحه : خزائنه ، كما قال : " وعنده مفاتح الغيب " ( الأنعام - 59 ) ، أي : خزائنه ( لتنوء بالعصبة أولي القوة ) أي : لتثقلهم ، وتميل بهم إذا حملوها لثقلها ، قال أبو عبيدة : هذا من المقلوب ، تقديره : ما إن العصبة لتنوء بها ، يقال : ناء فلان بكذا إذا نهض به مثقلا .
واختلفوا في عدد العصبة ، قال مجاهد : ما بين العشرة إلى خمسة عشر ، وقال الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : ما بين الثلاثة إلى العشرة . وقال قتادة : ما بين العشرة إلى الأربعين . وقيل : أربعون رجلا . وقيل : سبعون . وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كان يحمل مفاتحه أربعون رجلا أقوى ما يكون من الرجال . وقال جرير عن منصور عن خيثمة ، قال : وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا ما يزيد منها مفتاح على أصبع لكل مفتاح كنز .
[ ص: 221 ]
ويقال : كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه ، وكانت من حديد ، فلما ثقلت عليه جعلها من خشب ، فثقلت فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع ، وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا . ( إذ قال له قومه ) قال لقارون قومه من بني إسرائيل : ) ( لا تفرح ) لا تبطر ولا تأشر ولا تمرح ( إن الله لا يحب الفرحين ) الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم .
( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ( 77 ) )
( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ) اطلب فيما أعطاك الله من الأموال والنعمة والجنة وهو أن تقوم بشكر الله فيما أنعم عليك وتنفقه في رضا الله تعالى ( ولا تنس نصيبك من الدنيا ) قال مجاهد ، وابن زيد : لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب ، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة . وقال السدي : بالصدقة وصلة الرحم . وقال علي : لا تنس صحتك وقوتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن شاذان ، أخبرنا أبو يزيد حاتم بن محبوب الشامي ، أخبرنا حسين المروزي ، أخبرنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا جعفر بن برقان ، عن زياد بن الجراح ، عن عمرو بن ميمون الأودي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل : وهو يعظه : " اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك " الحديث مرسل . قال الحسن : أمره أن يقدم الفضل ويمسك ما يغنيه ، قال منصور بن زاذان في قوله : " ولا تنس نصيبك من الدنيا " ، قال : قوتك وقوت أهلك .
( وأحسن كما أحسن الله إليك ) [ أي : أحسن بطاعة الله ] كما أحسن الله إليك بنعمته . [ ص: 222 ] وقيل : أحسن إلى الناس كما أحسن الله إليك ( ولا تبغ الفساد في الأرض ) من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض ( إن الله لا يحب المفسدين )
( قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ( 78 ) فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ( 79 ) )
( قال ) يعني قارون ، ( إنما أوتيته على علم عندي ) أي : على فضل وخير علمه الله عندي فرآني أهلا لذلك ، ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره . قيل : هو علم الكيمياء ، قال سعيد بن المسيب : كان موسى يعلم الكيمياء فعلم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقنا ثلثه وعلم قارون ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه وكان ذلك سبب أمواله . وقيل : " على علم عندي " بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب . قوله تعالى : ( أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون ) الكافرة ( من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ) للأموال ( ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ) قال قتادة : يدخلون النار بغير حساب ولا سؤال ، وقال مجاهد : يعني لا يسأل الملائكة عنهم ، لأنهم يعرفونهم بسيماهم . قال الحسن : لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ .
( فخرج على قومه في زينته ) قال إبراهيم النخعي : خرج هو وقومه في ثياب حمر وصفر ، قال ابن زيد : في سبعين ألفا عليهم المعصفرات . [ قال مجاهد : على براذين بيض عليها سرج الأرجوان ] قال مقاتل : خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان ، ومعه أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ، ومعه ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والثياب الحمر ، وهن على البغال الشهب ، ( قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ) من المال .
[ ص: 223 ] ) ( وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون ( 80 ) فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين ( 81 ) )
( وقال الذين أوتوا العلم ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يعني الأحبار من بني إسرائيل . وقال مقاتل : أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة ، قالوا للذين تمنوا مثل ما أوتي قارون في الدنيا : ( ويلكم ثواب الله خير ) يعني ما عند الله من الثواب والجزاء خير ) ( لمن آمن ) وصدق بتوحيد الله ) ( وعمل صالحا ) مما أوتي قارون في الدنيا ( ولا يلقاها إلا الصابرون ) قال مقاتل : لا يؤتاها ، يعني الأعمال الصالحة . وقال الكلبي لا يعطاها في الآخرة . وقيل : لا يؤتى هذه الكلمة وهي قوله : " ويلكم ثواب الله خير " إلا الصابرون على طاعة الله وعن زينة الدنيا .
قوله - عز وجل - : ( فخسفنا به وبداره الأرض ) قال أهل العلم بالأخبار : كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون عليهما السلام وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم وكان حسن الصوت فبغى وطغى ، وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعقلوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطا أزرق كلون السماء ، يذكروني به إذا نظروا إليها ، ويعلمون أني منزل منها كلامي ، فقال موسى : يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضرا فإن بني إسرائيل تحقر هذه الخيوط ، فقال له ربه : يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير فإذا هم لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير ، فدعاهم موسى عليه السلام ، وقال : إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطا خضرا كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها ، ففعلت بنو إسرائيل ما أمرهم به موسى ، واستكبر قارون فلم يطعه ، وقال : إنما يفعل هذا الأرباب ، بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم ، فكان هذا بدء عصيانه وبغيه فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعلت الحبورة لهارون ، وهي رياسة المذبح ، فكان بنو إسرائيل يأتون بهديهم إلى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله ، فوجد قارون من ذلك في نفسه وأتى موسى فقال : يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ، ولست ، في شيء من ذلك ، وأنا أقرأ التوراة ، لا صبر لي على هذا . فقال له موسى : ما أنا جعلتها في هارون بل الله جعلها له . فقال قارون : والله لا أصدقك حتى تريني بيانه ، فجمع موسى رؤساء بني إسرائيل فقال : هاتوا عصيكم ، فحزمها وألقاها في قبته التي كان [ ص: 224 ] يعبد الله فيها ، فجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا ، فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز ، فقال موسى : يا قارون ترى هذا ؟ فقال قارون : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر ، واعتزل قارون ، موسى بأتباعه ، وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه في كل وقت ولا يزيد إلا عتوا وتجبرا ومعاداة لموسى ، حتى بنى دارا وجعل بابها من الذهب ، وضرب على جدرانها صفائح الذهب ، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - ، فلما نزلت الزكاة على موسى أتاه قارون فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم ، وعن كل ألف شاة على شاة ، وعن كل ألف شيء على شيء ، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرا فلم تسمح بذلك نفسه ، فجمع بني إسرائيل فقال لهم : يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه ، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا فمرنا بما شئت ، فقال : آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي ، فنجعل لها جعلا حتى تقذف موسى بنفسها ، فإذا فعلت ذلك خرج بنو إسرائيل عليه ورفضوه ، فدعوها فجعل لها قارون ألف درهم ، وقيل ألف دينار ، وقيل طستا من ذهب ، وقيل : قال لها إني أمولك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل ، فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل ثم أتى موسى فقال : إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك فتأمرهم وتنهاهم ، فخرج إليهم موسى وهم في براح من الأرض ، فقام فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ، ومن افترى جلدناه ثمانين ، ومن زنا وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة ، ومن زنا وله امرأة رجمناه حتى يموت ، فقال له قارون : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت ، أنا ، قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال : ادعوها فإن قالت فهو كما قالت ، فلما أن جاءت قال لها موسى : يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء ؟ وعظم عليها ، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت ، فتداركها الله تعالى بالتوفيق فقالت في نفسها : أحدث اليوم توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : لا كذبوا ولكن جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي ، فخر موسى ساجدا يبكي ويقول : اللهم إن كنت ، رسولك فاغضب لي ، فأوحى الله تعالى إليه : إني أمرت ، الأرض أن تطيعك ، فمرها بما شئت ، فقال موسى : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معي فليعتزل ، فاعتزلوا ولم يبق مع قارون إلا رجلان ، ثم قال موسى : يا أرض خذيهم فأخذت الأرض بأقدامهم .
وفي رواية : كان على سريره وفرشه فأخذته حتى غيبت سريره ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم [ ص: 225 ] إلى الركب ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ، ويناشده قارون الله والرحم ، حتى روي أنه ناشده سبعين مرة وموسى عليه السلام في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه ، ثم قال : يا أرض خذيهم فانطبقت عليهم الأرض ، وأوحى الله إلى موسى ما أغلظ قلبك استغاث بك سبعين مرة فلم تغثه ، أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة لأغثته ، وفي بعض الآثار : لا أجعل الأرض بعدك طوعا لأحد . قال قتادة : خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة . قال : وأصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أن موسى إنما دعا على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله فدعا الله تعالى موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض ، فذلك قوله - عز وجل - : ( فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ) جماعة ( ينصرونه من دون الله ) يمنعونه من الله ( وما كان من المنتصرين ) الممتنعين مما نزل به من الخسف .
( وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون ( 82 ) )
( وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس ) صار أولئك الذين تمنوا ما رزقه الله من المال والزينة يتندمون على ذلك التمني ، والعرب تعبر عن الصيرورة بأضحى وأمسى وأصبح ، تقول : أصبح فلان عالما ، وأضحى معدما ، وأمسى حزينا ( يقولون ويكأن الله ) اختلفوا في معنى هذه اللفظة ، قال مجاهد : ألم تعلم ، وقال قتادة : ألم تر . قال الفراء : هي كلمة تقرير كقول الرجل : أما ترى إلى صنع الله وإحسانه . وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها : أين ابنك ؟ فقال : ويكأنه وراء البيت ، يعني : أما ترينه وراء البيت . وعن الحسن : أنه كلمة ابتداء ، تقديره : أن الله يبسط الرزق . وقيل : هو تنبيه بمنزلة ألا وقال قطرب : " ويك " بمعنى ويلك ، حذفت منه اللام ، كما قال عنترة :
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قول الفوارس ويك عنتر أقدم
[ ص: 226 ] أي : ويلك ، و " أن " منصوب بإضمار اعلم أن الله ، وقال الخليل : " وي " مفصولة من " كأن " ومعناها التعجب ، كما تقول : وي لم فعلت ذلك! وذلك أن القوم تندموا فقالوا : وي! متندمين على ما سلف منهم وكأن معناه أظن ذلك وأقدره ، كما تقول كأن : الفرج قد أتاك أي أظن ذلك وأقدره ( يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ) أي : يوسع ويضيق ( لولا أن من الله علينا لخسف بنا ) قرأ حفص ، ويعقوب : بفتح الخاء والسين ، وقرأ العامة بضم الخاء وكسر السين ( ويكأنه لا يفلح الكافرون )
( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ( 83 ) من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ( 84 ) ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين ( 85 ) )
قوله تعالى : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ) قال الكلبي ومقاتل : استكبارا عن الإيمان ، وقال عطاء : " علوا " واستطالة على الناس وتهاونا بهم . وقال الحسن : لم تطلبوا الشرف والعز عند ذي سلطان . وعن علي رضي الله عنه : أنها نزلت في أهل التواضع من الولاة وأهل القدرة ) ( ولا فسادا ) قال الكلبي : هو الدعاء إلى عبادة غير الله . وقال عكرمة : أخذ أموال الناس بغير حق . وقال ابن جريج ومقاتل : العمل بالمعاصي . ( والعاقبة للمتقين ) أي : العاقبة المحمودة لمن اتقى عقاب الله بأداء أوامره واجتناب معاصيه . وقال قتادة : الجنة للمتقين .
( من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ) . قوله تعالى : ( إن الذي فرض عليك القرآن ) أي : أنزل عليك القرآن على قول أكثر المفسرين وقال عطاء : أوجب عليك العمل بالقرآن ( لرادك إلى معاد ) إلى مكة ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ، وهو قول مجاهد . قال القتيبي : معاد الرجل : بلده ، لأنه [ ص: 227 ] ينصرف ثم يعود إلى بلده ، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من الغار مهاجرا إلى المدينة سار في غير الطريق مخافة الطلب ، فلما أمن ورجع إلى الطريق نزل الجحفة بين مكة والمدينة ، وعرف الطريق إلى مكة اشتاق إليها ، فأتاه جبريل عليه السلام وقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك ؟ قال : نعم ، قال : فإن الله تعالى يقول : ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) ، وهذه الآية نزلت بالجحفة ليست بمكية ولا مدنية .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : " لرادك إلى معاد " إلى الموت . وقال الزهري وعكرمة : إلى القيامة . وقيل : إلى الجنة . ( قل ربي أعلم من جاء بالهدى ) [ أي : يعلم من جاء بالهدى ] ، وهذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنك لفي ضلال ، فقال الله - عز وجل - : قل لهم ربي أعلم من جاء بالهدى ، يعني نفسه ( ومن هو في ضلال مبين ) يعني المشركين ، ومعناه : أعلم بالفريقين .
( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين ( 86 ) )
قوله تعالى : ( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب ) أي : يوحى إليك القرآن ( إلا رحمة من ربك ) قال الفراء : هذا من الاستثناء المنقطع ، معناه : لكن ربك رحمك فأعطاك القرآن ( فلا تكونن ظهيرا للكافرين ) أي : معينا لهم على دينهم . قال مقاتل : وذلك حين دعي إلى دين آبائه فذكر الله نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه .
[ ص: 228 ] ) ( ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين ( 87 ) ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ( 88 ) )
( ولا يصدنك عن آيات الله ) يعني القرآن ( بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ) إلى معرفته وتوحيده ( ولا تكونن من المشركين ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : الخطاب في الظاهر للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به أهل دينه ، أي : لا تظاهروا الكفار ولا توافقوهم .
( ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه ) أي : إلا هو ، وقيل : إلا ملكه ، قال أبو العالية : إلا ما أريد به وجهه ( له الحكم ) أي : فصل القضاء ( وإليه ترجعون ) تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم .
ابو وليد البحيرى
2022-07-08, 10:49 PM
الحلقة (326)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية 26
سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( الم ( 1 ) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ( 2 ) )
( الم أَحَسِبَ النَّاسُ ) أَظَنَّ النَّاسُ ( أَنْ يُتْرَكُوا ) بِغَيْرِ اخْتِبَارٍ وَلَا ابْتِلَاءٍ ) ( أَنْ يَقُولُوا ) [ أَيْ : بِأَنْ يَقُولُوا ( آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ) لَا يُبْتَلَوْنَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ؟ كَلَّا لَنَخْتَبِرَنَّ هُمْ لِنُبَيِّنَ الْمُخَلِصَ مِنَ الْمُنَافِقِ وَالصَّادِقَ مِنَ الْكَاذِبِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ الشَّعْبِيُّ : نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا بِمَكَّةَ قَدْ أَقَرُّوا بِالْإِسْلَامِ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ إِقْرَارٌ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى تُهَاجِرُوا ، فَخَرَجُوا عَامِدِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَاتَّبَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ وَمِنْهُمْ مَنْ نَجَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ .
[ ص: 232 ]
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ : أَرَادَ بِالنَّاسِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَكَّةَ : سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ ، وَعَيَّاشَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَغَيْرَهُمْ . وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، كَانَ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : نَزَلَتْ فِي مِهْجَعِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى عُمَرَ ، كَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ مِهْجَعٌ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ " ، فَجَزِعَ أَبَوَاهُ وَامْرَأَتُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ . وَقِيلَ : " وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ " بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَمَرَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ ، ثُمَّ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةَ ، وَالزَّكَاةَ ، وَسَائِرَ الشَّرَائِعِ ، فَشَقَّ عَلَى بَعْضِهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ، ثُمَّ عَزَّاهُمْ فَقَالَ : ( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )
[ ص: 233 ] ( من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ( 5 ) ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ( 6 ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ( 7 ) ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ( 8 ) )
( من كان يرجو لقاء الله ) قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ومقاتل : من كان يخشى البعث والحساب ، والرجاء بمعنى الخوف . وقال سعيد بن جبير - رضي الله عنه - : من كان يطمع في ثواب الله ( فإن أجل الله لآت ) يعني : ما وعد الله من الثواب والعقاب . وقال مقاتل : يعني : يوم القيامة لكائن . ومعنى الآية : أن من يخشى الله أو يأمله فليستعد له ، وليعمل لذلك اليوم . كما قال : " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا " الآية ( الكهف - 110 ( وهو السميع العليم )
( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ) له ثوابه ، " والجهاد " : هو الصبر على الشدة ، ويكون ذلك في الحرب ، وقد يكون على مخالفة النفس . ( إن الله لغني عن العالمين ) عن أعمالهم وعباداتهم .
( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ) لنبطلنها ، يعني : حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل . والتكفير : إذهاب السيئة بالحسنة ( ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ) أي : بأحسن أعمالهم وهو الطاعة . وقيل : نعطيهم أكثر مما عملوا وأحسن ، كما قال : " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " ( الأنعام - 160 ) .
قوله - عز وجل - : ( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ) أي : برا بهما وعطفا عليهما ، معناه : ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن . نزلت هذه الآية والتي في سورة لقمان ( الآية 15 ) ، والأحقاف ( الآية 15 ) في سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وهو سعد بن مالك أبو إسحاق الزهري ، وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس - لما أسلم ، وكان من السابقين الأولين ، وكان بارا بأمه ، قالت له أمه : ما هذا الدين الذي أحدثت ؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه ، أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر ، ويقال : يا قاتل أمه . ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم [ ص: 234 ] تستظل ، فأصبحت قد جهدت ، ثم مكثت يوما آخر لم تأكل ولم تشرب ، فجاء سعد إليها وقال : يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني فكلي ، وإن شئت فلا تأكلي ، فلما أيست منه أكلت وشربت ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأمره بالبر بوالديه والإحسان إليهما وأن لا يطيعهما في الشرك ، فذلك قوله - عز وجل - : ( وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ) . وجاء في الحديث : " لا طاعة لمخلوق في معصية الله " . ثم أوعد بالمصير إليه فقال : ( إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها .
( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ( 9 ) ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ( 10 ) )
( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ) في زمرة الصالحين وهم الأنبياء والأولياء ، وقيل : في مدخل الصالحين ، وهو الجنة .
قوله تعالى : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله ) أصابه بلاء من الناس افتتن ( جعل فتنة الناس كعذاب الله ) أي : جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة . أي : جزع من عذاب الناس ولم يصبر عليه ، فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عذابه ، هذا قول السدي وابن زيد ، قالا هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين وكفر . ( ولئن جاء نصر من ربك ) أي : فتح ودولة للمؤمنين ) ( ليقولن ) يعني : هؤلاء المنافقين للمؤمنين : ( إنا كنا معكم ) على عدوكم وكنا مسلمين وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا ، فكذبهم الله وقال : [ ص: 235 ] ( أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ) من الإيمان والنفاق .
( وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ( 11 ) وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون ( 12 ) )
( وليعلمن الله الذين آمنوا ) صدقوا فثبتوا على الإسلام عند البلاء ( وليعلمن المنافقين ) بترك الإسلام عند نزول البلاء . واختلفوا في نزول هذه الآية ، قال مجاهد : نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم ، فإذا أصابهم بلاء من الناس أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا . وقال عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : نزلت في الذين أخرجهم المشركون إلى بدر ، وهم الذين نزلت فيهم : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " ( النساء - 97 ) . وقال قتادة : نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة . وقال الشعبي : هذه الآيات العشر من أول السورة إلى هاهنا مدنية ، وباقي السورة مكية .
( وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ) قال مجاهد : هذا من قول كفار مكة لمن آمن منهم . وقال الكلبي ومقاتل : قاله أبو سفيان لمن آمن من قريش ، " اتبعوا سبيلنا " : ديننا وملة آبائنا ، ونحن الكفلاء بكل تبعة من الله تصيبكم ، فذلك قوله : ( ولنحمل خطاياكم ) أوزاركم . قال الفراء : لفظه أمر ، ومعناه جزاء مجازه : إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم ، كقوله : " فليلقه اليم بالساحل " ( طه - 39 ) . وقيل : هو جزم على الأمر ، كأنهم أمروا أنفسهم بذلك ، فأكذبهم الله - عز وجل - فقال : ( وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون ) فيما قالوا من حمل خطاياهم .
[ ص: 236 ] ) ( وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ( 13 ) ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ( 14 ) ( فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين ( 15 ) وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ( 16 ) إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون ( 17 ) )
( وليحملن أثقالهم ) أوزار أعمالهم التي عملوها بأنفسهم ( وأثقالا مع أثقالهم ) أي : أوزار من أضلوا وصدوا عن سبيل الله مع أوزارهم . نظيره قوله - عز وجل - : " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم " ( النحل - 25 ) . ( وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ) سؤال توبيخ وتقريع .
قوله تعالى : ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان ) فغرقوا ) ( وهم ظالمون ) قال ابن عباس : مشركون .
( فأنجيناه وأصحاب السفينة ) يعني من الغرق ) ( وجعلناها ) يعني السفينة ) ( آية ) أي : عبرة ) ( للعالمين ) فإنها كانت باقية على الجودي مدة مديدة . وقيل : جعلنا عقوبتهم للغرق عبرة . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : بعث نوح لأربعين سنة ، وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا ، وكان عمره ألفا وخمسين سنة .
قوله - عز وجل - : ) ( وإبراهيم ) أي : وأرسلنا إبراهيم ، ( إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ) أطيعوا الله وخافوه ( ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )
( إنما تعبدون من دون الله أوثانا ) أصناما ( وتخلقون إفكا ) تقولون كذبا . قال مجاهد : تصنعون أصناما بأيدكم فتسمونها آلهة ( إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا ) لا يقدرون أن يرزقوكم ) ( فابتغوا ) فاطلبوا ( عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون )
[ ص: 237 ] ) ( وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين ( 18 ) أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير ( 19 ) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ( 20 ) يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون ( 21 ) وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ( 22 ) )
( وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم ) مثل عاد وثمود وغيرهم فأهلكوا ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين )
( أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ) كيف يخلقهم ابتداء نطفة ثم علقة ثم مضغة ) ( ثم يعيده ) في الآخرة عند البعث ( إن ذلك على الله يسير )
( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) فانظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم ) . ( ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ) أي : ثم الله الذي خلقها ينشئها نشأة ثانية بعد الموت ، فكما لم يتعذر عليه إحداثها مبدءا لا يتعذر عليه إنشاؤها معيدا . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : ) ( النشأة ) بفتح الشين ممدودة حيث وقعت ، وقرأ الآخرون بسكون الشين مقصورة نظيرها : الرأفة والرآفة . ( إن الله على كل شيء قدير )
( يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون ) تردون .
( وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ) فإن قيل : ما وجه قوله : " ولا في السماء " والخطاب مع الآدميين وهم ليسوا في السماء ؟ .
قال الفراء : معناه ولا من في السماء بمعجز ، كقول حسان بن ثابت :
فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء
أراد : من يمدحه ومن ينصره ، فأضمر " من " يريد : لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ، ولا أهل السماء في السماء . وقال قطرب : معناه وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها ، كقول الرجل : ما يفوتني فلان هاهنا ولا بالبصرة ، أي : ولا بالبصرة لو كان بها ( وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) أي : من ولي يمنعكم مني ولا نصير ينصركم من عذابي .
[ ص: 238 ] ) ( والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم ( 23 ) ( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( 24 ) وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ( 25 ) فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ( 26 ) )
( والذين كفروا بآيات الله ولقائه ) بالقرآن وبالبعث ( أولئك يئسوا من رحمتي ) جنتي ( أولئك لهم عذاب أليم ) فهذه الآيات في تذكير أهل مكة وتحذيرهم ، وهي معترضة في قصة إبراهيم ، فقال جل ذكره : ( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار )
( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار ) وجعلها عليه بردا وسلاما ( إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) يصدقون .
) ( وقال ) يعني إبراهيم لقومه : ( إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم ) قرأ ابن كثير ، والكسائي ، وأبو عمرو ، ويعقوب : " مودة " رفعا بلا تنوين " بينكم " خفضا بالإضافة على معنى : إن الذين اتخذتم من دون الله أوثانا هي مودة بينكم ( في الحياة الدنيا ) ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة . ونصب حمزة ، وحفص : " مودة " من غير تنوين على الإضافة بوقوع الاتخاذ عليها . وقرأ الآخرون " مودة " منصوبة منونة " بينكم " بالنصب معناه : إنكم إنما اتخذتم هذه الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا تتواردون على عبادتها وتتواصلون عليها في الدنيا . ( ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ) تتبرأ الأوثان من عابديها ، وتتبرأ القادة من الأتباع ، وتلعن الأتباع القادة ) ( ومأواكم ) جميعا العابدون والمعبودون ( النار وما لكم من ناصرين )
( فآمن له لوط ) يعني : صدقه ، وهو أول من صدق إبراهيم وكان ابن أخيه ) ( وقال ) يعني إبراهيم ، ( إني مهاجر إلى ربي ) فهاجر من كوثى ، وهو من سواد الكوفة ، إلى حران ثم إلى الشام ، ومعه لوط وامرأته سارة ، وهو أول من هاجر . قال مقاتل : هاجر إبراهيم - عليه السلام - وهو ابن خمس وسبعين سنة ، ( إنه هو العزيز الحكيم )
ابو وليد البحيرى
2022-07-08, 10:55 PM
الحلقة (327)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
مَكِّيَّةٌ
الاية27 إلى الاية 46
( ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( 27 ) ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ( 28 ) أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ( 29 ) )
( ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ) يقال : إن الله لم يبعث نبيا بعد إبراهيم إلا من نسله ( وآتيناه أجره في الدنيا ) وهو الثناء الحسن فكل أهل الأديان يتولونه . وقال السدي : هو الولد الصالح ، وقيل : هو أنه رأى مكانه في الجنة ( وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) أي : في زمرة الصالحين . قال ابن عباس : مثل آدم ونوح .
قوله تعالى : ( ولوطا إذ قال لقومه إنكم ) قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : " أئنكم " بالاستفهام ، وقرأ الباقون بلا استفهام ، واتفقوا على استفهام الثانية ( لتأتون الفاحشة ) وهي إتيان الرجال ( ما سبقكم بها من أحد من العالمين )
( أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل ) وذلك أنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين ، فترك الناس الممر بهم . وقيل : تقطعون سبيل النسل بإيثار الرجال على النساء ( وتأتون في ناديكم المنكر ) النادي ، والندى ، والمنتدى : مجلس القوم ومتحدثهم . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو العباس بن سهل بن محمد المروزي ، أخبرنا جدي لأمي أبو الحسن المحمودي ، أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أن بشر بن معاذ حدثهم : أخبرنا يزيد بن زريع ، أخبرنا حاتم بن أبي صغيرة ، عن سماك بن حرب ، عن أبي صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب [ عن أم هانئ ] قالت : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله : ( وتأتون في ناديكم المنكر ) قلت : ما المنكر الذي كانوا يأتونه ؟ قال : " كانوا يحذفون أهل الطرق ويسخرون بهم " .
[ ص: 240 ]
ويروى أنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيه حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان أولى به . وقيل : إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثة دراهم ، ولهم قاض بذلك . وقال القاسم بن محمد : كانوا يتضارطون في مجالسهم . وقال مجاهد : كان يجامع بعضهم بعضا في مجالسهم . وعن عبد الله بن سلام قال : كان يبزق بعضهم على بعض . وعن مكحول قال : كان من أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء ، وحل الإزار ، والصفير ، والحذف ، واللواطية ( فما كان جواب قومه ) لما أنكر عليهم لوط ما يأتونه من القبائح ) ( إلا أن قالوا ) له استهزاء : ( ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ) أن العذاب نازل بنا ، فعند ذلك .
( قال رب انصرني على القوم المفسدين ( 30 ) ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ( 31 ) قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ( 32 ) )
( قال ) لوط : ( رب انصرني على القوم المفسدين ) بتحقيق قولي في العذاب .
( ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ) من الله بإسحاق ويعقوب ، ( قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية ) يعني قوم لوط ، والقرية سدوم ( إن أهلها كانوا ظالمين )
( قال ) إبراهيم للرسل : ( إن فيها لوطا قالوا ) يعني : قالت الملائكة ( نحن أعلم بمن فيها لننجينه ) [ ص: 241 ] قرأ حمزة والكسائي ويعقوب : " ) ( لننجينه ) بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد ( وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ) أي : الباقين في العذاب .
( ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين ( 33 ) إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ( 34 ) ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون ( 35 ) وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( 36 ) فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ( 37 ) )
( ولما أن جاءت رسلنا لوطا ) ظن أنهم من الإنس ( سيء بهم وضاق بهم ) بمجيئهم ( ذرعا وقالوا لا تخف من ) قومك علينا ( ولا تحزن ) بإهلاكنا إياهم ( إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين ) قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، ويعقوب : " منجوك " بالتخفيف ، وقرأ الآخرون بالتشديد .
( إنا منزلون ) قرأ ابن عامر بالتشديد ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ( على أهل هذه القرية رجزا ) عذابا ) ( من السماء ) قال مقاتل : الخسف والحصب ( بما كانوا يفسقون )
( ولقد تركنا منها ) من قريات لوط ، ) ( آية بينة ) عبرة ظاهرة ) ( لقوم يعقلون ) يتدبرون الآيات تدبر ذوي العقول . قال ابن عباس : الآية البينة : آثار منازلهم الخربة . وقال قتادة : هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله حتى أدركها أوائل هذه الأمة . وقال مجاهد : هي ظهور الماء الأسود على وجه الأرض .
( وإلى مدين أخاهم شعيبا ) أي : وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا ( فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ) أي : واخشوا ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين )
( وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ( 38 ) 3 .
وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ( 39 ) فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 40 ) )
( وعادا وثمود ) أي : وأهلكنا عادا وثمودا ، ( وقد تبين لكم ) يا أهل مكة ، ( من مساكنهم ) منازلهم بالحجر واليمن ، ( وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل ) عن سبيل الحق ( وكانوا مستبصرين ) قال مقاتل ، والكلبي ، وقتادة : كانوا معجبين في دينهم وضلالتهم ، يحسبون أنهم على هدى ، وهم على الباطل ، والمعنى : أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين . قال الفراء : كانوا عقلاء ذوي بصائر .
( وقارون وفرعون وهامان ) أي : أهلكنا هؤلاء ( ولقد جاءهم موسى بالبينات ) بالدلالات ( فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ) أي : فائتين من عذابنا .
( فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ) وهم قوم لوط ، " والحاصب " : الريح التي تحمل الحصباء ، وهي الحصا الصغار ( ومنهم من أخذته الصيحة ) يعني ثمود ، ( ومنهم من خسفنا به الأرض ) يعني قارون وأصحابه ( ومنهم من أغرقنا ) يعني : قوم نوح ، وفرعون وقومه ( وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) .
( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ( 41 ) إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم ( 42 ) وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ( 43 ) )
( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء ) يعني : الأصنام ، يرجون نصرها ونفعها ( كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ) لنفسها تأوي إليه ، وإن بيتها في غاية الضعف والوهاء ، لا يدفع عنها حرا ولا بردا ، وكذلك الأوثان لا تملك لعابديها نفعا ولا ضرا . ( وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون )
( إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم ) قرأ أهل البصرة ، وعاصم : " يدعون " بالياء لذكر الأمم قبلها ، وقرأ الآخرون بالتاء .
( وتلك الأمثال ) الأشباه ، والمثل : كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول ، يريد : أمثال القرآن التي شبه بها أحوال كفار هذه الأمة بأحوال كفار الأمم المتقدمة ) ( نضربها ) نبينها ) ( للناس ) قال مقاتل : لكفار مكة ، ( وما يعقلها إلا العالمون ) أي : ما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، أخبرنا ابن برزة ، أخبرنا الحارث بن أبي أسامة ، أخبرنا داود بن المحبر ، أخبرنا عباد بن كثير ، عن ابن جريج عن عطاء وأبي الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية : ) ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) قال : " العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه " .
( خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين ( 44 ) اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ( 45 ) )
قوله - عز وجل - : ( خلق الله السماوات والأرض بالحق ) أي : للحق وإظهار الحق ) ( إن في ذلك ) في خلقها ) ( لآية ) لدلالة ) ( للمؤمنين ) على قدرته وتوحيده .
( اتل ما أوحي إليك من الكتاب ) يعني القرآن ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) الفحشاء : ما قبح من الأعمال ، والمنكر : ما لا يعرف في الشرع . قال ابن مسعود ، وابن عباس : في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله ، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ، ولم تنهه عن المنكر ، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا .
وقال الحسن ، وقتادة : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه . وروي عن أنس قال : كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات الخمس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه ، فوصف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاله فقال : " إن صلاته تنهاه يوما " [ ص: 245 ] فلم يلبث أن تاب وحسن حاله . وقال ابن عون : معنى الآية أن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها .
وقيل : أراد بالصلاة القرآن ، كما قال تعالى : " ولا تجهر بصلاتك " ( الإسراء - 110 ) أي : بقراءتك ، وأراد أنه يقرأ القرآن في الصلاة ، فالقرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد ، أخبرنا قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن رجلا يقرأ القرآن الليل كله فإذا أصبح سرق ، قال : " ستنهاه قراءته " .
وفي رواية قيل : يا رسول الله إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل ، فقال : " إن صلاته لتردعه " . قوله - عز وجل - : ( ولذكر الله أكبر ) أي : ذكر الله أفضل الطاعات . أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ببغداد ، أخبرنا أبو علي الحسين بن صفوان البردعي ، أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا ، [ ص: 246 ] أخبرنا هارون بن معروف أبو علي الضرير ، أخبرنا أنس بن عياض ، حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش ، عن أبي تجرية ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ، وأن تلقوا عدوكم ، فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم " ؟ قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : " ذكر الله " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا أبو الأسود ، أخبرنا ابن لهيعة عن دراج ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل أي ، العباد أفضل ، درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا " قالوا : يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله ؟ فقال : " لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر أو يختضب دما ، لكان الذاكر الله كثيرا أفضل منه درجة " . وروينا أن أعرابيا قال : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : " أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج القشيري ، أخبرنا أمية بن بسطام العيشي ، أخبرنا يزيد ، يعني : ( ابن زريع ) ، أخبرنا روح بن القاسم ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان ، [ ص: 247 ] فقال : " سيروا ، هذا جمدان ، سبق المفردون " ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " .
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا خلاد بن أسلم ، حدثنا النضر ، أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت الأغر قال : أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده " . وقال قوم : معنى قوله : " ولذكر الله أكبر " أي : ذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه . ويروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ويروى ذلك مرفوعا عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال عطاء في قوله : " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " ، قال : ولذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية . ( والله يعلم ما تصنعون ) قال عطاء : يريد لا يخفى عليه شيء .
( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ( 46 ) )
قوله تعالى : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب ) لا تخاصموهم ( إلا بالتي هي أحسن ) أي : بالقرآن والدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه وأراد من قبل الجزية منهم ( إلا الذين ظلموا منهم ) أي : أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب ، فجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ، [ ص: 248 ] ومجاز الآية : إلا الذين ظلموكم ، لأن جميعهم ظالم بالكفر . وقال سعيد بن جبير : هم أهل الحرب ومن لا عهد له . قال قتادة ومقاتل : صارت منسوخة بقوله : " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله " ( التوبة - 29 ( وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ) يريد إذا أخبركم واحد منهم من قبل الجزية بشيء مما في كتبهم فلا تجادلوهم عليه ، ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم .
( وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن بشار ، أخبرنا عثمان بن عمر ، أخبرنا علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم " . أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أخبرنا عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، أخبرنا عبد الرازق ، أخبرنا معمر عن الزهري ، أخبرنا ابن أبي نملة الأنصاري أن أباه أبا نملة الأنصاري أخبره : أنه بينا هو جالس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل من اليهود ومر بجنازة ، فقال : يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الله أعلم " ، فقال اليهودي : إنها تتكلم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلا لم تصدقوه وإن كان حقا لم تكذبوه " .
ابو وليد البحيرى
2022-07-08, 11:01 PM
الحلقة (328)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
مَكِّيَّةٌ
الاية47 إلى الاية 69
( وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون ( 47 ) وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ( 48 ) )
قوله تعالى : ) ( وكذلك ) أي : كما أنزلنا إليهم الكتب ( أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ) يعني : مؤمني أهل الكتاب ، عبد الله بن سلام وأصحابه ) ( ومن هؤلاء ) يعني : أهل مكة ، ( من يؤمن به ) وهم مؤمنوا أهل مكة ( وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون ) ، وذلك أن اليهود عرفوا أن محمدا نبي ، والقرآن حق ، فجحدوا . قال قتادة : الجحود إنما يكون بعد المعرفة .
( وما كنت تتلو ) يا محمد ، ( من قبله من كتاب ) من قبل ما أنزلنا إليك الكتاب ( ولا تخطه بيمينك ) ولا تكتبه ، أي : لم تكن تقرأ ولا تكتب قبل الوحي ( إذا لارتاب المبطلون ) يعني لو كنت تكتب أو تقرأ الكتب قبل الوحي لشك المبطلون المشركون من أهل مكة ، وقالوا : إنه يقرؤه من كتب الأولين وينسخه منها ، قاله قتادة . وقال مقاتل : " المبطلون " هم اليهود ، ومعناه : إذا لشكوا فيك واتهموك ، وقالوا إن الذي نجد نعته في التوراة أمي لا يقرأ ولا يكتب وليس هذا على ذلك النعت .
( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ( 49 ) وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين ( 50 ) أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ( 51 ) قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ( 52 ) )
( بل هو آيات بينات ) قال الحسن : يعني القرآن آيات بينات ( في صدور الذين أوتوا العلم ) يعني المؤمنين الذين حملوا القرآن . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - ، وقتادة : بل هو - يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - - ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب ، لأنهم يجدونه بنعته وصفته في كتبهم ( وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون )
( وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه ) كما أنزل على الأنبياء من قبل ، قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : " آية " على التوحيد ، وقرأ الآخرون : " آيات من ربه " لقوله - عز وجل - : ( قل إنما الآيات عند الله ) القادر على إرسالها إذا شاء أرسلها ( وإنما أنا نذير مبين ) أنذر أهل المعصية بالنار ، وليس إنزال الآيات بيدي .
( أولم يكفهم ) هذا الجواب لقوله : " لولا أنزل عليه آيات من ربه " قال : ( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ) يعني : أولم يكفهم من الآيات القرآن يتلى عليهم ) ( إن في ذلك ) في إنزال القرآن ( لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ) أي : تذكيرا وعظة لمن آمن وعمل به .
( قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا ) أني رسوله وهذا القرآن كتابه ( يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل ) قال ابن عباس : بغير الله . وقال مقاتل : بعبادة الشيطان ( وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون )
[ ص: 251 ] ) ( ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ( 53 ) يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ( 54 ) يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون ( 55 ) يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ( 56 ) )
( ويستعجلونك بالعذاب ) نزلت في النضر بن الحارث حين قال : فأمطر علينا حجارة من السماء ( ولولا أجل مسمى ) قال ابن عباس : ما وعدتك أني لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة كما قال : " بل الساعة موعدهم " ( القمر - 46 ) ، وقال الضحاك : مدة أعمارهم ، لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب ، وقيل : يوم بدر ، ( لجاءهم العذاب وليأتينهم ) يعني : العذاب وقيل الأجل ( بغتة وهم لا يشعرون ) بإتيانه .
( يستعجلونك بالعذاب ) أعاده تأكيدا ( وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) جامعة لهم لا يبقى أحد منهم إلا دخلها .
( يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) يعني : إذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنم ، كما قال : " لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش " ( الأعراف - 41 ) ( ويقول ذوقوا ) قرأ نافع ، وأهل الكوفة : " ويقول " بالياء ، أي : ويقول لهم الموكل بعذابهم : ذوقوا ، وقرأ الآخرون بالنون; لأنه لما كان بأمره نسب إليه ( ما كنتم تعملون ) أي : جزاء ما كنتم تعملون .
( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ) قال مقاتل والكلبي : نزلت في ضعفاء مسلمي مكة ، يقول : إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها إلى أرض المدينة ، إن أرضي - يعني المدينة - واسعة آمنة . قال مجاهد : إن أرضي المدينة واسعة فهاجروا وجاهدوا فيها . وقال سعيد بن جبير : إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة . وقال عطاء : إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا فإن أرضي واسعة . وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها [ ص: 252 ] بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له العبادة . وقيل : نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة ، وقالوا : نخشى ، إن هاجرنا ، من الجوع وضيق المعيشة ، فأنزل الله هذه الآية ولم يعذرهم بترك الخروج . وقال مطرف بن عبد الله : " أرضي واسعة " أي : رزقي لكم واسع فاخرجوا .
( كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون ( 57 ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين ( 58 ) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ( 59 ) وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ( 60 ) )
( كل نفس ذائقة الموت ) خوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة ، أي : كل واحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفا من الموت ( ثم إلينا ترجعون ) فنجزيكم بأعمالكم ، وقرأ أبو بكر : " يرجعون بالياء " .
( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم ) قرأ حمزة ، والكسائي : بالثاء ساكنة من غير همز ، يقال : ثوى الرجل إذا أقام ، وأثويته : إذا أنزلته منزلا يقيم فيه . وقرأ الآخرون بالباء وفتحها وتشديد الواو وهمزة بعدها ، أي : لننزلنهم ( من الجنة غرفا ) علالي ( تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين )
( الذين صبروا ) على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم ( وعلى ربهم يتوكلون ) يعتمدون .
( وكأين من دابة لا تحمل رزقها ) وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون : " هاجروا إلى المدينة " ، فقالوا : كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال ، فمن يطعمنا بها ويسقينا ؟ فأنزل الله : ( وكأين من دابة ) ذات حاجة إلى غذاء ( لا تحمل رزقها ) أي : لا ترفع رزقها معها ولا تدخر شيئا لغد مثل البهائم والطير ( الله يرزقها وإياكم ) [ ص: 253 ] حيث كنتم ( وهو السميع العليم ) السميع لأقوالكم : لا نجد ما ننفق بالمدينة ، العليم بما في قلوبكم . وقال سفيان عن علي بن الأقمر : وكأين من دابة لا تحمل رزقها ، قال : لا تدخر شيئا لغد . قال سفيان : ليس شيء من خلق الله يخبأ إلا الإنسان والفأرة والنملة .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الثقفي ، أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن الدقاق ، أخبرنا محمد بن عبد العزيز ، أخبرنا إسماعيل بن زرارة الرقي ، أخبرنا أبو العطوف الجراح بن منهال ، عن الزهري ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عمر قال : دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حائطا من حوائط الأنصار ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقط الرطب بيده ويأكل ، فقال : كل يا ابن عمر ، قلت : لا أشتهيها يا رسول الله ، قال : لكني أشتهيه ، وهذه صبح رابعة منذ لم أطعم طعاما ولم أجده ، فقلت إنا لله ، الله المستعان ، قال : يا ابن عمر لو سألت ربي لأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة ، ولكن أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنة ويضعف اليقين ، فنزلت ) ( وكأين من دابة لا تحمل رزقها الآية
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو محمد الحسين بن أحمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس السراج ، أخبرنا قتيبة بن سعيد ، أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : كان لا يدخر شيئا لغد .
[ ص: 254 ]
وروينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا " . أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفري ، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن الفضل الفقيه ، أخبرنا أبو نصر بن حمدويه المطوعي ، أخبرنا أبو الموجه محمد بن عمرو ، أخبرنا عبدان ، عن أبي حمزة ، عن إسماعيل هو ابن أبي خالد ، عن رجلين أحدهما زبيد اليامي ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أيها الناس ليس من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به ، وليس شيء يقربكم إلى النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه ، وإن الروح الأمين قد نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله ، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته " وقال هشيم عن إسماعيل عن زبيد عمن أخبره عن ابن مسعود .
( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون ( 61 ) الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم ( 62 ) ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون ( 63 ) )
قوله تعالى : ( ولئن سألتهم ) يعني كفار مكة ، ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون ) .
( الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم ) .
( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله ) على أن الفاعل لهذه الأشياء هو الله ( بل أكثرهم لا يعقلون ) وقيل : قل الحمد لله على [ ص: 255 ] إقرارهم لزوم الحجة عليهم ( بل أكثرهم لا يعقلون ) ينكرون التوحيد مع إقرارهم بأنه الخالق لهذه الأشياء .
( وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ( 64 ) فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ( 65 ) ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون ( 66 ) أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ( 67 ) )
قوله تعالى : ( وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب ) اللهو هو : الاستمتاع بلذات الدنيا ، واللعب : العبث ، سميت بهما لأنها فانية . ( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ) أي : الحياة الدائمة الباقية ، و " الحيوان " : بمعنى الحياة ، أي : فيها الحياة الدائمة ( لو كانوا يعلمون ) فناء الدنيا وبقاء الآخرة .
قوله تعالى : ( فإذا ركبوا في الفلك ) وخافوا الغرق ( دعوا الله مخلصين له الدين ) وتركوا الأصنام ( فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) هذا إخبار عن عنادهم وأنهم عند الشدائد يقرون أن القادر على كشفها هو الله - عز وجل - وحده ، فإذا زالت عادوا إلى كفرهم . قال عكرمة : كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها في البحر وقالوا يا ربنا يا ربنا .
( ليكفروا بما آتيناهم ) هذا لام الأمر ، ومعناه التهديد والوعيد ، كقوله : " اعملوا ما شئتم " ( فصلت - 40 ) ، أي : ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إياهم ) ( وليتمتعوا ) قرأ حمزة ، والكسائي : ساكنة اللام ، وقرأ الباقون بكسرها نسقا على قوله : " ليكفروا " ( فسوف يعلمون ) وقيل : من كسر اللام جعلها لام كي وكذلك في ليكفروا ، والمعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يتمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة .
( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) يعني العرب ، يسبي بعضهم بعضا ، وأهل مكة آمنون ) ( أفبالباطل ) بالأصنام والشيطان ( يؤمنون وبنعمة الله ) بمحمد والإسلام ) ( يكفرون )
[ ص: 256 ] ) ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ( 68 ) والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ( 69 ) )
( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) فزعم أن لله شريكا وأنه أمر بالفواحش ( أو كذب بالحق ) بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن ( لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ) استفهام بمعنى التقرير ، معناه : أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم .
( والذين جاهدوا فينا ) الذين جاهدوا المشركين لنصرة ديننا ( لنهدينهم سبلنا ) لنثبتنهم على ما قاتلوا عليه . وقيل : لنزيدنهم هدى كما قال : " ويزيد الله الذين اهتدوا هدى " ( مريم - 76 ) ، وقيل : لنوفقنهم لإصابة الطريق المستقيمة ، والطريق المستقيمة هي التي يوصل بها إلى رضا الله - عز وجل - . قال سفيان بن عيينة : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور ، فإن الله قال : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) وقيل : المجاهدة هي الصبر على الطاعات . قال الحسن : أفضل الجهاد مخالفة الهوى . وقال الفضيل بن عياض : والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به . وقال سهل بن عبد الله : والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة . وروي عن ابن عباس : والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا . ( وإن الله لمع المحسنين ) بالنصر والمعونة في دنياهم وبالثواب والمغفرة في عقباهم .
ابو وليد البحيرى
2022-07-08, 11:09 PM
الحلقة (329)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الرُّومِ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية 24
سُورَةُ الرُّومِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( الم ( 1 ) غلبت الروم ( 2 ) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ( 3 ) )
( الم غلبت الروم في أدنى الأرض ) سبب نزول هذه الآية على - ما ذكره المفسرون : - أنه كان بين فارس والروم قتال ، وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم ، لأن أهل فارس كانوا مجوسا أميين ، والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس ، لكونهم أهل كتاب ، فبعث كسرى جيشا إلى الروم واستعمل عليها رجلا يقال له شهريراز ، وبعث قيصر جيشا إلى فارس واستعمل عليهم رجلا يدعى يحفس ، فالتقيا بأذرعات وبصرى ، وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم ، فغلبت فارس الروم ، فبلغ ذلك المسلمين بمكة ، فشق عليهم ، وفرح به كفار مكة ، وقالوا للمسلمين : إنكم أهل كتاب ، والنصارى أهل كتاب ، ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار ، فقال : فرحتم بظهور إخوانكم ، فلا تفرحوا فوالله ليظهرن على فارس [ على ما ] أخبرنا بذلك نبينا ، فقام إليه أبي بن خلف الجمحي فقال : كذبت ، فقال : أنت أكذب يا عدو الله ، فقال : اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه - والمناحبة : المراهنة - على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت ، وإن ظهرت فارس غرمت ففعلوا وجعلوا الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك ، وذلك قبل تحريم القمار ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاثة إلى التسع ، فزايده في الخطر وماده في الأجل ، فخرج [ ص: 260 ] أبو بكر ولقي أبيا ، فقال : لعلك ندمت ؟ قال : لا فتعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل ، فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين ، وقيل إلى سبع سنين ، قال قد فعلت : فلما خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه ، وقال : إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلا فكفل له ابنه عبد الله بن أبي بكر ، فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه ، فقال : لا والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلا فأعطاه كفيلا . ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بارزه ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم . وقيل : كان يوم بدر . قال الشعبي : لم تمض تلك المدة التي عقدوا المناحبة بين أهل مكة ، وفيها صاحب ، قمارهم أبي بن خلف ، والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر ، وذلك قبل تحريم القمار ، حتى غلبت الروم فارس وربطوا خيولهم بالمدائن وبنو الرومية فقمر أبو بكر أبيا وأخذ مال الخطر من ورثته ، وجاء به يحمله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تصدق به " .
وكان سبب غلبة الروم فارسا - على ما قاله عكرمة وغيره - : أن شهريراز بعدما غلبت الروم لم يزل يطؤهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج ، فبينا أخوه فرخان جالس ذات يوم يشرب فقال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى ، فبلغت كلمته كسرى ، فكتب إلى شهريراز : إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرخان ، فكتب إليه : أيها الملك إنك لن تجد مثل فرخان ، إن له نكاية وصوتا في العدو ، فلا تفعل ، فكتب إليه : إن في رجال فارس خلفا منه ، فعجل برأسه ، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه ، وبعث بريدا إلى أهل فارس أني قد نزعت عنكم شهريراز واستعملت عليكم فرخان الملك ، ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة أمره فيها بقتل شهريراز ، وقال : إذا ولى فرخان الملك وانقاد له أخوه فأعطه ، فلما قرأ شهريراز الكتاب قال : سمعا وطاعة ، ونزل عن سريره وجلس فرخان ودفع إليه الصحيفة ، فقال : ائتوني بشهريراز ، فقدمه ليضرب عنقه ، فقال : لا تعجل علي حتى أكتب وصيتي . قال : نعم ، فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف ، وقال : كل هذا راجعت فيك كسرى ، وأنت تريد أن تقتلني بكتاب واحد ؟ فرد الملك إلى أخيه ، وكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ، ولا تبلغها الصحف ، فالقني ، ولا تلقني إلا في خمسين روميا ، فإني ألقاك في خمسين فارسيا . فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطرق ، وخاف أن يكون قد مكر به ، حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلا ثم بسط لهما فالتقيا في قبة ديباج ضربت لهما ، ومع كل واحد منهما سكين ، فدعوا بترجمان بينهما ، [ ص: 261 ] فقال شهريراز : إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا ، وإن كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت ، ثم أمر أخي أن يقتلني ، فقد خلعناه جميعا فنحن نقاتله معك . قال : قد أصبتما ، ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا ، فقتلا الترجمان معا بسكينهما ، فأديلت الروم على فارس عند ذلك ، فاتبعوهم يقتلونهم ، ومات كسرى وجاء الخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية ففرح ومن معه ، فذلك قوله - عز وجل - : ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض ) أي : أقرب أرض الشام إلى أرض فارس ، قال عكرمة : هي أذرعات وكسكر ، وقال مجاهد : أرض الجزيرة . وقال مقاتل : الأردن وفلسطين . ( وهم من بعد غلبهم ) أي : الروم من بعد غلبة فارس إياهم ، والغلب والغلبة لغتان ) ( سيغلبون ) فارسا .
( في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون ( 4 ) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ( 5 ) )
( في بضع سنين ) والبضع ما بين الثلاث إلى السبع ، وقيل : ما بين الثلاثة إلى التسع وقيل : ما دون العشرة . وقرأ عبد الله بن عمر ، وأبو سعيد الخدري ، والحسن ، وعيسى بن عمر : " غلبت " بفتح الغين واللام ، " سيغلبون " بضم الياء وبفتح اللام . وقالوا : نزلت حين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غلبة الروم فارسا . ومعنى الآية : الم غلبت الروم فارسا في أدنى الأرض إليكم ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، يغلبهم المسلمون في بضع سنين . وعند انقضاء هذه المدة أخذ المسلمون في جهاد الروم . والأول أصح ، وهو قول أكثر المفسرين . ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) أي : من قبل دولة الروم على فارس ومن بعدها ، فأي الفريقين كان لهم الغلبة فهو بأمر الله وقضائه وقدره . ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) الروم على فارس . قال السدي : فرح النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون بظهورهم على [ ص: 262 ] المشركين يوم بدر ، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك ( ينصر من يشاء وهو العزيز ) الغالب ) ( الرحيم ) بالمؤمنين .
( وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 6 ) يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ( 7 ) أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ( 8 ) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 9 ) )
( وعد الله ) نصب على المصدر ، أي : وعد الله وعدا بظهور الروم على فارس ، ( لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ) يعني : أمر معاشهم ، كيف يكتسبون ويتجرون ، ومتى يغرسون ويزرعون ويحصدون ، وكيف يبنون ويعيشون ، قال الحسن : إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه ولا يخطئ وهو لا يحسن يصلي ( وهم عن الآخرة هم غافلون ) ساهون عنها جاهلون بها ، لا يتفكرون فيها ولا يعملون لها . ( أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) أي : للحق ، وقيل : لإقامة الحق ( وأجل مسمى ) أي : لوقت معلوم إذا انتهت إليه فنيت ، وهو القيامة ( وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) أولم يسافروا في الأرض فينظروا إلى مصارع الأمم قبلهم فيعتبروا ( كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض ) حرثوها وقلبوها للزراعة ( وعمروها أكثر مما عمروها ) [ أي : أكثر مما عمرها ] أهل مكة ، قيل : قال [ ص: 263 ] ذلك لأنه لم يكن لأهل مكة حرث ( وجاءتهم رسلهم بالبينات ) فلم يؤمنوا فأهلكهم الله ( فما كان الله ليظلمهم ) بنقص حقوقهم ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ببخس حقوقهم .
( ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ( 10 ) الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون ( 11 ) ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ( 12 ) ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين ( 13 ) ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون ( 14 ) )
( ثم كان عاقبة الذين أساءوا ) أي : أساؤوا العمل ) ( السوأى ) يعني : الخلة التي تسوؤهم وهي النار ، وقيل : " السوأى " اسم لجهنم ، كما أن " الحسنى " اسم للجنة ) ( أن كذبوا ) أي : لأن كذبوا . وقيل تفسير " السوأى " ما بعده ، وهو قوله : " أن كذبوا " يعني : ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب حملهم تلك السيئات على أن كذبوا ( أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ) قرأ أهل الحجاز والبصرة : " عاقبة " بالرفع ، أي : ثم كان آخر أمرهم السوء ، وقرأ الآخرون بالنصب على خبر كان ، تقديره : ثم كان السوأى عاقبة الذين أساءوا . قوله تعالى : ( الله يبدأ الخلق ثم يعيده ) أي : يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الموت أحياء ، ولم يقل : يعيدهم ، رده إلى الخلق ( ثم إليه ترجعون ) فيجزيهم بأعمالهم . قرأ أبو عمرو ، وأبو بكر : " يرجعون " بالياء ، والآخرون بالتاء . ( ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ) قال قتادة ، والكلبي : ييأس المشركون من كل خير . وقال الفراء : ينقطع كلامهم وحجتهم . وقال مجاهد : يفتضحون . ( ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين ) جاحدين متبرئين يتبرءون منها وتتبرأ منهم . ( ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون ) أي : يتميز أهل الجنة من أهل النار . وقال مقاتل : يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار فلا يجتمعون أبدا .
( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون ( 15 ) وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون ( 16 ) فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ( 17 ) وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ( 18 ) )
( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة ) وهي البستان الذي في غاية النضارة ) ( يحبرون ) قال ابن عباس : يكرمون . وقال مجاهد وقتادة : ينعمون . وقال أبو عبيدة : يسرون . و " الحبرة " : السرور . وقيل : " الحبرة " في اللغة : كل نعمة حسنة ، والتحبير التحسين . وقال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير : " تحبرون " هو السماع في الجنة . وقال الأوزاعي : إذا أخذ في السماع لم يبق في الجنة شجرة إلا وردت ، وقال : ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل ، فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم . ( وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ) أي : البعث يوم القيامة ( فأولئك في العذاب محضرون ) قوله تعالى : ( فسبحان الله ) أي : سبحوا الله ، ومعناه : صلوا لله ( حين تمسون ) أي : تدخلون في المساء ، وهو صلاة المغرب والعشاء ( وحين تصبحون ) أي : تدخلون في الصباح ، وهو صلاة الصبح . ( وله الحمد في السماوات والأرض ) قال ابن عباس : يحمده أهل السماوات والأرض ويصلون له ( وعشيا ) أي : صلوا لله عشيا ، يعني صلاة العصر ( وحين تظهرون ) تدخلون في الظهيرة ، وهو صلاة الظهر . قال نافع بن الأزرق لابن عباس : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن ؟ قال : نعم ، وقرأ هاتين الآيتين ، وقال : جمعت الآية الصلوات الخمس ومواقيتها . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة ، [ ص: 265 ] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من قال : سبحان الله وبحمده في كل يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر . أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر ، حدثنا السري ، بن خزيمة الأبيوردي ، حدثنا المعلى بن سعد ، أخبرنا عبد العزيز بن المختار ، عن سهيل ، عن سمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قال حين يصبح وحين يمسي : سبحان الله وبحمده ، مائة مرة ، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا قتيبة بن سعيد ، أخبرنا محمد بن فضيل ، أخبرنا عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم "
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا علي بن المديني ، أخبرنا ابن عيينة ، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة قال : سمعت كريبا أبا رشدين يحدث عن ابن عباس ، عن جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات غداة من عندها ، وكان اسمها برة فحوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسماها جويرية ، وكره أن يقال خرج من عند برة ، فخرج وهي في المسجد ، ورجع بعدما تعالى النهار ، فقال : ما زلت في مجلسك هذا منذ خرجت ، بعد ؟ قالت : نعم ، فقال : " لقد قلت ، بعدك أربع كلمات ، ثلاث مرات ، لو وزنت بكلماتك لوزنتهن : سبحان الله وبحمده عدد خلقه ، ورضاء نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته " .
( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ( 19 ) )
قوله تعالى : ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ) [ ص: 266 ] قرأ حمزة والكسائي : " تخرجون " بفتح التاء وضم الراء ، وقرأ الباقون بضم التاء وفتح الراء .
( ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ( 20 ) ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ( 21 ) ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ( 22 ) ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ( 23 ) ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ( 24 ) )
( ومن آياته أن خلقكم من تراب ) أي : خلق أصلكم يعني آدم من تراب ( ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ) تنبسطون في الأرض . ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ) قيل : من جنسكم من بني آدم . وقيل : خلق حواء من ضلع آدم ( لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) جعل بين الزوجين المودة والرحمة فهما يتوادان ويتراحمان ، وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) في عظمة الله وقدرته . ( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم ) يعني : اختلاف اللغات من العربية والعجمية وغيرهما ) ( وألوانكم ) أبيض وأسود وأحمر ، وأنتم ولد رجل واحد وامرأة واحدة ( إن في ذلك لآيات للعالمين ) قرأ حفص : ) ( للعالمين ) بكسر اللام . ( ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله ) أي : منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار ، أي : تصرفكم في طلب المعيشة ( إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) سماع تدبر واعتبار .
ابو وليد البحيرى
2022-07-08, 11:14 PM
الحلقة (330)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الرُّومِ
مَكِّيَّةٌ
الاية25 إلى الاية 47
( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ( 25 ) وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ( 26 ) وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ( 27 ) )
( ومن آياته يريكم البرق خوفا ) للمسافر من الصواعق ) ( وطمعا ) للمقيم في المطر . ( وينزل من السماء ماء فيحيي به ) يعني بالمطر ( الأرض بعد موتها ) أي : بعد يبسها [ ص: 267 ] وجدوبتها ( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ) قال ابن مسعود : قامتا على غير عمد بأمره . وقيل : يدوم قيامها بأمره ( ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض ) قال ابن عباس : من القبور ( إذا أنتم تخرجون ) منها ، وأكثر العلماء على أن معنى الآية : ثم إذا دعاكم دعوة إذا أنتم تخرجون من الأرض . ( وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ) مطيعون ، قال الكلبي : هذا خاص لمن كان منهم مطيعا . وعن ابن عباس : كل له مطيعون في الحياة والبقاء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة . ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ) يخلقهم أولا ثم يعيدهم بعد الموت للبعث ( وهو أهون عليه ) قال الربيع بن خيثم ، والحسن ، وقتادة ، والكلبي : أي : هو هين عليه وما شيء عليه بعزيز ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس . وقد يجيء أفعل بمعنى الفاعل كقول الفرزدق ؟
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
أي : عزيزة طويلة .
وقال مجاهد وعكرمة : " وهو أهون عليه " : أي : أيسر ، ووجهه أنه على طريق ضرب المثل ، [ ص: 268 ] أي : هو أهون عليه على ما يقع في عقولكم ، فإن الذي يقع في عقول الناس أن الإعادة تكون أهون من الإنشاء ، أي : الابتداء . وقيل : هو أهون عليه عندكم وقيل : هو أهون عليه ، أي : على الخلق ، يقومون بصيحة واحدة ، فيكون أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ، ثم علقا ثم مضغا إلى أن يصيروا رجالا ونساء ، وهذا معنى رواية ابن حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس . ( وله المثل الأعلى ) أي : الصفة العليا ( في السماوات والأرض ) قال ابن عباس : هي أنه ليس كمثله شيء . وقال قتادة : هي أنه لا إله إلا هو ) ( وهو العزيز ) في ملكه ) ( الحكيم ) في خلقه .
( ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ( 28 ) )
( ضرب لكم مثلا من أنفسكم ) أي : بين لكم شبها بحالكم ، وذلك المثل من أنفسكم ثم بين المثل فقال : ( هل لكم من ما ملكت أيمانكم ) أي : عبيدكم وإمائكم ( من شركاء في ما رزقناكم ) من المال ) ( فأنتم ) وهم ( فيه سواء ) أي : هل يشارككم عبيدكم في أموالكم التي أعطيناكم; ( تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) أي : تخافون أن يشاركوكم في أموالكم ويقاسموكم كما يخاف الحر شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد فيه بأمر دونه ، وكما يخاف الرجل شريكه في الميراث ، وهو يحب أن ينفرد به . قال ابن عباس : تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا فإذا لم تخافوا هذا من ماليككم ولم ترضوا ذلك لأنفسكم ، فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها شركائي وهم عبيدي ؟ . [ ص: 269 ] ومعنى قوله : " أنفسكم " ، أي : أمثالكم من الأحرار كقوله : " ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا " ( النور - 12 ) ، أي : بأمثالهم . ( كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ) ينظرون إلى هذه الدلائل بعقولهم .
( بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين ( 29 ) فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 30 ) )
( بل اتبع الذين ظلموا ) أشركوا بالله ( أهواءهم ) في الشرك ) ( بغير علم ) جهلا بما يجب عليهم ( فمن يهدي من أضل الله ) أي : أضله الله ( وما لهم من ناصرين ) مانعين يمنعونهم من عذاب الله - عز وجل - . قوله تعالى : ( فأقم وجهك للدين ) أي : أخلص دينك لله ، قاله سعيد بن جبير ، وإقامة الوجه : إقامة الدين ، وقال غيره : سدد عملك . والوجه ما يتوجه إليه الإنسان ، ودينه وعمله مما يتوجه إليه لتسديده ) ( حنيفا ) مائلا مستقيما عليه ( فطرة الله ) دين الله ، وهو نصب على الإغراء ، أي : إلزم فطرة الله ( التي فطر الناس عليها ) أي : خلق الناس عليها ، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين أن المراد بالفطرة : الدين ، وهو الإسلام . وذهب قوم إلى أن الآية خاصة في المؤمنين . وهم الذين فطرهم الله على الإسلام : أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن همام بن منبه قال : حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من يولد يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتجون البهيمة ، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها ؟ ، قالوا يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " . [ ص: 270 ]
ورواه الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة من غير ذكر من يموت وهو صغير ، وزاد : ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) . قوله : " من يولد يولد على الفطرة " يعني على العهد الذي أخذ الله عليهم بقوله : " ألست ، بربكم قالوا بلى " ( الأعراف - 172 ) ، وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار ، وهو الحنيفية التي وقعت الخلقة عليها وإن عبد غيره ، قال تعالى : " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " ( الزخرف - 87 ) ، وقالوا : " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " ( الزمر - 3 ) ، ولكن لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا ، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل ، ألا ترى أنه يقول : " فأبواه يهودانه " ؟ فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين ، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم " . ويحكى معنى هذا عن الأوزاعي ، وحماد بن سلمة .
وحكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : معنى الحديث إن كل مولود يولد على فطرته ، أي : على خلقته التي جبل عليها في علم الله تعالى من السعادة أو الشقاوة ، فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها ، وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها ، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين ، فيحملانه - لشقائه - على اعتقاد دينهما . وقيل : معناه أن كل مولود يولد في مبدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلة السليمة والطبع المتهيئ لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ، لأن هذا الدين موجود حسنه في العقول ، وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من آفات النشوء والتقليد ، فلو سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره . . . ثم يتمثل بأولاد اليهود والنصارى واتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم فيزلون بذلك على الفطرة السليمة والمحجة المستقيمة . ذكر أبو سليمان الخطابي هذه المعاني في كتابه . [ ص: 271 ]
قوله : ( لا تبديل لخلق الله ) فمن حمل الفطرة على الدين قال : معناه لا تبديل لدين الله ، وهو خبر بمعنى النهي ، أي : لا تبدلوا دين الله . قال مجاهد ، وإبراهيم : معنى الآية الزموا فطرة الله ، أي دين الله ، واتبعوه ولا تبدلوا التوحيد بالشرك ( ذلك الدين القيم ) المستقيم ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) وقيل : لا تبديل لخلق الله أي : ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاء لا يتبدل ، فلا يصير السعيد شقيا ولا الشقي سعيدا . وقال عكرمة ومجاهد : معناه تحريم إخصاء البهائم .
( منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين ( 31 ) من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ( 32 ) وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ( 33 ) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ( 34 ) )
( منيبين إليه ) أي : فأقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه لأن مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل معه فيها الأمة ، كما قال : " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء " ( الطلاق - 1 ) ( منيبين إليه ) أي : راجعين إليه بالتوبة مقبلين إليه بالطاعة ( واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) أي : صاروا فرقا مختلفة وهم اليهود والنصارى . وقيل : هم أهل البدع من هذه الأمة ( كل حزب بما لديهم فرحون ) أي : راضون بما عندهم . قوله تعالى : ( وإذا مس الناس ضر ) قحط وشدة ( دعوا ربهم منيبين إليه ) مقبلين إليه بالدعاء ( ثم إذا أذاقهم منه رحمة ) خصبا ونعمة ( إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم ) ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب تهديد فقال : ( فتمتعوا فسوف تعلمون ) حالكم في الآخرة .
[ ص: 272 ] ( أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ( 35 ) وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ( 36 ) أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( 37 ) فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون ( 38 ) وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ( 39 ) )
( أم أنزلنا عليهم سلطانا ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : حجة وعذرا . وقال قتادة : كتابا ( فهو يتكلم ) ينطق ( بما كانوا به يشركون ) أي : ينطق بشركهم ويأمرهم به . ( وإذا أذقنا الناس رحمة ) أي : الخصب وكثرة المطر ( فرحوا بها ) يعني فرح البطر ( وإن تصبهم سيئة ) أي : الجدب وقلة المطر ويقال : الخوف والبلاء ( بما قدمت أيديهم ) من السيئات ( إذا هم يقنطون ) ييأسون من رحمة الله ، وهذا خلاف وصف المؤمن ، فإنه يشكر الله عند النعمة ، ويرجو ربه عند الشدة . ( أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) قوله تعالى : ( فآت ذا القربى حقه ) البر والصلة ) ( والمسكين ، ) وحقه أن يتصدق عليه ) ( وابن السبيل ) يعني : المسافر ، وقيل : هو الضعيف ( ذلك خير للذين يريدون وجه الله ) يطلبون ثواب الله بما يعملون ) ( وأولئك هم المفلحون ) قوله - عز وجل - : ) ( وما آتيتم من ربا ) قرأ ابن كثير : " أتيتم " مقصورا ، وقرأ الآخرون بالمد ، أي : أعطيتم ، ومن قصر فمعناه : ما جئتم من ربا ، ومجيئوهم ذلك على وجه الإعطاء كما تقول : أتيت خطئا ، وأتيت صوابا ، فهو يؤول في المعنى إلى قول من مد . ( ليربوا في أموال الناس ) قرأ أهل المدينة ، ويعقوب : " لتربوا " بالتاء وضمها وسكون الواو على الخطاب ، أي : لتربوا أنتم وتصيروا ذوي زيادة من أموال الناس ، وقرأ الآخرون بالياء وفتحها ، ونصب الواو وجعلوا الفعل للربا لقوله : ( فلا يربو عند الله ) في أموال الناس ، أي : في اختطاف أموال الناس واجتذابها . [ ص: 273 ]
واختلفوا في معنى الآية ، فقال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وطاوس ، وقتادة ، والضحاك ، وأكثر المفسرين : هو الرجل يعطي غيره العطية ليثب أكثر منها فهذا جائز حلال ، ولكن لا يثاب عليه في القيامة ، وهو معنى قوله - عز وجل - : " فلا يربوا عند الله " ، وكان هذا حراما على النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة لقوله تعالى : " ولا تمنن تستكثر " ( المدثر - 6 ) ، أي : لا تعط وتطلب أكثر مما أعطيت . وقال النخعي : هو الرجل يعطي صديقه أو قريبه ليكثر ماله ولا يريد به وجه الله . وقال الشعبي : هو الرجل يلتزق بالرجل فيخدمه ويسافر معه فيجعل له ربح ماله التماس عونه ، لا لوجه الله ، فلا يربوا عند الله لأنه لم يرد به وجه الله تعالى .
( وما آتيتم من زكاة ) أعطيتم من صدقة ( تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ) يضاعف لهم الثواب فيعطون بالحسنة عشر أمثالها فالمضعف ذو الأضعاف من الحسنات ، تقول العرب : القوم مهزولون ومسمونون : إذا هزلت أو سمنت إبلهم .
( الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون )(40) .
الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون
[ ص: 274 ] ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ( 41 ) )
قوله - عز وجل - : ( ظهر الفساد في البر والبحر ) يعني : قحط المطر وقلة النبات ، وأراد بالبر البوادي والمفاوز ، وبالبحر المدائن والقرى التي هي على المياه الجارية . قال عكرمة : العرب تسمي المصر بحرا ، تقول : أجدب البر وانقطعت مادة البحر ( بما كسبت أيدي الناس ) أي : بشؤم ذنوبهم ، وقال عطية وغيره : " البر " ظهر الأرض من الأمصار وغيرها ، و " البحر " هو البحر المعروف ، وقلة المطر كما تؤثر في البر تؤثر في البحر فتخلوا أجواف الأصداف لأن الصدف إذا جاء المطر يرتفع إلى وجه البحر ويفتح فاه فما يقع في فيه من المطر صار لؤلؤا . وقال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد : الفساد في البر : قتل أحد ابني آدم أخاه ، وفي البحر : غصب الملك الجائر السفينة .
قال الضحاك : كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن ، آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة ، وكان ماء البحر عذبا وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم ، فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحا زعافا وقصد الحيوان بعضها بعضا قال قتادة : هذا قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - امتلأت الأرض ظلما وضلالة ، فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - رجع راجعون من الناس بما كسبت أيدي الناس من المعاصي ، يعني كفار مكة .
( ليذيقهم بعض الذي عملوا ) أي : عقوبة بعض الذي عملوا من الذنوب ) ( لعلهم يرجعون ) عن الكفر وأعمالهم الخبيثة .
[ ص: 275 ] ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين ( 42 ) فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون ( 43 ) من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ( 44 ) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين ( 45 ) ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ( 46 ) ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين ( 47 ) )
( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل ) لتروا منازلهم ومساكنهم خاوية ( كان أكثرهم مشركين ) أي : كانوا مشركين ، فأهلكوا بكفرهم . ( فأقم وجهك للدين القيم ) المستقيم وهو دين الإسلام ( من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ) يعني : يوم القيامة ، لا يقدر أحد على رده من الله ( يومئذ يصدعون ) أي : يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير . ( من كفر فعليه كفره ) أي : وبال كفره ( ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ) يوطئون المضاجع ويسوونها في القبور . ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ليثيبهم الله أكثر من ثواب أعمالهم ( إنه لا يحب الكافرين ) قوله - عز وجل - : ( ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ) تبشر بالمطر ( وليذيقكم من رحمته ) نعمة المطر وهي الخصب ( ولتجري الفلك بأمره ) بهذه الرياح ( بأمره ولتبتغوا من فضله ) لتطلبوا من رزقه بالتجارة في البحر ( ولعلكم تشكرون ) رب هذه النعم . قوله تعالى : ( ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات ) بالدلالات الواضحات على صدقهم ( فانتقمنا من الذين أجرموا ) عذبنا الذين كذبوهم ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) وإنجاؤهم من العذاب ، ففي هذا تبشير للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالظفر في العاقبة والنصر على الأعداء . قال الحسن : أنجاهم مع الرسل من عذاب الأمم . [ ص: 276 ]
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا أحمد بن زنجويه ، أخبرنا أبو شيخ الحراني ، أخبرنا أبو موسى بن أعين ، عن ليث بن أبي سليم ، عن شهر بن حوشب ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة " ، ثم تلا هذه الآية " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " .
ابو وليد البحيرى
2022-08-06, 11:49 PM
الحلقة (331)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ لُقْمَانَ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية 12
( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون ( 48 ) وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين ( 49 ) )
( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا ) أي : ينشره ( فيبسطه في السماء كيف يشاء ) مسيرة يوم أو يومين وأكثر على من يشاء ( ويجعله كسفا ) قطعا متفرقة ( فترى الودق ) المطر ( يخرج من خلاله ) وسطه ( فإذا أصاب به من يشاء ) أي : بالودق ( من عباده إذا هم يستبشرون ) يفرحون بالمطر . ) ( وإن كانوا ) وقد كانوا ( من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين ) أي آيسين ، وقيل : " وإن كانوا " ، أي : وما كانوا إلا مبلسين ، وأعاد قوله : " من قبله " تأكيدا . وقيل : الأولى ترجع إلى إنزال المطر ، والثانية إلى إنشاء السحاب . وفي حرف عبد الله بن مسعود : وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم لمبلسين ، غير مكرر . [ ص: 277 ]
( فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ( 50 ) ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون ( 51 ) فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ( 52 ) وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ( 53 ) الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ( 54 ) )
( فانظر إلى آثار رحمة الله ) هكذا قرأ أهل الحجاز ، والبصرة ، وأبو بكر . وقرأ الآخرون : ( إلى آثار رحمة الله ) على الجمع ، أراد برحمة الله : المطر ، أي : انظر إلى حسن تأثيره في الأرض ، وقال مقاتل : أثر رحمة الله أي : نعمته وهو النبت ( كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى ) يعني : إن ذلك الذي يحيي الأرض لمحيي الموتى ( وهو على كل شيء قدير ولئن أرسلنا ريحا ) باردة مضرة فأفسدت الزرع ( فرأوه مصفرا ) أي : رأوا النبت والزرع مصفرا بعد الخضرة ) ( لظلوا ) لصاروا ) ( من بعده ) أي : من بعد اصفرار الزرع ) ( يكفرون ) يجحدون ما سلف من النعمة ، يعني : أنهم يفرحون عند الخصب ، ولو أرسلت عذابا على زرعهم جحدوا سالف نعمتي . ( فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ) . ( الله الذي خلقكم من ضعف ) قرئ بضم الضاد وفتحها ، فالضم لغة قريش ، والفتح لغة تميم ، ومعنى " من ضعف " ، أي : من نطفة ، يريد من ذي ضعف ، أي : من ماء ذي ضعف كما قال [ ص: 278 ] تعالى : " ألم نخلقكم من ماء مهين " ( المرسلات - 20 ) ( ثم جعل من بعد ضعف قوة ) بعد ضعف الطفولية شبابا ، وهو وقت القوة ( ثم جعل من بعد قوة ضعفا ) هرما ( وشيبة يخلق ما يشاء ) الضعف والقوة والشباب والشيبة ) ( وهو العليم ) بتدبير خلقه ) ( القدير ) على ما يشاء .
( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون ( 55 ) وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون ( 56 ) )
( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ) يحلف المشركون ( ما لبثوا ) في الدنيا ( غير ساعة ) إلا ساعة ، استقلوا أجل الدنيا لما عاينوا الآخرة . وقال مقاتل والكلبي : ما لبثوا في قبورهم غير ساعة كما قال : " كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار " ( الأحقاف - 35 ) . ( كذلك كانوا يؤفكون ) يصرفون عن الحق في الدنيا ، قال الكلبي ومقاتل : كذبوا في قولهم غير ساعة كما كذبوا في الدنيا أن لا بعث . والمعنى أن الله أراد أن يفضحهم فحلفوا على شيء تبين لأهل الجمع أنهم كاذبون فيه ، وكان ذلك بقضاء الله وبقدره بدليل قوله : " يؤفكون " ، أي : يصرفون عن الحق . ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم كذبهم فقال : ( وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله ) أي : فيما كتب الله لكم في سابق علمه من اللبث في القبور . وقيل : " في كتاب الله " أي : في حكم الله ، وقال قتادة ومقاتل : فيه تقديم وتأخير معناه . وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان : لقد لبثتم إلى يوم البعث ، يعني الذين يعلمون كتاب الله ، وقرأوا قوله تعالى : " ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " ( المؤمنون - 100 ) ، أي : قالوا للمنكرين : لقد لبثتم ( إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ) الذي كنتم تنكرونه في الدنيا ( ولكنكم كنتم لا تعلمون ) وقوعه في الدنيا فلا ينفعكم العلم به الآن بدليل قوله تعالى : [ ص: 279 ] ( فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم )
( فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون ( 57 ) ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون ( 58 ) كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ( 59 ) فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ( 60 ) )
( فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ) يعني عذرهم ( ولا هم يستعتبون ) لا يطلب منهم العتبى والرجوع في الآخرة ، قرأ أهل الكوفة : ) ( لا ينفع ) بالياء هاهنا وفي " حم " المؤمن ووافق نافع في " حم " المؤمن ، وقرأ الباقون بالتاء فيهما . ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون ) ما أنتم إلا على باطل . ( كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ) توحيد الله . ( فاصبر إن وعد الله حق ) في نصرتك وإظهارك على عدوك ( ولا يستخفنك ) لا يستجهلنك ، معناه : لا يحملنك الذين لا يوقنون على الجهل واتباعهم في الغي . وقيل : لا يستخفن رأيك وحلمك ( الذين لا يوقنون ) بالبعث والحساب .
سُورَةُ لُقْمَانَ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( الم ( 1 ) تلك آيات الكتاب الحكيم ( 2 ) هدى ورحمة للمحسنين ( 3 ) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ( 4 ) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ( 5 ) ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ( 6 ) )
( الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة ) قرأ حمزة : " ورحمة " بالرفع على الابتداء ، أي : هو هدى ورحمة ، وقرأ الآخرون بالنصب على الحال ) ( للمحسنين ) ( الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ) ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ) الآية . قال الكلبي ، ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة كان يتجر فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث بها قريشا ، ويقول : إن محمدا يحدثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة ، فيستملحون [ ص: 284 ] حديثه ويتركون استماع القرآن ، فأنزل الله هذه الآية . وقال مجاهد : يعني شراء القيان والمغنيين ، ووجه الكلام على هذا التأويل : من يشتري ذات لهو أو ذا لهو الحديث . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المزكي ، حدثنا جدي محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا مشمعل بن ملحان الطائي ، عن مطرح بن يزيد ، عن عبيد الله بن زحر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم بن عبد العزيز ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن وأثمانهن حرام " ، وفي مثل هذا أنزلت هذه الآية : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " ، وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين : أحدهما على هذا المنكب ، والآخر على هذا المنكب ، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت .
أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد القفال ، أخبرنا أبو منصور أحمد بن الفضل البروجردي ، أخبرنا أبو أحمد بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي ، أخبرنا محمد بن غالب بن تمام ، أخبرنا خالد بن أبي يزيد ، عن هشام هو ابن حسان ، عن محمد هو ابن سيرين ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن ثمن الكلب وكسب الزمارة " . قال مكحول : من اشترى جارية ضرابة ليمسكها لغنائها وضربها مقيما عليه حتى يموت لم أصل عليه ، إن الله يقول : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " الآية . وعن عبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير قالوا : " لهو الحديث " هو الغناء ، والآية نزلت فيه . ومعنى قوله : ( يشتري لهو الحديث ) أي : يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن ، قال أبو الصباء البكري سألت ابن مسعود عن هذه الآية فقال : هو الغناء ، والله الذي لا إله إلا هو ، يرددها ثلاث مرات . [ ص: 285 ]
وقال إبراهيم النخعي : الغناء ينبت النفاق في القلب ، وكان أصحابنا يأخذون بأفواه السكك يخرقون الدفوف . وقيل : الغناء رقية الزنا . وقال ابن جريج : هو الطبل وعن الضحاك قال : هو الشرك . وقال قتادة : هو كل لهو ولعب . ( ليضل عن سبيل الله بغير علم ) أي : يفعله عن جهل . قال قتادة : بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق .
قوله تعالى : ( ويتخذها هزوا ) أي : يتخذ آيات الله هزوا . قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، ويعقوب : ) ( ويتخذها ) بنصب الذال عطفا على قوله : " ليضل " ، وقرأ الآخرون بالرفع نسقا على قوله : " يشتري " . ( أولئك لهم عذاب مهين )
( وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم ( 7 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم ( 8 ) خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم ( 9 ) خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم ( 10 ) )
( وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم ) حسن .
[ ص: 286 ] ) ( هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين ( 11 ) )
( هذا ) يعني الذي ذكرت مما تعاينون ( خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ) من آلهتكم التي تعبدونها ( بل الظالمون في ضلال مبين )
( ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد ( 12 ) قوله تعالى : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ) يعني : العقل والعلم والعمل به والإصابة في الأمور . قال محمد بن إسحاق : وهو لقمان بن ناعور بن ناحور بن تارخ وهو آزر . وقال وهب : كان ابن أخت أيوب ، وقال مقاتل : ذكر أنه كان ابن خالة أيوب . قال الواقدي : كان قاضيا في بني إسرائيل .
واتفق العلماء على أنه كان حكيما ، ولم يكن نبيا ، إلا عكرمة فإنه قال : كان لقمان نبيا . وتفرد بهذا القول . وقال بعضهم : خير لقمان بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة . وروي أنه كان نائما نصف النهار فنودي : يا لقمان ، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض لتحكم بين الناس بالحق ؟ فأجاب الصوت فقال : إن خيرني ربي قبلت العافية ، ولم أقبل البلاء ، وإن عزم علي فسمعا وطاعة ، فإني أعلم إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني ، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمان ؟ قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها ، يغشاها الظلم من كل مكان أن يعدل فبالحري أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون [ ص: 287 ] شريفا ، ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولا يصيب الآخرة . فعجبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومة فأعطي الحكمة ، فانتبه وهو يتكلم بها ، ثم نودي داود بعده فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان ، فهوى في الخطيئة غير مرة ، كل ذلك يعفو الله عنه ، وكان لقمان يؤازره بحكمته . وعن خالد الربعي قال : كان لقمان عبدا حبشيا نجارا . وقال سعيد بن المسيب : كان خياطا . وقيل : كان راعي غنم . فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال : ألست فلانا الراعي فبم بلغت ما بلغت ؟ قال : بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعنيني . وقال مجاهد : كان عبدا أسود عظيم الشفتين ومشقق القدمين . قوله - عز وجل - : ( أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد )
ابو وليد البحيرى
2022-08-06, 11:54 PM
الحلقة (332)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ لُقْمَانَ
مَكِّيَّةٌ
الاية13 إلى الاية 32
( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ( 13 ) ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ( 14 ) )
( وإذ قال لقمان لابنه ) واسمه أنعم ، ويقال : مشكم ، ( وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) قرأ ابن كثير : " يا بني لا تشرك بالله " بإسكان الياء ، وفتحها حفص ، والباقون بالكسر ، " يا بني إنها " بفتح الياء حفص ، والباقون بالكسر ، " يا بني أقم الصلاة " ، بفتح الياء البزي عن ابن كثير وحفص ، وبإسكانها القواس ، والباقون بكسرها . ( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن ) قال ابن عباس : شدة بعد شدة . وقال الضحاك : ضعفا على ضعف . قال مجاهد : مشقة على مشقة . وقال الزجاج : المرأة إذا حملت توالى عليها الضعف والمشقة . ويقال : الحمل ضعف ، والطلق ضعف ، والوضع ضعف . ) ( وفصاله ) أي : فطامه ( في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ) المرجع ، قال سفيان بن عيينة في هذه الآية : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر الوالدين .
[ ص: 288 ] ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ( 15 ) يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ( 16 ) )
( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ) أي : بالمعروف ، وهو البر والصلة والعشرة الجميلة ( واتبع سبيل من أناب إلي ) أي : دين من أقبل إلى طاعتي ، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . قال عطاء عن ابن عباس : يريد أبا بكر ، وذلك أنه حين أسلم أتاه عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، فقالوا له : قد صدقت هذا الرجل وآمنت به ؟ قال : نعم ، هو صادق ، فآمنوا به ، ثم حملهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أسلموا ، فهؤلاء لهم سابقة الإسلام . أسلموا بإرشاد أبي بكر . قال الله تعالى : ( واتبع سبيل من أناب إلي ) يعني أبا بكر ، ( ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) وقيل : نزلت هاتان الآيتان في سعد بن أبي وقاص وأمه ، وقد مضت القصة وقيل : الآية عامة في حق كافة الناس . ( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ) الكناية في قوله : " إنها " راجعة إلى الخطيئة ، وذلك أن ابن لقمان قال لأبيه : يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله ؟ فقال : ( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة ) قال قتادة : تكن في جبل . وقال ابن عباس : في صخرة تحت الأرضين السبع ، وهي التي تكتب فيها أعمال الفجار ، وخضرة السماء منها . قال السدي : خلق الله الأرض على حوت - وهو النون الذي ذكر الله - عز وجل - في القرآن " ن والقلم " - والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، [ ص: 289 ] وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء ولا في الأرض ، والصخرة على الريح ( أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف ) باستخراجها ) ( خبير ) عالم بمكانها ، قال الحسن : معنى الآية هو الإحاطة بالأشياء ، صغيرها وكبيرها ، وفي بعض الكتب إن هذه الكلمة آخر كلمة تكلم بها لقمان فانشقت مرارته من هيبتها فمات .
( يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ( 17 ) ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور ( 18 ) واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ( 19 ) )
( يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك ) يعني من الأذى ( إن ذلك من عزم الأمور ) يريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والصبر على الأذى فيهما ، من الأمور الواجبة التي أمر الله بها ، أو من الأمور التي يعزم عليها لوجوبها . ( ولا تصعر خدك للناس ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب : " ولا تصعر " بتشديد العين من غير ألف ، وقرأ الآخرون : " تصاعر " بالألف ، يقال : صعر وجهه وصاعر : إذا مال وأعرض تكبرا ، ورجل أصعر : أي : مائل العنق . قال ابن عباس : يقول : لا تتكبر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك . وقال مجاهد : هو الرجل يكون بينك وبينه إحنة فتلقاه فيعرض عنك بوجهه . وقال عكرمة : هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه تكبرا . وقال الربيع بن أنس وقتادة : ولا تحتقر الفقراء ليكن الفقير والغني عندك سواء ( ولا تمش في الأرض مرحا ) خيلاء ( إن الله لا يحب كل مختال ) في مشيه ) ( فخور ) على الناس . ( واقصد في مشيك ) أي : ليكن مشيك قصدا لا تخيلا ولا إسراعا . وقال عطاء : امش بالوقار والسكينة ، كقوله : " يمشون على الأرض هونا " ( الفرقان - 63 ) ( واغضض من صوتك ) انقص من صوتك ، وقال مقاتل : اخفض صوتك ( إن أنكر الأصوات ) أقبح الأصوات ( لصوت الحمير ) أوله زفير وآخره شهيق ، وهما صوت أهل النار . [ ص: 290 ]
وقال موسى بن أعين : سمعت سفيان الثوري يقول في قوله : ( إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) قال : صياح كل شيء تسبيح لله إلا الحمار . وقال جعفر الصادق في قوله : ( إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) قال : هي العطسة القبيحة المنكرة . قال وهب : تكلم لقمان باثنى عشر ألف باب من الحكمة ، أدخلها الناس في كلامهم وقضاياهم وحكمهم : قال خالد الربعي : كان لقمان عبدا حبشيا فدفع مولاه إليه شاة وقال : اذبحها وائتني بأطيب مضغتين منها ، فأتاه باللسان والقلب ، ثم دفع إليه شاة أخرى ، وقال : اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه باللسان والقلب ، فسأله مولاه ، فقال : ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا .
( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ( 20 ) )
قوله تعالى : ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم ) أتم وأكمل ) ( نعمه ) قرأ أهل المدينة ، وأبو عمرو ، وحفص : " نعمه " بفتح العين وضم الهاء على الجمع ، وقرأ الآخرون منونة على الواحد ، ومعناها الجمع أيضا كقوله : " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " ( إبراهيم - 14 ) ( ظاهرة وباطنة ) قال عكرمة عن ابن عباس : النعمة الظاهرة : الإسلام والقرآن ، والباطنة : ما ستر عليك من الذنوب ولم يعجل عليك بالنقمة وقال الضحاك : الظاهرة : حسن الصورة وتسوية الأعضاء ، والباطنة : المعرفة . وقال مقاتل : الظاهرة : تسوية الخلق ، والرزق ، والإسلام . والباطنة : ما ستر من الذنوب . وقال الربيع : الظاهرة بالجوارح ، والباطنة : بالقلب . وقيل : الظاهرة : الإقرار باللسان ، والباطنة : الاعتقاد بالقلب . وقيل : الظاهرة : تمام الرزق والباطنة : حسن الخلق . وقال عطاء : الظاهرة : تخفيف الشرائع ، والباطنة : الشفاعة . [ ص: 291 ]
وقال مجاهد : الظاهرة : ظهور الإسلام والنصر على الأعداء ، والباطنة : الإمداد بالملائكة . وقيل : الظاهرة : الإمداد بالملائكة ، والباطنة : إلقاء الرعب في قلوب الكفار . وقال سهل بن عبد الله : الظاهرة : اتباع الرسول ، والباطنة : محبته . ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ) نزلت في النضر بن الحارث ، وأبي بن خلف ، وأمية بن خلف ، وأشباههم كانوا يجادلون النبي - صلى الله عليه وسلم - في الله وفي صفاته بغير علم ( ولا هدى ولا كتاب منير )
( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ( 21 ) ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ( 22 ) ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور ( 23 ) نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ( 24 ) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( 25 ) )
( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ) قال الله - عز وجل - : ( أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ) وجواب " لو " محذوف ، ومجازه : يدعوهم فيتبعونه ، يعني : يتبعون الشيطان وإن كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير . ( ومن يسلم وجهه إلى الله ) يعني : لله ، أي : يخلص دينه لله ، ويفوض أمره إلى الله ( وهو محسن ) في عمله ( فقد استمسك بالعروة الوثقى ) أي : اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه ( وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ) أي : نمهلهم ليتمتعوا بنعيم الدنيا قليلا إلى انقضاء آجالهم ( ثم نضطرهم ) ثم نلجئهم ونردهم في الآخرة ( إلى عذاب غليظ ، ) وهو عذاب النار . ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون )
[ ص: 292 ] ( لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد ( 26 ) ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ( 27 ) )
( لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد ) قوله - عز وجل - : ) ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ) الآية . قال المفسرون : نزلت بمكة ، قوله سبحانه وتعالى : " ويسئلونك عن الروح " ، إلى قوله : " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " ( الإسراء - 85 ) ، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أتاه أحبار اليهود فقالوا : يا محمد ، بلغنا عنك أنك تقول : " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " أفعنيتنا أم قومك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : كلا قد عنيت ، قالوا : ألست تتلوا فيما جاءك أنا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم " ، قالوا : يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول : " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " ( البقرة - 269 ) ، فكيف يجتمع هذا علم قليل وخير كثير ؟ فأنزل الله هذه الآية .
قال قتادة : إن المشركين قالوا : إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفد فينقطع ، فنزلت : ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ) ، أي : بريت أقلاما ( والبحر يمده ) قرأ أبو عمرو ويعقوب : " والبحر " بالنصب عطفا على " ما " ، والباقون بالرفع على الاستئناف ) ( يمده ) أي : يزيده ، وينصب فيه ) ( من بعده ) خلفه ( سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) وفي الآية اختصار تقديره : ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر يكتب بها كلام الله ما نفدت كلمات الله . ( إن الله عزيز حكيم ) وهذه الآية على قول عطاء بن يسار مدنية ، وعلى قول غيره مكية ، وقالوا : إنما أمر اليهود وفد قريش أن يسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقولوا له ذلك وهو بعد بمكة ، والله أعلم .
[ ص: 293 ] ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير ( 28 ) ( ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ( 29 ) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ( 30 ) ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ( 31 ) وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ( 32 ) )
( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) يعني كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء ( إن الله سميع بصير ( ذلك بأن الله هو الحق ) أي : ذلك الذي ذكرت لتعلموا أن الله هو الحق ( وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ) يريد أن ذلك من نعمة الله عليكم ( ليريكم من آياته ) عجائبه ( إن في ذلك لآيات لكل صبار ) على أمر الله ) ( شكور ) لنعمه . ( وإذا غشيهم موج كالظلل ) قال مقاتل : كالجبال . وقال الكلبي : كالسحاب . والظلل جمع الظلة شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها ، وجعل الموج ، وهو واحد ، كالظلل وهي جمع ، لأن الموج يأتي منه شيء بعد شيء ( دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد ) أي : عدل موف في البر بما عاهد الله عليه في البحر من التوحيد له ، يعني : ثبت على إيمانه . [ ص: 294 ]
نزلت في عكرمة بن أبي جهل هرب عام الفتح إلى البحر فجاءهم ريح عاصف ، فقال عكرمة : لئن أنجاني الله من هذا لأرجعن إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ولأضعن يدي في يده ، فسكنت الريح ، فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه وقال مجاهد : فمنهم مقتصد في القول مضمر للكفر . وقال الكلبي : مقتصد في القول ، أي : من الكفار ، لأن بعضهم كان أشد قولا وأغلى في الافتراء من بعض ( وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ) والختر أسوأ الغدر .
ابو وليد البحيرى
2022-08-07, 12:00 AM
الحلقة (333)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ السَّجْدَةِ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية 16
( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ( 33 ) إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ( 34 ) )
( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي ) لا يقضي ولا يغني ( والد عن ولده ولا مولود هو جاز ) مغن ( عن والده شيئا ) قال ابن عباس : كل امرئ يهمه نفسه ، ( إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) يعني الشيطان . قال سعيد بن جبير : هو أن يعمل المعصية ويتمنى المغفرة . ( إن الله عنده علم الساعة ) الآية نزلت في الوارث بن عمرو بن حارثة ، بن محارب ، ابن حفصة ، من أهل البادية أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الساعة ووقتها وقال : إن أرضنا أجدبت فمتى [ ص: 295 ] ينزل الغيث ؟ وتركت ، امرأتي حبلى ، فمتى تلد ؟ وقد علمت أين ولدت فبأي أرض أموت ؟ فأنزل الله هذه الآية ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ) وقرأ أبي بن كعب : " بأية أرض " ، والمشهور : " بأي أرض " لأن الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء .
وقيل : أراد بالأرض المكان : أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الله ، أخبرنا إبراهيم بن ساعدة عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " مفاتيح الغيب خمس : إن الله عنده علم الساعة ، وينزل الغيث ، ويعلم ما في الأرحام ، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ، وما تدري نفس بأي أرض تموت " . ( إن الله عليم خبير )
سُورَةُ السَّجْدَةِ
مَكِّيَّةٌ
مكية ، قال عطاء : إلا ثلاث آيات من قوله " أفمن كان مؤمنا " إلى آخر ثلاث آيات بسم الله الرحمن الرحيم
) ( الم ( 1 ) تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ( 2 ) أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون ( 3 ) الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ( 4 ) )
( الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ) قال مقاتل : لا شك فيه أنه تنزيل من رب العالمين . ) ( أم يقولون ) بل يقولون ) ( افتراه ) وقيل الميم صلة ، أي : أيقولون افتراه ؟ استفهام توبيخ . وقيل : " أم " بمعنى الواو ، أي : ويقولون افتراه . وقيل : فيه إضمار ، مجازه فهل يؤمنون ، أم يقولون افتراه ، ثم قال : ) ( بل هو ) يعني القرآن ( الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم ) أي : لم يأتهم ( من نذير من قبلك ) قال قتادة : كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال ابن عباس ، ومقاتل : ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما ) ( لعلهم يهتدون ) ( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون )
[ ص: 300 ] ) ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ( 5 ) )
( يدبر الأمر ) أي : يحكم الأمر وينزل القضاء والقدر ( من السماء إلى الأرض ) وقيل : ينزل الوحي مع جبريل من السماء إلى الأرض ) ( ثم يعرج ) يصعد ) ( إليه ) جبريل بالأمر ( في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) أي : في يوم واحد من أيام الدنيا وقدر مسيرة ألف سنة ، خمسمائة نزوله ، وخمسمائة صعوده ، لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام ، يقول : لو سار فيه أحد من بني آدم لم يقطعه إلا في ألف سنة ، والملائكة يقطعون في يوم واحد ، هذا في وصف عروج الملك من الأرض إلى السماء ، وأما قوله : " تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " ( المعارج - 4 ) ، أراد مدة المسافة بين الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل ، يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا . هذا كله معنى قول مجاهد والضحاك وقوله : " إليه " أي : إلى الله . وقيل : على هذا التأويل ، أي : إلى مكان الملك الذي أمره الله - عز وجل - أن يعرج إليه .
وقال بعضهم : ألف سنة وخمسون ألف سنة كلها في القيامة ، يكون على بعضهم أطول وعلى بعضهم أقصر ، معناه : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ، ثم يعرج أي : يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا ، وانقطاع أمر الأمراء وحكم الحكام في يوم كان مقداره ألف سنة ، وهو يوم القيامة ، وأما قوله : " خمسين ألف سنة " فإنه أراد على الكافر يجعل الله ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة ، وعلى المؤمن دون ذلك حتى جاء في الحديث : " أنه يكون على المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا " . وقال إبراهيم التيمي : لا يكون على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر . [ ص: 301 ]
ويجوز أن يكون هذا إخبارا عن شدته وهوله ومشقته . وقال ابن أبي مليكة : دخلت أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان على ابن عباس فسأله ابن فيروز عن هذه الآية وعن قوله خمسين ألف سنة ؟ فقال له ابن عباس : أيام سماها الله لا أدري ما هي وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم .
( ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم ( 6 ) الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ( 7 ) ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ( 8 ) ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ( 9 ) وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون ( 10 ) )
( ذلك عالم الغيب والشهادة ) يعني : ذلك الذي صنع ما ذكره من خلق السماوات والأرض عالم ما غاب عن الخلق وما حضر ) ( العزيز الرحيم ) ( الذي أحسن كل شيء خلقه ) قرأ نافع وأهل الكوفة : " خلقه " بفتح اللام على الفعل وقرأ الآخرون بسكونها ، أي : أحسن خلق كل شيء ، قال ابن عباس : أتقنه وأحكمه . قال قتادة : حسنه . وقال مقاتل : علم كيف يخلق كل شيء ، من قولك : فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه . وقيل : خلق كل حيوان على صورته لم يخلق البعض على صورة البعض ، فكل حيوان كامل في خلقه حسن ، وكل عضو من أعضائه مقدر بما يصلح به معاشه . ( وبدأ خلق الإنسان من طين ) يعني آدم . ( ثم جعل نسله ) يعني ذريته ) ( من سلالة ) نطفة ، سميت سلالة لأنها تسل من الإنسان ) ( من ماء مهين ) أي : ضعيف وهو نطفة الرجل . ( ثم سواه ) ثم سوى خلقه ( ونفخ فيه من روحه ) ثم عاد إلى ذريته ، فقال : ( وجعل لكم ) بعد أن كنتم نطفا ( السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ) يعني : لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه . ) ( وقالوا ) يعني منكري البعث ( أئذا ضللنا ) هلكنا ) ( في الأرض ) وصرنا ترابا ، وأصله [ ص: 302 ] من قولهم : ضل الماء في اللبن إذا ذهب ( أئنا لفي خلق جديد ) استفهام إنكار . قال الله - عز وجل - : ( بل هم بلقاء ربهم كافرون ) أي : بالبعث بعد الموت .
( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ( 11 ) ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ( 12 ) )
( قل يتوفاكم ) يقبض أرواحكم ( ملك الموت الذي وكل بكم ) أي : وكل بقبض أرواحكم وهو عزرائيل ، والتوفي استيفاء العدد ، معناه أنه يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد من العدد الذي كتب عليه الموت . وروي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحة اليد يأخذ منها صاحبها ما أحب من غير مشقة ، فهو يقبض أنفس الخلق في مشارق الأرض ومغاربها ، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب . وقال ابن عباس : إن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب . وقال مجاهد : جعلت له الأرض مثل طست يتناول منها حيث يشاء . وفي بعض الأخبار : أن ملك الموت على معراج بين السماء والأرض فينزع أعوانه روح الإنسان فإذا بلغ ثغره نحره قبضه ملك الموت .
وروى خالد بن معدان عن معاذ بن جبل قال : إن لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب ، وهو يتصفح وجوه الناس ، فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتصفحهم في كل يوم مرتين ، فإذا رأى إنسانا قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة ، وقال : الآن يزار بك عسكر الأموات . قوله : ( ثم إلى ربكم ترجعون ) أي : تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم . ( ولو ترى إذ المجرمون ) المشركون ( ناكسو رءوسهم ) مطأطؤ رءوسهم ( عند ربهم ) حياء وندما ) ( ربنا ) أي : يقولون ربنا ) ( أبصرنا ) ما كنا به مكذبين ) ( وسمعنا ) منك تصديق ما أتتنا به رسلك . وقيل : أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فينا ) ( فارجعنا ) فأرددنا إلى الدنيا ( نعمل صالحا إنا موقنون ) وجواب لو مضمر مجازه لرأيت العجب .
[ ص: 303 ] ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( 13 ) فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ( 14 ) إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ( 15 ) تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ( 16 ) )
( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ) رشدها وتوفيقها للإيمان ( ولكن حق ) وجب ( القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) وهو قوله لإبليس : " لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " ( ص - 85 ) . ثم يقال لأهل النار - وقال مقاتل : إذا دخلوا النار قالت لهم الخزنة - : ( فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا ) أي : تركتم الإيمان به في الدنيا ( إنا نسيناكم ) تركناكم ( وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ) من الكفر والتكذيب . قوله - عز وجل - : ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها ) وعظوا بها ( خروا سجدا ) سقطوا على وجوههم ساجدين ( وسبحوا بحمد ربهم ) قيل : صلوا بأمر ربهم . وقيل : قالوا سبحان الله وبحمده ( وهم لا يستكبرون ) عن الإيمان والسجود له . ) ( تتجافى ) ترتفع وتنبو ( جنوبهم عن المضاجع ) جمع مضجع ، وهو الموضع الذي يضطجع عليه ، يعني الفرش ، وهم المتهجدون بالليل ، اللذين يقومون للصلاة .
واختلفوا في المراد بهذه الآية; قال أنس : نزلت فينا معشر الأنصار ، كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وعن أنس أيضا قال : نزلت في أناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء وهو قول أبي حازم ومحمد بن المنكدر ، وقالا هي صلاة الأوابين .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء ، وهي صلاة الأوابين . [ ص: 304 ]
وقال عطاء : هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة .
وعن أبي الدرداء ، وأبي ذر ، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم : هم الذين يصلون العشاء الآخرة والفجر في جماعة .
وروينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة ، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن ابن صالح السمان ، عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا " .
وأشهر الأقاويل أن المراد منه : صلاة الليل ، وهو قول الحسن ، ومجاهد ، ومالك ، والأوزاعي وجماعة .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أخبرنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار ، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي ، أخبرنا عبد الرازق ، أخبرنا معمر عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل عن معاذ بن جبل قال : كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرنا فأصبحت يوما قريبا منه وهو يسير فقلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ، قال : " قد سألت عن أمر عظيم ، وإنه ليسير على من يسره الله عليه ، تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت " ، ثم قال : " ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة ، والصدقة تطفىء الخطيئة ، وصلاة الرجل في جوف الليل " ، ثم قرأ : " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " حتى بلغ " جزاء بما كانوا يعملون " ، ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : " رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد . ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا نبي الله ، قال : فأخذ بلسانه فقال : اكفف عليك هذا ، فقلت : يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال : ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب [ ص: 305 ] الناس في النار على وجوههم ، أو قال على مناخرهم ، إلا حصائد ألسنتهم " .
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد المخلدي ، أخبرنا محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا أبو عبد الله بن صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، حدثني ربيعة بن يزيد ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ، وقربة لكم إلى ربكم ، ومكفرة للسيئات ، ومنهاة عن الإثم " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا روح بن أسلم ، أخبرنا حماد بن سلمة ، أخبرنا عطاء بن السائب ، عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عجب ربنا من رجلين : رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حيه وأهله إلى صلاته " ، فيقول الله لملائكته : انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين حيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي ، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم معه أصحابه ، فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع ، فرجع فقاتل حتى أهريق دمه ، فيقول الله لملائكته : " انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي حتى أهريق دمه " ] . [ ص: 306 ]
أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أخبرنا أبو محمد الجراحي ، أخبرنا أبو العباس المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، أخبرنا قتيبة بن سعيد ، أخبرنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم ، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن ابن معانق ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله لمن ألان الكلام ، وأطعم الطعام ، وتابع الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أصبغ ، أخبرني عبد الله بن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب ، أخبرنا الهيثم بن أبي سنان ، أخبرني أنه سمع أبا هريرة في قصصه يذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول : " إن أخا لكم لا يقول الرفث " يعني بذلك عبد الله بن رواحة ، قال :
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
قوله - عز وجل - : ( يدعون ربهم خوفا وطمعا ) قال ابن عباس : خوفا من النار وطمعا في الجنة ( ومما رزقناهم ينفقون ) قيل : أراد به الصدقة المفروضة . وقيل : عام في الواجب والتطوع .
ابو وليد البحيرى
2022-08-07, 12:06 AM
الحلقة (334)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية1 إلى الاية 4
( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ( 17 ) )
( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم ) قرأ حمزة ويعقوب : " أخفي لهم " ساكنة الياء ، أي : أنا أخفي لهم ومن حجته قراءة ابن مسعود " نخفي " بالنون . وقرأ الآخرون بفتحها . ( من قرة أعين ) مما تقر به أعينهم ( جزاء بما كانوا يعملون ) [ ص: 307 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا إسحاق بن نصر ، أخبرنا أبو أسامة عن الأعمش ، أخبرنا أبو صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يقول الله تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعتم عليه " ، ثم قرأ : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون )
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : هذا مما لا تفسير له . وعن بعضهم قال : أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم .
( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ( 18 ) أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون ( 19 ) وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ( 20 ) )
قوله - عز وجل - : ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمه ، وذلك أنه كان بينهما تنازع وكلام في شيء ، فقال الوليد بن عقبة لعلي اسكت فإنك صبي وأنا والله أبسط منك لسانا ، وأحد منك سنانا ، وأشجع منك جنانا ، وأملأ منك حشوا في الكتيبة . فقال له علي : اسكت فإنك فاسق ، فأنزل الله تعالى : ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) ولم يقل : لا يستويان ، لأنه لم يرد مؤمنا واحدا وفاسقا واحدا ، بل أراد جميع المؤمنين وجميع الفاسقين . (أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى ) التي يأوي إليها المؤمنون ( نزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون )
[ ص: 308 ] ) ( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ( 21 ) ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون ( 22 ) ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل ( 23 ) )
( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ) أي : سوى العذاب الأكبر ( لعلهم يرجعون ) قال أبي بن كعب ، والضحاك ، والحسن ، وإبراهيم : " العذاب الأدنى " مصائب الدنيا وأسقامها ، وهو رواية الوالبي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - . وقال عكرمة عنه : هو الحدود . وقال مقاتل : الجوع سبع سنين بمكة حتى أكلوا الجيف والعظام والكلاب . وقال ابن مسعود : هو القتل بالسيف يوم بدر وهو قول قتادة والسدي ( دون العذاب الأكبر ) يعني : عذاب الآخرة ( لعلهم يرجعون ) إلى الإيمان ، يعني : من بقي منهم بعد بدر وبعد القحط . قوله - عز وجل - : ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين ) يعني : المشركين ) ( منتقمون ) ( ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه ) يعني : فلا تكن في شك من لقاء موسى ليلة المعراج ، قاله ابن عباس وغيره .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن بشار ، أخبرنا غندر ، عن شعبة ، عن قتادة رحمه الله قال : وقال لي خليفة ، أخبرنا يزيد بن زريع ، أخبرنا سعيد عن قتادة ، عن أبي العالية قال : أخبرنا ابن عم نبيكم - يعني ابن عباس - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى رجلا مربوعا مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض ، سبط [ ص: 309 ] الرأس ، ورأيت مالكا خازن النار ، والدجال في آيات أراهن الله إياه فلا تكن في مرية من لقائه " .
أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن ، أخبرنا عبد الله المحاملي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم البزاز ، أخبرنا محمد بن يونس ، أخبرنا عمر بن حبيب القاضي ، أخبرنا سليمان التيمي ، عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لما أسري بي إلى السماء رأيت موسى يصلي في قبره " .
وروينا في المعراج أنه رآه في السماء السادسة ومراجعته في أمر الصلاة .
قال السدي : " فلا تكن في مرية من لقائه " ، أي : من تلقي موسى كتاب الله بالرضا والقبول .
) ( وجعلناه ) يعني : الكتاب وهو التوراة ، وقال قتادة : موسى ( هدى لبني إسرائيل )
( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ( 24 ) إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ( 25 ) أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون ( 26 ) أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ( 27 ) )
( وجعلنا منهم ) يعني : من بني إسرائيل ) ( أئمة ) قادة في الخير يقتدى بهم ، يعني : الأنبياء الذين كانوا فيهم . وقال قتادة : أتباع الأنبياء ) ( يهدون ) يدعون ( بأمرنا لما صبروا ) قرأ حمزة والكسائي ، بكسر اللام وتخفيف الميم ، أي : لصبرهم ، وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد الميم ، أي : حين صبروا على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمصر ( وكانوا بآياتنا يوقنون إن ربك هو يفصل ) يقضي ( بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أولم يهد ) لم يتبين ( لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون ) آيات الله وعظاته فيتعظون بها . ( أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز ) أي : اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها ، قال ابن عباس : هي أرض باليمن . وقال مجاهد : هي أرض بابين ( فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم ) [ ص: 310 ] من العشب والتبن ) ( وأنفسهم ) من الحبوب والأقوات ) ( أفلا يبصرون )
( ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين ( 28 ) قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون ( 29 ) فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون ( 30 ) )
( ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين ) قيل : أراد بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الحكم بين العباد ، قال قتادة : قال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للكفار : إن لنا يوما نتنعم فيه ونستريح ويحكم بيننا وبينكم ، فقالوا استهزاء : متى هذا الفتح ؟ أي : القضاء والحكم ، وقال الكلبي : يعني فتح مكة . وقال السدي : يوم بدر لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون لهم : إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم ، فيقولون متى هذا الفتح . ( قل يوم الفتح ) يوم القيامة ( لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ) ومن حمل الفتح على فتح مكة أو القتل يوم بدر قال : معناه لا ينفع الذين كفروا إيمانهم إذا جاءهم العذاب وقتلوا ( ولا هم ينظرون ) لا يمهلون ليتوبوا ويعتذروا . ( فأعرض عنهم ) قال ابن عباس : نسختها آية السيف ( وانتظر إنهم منتظرون ) قيل : انتظر موعدي لك بالنصر إنهم منتظرون بك حوادث الزمان . وقيل : انتظر عذابنا فيهم فإنهم منتظرون ذلك .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أبو نعيم ، أخبرنا سفيان ، عن سعد بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن هرمز ، عن أبي هريرة أنه قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر يوم الجمعة ( آلم تنزيل ) و ( هل أتى على الإنسان ) . [ ص: 311 ]
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا أبو نعيم ، أخبرنا سفيان ، عن ليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ : " تبارك " و " آلم تنزيل " .
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
مَدَنِيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
) ( يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما ( 1 ) )
( يا أيها النبي اتق الله ) نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبي الأعور وعمرو بن سفيان السلمي ، وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين بعد قتال أحد ، وقد أعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمان على أن يكلموه ، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وطعمة بن أبيرق ، فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعنده عمر بن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا ، اللات والعزى ومناة ، وقل : إن لها شفاعة لمن عبدها ، وندعك وربك ، فشق على النبي - صلى الله عليه وسلم - قولهم ، فقال عمر : يا رسول الله ائذن لنا في قتلهم ، فقال : إني قد أعطيتهم الأمان ، فقال عمر : اخرجوا في لعنة الله وغضبه ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر أن يخرجهم من المدينة فأنزل الله تعالى :
( يا أيها النبي اتق الله ) أي : دم على التقوى ، كالرجل يقول لغيره وهو قائم : قم هاهنا ، أي : اثبت قائما .
وقيل الخطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به الأمة . وقال الضحاك : معناه اتق الله ولا تنقض العهد الذي بينك وبينهم . [ ص: 316 ]
( ولا تطع الكافرين ) من أهل مكة ، يعني : أبا سفيان ، وعكرمة ، وأبا الأعور ) ( والمنافقين ) من أهل المدينة ، عبد الله بن أبي ، وعبد الله بن سعد ، وطعمة ( إن الله كان عليما ) بخلقه ، قبل أن يخلقهم ) ( حكيما ) فيما دبره لهم .
( واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ( 2 ) وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ( 3 ) ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ( 4 ) )
( واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ) قرأ أبو عمرو : " يعملون خبيرا " و " يعملون بصيرا " بالياء فيهما ، وقرأ غيره بالتاء . ( وتوكل على الله ) ثق بالله ( وكفى بالله وكيلا ) حافظا لك ، وقيل : كفيلا برزقك . قوله - عز وجل - : ) ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) نزلت في أبي معمر ، جميل بن معمر الفهري ، وكان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع ، فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان ، وكان يقول : إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد ، فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم أبو معمر فيهم ، فلقيه أبو سفيان وإحدى نعليه بيده ، والأخرى في رجله ، فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس ؟ قال انهزموا ، قال : فما لك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك ؟ فقال أبو معمر : ما شعرت إلا أنهما في رجلي ، فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده .
وقال الزهري ومقاتل هذا مثل ضربه الله - عز وجل - للمظاهر من امرأته وللمتبني ولد غيره ، يقول : فكما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى تكون أمان ، ولا يكون له ولد واحد ابن رجلين . [ ص: 317 ]
( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ) قرأ أهل الشام والكوفة : " اللائي " هاهنا وفي سورة الطلاق بياء بعد الهمزة ، وقرأ قالون عن نافع ويعقوب بغير ياء بعد الهمزة ، وقرأ الآخرون بتليين الهمزة ، وكلها لغات معروفة ، " تظاهرون " قرأ عاصم بالألف وضم التاء وكسر الهاء مخففا ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء والهاء مخففا وقرأ ابن عامر بفتحها وتشديد الظاء ، وقرأ الآخرون بفتحها وتشديد الظاء والهاء من غير ألف بينهما .
وصورة الظهار : أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي . يقول الله تعالى : ما جعل نساءكم اللائي تقولون لهن هذا في التحريم كأمهاتكم ، ولكنه منكر وزور ، وفيه كفارة نذكرها إن شاء الله تعالى في سورة المجادلة .
( وما جعل أدعياءكم ) يعني : من تبنيتموه ) ( أبناءكم ) فيه نسخ التبني ، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يتبنى الرجل فيجعله كالابن المولود له ، يدعوه الناس إليه ، ويرث ميراثه ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتق زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي ، وتبناه قبل الوحي ، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب ، فلما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة ، قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ونسخ التبني ( ذلكم قولكم بأفواهكم ) لا حقيقة له يعني قولهم زيد بن محمد - صلى الله عليه وسلم - وادعاء نسب لا حقيقة له ( والله يقول الحق ) أي : قوله الحق ( وهو يهدي السبيل ) أي : يرشد إلى سبيل الحق .
ابو وليد البحيرى
2022-08-07, 12:14 AM
الحلقة (335)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية5 إلى الاية 19
( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما ( 5 ) )
( ادعوهم لآبائهم ) الذين ولدوهم ( هو أقسط ) أعدل ( عند الله ) أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا معلى بن أسد ، أخبرنا عبد العزيز بن المختار ، أخبرنا موسى بن عقبة ، حدثني سالم عن عبد الله بن عمر أن زيد بن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن . [ ص: 318 ]
( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم ) أي : فهم إخوانكم ( في الدين ومواليكم ) إن كانوا محررين وليسوا ببنيكم ، أي : سموهم بأسماء إخوانكم في الدين . وقيل : " مواليكم " أي : أولياءكم في الدين ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ) قبل النهي فنسبتموه إلى غير أبيه ( ولكن ما تعمدت قلوبكم ) من دعائهم إلى غير آبائهم بعد النهي .
وقال قتادة : " فيما أخطأتم به " أن تدعوه لغير أبيه ، وهو يظن أنه كذلك . ومحل " ما " في قوله تعالى : " ما تعمدت " خفض ردا على " ما " التي في قوله " فيما أخطأتم به " مجازه : ولكن فيما تعمدت قلوبكم .
( وكان الله غفورا رحيما ) أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن بشار ، أخبرنا غندر ، أخبرنا شعبة عن عاصم ، قال : سمعت أبا عثمان قال : سمعت سعدا ، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله ، وأبا بكرة وكان قد تسور حصن الطائف في أناس ، فجاءا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا سمعنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام " .
( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا ( 6 ) )
قوله - عز وجل - : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) يعني من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه عليهم ووجوب طاعته عليهم . وقال ابن عباس وعطاء : يعني إذا دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بهم من طاعتهم أنفسهم . وقال ابن زيد : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيما قضى فيهم ، كما أنت أولى بعبدك فيما قضيت عليه . وقيل : هو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه . [ ص: 319 ] وقيل : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى الجهاد فيقول قوم : نذهب فنستأذن من آبائنا وأمهاتنا ، فنزلت الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا أبو عامر ، أخبرنا فليح ، عن هلال بن علي بن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة " ، اقرأوا إن شئتم ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته ، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه " .
قوله - عز وجل - : ( وأزواجه أمهاتهم ) وفي حرف أبي : ( وأزواجه وأمهاتهم وهو أب لهم ) وهن أمهات المؤمنين في تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأبيد ، لا في النظر إليهن والخلوة بهن ، فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب ، قال الله تعالى : " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب " ( الأحزاب - 53 ) ، ولا يقال لبناتهن هن أخوات المؤمنين ولا لأخوانهن وأخواتهن هم أخوال المؤمنين وخالاتهم .
قال الشافعي : تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر ، وهي أخت أم المؤمنين ، ولم يقل هي خالة المؤمنين .
واختلفوا في أنهن هل كن أمهات النساء المؤمنات ؟ قيل : كن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعا .
وقيل كن أمهات المؤمنين دون النساء ، روى الشعبي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها : قالت يا أمه! فقالت لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم فبان بهذا معنى هذه الأمومة وهو تحريم نكاحهن .
قوله - عز وجل - : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) يعني : في الميراث ، قال قتادة : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة . قال الكلبي : آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الناس ، فكان يؤاخي بين رجلين فإذا مات أحدهما ورثه الآخر دون عصبته ، حتى نزلت هذه الآية : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) في حكم الله ) ( من المؤمنين ) الذين آخى رسول الله [ ص: 320 ] - صلى الله عليه وسلم - بينهم ) ( والمهاجرين ) يعني ذوي القرابات ، بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرث بالإيمان والهجرة ، فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة وصارت بالقرابة .
قوله : ( إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ) أراد بالمعروف الوصية للذين يتولونه من المعاقدين ، وذلك أن الله لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح أن يوصي الرجل لمن يتولاه بما أحب من ثلثه .
وقال مجاهد : أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة لحق الإيمان والهجرة .
وقيل : أراد بالآية إثبات الميراث بالإيمان والهجرة ، يعني : وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض ، أي : لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ، أي : إلا أن توصوا لذوي قراباتكم بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة ، وهذا قول قتادة وعطاء وعكرمة .
( كان ذلك في الكتاب مسطورا ) أي : كان الذي ذكرت من أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في اللوح المحفوظ مسطورا مكتوبا . وقال القرظي : في التوراة .
( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ( 7 ) )
قوله - عز وجل - : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ) على الوفاء بما حملوا وأن يصدق بعضهم بعضا ويبشر بعضهم ببعض . قال مقاتل : أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله ويدعوا إلى عبادة الله ويصدق بعضهم بعضا وينصحوا لقومهم ( ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ) خص هؤلاء الخمسة بالذكر من بين النبيين لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولوا العزم من الرسل ، وقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر لما : [ ص: 321 ]
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد الحديثي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن يعقوب المقرئ ، أخبرنا محمد بن محمد بن سليمان الساعدي ، أخبرنا هارون بن محمد بن بكار بن بلال ، أخبرنا أبي ، أخبرنا سعيد - يعني ابن بشير - عن قتادة عن الحسن ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث " .
قال قتادة : وذلك قول الله - عز وجل - : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ) فبدأ به - صلى الله عليه وسلم - قبلهم .
( وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) عهدا شديدا على الوفاء بما حملوا .
( ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما ( 8 ) يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا ( 9 ) )
( ليسأل الصادقين عن صدقهم ) يقول : أخذنا ميثاقهم لكي نسأل الصادقين عن صدقهم ، يعني النبيين عن تبليغهم الرسالة . والحكمة في سؤالهم ، مع علمه أنهم صادقون ، تبكيت من أرسلوا إليهم .
وقيل : ليسأل الصادقين عن عملهم لله - عز وجل - . وقيل : ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم في قلوبهم . ( وأعد للكافرين عذابا أليما ) قوله - عز وجل - : ) ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم ) وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيام الخندق ( إذ جاءتكم جنود ) يعني الأحزاب ، وهم قريش ، وغطفان ، ويهود قريظة ، والنضير ( فأرسلنا عليهم ريحا ) وهي الصبا ، قال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت الشمال إن الحرة لا تسري بالليل ، وكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا [ ص: 322 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا آدم ، أخبرنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور " .
قوله تعالى : ( وجنودا لم تروها ) وهم الملائكة ، ولم تقاتل الملائكة يومئذ ، فبعث الله عليهم تلك الليلة ريحا باردة فقلعت الأوتاد ، وقطعت أطناب الفساطيط ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وجالت الخيل بعضها في بعض ، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول : يا بني فلان هلم إلي ، فإذا اجتمعوا عنده قال : النجاء النجاء ، لما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال .
( وكان الله بما تعملون بصيرا ) قال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير ، عن عروة بن الزبير ومن لا أتهم ، عن عبد الله بن كعب بن مالك ، وعن الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الله بن أبي بكرة بن محمد بن عمرو بن حزم ، وعن محمد بن كعب القرظي ، وعن غيرهم من علمائنا ، دخل حديث بعضهم في بعض : أن نفرا من اليهود ، منهم سلام بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وهودة بن قيس وأبي عمار الوائلي ، في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل ، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فقالت لهم قريش : يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، فديننا خير أم دينه ؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق منهم ، قال : فهم الذين أنزل الله فيهم : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت " ، إلى قوله : " وكفى بجهنم سعيرا " ( النساء 51 - 55 ) .
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله ، فأجمعوا لذلك ، ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس غيلان ، فدعوهم إلى ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه ، وأن قريشا قد بايعوهم على ذلك ، فأجابوهم .
فخرجت قريش ، وقائدها أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان ، وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في فزارة ، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة ، ومسعود بن [ ص: 323 ] رخيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع
فلما سمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة .
وكان الذي أشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق سلمان الفارسي ، وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذ حر ، فقال : يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا عليها ، فعمل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون حتى أحكموه .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني ، أخبرنا محمد بن جعفر الطبري ، حدثنا حماد بن الحسن ، حدثنا محمد بن خالد بن عثمة ، حدثنا كثير بن عبد الله ، عن عمرو بن عوف ، حدثني أبي عن أبيه قال : خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا ، قال : فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلا قويا ، فقال المهاجرون : سلمان منا ، وقال الأنصار : سلمان منا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " سلمان منا أهل البيت " .
قال عمرو بن عوف : كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المازني وستة من الأنصار في أربعين ذراعا فحفرنا حتى إذا كنا تحت ذي ناب أخرج الله في بطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا وشقت علينا ، فقلنا : يا سلمان ارق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره خبر هذه الصخرة ، فإما أن يعدل عنها فإن المعدل قريب ، وإما أن يأمرنا فيه بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه ، قال : فرقي سلمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ضارب عليه قبة تركية ، فقال : يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يحيك فيها قليل ولا كثير ، فمرنا فيها بأمرك ، فإنا لا نحب أن نجاوز خطك ، فهبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع سلمان الخندق والتسعة على شق الخندق ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها - يعني المدينة - حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكبير فتح وكبر المسلمون ، ثم ضربها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثانية وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكبير فتح وكبر المسلمون ، ثم ضربها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكسرها ، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكبير فتح ، وكبر المسلمون ، فأخذ بيد سلمان ورقي ، فقال [ ص: 324 ] سلمان : بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط ، فالتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القوم فقال : " أرأيتم ما يقول سلمان " ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : " ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم ، أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب ، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم ، أضاءت لي منها قصور الحيرة من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب ، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم ، أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها ، فأبشروا " ، فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعد صدق ، وعدنا النصر بعد الحصر ، فقال المنافقون : ألا تعجبون من محمد يعدكم ويمنيكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا ؟ قال فنزل القرآن : ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) وأنزل الله هذه القصة : " قل اللهم مالك الملك " الآية ( آل عمران - 26 ) .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا معاوية بن عمرو ، أخبرنا أبو إسحاق ، عن حميد قال : سمعت أنسا يقول : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك عنهم ، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع ، قال : " اللهم إن العيش عيش الآخرة ، فاغفر للأنصار والمهاجرة " ، فقالوا مجيبين له :
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم ، أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه - أو اغبر - وهو يقول : والله لولا ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا
ويرفع بها صوته : أبينا أبينا . [ ص: 325 ]
رجعنا إلى حديث ابن إسحاق ، قال : فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة من الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ، ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة ، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد ، حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد ، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم . وأمر بالنساء والذراري فرفعوا في الآطام .
وخرج عدو الله حيي بن أخطب من بني النضير حتى أتى كعب بن أسد القرظي ، صاحب عقد بني قريظة وعهدهم ، وكان قد وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قومه وعاهده على ذلك ، فلما سمع كعب بحيي بن أخطب أغلق دونه حصنه ، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له ، فناداه حيي : يا كعب افتح لي ، فقال : ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم وإني قد عاهدت محمدا ، فلست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا . قال : ويحك افتح لي أكلمك ، قال : ما أنا بفاعل ، قال : والله إن أغلقت دوني إلا على جشيشتك أن آكل معك منها ، فأحفظ الرجل ، ففتح له ، فقال : ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة ، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد ، قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه . قال له كعب بن أسد : جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه برعد وبرق ، وليس فيه شيء ، فدعني ومحمدا وما أنا عليه ، فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء ، فلم يزل حيي بن أخطب بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له ، على أن أعطاه من الله عهدا وميثاقا . لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك ، فنقض كعب بن أسد عهده وتبرأ مما كان عليه فيما كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر وإلى المسلمين ، بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ ، أحد بني عبد الأشهل ، وهو يومئذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة أحد بني ساعدة ، وهو يومئذ سيد الخزرج ، ومعهما عبد الله بن رواحة أخو بني الحارث بن الخزرج ، وخوات بن جبير ، أخو بني عمرو بن عوف ، فقال : انطلقوا حتى تنظروا ، أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ؟ فإن كان [ ص: 326 ] حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ، ولا تفتوا في أعضاد الناس ، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به جهرا للناس ، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم منهم ، ونالوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : لا عقد بيننا وبين محمد ولا عهد ، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه ، وكان رجلا فيه حدة ، فقال له سعد بن معاذ : دع عنك مشاتمتهم فإن ما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة ، ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلموا عليه وقالوا : عضل والقارة ، لغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أصحاب الرجيع : خبيب بن عدي وأصحابه; فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين .
يتبع
ابو وليد البحيرى
2022-08-07, 12:15 AM
الحلقة (336)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية5 إلى الاية 19
وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف ، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال معتب بن قشير ، أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط ، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ، وحتى قال أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة بن قيظي : يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو وذلك على ملأ من رجال قومه ، فائذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنها خارجة من المدينة .
فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ، ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى .
فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عيينة بن حفص ، وإلى الحارث بن عمر ، وهما قائدا غطفان ، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، فجرى بينه وبينهم الصلح ، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ، فذكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، واستشارهما فيه ، فقالا يا رسول الله أشيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم أمر تحبه فتصنعه ، أم شيء تصنعه لنا ؟ قال : لا بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب ، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم ، فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعا ، فحين أكرمنا الله بالإسلام ، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! مالنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف ، حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنت وذاك . فتناول سعد الصحيفة ، فمحا ما فيها من الكتابة ، ثم قال : ليجهدوا علينا . [ ص: 327 ]
فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ، وعدوهم محاصروهم ، ولم يكن بينهم قتال ، إلا أن فوارس من قريش ، منهم عمرو بن عبد ود ، أخو بني عامر بن لؤي ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ، ونوفل بن عبد الله ، وضرار بن الخطاب ، ومرداس أخو بني محارب بن فهر ، قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم ومروا على بني كنانة فقالوا : تهيئوا للحرب يا بني كنانة ، فستعلمون اليوم من الفرسان ، ثم أقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا على الخندق فلما رأوه قالوا : والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها .
ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيولهم فاقتحمت منه ، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع ، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم ، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم ، وكان عمرو بن عبد ود وقاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة ، فلم يشهد أحدا فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه ، فلما وقف هو وخيله ، قال له علي : يا عمرو إنك كنت تعاهد الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذت منه إحداهما ، قال : أجل ، فقال له علي بن أبي طالب : فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام ، قال : لا حاجة لي بذلك ، قال : فإني أدعوك إلى البراز قال : ولم ياابن أخي ، فوالله ما أحب أن أقتلك ، قال علي : ولكني والله أحب أن أقتلك ، فحمي عمرو عند ذلك ، فاقتحم عن فرسه ، فعقره وضرب وجهه ، ثم أقبل على علي ، فتناولا وتجاولا فقتله علي ، فخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة ، وقتل مع عمرو رجلان : منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار ، أصابه سهم ، فمات منه بمكة ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي ، وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة ، فقال : يا معشر العرب قتله أحسن من هذه ، فنزل إليه علي فقتله ، فغلب المسلمون على جسده ، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعهم جسده ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا حاجة لنا في جسده وثمنه ، فشأنكم به ، فخلى بينهم وبينه .
قالت عائشة أم المؤمنين : كنا يوم الخندق في حصن بني حارثة ، وكان من أحرز حصون المدينة ، وكانت أم سعد بن معاذ معنا في الحصن ، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب ، فمر سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة ، قد خرجت منها ذراعه كلها ، وفي يده حربة وهو يقول :
لبث قليلا يدرك الهيجا حمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فقالت له أمه : الحق يا بني فقد والله أجزت ، قالت عائشة فقلت لها : يا أم سعد والله لوددت أن [ ص: 328 ] درع سعد كانت أسبغ مما هي ، قالت : وخفت عليه حيث أصاب السهم منه ، قالت : فرمي سعد يومئذ بسهم ، وقطع منه الأكحل ، رماه خباب بن قيس بن العرقة ، أحد بني عامر بن لؤي ، فلما أصابه قال : خذها وأنا ابن العرقة ، فقال سعد : عرق الله وجهك في النار ، ثم قال سعد : اللهم أن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها ، فإنه لا قوم أحب إلي من أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه ، وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية .
وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد قال : كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع ، حصن حسان بن ثابت ، قالت : وكان حسان معنا فيه ، مع النساء والصبيان ، قالت صفية : فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن ، وقد حاربت بنو قريظة ، فقطعت ما بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في نحور عدوهم ، لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم ، إذ أتانا آت . قالت : فقلت : يا حسان ، إن هذا اليهودي كما ترى ، يطوف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا من وراءنا من يهود ، وقد شغل عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فانزل إليه فاقتله ، فقال : يغفر الله لك يابنة عبد المطلب ، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ، قالت : فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا اعتجرت ، ثم أخذت عمودا ، ثم نزلت من الحصن إليه ، فضربته بالعمود حتى قتلته ، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن ، فقلت : يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل ، قال : ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب .
قالوا : أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فيما وصف الله تعالى من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم .
ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر من غطفان أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة ، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة ، وكان لهم نديما في الجاهلية ، فقال لهم : يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم ، قالوا : صدقت لست عندنا بمتهم ، فقال لهم : إن قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه ، وإن قريشا وغطفان ليسوا كهيئتكم ، البلد بلدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم [ ص: 329 ] لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره ، وإن قريشا وغطفان ، أموالهم وأولادهم ونساؤهم بعيدة ، إن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إن خلا بكم ، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم ، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا ، حتى تناجزوه . قالوا : لقد أشرت برأي ونصح .
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : يا معشر قريش قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمدا ، وقد بلغني أمر رأيت أن حقا علي أن أبلغكم نصحا لكم ، فاكتموا علي ، قالوا : نفعل ، قال : تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا إليه : أن قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين ، من قريش وغطفان ، رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم ؟ فأرسل إليهم : أن نعم . فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا .
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان ، أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ، ولا أراكم تتهموني ، قالوا : صدقت ، قال : فاكتموا علي ، قالوا : نفعل ، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم ، فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس ، وكان مما صنع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان ، فقالوا لهم : إنا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه ، فقال بنو قريظة لهم : إن اليوم السبت ، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم ، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا ، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا ، والرجل في بلدنا ، ولا طاقة لنا بذلك من محمد ، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : تعلمن والله أن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق ، فأرسلوا إلى بني قريظة : إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا ، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ، فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا : إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا ، فإن وجدوا فرصة انتهزوها ، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم ، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم ، فأرسلوا إلى قريش وغطفان : إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا ، فأبوا عليهم ، وخذل الله بينهم وبعث الله عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد ، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم . [ ص: 330 ]
فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا .
روى محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، وروى غيره عن إبراهيم التميمي ، عن أبيه قالا قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان : يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبتموه ، قال نعم ياابن أخي ، قال : كيف كنتم تصنعون ؟ قال : والله لقد كنا نجهد ، فقال الفتى : والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا ولخدمناه ، وفعلنا وفعلنا ، فقال حذيفة : ياابن أخي والله لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنة ؟ فما قام منا رجل ، ثم صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هويا من الليل ، ثم التفت إلينا فقال مثله فسكت القوم ، وما قام منا رجل ثم صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هويا من الليل ، ثم التفت إلينا فقال : من رجل يقوم فينظر ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة ، فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد ، فلما لم يقم أحد دعاني ، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا حذيفة ، فلم يكن لي بد من القيام إليه حين دعاني ، فقلت : لبيك يا رسول الله وقمت حتى آتيه ، وإن جنبي ليضطربان ، فمسح رأسي ووجهي ، ثم قال : ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تحدثن شيئا حتى ترجع إلي ، ثم قال اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ومن تحته فأخذت سهمي ، وشددت علي سلاحي ، ثم انطلقت أمشي نحوهم كأنما أمشي في حمام ، فذهبت فدخلت في القوم ، وقد أرسل الله عليهم ريحا وجنودا لله تفعل بهم ما تفعل ، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء ، وأبو سفيان قاعد يصطلي ، فأخذت سهما فوضعته في كبد قوسي فأردت أن أرميه ، ولو رميته لأصبته ، فذكرت قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تحدثن حدثا حتى ترجع إلي ، فرددت سهمي في كنانتي . فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم ، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء ، قام فقال : يا معشر قريش ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه فلينظر من هو ، فأخذت بيد جليسي فقلت من أنت ، فقال : سبحان الله أما تعرفني أنا فلان بن فلان ، فإذا هو رجل من هوازن .
فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا منهم الذي نكره ، ولقينا من هذه الريح ما ترون ، فارتحلوا فإني مرتحل ، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ، ثم ضربه فوثب به على ثلاث ، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم .
قال : فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي ، فلما سلم أخبرته الخبر ، فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل ، قال : فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفاء . [ ص: 331 ] فأدناني النبي - صلى الله عليه وسلم - منه ، وأنامني عند رجليه ، وألقى علي طرف ثوبه ، وألزق صدري ببطن قدميه فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال : قم يا نومان .
( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون ( 10 ) هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ( 11 ) )
قوله - عز وجل - : ( إذ جاءوكم من فوقكم ) أي : من فوق الوادي من قبل المشرق ، وهم أسد ، وغطفان ، وعليهم مالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان ، ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود بني قريظة ) ( ومن أسفل منكم ) يعني : من بطن الوادي ، من قبل المغرب ، وهم قريش وكنانة ، عليهم أبو سفيان بن حرب في قريش ومن تبعه ، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق .
وكان الذي جر غزوة الخندق - فيما قيل - إجلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني النضير من ديارهم .
( وإذ زاغت الأبصار ) مالت وشخصت من الرعب ، وقيل : مالت عن كل شيء فلم تنظر إلى عدوها ( وبلغت القلوب الحناجر ) فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع ، والحنجرة : جوف الحلقوم ، وهذا على التمثيل ، عبر به عن شدة الخوف ، قال الفراء : معناه أنهم جبنوا وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته فإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة ، ولهذا يقال للجبان : انتفخ سحره .
) ( وتظنون بالله الظنونا ) أي : اختلفت الظنون; فظن المنافقون استئصال محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي عنهم ، وظن المؤمنون النصر والظفر لهم .
قرأ أهل المدينة والشام وأبو بكر : " الظنونا " و " الرسولا " و " السبيلا " بإثبات الألف وصلا ووقفا ، لأنها مثبتة في المصاحف ، وقرأ أهل البصرة وحمزة بغير الألف في الحالين على الأصل ، وقرأ الآخرون بالألف في الوقف دون الوصل لموافقة رءوس الآي . ( هنالك ابتلي ) أي : عند ذلك اختبر المؤمنون ، بالحصر والقتال ، ليتبين المخلص من المنافق ( وزلزلوا زلزالا شديدا ) حركوا حركة شديدة .
[ ص: 332 ] ) ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ( 12 ) وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ( 13 ) ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ( 14 ) )
( وإذ يقول المنافقون ) معتب بن قشير ، وقيل : عبد الله بن أبي وأصحابه ( والذين في قلوبهم مرض ) شك وضعف اعتقاد : ( ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) وهو قول أهل النفاق : يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله ، هذا والله الغرور . ( وإذ قالت طائفة منهم ) أي : من المنافقين ، وهم أوس بن قيظي وأصحابه ) ( يا أهل يثرب ) يعني المدينة ، قال أبو عبيدة : " يثرب " : اسم أرض ، ومدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ناحية منها .
وفي بعض الأخبار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تسمى المدينة يثرب ، وقال : " هي طابة " ، كأنه كره هذه اللفظة .
( لا مقام لكم ) قرأ العامة بفتح الميم ، أي : لا مكان لكم تنزلون وتقيمون فيه ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وحفص : بضم الميم ، أي : لا إقامة لكم ) ( فارجعوا ) ; إلى منازلكم عن اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقيل : عن القتال إلى مساكنكم .
( ويستأذن فريق منهم النبي ) وهم بنو حارثة وبنو سلمة ( يقولون إن بيوتنا عورة ) أي : خالية ضائعة ، وهو مما يلي العدو نخشى عليها السراق . وقرأ أبو رجاء العطاردي " عورة " بكسر الواو ، أي : قصيرة الجدران يسهل دخول السراق عليها ، فكذبهم الله فقال : ( وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ) أي : ما يريدون إلا الفرار . ( ولو دخلت عليهم ) أي : لو دخلت عليهم المدينة ، يعني هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم ، وهم الأحزاب ) ( من أقطارها ) جوانبها ونواحيها جمع قطر ) ( ثم سئلوا الفتنة ) أي : الشرك . [ ص: 333 ] ) ( لآتوها ) لأعطوها ، وقرأ أهل الحجاز لأتوها مقصورا ، أي : لجاؤوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام ) ( وما تلبثوا بها ) أي : ما احتبسوا عن الفتنة ) ( إلا يسيرا ) ولأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبة به أنفسهم ، هذا قول أكثر المفسرين .
وقال الحسن والفراء : وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا .
( ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا ( 15 ) قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا ( 16 ) )
( ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل ) أي : من قبل غزوة الخندق ( لا يولون الأدبار ) من عدوهم أي : لا ينهزمون ، قال يزيد بن رومان : هم بنو حارثة ، هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة ، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها .
وقال قتادة : هم ناس كانوا قد غابوا عن وقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة قالوا : لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن ، فساق الله إليهم ذلك .
وقال مقاتل والكلبي : هم سبعون رجلا بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة ، وقالوا : أشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم ، قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله ؟ قال : لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة ، قالوا : قد فعلنا ذلك . فذلك عهدهم .
وهذا القول ليس بمرضي ، لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين نفرا ، لم يكن فيهم شاك ولا من يقول مثل هذا القول ، وإنما الآية في قوم عاهدوا الله أن يقاتلوا ولا يفروا ، فنقضوا العهد .
( وكان عهد الله مسئولا ) عنه . ) ( قل ) لهم ( لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ) الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أو قتل ( وإذا لا تمتعون إلا قليلا ) أي : لا تمتعون بعد الفرار إلا مدة آجالكم وهي قليل .
[ ص: 334 ] ( قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ( 17 ) قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا ( 18 ) أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا ( 19 ) )
( قل من ذا الذي يعصمكم من الله ) أي : يمنعكم من عذابه ( إن أراد بكم سوءا ) هزيمة ( أو أراد بكم رحمة ) نصرة ( ولا يجدون لهم من دون الله وليا ) أي : قريبا ينفعهم ) ( ولا نصيرا ) أي : ناصرا يمنعهم . ( قد يعلم الله المعوقين منكم ) أي : المثبطين للناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ) أي : ارجعوا إلينا ، ودعوا محمدا ، فلا تشهدوا معه الحرب ، فإنا نخاف عليكم الهلاك .
قال قتادة : هؤلاء ناس من المنافقين ، كانوا يثبطون أنصار النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويقولون لإخوانهم : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحما لالتهمهم ، أي : ابتلعهم أبو سفيان وأصحابه ، دعوا الرجل فإنه هالك .
وقال مقاتل : نزلت في المنافقين ، وذلك أن اليهود أرسلت إلى المنافقين ، وقالوا : ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه ، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا ، وإنا نشفق عليكم ، أنتم إخواننا وجيراننا هلموا إلينا ، فأقبل عبد الله بن أبي وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه ، وقالوا : لئن قدروا عليكم لم يستبقوا منكم أحدا ما ترجون من محمد ؟ ما عنده خير ، ما هو إلا أن يقتلنا هاهنا ، انطلقوا بنا إلى إخواننا ، يعني اليهود ، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيمانا واحتسابا .
قوله - عز وجل - : ( ولا يأتون البأس ) الحرب ) ( إلا قليلا ) رياء وسمعة من غير احتساب ، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا . ( أشحة عليكم ) بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة ، وقال قتادة : بخلاء عند الغنيمة ، وصفهم الله بالبخل والجبن ، فقال : ( فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم ) في الرءوس من الخوف والجبن ( كالذي يغشى عليه من الموت ) أي : كدوران الذي يغشى عليه من الموت ، [ ص: 335 ] وذلك أن من قرب من الموت غشيه أسبابه يذهب عقله ويشخص بصره ، فلا يطرف ( فإذا ذهب الخوف سلقوكم ) آذوكم ورموكم في حال الأمن ( بألسنة حداد ) ذربة ، جمع حديد . يقال للخطيب الفصيح الذرب اللسان : مسلق ومصلق وسلاق وصلاق . قال ابن عباس : سلقوكم أي : عضوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة . وقال قتادة : بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة ، يقولون أعطونا فإنا قد شهدنا معكم القتال ، فلستم أحق بالغنيمة منا فهم عند الغنيمة أشح قوم وعند البأس أجبن قوم ( أشحة على الخير ) أي : عند الغنيمة يشاحون المؤمنين ( أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم ) قال مقاتل : أبطل الله جهادهم ( وكان ذلك على الله يسيرا )
ابو وليد البحيرى
2022-08-07, 12:27 AM
الحلقة (337)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية20 إلى الاية 37
( يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ( 20 ) لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ( 21 ) )
( يحسبون ) يعني هؤلاء المنافقين ) ( الأحزاب ) يعني : قريشا وغطفان واليهود ( لم يذهبوا ) لم ينصرفوا عن قتالهم جبنا وفرقا وقد انصرفوا ( وإن يأت الأحزاب ) أي : يرجعوا إليه للقتال بعد الذهاب ( يودوا لو أنهم بادون في الأعراب ) أي يتمنوا لو كانوا في بادية الأعراب من الخوف والجبن ، يقال : بدا يبدو بداوة ، إذا خرج إلى البادية ( يسألون عن أنبائكم ) أخباركم وما آل إليه أمركم ، وقرأ يعقوب : " يساءلون " مشددة ممدودة ، أي : يتساءلون ) ( ولو كانوا ) يعني : هؤلاء المنافقين ( فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ) تعذيرا ، أي : يقاتلون قليلا يقيمون به عذرهم ، فيقولون قد قاتلنا . قال الكلبي : إلا قليلا أي : رميا بالحجارة . وقال مقاتل : إلا رياء وسمعة من غير احتساب . قوله - عز وجل - : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) قرأ عاصم : " أسوة " حيث كان ، بضم الهمزة ، والباقون بكسرها ، وهم لغتان ، أي : قدوة صالحة ، وهي فعلة من الائتساء كالقدوة من الاقتداء ، اسم وضع موضع المصدر ، أي : به اقتداء حسن إن تنصروا دين الله وتؤازروا [ ص: 336 ] الرسول ولا تتخلفوا عنه ، وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذ كسرت رباعيته وجرح وجهه ، وقتل عمه وأوذي بضروب من الأذى ، فواساكم مع ذلك بنفسه ، فافعلوا أنتم كذلك أيضا واستنوا بسنته ( لمن كان يرجو الله ) بدل من قوله : " لكم " وهو تخصيص بعد تعميم للمؤمنين ، يعني : أن الأسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن كان يرجو الله ، قال ابن عباس : يرجو ثواب الله . وقال مقاتل : يخشى الله ) ( واليوم الآخر ) أي : يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال ( وذكر الله كثيرا ) في جميع المواطن على السراء والضراء .
( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ( 22 ) من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ( 23 ) )
ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال : ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا ) تسليما لأمر الله وتصديقا لوعده : ( هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ) وعد الله إياهم ما ذكر في سورة البقرة : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم " إلى قوله : " ألا إن نصر الله قريب " ( البقرة - 214 ) ، فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء ، فلما رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ( وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) أي : تصديقا لله وتسليما لأمر الله . قوله - عز وجل - : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) أي : قاموا بما عاهدوا الله عليه ووفوا به ( فمنهم من قضى نحبه ) أي : فرغ من نذره ، ووفى بعهده ، فصبر على الجهاد حتى استشهد ، والنحب : النذر ، والنحب : الموت أيضا ، قالمقاتل : " قضى نحبه " ، يعني : أجله فقتل على الوفاء ، يعني حمزة وأصحابه . وقيل : " قضى نحبه " أي : بذل جهده في الوفاء بالعهد من قول العرب : نحب فلان في سيره يومه وليلته ، إذا مد فلم ينزل ( ومنهم من ينتظر ) الشهادة . [ ص: 337 ]
وقال محمد بن إسحاق : " فمنهم من قضى نحبه " من استشهد يوم بدر وأحد " ومنهم من ينتظر " يعني : من بقي بعد هؤلاء من المؤمنين ينتظرون أحد الأمرين; إما الشهادة أو النصر ) ( وما بدلوا ) عهدهم ) ( تبديلا )
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن سعيد الخزاعي ، أخبرنا عبد الأعلى ، عن حميد قال : سألت أنسا ح وحدثني عمرو بن زرارة ، أخبرنا زياد ، حدثني حميد الطويل ، عن أنس قال : غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين ، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع ، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال : يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد ، قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع ، قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه ، قال أنس : كنا نظن أو نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) إلى آخر الآية .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أخبرنا محمد بن حماد ، أخبرنا معاوية ، عن الأعمش ، عن سفيان عن شقيق ، عن خباب بن الأرت قال : هاجرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله ، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئا ، منهم مصعب بن عمير ، قتل يوم أحد ، فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة ، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه ، وإذا وضعناه على رجليه خرج رأسه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر ، قال : ومن أينعت له ثمرته فهو يهد بها " .
أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التيمي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي نصر ، أخبرنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي ، أخبرنا محمد بن سليمان الجوهري [ ص: 338 ] بأنطاكية ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم ، أخبرنا الصلت بن دينار ، عن أبي نصرة ، عن جابر بن عبد الله قال : نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى طلحة بن عبد الله فقال : " من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي على وجه الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى هذا " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن أبي شيبة ، أخبرنا وكيع بن إسماعيل ، عن قيس قال : رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد .
( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ( 24 ) ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ( 25 ) وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا ( 26 ) )
قوله - عز وجل - : ( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ) أي جزاء صدقهم ، وصدقهم هو الوفاء بالعهد ( ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم ) فيهديهم إلى الإيمان ( إن الله كان غفورا رحيما ورد الله الذين كفروا ) من قريش وغطفان ) ( بغيظهم ) لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا ( لم ينالوا خيرا ) ظفرا ( وكفى الله المؤمنين القتال ) بالملائكة والريح ( وكان الله قويا عزيزا ) قويا في ملكه عزيزا في انتقامه . ( وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب ) أي : عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين وهم بنو قريظة ( من صياصيهم ) حصونهم ومعاقلهم ، واحدها صيصية ، ومنه قيل للقرن ولشوكة الديك والحاكة صيصية وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما [ ص: 339 ] أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب فيها راجعين إلى بلادهم وانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة ، ووضعوا السلاح فلما كان الظهر أتى جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتجرا بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة وعليها قطيفة من ديباج ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند زينب بنت جحش وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقه ، فقال : قد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال : نعم ، فقال جبريل : عفا الله عنك ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة ، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم .
وروي أنه كان الغبار على وجه جبريل عليه السلام وفرسه فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح الغبار عن وجهه وعن فرسه ، فقال : إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة فانهد إليهم فإني قد قطعت أوتارهم ، وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مناديا فأذن : أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ، وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنه برايته إليهم ، وابتدرها الناس فسار علي رضي الله عنه حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع حتى لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطريق ، فقال : يا رسول الله لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث ، قال : لم ، أظنك سمعت لي منهم أذى ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا .
فلما دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حصونهم قال : يا إخوان القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ؟ . قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولا .
ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال : هل مر بكم أحد ؟ فقالوا : نعم يا رسول الله مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج ، فقال عليه السلام : ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم .
فلما أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم ، فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد صلاة العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " ، فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم الله بذلك [ ص: 340 ] ولا عنفهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال وحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب .
وكان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده .
فلما أيقنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ، قال كعب بن أسد : يا معشر يهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم ، قالوا : وما هن ؟ قال : نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم ، فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ، قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره ، قال : فإذا أبيتم هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد رجالا مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئا نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء ، فقالوا : نقتل هؤلاء المساكين فما خير في العيش بعدهم ؟ قال : فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرة . قالوا : أنفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا ؟ أما من قد علمت فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك ؟ فقال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة في الدهر حازما ؟ قال ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف ، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا فأرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال وهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم ، فقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم ، قالوا : ماذا يفعل بنا إذا نزلنا ؟ فأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح ، قال أبو لبابة : فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده ، وقال : لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت ، وعاهد الله أن لا يطأ أرض بني قريظة أبدا ، ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا ، فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبره وأبطأ عليه قال : أما لو جاءني لاستغفرت له ، فأما إذا فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه ، ثم إن الله تعالى أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت أم سلمة ، قالت أم سلمة فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك فقلت مما تضحك يا رسول [ ص: 341 ] الله أضحك الله سنك ؟ قال : تيب على أبي لبابة ، فقلت : إلا أبشره بذلك يا رسول الله ؟ فقال بلى إن شئت ، فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب ، فقالت يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك ، قال فثار الناس إليه ليطلقوه فقال : لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده فلما مر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارجا إلى الصبح أطلقه ، ثم قال : إن ثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة ، وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هذيل ليسوا من قريظة ولا النضير نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظي فمر بحرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليها محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة ، فلما رآه قال : من هذا ؟ قال : عمرو بن سعدى ، وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : لا أغدر بمحمد أبدا ، فقال محمد بن مسلمة حين عرفه : اللهم لا تحرمني عثرات الكرام ثم خلى سبيله ، فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة تلك الليلة ثم ذهب فلا يدري أين ذهب من أرض الله ، فذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شأنه ، فقال : ذاك رجل قد نجاه الله بوفائه . وبعض الناس يزعم أنه كان قد أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأصبحت رمته ملقاة لا يدري أين ذهب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه تلك المقالة ، والله أعلم . فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله فتواثبت الأوس فقالوا : يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي الخزرج ، بالأمس ما قد علمت ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه فسألهم إياه عبد الله بن أبي بن سلول ، فوهبهم له فلما كلمه الأوس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيكم رجل منكم ؟ " قالوا : بلى ، قال : فذاك إلى سعد بن معاذ ، وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خيمة امرأة من المسلمين يقال لها رفيدة في مسجده ، وكانت تداوي الجرحى ، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب ، فلما حكمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني قريظة أتاه قومه فاحتملوه على حمار قد وطأوا له بوسادة من أدم ، وكان رجلا جسيما ثم أقبلوا معه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في مواليك ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم ، فلما أكثروا عليه قال : قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني الأشهل فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي [ ص: 342 ] سمع منه فلما انتهى سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : قوموا إلى سيدكم فأنزلوه ، فقاموا إليه فقالوا : يا أبا عمرو إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ولاك مواليك لتحكم فيهم ، فقال سعد : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيها ما حكمت ؟ قالوا : نعم ، قال : وعلى من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو معرض عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إجلالا له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم ، قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار ، ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم ، فخندق بها خندقا ثم بعث إليهم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالا وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رئيس القوم ، وهم ستمائة أو سبعمائة ، والمكثر لهم يقول كانوا بين ثمانمائة إلى تسعمائة ، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسالا يا كعب ما ترى ما يصنع بنا فقال كعب : أفي كل موطن لا تعقلون ألا ترون الداعي لا ينزع وإن من يذهب به منكم لا يرجع ، هو والله القتل ، فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتى حيي بن أخطب عدو الله عليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ، فلما نظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل ، ثم أقبل على الناس فقال أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ، ثم جلس فضربت عنقه .
وروى عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت لم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة قالت والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقتل رجالهم بالسيوف إذ هتف هاتف باسمها : أين فلانة قالت : أنا والله قلت : ويلك مالك ؟ قالت : أقتل ، قلت : ولم ؟ قالت : حدث أحدثته ، قالت : فانطلق بها فضرب عنقها ، وكانت عائشة تقول : ما أنسى عجبا منها طيب نفس وكثرة ضحك ، وقد عرفت إنها تقتل . قال الواقدي : وكان اسم تلك المرأة شبابة ، امرأة الحكم القرظي وكانت قتلت خلاد بن سويد ، رمت عليه رحى فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها فضرب عنقها بخلاد بن سويد قال : وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس هنالك . [ ص: 343 ]
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أن الزبير بن باطا القرظي ، وكان يكنى أبا عبد الرحمن ، كان قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بعاث ، أخذه فجز ناصيته ، ثم خلى سبيله ، فجاءه يوم قريظة وهو شيخ كبير فقال : يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني ؟ قال : وهل يجهل مثلي مثلك ؟ قال : إني أردت أن أجزيك بيدك عندي ، قال : إن الكريم يجزي الكريم ، قال : ثم أتى ثابت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله قد كانت للزبير عندي يد وله علي منة ، وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هو لك " فأتاه فقال له إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وهب لي دمك ، قال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة ، فأتى ثابت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله أهله وماله ؟ قال هم لك فأتاه فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاني امرأتك وولدك فهم لك ، قال : أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك ، فأتى ثابت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ماله يا رسول الله ؟ قال : هو لك ، قال : فأتاه فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعطاني مالك فهو لك ، فقال : أي ثابت ما فعل الله بمن كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد ، قال : قتل ، قال : فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب ؟ قال : قتل ، قال : فما فعل مقدمنا إذا شددنا وحامينا إذا كررنا عزال بن شموئيل ؟ قال : قتل ، قال : فما فعل المجلسان يعني بني كعب ابن قريظة وبني عمرو بن قريظة ؟ قال : ذهبوا وقتلوا ، قال : فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت إلا ما ألحقتني بالقوم ، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء خير ، فما أنا بصابر لله فترة دلو نضح حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضرب عنقه ، فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله ألقى الأحبة ، قال : يلقاهم والله في نار جهنم خالدا فيها مخلدا أبدا .
قالوا : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بقتل من أنبت منهم ثم قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين ، وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال وأخرج منها الخمس ، فكان للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان ولفارسه سهم وللراجل ممن ليس له فرس سهم ، وكانت الخيل ستة وثلاثين فرسا وكان أول فيء وقع فيه السهمان ، ثم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بهم خيلا وسلاحا ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنانة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة ، فكانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توفي عنها وهي في ملكه ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرص عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب ، فقالت : يا رسول الله بل تتركني [ ص: 344 ] في ملكك فهو أخف علي وعليك فتركها وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلا اليهودية ، فعزلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووجد في نفسه بذلك من أمرها ، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة فجاءه فقال : يا رسول الله قد أسلمت ريحانة ، فسره ذلك .
فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ ، وذلك أنه دعا بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم فقال : اللهم إنك قد علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك ، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فأبقني لها وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك ، فانفجر كلمه فرجعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد ، قالت عائشة : فحضره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي ، قالت : وكانوا كما قال الله تعالى : " رحماء بينهم ( الفتح - 29 ) ، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا يحيى بن آدم ، أخبرنا إسرائيل ، سمعت أبا إسحاق يقول ، سمعت سليمان بن صرد يقول ، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول حين أجلى الله الأحزاب عنه : " الآن نغزوهم ولا يغزونا ، نحن نسير إليهم " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا قتيبة ، أخبرنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : " لا إله إلا الله وحده ، أعز جنده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده " فلا شيء بعده " .
قال الله تعالى في قصة بني قريظة : ( وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون ) وهم الرجال ، يقال : كانوا ستمائة ( وتأسرون فريقا ) وهم النساء والذراري ، يقال : كانوا سبعمائة وخمسين ، ويقال : كانوا تسعمائة
[ ص: 345 ] ( وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا ( 27 ) يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ( 28 ) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما ( 29 ) )
( وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها ) ، بعد ، قال ابن زيد ومقاتل : يعني خيبر ، قال قتادة : كنا نحدث أنها مكة . وقال الحسن : فارس والروم . وقال عكرمة : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة . ( وكان الله على كل شيء قديرا ) قوله - عز وجل - ( ياأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن ) متعة الطلاق ( وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما ) سبب نزول هذه الآية أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - سألنه شيئا من عرض الدنيا ، وطلبن منه زيادة في النفقة ، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض ، فهجرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآلى أن لا يقربهن شهرا ولم يخرج إلى أصحابه ، فقالوا : ما شأنه ؟
يتبع
ابو وليد البحيرى
2022-08-07, 12:27 AM
الحلقة (338)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية20 إلى الاية 37
وكانوا يقولون : طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه ، فقال عمر لأعلمن لكم شأنه ، قال : فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله أطلقتهن ؟ قال : لا قلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون : طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه ، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن ؟ قال : نعم إن شئت ، فقمت على باب المسجد وناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه ، فنزلت هذه الآية : " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " ( النساء - 83 ) ، فكنت أنا استنبطت ذاك الأمر ، وأنزل الله آية التخيير ، وكانت تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ تسع نسوة خمس من قريش : وهم عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وسودة بنت زمعة ، وغير القرشيات : زينب بنت جحش الأسدية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، رضوان الله عليهن فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة ، وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن [ ص: 346 ] فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، فرئي الفرح في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعتها على ذلك .
قال قتادة : فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال : ( لا يحل لك النساء من بعد )
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغفار بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج ، أخبرنا زهير بن حرب ، أخبرنا روح بن عبادة ، أخبرنا زكريا بن إسحاق ، أخبرنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال : دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوجد الناس جلوسا ببابه ولم يؤذن لأحد منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن له فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا ، فقال : لأقولن شيئا أضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة ، فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : لا تسألي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا أبدا ليس عنده ، ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين ، ثم نزلت الآية : ( يا أيها النبي قل لأزواجك ) حتى بلغ : ( للمحسنات منكن أجرا عظيما ) قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك ، قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآية ، قالت : أفيك يا رسول الله استشير أبوي ؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت ، قال : " لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها ، إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا ، قال الزهري فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت : فلما مضت تسع وعشرون أعدهن دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : بدأ بي فقلت : يا رسول الله إنك أقسمت ألا تدخل علينا شهرا وإنك دخلت في تسع وعشرين أعدهن ؟ فقال : " إن الشهر تسع وعشرون " [ ص: 347 ]
واختلف العلماء في هذا الخيار أنه هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أم لا ؟ فذهب الحسن ، وقتادة ، وأكثر أهل العلم : إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق ، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن ، لقوله تعالى : ( فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ) بدليل أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة : " لا تعجلي حتى تستشيري أبويك " ، وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور .
وذهب قوم إلى أنه كان تفويض الطلاق لو اخترن أنفسهن كان طلاقا .
واختلف أهل العلم في حكم التخيير : فقال عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس : إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء ، وإن اختارت نفسها يقع طلقة واحدة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وابن أبي ليلى ، وسفيان ، والشافعي ، وأصحاب الرأي ، إلا عند أصحاب الرأي تقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها ، وعند الآخرين رجعية .
وقال زيد بن ثابت : إذا اختارت الزوج تقع طلقة واحدة ، وإذا اختارت نفسها فثلاث ، وهو قول الحسن وبه قال مالك .
وروي عن علي أيضا أنها إذا اختارت زوجها تقع طلقة واحدة وإن اختارت نفسها فطلقة بائنة .
وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عمر بن حفص ، أخبرنا أبي ، أخبرنا الأعمش ، أخبرنا مسلم ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترنا الله ورسوله فلم يعد ذلك علينا شيئا .
( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ( 30 ) )
قوله - عز وجل - : ) ( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة ) بمعصية ظاهرة ، قيل : هي كقوله - عز وجل - : " لئن أشركت ليحبطن عملك " ( الزمر - 65 ) لا أن منهن من أتت بفاحشة . وقال ابن عباس : المراد بالفاحشة النشوز وسوء الخلق . ( يضاعف لها العذاب ضعفين ) قرأ ابن كثير وابن عامر : " نضعف " بالنون وكسر العين وتشديدها ، " العذاب " نصب ، وقرأ الآخرون بالياء وفتح العين " العذاب " رفع ويشددها أبو جعفر وأهل البصرة ، وشدد أبو عمرو هذه وحدها لقوله : [ ص: 348 ] " ضعفين " ، وقرأ الآخرون : " يضاعف " بالألف وفتح العين ، " العذاب " رفع ، وهما لغتان مثل بعد وباعد ، قال أبو عمرو وأبو عبيدة : ضعفت الشيء إذا جعلته مثليه وضاعفته إذا جعلته أمثاله . ( وكان ذلك على الله يسيرا ) قال مقاتل : كان عذابها على الله هينا وتضعيف عقوبتهن على المعصية لشرفهن كتضعيف عقوبة الحرة على الأمة وتضعيف ثوابهن لرفع منزلتهن; وفيه إشارة إلى أنهن أشرف نساء العالمين .
( ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما ( 31 ) يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا ( 32 ) )
( ومن يقنت ) يطع ( منكن لله ورسوله ) قرأ يعقوب : " من تأت منكن ، وتقنت " بالتاء فيهما ، وقرأ العامة بالياء لأن " من " أداة تقوم مقام الاسم يعبر به عن الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ( وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين ) أي : مثلي أجر غيرها ، قال مقاتل : مكان كل حسنة عشرين حسنة .
وقرأ حمزة والكسائي : " يعمل ، يؤتها " بالياء فيهما نسقا على قوله : " ومن يأت ، ويقنت " وقرأ الآخرون بالتاء ( وأعتدنا لها رزقا كريما ) حسنا يعني الجنة . ) ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ) قال ابن عباس : يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات ، أنتن أكرم علي ، وثوابكن أعظم لدي ، ولم يقل : كواحدة ، لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ، قال الله تعالى : " لا نفرق بين أحد من رسله " ( البقرة - 285 ) ، وقال : " فما منكم من أحد عنه حاجزين " ( الحاقة - 47 ) .
( إن اتقيتن ) الله فأطعتنه ( فلا تخضعن بالقول ) لا تلن بالقول للرجال ولا ترققن الكلام ( فيطمع الذي في قلبه مرض ) أي : فجور وشهوة ، وقيل نفاق ، والمعنى : لا تقلن قولا يجد منافق أو فاجر به سبيلا إلى الطمع فيكن .
والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع .
( وقلن قولا معروفا ) لوجه الدين والإسلام بتصريح وبيان من غير خضوع .
[ ص: 349 ] ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ( 33 ) )
( وقرن في بيوتكن ) قرأ أهل المدينة وعاصم : " وقرن " بفتح القاف ، وقرأ الآخرون بكسرها ، فمن فتح القاف فمعناه ، اقررن أي : الزمن بيوتكن من قولهم : قررت بالمكان أقر قرارا ، يقال : قررت أقر وقررت أقر ، وهما لغتان ، فحذفت الراء الأولى التي هي عين الفعل لثقل التضعيف ونقلت حركتها إلى القاف كقولهم : في ظللت ظلت ، قال الله تعالى : " فظلتم تفكهون " ( الواقعة - 65 ) ، " و ظلت عليه عاكفا " ( طه - 97 ) .
ومن كسر القاف فقد قيل : هو من قررت أقر ، معناه اقررن - بكسر الراء - فحذفت الأولى ونقلت حركتها إلى القاف كما ذكرنا وقيل : - وهو الأصح - أنه أمر من الوقار ، كقولهم من الوعد : عدن ، ومن الوصل : صلن ، أي : كن أهل وقار وسكون ، من قولهم وقر فلان يقر وقورا إذا سكن واطمأن .
( ولا تبرجن ) قال مجاهد وقتادة : التبرج هو التكسر والتغنج ، وقال ابن أبي نجيح : هو التبختر . وقيل : هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال ( تبرج الجاهلية الأولى ) اختلفوا في الجاهلية الأولى .
قال الشعبي : هي ما بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقال أبو العالية : هي في زمن داود وسليمان عليهما السلام ، كانت المرأة تلبس قميصا من الدر غير مخيط من الجانبين فيرى خلقها فيه .
وقال الكلبي : كان ذلك في زمن نمرود الجبار ، كانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره وتعرض نفسها على الرجال .
وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس ، وكانت ألف سنة ، وأن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صباحا وفي النساء دمامة ، وكان نساء السهل صباحا وفي الرجال دمامة ، وأن إبليس أتى رجلا [ ص: 350 ] من أهل السهل وأجر نفسه منه ، فكان يخدمه واتخذ شيئا مثل الذي يزمر به الرعاء فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله ، فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يستمعون إليه ، واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة ، فتتبرج النساء للرجال ويتزين الرجال لهن ، وإن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك [ فتحولوا إليهم ] فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فيهم ، فذلك قوله تعالى : " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " .
وقال قتادة : هي ما قبل الإسلام .
وقيل : الجاهلية الأولى : ما ذكرنا ، والجاهلية الأخرى : قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان .
وقيل : قد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى ، كقوله تعالى : " وأنه أهلك عادا الأولى " ( النجم - 50 ) ، ولم يكن لها أخرى .
قوله - عز وجل - : ( وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) أراد بالرجس : الإثم الذي نهى الله النساء عنه ، قاله مقاتل . وقال ابن عباس : يعني : عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضى ، وقال قتادة : يعني : السوء . وقال مجاهد : الرجس الشك .
وأراد بأهل البيت : نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهن في بيته ، وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وتلا قوله : " واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله " ، وهو قول عكرمة ومقاتل .
وذهب أبو سعيد الخدري ، وجماعة من التابعين ، منهم مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما : إلى أنهم علي وفاطمة والحسن والحسين .
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الأنصاري ، أخبرنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعدي ، أخبرنا أبو همام الوليد بن شجاع ، أخبرنا يحيى بن زكريا بن زائدة ، أخبرنا أبي عن مصعب بن شيبة ، عن صفية بنت شيبة الحجبية ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود ، فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء حسن فأدخله فيه ، ثم جاء حسين فأدخله فيه ، ثم قال : " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " . [ ص: 351 ]
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد الحميدي ، أخبرنا عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا الحسن بن مكرم ، أخبرنا عثمان بن عمر ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن شريك بن أبي نمر ، عن عطاء بن يسار ، عن أم سلمة قالت : في بيتي أنزلت : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) قالت : فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين ، فقال " هؤلاء أهل بيتي " ، قالت : فقلت يا رسول الله أما أنا من أهل البيت ؟ قال : " بلى إن شاء الله " .
قال زيد بن أرقم : أهل بيته من حرم الصدقة عليه بعده ، آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس .
( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا ( 34 ) إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ( 35 ) )
قوله - عز وجل - : ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله ) يعني : القرآن ) ( والحكمة ) قال قتادة : يعني السنة وقال مقاتل : أحكام القرآن ومواعظه . ( إن الله كان لطيفا خبيرا ) أي : لطيفا بأوليائه خبيرا بجميع خلقه . قوله - عز وجل - : ( إن المسلمين والمسلمات ) الآية . وذلك أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قلن : يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير ، فما فينا خير نذكر به ، إنا نخاف أن لا يقبل الله منا طاعة ، فأنزل الله هذه الآية .
قال مقاتل : قالت أم سلمة بنت أبي أمية ونيسة بنت كعب الأنصارية للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه ، نخشى أن لا يكون فيهن خير ؟ فنزلت هذه الآية . [ ص: 352 ]
وروي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن ؟ قلن : لا . فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار ، قال : ومم ذاك ؟ قالت : لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال ، فأنزل الله هذه الآية : ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين ) المطيعين ( والقانتات والصادقين ) في إيمانهم وفيما ساءهم وسرهم ( والصادقات والصابرين ) على ما أمر الله به ( والصابرات والخاشعين ) المتواضعين ( والخاشعات ) وقيل : أراد به الخشوع في الصلاة ، ومن الخشوع أن لا يلتفت ( والمتصدقين ) مما رزقهم الله ( والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم ) عما لا يحل ( والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات ) قال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا .
وروينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " قد سبق المفردون " ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " .
قال عطاء بن أبي رباح : من فوض أمره إلى الله - عز وجل - فهو داخل في قوله : " إن المسلمين والمسلمات " ، ومن أقر بأن الله ربه ومحمدا رسوله ، ولم يخالف قلبه لسانه ، فهو داخل في قوله : " والمؤمنين والمؤمنات " ، ومن أطاع الله في الفرض ، والرسول في السنة : فهو داخل في قوله : " والقانتين والقانتات ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله : " والصادقين والصادقات " ، ومن صبر على الطاعة ، وعن المعصية ، وعلى الرزية : فهو داخل في قوله : " والصابرين والصابرات " ، ومن صلى ولم يعرف من عن يمينه وعن يساره فهو داخل في قوله : " والخاشعين والخاشعات " ، ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله : " والمتصدقين والمتصدقات " ، ومن صام في كل شهر أيام البيض : الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر ، فهو داخل في قوله : " والصائمين والصائمات " ، ومن حفظ فرجه عما لا يحل فهو داخل في قوله : " والحافظين فروجهم والحافظات " ، ومن صلى [ ص: 353 ] الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله : " والذاكرين الله كثيرا والذاكرات " . ( أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما )
( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ( 36 ) )
قوله - عز وجل - : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم )
نزلت الآية في زينب بنت جحش الأسدية وأخيها عبد الله بن جحش وأمهما أمية بنت عبد المطلب عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمولاه زيد بن حارثة وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى زيدا في الجاهلية بعكاظ فأعتقه وتبناه ، فلما خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه فلما علمت أنه يخطبها لزيد أبت وقالت : أنا ابنة عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي ، وكانت بيضاء جميلة فيها حدة ، وكذلك كره أخوها ذلك ، فأنزل الله - عز وجل - : ( وما كان لمؤمن ) يعني : عبد الله بن جحش ( ولا مؤمنة ) يعني : أخته زينب ( إذا قضى الله ورسوله أمرا ) أي إذا أراد الله ورسوله أمرا وهو نكاح زينب لزيد ( أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) قرأ أهل الكوفة : " أن يكون " بالياء ، للحائل بين التأنيث والفعل ، وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث " الخيرة " من أمرهم ، والخيرة : الاختيار .
والمعنى أن يريد غير ما أراد الله أو يمتنع مما أمر الله ورسوله به . ( ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) أخطأ خطأ ظاهرا ، فلما سمعا ذلك رضيا بذلك وسلما ، وجعلت أمرها بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك أخوها ، فأنكحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيدا ، فدخل بها وساق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها عشرة دنانير ، وستين درهما ، وخمارا ، ودرعا ، وإزارا وملحفة ، وخمسين مدا من طعام ، وثلاثين صاعا من تمر .
[ ص: 354 ] ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا ( 37 ) )
قوله تعالى : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك ) الآية ، نزلت في زينب وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما زوج زينب من زيد مكثت عنده حينا ، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى زيدا ذات يوم لحاجة ، فأبصر زينب قائمة في درع وخمار وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش ، فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها ، فقال : سبحان الله مقلب القلوب وانصرف ، فلما جاء زيد ذكرت ذلك له ، ففطن زيد ، فألقي في نفس زيد كراهيتها في الوقت [ ص: 355 ] فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إني أريد أن أفارق صاحبتي " ، قال : ما لك أرابك منها شيء ؟ قال : لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيرا ، ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أمسك عليك زوجك " ، يعني : زينب بنت جحش ) ( واتق الله ) في أمرها ، ثم طلقها زيد فذلك قوله - عز وجل - :
( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه ) بالإسلام ) ( وأنعمت عليه ) بالإعتاق ، وهو زيد بن حارثة ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) فيها ولا تفارقها ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه ) أي : تسر في نفسك ما الله مظهره ، أي : كان في قلبه لو فارقها لتزوجها .
وقال ابن عباس : حبها . وقال قتادة : ود أنه طلقها .
( وتخشى الناس ) قال ابن عباس والحسن : تستحييهم .
وقيل : تخاف لائمة الناس أن يقولوا : أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها .
( والله أحق أن تخشاه ) قال عمر ، وابن مسعود ، وعائشة : ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية هي أشد عليه من هذه الآية .
وروي عن مسروق قال : قالت عائشة : لو كتم النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا مما أوحي إليه لكتم هذه الآية : " وتخفي في نفسك ما الله مبديه " .
وروى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال : سألني علي بن الحسين زين العابدين ما يقول الحسن في قوله : ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) ؟ قلت : يقول لما جاء زيد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا نبي الله إني أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك ، فقال : أمسك عليك زوجك واتق الله ، فقال علي بن الحسين : ليس كذلك ، كان الله تعالى قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيدا سيطلقها ، فلما جاء زيد وقال : إني أريد أن أطلقها قال له : أمسك عليك زوجك ، فعاتبه الله وقال : لم قلت : أمسك عليك زوجك ، وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك ؟ [ ص: 356 ] وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله علم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال : " زوجناكها " فلو كان الذي أضمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره ، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجة له ، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد : التي تحتك وفي نكاحك ستكون امرأتي ، وهذا قول حسن مرض ، وإن كان القول الآخر وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء ، لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه في مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المآثم ، لأن الود وميل النفس من طبع البشر .
وقوله : " أمسك عليك زوجك واتق الله " أمر بالمعروف ، وهو خشية لا إثم فيه .
وقوله تعالى : ( والله أحق أن تخشاه ) لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه السلام قد قال : " أنا أخشاكم لله وأتقاكم له " ، ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله تعالى أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء .
قوله - عز وجل - : ( فلما قضى زيد منها وطرا ) أي : حاجة من نكاحها ( زوجناكها ) وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبنى تحل بعد الدخول بها .
قال أنس : كانت زينب تفتخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقول : زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات .
وقال الشعبي : كانت زينب تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن : جدي وجدك واحد ، أني أنكحنيك الله في السماء ، وإن السفير لجبريل عليه السلام .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغفار بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج ، حدثني محمد بن حاتم بن ميمون ، أخبرنا بهز ، أخبرنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس قال : لما انقضت عدة زينب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد : " فاذكرها علي " ، قال : فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها ، قال فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرها ، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي ، فقلت : يا زينب أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرك .
قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن ، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليها بغير إذن . [ ص: 357 ]
قال : ولقد رأيتنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطعمنا الخبز واللحم ، حتى امتد النهار ، [ فخرج الناس ] وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتبعته فجعل يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ، ويقلن : يا رسول الله كيف وجدت أهلك ؟ قال : فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبرني .
قال : فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ، ونزل الحجاب .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا سليمان بن حرب ، أخبرنا حماد عن ثابت ، عن أنس قال : ما أولم النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من نسائه ما أولم على زينب ، أولم بشاة .
ابو وليد البحيرى
2022-08-07, 12:34 AM
الحلقة (339)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية38 إلى الاية51
أخبرنا محمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا محمد بن هشام بن ملاس النمري ، أخبرنا مروان الفزاري ، أخبرنا حميد عن أنس قال : أولم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ابتنى بزينب بنت جحش فأشبع المسلمين خبزا ولحما .
قوله - عز وجل - : ( لكي لا يكون على المؤمنين حرج ) إثم ( في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ) و " الأدعياء " : جمع الدعي ، وهو المتبنى ، يقول : زوجناك زينب ، وهي امرأة زيد الذي تبنيته ، ليعلم أن زوجة المتبنى حلال للمتبني ، [ وإن كان قد دخل بها المتبنى ] بخلاف امرأة ابن الصلب فإنها لا تحل للأب .
( وكان أمر الله مفعولا ) أي : كان قضاء الله ماضيا وحكمه نافذا وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
( ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا ( 38 ) )
قوله - عز وجل - : ) ( ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له ) أي : فيما أحل الله له ) ( سنة الله ) أي : كسنة الله نصب بنزع الخافض ، وقيل : نصب على الإغراء ، أي : الزموا [ ص: 358 ] سنة الله ( في الذين خلوا من قبل ) أي : في الأنبياء الماضين أن لا يؤاخذهم بما أحل لهم .
قال الكلبي ، ومقاتل : أراد داود حين جمع بينه وبين المرأة التي هويها فكذلك جمع بين محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين زينب .
وقيل : أشار بالسنة إلى النكاح فإنه من سنة الأنبياء عليهم السلام .
وقيل : إلى كثرة الأزواج مثل داود وسليمان عليهما السلام .
( وكان أمر الله قدرا مقدورا ) قضاء مقضيا كائنا ماضيا .
( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا ( 39 ) ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما ( 40 ) )
( الذين يبلغون رسالات الله ) [ يعني سنة الله في الأنبياء الذين يبلغون رسالات الله ] ( ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله ) لا يخشون قالة الناس ولائمتهم فيما أحل الله لهم وفرض عليهم ( وكفى بالله حسيبا ) حافظا لأعمال خلقه ومحاسبهم . ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج زينب قال الناس : إن محمدا تزوج امرأة ابنه فأنزل الله - عز وجل - : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ) يعني : زيد بن حارثة ، أي : ليس أبا أحد من رجالكم الذين لم يلدهم فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها .
فإن قيل : أليس أنه كان له أبناء : القاسم ، والطيب ، والطاهر ، وإبراهيم ، وكذلك : الحسن والحسين ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للحسن : إن ابني هذا سيد ؟ .
قيل : هؤلاء كانوا صغارا لم يكونوا رجالا .
والصحيح ما قلنا : إنه أراد أبا أحد من رجالكم .
( ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) ختم الله به النبوة ، وقرأ عاصم : " خاتم " بفتح التاء على الاسم ، أي : آخرهم ، وقرأ الآخرون بكسر التاء على الفاعل ، لأنه ختم به النبيين فهو خاتمهم . [ ص: 359 ]
قال ابن عباس : يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابنا يكون بعده نبيا .
وروي عن عطاء عن ابن عباس : أن الله تعالى لما حكم أن لا نبي بعده لم يعطه ولدا ذكرا يصير رجلا ( وكان الله بكل شيء عليما )
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد الخذاشاهي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، حدثنا أبكر الجوربذي ، أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس عن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة قال : كان أبو هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه ، ترك منه موضع لبنة فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون سواها فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة ، ختم بي البنيان وختم بي الرسل " .
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا علي بن أحمد الخزاعي ، أخبرنا الهيثم بن كليب الشاشي ، أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، أخبرنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، وغير واحد قالوا ، أخبرنا سفيان عن الزهري ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لي أسماء أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي ، يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب ، والعاقب الذي ليس بعده نبي " .
( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ( 41 ) )
قوله - عز وجل - : ) ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ) قال ابن عباس : لم يفرض الله تعالى فريضة إلا جعل لها حدا معلوما ، ثم عذر أهلها في حال العذر ، أما الذكر فإنه لم يجعل له حدا ينتهى إليه ، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله وأمرهم به في [ ص: 360 ] كل الأحوال ، فقال : " فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم " ( النساء - 103 ) . وقال : ( اذكروا الله ذكرا كثيرا ) أي : بالليل والنهار ، في البر والبحر وفي الصحة والسقم ، وفي السر والعلانية . وقال مجاهد : الذكر الكثير أن لا تنساه أبدا .
( وسبحوه بكرة وأصيلا ( 42 ) هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما ( 43 ) تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما ( 44 ) )
( وسبحوه ) أي : صلوا له ) ( بكرة ) يعني : صلاة الصبح ) ( وأصيلا ) يعني : صلاة العصر . وقال الكلبي : " وأصيلا " صلاة الظهر والعصر والعشاءين .
وقال مجاهد : يعني : قولوا سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فعبر بالتسبيح عن أخواته .
وقيل : المراد من قوله : " ذكرا كثيرا " هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب والمحدث . ( هو الذي يصلي عليكم وملائكته ) فالصلاة من الله : الرحمة ، ومن الملائكة : الاستغفار للمؤمنين .
قال السدي قالت بنو إسرائيل لموسى : أيصلي ربنا ؟ فكبر هذا الكلام على موسى ، فأوحى الله إليه : أن قل لهم : إني أصلي ، وإن صلاتي رحمتي ، وقد وسعت رحمتي كل شيء .
وقيل : الصلاة من الله على العبد هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده . وقيل : الثناء عليه .
قال أنس : لما نزلت : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) قال أبو بكر : ما خصك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه ، فأنزل الله هذه الآية .
قوله : ( ليخرجكم من الظلمات إلى النور ) أي : من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان يعني : أنه برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى النور ( وكان بالمؤمنين رحيما ) ( تحيتهم ) أي : تحية المؤمنين ( يوم يلقونه ) أي : يرون الله ) ( سلام ) أي : يسلم الله عليهم ، ويسلمهم من جميع الآفات . [ ص: 361 ]
وروي عن البراء بن عازب قال : " تحيتهم يوم يلقونه " ، يعني : يلقون ملك الموت ، لا يقبض روح مؤمن إلا يسلم عليه .
وعن ابن مسعود قال : إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال : ربك يقرئك السلام .
وقيل : تسلم عليهم الملائكة وتبشرهم حين يخرجون من قبورهم ( وأعد لهم أجرا كريما ) يعني : الجنة .
( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ( 45 ) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ( 46 ) وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ( 47 ) ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ( 48 ) يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ( 49 ) )
قوله - عز وجل - : ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ) أي : شاهدا للرسل بالتبليغ ، ومبشرا لمن آمن بالجنة ، ونذيرا لمن كذب بآياتنا بالنار . ( وداعيا إلى الله ) إلى توحيده وطاعته ) ( بإذنه ) بأمره ( وسراجا منيرا ) سماه سراجا لأنه يهتدى به كالسراج يستضاء به في الظلمة . ( وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ) . ( ولا تطع الكافرين والمنافقين ) ذكرنا تفسيره في أول السورة ( ودع أذاهم ) قال ابن عباس وقتادة : اصبر على أذاهم . وقال الزجاج : لا تجازهم عليه . وهذا منسوخ بآية القتال .
( وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ) حافظا . قوله - عز وجل - : ( ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن ) فيه دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح ، حتى لو قال لامرأة أجنبية : إذا نكحتك فأنت طالق ، وقال : كل امرأة أنكحها فهي طالق ، فنكح ، لا يقع الطلاق . وهو قول [ ص: 362 ] علي ، وابن عباس ، وجابر ، ومعاذ ، وعائشة ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وعروة ، وشريح وسعيد بن جبير ، والقاسم وطاوس ، والحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، وسليمان بن يسار ، ومجاهد ، والشعبي ، وقتادة ، وأكثر أهل العلم رضي الله عنهم ، وبه قال الشافعي .
وروي عن ابن مسعود : أنه يقع الطلاق ، وهو قول إبراهيم النخعي ، وأصحاب الرأي .
وقال ربيعة ، ومالك ، والأوزاعي : إن عين امرأة يقع ، وإن عم فلا يقع .
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : كذبوا على ابن مسعود ، إن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول : إن تزوجت فلانة فهي طالق ، يقول الله تعالى : " إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن " ، ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا الحسين بن محمد الديموري ، أخبرنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري بمكة ، أخبرنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا أيوب بن سويد ، أخبرنا ابن أبي ذئب عن عطاء ، عن جابر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا طلاق قبل النكاح " .
قوله - عز وجل - : ( من قبل أن تمسوهن ) تجامعوهن ( فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ) تحصونها بالأقراء والأشهر ( فمتعوهن ) أي : أعطوهن ما يستمتعن به . قال ابن عباس : هذا إذا لم يكن سمى لها صداقا فلها المتعة ، فإن كان قد فرض لها صداقا فلها نصف الصداق ولا متعة لها .
وقال قتادة : هذه الآية منسوخة بقوله : " فنصف ما فرضتم " ( البقرة - 237 ) .
وقيل : هذا أمر ندب ، فالمتعة مستحبة لها مع نصف المهر .
وذهب بعضهم إلى إنها تستحق المتعة بكل حال لظاهر الآية .
( وسرحوهن سراحا جميلا ) خلوا سبيلهن بالمعروف من غير ضرار .
( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما ( 50 ) )
قوله - عز وجل - : ( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ) أي : مهورهن ، [ ص: 363 ] ( وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ) رد عليك من الكفار بأن تسبي فتملك مثل صفية وجويرية ، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه فولدت له إبراهيم ( وبنات عمك وبنات عماتك ) يعني : نساء قريش ( وبنات خالك وبنات خالاتك ) يعني : نساء بني زهرة ( اللاتي هاجرن معك ) إلى المدينة فمن لم تهاجر منهن معه لم يجز له نكاحها .
وروى أبو صالح عن أم هانئ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة خطبني فأنزل الله هذه الآية فلم أحل له ، لأني لم أكن من المهاجرات وكنت من الطلقاء ، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل .
( وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين ) أي . أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق ، فأما غير المؤمنة فلا تحل له إذا وهبت نفسها منه .
واختلفوا في أنه هل كان يحل للنبي - صلى الله عليه وسلم - نكاح اليهودية والنصرانية بالمهر ؟
فذهب جماعة إلى أنه كان لا يحل له ذلك ، لقوله : " وامرأة مؤمنة " ، وأول بعضهم الهجرة في قوله : " اللاتي هاجرن معك " على الإسلام ، أي : أسلمن معك . فيدل ذلك على أنه لا يحل له نكاح غير المسلمة ، وكان النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مهر ، وكان ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - في النكاح لقوله تعالى : ( خالصة لك من دون المؤمنين ) كالزيادة على الأربع ، ووجوب تخيير النساء كان من خصائصه ولا مشاركة لأحد معه فيه . [ ص: 364 ]
واختلف أهل العلم في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج ، وهو قول سعيد بن المسيب ، والزهري ، ومجاهد ، وعطاء ، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي .
وذهب قوم إلى أنه ينعقد بلفظ الهبة والتمليك ، وهو قول إبراهيم النخعي ، وأهل الكوفة .
ومن قال لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج اختلفوا في نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - : فذهب قوم إلى أنه كان ينعقد بلفظ الهبة ، لقوله تعالى : " خالصة لك من دون المؤمنين " .
وذهب آخرون إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج كما في حق الأمة لقوله - عز وجل - : ( إن أراد النبي أن يستنكحها ) وكان اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - في ترك المهر لا في لفظ النكاح .
واختلفوا في التي وهبت نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهل كانت عنده امرأة منهن ؟ .
فقال عبد الله بن عباس ، ومجاهد : لم يكن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة وهبت نفسها منه ، ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين ، وقوله : " إن وهبت نفسها " على طريق الشرط والجزاء .
وقال آخرون : بل كانت عنده موهوبة ، واختلفوا فيها فقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة الهلالية ، يقال لها : أم المساكين .
وقال قتادة : هي ميمونة بنت الحارث .
وقال علي بن الحسين ، والضحاك ومقاتل : هي أم شريك بنت جابر من بني أسد .
وقال عروة بن الزبير : هي خولة بنت حكيم من بني سليم .
قوله - عز وجل - : ( قد علمنا ما فرضنا عليهم ) أي : أوجبنا على المؤمنين ( في أزواجهم ) من الأحكام أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر ( وما ملكت أيمانهم ) أي : ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين ( لكيلا يكون عليك حرج ) وهذا يرجع إلى أول الآية أي : أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لك لكي لا يكون عليك حرج وضيق . ( وكان الله غفورا رحيما )
( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما ( 51 ) )
( ترجي ) أي : تؤخر ( من تشاء منهن وتؤوي ) أي : تضم ( إليك من تشاء )
اختلف المفسرون في معنى الآية : فأشهر الأقاويل أنه في القسم بينهن ، وذلك أن التسوية بينهن [ ص: 365 ] في القسم كانت واجبا عليه ، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن .
قال أبو رزين ، وابن زيد نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب بعضهن زيادة النفقة ، فهجرهن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهرا حتى نزلت آية التخيير ، فأمره الله - عز وجل - أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا ويمسك من اختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، على أنهن أمهات المؤمنين ولا ينكحن أبدا ، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ، ويرجي من يشاء ، فيرضين به قسم لهن أو لم يقسم ، أو قسم لبعضهن دون بعض ، أو فضل بعضهن في النفقة والقسمة ، فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء ، وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط .
واختلفوا في أنه هل أخرج أحدا منهم عن القسم ؟ فقال بعضهم : لم يخرج أحدا ، بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما جعله الله له من ذلك - يسوي بينهن في القسم إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم ، وجعلت يومها لعائشة .
وقيل : أخرج بعضهن .
روى جرير عن منصور عن أبي رزين قال : لما نزل التخيير أشفقن أن يطلقهن ، فقلن : يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا ، فنزلت هذه الآية ، فأرجى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضهن وآوى إليه بعضهن ، وكان ممن آوى إليه عائشة ، وحفصة ، وزينب ، وأم سلمة ، فكان يقسم بينهن سواء ، وأرجى منهن خمسا : أم حبيبة ، وميمونة ، وسودة ، وصفية وجويرية ، فكان يقسم لهن ما شاء .
وقال مجاهد : " ترجي من تشاء منهن " يعني : تعزل من تشاء منهن بغير طلاق ، وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد .
وقال ابن عباس : تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء .
وقال الحسن : تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء أمتك .
وقال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . [ ص: 366 ]
وقيل : تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن سلام ، أخبرنا ابن فضيل ، أخبرنا هشام عن أبيه قال : كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت عائشة : أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل ؟ فلما نزلت : ( ترجي من تشاء منهن ) قلت : يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك .
قوله - عز وجل - : ( ومن ابتغيت ممن عزلت ) أي : طلبت وأردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن عن القسم ( فلا جناح عليك ) لا إثم عليك ، فأباح الله له ترك القسم لهن حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن في نوبتها ويطأ من يشاء منهن في غير نوبتها ، ويرد إلى فراشه من عزلها تفضيلا له على سائر الرجال ( ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ) أي : التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن وأطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله - عز وجل - ( ويرضين بما آتيتهن ) أعطيتهن ) ( كلهن ) من تقرير وإرجاء وعزل وإيواء ( والله يعلم ما في قلوبكم ) من أمر النساء والميل إلى بعضهن ( وكان الله عليما حليما )
ابو وليد البحيرى
2022-08-07, 12:37 AM
الحلقة (340)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية52 إلى الاية58
( لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا ( 52 ) )
قوله - عز وجل - : ( لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ) قرأ أبو عمرو ويعقوب : " لا تحل " بالتاء ، وقرأ الآخرون بالياء ، " من بعد " : يعني من بعد هؤلاء التسع اللاتي خيرتهن فاخترنك ، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خيرهن فاخترن الله ورسوله شكر الله لهن وحرم عليه النساء سواهن ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن ، هذا قول ابن عباس وقتادة .
واختلفوا في أنه هل أبيح له النساء من بعد ؟
قالت عائشة : ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحل له النساء سواهن . [ ص: 367 ]
وقال أنس : مات على التحريم .
وقال عكرمة ، والضحاك : معنى الآية لا يحل لك النساء إلا اللاتي أحللنا لك وهو قوله : " إنا أحللنا لك أزواجك " الآية ، ثم قال : " لا يحل لك النساء من بعد " ، إلا التي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها .
وقيل لأبي بن كعب : لو مات نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - أكان يحل له أن يتزوج ؟ قال : وما يمنعه من ذلك ؟ قيل : قوله - عز وجل - : " لا يحل لك النساء من بعد " ، قال : إنما أحل الله له ضربا من النساء ، فقال : " يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك " ، ثم قال : " لا يحل لك النساء من بعد " .
قال أبو صالح : أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا عربية ، ويتزوج من نساء قومه من بنات العم والعمة والخالة إن شاء ثلاثمائة : وقال مجاهد : معناه لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات بعد المسلمات ولا أن تبدل بهن ، يقول : ولا أن تبدل بالمسلمات غيرهن من اليهود والنصارى ، يقول لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية ، إلا ما ملكت يمينك ، أحل له ما ملكت يمينه من الكتابيات أن يتسرى بهن .
وروي عن الضحاك : يعني ولا أن تبدل بهن ولا أن تبدل بأزواجك اللاتي هن في حيالك أزواجا غيرهن بأن تطلقهن فتنكح غيرهن ، فحرم عليه طلاق النساء اللواتي كن عنده إذ جعلهن أمهات المؤمنين ، وحرمهن على غيره حين اخترنه ، فأما نكاح غيرهن فلم يمنع عنه .
وقال ابن زيد في قوله : ) ( ولا أن تبدل بهن من أزواج ) كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم ، يقول الرجل للرجل : بادلني بامرأتك ، وأبادلك بامرأتي ، تنزل لي عن امرأتك ، وأنزل لك عن امرأتي ، فأنزل الله : ( ولا أن تبدل بهن من أزواج ) يعني لا تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجك وتأخذ زوجته ، إلا ما ملكت يمينك لا بأس أن تبدل بجاريتك ما شئت ، فأما الحرائر فلا .
وروي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : دخل عيينة بن حصن على النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير إذن ، وعنده عائشة ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا عيينة فأين الاستئذان " ؟ قال : يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت ، ثم قال : من هذه الحميراء إلى جنبك ؟ فقال : هذه عائشة أم المؤمنين ، فقال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله قد حرم ذلك " ، فلما خرج قالت عائشة : من هذا يا رسول الله ؟ فقال : " هذا أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه " . [ ص: 368 ] قوله - عز وجل - : ( ولو أعجبك حسنهن ) يعني : ليس لك أن تطلق أحدا من نسائك وتنكح بدلها أخرى ولو أعجبك جمالها .
قال ابن عباس : يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب ، فلما استشهد جعفر أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخطبها فنهي عن ذلك .
( إلا ما ملكت يمينك ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ملك بعد هؤلاء مارية .
( وكان الله على كل شيء رقيبا ) حافظا .
وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء . روي عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل " .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أخبرنا محمد بن محمد بن علي بن شريك الشافعي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، أخبرنا أبو بكر الجوربذي قال : أخبرنا أحمد بن حرب ، أخبرنا أبو معاوية ، عن عاصم هو ابن سليمان ، عن بكر بن عبد الله ، عن المغيرة بن شعبة قال : خطبت امرأة ، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هل نظرت إليها ؟ " قلت : لا قال : " فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا حامد بن محمد ، أخبرنا بشر بن موسى ، أخبرنا الحميدي ، أخبرنا يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " انظر إليها فإن في أعين نساء الأنصار شيئا " قال الحميدي : يعني الصغر .
[ ص: 369 ] ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ( 53 ) )
قوله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ) الآية . قال أكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب بنت جحش حين بنى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا يحيى بن بكير ، أخبرنا الليث عن عقيل ، عن ابن شهاب ، أخبرني أنس ابن مالك أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، قال : وكانت أم هانئ تواظبني على خدمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فخدمته عشر سنين ، وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن عشرين سنة ، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل ، فكان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش ، أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - بها عروسا فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا ، وبقي رهط منهم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأطالوا المكث ، فقام النبي لله فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا ، فمشى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومشيت حتى جاء حجرة عائشة ، ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه ، حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يخرجوا ، فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورجعت معه حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة وظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا ، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيني وبينه الستر ، وأنزل الحجاب .
وقال أبو عثمان - واسمه الجعد - عن أنس قال : فدخل يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة ، وهو يقول : ( ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ) إلى قوله : ( والله لا يستحيي من الحق ) . [ ص: 370 ]
وروي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتأذى بهم فنزلت
( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ) يقول : إلا أن تدعوا ) ( إلى طعام ) فيؤذن لكم فتأكلونه ( غير ناظرين إناه ) غير منتظرين إدراكه ووقت نضجه ، يقال : أنى الحميم : إذا انتهى حره ، وإنى أن يفعل ذلك : إذا حان ، إنى بكسر الهمزة مقصورة ، فإذا فتحتها مددت فقلت الإناء ، وفيه لغتان إنى يأنى ، وآن يئين ، مثل : حان يحين .
( ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم ) أكلتم الطعام ) ( فانتشروا ) تفرقوا واخرجوا من منزله ( ولا مستأنسين لحديث ) ولا طالبين الأنس للحديث ، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون طويلا فنهوا عن ذلك .
( إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق ) أي : لا يترك تأديبكم وبيان الحق حياء .
( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ) أي : من وراء ستر ، فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منتقبة كانت أو غير منتقبة ( ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) من الريب .
وقد صح في سبب نزول آية الحجاب ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا يحيى بن بكير ، أخبرنا الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع ، وهو صعيد أفيح ، وكان عمر يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - : احجب نساءك ، فلم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الليالي عشاء ، وكانت امرأة طويلة فناداها عمر : ألا قد عرفناك يا سودة - حرصا على أن ينزل الحجاب - فأنزل الله تعالى آية الحجاب .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا حاجب ابن أحمد الطوسي ، أخبرنا عبد الرحيم بن منيب ، أخبرنا يزيد بن هارون ، أخبرنا حميد ، عن أنس قال : قال عمر : وافقني ربي في ثلاث قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ [ ص: 371 ] فأنزل الله : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " ، وقلت : يا رسول الله إنه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ؟ فأنزل الله آية الحجاب ، قال : وبلغني بعض ما آذى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساؤه ، قال : فدخلت عليهن استقربهن واحدة واحدة ، قلت : والله لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن ، حتى أتيت على زينب فقالت : يا عمر ما كان في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ، قال : فخرجت فأنزل الله - عز وجل - : " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن " ( التحريم - 5 ) ، إلى آخر الآية .
قوله - عز وجل - : ( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ) ليس لكم أذاه في شيء من الأشياء ( ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ) نزلت في رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : لئن قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنكحن عائشة .
قال مقاتل بن سليمان : هو طلحة بن عبيد الله ، فأخبره الله - عز وجل - أن ذلك محرم وقال : ( إن ذلكم كان عند الله عظيما ) أي : ذنبا عظيما .
وروى معمر عن الزهري ، أن العالية بنت ظبيان التي طلق النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجت رجلا وولدت له ، وذلك قبل تحريم أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس .
( إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما ( 54 ) )
) ( إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما ) نزلت فيمن أضمر نكاح عائشة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل : قال رجل من الصحابة : ما بالنا نمنع من الدخول على بنات أعمامنا ؟ فنزلت هذه الآية .
ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : ونحن أيضا نكلمهن من وراء الحجاب ؟ فأنزل الله :
[ ص: 372 ] ( لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا ( 55 ) إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ( 56 ) )
) ( لا جناح عليهن في ءابائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ) أي : لا إثم عليهن في ترك الاحتجاب من هؤلاء ) ( ولا نسائهن ) قيل : أراد به النساء المسلمات ، حتى لا يجوز للكتابيات الدخول عليهن ، وقيل : هو عام في المسلمات والكتابيات ، وإنما قال : " ولا نسائهن " ، لأنهن من أجناسهن ( ولا ما ملكت أيمانهن )
واختلفوا في أن عبد المرأة هل يكون محرما لها أم لا ؟ .
فقال قوم يكون محرما لقوله - عز وجل - : " ولا ما ملكت أيمانهن .
وقال قوم : هو كالأجانب ، والمراد من الآية الإماء دون العبيد .
( واتقين الله ) أن يراكن غير هؤلاء ( إن الله كان على كل شيء ) من أعمال العباد ) ( شهيدا ) قوله - عز وجل - : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) قال ابن عباس : أراد إن الله يرحم النبي ، والملائكة يدعون له . وعن ابن عباس أيضا : " يصلون " يتبركون .
وقيل : الصلاة من الله : الرحمة ، ومن الملائكة : الاستغفار .
( ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه ) أي : ادعوا له بالرحمة ( وسلموا تسليما ) أي : حيوه بتحية الإسلام .
وقال أبو العالية : صلاة الله : ثناؤه عليه عند الملائكة ، وصلاة الملائكة : الدعاء .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن سليمان الفقيه ببغداد ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن زهير بن حرب ، أخبرنا موسى بن إسماعيل ، أخبرنا أبو سلمة ، أخبرنا عبد الواحد بن زياد ، أخبرنا أبو فروة ، حدثني عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سمع عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول : لقيني كعب بن عجرة فقال : ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقلت : بلى فاهدها لي ، فقال سألنا [ ص: 373 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلنا : يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت ؟ قال : " قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرو بن سليمان الزرقي أنه قال : أخبرني أبو حميد الساعدي أنهم قالوا : يا رسول الله كيف نصلي عليك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " .
أخبرنا أبو عمرو ومحمد بن عبد الرحمن النسوي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا العباس بن محمد الدوري ، أخبرنا خالد بن مخلد القطواني ، أخبرنا موسى بن يعقوب ، أخبرنا العباس بن كيسان ، أخبرني عبد الله بن شداد ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة " .
أخبرنا أبو عبد الله بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله ابن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرنا العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا " . [ ص: 374 ]
أخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن سليمان مولى الحسن بن علي ، عن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أبيه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه جاء ذات يوم والبشرى في وجهه ، فقال : " إنه جاءني جبريل فقال : إن ربك يقول أما يرضيك يا محمد أن لا يصل عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة ، عن عاصم هو ابن عبيد الله قال : سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من صلى علي صلاة صلت عليه الملائكة ما صلى علي فليقل العبد من ذلك أو ليكثر " .
حدثنا أبو القاسم يحيى بن علي الكشميهني ، أخبرنا جناح بن يزيد المحاربي بالكوفة ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني ، أخبرنا ابن حازم ، أخبرنا عبد الله بن موسى وأبو نعيم ، عن سفيان ، عن عبيد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام " .
[ ص: 375 ] ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا ( 57 ) )
قوله - عز وجل - : ) ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا ) قال ابن عباس : هم اليهود والنصارى والمشركون . فأما اليهود فقالوا : عزير ابن الله ، ويد الله مغلولة ، وقالوا : إن الله فقير ، وأما النصارى فقالوا : المسيح ابن الله ، وثالث ثلاثة ، وأما المشركون فقالوا : الملائكة بنات الله ، والأصنام شركاؤه .
وروينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يقول الله سبحانه وتعالى : شتمني عبدي ، يقول : اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد .
وروينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : " يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار " .
وقيل : معنى " يؤذون الله " يلحدون في أسمائه وصفاته .
وقال عكرمة : هم أصحاب التصاوير .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن العلاء ، أخبرنا ابن فضيل ، عن عمارة ، عن أبي زرعة ، سمع أبا هريرة قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " قال الله تعالى ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة " .
وقال بعضهم : " يؤذون الله " أي : يؤذون أولياء الله ، كقوله تعالى : " واسئل القرية " ( يوسف - 82 ) ، أي : أهل القرية .
وروينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وقال من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة " . [ ص: 376 ]
ومعنى الأذى : هو مخالفة أمر الله تعالى وارتكاب معاصيه ، ذكره على ما يتعارفه الناس بينهم ، والله - عز وجل - منزه عن أن يلحقه أذى من أحد ، وإيذاء الرسول ، قال ابن عباس : هو أنه شج في وجهه وكسرت رباعيته . وقيل : شاعر ، ساحر ، معلم ، مجنون .
( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ( 58 ) يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما ( 59 ) )
( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ) من غير أن علموا ما أوجب أذاهم ، وقال مجاهد : يقعون فيهم ويرمونهم بغير جرم ( فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا )
وقال مقاتل : نزلت في علي بن أبي طالب وذلك أن ناسا من المنافقين كانوا يؤذونه ويشتمونه .
وقيل : نزلت في شأن عائشة .
وقال الضحاك ، والكلبي : نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن ، فيغمزون المرأة ، فإن سكتت اتبعوها ، وإن زجرتهم انتهوا عنها ، ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء ، ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة لأن زي الكل كان واحدا ، يخرجن في درع وخمار ، الحرة والأمة ، فشكون ذلك إلى أزواجهن ، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية : ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات ) الآية . ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء فقال جل ذكره : ( ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ) جمع الجلباب ، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار .
وقال ابن عباس وأبو عبيدة : أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينا واحدة ليعلم أنهن حرائر . [ ص: 377 ]
( ذلك أدنى أن يعرفن ) أنهن حرائر ( فلا يؤذين ) فلا يتعرض لهن ( وكان الله غفورا رحيما ) قال أنس : مرت بعمر بن الخطاب جارية متقنعة فعلاها بالدرة ، وقال يالكاع أتتشبهين بالحرائر ، ألقي القناع .
ابو وليد البحيرى
2022-08-21, 11:16 PM
الحلقة (341)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية59 إلى الاية/
( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ( 60 ) ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا ( 61 ) سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ( 62 ) يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ( 63 ) إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا ( 64 ) خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا ( 65 ) يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول ( 66 ) )
قوله - عز وجل - : ( لئن لم ينته المنافقون ) عن نفاقهم ( والذين في قلوبهم مرض ) فجور ، يعني الزناة ( والمرجفون في المدينة ) بالكذب ، وذلك أن ناسا منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوقعون في الناس أنهم قتلوا وهزموا ، ويقولون : قد أتاكم العدو ونحوها .
وقال الكلبي : كانوا يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ويفشون الأخبار .
( لنغرينك بهم ) لنحرشنك بهم ولنسلطنك عليهم ( ثم لا يجاورونك فيها ) لا يساكنوك في المدينة ) ( إلا قليلا ) حتى يخرجوا منها ، وقيل : لنسلطنك عليهم حتى تقتلهم وتخلي منهم المدينة . ) ( ملعونين ) مطرودين ، نصب على الحال ( أين ما ثقفوا ) وجدوا وأدركوا ( أخذوا وقتلوا تقتيلا ) أي : الحكم فيهم هذا على جهة الأمر به . ( سنة الله ) أي : كسنة الله ( في الذين خلوا من قبل ) من المنافقين والذين فعلوا مثل فعل هؤلاء ( ولن تجد لسنة الله تبديلا ) قوله - عز وجل - : ( يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك ) أي : أي شيء يعلمك أمر الساعة ، ومتى يكون قيامها ؟ أي : أنت لا تعرفه ( لعل الساعة تكون قريبا إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار ) [ ص: 378 ] ظهرا لبطن حين يسحبون عليها ( يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول ) في الدنيا .
( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ( 67 ) ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ( 68 ) يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ( 69 ) )
( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا ) قرأ ابن عامر ، ويعقوب : " ساداتنا " بكسر التاء والألف قبلها على جمع الجمع ، وقرأ الآخرون بفتح التاء بلا ألف قبلها ( وكبراءنا فأضلونا السبيل ربنا آتهم ضعفين من العذاب ) أي : ضعفي عذاب غيرهم ( والعنهم لعنا كبيرا ) قرأ عاصم : كبيرا بالباء . قال الكلبي : أي : عذابا كثيرا ، وقرأ الآخرون بالثاء لقوله تعالى : " أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " ( البقرة - 161 ) ، وهذا يشهد للكثرة ، أي : مرة بعد مرة . قوله - عز وجل - : ( ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا ) فطهره الله مما قالوا : ( وكان عند الله وجيها ) كريما ذا جاه ، يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه ، إذا كان ذا جاه وقدر .
قال ابن عباس : كان حظيا عند الله لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه .
وقال الحسن : كان مستجاب الدعوة .
وقيل : كان محببا مقبولا .
واختلفوا فيما أوذي به موسى :
فأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا روح بن عبادة أخبرنا عوف ، عن الحسن ومحمد وخلاس ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده ، إما برص أو أدرة وإما آفة ، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا ، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر ، ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل ، [ ص: 379 ] فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله ، وأبرأه مما يقولون ، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه ، فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا " فذلك قوله - عز وجل - : " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها .
وقال قوم : إيذاؤهم إياه أنه لما مات هارون في التيه ادعوا على موسى أنه قتله ، فأمر الله الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله ، فبرأه الله مما قالوا .
وقال أبو العالية : هو أن قارون استأجر مومسة لتقذف موسى بنفسها على رأس الملإ فعصمها الله وبرأ موسى من ذلك ، وأهلك قارون .
أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أبو الوليد ، أخبرنا شعبة ، عن الأعمش قال : سمعت أبا وائل قال : سمعت عبد الله قال : قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - قسما ، فقال رجل : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته ، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ، ثم قال : " يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر "
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ( 70 ) يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ( 71 ) )
قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ) قال ابن عباس : صوابا . وقال قتادة : عدلا . وقال الحسن : صدقا . وقيل : مستقيما . وقال عكرمة هو : قول لا إله إلا الله . ( يصلح لكم أعمالكم ) قال ابن عباس : يتقبل حسناتكم . وقال مقاتل : يزك أعمالكم ( ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) أي : ظفر بالخير كله .
[ ص: 380 ] ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ( 72 ) )
قوله - عز وجل - : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ) الآية . أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده ، عرضها على السماوات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم ، وهذا قول ابن عباس .
وقال ابن مسعود : الأمانة : أداء الصلوات ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت ، وصدق الحديث ، وقضاء الدين ، والعدل في المكيال والميزان ، وأشد من هذا كله الودائع .
وقال مجاهد : الأمانة : الفرائض ، وقضاء الدين .
وقال أبو العالية : ما أمروا به ونهوا عنه
وقال زيد بن أسلم : هو الصوم ، والغسل من الجنابة ، وما يخفى من الشرائع .
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال : هذه أمانة استودعتكها ، فالفرج أمانة ، والأذن أمانة ، والعين أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له .
وقال بعضهم : هي أمانات الناس والوفاء بالعهود ، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنا ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير ، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس ، فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السماوات والأرض والجبال ، هذا قول ابن عباس وجماعة من التابعين وأكثر السلف ، فقال لهن أتحملن هذه الأمانة بما فيها ؟ قلن : وما فيها ؟ قال : إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن ، فقلن : لا يا ربنا ، نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا ، وقلن ذلك خوفا وخشية وتعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها لا معصية ولا مخالفة ، وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها ، والجمادات كلها خاضعة لله - عز وجل - مطيعة ساجدة له كما قال جل ذكره للسماوات والأرض : " ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " ( فصلت - 11 ) ، وقال للحجارة : " وإن منها لما يهبط من خشية الله " ( البقرة - 74 ) ، وقال تعالى : " ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب " ( الحج - 18 ) الآية .
وقال بعض أهل العلم : ركب الله - عز وجل - فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن .
وقال بعضهم : المراد من العرض على السماوات والأرض هو العرض على أهل السماوات والأرض ، عرضها على من فيها من الملائكة . [ ص: 381 ]
وقيل : على أهلها كلها دون أعيانها ، كقوله تعالى : " واسأل القرية " ( يوسف - 82 ) ، أي : أهل القرية . والأول أصح وهو قول العلماء .
( فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ) أي : خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب ( وحملها الإنسان ) يعني : آدم عليه السلام ، فقال الله لآدم : إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها ؟ قال : يا رب وما فيها ؟ قال إن أحسنت جوزيت ، وإن أسأت عوقبت ، فتحملها آدم ، وقال : بين أذني وعاتقي ، قال الله تعالى : أما إذا تحملت فسأعينك ، اجعل لبصرك حجابا فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك فأرخ عليه حجابه ، واجعل للسانك لحيين غلقا فإذا غشيت فأغلق ، واجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه على ما حرمت عليك .
قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها وبين أن خرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر
وحكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه قال : مثلت الأمانة كصخرة ملقاة ، ودعيت السماوات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها ، وقالوا : لا نطيق حملها ، وجاء آدم من غير أن يدعى ، وحرك الصخرة ، وقال : لو أمرت بحملها لحملتها ، فقلن له : احملها ، فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها ، وقال والله لو أردت أن أزداد لزدت ، فقلن له : احملها فحملها إلى حقوه ، ثم وضعها ، وقال : والله لو أردت أن أزداد لزدت ، فقلن له احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه ، فأراد أن يضعها فقال الله : مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة . ( إنه كان ظلوما جهولا ) قال ابن عباس : ظلوما لنفسه جهولا بأمر الله وما احتمل من الأمانة .
وقال الكلبي : ظلوما حين عصى ربه ، جهولا لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة . وقال مقاتل : ظلوما لنفسه جهولا بعاقبة ما تحمل .
وذكر الزجاج وغيره من أهل المعاني ، في قوله وحملها الإنسان قولان ، فقالوا : إن الله ائتمن آدم وأولاده على شيء وائتمن السماوات والأرض والجبال على شيء ، فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا في الطاعة والقيام بالفرائض ، والأمانة في حق السماوات والأرض والجبال هي الخضوع والطاعة لما خلقهن له . وقيل : قوله : ( فأبين أن يحملنها ) أي : أدين الأمانة ، يقال : فلان لم يتحمل الأمانة أي : لم يخن فيها وحملها الإنسان أي : خان فيها ، يقال : فلان حمل الأمانة أي : أثم فيها بالخيانة . [ ص: 382 ]
قال الله تعالى : " وليحملن أثقالهم " ( العنكبوت - 13 ) ، إنه كان ظلوما جهولا . حكي عن الحسن على هذا التأويل : أنه قال وحملها الإنسان يعني الكافر والمنافق ، حملا الأمانة أي : خانا . وقول السلف ما ذكرنا .
( ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما ( 73 ) )
قوله - عز وجل - : ( ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ) قال : مقاتل : ليعذبهم بما خانوا الأمانة ونقضوا الميثاق ( ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما ) يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة .
وقال ابن قتيبة : أي : عرضنا الأمانة ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله ، ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه ، أي : يعود عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات .
سُورَةُ سَبَأٍ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 1 ) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ( 2 ) )
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) مِلْكًا وَخَلْقًا ( وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ) كَمَا هُوَ لَهُ فِي الدُّنْيَا ، لِأَنَّ النِّعَمَ فِي الدَّارَيْنِ كُلَّهَا مِنْهُ .
وَقِيلَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي الْآخِرَةِ هُوَ حَمْدُ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ " ( فَاطِرِ - 34 ) ، وَ " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ " ( الزَّمَرِ - 74 ) . ( وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ) أَيْ : يَدْخُلُ فِيهَا مِنَ الْمَاءِ وَالْأَمْوَاتِ ( وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ) مِنَ النَّبَاتِ وَالْأَمْوَاتِ إِذَا حُشِرُوا ( وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ) مِنَ الْأَمْطَارِ ( وَمَا يَعْرُجُ ) يَصْعَدُ ) ( فِيهَا ) مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَعْمَالِ الْعِبَادِ ( وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ )
[ ص: 386 ] ( وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ( 3 ) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم ( 4 ) والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم ( 5 ) ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ( 6 ) )
( وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب ) قرأ أهل المدينة والشام : " عالم " بالرفع على الاستئناف ، وقرأ الآخرون بالجر على نعت الرب ، أي : وربي عالم الغيب ، وقرأ حمزة والكسائي : " علام " على وزن فعال ، وبجر الميم . ) ( لا يعزب ) لا يغيب ( عنه مثقال ذرة ) وزن ذرة ( في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ) أي : من الذرة ( ولا أكبر إلا في كتاب مبين ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك ) يعني : الذين آمنوا ( لهم مغفرة ورزق كريم ) حسن ، يعني : في الجنة . ( والذين سعوا في آياتنا معاجزين ) يحسبون أنهم يفوتوننا ( أولئك لهم عذاب من رجز أليم ) قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب : " أليم " بالرفع هاهنا وفي الجاثية على نعت العذاب ، وقرأ الآخرون بالخفض على نعت الرجز ، وقال قتادة : الرجز سوء العذاب . ( ويرى الذين ) أي : ويرى الذين ( أوتوا العلم ) يعني : مؤمني أهل الكتاب : عبد الله بن سلام وأصحابه . وقال قتادة : هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ( الذي أنزل إليك من ربك ) يعني : القرآن ( هو الحق ) يعني : أنه من عند الله ) ( ويهدي ) يعني : القرآن ( إلى صراط العزيز الحميد ) وهو الإسلام .
ابو وليد البحيرى
2022-08-21, 11:21 PM
الحلقة (342)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ سَبَأٍ
مَكِّيَّةٌ
الاية59 إلى الاية/
[ ص: 387 ] وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ( 7 ) أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ( 8 ) أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ( 9 ) ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد ( 10 )
( وقال الذين كفروا منكرين للبعث متعجبين منه : هل ندلكم على رجل ينبئكم يعنون محمدا - صلى الله عليه وسلم - إذا مزقتم كل ممزق قطعتم كل تقطيع وفرقتم كل تفريق وصرتم ترابا إنكم لفي خلق جديد يقول لكم : إنكم لفي خلق جديد . ( أفترى ) ألف استفهام دخلت على ألف الوصل ولذلك نصبت ( على الله كذبا أم به جنة ) يقولون : أزعم كذبا أم به جنون ؟ .
قال الله تعالى ردا عليهم : ( بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ) من الحق في الدنيا . ( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ) فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضي وسمائي محيطة بهم لا يخرجون من أقطارها ، وأنا القادر عليهم ( إن نشأ نخسف بهم الأرض ) قرأ الكسائي : " نخسف بهم " بإدغام الفاء في الباء ( أو نسقط عليهم كسفا من السماء ) قرأ حمزة والكسائي : " إن يشأ يخسف أو يسقط " ، بالياء فيهن لذكر الله من قبل ، وقرأ الآخرون بالنون فيهن ) ( إن في ذلك ) أي : فيما ترون من السماء والأرض ) ( لآية ) تدل على قدرتنا على البعث ( لكل عبد منيب ) تائب راجع إلى الله بقلبه . قوله - عز وجل - : ( ولقد آتينا داود منا فضلا ) يعني النبوة والكتاب ، وقيل : الملك . وقيل : جميع ما أوتي من حسن الصوت وتليين الحديد وغير ذلك مما خص به ) ( يا جبال ) أي : وقلنا يا جبال ) ( أوبي ) أي : سبحي ) ( معه ) إذا سبح ، وقيل : هو تفعيل من الإياب وهو الرجوع ، أي : رجعي معه وقال القتيبي : أصله من التأويب في السير ، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلا كأنه قال أوبي النهار كله بالتسبيح معه . وقال وهب : نوحي معه . [ ص: 388 ]
) ( والطير ) عطف على موضع الجبال ، لأن كل منادى في موضع النصب . وقيل : معناه : وسخرنا وأمرنا الطير أن تسبح معه ، وقرأ يعقوب : " والطير " بالرفع ردا على الجبال ، أي : أوبي أنت والطير . وكان داود إذا نادى بالناحية أجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه ، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك .
وقيل : كان داود إذا تخلل الجبال فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح .
وقيل : كان داود عليه السلام إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطا له . ( وألنا له الحديد ) حتى كان الحديد في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة .
وكان سبب ذلك على ما روي في الأخبار : أن داود عليه السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكرا ، فإذا رأى رجلا لا يعرفه تقدم إليه وسأله عن داود ويقول له : ما تقول في داود واليكم هذا أي رجل هو ؟ فيثنون عليه ، ويقولون خيرا ، فقيض الله له ملكا في صورة آدمي ، فلما رآه داود تقدم إليه على عادته فسأله ، فقال الملك : نعم الرجل هو لولا خصلة فيه ، فراع داود ذلك وقال : ما هي يا عبد الله ؟ قال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال ، قال فتنبه لذلك وسأل الله أن يسبب له سببا يستغني به عن بيت المال ، فيتقوت منه ويطعم عياله ، فألان الله تعالى له الحديد وعلمه صنعة الدرع ، وإنه أول من اتخذها . ويقال : إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف درهم ، فيأكل ويطعم منها عياله ويتصدق منها على الفقراء والمساكين .
ويقال إنه كان يعمل كل يوم درعا يبيعها بستة آلاف درهم ، فينفق ألفين منها على نفسه وعياله ، ويتصدق بأربعة آلاف على فقراء بني إسرائيل ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده " .
( أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير ( 11 ) )
( أن اعمل سابغات ) دروعا كوامل واسعات طوالا تسحب في الأرض ( وقدر في السرد ) والسرد نسج الدروع ، يقال لصانعه : السراد والزراد ، يقول : قدر المسامير في حلق الدرع [ ص: 389 ] أي : لا تجعل المسامير دقاقا فتفلت ولا غلاظا فتكسر الحلق ، ويقال : " السرد " المسمار في الحلقة ، يقال : درع مسرودة أي : مسمورة الحلق ، وقدر في السرد اجعله على القصد وقدر الحاجة ( واعملوا صالحا ) يريد : داود وآله ( إني بما تعملون بصير )
( ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير ( 12 ) يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور ( 13 ) )
( ولسليمان الريح ) أي : وسخرنا لسليمان الريح ، وقرأ أبو بكر عن عاصم : الريح بالرفع أي : له تسخير الريح ( غدوها شهر ورواحها شهر ) أي : سير غدو تلك الريح المسخرة له مسيرة شهر ، وسير رواحها مسيرة شهر ، وكانت تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين .
قال الحسن : كان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر وبينهما مسيرة شهر ، ثم يروح من اصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع . وقيل : إنه كان يتغدى بالري ويتعشى بسمرقند .
( وأسلنا له عين القطر ) أي : أذبنا له عين النحاس ، و " القطر " : النحاس .
قال أهل التفسير : أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء ، وكان بأرض اليمن ، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان .
( ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ) بأمر ربه ، قال ابن عباس : سخر الله الجن لسليمان وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به ( ومن يزغ ) أي : يعدل ) ( منهم ) من الجن ) ( عن أمرنا ) الذي أمرنا به من طاعة سليمان ( نذقه من عذاب السعير ) في الآخرة ، وقال بعضهم : في الدنيا وذلك أن الله - عز وجل - وكل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته . ( يعملون له ما يشاء من محاريب ) أي : مساجد ، والأبنية المرتفعة ، وكان مما عملوا له بيت المقدس ابتدأه داود ورفعه قدر قامة رجل ، فأوحى الله إليه إني لم أقض ذلك على يدك ولكن ابن [ ص: 390 ] لك أملكه بعدك اسمه سليمان أقضي تمامه على يده ، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس ، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستخلصها له ، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض من معادنه ، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح ، وجعلها اثني عشر ربضا ، وأنزل كل ربض منها سبطا من الأسباط ، وكانوا اثني عشر سبطا ، فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقا فرقا يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر ، وفرقا يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها ، وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطيب من أماكنها ، فأتى من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله - عز وجل - ، ثم أحضر الصناعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحا وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلىء ، فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين المها الصافي وسقفه بألواح الجواهر الثمينة وفصص سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر ، وبسط أرضه بألواح الفيروز فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد ، وكان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر ، فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله - عز وجل - ، وأن كل شيء فيه خالص لله ، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا .
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثا فأعطاه اثنين ، وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة ، سأل حكما يصادف حكمه ، فأعطاه إياه وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فأعطاه إياه ، وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وأنا أرجو أن يكون . قد أعطاه ذلك " . .
قالوا : فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بختنصر فخرب المدينة وهدمها ونقض المسجد ، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر ، فحمله إلى دار مملكته من أرض العراق ، وبنى الشياطين لسليمان باليمن حصونا كثيرة [ عجيبة ] من الصخر . [ ص: 391 ]
قوله - عز وجل - : ) ( وتماثيل ) أي : كانوا يعملون له تماثيل ، أي : صورا من نحاس وصفر وشبة وزجاج ورخام . وقيل : كانوا يصورون السباع والطيور . وقيل : كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة ، ولعلها كانت مباحة في شريعتهم ، كما أن عيسى كان يتخذ صورا من الطين فينفخ فيها فتكون طيرا [ بإذن الله .
) ( وجفان ) أي : قصاع واحدتها جفنة ) ( كالجواب ) كالحياض التي يجبى فيها الماء ، أي : يجمع ، واحدتها جابية ، يقال : كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها ( وقدور راسيات ) ثابتات لها قوائم لا يحركن عن أماكنها لعظمهن ، ولا ينزلن ولا يعطلن ، وكان يصعد عليها بالسلالم ، وكانت باليمن .
( اعملوا آل داود شكرا ) أي : وقلنا اعملوا آل داود شكرا ، مجازه : اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكرا له على نعمه .
( وقليل من عبادي الشكور ) أي : العامل بطاعتي شكرا لنعمتي .
قيل : المراد من " آل داود " هو داود نفسه . وقيل : داود وسليمان وأهل بيته .
وقال جعفر بن سليمان : سمعت ثابتا يقول : كان داود نبي الله عليه السلام قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي .
( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ( 14 ) )
( فلما قضينا عليه الموت ) أي : على سليمان .
قال أهل العلم : كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر يدخل فيه طعامه وشرابه ، فأدخله في المرة التي مات فيها ، وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوما إلا نبتت في محراب بيت المقدس شجرة ، فيسألها : ما اسمك ؟ فتقول : اسمي كذا ، فيقول : لأي شيء أنت ؟ فتقول : لكذا وكذا ، فيأمر بها فتقطع ، فإن كانت نبتت لغرس غرسها ، وإن كانت لدواء كتب ، حتى نبتت الخروبة ، فقال لها : ما أنت ؟ قالت : الخروبة ، قال : لأي شيء نبت ؟ قالت : لخراب مسجدك ، فقال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على [ ص: 392 ] وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ! فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم قال : اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء ويعلمون ما في غد ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه فمات قائما وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه ، فكانت الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياته ، وينظرون إليه يحسبون أنه حي ، ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك ، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرضة عصا سليمان ، فخر ميتا فعلموا بموته .
قال ابن عباس : فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب ، فذلك قوله : ( ما دلهم على موته إلا دابة الأرض ) وهي الأرضة ( تأكل منسأته ) يعني : عصاه ، قرأ أهل المدينة ، وأبو عمرو : " منساته " بغير همز ، وقرأ الباقون بالهمز ، وهما لغتان ، ويسكن ابن عامر الهمز ، وأصلها من : نسأت الغنم ، أي : زجرتها وسقتها ، ومنه : نسأ الله في أجله ، أي : أخره .
( فلما خر ) أي : سقط على الأرض ( تبينت الجن ) أي : علمت الجن وأيقنت ( أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) أي : في التعب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حيا ، أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب ، لغلبة الجهل . وذكر الأزهري : أن معنى " تبينت الجن " ، أي : ظهرت وانكشفت الجن للإنس ، أي : ظهر أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ، وفي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس : تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ، أي : علمت الإنس وأيقنت ذلك .
وقرأ يعقوب : " تبينت " بضم التاء وكسر الياء [ أي : أعلمت الإنس الجن ، ذكر بلفظ ما لم يسم فاعله ، " وتبين " لازم ومتعد .
وذكر أهل التاريخ أن سليمان كان عمره ثلاثا وخمسين سنة ، ومدة ملكه أربعون سنة ، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه .
[ ص: 393 ] ) ( لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور ( 15 ) فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ( 16 ) )
قوله - عز وجل - : ( لقد كان لسبإ في مسكنهم ) روى أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك العطيفي ، قال : قال رجل : يا رسول الله أخبرني عن سبأ كان رجلا أو امرأة أو أرضا ؟ قال : " كان رجلا من العرب وله عشرة من الولد ، تيامن منهم ستة ، وتشاءم أربعة ، فأما الذين تيامنوا : فكندة ، والأشعريون ، وأزد ، ومذحج ، وأنمار ، وحمير ، فقال رجل : وما أنمار ؟ قال الذين منهم خثعم وبجيلة : وأما الذين تشاءموا : فعاملة ، وجذام ، ولخم ، وغسان ، وسبأ هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان " .
( في مسكنهم ) قرأ حمزة ، وحفص : " مسكنهم " بفتح الكاف ، على الواحد ، وقرأ الكسائي بكسر الكاف ، وقرأ الآخرون : " مساكنهم " على الجمع ، وكانت مساكنهم بمأرب من اليمن ) ( آية ) دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، ثم فسر الآية فقال : ) ( جنتان ) أي : هي جنتان بستانان ( عن يمين وشمال ) أي : عن يمين الوادي وشماله . وقيل : عن يمين من أتاهم وشماله ، وكان لهم واد قيل أحاطت الجنتان بذلك الوادي ) ( كلوا ) أي : وقيل لهم كلوا ( من رزق ربكم ) يعني : من ثمار الجنتين ، قال السدي ومقاتل : كانت المرأة تحمل مكتلها على رأسها وتمر بالجنتين فيمتلىء مكتلها من أنواع الفواكه من غير أن تمس شيئا بيدها ( واشكروا له ) أي : على ما رزقكم من النعمة ، والمعنى : اعملوا بطاعته ( بلدة طيبة ) أي : أرض سبأ بلدة طيبة ليست بسبخة ، قال ابن زيد : لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية ، وكان الرجل يمر ببلدهم وفي ثيابه القمل فيموت القمل كله من طيب الهواء ، فذلك قوله تعالى : ( بلدة طيبة ) أي : طيبة الهواء ( ورب غفور ) قال مقاتل : وربكم إن شكرتموه فيما رزقكم رب غفور للذنوب . ) ( فأعرضوا ) قال وهب : فأرسل الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله وذكروهم نعمه عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم ، وقالوا : ما نعرف لله - عز وجل - علينا نعمة فقولوا لربكم [ ص: 394 ] فليحبس هذه النعم عنا إن استطاع ، فذلك قوله تعالى : ( فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم ) و " العرم " : جمع عرمة ، وهي السكر الذي يحبس به الماء .
وقال ابن الأعرابي : " العرم " السيل الذي لا يطاق ، وقيل : كان ماء أحمر ، أرسله الله عليهم من حيث شاء ، وقيل : " العرم " : الوادي ، وأصله من العرامة ، وهي الشدة والقوة .
وقال ابن عباس ، ووهب ، وغيرهما : كان ذلك السد بنته بلقيس ، وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم ، فأمرت بواديهم فسد بالعرم ، وهو المسناة بلغة حمير ، فسدت بين الجبلين بالصخر والقار وجعلت له أبوابا ثلاثة بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة ضخمة وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهارهم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء ، وإذا استغنوا سدوها ، فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن ، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة ، فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة فكانت تقسمه بينهم على ذلك ، فبقوا على ذلك بعدها مدة فلما طغوا وكفروا سلط الله عليهم جرذا يسمى الخلد فنقب السد من أسفله فغرق الماء جناتهم وخرب أرضهم .
قال وهب : وكان مما يزعمون ويجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة ، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلما جاء زمانه وما أراد الله - عز وجل - بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة ، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فثقبت وحفرت حتى أوهنته للسيل ، وهم لا يدرون بذلك فلما جاء السيل وجد خللا فدخل فيه حتى قطع السد ، وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل ، ففرقوا وتمزقوا حتى صاروا مثلا عند العرب ، يقولون : صار بنو فلان أيدي سبأ وأيادي سبأ ، أي : تفرقوا وتبددوا ، فذلك قوله تعالى : ( فأرسلنا عليهم سيل العرم )
( وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط ) قرأ العامة بالتنوين ، وقرأ أهل البصرة : " أكل خمط " بالإضافة ، الأكل : الثمر ، والخمط : الأراك وثمره يقال له : البرير ، هذا قول أكثر المفسرين .
وقال المبرد والزجاج : كل نبت قد أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله فهو خمط . [ ص: 395 ]
وقال ابن الأعرابي : الخمط : ثمر شجرة يقال له فسوة الضبع ، على صورة الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به ، فمن جعل الخمط اسما للمأكول فالتنوين في " أكل " حسن ، ومن جعله أصلا وجعل الأكل ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة ، والتنوين سائغ ، تقول العرب : في بستان فلان أعناب كرم ، يترجم الأعناب بالكرم لأنها منه .
( وأثل وشيء من سدر قليل ) فالأثل هو الطرفاء ، وقيل : هو شجر يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه ، والسدر شجر معروف ، وهو شجر النبق ينتفع بورقه لغسل الرأس ويغرس في البساتين ، ولم يكن هذا من ذلك ، بل كان سدرا بريا لا ينتفع به ولا يصلح ورقه لشيء .
قال قتادة : كان شجر القوم من خير الشجر فصيره الله من شر الشجر بأعمالهم .
( ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ( 17 ) وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين ( 18 ) )
( ذلك جزيناهم بما كفروا ) أي : ذلك الذي فعلنا بهم جزيناهم بكفرهم ( وهل نجازي إلا الكفور ) قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، ويعقوب : " وهل نجازي " بالنون وكسر الزاي ، " الكفور " نصب لقوله : " ذلك جزيناهم " ، وقرأ الآخرون بالياء وفتح الزاي ، " الكفور " رفع ، أي : وهل يجازى مثل هذا الجزاء إلا الكفور .
وقال مجاهد : يجازى أي : يعاقب . ويقال في العقوبة : يجازي ، وفي المثوبة يجزي .
قال مقاتل : هل يكافأ بعمله السيء إلا الكفور لله في نعمه .
قال الفراء : المؤمن يجزى ولا يجازى ، أي : يجزى للثواب بعمله ولا يكافأ بسيئاته . ( وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها ) بالماء والشجر ، هي قرى الشام ( قرى ظاهرة ) متواصلة تظهر الثانية من الأولى لقربها منها ، وكان متجرهم من اليمن إلى الشام فكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من سبأ إلى الشام .
وقيل : كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام .
( وقدرنا فيها السير ) أي : قدرنا سيرهم بين هذه القرى ، وكان مسيرهم في الغدو والرواح على قدر نصف يوم ، [ فإذا ساروا نصف يوم ] وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار .
[ ص: 396 ] وقال قتادة : كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها ، وعلى رأسها مكتلها فتمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلىء مكتلها من الثمار ، وكان ما بين اليمن والشام كذلك .
( سيروا فيها ) أي : وقلنا لهم سيروا فيها ، وقيل : هو أمر بمعنى الخبر أي : مكناهم من السير فكانوا يسيرون فيها ( ليالي وأياما ) أي : بالليالي والأيام في أي وقت شئتم ) ( آمنين ) لا تخافون عدوا ولا جوعا ولا عطشا ، فبطروا وطغوا ولم يصيروا على العافية ، وقالوا : لو كانت جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه .
ابو وليد البحيرى
2022-08-21, 11:37 PM
الحلقة (343)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ سَبَأٍ
مَكِّيَّةٌ
الاية19 إلى الاية44
( فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ( 19 ) ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ( 20 ) )
( فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا ) فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرواحل ونتزود الأزواد ، فعجل الله لهم الإجابة . وقال مجاهد : بطروا النعمة وسئموا الراحة .
قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : بعد بالتشديد من التبعيد ، وقرأ الآخرون : باعد ، بالألف ، وكل على وجه الدعاء والسؤال ، وقرأ يعقوب : " ربنا " برفع الباء ، " باعد " بفتح العين والدال على الخبر ، كأنهم استبعدوا أسفارهم القريبة بطروا وأشروا .
( وظلموا أنفسهم ) بالبطر والطغيان . ( فجعلناهم أحاديث ) عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم ( ومزقناهم كل ممزق ) فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق . قال الشعبي : لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد ، أما غسان فلحقوا بالشام ومر الأزد إلى عمان ، وخزاعة إلى تهامة ، ومر آل خزيمة إلى العراق ، والأوس والخزرج إلى يثرب ، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر ، وهو جد الأوس والخزرج .
( إن في ذلك لآيات ) لعبرا ودلالات ( لكل صبار ) عن معاصي الله ) ( شكور ) لأنعمه ، قال مقاتل : يعني المؤمن من هذه الأمة صبور على البلاء شاكر للنعماء . قال مطرف : هو المؤمن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر . قوله - عز وجل - : ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه ) قرأ أهل الكوفة : " صدق " بالتشديد أي : ظن فيهم ظنا حيث قال : " فبعزتك لأغوينهم أجمعين " ( ص 82 ) ، " ولا تجد أكثرهم شاكرين " ( الأعراف 17 ) [ ص: 397 ] فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتباعهم إياه ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، أي : صدق عليهم في ظنه بهم ، أي : على أهل سبأ . وقال مجاهد : على الناس كلهم إلا من أطاع الله ( فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ) قال السدي عن ابن عباس : يعني المؤمنين كلهم لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين ، وقد قال الله تعالى : " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " ( الحجر - 42 ) ، يعني : المؤمنين . وقيل : هو خاص بالمؤمنين الذين يطيعون الله ولا يعصونه .
قال ابن قتيبة : إن إبليس لما سأل النظرة فأنظره الله ، قال لأغوينهم ولأضلنهم ، لم يكن مستيقنا وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم وإنما قاله ظنا ، فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم .
قال الحسن : إنه لم يسل عليهم سيفا ولا ضربهم بسوط وإنما وعدهم ومناهم فاغتروا .
( وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ ( 21 ) قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ( 22 ) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ( 23 ) )
قال الله تعالى : ( وما كان له عليهم من سلطان ) أي : ما كان تسليطنا إياه عليهم ( إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك ) أي : إلا لنعلم ، لنرى ونميز المؤمن من الكافر ، وأراد علم الوقوع والظهور ، وقد كان معلوما عنده بالغيب ( وربك على كل شيء حفيظ ) رقيب . ) ( قل ) يا محمد لكفار مكة ( ادعوا الذين زعمتم ) أنهم آلهة ) ( من دون الله ) وفي الآية حذف ، أي : ادعوهم ليكشفوا الضر الذي نزل بكم في سني الجوع ، ثم وصفها فقال : ( لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ) من خير وشر ونفع وضر ) ( وما لهم ) أي : للآلهة ) ( فيهما ) في السماوات والأرض ) ( من شرك ) شركة ) ( وما له ) أي : وما لله ) ( منهم من ظهير ) عون . ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) الله في الشفاعة ، قاله تكذيبا لهم حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ويجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يشفع له ، وقرأ أبو عمرو [ ص: 398 ] وحمزة والكسائي : ) ( أذن ) بضم الهمزة .
( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) قرأ ابن عامر ، ويعقوب بفتح الفاء والزاي ، وقرأ الآخرون بضم الفاء وكسر الزاي أي : كشف الفزع وأخرج عن قلوبهم ، فالتفريغ إزالة الفزع كالتمريض والتفريد .
واختلفوا في الموصوفين بهذه الصفة ، فقال قوم : هم الملائكة ، ثم اختلفوا في ذلك السبب فقال بعضهم : إنما يفزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله - عز وجل - . وروينا عن أبي هريرة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم ( قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير )
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، قال : أنبأني محمد بن الفضل بن محمد ، أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أخبرنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، أخبرنا نعيم بن حماد ، أخبرنا أبو الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن أبي زكريا ، عن رجاء بن حيوة ، عن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة أو قال : رعدة شديدة خوفا من الله تعالى ، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل : قال الحق وهو العلي الكبير ، قال فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله " .
وقال بعضهم إنما يفزعون حذرا من قيام الساعة .
قال مقاتل والكلبي والسدي : كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، خمسمائة وخمسين سنة ، وقيل ستمائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحيا ، فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة ، لأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - عند أهل السماوات من أشراط الساعة ، فصعقوا مما سمعوا خوفا من قيام الساعة ، فلما انحدر جبريل جعل يمر بأهل كل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : قال الحق ، يعني الوحي ، وهو العلي الكبير . [ ص: 399 ]
وقال جماعة : الموصوفون بذلك المشركون .
قال الحسن وابن زيد : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم إقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة ماذا قال ربكم في الدنيا ؟ قالوا : الحق ، فأقروا به حين لا ينفعهم الإقرار .
( قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ( 24 ) قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ( 25 ) قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم ( 26 ) قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم ( 27 ) وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 28 ) )
قوله تعالى : ( قل من يرزقكم من السماوات والأرض ) فالرزق من السماوات : المطر ، ومن الأرض : النبات ) ( قل الله ) أي : إن لم يقولوا رازقنا الله فقل أنت إن رازقكم هو الله ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) ليس هذا على طريق الشك ولكن على جهة الإنصاف في الحجاج ، كما يقول القائل للآخر : أحدنا كاذب ، وهو يعلم أنه صادق وصاحبه كاذب .
والمعنى : ما نحن وأنتم على أمر واحد بل أحد الفريقين مهتد والآخر ضال ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه على الهدى ، ومن خالفه في ضلال ، فكذبهم من غير أن يصرح بالتكذيب .
وقال بعضهم : " أو " بمعنى الواو ، والألف فيه صلة ، كأنه قال : وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ، يعني : نحن على الهدى وأنتم في الضلال . ( قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ) يعني : يوم القيامة ( ثم يفتح ) يقضي ( بيننا بالحق وهو الفتاح العليم قل أروني الذين ألحقتم به شركاء ) أي : أعلموني الذين ألحقتموهم به ، أي : بالله ، شركاء في العبادة معه هل يخلقون وهل يرزقون ) ( كلا ) لا يخلقون ولا يرزقون ( بل هو الله العزيز ) الغالب على أمره ) ( الحكيم ) في تدبيره لخلقه فأنى يكون له شريك في ملكه . قوله - عز وجل - : ( وما أرسلناك إلا كافة للناس ) يعني : للناس عامة لأحمرهم وأسودهم ) ( بشيرا ونذيرا ) أي : مبشرا ومنذرا ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) وروينا عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 400 ] قال : " كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " .
وقيل : كافة أي : كافا يكفهم عما هم عليه من الكفر ، والهاء للمبالغة .
( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( 29 ) قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون ( 30 ) وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين ( 31 ) قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين ( 32 ) وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ( 33 ) )
( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) يعني القيامة . ( قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون ) أي : لا تتقدمون عليه يعني يوم القيامة ، وقال الضحاك : يوم الموت لا تتأخرون عنه ولا تتقدمون بأن يزاد في أجلكم أو ينقص منه . ( وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ) يعني : التوراة والإنجيل ) ( ولو ترى ) يا محمد ( إذ الظالمون موقوفون ) محبوسون ( عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول ) يرد بعضهم إلى بعض القول في الجدال ( يقول الذين استضعفوا ) استحقروا وهم الأتباع ( للذين استكبروا ) وهم القادة والأشراف ( لولا أنتم لكنا مؤمنين ) أي : أنتم منعتمونا عن الإيمان بالله ورسوله . ( قال الذين استكبروا ) أجابهم المتبوعون في الكفر ( للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين ) بترك الإيمان . ( وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار ) أي : مكركم بنا في الليل [ ص: 401 ] والنهار ، والعرب تضيف الفعل إلى الليل والنهار على توسع الكلام ؟ كما قال الشاعر :
ونمت وما ليل المطي بنائم
وقيل : مكر الليل والنهار هو طول السلامة وطول الأمل فيهما ، كقوله تعالى : " فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم " ( الحديد - 16 ) .
( إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا ) أظهروا ) ( الندامة ) وقيل : أخفوا ، وهو من الأضداد ( لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا ) في النار الأتباع والمتبوعين جميعا . ( هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ) من الكفر والمعاصي في الدنيا .
( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ( 34 ) وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ( 35 ) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 36 ) )
( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها ) رؤساؤها وأغنياؤها ( إنا بما أرسلتم به كافرون ) ( وقالوا ) يعني : قال المترفون للفقراء الذين آمنوا : ( نحن أكثر أموالا وأولادا ) ولو لم يكن الله راضيا بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخولنا الأموال والأولاد ( وما نحن بمعذبين ) أي : إن الله أحسن إلينا في الدنيا بالمال والولد فلا يعذبنا . ( قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) يعني : أن الله يبسط الرزق ويقدر ابتلاء وامتحانا [ ص: 402 ] لا يدل البسط على رضا الله عنه ولا التضييق على سخطه ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) أنها كذلك .
( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون ( 37 ) والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون ( 38 ) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ( 39 ) )
( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ) أي : قربى ، قال الأخفش : " قربى " اسم مصدر كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريبا ( إلا من آمن ) يعني : لكن من آمن ( وعمل صالحا ) قال ابن عباس : يريد إيمانه وعمله يقربه مني ( فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا ) أي : يضعف الله لهم حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشر إلى سبعمائة قرأ يعقوب : " جزاء " منصوبا منونا " الضعف " رفع ، تقديره : فأولئك لهم الضعف جزاء ، وقرأ العامة بالإضافة ( وهم في الغرفات آمنون ) قرأ حمزة : " في الغرفة " على واحده ، وقرأ الآخرون بالجمع لقوله : " لنبوأنهم من الجنة غرفا " ( العنكبوت - 58 ) . ( والذين يسعون ) يعملون ) ( في آياتنا ) في إبطال حجتنا ) ( معاجزين ) معاندين يحسبون أنهم يعجزوننا ويفوتوننا ( أولئك في العذاب محضرون قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ) أي : يعطي خلفه ، قال سعيد بن جبير : ما كان في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه .
وقال الكلبي : ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير من نفقة فهو يخلفه على المنفق ، إما أن يعجله في الدنيا وإما أن يدخره له في الآخرة .
( وهو خير الرازقين ) خير من يعطي ويرزق .
وروينا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تعالى قال : أنفق أنفق عليك " . [ ص: 403 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إسماعيل ، حدثنا أبي ، عن سليمان هو ابن بلال ، عن معاوية بن أبي مزرد ، عن أبي الحباب ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا ابن أبي أويس ، أخبرنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد ابن زنجويه ، أخبرنا أبو الربيع ، أخبرنا عبد الحميد بن الحسن الهلالي ، أخبرنا محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كل معروف صدقة وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة ، وما وقى الرجل به عرضه كتب له بها صدقة " ، قلت : ما يعني وقى الرجل عرضه ؟ قال : " ما أعطى الشاعر وذا اللسان المتقى ، وما أنفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامنا إلا ما كان من نفقة في بنيان أو في معصية الله - عز وجل - " .
قوله : " قلت ما يعني " يقول عبد الحميد لمحمد بن المنكدر .
قال مجاهد : إذا كان في يد أحدكم شيء فليقتصد ، ولا يتأول هذه الآية : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ، فإن الرزق مقسوم لعل رزقه قليل ، وهو ينفق نفقة الموسع عليه . ومعنى الآية : وما كان من إخلاف فهو منه .
[ ص: 404 ] ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ( 40 ) قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ( 41 ) فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ( 42 ) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين ( 43 ) وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير ( 44 ) )
قوله تعالى : ( ويوم يحشرهم ) قرأ يعقوب وحفص : " يحشرهم " ، وقرأ الآخرون بالنون ) ( جميعا ) يعني : هؤلاء الكفار ( ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) في الدنيا ، قال قتادة : هذا استفهام تقرير ، كقوله تعالى لعيسى : " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " ( مريم - 116 ) ، فتتبرأ منهم الملائكة . ( قالوا سبحانك ) تنزيها لك ( أنت ولينا من دونهم ) أي : نحن نتولاك ولا نتولاهم ( بل كانوا يعبدون الجن ) يعني : الشياطين ، فإن قيل لهم كانوا يعبدون الملائكة فكيف وجه قوله : ( يعبدون الجن ) قيل : أراد الشياطين ، زينوا لهم عبادة الملائكة ، فهم كانوا يطيعون الشياطين في عبادة الملائكة ، فقوله ) ( يعبدون ) أي : يطيعون الجن ( أكثرهم بهم مؤمنون ) يعني : مصدقون للشياطين . ثم يقول الله : ( فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ) بالشفاعة ) ( ولا ضرا ) بالعذاب ، يريد أنهم عاجزون ، لا نفع عندهم ولا ضر ( ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا ) يعنون محمدا - صلى الله عليه وسلم - ( إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى ) يعنون القرآن ( وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين ) أي : بين . ( وما آتيناهم ) يعني : هؤلاء المشركين ( من كتب يدرسونها ) يقرؤونها ( وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير ) أي : لم يأت العرب قبلك نبي ولا نزل عليهم كتاب .
ابو وليد البحيرى
2022-08-21, 11:42 PM
الحلقة (344)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ سَبَأٍ
مَكِّيَّةٌ
الاية45 إلى الاية/
[ ص: 405 ] ( وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير ( 45 ) قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ( 46 ) قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد ( 47 ) قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب ( 48 ) )
( وكذب الذين من قبلهم ) من الأمم رسلنا ، وهم : عاد ، وثمود ، وقوم إبراهيم ، وقوم لوط وغيرهم ( وما بلغوا ) يعني : هؤلاء المشركين ) ( معشار ) أي : عشر ) ( ما آتيناهم ) أي : أعطينا الأمم الخالية من القوة والنعمة وطول العمر ( فكذبوا رسلي فكيف كان نكير ) أي : إنكاري وتغييري عليهم ، يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية . ( قل إنما أعظكم بواحدة ) آمركم وأوصيكم بواحدة ، أي : بخصلة واحدة ، ثم بين تلك الخصلة فقال : ( أن تقوموا لله ) لأجل الله ) ( مثنى ) أي : اثنين اثنين ) ( وفرادى ) أي : واحدا واحدا ) ( ثم تتفكروا ) جميعا أي : تجتمعون فتنظرون وتتحاورون وتنفردون ، فتفكرون في حال محمد - صلى الله عليه وسلم - فتعلموا ( ما بصاحبكم من جنة ) جنون ، وليس المراد من القيام القيام الذي هو ضد الجلوس ، وإنما هو قيام بالأمر الذي هو في طلب الحق ، كقوله : " وأن تقوموا لليتامى بالقسط " ( النساء - 127 ) . ) ( إن هو ) ما هو ( إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) قال مقاتل : تم الكلام عند قوله : " ثم تتفكروا " أي : في خلق السماوات والأرض فتعلموا أن خالقها واحد لا شريك له ، ثم ابتدأ فقال : " ما بصاحبكم من جنة " . ( قل ما سألتكم من أجر ) على تبليغ الرسالة ) ( من أجر ) جعل ) ( فهو لكم ) يقول : قل لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرا فتتهموني ، ومعنى قوله : " فهو لكم " أي : لم أسألكم شيئا كقول القائل : ما لي من هذا فقد وهبته لك يريد ليس لي فيه شيء ) ( إن أجري ) ما ثوابي ( إلا على الله وهو على كل شيء شهيد قل إن ربي يقذف بالحق ) والقذف الرمي بالسهم والحصى ، والكلام ، ومعناه : يأتي بالحق وبالوحي ينزله من السماء فيقذفه إلى الأنبياء ( علام الغيوب ) رفع بخبر إن ، أي : وهو علام الغيوب .
[ ص: 406 ] ( قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ( 49 ) قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب ( 50 ) ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب ( 51 ) وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ( 52 ) )
( قل جاء الحق ) يعني : القرآن والإسلام ( وما يبدئ الباطل وما يعيد ) أي : ذهب الباطل وزهق فلم يبق منه بقية يبدئ شيئا أو يعيد ، كما قال تعالى : " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه " ( الأنبياء - 48 ) ، وقال قتادة : " الباطل " هو إبليس ، وهو قول مقاتل والكلبي ، وقيل : " الباطل " : الأصنام . ( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي ) وذلك أن كفار مكة كانوا يقولون له : إنك قد ضللت حين تركت دين آبائك ، فقال الله تعالى : ( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي ) أي : إثم ضلالتي على نفسي ( وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي ) من القرآن والحكمة ( إنه سميع قريب ولو ترى إذ فزعوا ) قال قتادة عند البعث حين يخرجون من قبورهم ) ( فلا فوت ) أي : فلا يفوتونني كما قال : " ولات حين مناص " ( ص - 3 ) ، وقيل : إذ فزعوا فلا فوت ولا نجاة ( وأخذوا من مكان قريب ) قال الكلبي من تحت أقدامهم ، وقيل : أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها ، وحيثما كانوا فهم من الله قريب ، لا يفوتونه . وقيل : من مكان قريب يعني عذاب الدنيا . وقال الضحاك : يوم بدر . وقال ابن أبزى : خسفوا بالبيداء ، وفي الآية حذف تقديره : ولو ترى إذ فزعوا لرأيت أمرا تعتبر به . ( وقالوا آمنا به ) حين عاينوا العذاب ، قيل : عند اليأس . وقيل : عند البعث . ) ( وأنى ) من أين ( لهم التناوش ) قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : التناوش بالمد والهمزة ، وقرأ الآخرون بواو صافية من غير مد ولا همز ، ومعناه التناول ، أي : كيف لهم تناول ما بعد عنهم ، وهو الإيمان والتوبة ، وقد كان قريبا في الدنيا فضيعوه ، ومن همز قيل : معناه هذا أيضا . [ ص: 407 ]
وقيل التناوش بالهمزة من النبش وهو حركة في إبطاء ، يقال : جاء نبشا أي : مبطئا متأخرا ، والمعنى من أين لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه ، وعن ابن عباس قال : يسألون الرد إلى الدنيا فيقال وأنى لهم الرد إلى الدنيا .
( من مكان بعيد ) أي : من الآخرة إلى الدنيا .
( وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد ( 53 ) وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب ( 54 ) )
( وقد كفروا به من قبل ) أي : بالقرآن ، وقيل : بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، من قبل أن يعاينوا العذاب وأهوال القيامة ( ويقذفون بالغيب من مكان بعيد ) قال مجاهد : يرمون محمدا بالظن لا باليقين ، وهو قولهم ساحر وشاعر وكاهن ، ومعنى الغيب : هو الظن لأنه غاب علمه عنهم ، والمكان البعيد : بعدهم عن علم ما يقولون ، والمعنى يرمون محمدا بما لا يعلمون من حيث لا يعلمون . وقال قتادة : يرجمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار . ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) ، أي : الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا . وقيل : نعيم الدنيا وزهرتها ( كما فعل بأشياعهم ) ، أي : بنظرائهم ومن كان على مثل حالهم من الكفار ) ( من قبل ) ، أي : لم يقبل منهم الإيمان والتوبة في وقت اليأس ( إنهم كانوا في شك ) ، من البعث ونزول العذاب بهم ) ( مريب ) ، موقع لهم الريبة والتهمة .
سُورَةُ فَاطِرٍ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 ) )
) ( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) خَالِقِهَا وَمُبْدِعِهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ ( جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ ) ذَوِي أَجْنِحَةٍ ( مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ) قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ : بَعْضُهُمْ لَهُ جَنَاحَانِ ، وَبَعْضُهُمْ لَهُ ثَلَاثَةُ أَجْنِحَةٍ ، وَبَعْضُهُمْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ ، وَيَزِيدُ فِيهَا مَا يَشَاءُ وَهُوَ قَوْلُهُ ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ )
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : " لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى " ( النَّجْمِ - 18 ) ، قَالَ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ .
وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ فِي قَوْلِهِ : " يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ " قَالَ : حُسْنُ الصَّوْتِ .
وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ : هُوَ الْمَلَاحَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ . وَقِيلَ : هُوَ الْعَقْلُ وَالتَّمْيِيزُ .
( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
[ ص: 412 ] ) ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم ( 2 ) يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون ( 3 ) وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور ( 4 ) يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ( 5 ) )
( ما يفتح الله للناس من رحمة ) قيل : من مطر ورزق ( فلا ممسك لها ) لا يستطيع أحد على حبسها ( وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز ) فيما أمسك ) ( الحكيم ) فيما أرسل .
أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا عبيد الله بن أسباط ، أخبرنا أبي ، أخبرنا عبد الملك بن عمير ، عن وراد ، عن المغيرة بن شعبة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " . ( يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله ) قرأ حمزة والكسائي " غير " بجر الراء ، وقرأ الآخرون برفعها على معنى هل خالق غير الله ، لأن " من " زيادة ، وهذا استفهام على طريق التقرير كأنه قال : لا خالق غير الله ( يرزقكم من السماء والأرض ) أي : من السماء المطر ومن الأرض النبات ( لا إله إلا هو فأنى تؤفكون وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ) يعزي نبيه - صلى الله عليه وسلم - ( وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الناس إن وعد الله حق ) يعني وعد يوم القيامة ( فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) وهو الشيطان .
[ ص: 413 ] ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ( 6 ) الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير ( 7 ) أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون ( 8 ) )
) ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ) أي : عادوه بطاعة الله ولا تطيعوه ( إنما يدعو حزبه ) أي : أشياعه وأولياءه ( ليكونوا من أصحاب السعير ) أي : ليكونوا في السعير ، ثم بين حال موافقيه ومخالفيه فقال : ( الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير ) قوله تعالى : ( أفمن زين له سوء عمله ) قال ابن عباس : نزلت في أبي جهل ومشركي مكة .
وقال سعيد بن جبير : نزلت في أصحاب الأهواء والبدع .
وقال قتادة : منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ، فأما أهل الكبائر فليسوا منهم ، لأنهم لا يستحلون الكبائر .
( أفمن زين ) شبه وموه عليه وحسن ( له سوء عمله ) أي : قبيح عمله ( فرآه حسنا ) زين له الشيطان ذلك بالوسواس .
وفي الآية حذف مجازه : أفمن زين له سوء عمله فرأى الباطل حقا كمن هداه الله فرأى الحق حقا والباطل باطلا ؟ ( فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء )
وقيل : جوابه تحت قوله ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) فيكون معناه : أفمن زين له سوء عمله فأضله الله ذهبت نفسك عليه حسرة ، أي : تتحسر عليه فلا تذهب نفسك عليهم حسرات .
وقال الحسين بن الفضل : فيه تقديم وتأخير مجازه : أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر ، ومعنى الآية : لا تغتم بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا . [ ص: 414 ]
وقرأ أبو جعفر : " فلا تذهب " بضم التاء وكسر الهاء " نفسك " نصب ( إن الله عليم بما يصنعون )
( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ( 9 ) من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور ( 10 ) )
) ( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ) من القبور . قوله - عز وجل - : ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ) قال الفراء : معنى الآية من كان يريد أن يعلم لمن العزة فلله العزة جميعا .
وقال قتادة : من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله معناه الدعاء إلى طاعة من له العزة ، أي : فليطلب العزة من عند الله بطاعته ، كما يقال : من كان يريد المال فالمال لفلان ، أي : فليطلبه من عنده ، وذلك أن الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا به التعزيز كما قال الله : " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا " ( مريم - 81 ) ، وقال : " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا " ( النساء - 139 ) .
) ( إليه ) أي : إلى الله ( يصعد الكلم الطيب ) وهو قوله لا إله إلا الله ، وقيل : هو قول الرجل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا الحجاج بن نصر ، أخبرنا المسعودي عن عبد الله بن المخارق ، عن أبيه ، عن ابن مسعود قال : إذا حدثتكم حديثا أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله - عز وجل - : ما من عبد مسلم يقول خمس كلمات : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وتبارك الله ، إلا أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ثم صعد بهن فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى [ ص: 415 ] يحيي بها وجه رب العالمين ، ومصداقه من كتاب الله - عز وجل - قوله : ( إليه يصعد الكلم الطيب ) ذكره ابن مسعود .
وقيل : " الكلم الطيب " : ذكر الله . وعن قتادة : " إليه يصعد الكلم الطيب " أي : يقبل الله الكلم الطيب .
قوله - عز وجل - : ( والعمل الصالح يرفعه ) أي : يرفع العمل الصالح الكلم الطيب ، فالهاء في قوله يرفعه راجعة إلى الكلم الطيب ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وعكرمة ، وأكثر المفسرين .
وقال الحسن وقتادة : الكلم الطيب ذكر الله والعمل الصالح أداء فرائضه ، فمن ذكر الله ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله ، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ، فمن قال حسنا وعمل غير صالح رد الله عليه قوله ، ومن قال حسنا وعمل صالحا يرفعه العمل ذلك بأن الله يقول : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) وجاء في الحديث : " لا يقبل الله قولا إلا بعمل ولا قولا ولا عملا إلا بنية " .
وقال قوم : الهاء في قوله " يرفعه " راجعة إلى العمل الصالح أي : الكلم الطيب يرفع العمل الصالح ، فلا يقبل عمل إلا أن يكون صادرا عن التوحيد ، وهذا معنى قول الكلبي ومقاتل .
وقيل : الرفع من صفة الله - عز وجل - معناه : العمل الصالح يرفعه الله - عز وجل - .
وقال سفيان بن عيينة : العمل الصالح هو الخالص ، يعني أن الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأفعال ، دليله قوله - عز وجل - : " فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " ( الكهف - 110 ) ، فجعل نقيض الصالح الشرك والرياء ( والذين يمكرون السيئات ) قال الكلبي : أي : الذين يعملون السيئات . وقال مقاتل : يعني الشرك . وقال أبو العالية : يعني الذين مكروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار الندوة ، كما قال الله تعالى : " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك " ( الأنفال - 30 ) . [ ص: 416 ]
وقال مجاهد : وشهر بن حوشب : هم أصحاب الرياء .
( لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور ) يبطل ويهلك في الآخرة .
ابو وليد البحيرى
2022-08-21, 11:49 PM
الحلقة (345)
الجزء السادس
- تفسير البغوى
سُورَةُ فَاطِرٍ
مَكِّيَّةٌ
الاية11 إلى الاية37
( والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير ( 11 ) وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ( 12 ) )
قوله - عز وجل - : ( والله خلقكم من تراب ) أي : آدم ( ثم من نطفة ) يعني : نسله ( ثم جعلكم أزواجا ) ذكرانا وإناثا ( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ) لا يطول عمره ( ولا ينقص من عمره ) يعني : من عمر آخر ، كما يقال لفلان عندي درهم ونصفه أي : نصف درهم آخر ( إلا في كتاب ) وقيل : قوله : " ولا ينقص من عمره " منصرف إلى الأول ، قال سعيد بن جبير : مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حين ينقطع عمره .
وقال كعب الأحبار حين حضر عمر رضي الله عنه الوفاة : والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر ، فقيل له إن الله - عز وجل - يقول : " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " ( الأعراف - 34 ) فقال : هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد وينقص ، وقرأ هذه الآية ( إن ذلك على الله يسير ) أي : كتابة الآجال والأعمال على الله هين . قوله - عز وجل - : ( وما يستوي البحران ) يعني : العذب والمالح ، ثم ذكرهما فقال : ( هذا عذب فرات ) طيب ( سائغ شرابه ) أي : جائز في الحلق هنيء ( وهذا ملح أجاج ) شديد الملوحة . وقال الضحاك : هو المر . ( ومن كل تأكلون لحما طريا ) يعني : الحيتان من العذب والمالح جميعا ( وتستخرجون حلية ) أي : من المالح دون العذب ) ( تلبسونها ) يعني اللؤلؤ . وقيل : نسب اللؤلؤ [ ص: 417 ] إليهما ، لأنه يكون في البحر الأجاج عيون عذبة تمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من بين ذلك ( وترى الفلك فيه مواخر ) جواري مقبلة ومدبرة بريح واحدة ( لتبتغوا من فضله ) بالتجارة ( ولعلكم تشكرون ) الله على نعمه .
( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ( 13 ) إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ( 14 ) يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ( 15 ) إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ( 16 ) وما ذلك على الله بعزيز ( 17 ) ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير ( 18 ) )
( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ) يعني : الأصنام ( ما يملكون من قطمير ) وهو لفافة النواة ، وهي القشرة الرقيقة التي تكون على النواة . ( إن تدعوهم ) يعني : إن تدعو الأصنام ( لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ) ما أجابوكم ( ويوم القيامة يكفرون بشرككم ) يتبرؤون منكم ومن عبادتكم إياها ، يقولون : ما كنتم إيانا تعبدون . ( ولا ينبئك مثل خبير ) يعني : نفسه أي : لا ينبئك أحد مثلي خبير عالم بالأشياء . ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ) إلى فضل الله ، والفقير : المحتاج ( والله هو الغني الحميد ) الغني عن خلقه المحمود في إحسانه إليهم . ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ) شديد . ( ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة ) أي : نفس مثقلة بذنوبها غيرها ( إلى حملها ) أي : إلى حمل ما عليه من الذنوب ( لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ) أي : ولو كان المدعو ذا قرابة له؛ ابنه أو أباه أو أمه أو أخاه . قال ابن عباس : يلقى الأب والأم ابنه فيقول : يا بني احمل عني بعض ذنوبي . فيقول : لا أستطيع حسبي ما علي . [ ص: 418 ]
( إنما تنذر الذين يخشون ) يخافون ( ربهم بالغيب ) ولم يروه . وقال الأخفش : تأويله أي : إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم بالغيب ( وأقاموا الصلاة ومن تزكى ) صلح وعمل خيرا ( فإنما يتزكى لنفسه ) لها ثوابه ( وإلى الله المصير )
( وما يستوي الأعمى والبصير ( 19 ) ولا الظلمات ولا النور ( 20 ) ولا الظل ولا الحرور ( 21 ) وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور ( 22 ) إن أنت إلا نذير ( 23 ) إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( 24 ) وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ( 25 ) ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير ( 26 ) )
( وما يستوي الأعمى والبصير ) يعني : الجاهل والعالم . وقيل : الأعمى عن الهدى والبصير بالهدى ، أي : المؤمن والمشرك . ( ولا الظلمات ولا النور ) يعني : الكفر والإيمان . ( ولا الظل ولا الحرور ) يعني : الجنة والنار ، قال ابن عباس : " الحرور " : الريح الحارة بالليل ، و " السموم " بالنهار . وقيل : " الحرور " يكون بالنهار مع الشمس . ( وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) يعني : المؤمنين والكفار . وقيل : العلماء والجهال .
( إن الله يسمع من يشاء ) حتى يتعظ ويجيب ( وما أنت بمسمع من في القبور ) يعني : الكفار ، شبههم بالأموات في القبور حين لم يجيبوا . ( إن أنت إلا نذير ) ما أنت إلا منذر تخوفهم بالنار . ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة ) ما من أمة فيما مضى ) ( إلا خلا ) سلف ( فيها نذير ) نبي منذر . ( وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ) الواضح كرر ذلك الكتاب بعد ذكر الزبر على طريق التأكيد . ( ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير )
[ ص: 419 ] ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ( 27 ) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور ( 28 ) )
( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد ) طرق وخطط ، واحدتها جدة ، مثل : مدة ومدد ( بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ) يعني : سود غرابيب على التقديم والتأخير ، يقال : أسود غربيب ، أي : شديد السواد تشبيها بلون الغراب ، أي : طرائق سود . ( ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه ) ذكر الكناية لأجل " من " وقيل : رد الكناية إلى ما في الإضمار ، مجازه : ومن الناس والدواب والأنعام ما هو مختلف ألوانه ) ( كذلك ) يعني كما اختلف ألوان الثمار والجبال ، وتم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) قال ابن عباس : يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عمر بن حفص ، أخبرنا الأعمش ، أخبرنا مسلم ، عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها : صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا فرخص فيه ، فتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فخطب فحمد الله ثم قال : " ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية " .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا " .
وقال مسروق : كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا . وقال رجل للشعبي : أفتني أيها العالم ، فقال الشعبي : إنما العالم من خشي الله - عز وجل - . [ ص: 420 ]
( إن الله عزيز غفور ) أي : عزيز في ملكه غفور لذنوب عباده .
( إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ( 29 ) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور ( 30 ) والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير ( 31 ) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ( 32 ) )
قوله تعالى : ( إن الذين يتلون كتاب الله ) يعني : قرأوا القرآن ( وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ) لن تفسد ولن تهلك ، والمراد من التجارة ما وعد الله من الثواب .
قال الفراء : قوله : " يرجون " جواب لقوله : " إن الذين يتلون كتاب الله " . ( ليوفيهم أجورهم ) جزاء أعمالهم بالثواب ( ويزيدهم من فضله ) قال ابن عباس : يعني سوى الثواب مما لم تر عين ولم تسمع أذن ( إنه غفور شكور ) قال ابن عباس : يغفر العظيم من ذنوبهم ويشكر اليسير من أعمالهم . ( والذي أوحينا إليك من الكتاب ) يعني : القرآن ( هو الحق مصدقا لما بين يديه ) من الكتب ( إن الله بعباده لخبير بصير ثم أورثنا الكتاب ) يعني : الكتاب الذي أنزلناه إليك الذي ذكر في الآية الأولى ، وهو القرآن ، جعلناه ينتهي إلى ( الذين اصطفينا من عبادنا )
ويجوز أن يكون " ثم " بمعنى الواو ، أي : وأورثنا ، كقوله : " ثم كان من الذين آمنوا " ( البلد - 17 ) ، أي : وكان من الذين آمنوا ، ومعنى " أورثنا " أعطينا ، لأن الميراث عطاء ، قاله مجاهد .
وقيل : " أورثنا " أي : أخرنا ، ومنه الميراث لأنه أخر عن الميت ، ومعناه : أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناكموه ، وأهلناكم له .
( الذين اصطفينا من عبادنا ) قال ابن عباس : يريد أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قسمهم ورتبهم فقال : [ ص: 421 ]
( فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ) روي عن أسامة بن زيد في قوله - عز وجل - : " فمنهم ظالم لنفسه " الآية ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كلهم من هذه الأمة " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه ، أخبرنا محمد بن علي بن الحسين القاضي ، أخبرنا بكر بن محمد المروزي ، أخبرنا أبو قلابة ، حدثنا عمرو بن الحصين ، عن الفضل بن عميرة ، عن ميمون الكردي ، عن أبي عثمان النهدي قال : سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) الآية ، فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له " ، قال أبو قلابة فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه .
واختلف المفسرون في معنى الظالم والمقتصد والسابق .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن عيسى الصيرفي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي ، حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، عن الأعمش ، عن رجل ، عن أبي ثابت أن رجلا دخل المسجد فقال : اللهم ارحم غربتي ، وآنس وحشتي ، وسق إلي جليسا صالحا ، فقال أبو الدرداء : لئن كنت صادقا لأنا أسعد بك منك ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية : " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " فقال : " أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ، ثم يدخل الجنة " ، ثم قرأ هذه الآية : " وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور " . [ ص: 422 ]
وقال عقبة بن صهبان سألت عائشة عن قول الله - عز وجل - : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) الآية ، فقالت : يا بني كلهم في الجنة ، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة ، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به ، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم ، فجعلت نفسها معنا .
وقال مجاهد ، والحسن ، وقتادة : فمنهم ظالم لنفسه وهم أصحاب المشئمة ، ومنهم مقتصد وهم أصحاب الميمنة ، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله هم السابقون المقربون من الناس كلهم .
وعن ابن عباس قال : السابق : المؤمن المخلص ، والمقتصد : المرائي ، والظالم : الكافر نعمة الله غير الجاحد لها ، لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال : " جنات عدن يدخلونها " .
وقال بعضهم : يذكر ذلك عن الحسن ، قال : السابق من رجحت حسناته على سيئاته ، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته ، والظالم من رجحت سيئاته على حسناته .
وقيل : الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه ، والمقتصد الذي يستوي ظاهره وباطنه ، والسابق الذي باطنه خير من ظاهره .
وقيل : الظالم من وحد الله بلسانه ولم يوافق فعله قوله ، والمقتصد من وحد الله بلسانه وأطاعه بجوارحه ، والسابق من وحد الله بلسانه وأطاعه بجوارحه وأخلص له عمله .
وقيل : الظالم التالي للقرآن ، والمقتصد القارئ له العالم به ، والسابق القارئ له العالم به العامل بما فيه .
وقيل : الظالم أصحاب الكبائر والمقتصد أصحاب الصغائر ، والسابق الذي لم يرتكب كبيرة ولا صغيرة .
وقال سهل بن عبد الله : السابق العالم ، والمقتصد المتعلم ، والظالم الجاهل .
قال جعفر الصادق : بدأ بالظالمين إخبارا بأنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه ، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء ، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء ، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره ، وكلهم في الجنة . [ ص: 423 ]
وقال أبو بكر الوراق : رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس ، لأن أحوال العبد ثلاثة : معصية وغفلة ثم توبة ثم قربة ، فإذا عصى دخل في حيز الظالمين ، وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين ، وإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عداد السابقين .
وقال بعضهم : المراد بالظالم الكافر ذكره الكلبي .
وقيل : المراد منه المنافق ، فعلى هذا لا يدخل الظالم في قوله : " جنات عدن يدخلونها " . وحمل هذا القائل الاصطفاء على الاصطفاء في الخلقة وإرسال الرسول إليهم وإنزال الكتاب والأول هو المشهور أن المراد من جميعهم المؤمنون ، وعليه عامة أهل العلم .
قوله : ( ومنهم سابق بالخيرات ) أي : سابق إلى الجنة ، أو إلى رحمة الله بالخيرات ، أي : بالأعمال الصالحات ) ( بإذن الله ) أي : أمر الله وإرادته ( ذلك هو الفضل الكبير ) يعني : إيراثهم الكتاب .
( جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ( 33 ) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ( 34 ) )
ثم أخبر بثوابهم فقال : ( جنات عدن يدخلونها ) يعني : الأصناف الثلاثة ، قرأ أبو عمرو " يدخلونها " بضم الياء وفتح الخاء ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الخاء ( يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ) ( وقالوا ) أي : ويقولون إذا دخلوا الجنة : ( الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ) والحزن والحزن واحد كالبخل والبخل . قال ابن عباس : أي حزن النار . وقال قتادة : حزن الموت . وقال مقاتل : حزنوا لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنع الله بهم . وقال عكرمة : حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات . وقال القاسم : حزن زوال النعم وتقليب القلب ، وخوف العاقبة ، وقيل : حزن أهوال يوم القيامة . وقال الكلبي : ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة . وقال سعيد بن جبير : هم الخبز في الدنيا . وقيل : هم المعيشة . وقال الزجاج : أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو لمعاد .
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الضحاك الخطيب ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرايني ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد الترابي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال : قال [ ص: 424 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في منشرهم ، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ، ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " .
قوله تعالى : ( إن ربنا لغفور شكور )
( الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب ( 35 ) والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ( 36 ) وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير ( 37 ) )
( الذي أحلنا ) أنزلنا ( دار المقامة ) أي : الإقامة ( من فضله لا يمسنا فيها نصب ) أي : لا يصيبنا فيها عناء ومشقة ( ولا يمسنا فيها لغوب ) إعياء من التعب . قوله تعالى : ( والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ) أي : لا يهلكون فيستريحوا كقوله - عز وجل - : " فوكزه موسى فقضى عليه " ( الشعراء - 15 ) ، أي : قتله . وقيل : لا يقضى عليهم الموت فيموتوا ، كقوله : " ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك " ( الزخرف - 77 ) ، أي : ليقض علينا الموت فنستريح ( ولا يخفف عنهم من عذابها ) من عذاب النار ( كذلك نجزي كل كفور ) كافر ، قرأ أبو عمرو : " يجزى " بالياء وضمها وفتح الزاي ، " كل " رفع على غير تسمية الفاعل ، وقرأ الآخرون بالنون وفتحها وكسر الزاي ، " كل " نصب . ( وهم يصطرخون ) يستغيثون ويصيحون ) ( فيها ) وهو : يفتعلون ، من الصراخ ، وهو الصياح ، يقولون : ( ربنا أخرجنا ) منها من النار ( نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ) في الدنيا من الشرك والسيئات ، فيقول الله لهم توبيخا : [ ص: 425 ] ( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ) قيل : هو البلوغ . وقال عطاء وقتادة والكلبي : ثمان عشرة سنة . وقال الحسن : أربعون سنة . وقال ابن عباس : ستون سنة ، يروي ذلك عن علي ، وهو العمر الذي أعذر الله تعالى إلى ابن آدم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد السلام بن مطهر ، حدثنا عمر بن علي ، عن معن بن محمد الغفاري ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أعذر الله تعالى إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا إبراهيم بن سهاويه ، حدثنا الحسن بن عرفة ، أخبرنا المحاربي عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين ، وأقلهم من يجوز ذلك " .
( وجاءكم النذير ) يعني : محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، هذا قول أكثر المفسرين . وقيل : القرآن . وقال عكرمة ، وسفيان بن عيينة ، ووكيع : هو الشيب . معناه أو لم نعمركم حتى شبتم . ويقال : الشيب نذير الموت . وفي الأثر : ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها : استعدي فقد قرب الموت .
( فذوقوا فما للظالمين من نصير )
ابو وليد البحيرى
2022-08-21, 11:56 PM
الحلقة (346)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ يس
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية13
( إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور ( 38 ) هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا ( 39 ) )
( إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ) أي : يخلف بعضكم بعضا ، وقيل : جعلكم أمة خلفت من قبلها . ورأت فيمن قبلها ، ما ينبغي أن تعتبر به . ( فمن كفر فعليه كفره ) أي : عليه وبال كفره [ ص: 426 ] ( ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ) غضبا ( ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا )
( قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا ( 40 ) إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا ( 41 ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا ( 42 ) )
( قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله ) أي : جعلتموهم شركائي بزعمكم يعني : الأصنام ( أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا ) قال مقاتل : هل أعطينا كفار مكة كتابا ( فهم على بينة منه ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وحفص : " بينة " على التوحيد ، وقرأ الآخرون : " بينات " على الجمع ، يعني دلائل واضحة منه مما في ذلك الكتاب من ضروب البيان .
( بل إن يعد ) أي : ما يعد ( الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا ) والغرور ما يغر الإنسان مما لا أصل له ، قال مقاتل : يعني ما يعد الشيطان كفار بني آدم من شفاعة الآلهة لهم في الآخرة غرور وباطل . قوله تعالى : ( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ) أي : كيلا تزولا ( ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ) أي : ما يمسكهما أحد من بعده ، أي : أحد سواه ( إنه كان حليما غفورا ) فإن قيل : فما معنى ذكر الحلم هاهنا ؟ قيل : لأن السماوات والأرض همت بما همت به من عقوبة الكفار فأمسكهما الله تعالى عن الزوال بحلمه وغفرانه أن يعاجلهم بالعقوبة . ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم ) يعني : كفار مكة لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم ، وأقسموا بالله وقالوا لو أتانا رسول لنكونن أهدى دينا منهم ، وذلك قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما بعث محمد كذبوه ، فأنزل الله - عز وجل - : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ) رسول ( ليكونن أهدى من إحدى الأمم ) [ ص: 427 ] يعني : من اليهود والنصارى ( فلما جاءهم نذير ) محمد - صلى الله عليه وسلم - ( ما زادهم إلا نفورا ) أي : ما زادهم مجيئه إلا تباعدا عن الهدى .
( استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ( 43 ) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا ( 44 ) ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا ( 45 ) )
( استكبارا في الأرض ) نصب " استكبارا " على البدل من النفور ( ومكر السيئ ) يعني : العمل القبيح ، أضيف المكر إلى صفته ، قال الكلبي : هو اجتماعهم على الشرك وقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقرأ حمزة : " مكر السيئ " ساكنة الهمزة تخفيفا ، وهي قراءة الأعمش ( ولا يحيق المكر السيئ ) أي : لا يحل ولا يحيط المكر السيئ ) ( إلا بأهله ) فقتلوا يوم بدر ، وقال ابن عباس : عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك . والمعنى : وبال مكرهم راجع إليهم ) ( فهل ينظرون ) ينتظرون ) ( إلا سنة الأولين ) إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مضى من الكفار ( فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه ) يعني : ليفوت عنه ( من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ) من الجرائم ( ما ترك على ظهرها ) يعني : على ظهر الأرض ، كناية عن غير مذكور ) ( من دابة ) كما كان في زمان نوح أهلك الله ما على ظهر الأرض إلا من كان في سفينة نوح ( ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يريد أهل طاعته وأهل معصيته .
سُورَةُ يس
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
) ( يس ( 1 ) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ( 2 ) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 3 ) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 4 ) )
( يس ) " وَن " قَرَأَ بِإِخْفَاءِ النُّونِ فِيهِمَا : ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ . قَالُونَ : يُخْفِي النُّونَ مِنْ " يس " وَيُظْهِرُ مِنْ " ن " ، وَالْبَاقُونَ يُظْهِرُونَ فِيهِمَا .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ ( يس ) حَسْبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي حُرُوفِ التَّهَجِّي ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - : هُوَ قَسَمٌ ، وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّ مَعْنَاهُ : يَا إِنْسَانُ بِلُغَةِ طَيْءٍ ، يَعْنِي : مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَجَمَاعَةٍ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : يَا رَجُلُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ : يَا سَيِّدَ الْبَشَرِ .
( وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ )
( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) أَقْسَمَ بِالْقُرْآنِ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالُوا : " لَسْتَ مُرْسَلًا " ( الْرَّعْدِ - 43 ( عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ، وَهُوَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَيْ : أَنَّهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَأَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
[ ص: 8 ] ( تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ( 5 ) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ( 6 ) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( 7 ) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ( 8 ) )
( تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَحَفْصٌ : " تَنْزِيلَ " بِنَصْبِ اللَّامِ كَأَنَّهُ قَالَ : نُزِّلَ تَنْزِيلًا ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ ، أَيْ : هُوَ تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ . ( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ ) قِيلَ : " مَا " لِلنَّفْيِ أَيْ : لَمْ يُنْذَرْ آبَاؤُهُمْ ؛ لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمْ يَأْتِهِمْ نَبِيٌّ قَبْلَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ : " مَا " بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ : لِتُنْذِرَ قَوْمًا بِالَّذِي أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ ، ( فَهُمْ غَافِلُونَ ) عَنِ الْإِيمَانِ وَالرُّشْدِ . ( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ ) وَجَبَ الْعَذَابُ ( عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) هَذَا كَقَوْلِهِ : " وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ " ( الزُّمَرِ - 71 ) . ( إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا ) نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَصَاحِبَيْهِ الْمَخْزُومِيَّ يْنِ ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ قَدْ حَلَفَ لَئِنْ رَأَى مُحَمَّدًا يُصَلِّي لَيَرْضَخَنَّ رَأْسَهُ ، فَأَتَاهُ وَهُوَ يُصَلِّي وَمَعَهُ حَجَرٌ لِيَدْمَغَهُ ، فَلَمَّا رَفَعَهُ أُثْبِتَتْ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ وَلَزِقَ الْحَجَرُ بِيَدِهِ ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا رَأَى سَقَطَ الْحَجَرُ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ : أَنَا أَقْتُلُهُ بِهَذَا الْحَجَرِ ، فَأَتَاهُ وَهُوَ يُصَلِّي لِيَرْمِيَهُ بِالْحَجَرِ ، فَأَعْمَى اللَّهُ - تَعَالَى - بَصَرَهُ ، فَجَعَلَ يَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا يَرَاهُ ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى نَادَوْهُ فَقَالُوا لَهُ : مَا صَنَعْتَ ؟ فَقَالَ : مَا رَأَيْتُهُ ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَهَ ، وَحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ كَهَيْئَةِ الْفَحْلِ يَخْطُرُ بِذَنَبِهِ ، لَوْ دَنَوْتُ مِنْهُ لَأَكَلَنِي ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : " إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا "
قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي : هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غِلٌّ ، أَرَادَ : مَنَعْنَاهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَوَانِعَ ، فَجَعَلَ الْأَغْلَالَ مَثَلًا لِذَلِكَ . قَالَ الْفَرَّاءُ : مَعْنَاهُ إِنَّا حَبَسْنَاهُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ " ( الْإِسْرَاءِ - 29 ) مَعْنَاهُ : لَا تُمْسِكْهَا عَنِ النَّفَقَةِ . [ ص: 9 ]
( فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ ) " هِيَ " كِنَايَةٌ عَنِ الْأَيْدِي - وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ - ؛ لِأَنَّ الْغِلَّ يَجْمَعُ الْيَدَ إِلَى الْعُنُقِ ، مَعْنَاهُ : إِنَّا جَعَلَنَا فِي أَيْدِيهِمْ وَأَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ ، ( فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) وَالْمُقْمَحُ : الَّذِي رُفِعَ رَأْسُهُ وَغُضَّ بَصَرُهُ . يُقَالُ : بَعِيرٌ قَامِحٌ إِذَا رَوَى مِنَ الْمَاءِ ، فَأَقْمَحَ إِذَا رَفَعَ رَأَسَهُ وَغَضَّ بَصَرَهُ . وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ : أَرَادَ أَنَّ أَيْدِيَهُمْ لَمَّا غُلَّتْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ رَفَعَتِ الْأَغْلَالُ أَذْقَانَهُمْ وَرُؤُسَهُمْ ، فَهُمْ مَرْفُوعُو الرُّؤُوسِ بِرَفْعِ الْأَغْلَالِ إِيَّاهَا .
( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ( 9 ) وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( 10 ) إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ( 11 ) إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ( 12 ) )
) ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ) : قرأ حمزة والكسائي وحفص : " سدا " بفتح السين ، وقرأ الآخرون بضمها . ) ( فأغشيناهم ) فأعميناهم ، من التغشية وهي التغطية ، ( فهم لا يبصرون ) سبيل الهدى .
( وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون )
( إنما تنذر من اتبع الذكر ) : يعني : إنما ينفع إنذارك من اتبع الذكر ، يعني القرآن ، فعمل بما فيه ، ( وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ) حسن ، وهو الجنة . ( إنا نحن نحيي الموتى ) : عند البعث ، ( ونكتب ما قدموا ) من الأعمال من خير وشر ، ) ( وآثارهم ) أي : ما سنوا من سنة حسنة أو سيئة .
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من سن في الإسلام سنة حسنة يعمل بها من بعده كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا " . [ ص: 10 ]
وقال قوم : قوله : " ونكتب ما قدموا وآثارهم " أي : خطاهم إلى المسجد .
روي عن أبي سعيد الخدري قال : شكت بنو سلمة بعد منازلهم من المسجد فأنزل الله تعالى : " ونكتب ما قدموا وآثارهم " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، حدثنا أبو سعيد محمد بن عيسى الصيرفي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا محمد بن هشام بن ملاس النميري ، حدثنا مروان الفزاري ، حدثنا حميد ، عن أنس - رضي الله عنه - قال : " أرادت بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تعرى المدينة ، فقال : يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم ؟ فأقاموا " .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا أبو أسامة عن يزيد بن عبد الله عن أبي بردة ، عن أبي موسى قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى ، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام " .
قوله تعالى ( وكل شيء أحصيناه ) حفظناه وعددناه وبيناه ، ( في إمام مبين ) وهو اللوح المحفوظ .
( واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون ( 13 ) )
قوله عز وجل : ( واضرب لهم مثلا أصحاب القرية ) يعني : اذكر لهم شبها مثل حالهم من قصة أصحاب القرية وهي أنطاكية ، ( إذ جاءها المرسلون ) يعني : رسل عيسى عليه الصلاة والسلام . [ ص: 11 ]
قال العلماء بأخبار الأنبياء : بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى أهل مدينة أنطاكية فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار ، صاحب يس فسلما عليه ، فقال الشيخ لهما : من أنتما ؟ فقالا : رسولا عيسى ، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن ، فقال : أمعكما آية ؟ قالا : نعم نحن نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ، فقال الشيخ : إن لي ابنا مريضا منذ سنين ، قالا : فانطلق بنا نطلع على حاله ، فأتى بهما إلى منزله ، فمسحا ابنه ، فقام في الوقت - بإذن الله - صحيحا ، ففشا الخبر في المدينة ، وشفى الله - تعالى - على أيديهما كثيرا من المرضى ، وكان لهم ملك - قال وهب : اسمه إنطيخس - وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام ، قالوا : فانتهى الخبر إليه فدعاهما ، فقال : من أنتما ؟ قالا : رسولا عيسى ، قال : وفيم جئتما ؟ قالا : ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر ، فقال : لكما إله دون آلهتنا ؟ قالا : نعم ، من أوجدك وآلهتك . قال : قوما حتى أنظر في أمركما ، فتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما في السوق .
قال وهب : بعث عيسى هذين الرجلين إلى أنطاكية ، فأتياها فلم يصلا إلى ملكها ، وطال مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا وذكرا الله ، فغضب الملك وأمر بهما فحبسا وجلد كل واحد منهما مائة جلدة . قالوا : فلما كذب الرسولان وضربا ، بعث عيسى رأس الحواريين شمعون الصفا على إثرهما لينصرهما ، فدخل شمعون البلد متنكرا ، فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به ، فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه فرضي عشرته وأنس به وأكرمه ، ثم قال له ذات يوم : أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك ، فهل كلمتهما وسمعت قولهما ؟ فقال الملك : حال [ ص: 12 ] الغضب بيني وبين ذلك . قال : فإن رأى الملك دعاهما حتى نطلع على ما عندهما ، فدعاهما الملك ، فقال لهما شمعون : من أرسلكما إلى هاهنا ؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك ، فقال لهما شمعون : [ فصفاه وأوجزا ، فقالا : إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فقال شمعون : وما آيتكما ؟ قالا : ما تتمناه ، فأمر الملك حتى جاءوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة ، فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر ، فأخذا بندقتين من الطين ، فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما ، فتعجب الملك ، فقال شمعون للملك : إن أنت سألت إلهك حتى يصنع صنعا مثل هذا فيكون لك الشرف ولإلهك . فقال الملك : ليس لي عنك سر إن إلهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر ، ولا يضر ولا ينفع ، وكان شمعون إذا دخل الملك على الصنم يدخل بدخوله ويصلي كثيرا ، ويتضرع حتى ظنوا أنه على ملتهم ، فقال الملك للرسولين : إن قدر إلهكم الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما ، قالا : إلهنا قادر على كل شيء ، فقال الملك : إن هاهنا ميتا مات منذ سبعة أيام : ابن لدهقان ، وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه ، وكان غائبا فجاؤوا بالميت وقد تغير وأروح فجعلا يدعوان ربهما علانية ، وجعل شمعون يدعو ربه سرا ، فقام الميت ، وقال : إني قد مت منذ سبعة أيام مشركا فأدخلت في سبعة أودية من النار ، وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله ، ثم قال : فتحت لي أبواب السماء فنظرت فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة ، قال الملك : ومن الثلاثة ؟ قال : شمعون وهذان وأشار إلى صاحبيه ، فتعجب الملك ، فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك أخبره بالحال ، ودعاه فآمن الملك وآمن قوم ، وكفر آخرون .
وقيل : إن ابنة للملك كانت قد توفيت ودفنت ، فقال شمعون للملك : اطلب من هذين الرجلين أن يحييا ابنتك ، فطلب منهما الملك ذلك فقاما وصليا ودعوا وشمعون معهما في السر ، فأحيا الله المرأة وانشق القبر عنها فخرجت ، وقالت : أسلموا فإنهما صادقان . قالت : ولا أظنكم تسلمون ، ثم طلبت من الرسولين أن يرداها إلى مكانها فذرا ترابا على رأسها وعادت إلى قبرها كما كانت .
وقال ابن إسحاق عن كعب ووهب : بل كفر الملك ، وأجمع هو وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبا ، وهو على باب المدينة الأقصى ، فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين ، فذلك قوله - عز وجل - :
ابو وليد البحيرى
2022-08-22, 12:01 AM
الحلقة (347)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ يس
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية40
( إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون ( 14 ) )
( إذ أرسلنا إليهم اثنين ) قال وهب : اسمهما يوحنا وبولس ، ( فكذبوهما فعززنا ) يعني : فقوينا ، ) ( بثالث ) برسول ثالث ، وهو شمعون ، وقرأ أبو بكر عن عاصم : " فعززنا " بالتخفيف وهو [ ص: 13 ] بمعنى الأول كقولك : شددنا وشددنا بالتخفيف والتثقيل ، وقيل : أي : فغلبنا من قولهم : من عز بز . وقال كعب : الرسولان : صادق وصدوق ، والثالث شلوم ، وإنما أضاف الله الإرسال إليه لأن عيسى - عليه السلام - إنما بعثهم بأمره تعالى ، ) ( فقالوا ) جميعا لأهل أنطاكية ، ( إنا إليكم مرسلون ) .
( قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون ( 15 ) قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ( 16 ) وما علينا إلا البلاغ المبين ( 17 ) قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم ( 18 ) قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون ( 19 ) وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتبعوا المرسلين ( 20 ) )
( قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون ) ما أنتم إلا كاذبون فيما تزعمون .
( قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون )
( وما علينا إلا البلاغ المبين )
( قالوا إنا تطيرنا بكم ) تشاءمنا بكم ، وذلك أن المطر حبس عنهم ، فقالوا : أصابنا هذا بشؤمكم ، ( لئن لم تنتهوا لنرجمنكم ) لنقتلنكم ، وقال قتادة : بالحجارة ( وليمسنكم منا عذاب أليم ) . ( قالوا طائركم معكم ) يعني : شؤمكم معكم بكفركم وتكذيبكم يعني : أصابكم الشؤم من قبلكم . وقال ابن عباس والضحاك : حظكم من الخير والشر ( أئن ذكرتم ) يعني : وعظتم بالله ، وهذا استفهام محذوف الجواب مجازه : إن ذكرتم ووعظتم بالله تطيرتم بنا . وقرأ أبو جعفر : " أن " بفتح الهمزة الملينة " ذكرتم " بالتخفيف ( بل أنتم قوم مسرفون ) مشركون مجاوزون الحد . قوله عز وجل : ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ) وهو حبيب النجار ، وقال السدي : كان قصارا ، وقال وهب : كان رجلا يعمل الحرير ، وكان سقيما قد أسرع فيه [ ص: 14 ] الجذام ، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة ، وكان مؤمنا ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيقسمه نصفين فيطعم نصفا لعياله ويتصدق بنصف ، فلما بلغه أن قومه قصدوا قتل الرسل جاءهم ( قال ياقوم اتبعوا المرسلين )
( اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ( 21 ) وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ( 22 ) أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون ( 23 ) إني إذا لفي ضلال مبين ( 24 ) )
( اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ) قال قتادة : كان حبيب في غار يعبد ربه فلما بلغه خبر الرسل أتاهم فأظهر دينه ، فلما انتهى حبيب إلى الرسل قال لهم : تسألون على هذا أجرا ؟ قالوا : لا ، فأقبل على قومه فقال : " يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون " ، فلما قال ذلك قالوا له : وأنت مخالف لديننا ومتابع دين هؤلاء الرسل ومؤمن بإلههم ؟ فقال : ( وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ) قرأ حمزة ويعقوب : " ما لي " بإسكان الياء ، والآخرون بفتحها . قيل : أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم ؛ لأن الفطرة أثر النعمة ، وكانت عليه أظهر ، وفي الرجوع معنى الزجر وكان بهم أليق .
وقيل : إنه لما قال : اتبعوا المرسلين ، أخذوه فرفعوه إلى الملك ، فقال له الملك : أفأنت تتبعهم ؟ فقال : " وما لي لا أعبد الذي فطرني " وأي شيء لي إذا لم أعبد الخالق ) ( وإليه ترجعون ) تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم . ( أأتخذ من دونه آلهة ) استفهام بمعنى الإنكار ، أي : لا أتخذ من دونه آلهة ، ( إن يردن الرحمن بضر ) بسوء ومكروه ، ( لا تغن عني ) لا تدفع عني ، ( شفاعتهم شيئا ) أي : لا شفاعة لها أصلا فتغني ) ( ولا ينقذون ) من ذلك المكروه . وقيل : لا ينقذون من العذاب لو عذبني الله إن فعلت ذلك . ( إني إذا لفي ضلال مبين ) خطأ ظاهر .
[ ص: 15 ] ( إني آمنت بربكم فاسمعون ( 25 ) قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون ( 26 ) بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ( 27 ) وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين ( 28 ) إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ( 29 ) )
) ( إني آمنت بربكم فاسمعون ) يعني : فاسمعوا مني ، فلما قال ذلك وثب القوم عليه وثبة رجل واحد فقتلوه .
قال ابن مسعود : وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره .
قال السدي : كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول : اللهم اهد قومي ، حتى قطعوه وقتلوه .
وقال الحسن : خرقوا خرقا في حلقة فعلقوه بسور من سور المدينة ، وقبره بأنطاكية فأدخله الله الجنة ، وهو حي فيها يرزق ، فذلك قوله عز وجل : ( قيل ادخل الجنة ) ، فلما أفضى إلى الجنة ( قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي ) يعني : بغفران ربي لي ، ( وجعلني من المكرمين ) تمنى أن يعلم قومه أن الله غفر له وأكرمه ؛ ليرغبوا في دين الرسل .
فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل لهم النقمة ، فأمر جبريل - عليه السلام - فصاح بهم صيحة واحدة ، فماتوا عن آخرهم ، فذلك قوله عز وجل : ( وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء ) يعني : الملائكة ، ( وما كنا منزلين ) وما كنا نفعل هذا ، بل الأمر في إهلاكهم كان أيسر مما يظنون .
وقيل : معناه " وما أنزلنا على قومه من بعده " أي : على قوم حبيب النجار من بعد قتله من جند ، وما كنا ننزلهم على الأمم إذا أهلكناهم ، كالطوفان والصاعقة والريح . ثم بين عقوبتهم فقال تعالى : ( إن كانت إلا صيحة واحدة ) ، وقرأ أبو جعفر : صيحة واحدة بالرفع ، جعل الكون بمعنى الوقوع . [ ص: 16 ]
قال المفسرون : أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة ، ثم صاح بهم صيحة واحدة ( فإذا هم خامدون ) ميتون .
( ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ( 30 ) ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون ( 31 ) وإن كل لما جميع لدينا محضرون ( 32 ) وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون ( 33 ) )
( ياحسرة على العباد ) قال عكرمة : يعني يا حسرتهم على أنفسهم ، والحسرة : شدة الندامة ، وفيه قولان : أحدهما : يقول الله تعالى : يا حسرة وندامة وكآبة على العباد يوم القيامة حين لم يؤمنوا بالرسل .
والآخر : أنه من قول الهالكين . قال أبو العالية : لما عاينوا العذاب قالوا : يا حسرة أي : ندامة على العباد ، يعني : على الرسل الثلاثة حيث لم يؤمنوا بهم ، فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم .
قال الأزهري : الحسرة لا تدعى ، ودعاؤها تنبيه المخاطبين . وقيل : العرب تقول : يا حسرتا ! ويا عجبا ! على طريق المبالغة ، والنداء عندهم بمعنى التنبيه ، فكأنه يقول : أيها العجب هذا وقتك ؟ وأيتها الحسرة هذا أوانك ؟
حقيقة المعنى : أن هذا زمان الحسرة والتعجب . ثم بين سبب الحسرة والندامة ، فقال : ( ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ) . ) ( ألم يروا ) ألم يخبروا ، يعني : أهل مكة ( كم أهلكنا قبلهم من القرون ) والقرن : أهل كل عصر ، سموا بذلك لاقترانهم في الوجود ( أنهم إليهم لا يرجعون ) أي : لا يعودون إلى الدنيا فلا يعتبرون بهم . ( وإن كل لما جميع ) قرأ عاصم وحمزة : " لما " بالتشديد هاهنا وفي الزخرف والطارق ، ووافق ابن عامر إلا في الزخرف ، ووافق أبو جعفر في الطارق ، وقرأ الآخرون بالتخفيف . فمن شدد جعل " إن " بمعنى الجحد ، " ولما " بمعنى إلا تقديره : وما كل إلا جميع ، ومن خفف جعل " إن " للتحقيق " وما " صلة مجازه : وكل جميع ( لدينا محضرون ) . ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها ) بالمطر ( وأخرجنا منها حبا ) يعني : الحنطة والشعير وما [ ص: 17 ] أشبههما ( فمنه يأكلون ) أي : من الحب .
( وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ( 34 ) ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ( 35 ) سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ( 36 ) وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ( 37 ) والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ( 38 ) )
( وجعلنا فيها جنات ) بساتين ، ( من نخيل وأعناب وفجرنا فيها ) في الأرض ، ( من العيون ) . ( ليأكلوا من ثمره ) أي : من الثمر الحاصل بالماء ( وما عملته ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : " عملت " بغير هاء ، وقرأ الآخرون " عملته " بالهاء أي : يأكلون من الذي عملته ) ( أيديهم ) الزرع والغرس فالهاء عائدة إلى " ما " التي بمعنى الذي . وقيل : " ما " للنفي في قوله " ما عملته " أي : وجدوها معمولة ولم تعملها أيديهم ولا صنع لهم فيها ، وهذا معنى قول الضحاك ومقاتل .
وقيل : أراد العيون والأنهار التي لم تعملها يد خلق مثل دجلة والفرات والنيل ونحوها .
) ( أفلا يشكرون ) نعمة الله . ( سبحان الذي خلق الأزواج كلها ) أي : الأصناف ( مما تنبت الأرض ) الثمار والحبوب ) ( ومن أنفسهم ) يعني : الذكور والإناث ( ومما لا يعلمون ) مما خلق من الأشياء من دواب البر والبحر ) ( وآية لهم ) تدل على قدرتنا ، ) ( الليل نسلخ ) ننزع ونكشط ( منه النهار فإذا هم مظلمون ) داخلون في الظلمة ، ومعناه : نذهب النهار ونجيء بالليل ، وذلك أن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل فتظهر الظلمة . ( والشمس تجري لمستقر لها ) أي : إلى مستقر لها ، أي : إلى انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وقيام الساعة .
وقيل : إنها تسير حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ، ثم ترجع فذلك مستقرها لأنها لا تجاوزه .
وقيل : مستقرها نهاية ارتفاعها في السماء في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " مستقرها تحت العرش " . [ ص: 18 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، حدثتا الحميدي ، حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر قال : سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قوله عز وجل : ( والشمس تجري لمستقر لها ) قال : " مستقرها تحت العرش " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا الحميدي ، أخبرنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر حين غربت الشمس : " أتدري أين تذهب " ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : " فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها ، فيقال لها : ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها ، فذلك قوله تعالى : ( والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ) .
وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس : " والشمس تجري لا مستقر لها " وهي قراءة ابن مسعود أي : لا قرار لها ولا وقوف فهي جارية أبدا ( ذلك تقدير العزيز العليم ) .
( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ( 39 ) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ( 40 ) )
( والقمر قدرناه منازل ) أي : قدرنا له منازل ، قرأ ابن كثير ونافع ، وأهل البصرة : " القمر " برفع الراء لقوله : " وآية لهم الليل نسلخ منه النهار " وقرأ الآخرون بالنصب لقوله : " قدرناه " أي : قدرنا القمر ) ( منازل ) وقد ذكرنا أسامي المنازل في سورة يونس فإذا صار القمر إلى آخر المنازل دق فذلك قوله : ( حتى عاد كالعرجون القديم ) والعرجون : [ عود العذق ] الذي عليه الشماريخ ، فإذا قدم وعتق يبس وتقوس واصفر فشبه القمر في دقته وصفرته في آخر المنازل به . ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ) أي : لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه ، ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه ، وهو قوله تعالى : ( ولا الليل سابق النهار ) أي : هما يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته . [ ص: 19 ]
وقيل : لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر ، لا تطلع الشمس بالليل ولا يطلع القمر بالنهار وله ضوء ، فإذا اجتمعا وأدرك كل واحد منهما صاحبه قامت القيامة .
وقيل : " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر " أي : لا تجتمع معه في فلك واحد ، " ولا الليل سابق النهار " أي : لا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار فاصل
( وكل في فلك يسبحون ) يجرون .
ابو وليد البحيرى
2022-08-22, 12:05 AM
الحلقة (348)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ يس
مَكِّيَّةٌ
الاية41 إلى الاية67
( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ( 41 ) وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ( 42 ) وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون ( 43 ) إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين ( 44 ) وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون ( 45 ) )
( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم ) قرأ أهل المدينة والشام ، ويعقوب : " ذرياتهم " جمع ، وقرأ الآخرون : " ذريتهم " على التوحيد ، فمن جمع كسر التاء ، ومن لم يجمع نصبها ، والمراد بالذرية : الآباء والأجداد ، واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد ( في الفلك المشحون ) أي : المملوء ، وأراد سفينة نوح عليه السلام ، وهؤلاء من نسل من حمل مع نوح ، وكانوا في أصلابهم . ( وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ) قيل : أراد به السفن الصغار التي عملت بعد سفينة نوح على هيئتها .
وقيل : أراد به السفن التي تجري في الأنهار فهي في الأنهار كالفلك الكبار في البحار ، وهذا قول قتادة ، والضحاك وغيرهما .
وروي عن ابن عباس أنه قال : " وخلقنا لهم من مثله ما يركبون " يعني : الإبل ، فالإبل في البر كالسفن في البحر . ( وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ ) أي : لا مغيث ( لهم ولا هم ينقذون ) ينجون من الغرق . وقال ابن عباس : ولا أحد ينقذهم من عذابي . ( إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين ) إلى انقضاء آجالهم - يعني - إلا أن يرحمهم ويمتعهم إلى آجالهم . ( وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم ) قال ابن عباس : " ما بين أيديكم " يعني الآخرة ، فاعملوا لها ، " وما خلفكم " يعني الدنيا ، فاحذروها ، ولا تغتروا بها .
وقيل : " ما بين أيديكم " وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم ، " وما خلفكم " عذاب الآخرة ، وهو قول قتادة ومقاتل . [ ص: 20 ]
( لعلكم ترحمون ) والجواب محذوف تقديره : إذا قيل لهم هذا أعرضوا عنه دليله ما بعده .
( وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ( 46 ) وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين ( 47 ) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( 48 ) ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون ( 49 ) )
( وما تأتيهم من آية من آيات ربهم ) أي : دلالة على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - ( إلا كانوا عنها معرضين ) . ( وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله ) أعطاكم الله ( قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم ) أنرزق ( من لو يشاء الله أطعمه ) وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة : أنفقوا على المساكين مما زعمتم من أموالكم أنه لله ، وهو ما جعلوا لله من حروثهم وأنعامهم ، قالوا : أنطعم : أنرزق من لو يشاء الله رزقه ، ثم لم يرزقه مع قدرته عليه ، فنحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله ، وهذا مما يتمسك به البخلاء ، يقولون : لا نعطي من حرمه الله . وهذا الذي يزعمون باطل ; لأن الله أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء ، فمنع الدنيا من الفقير لا بخلا ، وأمر الغني بالإنفاق لا حاجة إلى ماله ، ولكن ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له في مال الغني ، ولا اعتراض لأحد على مشيئة الله وحكمه في خلقه ( إن أنتم إلا في ضلال مبين ) يقول الكفار للمؤمنين : ما أنتم إلا في خطأ بين في اتباعكم محمدا - صلى الله عليه وسلم - وترك ما نحن عليه . ( ويقولون متى هذا الوعد ) أي : القيامة والبعث ( إن كنتم صادقين ) .
قال الله تعالى : ) ( ما ينظرون ) أي : ما ينتظرون ( إلا صيحة واحدة ) قال ابن عباس : يريد النفخة الأولى ( تأخذهم وهم يخصمون ) يعني : يختصمون في أمر الدنيا من البيع والشراء ، ويتكلمون في المجالس والأسواق .
قرأ حمزة : " يخصمون " بسكون الخاء وتخفيف الصاد ، أي : يغلب بعضهم بعضا بالخصام ، وقرأ الآخرون بتشديد الصاد ، أي : يختصمون . أدغمت التاء في الصاد ، ثم ابن كثير ويعقوب وورش يفتحون الخاء بنقل حركة التاء المدغمة إليها ، ويجزمها أبو جعفر وقالون ، ويروم فتحة الخاء أبو عمرو ، وقرأ الباقون بكسر الخاء . [ ص: 21 ]
وروينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمها " .
( فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ( 50 ) ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ( 51 ) قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ( 52 ) إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون ( 53 ) )
قوله عز وجل ( فلا يستطيعون توصية ) أي : لا يقدرون على الإيصاء . قال مقاتل : عجلوا عن الوصية فماتوا ( ولا إلى أهلهم يرجعون ) ينقلبون ، والمعنى أن الساعة لا تمهلهم لشيء . ( ونفخ في الصور ) وهي النفخة الأخيرة نفخة البعث ، وبين النفختين أربعون سنة ( فإذا هم من الأجداث ) يعني : القبور ، واحدها : جدث ( إلى ربهم ينسلون ) يخرجون من القبور أحياء ، ومنه قيل للولد : نسل لخروجه من بطن أمه .
( قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا ) قال أبي بن كعب ، وابن عباس ، وقتادة : إنما يقولون هذا ؛ لأن الله - تعالى - يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بعد النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة دعوا بالويل .
وقال أهل المعاني : إن الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار عذاب القبر في جنبها كالنوم ، فقالوا : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ؟ ثم قالوا : ( هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ) أقروا حين لم ينفعهم الإقرار . وقيل : قالت الملائكة لهم : " هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون " .
قال مجاهد : يقول الكفار : " من بعثنا من مرقدنا " ؟ فيقول المؤمنون : " هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون " . ) ( إن كانت ) ما كانت ( إلا صيحة واحدة ) يعني : النفخة الآخرة ( فإذا هم جميع لدينا محضرون ) .
[ ص: 22 ] ( فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ( 54 ) إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون ( 55 ) هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون ( 56 ) لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون ( 57 ) سلام قولا من رب رحيم ( 58 ) )
( فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ) .
( إن أصحاب الجنة اليوم في شغل ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " في شغل " بسكون الغين ، والباقون بضمها ، وهما لغتان مثل السحت والسحت .
واختلفوا في معنى الشغل ، قال ابن عباس : في افتضاض الأبكار ، وقال وكيع بن الجراح : في السماع .
وقال الكلبي : في شغل عن أهل النار وعما هم فيه لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم .
وقال الحسن : شغلوا بما في الجنة من النعيم عما فيه أهل النار من العذاب .
وقال ابن كيسان : في زيارة بعضهم بعضا . وقيل : في ضيافة الله تعالى .
) ( فاكهون ) قرأ أبو جعفر : " فكهون " حيث كان ، وافقه حفص في المطففين ، وهما لغتان مثل : الحاذر والحذر أي : ناعمون . قال : مجاهد والضحاك : معجبون بما هم فيه . وعن ابن عباس قال : فرحون .
( هم وأزواجهم ) أي : حلائلهم ( في ظلال ) قرأ حمزة والكسائي : " ظلل " بضم الظاء من غير ألف جمع ظلة ، وقرأ العامة : " في ظلال " بالألف وكسر الظاء على جمع ظل ) ( على الأرائك ) يعني السرر في الحجال ، واحدتها : أريكة . قال ثعلب : لا تكون أريكة حتى يكون عليها حجلة . ) ( متكئون ) ذوو اتكاء .
( لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون ) يتمنون ويشتهون .
( سلام قولا من رب رحيم ) أي : يسلم الله عليهم قولا أي : يقول الله لهم قولا .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق المؤذن ، حدثني أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى الملحمي [ ص: 23 ] الأصفهاني ، أخبرنا الحسن بن أبي علي الزعفراني ، أخبرنا ابن أبي الشوارب ، أخبرنا أبو عاصم العباداني ، أخبرنا الفضل الرقاشي ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الرب - عز وجل - قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة ، فذلك قوله : " سلام قولا من رب رحيم " فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم " .
وقيل : تسلم عليهم الملائكة من ربهم .
قال مقاتل : تدخل الملائكة على أهل الجنة من كل باب يقولون : سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم .
وقيل : يعطيهم السلامة ، يقول : اسلموا السلامة الأبدية .
( وامتازوا اليوم أيها المجرمون ( 59 ) ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين ( 60 ) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ( 61 ) ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ( 62 ) )
( وامتازوا اليوم أيها المجرمون ) قال مقاتل : اعتزلوا اليوم من الصالحين . قال أبو العالية : تميزوا . وقال السدي : كونوا على حدة . وقال الزجاج : انفردوا عن المؤمنين . قال الضحاك : إن لكل كافر في النار بيتا يدخل ذلك البيت ويردم بابه بالنار فيكون فيه أبد الآبدين لا يرى ولا يرى .
( ألم أعهد إليكم يا بني آدم ) ألم آمركم يا بني آدم ( أن لا تعبدوا الشيطان ) أي : لا تطيعوا الشيطان في معصية الله ( إنه لكم عدو مبين ) ظاهر العداوة .
( وأن اعبدوني ) أطيعوني ووحدوني ( هذا صراط مستقيم ) .
( ولقد أضل منكم جبلا كثيرا ) قرأ أهل المدينة ، وعاصم : " جبلا " بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وقرأ يعقوب : " جبلا " بضم الجيم والباء وتشديد اللام ، وقرأ ابن عامر ، وأبو عمرو بضم [ ص: 24 ] الجيم ساكنة الباء خفيفة ، وقرأ الآخرون بضم الجيم والباء خفيفة ، وكلها لغات ، ومعناها : الخلق والجماعة أي : خلقا كثيرا ( أفلم تكونوا تعقلون ) ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس ، ويقال لهم لما دنوا من النار .
( هذه جهنم التي كنتم توعدون ( 63 ) اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون ( 64 ) اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ( 65 ) )
( هذه جهنم التي كنتم توعدون ) بها في الدنيا ) ( اصلوها ) ادخلوها ( اليوم بما كنتم تكفرون اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) هذا حين ينكر الكفار كفرهم وتكذيبهم الرسل ، فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن عمرو بن حفصويه السرخسي ، سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة ، أخبرنا أبو يزيد حاتم بن محبوب ، أخبرنا عبد الجبار بن العلاء ، أخبرنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : " هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحاب " ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : " فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة " ؟ قالوا : لا ، قال : " فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤية أحدهما " ، قال : " فيلقى العبد فيقول : أي عبدي ألم أكرمك ؟ ألم أسودك ألم أزوجك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك تترأس وتتربع ؟ قال : بلى يا رب ، قال : فظننت أنك ملاقي ؟ قال : لا ، قال : فاليوم أنساك كما نسيتني . قال : فيلقى الثاني فيقول : ألم أكرمك ، ألم أسودك ، ألم أزوجك ، ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك تترأس وتتربع ؟ - وقال غيره عن سفيان : ترأس وتربع في الموضعين - قال : فيقول : بلى يا رب ، فيقول : ظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا يا رب قال : فاليوم أنساك كما نسيتني . ثم يلقى الثالث فيقول ؟ ما أنت ؟ فيقول : أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع قال : فيقال له : ألم نبعث عليك شاهدنا ؟ قال : فيتفكر في نفسه من الذي يشهد علي فيختم على فيه ، ويقال لفخذه : انطقي قال : فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل ، وذلك المنافق ؛ وذلك ليعذر من نفسه وذلك الذي سخط الله عليه " .
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أخبرنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، أخبرنا عبد الرزاق ، [ ص: 25 ] أخبرنا معمر ، عن بهز بن حكيم بن معاوية ، عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنكم تدعون فيفدم على أفواهكم بالفدام فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكفه "
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج ، أخبرنا أبو بكر بن أبي النضر ، حدثني هاشم بن القاسم ، أخبرنا عبد الله الأشجعي ، عن سفيان الثوري ، عن عبيد المكتب ، عن فضيل ، عن الشعبي ، عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك فقال : " هل تدرون مم أضحك " ؟ قال : قلنا الله ورسوله أعلم ، قال : " من مخاطبة العبد ربه " يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ قال : فيقول : بلى ، قال : فيقول : فإني لا أجير على نفسي إلا شاهدا مني ، قال : فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا ، قال : فيختم على فيه ، فيقال لأركانه : انطقي قال : فتنطق بأعماله ، قال : ثم يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول : بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل "
( ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون ( 66 ) ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون ( 67 ) )
قوله عز وجل : ( ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ) [ أي : أذهبنا أعينهم ] الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق ، وهو معنى الطمس كما قال الله عز وجل : " ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم " ( البقرة - 20 ) يقول : كما أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة ( فاستبقوا الصراط ) فتبادروا إلى الطريق ( فأنى يبصرون ) فكيف يبصرون [ وقد أعمينا أعينهم ؟ يعني : لو نشاء لأضللناهم عن الهدى ، وتركناهم عميا يترددون ، فكيف يبصرون ] الطريق حينئذ ؟ هذا قول الحسن والسدي . وقال ابن عباس ، وقتادة ، ومقاتل ، وعطاء : معناه لو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم فأعميناهم عن غيهم ، وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم ( فأنى يبصرون ) ولم أفعل ذلك بهم ؟
( ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم ) يعني : مكانهم : يريد : لو نشاء لجعلناهم قردة وخنازير [ ص: 26 ] في منازلهم ، وقيل : لو نشاء لجعلناهم حجارة ، وهم قعود في منازلهم لا أرواح لهم . ( فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون ) إلى ما كانوا عليه ، وقيل : لا يقدرون على ذهاب ولا رجوع
ابو وليد البحيرى
2022-08-22, 12:09 AM
الحلقة (349)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ يس
مَكِّيَّةٌ
الاية68 إلى الاية/
( ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون ( 68 ) وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ( 69 ) )
( ومن نعمره ننكسه في الخلق ) قرأ عاصم وحمزة : " ننكسه " بالتشديد ، وقرأ الآخرون بفتح النون الأولى وضم الكاف مخففا ، أي : نرده إلى أرذل العمر شبه الصبي في أول الخلق .
وقيل : " ننكسه في الخلق " أي : نضعف جوارحه بعد قوتها ونردها إلى نقصانها بعد زيادتها . ( أفلا يعقلون ) فيعتبروا ويعلموا أن الذي قدر على تصريف أحوال الإنسان يقدر على البعث بعد الموت .
قوله تعالى : ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ) قال الكلبي : إن كفار مكة قالوا : إن محمدا شاعر ، وما يقوله شعر ، فأنزل الله تكذيبا لهم : ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ) أي : ما يتسهل له ذلك ، وما كان يتزن له بيت من شعر ، حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسرا .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد الثقفي ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتمثل بهذا البيت :
كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا
فقال أبو بكر : يا رسول الله إنما قال الشاعر :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا ، فقال أبو بكر وعمر : أشهد أنك رسول الله ، يقول الله تعالى : ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له )
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد ، حدثنا شريك ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه قال : قلت لعائشة : أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة . [ ص: 27 ]
قالت : وربما قال :
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقال معمر عن قتادة : بلغني أن عائشة سئلت : هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان الشعر أبغض الحديث إليه ، قالت : ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بني قيس طرفة :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل يقول : " ويأتيك من لم تزود بالأخبار " فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : ليس هكذا يا رسول الله ، فقال : " إني لست بشاعر ولا ينبغي لي " .
) ( إن هو ) يعني : القرآن ) ( إلا ذكر ) موعظة ( وقرآن مبين ) فيه الفرائض والحدود والأحكام .
( لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ( 70 ) أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون ( 71 ) وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ( 72 ) )
( لينذر ) قرأ أهل المدينة والشام ويعقوب " لتنذر " بالتاء ، وكذلك في الأحقاف ، وافق ابن كثير في الأحقاف أي : لتنذر يا محمد ، وقرأ الآخرون بالياء أي لينذر القرآن ( من كان حيا ) يعني : مؤمنا حي القلب ; لأن الكافر كالميت في أنه لا يتدبر ولا يتفكر ( ويحق القول ) ويجب حجة العذاب ) ( على الكافرين ) .
قوله عز وجل : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا ) تولينا خلقه بإبداعنا من غير إعانة أحد ( أنعاما فهم لها مالكون ) ضابطون قاهرون ، أي : لم يخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها ، بل هي مسخرة لهم .
وهي قوله : ( وذللناها لهم ) سخرناها لهم ( فمنها ركوبهم ) أي : ما يركبون وهي الإبل ( ومنها يأكلون ) من لحمانها .
[ ص: 28 ] ) ( ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون ( 73 ) واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون ( 74 ) لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون ( 75 ) فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ( 76 ) أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ( 77 ) )
( ولهم فيها منافع ) من أصوافها وأوبارها وأشعارها ونسلها ) ( ومشارب ) من ألبانها ( أفلا يشكرون ) رب هذه النعم .
( واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون ) يعني : لتمنعهم من عذاب الله ، ولا يكون ذلك قط .
( لا يستطيعون نصرهم ) قال ابن عباس : لا تقدر الأصنام على نصرهم ومنعهم من العذاب . ( وهم لهم جند محضرون ) أي : الكفار جند للأصنام يغضبون لها ويحضرونها في الدنيا ، وهي لا تسوق إليهم خيرا ، ولا تستطيع لهم نصرا . وقيل : هذا في الآخرة ، يؤتى بكل معبود من دون الله - تعالى - ومعه أتباعه الذين عبدوه كأنهم جند محضرون في النار .
( فلا يحزنك قولهم ) يعني : قول كفار مكة في تكذيبك ( إنا نعلم ما يسرون ) في ضمائرهم من التكذيب ( وما يعلنون ) من عبادة الأصنام أو ما يعلنون بألسنتهم من الأذى .
قوله تعالى : ( أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم ) جدل بالباطل ) ( مبين ) بين الخصومة ، يعني : أنه مخلوق من نطفة ثم يخاصم فكيف لا يتفكر في بدء خلقه حتى يدع الخصومة .
نزلت في أبي بن خلف الجمحي خاصم النبي - صلى الله عليه وسلم - في إنكار البعث ، وأتاه بعظم قد بلي ففتته بيده ، وقال : أترى يحيي الله هذا بعدما رم ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " نعم ويبعثك ويدخلك النار " فأنزل الله هذه الآيات .
[ ص: 29 ] ( وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ( 78 ) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ( 79 ) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ( 80 ) أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم ( 81 ) إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ( 82 ) )
( وضرب لنا مثلا ونسي خلقه ) بدء أمره ، ثم ( قال من يحيي العظام وهي رميم ) بالية ، ولم يقل رميمة ; لأنه معدول عن فاعلة ، وكل ما كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفا عن أخواته ، كقوله : " وما كانت أمك بغيا " ( مريم - 28 ) ، أسقط الهاء لأنها كانت مصروفة عن باغية .
( قل يحييها الذي أنشأها ) خلقها ، ( أول مرة وهو بكل خلق عليم ) .
( الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا ) قال ابن عباس : هما شجرتان يقال لأحدهما : المرخ وللأخرى : العفار ، فمن أراد منهم النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء ، فيسحق المرخ على العفار فيخرج منهما النار بإذن الله - عز وجل - .
تقول العرب : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار ، وقال الحكماء : في كل شجر نار إلا العناب . ( فإذا أنتم منه توقدون ) أي : تقدحون وتوقدون النار من ذلك الشجر ، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان ، فقال :
( أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر ) قرأ يعقوب : " يقدر " بالياء على الفعل ( على أن يخلق مثلهم بلى ) أي : قل : بلى ، هو قادر على ذلك ( وهو الخلاق ) [ يخلق خلقا بعد خلق ] ، ) ( العليم ) بجميع ما خلق .
[ ص: 30 ] ( فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ( 83 ) )
( فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون )
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو الطاهر الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، حدثنا علي بن الحسين الدرابجردي ، حدثنا عبد الله بن عثمان ، أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان - وليس بالنهدي - عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اقرؤوا على موتاكم سورة يس " . ورواه محمد بن العلاء عن ابن المبارك ، وقال : عن أبي عثمان - وليس بالنهدي - عن أبيه عن معقل بن يسار .
[ ص: 31 ] [ ص: 32 ] [ ص: 33 ] سُورَةُ الصَّافَّاتِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ( 1 ) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ( 2 ) )
) ( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ : هُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ يَصُفُّونَ كَصُفُوفِ الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا لِلصَّلَاةِ .
أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَاشَانِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْهَاشِمِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ اللُّؤْلُؤِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ : سَأَلَتْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشَ عَنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ فِي الصُّفُوفِ الْمُقَدِّمَةِ فَحَدَّثْنَا عَنِ الْمُسَيِّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ " ؟ قُلْنَا : وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ؟ قَالَ : " يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْمُقَدَّمَةَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ " .
وَقِيلَ : هُمُ الْمَلَائِكَةُ تَصُفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ وَاقِفَةً حَتَّى يَأْمُرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِمَا يُرِيدُ .
وَقِيلَ : هِيَ الطُّيُورُ ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ " ( النُّورِ - 41 ) .
قَوْلُهُ تَعَالَى ( فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ) يَعْنِي : الْمَلَائِكَةُ تَزْجُرُ السَّحَابَ وَتَسُوقُهُ ، وَقَالَ قَتَادَةُ : هِيَ زَوَاجِرُ الْقُرْآنِ تَنْهَى وَتَزْجُرُ عَنِ الْقَبَائِحِ .
[ ص: 34 ] ( فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ( 3 ) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ( 4 ) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ( 5 ) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ( 6 ) )
( فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ) هُمُ الْمَلَائِكَةُ يَتْلُونَ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَقِيلَ : هُمْ جَمَاعَةُ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ ، وَهَذَا كُلُّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ، وَمَوْضِعُ الْقِسْمِ قَوْلُهُ : ( إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ) وَقِيلَ : فِيهِ إِضْمَارٌ ، أَيْ : وَرَبِّ الصَّافَّاتِ وَالزَّاجِرَاتِ وَالتَّالِيَاتِ ، وَذَلِكَ أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ قَالُوا : " أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا " ؟ فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِهَؤُلَاءِ : " إِنَّ إِلَهَكُمْ لِوَاحِدٌ " .
) ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ) أَيْ : مَطَالِعِ الشَّمْسِ قِيلَ : أَرَادَ بِهِ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ ، كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : " فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ " ( الْمَعَارِجِ - 40 )
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ : " بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ " ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : " رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ " ( الرَّحْمَنِ - 17 ) وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : " رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ " ( الْمُزَّمِّلِ - 9 ) ، فَكَيْفَ وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ ؟
قِيلَ : أَمَّا قَوْلُهُ : " رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ " ، أَرَادَ بِهِ الْجِهَةَ ، فَالْمُشْرِقُ جِهَةٌ وَالْمَغْرِبُ جِهَةٌ .
وَقَوْلُهُ : " رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ " أَرَادَ : مَشْرِقَ الشِّتَاءِ وَمَشْرِقَ الصَّيْفِ ، وَأَرَادَ بِالْمَغْرِبَيْ نِ : مَغْرِبَ الشِّتَاءِ وَمَغْرِبَ الصَّيْفِ .
وَقَوْلُهُ : " بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ " أَرَادَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّهُ خَلَقَ لِلشَّمْسِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ كُوَّةً فِي الْمَشْرِقِ ، وَثَلَاثَمِائَة ٍ وَسِتِّينَ كُوَّةً فِي الْمَغْرِبِ ، عَلَى عَدَدِ أَيَّامِ السَّنَةِ ، تَطْلُعُ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ كُوَّةٍ مِنْهَا ، وَتَغْرُبُ فِي كُوَّةٍ مِنْهَا ، لَا تَرْجِعُ إِلَى الْكُوَّةِ الَّتِي تَطْلُعُ مِنْهَا إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ ، فَهِيَ الْمَشَارِقُ وَالْمَغَارِبُ ، وَقِيلَ : كُلُّ مَوْضِعٍ شَرَقَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَهُوَ مَشْرِقٌ وَكُلُّ مَوْضِعٍ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَهُوَ مَغْرِبٌ ، كَأَنَّهُ أَرَادَ رَبَّ جَمِيعِ مَا أَشْرَقَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ . ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ )
قَرَأَ عَاصِمٌ بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ : " بِزِينَةٍ " مُنَوَّنَةً " الْكَوَاكِبَ " نُصِبَ ، أَيْ : بِتَزْيِينِنَا الْكَوَاكِبَ ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ ، وَحَفْصٌ : " بِزِينَةٍ " مُنَوَّنَةً " الْكَوَاكِبِ " خَفْضًا عَلَى الْبَدَلِ ، أَيْ : بِزِينَةٍ بِالْكَوَاكِبِ ، أَيْ : زَيَّنَّاهَا بِالْكَوَاكِبِ . وَقَرَأَ الْآخَرُونَ : " بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ " بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى الْإِضَافَةِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بِضَوْءِ الْكَوَاكِبِ .
ابو وليد البحيرى
2022-08-22, 12:15 AM
الحلقة (350)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الصَّافَّاتِ
مَكِّيَّةٌ
الاية7 إلى الاية59
[ ص: 35 ] ( وحفظا من كل شيطان مارد ( 7 ) لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب ( 8 ) دحورا ولهم عذاب واصب ( 9 ) إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ( 10 ) فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب ( 11 ) )
( وحفظا ) أي : وحفظناها حفظا ( من كل شيطان مارد ) متمرد يرمون بها . ( لا يسمعون ) قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص : " يسمعون " بتشديد السين والميم ، أي : لا يتسمعون ، فأدغمت التاء في السين ، وقرأ الآخرون بسكون السين وتخفيف الميم ، ( إلى الملإ الأعلى ) أي : إلى الكتبة من الملائكة .
" والملأ الأعلى " هم الملائكة ؛ لأنهم في السماء ، ومعناه : أنهم لا يستطيعون الاستماع إلى الملأ الأعلى ، ) ( ويقذفون ) يرمون ، ( من كل جانب ) من آفاق السماء بالشهب . ) ( دحورا ) يبعدونهم عن مجالس الملائكة ، يقال : دحره دحرا ودحورا ، إذا طرده وأبعده ، ( ولهم عذاب واصب )
دائم ، قال مقاتل : دائم إلى النفخة الأولى ، لأنهم يحرقون ويتخبلون . ( إلا من خطف الخطفة ) اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقة ، ) ( فأتبعه ) لحقه ، ( شهاب ثاقب )
كوكب مضيء قوي لا يخطئه ، يقتله ، أو يحرقه أو يخبله ، وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعا في السلامة ونيل المراد ، كراكب البحر . قال عطاء : سمي النجم الذي يرمى به الشياطين ثاقبا لأنه يثقبهم .
) ( فاستفتهم ) أي : سلهم ، يعني : أهل مكة ، ( أهم أشد خلقا أم من خلقنا ) يعني : من السماوات والأرض والجبال ، وهذا استفهام بمعنى التقرير ، أي : هذه الأشياء أشد خلقا كما قال : " لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس " ( غافر - 57 ) وقال : " أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها " ( النازعات - 27 ) .
وقيل : " أم من خلقنا " يعني : من الأمم الخالية ؛ لأن " من " يذكر فيمن يعقل ، يقول : إن هؤلاء ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم ، وقد أهلكناهم بذنوبهم فما الذي يؤمن هؤلاء من العذاب ؟ ثم ذكر خلق الإنسان ، فقال :
( إنا خلقناهم من طين لازب ) يعني : جيد حر لاصق يعلق باليد ، ومعناه اللازم ، أبدل الميم باء كأنه يلزم اليد . وقال مجاهد والضحاك : منتن .
[ ص: 36 ] ( بل عجبت ويسخرون ( 12 ) وإذا ذكروا لا يذكرون ( 13 ) وإذا رأوا آية يستسخرون ( 14 ) وقالوا إن هذا إلا سحر مبين ( 15 ) )
( بل عجبت ) قرأ حمزة ، والكسائي : بضم التاء ، وهي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس . والعجب من الله - عز وجل - ليس كالتعجب من الآدميين ، كما قال : " فيسخرون منهم سخر الله منهم " ( التوبة - 79 ) ، وقال عز وجل : " نسوا الله فنسيهم " ( التوبة - 67 ) ، فالعجب من الآدميين : إنكاره وتعظيمه ، والعجب من الله - تعالى - قد يكون بمعنى الإنكار والذم ، وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما جاء في الحديث : " عجب ربكم من شاب ليست له صبوة " .
وجاء في الحديث : " عجب ربكم من سؤالكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم "
وسئل الجنيد عن هذه الآية فقال : إن الله لا يعجب من شيء ، ولكن الله وافق رسوله لما عجب رسوله فقال : " وإن تعجب فعجب قولهم " ( الرعد - 5 ) أي : هو كما تقوله .
وقرأ الآخرون بفتح التاء على خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي : عجبت من تكذيبهم إياك ، ) ( ويسخرون ) من تعجبك .
قال قتادة : عجب النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا القرآن حين أنزل وضلال بني آدم ، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يظن أن كل من يسمع القرآن يؤمن به ، فلما سمع المشركون القرآن سخروا منه ولم يؤمنوا به ، فعجب من ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال الله تعالى : " بل عجبت ويسخرون " .
( وإذا ذكروا لا يذكرون ) أي : إذا وعظوا بالقرآن لا يتعظون .
( وإذا رأوا آية ) قال ابن عباس ومقاتل : يعني انشقاق القمر ) ( يستسخرون ) يسخرون ويستهزءون ، وقيل : يستدعي بعضهم عن بعض السخرية .
( وقالوا إن هذا إلا سحر مبين ) يعني سحر بين .
[ ص: 37 ] ) ( أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ( 16 ) أوآباؤنا الأولون ( 17 ) قل نعم وأنتم داخرون ( 18 ) فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون ( 19 ) وقالوا ياويلنا هذا يوم الدين ( 20 ) هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ( 21 ) احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون ( 22 ) من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم ( 23 ) وقفوهم إنهم مسئولون ( 24 ) )
( أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون )
( أوآباؤنا الأولون ) أي : وآباؤنا الأولون .
( قل نعم ) تبعثون ، ( وأنتم داخرون ) صاغرون ، والدخور أشد الصغار .
( فإنما هي ) أي : قصة البعث أو القيامة ، ) ( زجرة ) أي : صيحة ، ) ( واحدة ) يعني : نفخة البعث ، ( فإذا هم ينظرون ) أحياء .
( وقالوا ياويلنا هذا يوم الدين ) أي : يوم الحساب ويوم الجزاء .
( هذا يوم الفصل ) يوم القضاء ، وقيل : يوم الفصل بين المحسن والمسيء ، ( الذي كنتم به تكذبون ) .
( احشروا الذين ظلموا ) أي : أشركوا ، اجمعوهم إلى الموقف للحساب والجزاء ، ) ( وأزواجهم ) أشباههم وأتباعهم وأمثالهم .
قال قتادة والكلبي : كل مع عمل مثل عملهم ، فأهل الخمر مع أهل الخمر ، وأهل الزنا مع أهل الزنا .
وقال الضحاك ومقاتل : قرناءهم من الشياطين ، كل كافر مع شيطانه في سلسلة . وقال الحسن : وأزواجهم المشركات .
( وما كانوا يعبدون من دون الله ) في الدنيا ، يعني : الأوثان والطواغيت . وقال : مقاتل : يعني إبليس وجنوده ، واحتج بقوله : " أن لا تعبدوا الشيطان " ( يس - 60 ) .
( فاهدوهم إلى صراط الجحيم ) قال ابن عباس : دلوهم إلى طريق النار . وقال ابن كيسان : قدموهم . والعرب تسمي السابق هاديا .
) ( وقفوهم ) احبسوهم ، يقال : وقفته وقفا فوقف وقوفا .
قال المفسرون : لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط لأن السؤال عند الصراط ، فقيل : [ ص: 38 ] وقفوهم ( إنهم مسئولون ) قال ابن عباس : عن جميع أقوالهم وأفعالهم .
وروي عنه : عن : لا إله إلا الله .
وفي الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربعة أشياء : عن شبابه فيما أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل به " .
( ما لكم لا تناصرون ( 25 ) بل هم اليوم مستسلمون ( 26 ) وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ( 27 ) قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ( 28 ) قالوا بل لم تكونوا مؤمنين ( 29 ) )
( ما لكم لا تناصرون ) أي : لا تتناصرون ، يقال لهم توبيخا : ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا ، يقول لهم خزنة النار . هذا جواب لأبي جهل حين قال يوم بدر : " نحن جميع منتصر " ( القمر - 44 ) .
فقال الله تعالى : ( بل هم اليوم مستسلمون ) قال ابن عباس : خاضعون . وقال الحسن : منقادون ، يقال : استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع له ، والمعنى : هم اليوم أذلاء منقادون لا حيلة لهم .
( وأقبل بعضهم على بعض ) أي : الرؤساء والأتباع ) ( يتساءلون ) يتخاصمون .
) ( قالوا ) أي : الأتباع للرؤساء ، ( إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ) أي : من قبل الدين فتضلوننا عنه وتروننا أن الدين ما تضلوننا به ، قاله الضحاك . وقال مجاهد : عن الصراط الحق ، واليمين عبارة عن الدين والحق ، كما أخبر الله - تعالى - عن إبليس : " ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم " ( الأعراف - 17 ) فمن أتاه الشيطان من قبل اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق .
وقال بعضهم : كان الرؤساء يحلفون لهم أن ما يدعونهم إليه هو الحق ، فمعنى قوله : " تأتوننا عن اليمين " أي : من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها فوثقنا بها .
وقيل : " عن اليمين " أي : عن القوة والقدرة ، كقوله : " لأخذنا منه باليمين " ( الحاقة - 45 ) ، والمفسرون على القول الأول .
) ( قالوا ) يعني : الرؤساء للأتباع ، ( بل لم تكونوا مؤمنين ) لم تكونوا على الحق فنضلكم عنه ، أي : إنما الكفر من قبلكم .
[ ص: 39 ] ) ( وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين ( 30 ) فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون ( 31 ) فأغويناكم إنا كنا غاوين ( 32 ) فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون ( 33 ) إنا كذلك نفعل بالمجرمين ( 34 ) إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ( 35 ) ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون ( 36 ) بل جاء بالحق وصدق المرسلين ( 37 ) إنكم لذائقو العذاب الأليم ( 38 ) وما تجزون إلا ما كنتم تعملون ( 39 ) إلا عباد الله المخلصين ( 40 ) أولئك لهم رزق معلوم ( 41 ) )
( وما كان لنا عليكم من سلطان ) من قوة وقدرة فنقهركم على متابعتنا ، ( بل كنتم قوما طاغين ) ضالين .
) ( فحق ) وجب ، ) ( علينا ) جميعا ، ) ( قول ربنا ) يعني : كلمة العذاب ، وهي قوله : " لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " ( السجدة - 13 ) ( إنا لذائقون ) العذاب ، أي أن الضال والمضل جميعا في النار .
) ( فأغويناكم ) فأضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا عليه ) ( إنا كنا غاوين ) ضالين . قال الله - عز وجل - : ( فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون ) الرؤساء والأتباع .
( إنا كذلك نفعل بالمجرمين ) قال ابن عباس : الذين جعلوا لله شركاء .
( إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ) يتكبرون عن كلمة التوحيد ، ويمتنعون منها . ( ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون ) يعنون النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال الله - عز وجل - ردا عليهم : ) ( بل جاء ) محمد ، ( بالحق وصدق المرسلين ) أي : أنه أتى بما أتى به المرسلون قبله .
( إنكم لذائقو العذاب الأليم وما تجزون إلا ما كنتم تعملون ) في الدنيا من الشرك .
( إلا عباد الله المخلصين ) الموحدين .
( أولئك لهم رزق ) يعني : بكرة وعشيا كما قال : " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " ( مريم - 62 ) .
[ ص: 40 ] ( فواكه وهم مكرمون ( 42 ) في جنات النعيم ( 43 ) على سرر متقابلين ( 44 ) يطاف عليهم بكأس من معين ( 45 ) بيضاء لذة للشاربين ( 46 ) لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ( 47 ) وعندهم قاصرات الطرف عين ( 48 ) كأنهن بيض مكنون ( 49 ) )
( فواكه ) جمع الفاكهة ، وهي الثمار كلها رطبها ويابسها ، وهي كل طعام يؤكل للتلذذ لا للقوت ، ( وهم مكرمون ) بثواب الله .
) ( في جنات النعيم على سرر متقابلين ) لا يرى بعضهم قفا بعض .
( يطاف عليهم بكأس ) إناء فيه شراب ولا يكون كأسا حتى يكون فيه شراب ، وإلا فهو إناء ، ( من معين ) خمر جارية في الأنهار ظاهرة تراها العيون .
) ( بيضاء ) قال الحسن : خمر الجنة أشد بياضا من اللبن ، ) ( لذة ) أي : لذيذة ، ) ( للشاربين ) . ( لا فيها غول ) قال الشعبي : لا تغتال عقولهم فتذهب بها . قال الكلبي : إثم . وقال قتادة : وجع البطن . وقال الحسن : صداع .
وقال أهل المعاني : " الغول " فساد يلحق في خفاء ، يقال : اغتاله اغتيالا إذا أفسد عليه أمره في خفية ، وخمرة الدنيا يحصل منها أنواع من الفساد منها السكر وذهاب العقل ، ووجع البطن ، والصداع ، والقيء ، والبول ، ولا يوجد شيء من ذلك في خمر الجنة .
( ولا هم عنها ينزفون ) قرأ حمزة والكسائي : " ينزفون " بكسر الزاي ، وافقهما عاصم في الواقعة ، وقرأ الآخرون بفتح الزاي فيهما ، فمن فتح الزاي فمعناه : لا يغلبهم على عقولهم ولا يسكرون يقال : نزف الرجل فهو منزوف ونزيف إذا سكر ، ومن كسر الزاي فمعناه : لا ينفد شرابهم ، يقال : أنزف الرجل فهو منزوف ، إذا فنيت خمره .
( وعندهم قاصرات الطرف ) حابسات الأعين غاضات الجفون ، قصرن أعينهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم ، ) ( عين ) أي : حسان الأعين ، يقال : رجل أعين وامرأة عيناء ونساء عين .
( كأنهن بيض ) جمع البيضة ) ( مكنون ) مصون مستور ، وإنما ذكر " المكنون والبيض " جمعا ؛ لأنه رده إلى اللفظ .
قال الحسن : شبههن ببيض النعامة تكنها بالريش من الريح والغبار ، فلونها أبيض في صفرة . ويقال : هذا أحسن ألوان النساء أن تكون المرأة بيضاء مشربة صفرة ، والعرب تشبهها ببيضة النعامة .
[ ص: 41 ] ( فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ( 50 ) قال قائل منهم إني كان لي قرين ( 51 ) يقول أئنك لمن المصدقين ( 52 ) أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون ( 53 ) قال هل أنتم مطلعون ( 54 ) فاطلع فرآه في سواء الجحيم ( 55 ) قال تالله إن كدت لتردين ( 56 ) ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ( 57 ) أفما نحن بميتين ( 58 ) إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين ( 59 ) )
) ( فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) يعني : أهل الجنة في الجنة يسأل بعضهم بعضا عن حاله في الدنيا .
( قال قائل منهم ) يعني : من أهل الجنة : ( إني كان لي قرين ) في الدنيا ينكر البعث .
قال مجاهد : كان شيطانا . وقال الآخرون : كان من الإنس . وقال مقاتل : كانا أخوين . وقال الباقون : كانا شريكين أحدهما كافر اسمه قطروس ، والآخر مؤمن اسمه يهوذا ، وهما اللذان قص الله - تعالى - خبرهما في سورة الكهف في قوله تعالى : " واضرب لهم مثلا رجلين " ( الكهف - 32 ) .
( يقول أئنك لمن المصدقين ) بالبعث .
( أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون ) مجزيون ومحاسبون وهذا استفهام إنكار .
) ( قال ) الله تعالى لأهل الجنة : ( هل أنتم مطلعون ) إلى النار ، وقيل : يقول المؤمن لإخوانه من أهل الجنة : هل أنتم مطلعون إلى النار لننظر كيف منزلة أخي ، فيقول أهل الجنة : أنت أعرف به منا .
) ( فاطلع ) قال ابن عباس : إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار فاطلع هذا المؤمن ، ( فرآه في سواء الجحيم ) فرأى قرينه في وسط النار ، وإنما سمي وسط الشيء سواء لاستواء الجوانب منه .
) ( قال ) له : ( تالله إن كدت لتردين ) والله لقد كدت أن تهلكني . قال مقاتل : والله لقد كدت أن تغويني ، ومن أغوى إنسانا فقد أهلكه .
( ولولا نعمة ربي ) رحمته وإنعامه علي بالإسلام ، ( لكنت من المحضرين ) معك في النار .
( أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى ) في الدنيا ( وما نحن بمعذبين ) قال بعضهم : يقول هذا أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت : أفما نحن بميتين ؟ فتقول لهم الملائكة : لا .
ابو وليد البحيرى
2022-09-09, 12:20 AM
الحلقة (351)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الصَّافَّاتِ
مَكِّيَّةٌ
الاية60 إلى الاية156
[ ص: 42 ] ( إن هذا لهو الفوز العظيم ( 60 ) لمثل هذا فليعمل العاملون ( 61 ) أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم ( 62 ) إنا جعلناها فتنة للظالمين ( 63 ) إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ( 64 ) طلعها كأنه رءوس الشياطين ( 65 ) فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ( 66 ) )
فيقولون ( إن هذا لهو الفوز العظيم ) وقيل : إنما يقولونه على جهة الحديث بنعمة الله عليهم في أنهم لا يموتون ولا يعذبون . وقيل : يقوله المؤمن لقرينه على جهة التوبيخ بما كان ينكره .
قال الله تعالى : ( لمثل هذا فليعمل العاملون ) أي : لمثل هذا المنزل ولمثل هذا النعيم الذي ذكره من قوله : " أولئك لهم رزق معلوم " إلى " فليعمل العاملون " .
) ( أذلك ) أي : ذلك الذي ذكر لأهل الجنة ، ( خير نزلا أم شجرة الزقوم ) التي هي نزل أهل النار ، والزقوم : ثمرة شجرة خبيثة مرة كريهة الطعم ، يكره أهل النار على تناولها ، فهم يتزقمونه على أشد كراهية ، ومنه قولهم : تزقم الطعام إذا تناوله على كره ومشقة .
( إنا جعلناها فتنة للظالمين ) الكافرين وذلك أنهم قالوا : كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر ؟ وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش : إن محمدا يخوفنا بالزقوم ، والزقوم بلسان بربر : الزبد والتمر ، فأدخلهم أبو جهل بيته وقال : يا جارية زقمينا ، فأتتهم بالزبد والتمر ، فقال : تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمد .
فقال الله تعالى : ( إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ) قعر النار ، قال الحسن : أصلها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها .
) ( طلعها ) ثمرها سمي طلعا لطلوعه ، ( كأنه رءوس الشياطين ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : هم الشياطين بأعيانهم شبه بها لقبحها ؛ لأن الناس إذا وصفوا شيئا بغاية القبح قالوا : كأنه شيطان ، وإن كانت الشياطين لا ترى لأن قبح صورتها متصور في النفس ، وهذا معنى قول ابن عباس والقرظي . وقال بعضهم : أراد بالشياطين الحيات ، والعرب تسمي الحية القبيحة المنظر شيطانا .
وقيل : هي شجرة قبيحة مرة منتنة تكون في البادية تسميها العرب رءوس الشياطين .
( فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ) والملء : حشو الوعاء لا يحتمل الزيادة عليه . [ ص: 43 ]
( ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم ( 67 ) ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم ( 68 ) إنهم ألفوا آباءهم ضالين ( 69 ) فهم على آثارهم يهرعون ( 70 ) ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ( 71 ) ولقد أرسلنا فيهم منذرين ( 72 ) فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ( 73 ) إلا عباد الله المخلصين ( 74 ) ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ( 75 ) ونجيناه وأهله من الكرب العظيم ( 76 ) )
( وجعلنا ذريته هم الباقين ( 77 ) )
( ثم إن لهم عليها لشوبا ) خلطا ومزاجا ( من حميم ) من ماء حار شديد الحرارة ، يقال لهم إذا أكلوا الزقوم : اشربوا عليه الحميم ، فيشوب الحميم في بطونهم الزقوم فيصير شوبا لهم .
( ثم إن مرجعهم ) بعد شرب الحميم ، ( لإلى الجحيم ) وذلك أنهم يوردون الحميم لشربه وهو خارج من الحميم كما تورد الإبل الماء ، ثم يردون إلى الجحيم ، دل عليه قوله تعالى : " يطوفون بينها وبين حميم آن " ( الرحمن - 44 ) وقرأ ابن مسعود : ( ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم ) .
( إنهم ألفوا ) وجدوا ، ( آباءهم ضالين ) . ( فهم على آثارهم يهرعون ) يسرعون ، قال الكلبي : يعملون مثل أعمالهم .
( ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ) من الأمم الخالية .
( ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ) الكافرين أي : كان عاقبتهم العذاب .
( إلا عباد الله المخلصين ) الموحدين نجوا من العذاب .
قوله عز وجل : ( ولقد نادانا نوح ) دعا ربه على قومه فقال : " إني مغلوب فانتصر " ( القمر - 10 ) ( فلنعم المجيبون ) نحن ، يعني : أجبنا دعاءه وأهلكنا قومه .
( ونجيناه وأهله من الكرب العظيم ) [ الغم العظيم ] الذي لحق قومه وهو الغرق .
( وجعلنا ذريته هم الباقين ) وأراد أن الناس كلهم من نسل نوح .
روى الضحاك عن ابن عباس قال : لما خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم . [ ص: 44 ]
قال سعيد بن المسيب : كان ولد نوح ثلاثة : ساما وحاما ويافث ، فسام أبو العرب وفارس والروم ، وحام أبو السودان ، ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك .
( وتركنا عليه في الآخرين ( 78 ) سلام على نوح في العالمين ( 79 ) إنا كذلك نجزي المحسنين ( 80 ) إنه من عبادنا المؤمنين ( 81 ) ثم أغرقنا الآخرين ( 82 ) وإن من شيعته لإبراهيم ( 83 ) إذ جاء ربه بقلب سليم ( 84 ) إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون ( 85 ) أئفكا آلهة دون الله تريدون ( 86 ) فما ظنكم برب العالمين ( 87 ) فنظر نظرة في النجوم ( 88 ) فقال إني سقيم ( 89 ) )
( وتركنا عليه في الآخرين ) أي : أبقينا له ثناء حسنا وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة .
( سلام على نوح في العالمين ) أي : سلام عليه منا في العالمين ] وقيل : أي تركنا عليه في الآخرين أن يصلى عليه إلى يوم القيامة .
( إنا كذلك نجزي المحسنين ) قال مقاتل : جزاه الله بإحسانه الثناء الحسن في العالمين . ( إنه من عبادنا المؤمنين ثم أغرقنا الآخرين ) [ يعني الكفار ] .
قوله تعالى ( وإن من شيعته ) أي : أهل دينه وسنته . ) ( لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم ) مخلص من الشرك والشك .
( إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون ) استفهام توبيخ .
( أئفكا آلهة دون الله تريدون ) يعني : أتأفكون إفكا وهو أسوأ الكذب وتعبدون آلهة سوى الله .
( فما ظنكم برب العالمين ) - إذ لقيتموه وقد عبدتم غيره - أنه يصنع بكم .
( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) قال ابن عباس : كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه ، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة ، وكان لهم من الغد عيد ومجمع ، وكانوا يدخلون على أصنامهم [ ويقربون لهم القرابين ] ، ويصنعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم - زعموا - للتبرك عليه فإذا [ ص: 45 ] انصرفوا من عيدهم أكلوه ، فقالوا لإبراهيم : ألا تخرج غدا معنا إلى عيدنا ؟ فنظر إلى النجوم فقال : إني سقيم . قال ابن عباس : مطعون ، وكانوا يفرون من الطاعون فرارا عظيما . قال الحسن : مريض . وقال مقاتل : وجع . وقال الضحاك : سأسقم .
( فتولوا عنه مدبرين ( 90 ) فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ( 91 ) ما لكم لا تنطقون ( 92 ) فراغ عليهم ضربا باليمين ( 93 ) فأقبلوا إليه يزفون ( 94 ) قال أتعبدون ما تنحتون ( 95 ) والله خلقكم وما تعملون ( 96 ) قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم ( 97 ) فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين ( 98 ) )
) ( فتولوا عنه مدبرين ) إلى عيدهم ، فدخل إبراهيم على الأصنام فكسرها . كما قال الله تعالى : ( فراغ إلى آلهتهم ) مال إليها ميلة في خفية ، ولا يقال : " راغ " حتى يكون صاحبه مخفيا لذهابه ومجيئه ، ) ( فقال ) استهزاء بها : ( ألا تأكلون ) يعني : الطعام الذي بين أيديكم .
( ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ) مال عليهم ، ( ضربا باليمين ) أي : كان يضربهم بيده اليمنى ؛ لأنها أقوى على العمل من الشمال . وقيل : باليمين أي : بالقوة . وقيل : أراد به القسم الذي سبق منه وهو قوله : " وتالله لأكيدن أصنامكم " ( الأنبياء - 57 ) .
( فأقبلوا إليه ) يعني : إلى إبراهيم ) ( يزفون ) يسرعون ، وذلك أنهم أخبروا بصنيع إبراهيم بآلهتهم فأسرعوا إليه ليأخذوه .
قرأ الأعمش وحمزة : " يزفون " بضم الياء وقرأ الآخرون بفتحها ، وهما لغتان . وقيل : بضم الياء ، أي : يحملون دوابهم على الجد والإسراع .
) ( قال ) لهم إبراهيم على وجه الحجاج : ( أتعبدون ما تنحتون ) يعني : ما تنحتون بأيديكم .
( والله خلقكم وما تعملون ) بأيديكم من الأصنام ، وفيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى .
( قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم ) معظم النار ، قال مقاتل : بنوا له حائطا من الحجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا ، وعرضه عشرون ذراعا ، وملئوه من الحطب وأوقدوا فيه النار وطرحوه فيها .
( فأرادوا به كيدا ) شرا وهو أن يحرقوه ، ( فجعلناهم الأسفلين ) أي : المقهورين حيث سلم الله تعالى إبراهيم ورد كيدهم . [ ص: 46 ]
( وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين ( 99 ) رب هب لي من الصالحين ( 100 ) فبشرناه بغلام حليم ( 101 ) فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( 102 ) )
( وقال ) - يعني - إبراهيم : ( إني ذاهب إلى ربي ) أي : مهاجر إلى ربي ، والمعنى : أهجر دار الكفر وأذهب إلى مرضاة ربي ، قاله بعد الخروج من النار ، كما قال : " إني مهاجر إلى ربي " ( العنكبوت - 26 ) ، ) ( سيهدين ) إلى حيث أمرني بالمصير إليه ، وهو الشام .
قال مقاتل : فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال : ( رب هب لي من الصالحين ) يعني : هب لي ولدا صالحا من الصالحين .
( فبشرناه بغلام حليم ) قيل : غلام في صغره ، حليم في كبره ، ففيه بشارة أنه ابن وأنه يعيش فينتهي في السن حتى يوصف بالحلم .
( فلما بلغ معه السعي ) قال ابن عباس وقتادة : يعني المشي معه إلى الجبل . وقال مجاهد عن ابن عباس : لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم والمعنى : بلغ أن يتصرف معه ويعينه في عمله . قال الكلبي : يعني العمل لله تعالى ، وهو قول الحسن ومقاتل بن حيان وابن زيد ، قالوا : هو العبادة لله تعالى .
واختلفوا في سنه ، قيل : كان ابن ثلاث عشرة سنة . وقيل : كان ابن سبع سنين .
( قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك ) واختلف العلماء من المسلمين في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم بذبحه بعد اتفاق أهل الكتابين على أنه إسحاق ، فقال قوم : هو إسحاق وإليه ذهب من الصحابة : عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، ومن التابعين وأتباعهم : كعب الأحبار ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومسروق ، وعكرمة ، وعطاء ، ومقاتل ، والزهري ، والسدي ، وهي رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقالوا : كانت هذه القصة بالشام .
وروي عن سعيد بن جبير قال : أري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام ، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بمنى ، فلما أمره الله تعالى بذبح الكبش ، ذبحه وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة وطويت له الأودية والجبال .
وقال آخرون : هو إسماعيل ، وإليه ذهب عبد الله بن عمر ، وهو قول سعيد بن المسيب ، والشعبي ، والحسن البصري ، ومجاهد ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن كعب القرظي ، والكلبي ، وهي رواية عطاء بن أبي رباح ، ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال : المفدى إسماعيل .
وكلا القولين يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ذهب إلى أن الذبيح إسحاق احتج من القرآن بقوله : " فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي " ( الصافات - 101 ) أمره بذبح من بشره به ، وليس في القرآن أنه بشر بولد سوى إسحاق ، كما قال في سورة هود : " فبشرناها بإسحاق " ( هود - 71 ) . [ ص: 47 ]
ومن ذهب إلى أنه إسماعيل احتج بأن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق بعد الفراغ من قصة المذبوح فقال : " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين " ( الصافات - 112 ) دل على أن المذبوح غيره ، وأيضا قال الله - تعالى - في سورة هود : " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " ( هود - 71 ) فكما بشره بإسحاق بشره بابنه يعقوب ، فكيف يأمره بذبح إسحاق وقد وعده بنافلة منه .
قال القرظي : سأل عمر بن عبد العزيز رجلا كان من علماء اليهود أسلم وحسن إسلامه : أي ابني إبراهيم أمر بذبحه ؟ فقال : إسماعيل ، ثم قال : يا أمير المؤمنين إن اليهود لتعلم ذلك ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله - تعالى - بذبحه ، ويزعمون أنه إسحاق .
ومن الدليل عليه : أن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج .
قال الشعبي : رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة .
وعن ابن عباس قال : والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة ، قد وحش يعني يبس .
قال الأصمعي : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل ؟ فقال : يا صميع أين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة ؟ إنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه .
وأما قصة الذبح قال السدي : لما دعا إبراهيم فقال : رب هب لي من الصالحين ، وبشر به ، قال : هو إذا لله ذبيح ، فلما ولد وبلغ معه السعي قيل له : أوف بنذرك ، هذا هو السبب في أمر الله تعالى إياه بذبح ابنه ، فقال عند ذلك لإسحاق : انطلق فقرب قربانا لله - تعالى - فأخذ سكينا وحبلا وانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال ، فقال له الغلام : يا أبت أين قربانك ؟ فقال : " يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر " . [ ص: 48 ]
وقال محمد بن إسحاق : كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ، ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام ، حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي ، وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته ، أمر في المنام أن يذبحه ، وذلك أنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح روي في نفسه أي : فكر من الصباح إلى الرواح ، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان ؟ فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأى في المنام ثانيا ، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله - عز وجل - ، فمن ثم سمي يوم عرفة .
قال مقاتل : رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متواليات ، فلما تيقن ذلك أخبر به ابنه ، فقال : " يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى " .
قرأ حمزة والكسائي : " ترى " بضم التاء وكسر الراء : ماذا تشير . وإنما أمره ليعلم صبره على أمر الله تعالى ، وعزيمته على طاعته .
وقرأ العامة بفتح التاء والراء إلا أبا عمرو فإنه يميل الراء .
قال له ابنه : ( ياأبت افعل ما تؤمر ) وقال ابن إسحاق وغيره : فلما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه : يا بني خذ الحبل والمدية ننطلق إلى هذا الشعب نحتطب ، فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما أمر ، ( قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) .
( فلما أسلما وتله للجبين ( 103 ) )
( فلما أسلما ) انقادا وخضعا لأمر الله - تعالى - قال قتادة : أسلم إبراهيم ابنه وأسلم الابن نفسه ، ( وتله للجبين ) أي : صرعه على الأرض . قال ابن عباس : أضجعه على جبينه على الأرض والجبهة بين الجبينين ، قالوا : فقال له ابنه الذي أراد ذبحه : يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب ، واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء فينقص أجري وتراه أمي فتحزن ، واشحذ شفرتك ، وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي فإن الموت شديد ، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني ، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل ، فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني ، فقال له إبراهيم عليه السلام : نعم العون أنت يا بني على أمر الله ، ففعل إبراهيم ما أمر به ابنه ، ثم أقبل عليه فقبله وقد ربطه وهو يبكي والابن - أيضا - يبكي ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تحك السكين . [ ص: 49 ]
ويروى أنه كان يجر الشفرة في حلقه فلا تقطع ، فشحذها مرتين أو ثلاثة بالحجر ، كل ذلك لا تستطيع .
قال السدي : ضرب الله - تعالى - صفحة من نحاس على حلقه قالوا : فقال الابن عند ذلك : يا أبت كبني لوجهي على جبيني فإنك إذا نظرت في وجهي رحمتني وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله تعالى ، وإني لا أنظر إلى الشفرة فأجزع ، ففعل ذلك إبراهيم ثم وضع الشفرة على قفاه فانقلبت السكين ونودي : أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا .
وروى أبو هريرة عن كعب الأحبار وابن إسحاق عن رجاله قال : لما رأى إبراهيم ذبح ابنه قال الشيطان : لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لا أفتن منهم أحدا أبدا ، فتمثل له الشيطان رجلا وأتى أم الغلام ، فقال لها : هل تدرين أين ذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت : ذهب به يحتطبان من هذا الشعب ، قال : لا والله ما ذهب به إلا ليذبحه ، قالت : كلا هو أرحم به وأشد حبا له من ذلك ، قال : إنه يزعم أن الله قد أمره بذلك ، قالت : فإن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربه ، فخرج الشيطان من عندها حتى أدرك الابن وهو يمشي على إثر أبيه ، فقال له : يا غلام هل تدري أين يذهب بك أبوك ؟ قال : نحتطب لأهلنا من هذا الشعب ، قال : والله ما يريد إلا أن يذبحك ، قال : ولم ؟ قال : زعم أن ربه أمره بذلك ، قال : فليفعل ما أمره به ربه فسمعا وطاعة ، فلما امتنع منه الغلام أقبل على إبراهيم - عليه السلام - فقال له : أين تريد أيها الشيخ ؟ قال : أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه ، قال : والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ابنك هذا ، فعرفه إبراهيم - عليه السلام - فقال : إليك عني يا عدو الله فوالله لأمضين لأمر ربي ، فرجع إبليس بغيظه لم يصب من إبراهيم وآله شيئا مما أراد ، قد امتنعوا منه بعون الله تعالى .
وروى أبو الطفيل عن ابن عباس : أن إبراهيم لما أمر بذبح ابنه عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم ، ثم ذهب إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم مضى إبراهيم لأمر الله - عز وجل - .
قال الله عز وجل : " فلما أسلما وتله للجبين " .
[ ص: 50 ] ) ( وناديناه أن يا إبراهيم ( 104 ) قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ( 105 ) إن هذا لهو البلاء المبين ( 106 ) وفديناه بذبح عظيم ( 107 ) )
( وناديناه ) الواو في " وناديناه " مقحمة صلة ، مجازه : ناديناه كقوله : " وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه " ( يوسف - 15 ) أي : أوحينا إليه ، فنودي من الجبل : ( أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ) ، تم الكلام هاهنا . ثم ابتدأ فقال : ( إنا كذلك نجزي المحسنين ) والمعنى : إنا كما عفونا إبراهيم عن ذبح ولده نجزي من أحسن في طاعتنا . قال مقاتل : جزاه الله بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه .
( إن هذا لهو البلاء المبين ) الاختيار الظاهر حيث اختبره بذبح ابنه . وقال مقاتل : البلاء هاهنا : النعمة ، وهي أن فدي ابنه بالكبش .
فإن قيل : كيف قال : صدقت الرؤيا ، وكان قد رأى الذبح ولم يذبح ؟ .
قيل : جعله مصدقا لأنه قد أتى بما أمكنه ، والمطلوب إسلامهما لأمر الله - تعالى - وقد فعلا .
وقيل : كان قد رأى في النوم معالجة الذبح ولم ير إراقة الدم ، وقد فعل في اليقظة ما رأى في النوم ، فلذلك قال له : " قد صدقت الرؤيا " .
( وفديناه بذبح عظيم ) فنظر إبراهيم فإذا هو بجبريل ومعه كبش أملح أقرن ، فقال : هذا فداء لابنك فاذبحه دونه ، فكبر جبريل ، وكبر الكبش ، وكبر ابنه ، فأخذ إبراهيم الكبش فأتى به المنحر من منى فذبحه .
قال أكثر المفسرين : كان ذلك الكبش رعى في الجنة أربعين خريفا .
وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الذي قربه ابن آدم هابيل .
قال سعيد بن جبير : حق له أن يكون عظيما . قال مجاهد : سماه عظيما ؛ لأنه متقبل . وقال الحسين بن الفضل : لأنه كان من عند الله . وقيل : عظيم في الشخص . وقيل : في الثواب . [ ص: 51 ]
وقال الحسن : ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير .
( وتركنا عليه في الآخرين ( 108 ) سلام على إبراهيم ( 109 ) كذلك نجزي المحسنين ( 110 ) إنه من عبادنا المؤمنين ( 111 ) وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ( 112 ) وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ( 113 ) ولقد مننا على موسى وهارون ( 114 ) ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ( 115 ) ونصرناهم فكانوا هم الغالبين ( 116 ) وآتيناهما الكتاب المستبين ( 117 ) وهديناهما الصراط المستقيم ( 118 ) وتركنا عليهما في الآخرين ( 119 ) سلام على موسى وهارون ( 120 ) إنا كذلك نجزي المحسنين ( 121 ) إنهما من عبادنا المؤمنين ( 122 ) )
( وتركنا عليه في الآخرين ) أي : تركنا له في الآخرين ثناء حسنا .
( سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ) فمن جعل الذبيح إسماعيل قال : بشره بعد هذه القصة بإسحاق نبيا جزاء لطاعته ، ومن جعل الذبيح إسحاق قال : بشر إبراهيم بنبوة إسحاق . رواه عكرمة عن ابن عباس . قال : بشر به مرتين حين ولد وحين نبئ .
( وباركنا عليه ) يعني : على إبراهيم في أولاده ، ( وعلى إسحاق ) بكون أكثر الأنبياء من نسله ، ( ومن ذريتهما محسن ) أي : مؤمن ، ) ( وظالم لنفسه ) أي : كافر ، ) ( مبين ) ظاهر .
قوله تعالى : ( ولقد مننا على موسى وهارون ) أنعمنا عليهما بالنبوة .
( ونجيناهما وقومهما ) بني إسرائيل ، ( من الكرب العظيم ) أي : الغم العظيم وهو الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم . وقيل : من الغرق .
( ونصرناهم ) يعني : موسى وهارون وقومهما ، ( فكانوا هم الغالبين ) على القبط . ( وآتيناهما الكتاب المستبين ) أي : المستنير وهو التوراة .
يتبع
ابو وليد البحيرى
2022-09-09, 12:21 AM
الحلقة (352)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الصَّافَّاتِ
مَكِّيَّةٌ
الاية60 إلى الاية156
( وهديناهما الصراط المستقيم وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون إنا كذلك نجزي المحسنين إنهما من عبادنا المؤمنين ) .
[ ص: 52 ] ( وإن إلياس لمن المرسلين ( 123 ) )
قوله تعالى : ) ( وإن إلياس لمن المرسلين ) روي عن عبد الله بن مسعود قال : إلياس هو إدريس . وفي مصحفه : وإن إدريس لمن المرسلين . وهذا قول عكرمة .
وقال الآخرون : هو نبي من أنبياء بني إسرائيل .
قال ابن عباس : هو ابن عم اليسع .
قال محمد بن إسحاق : هو إلياس بن بشر بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران .
وقال أيضا محمد بن إسحاق ، والعلماء من أصحاب الأخبار : لما قبض الله عز وجل حزقيل النبي - صلى الله عليه وسلم - عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشرك ، ونصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله ، فبعث الله - عز وجل - إليهم إلياس نبيا وكانت الأنبياء من بني إسرائيل يبعثون بعد موسى بتجديد ما نسوا من التوراة ، وبنو إسرائيل كانوا متفرقين في أرض الشام ، وكان سبب ذلك أن يوشع بن نون لما فتح الشام بوأها بني إسرائيل وقسمها بينهم ، فأحل سبطا منهم ببعلبك ونواحيها ، وهم السبط الذين كان منهم إلياس فبعثه الله - تعالى - إليهم نبيا ، وعليهم يومئذ ملك يقال له : آجب قد أضل قومه وأجبرهم على عبادة الأصنام ، وكان يعبد هو وقومه صنما يقال له : بعل ، وكان طوله عشرين ذراعا وله أربعة وجوه ، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله - عز وجل - وهم لا يسمعون منه شيئا إلا ما كان من أمر الملك فإنه صدقه وآمن به فكان إلياس يقوم أمره ويسدده ويرشده ، وكان لآجب الملك هذا امرأة يقال لها : أزبيل وكان يستخلفها على رعيته إذا غاب عنهم في غزاة أو غيرها ، وكانت تبرز للناس وتقضي بين الناس ، وكانت قتالة للأنبياء ، يقال : هي التي قتلت يحيى بن زكريا عليهما السلام ، وكان لها كاتب رجل مؤمن حكيم يكتم إيمانه ، وكان قد خلص من يدها ثلاثمائة نبي كانت تريد قتل كل واحد منهم إذا بعث سوى الذين قتلتهم ، وكانت في نفسها غير محصنة ، وكانت قد تزوجت سبعة من ملوك بني إسرائيل ، وقتلت كلهم بالاغتيال وكانت معمرة يقال إنها ولدت سبعين ولدا وكان لآجب هذا جار رجل صالح يقال له مزدكي ، وكانت له جنينة يعيش منها ، ويقبل على عمارتها ومرمتها وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته ، وكانا يشرفان على تلك الجنينة يتنزهان فيها ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها ، وكان آجب الملك يحسن جوار صاحبها مزدكي ، ويحسن إليه ، وامرأته أزبيل تحسده لأجل تلك الجنينة ، وتحتال أن تغصبها منه لما تسمع الناس يكثرون ذكرها ويتعجبون من حسنها ، وتحتال أن تقتله والملك ينهاها عن ذلك ولا تجد عليه سبيلا ، ثم إنه اتفق خروج الملك إلى سفر بعيد وطالت غيبته فاغتنمت امرأته أزبيل ذلك فجمعت جمعا من الناس [ ص: 53 ] وأمرتهم أن يشهدوا على مزدكي أنه سب زوجها آجب فأجابوها إليه ، وكان في حكمهم في ذلك الزمان القتل على من سب الملك إذا قامت عليه البينة ، فأحضرت مزدكي وقالت له : بلغني أنك شتمت الملك فأنكر مزدكي ، فأحضرت الشهود فشهدوا عليه بالزور ، فأمرت بقتله وأخذت جنينته ، فغضب الله عليهم للعبد الصالح ، فلما قدم الملك من سفره أخبرته الخبر ، فقال لها : ما أصبت ولا أرانا نفلح بعده ، فقد جاورنا منذ زمان فأحسنا جواره وكففنا عنه الأذى لوجوب حقه علينا ، فختمت أمره بأسوأ الجوار ، فقالت : إنما غضبت لك وحكمت بحكمك ، فقال لها : أوما كان يسعه حلمك فتحفظين له جواره ؟ قالت : قد كان ما كان ، فبعث الله تعالى إلياس إلى آجب الملك وقومه ، وأمره أن يخبرهم أن الله تعالى قد غضب لوليه حين قتلوه ظلما ، وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ولم يردا الجنينة على ورثة مزدكي أن يهلكهما - يعني آجب وامرأته - في جوف الجنينة ، ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى تتعرى عظامهما من لحومهما ، ولا يتمتعان بها إلا قليلا . قال : فجاء إلياس وأخبره بما أوحى الله - تعالى - إليه في أمره وأمر امرأته ورد الجنينة ، فلما سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه ثم قال له : يا إلياس والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلا وما أرى فلانا وفلانا - سمى ملوكا منهم قد عبدوا الأوثان - إلا على مثل ما نحن عليه يأكلون ويتمتعون مملكين ، ما ينقص من دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل ، وما نرى لنا عليهم من فضل ، قال : وهم الملك بتعذيب إلياس وقتله ، فلما أحس إلياس بالشر والمكر به رفضه وخرج عنه ، فلحق بشواهق الجبال ، وعاد الملك إلى عبادة بعل ، وارتقى إلياس إلى أصعب جبل وأشمخه فدخل مغارة فيه .
ويقال : إنه بقي سبع سنين شريدا خائفا يأوي إلى الشعاب والكهوف يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم في طلبه قد وضعوا عليه العيون والله يستره ، فلما مضى سبع سنين أذن الله في إظهاره عليهم وشفاء غيظه منهم ، فأمرض الله - عز وجل - ابنا لآجب وكان أحب ولده إليه وأشبههم به ، فأدنف حتى يئس منه ، فدعا صنمه بعلا - وكانوا قد فتنوا ببعل وعظموه حتى جعلوا له أربعمائة سادن - فوكلوهم به وجعلوهم أنبياءه ، وكان الشيطان يدخل في جوف الصنم فيتكلم ، والأربعمائة يصغون بآذانهم إلى ما يقول الشيطان ويوسوس إليهم الشيطان بشريعة من الضلال فيبثونها للناس ، فيعملون بها ويسمونهم أنبياء .
فلما اشتد مرض ابن الملك طلب إليهم الملك أن يتشفعوا إلى بعل ، ويطلبوا لابنه من قبله الشفاء فدعوه فلم يجبهم ، ومنع الله الشيطان فلم يمكنه الولوج في جوفه ، وهم مجتهدون في التضرع إليه ، فلما طال عليهم ذلك قالوا لآجب : إن في ناحية الشام آلهة أخرى فابعث إليها أنبياءك فلعلها تشفع [ ص: 54 ] لك إلى إلهك بعل ، فإنه غضبان عليك ، ولولا غضبه عليك لأجابك . قال آجب : ومن أجل ماذا غضب علي وأنا أطيعه ؟ قالوا : من أجل أنك لم تقتل إلياس وفرطت فيه حتى نجا سليما وهو كافر بإلهك . قال آجب : وكيف لي أن أقتل إلياس وأنا مشغول عن طلبه بوجع ابني ، وليس لإلياس مطلب ولا يعرف له موضع فيقصد ، فلو عوفي ابني لفرغت لطلبه حتى أجده فأقتله فأرضي إلهي ، ثم إنه بعث أنبياءه الأربعمائة إلى الآلهة التي بالشام يسألونها أن تشفع إلى صنم الملك ليشفي ابنه ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذي فيه إلياس أوحى الله - تعالى - إلى إلياس - عليه السلام - أن يهبط من الجبل ويعارضهم ويكلمهم ، وقال له : لا تخف فإني سأصرف عنك شرهم وألقي الرعب في قلوبهم ، فنزل إلياس من الجبل ، فلما لقيهم استوقفهم ، فلما وقفوا قال لهم : إن الله - تعالى - أرسلني إليكم وإلى من ورائكم فاسمعوا أيها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم فارجعوا إليه ، وقولوا له : إن الله - تعالى - يقول لك : ألست تعلم يا آجب أني أنا الله لا إله إلا أنا إله بني إسرائيل الذي خلقهم ، ورزقهم وأحياهم وأماتهم ، فجهلك وقلة علمك حملك على أن تشرك بي ، وتطلب الشفاء لابنك من غيري ممن لا يملكون لأنفسهم شيئا إلا ما شئت ، إني حلفت باسمي لأغيظنك في ابنك ولأميتنه في فوره هذا حتى تعلم أن أحدا لا يملك له شيئا دوني .
فلما قال لهم هذا رجعوا وقد ملئوا منه رعبا ، فلما صاروا إلى الملك أخبروه بأن إلياس قد انحط عليهم ، وهو رجل نحيف طوال قد نحل وتمعط شعره وتقشر جلده ، عليه جبة من شعر وعباءة قد خللها على صدره بخلال فاستوقفنا فلما صار معنا قذف له في قلوبنا الهيبة والرعب فانقطعت ألسنتنا ونحن في هذا العدد الكثير فلم نقدر على أن نكلمه ونراجعه حتى رجعنا إليك ، وقصوا عليه كلام إلياس . فقال آجب : لا ننتفع بالحياة ما كان إلياس حيا وما يطاق إلا بالمكر والخديعة ، فقيض له خمسين رجلا من قومه ذوي القوة والبأس ، وعهد إليهم عهده ، وأمرهم بالاحتيال له والاغتيال به وأن يطمعوه في أنهم قد آمنوا به ، هم ومن وراءهم [ ليستنهم إليهم ] ويغتر بهم فيمكنهم من نفسه فيأتون به ملكهم ، فانطلقوا حتى ارتقوا ذلك الجبل الذي فيه إلياس ، ثم تفرقوا فيه ينادونه بأعلى أصواتهم ، ويقولون : يا نبي الله ابرز لنا وامنن علينا بنفسك ، فإنا قد آمنا بك وصدقناك ، وملكنا آجب وجميع قومنا ، وأنت آمن على نفسك ، وجميع بني إسرائيل يقرءون عليك السلام ويقولون : قد بلغتنا رسالتك وعرفنا ما قلت ، [ فآمنا بك وأجبناك إلى ما دعوتنا فهلم إلينا وأقم بين أظهرنا واحكم فينا ] فإنا ننقاد لما أمرتنا وننتهي عما نهيتنا ، وليس يسعك أن تتخلف عنا مع إيماننا وطاعتنا ، فارجع إلينا . وكل هذا منهم مماكرة وخديعة . [ ص: 55 ]
فلما سمع إلياس مقالتهم وقعت في قلبه وطمع في إيمانهم ، وخاف الله إن هو لم يظهر لهم ، فألهمه الله التوقف والدعاء ، فقال : اللهم إن كانوا صادقين فيما يقولون فأذن لي في البروز إليهم ، وإن كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم ، فما استتم قوله حتى حصبوا بالنار من فوقهم ، فاحترقوا أجمعين . قال : وبلغ آجب الخبر فلم يرتدع من همه بالسوء ، واحتال ثانيا في أمر إلياس ، وقيض له فئة أخرى مثل عدد أولئك أقوى منهم وأمكن من الحيلة والرأي ، فأقبلوا ، أي : حتى توقلوا ، أي : صعدوا قلل تلك الجبال متفرقين ، وجعلوا ينادون يا نبي الله إنا نعوذ بالله وبك من غضب الله وسطواته ، إنا لسنا كالذين أتوك قبلنا وإن أولئك فرقة نافقوا فصاروا إليك ليكيدوا بك في غير رأينا ، ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤنتهم ، فالآن قد كفاك ربك أمرهم وأهلكهم وانتقم لنا ولك منهم ، فلما سمع إلياس مقالتهم دعا الله بدعوته الأولى فأمطر عليهم النار ، فاحترقوا عن آخرهم ، وفي كل ذلك ابن الملك في البلاء الشديد من وجعه ، فلما سمع الملك بهلاك أصحابه ثانيا ازداد غضبا على غضب ، وأراد أن يخرج في طلب إلياس بنفسه ، إلا أنه شغله عن ذلك مرض ابنه ، فلم يمكنه فوجه نحو إلياس المؤمن الذي هو كاتب امرأته رجاء أن يأنس به إلياس فينزل معه ، وأظهر للكاتب أنه لا يريد بإلياس سوءا ، وإنما أظهر له لما اطلع عليه من إيمانه ، وكان الملك مع اطلاعه على إيمانه مغضيا عليه لما هو عليه من الكفاية والأمانة وسداد الرأي ، فلما وجهه نحوه أرسل معه فئة من أصحابه ، وأوعز إلى الفئة - دون الكاتب - أن يوثقوا إلياس ويأتوا به إن أراد التخلف عنهم ، وإن جاء مع الكاتب واثقا به لم يروعوه ، ثم أظهر مع الكاتب الإنابة وقال له : قد آن لي أن أتوب وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا والبلاء الذي فيه ابني ، وقد عرفت أن ذلك بدعوة إلياس ، ولست آمن أن يدعو على جميع من بقي منا فنهلك بدعوته ، فانطلق إليه وأخبره أنا قد تبنا وأنبنا ، وأنه لا يصلحنا في توبتنا ، وما نريد من رضاء ربنا وخلع أصنامنا إلا أن يكون إلياس بين أظهرنا ، يأمرنا وينهانا ، ويخبرنا بما يرضي ربنا ، وأمر قومه فاعتزلوا الأصنام ، وقال له : أخبر إلياس أنا قد خلعنا آلهتنا التي كنا نعبد ، وأرجينا أمرها حتى ينزل إلياس فيكون هو الذي يحرقها ويهلكها ، وكان ذلك مكرا من الملك .
فانطلق الكاتب والفئة حتى علا الجبل الذي فيه إلياس ثم ناداه ، فعرف إلياس صوته ، فتاقت نفسه إليه ، وكان مشتاقا إلى لقائه فأوحى الله تعالى إليه أن ابرز إلى أخيك الصالح فالقه ، وجدد العهد به فبرز إليه وسلم عليه وصافحه ، وقال له : ما الخبر ؟ فقال المؤمن : إنه قد بعثني إليك هذا الجبار الطاغية وقومه ، ثم قص عليه ما قالوا ثم قال له : وإني لخائف إن رجعت إليه ولست معي أن يقتلني فمرني بما شئت أفعله ، إن شئت انقطعت إليك وكنت معك وتركته ، وإن شئت جاهدته معك وإن شئت ترسلني إليه بما تحب فأبلغه رسالتك ، وإن شئت دعوت ربك يجعل لنا من أمرنا [ ص: 56 ] فرجا ومخرجا ، فأوحى الله تعالى إلى إلياس أن كل شيء جاءك منهم مكر وكذب ليظفروا بك ، وإن آجب إن أخبرته رسله أنك قد لقيت هذا الرجل ولم يأت بك اتهمه وعرف أنه قد داهن في أمرك ، فلم يأمن أن يقتله ، فانطلق معه فإني سأشغل عنكما آجب فأضاعف على ابنه البلاء ، حتى لا يكون له هم غيره ، ثم أميته على شر حال ، فإذا مات فارجع عنه ، قال فانطلق معهم حتى قدموا على آجب ، فلما قدموا شدد الله - تعالى - الوجع على ابنه وأخذ الموت يكظمه ، فشغل الله تعالى بذلك آجب وأصحابه عن إلياس ، فرجع إلياس سالما إلى مكانه ، فلما مات ابن آجب وفرغوا من أمره وقل جزعه انتبه لإلياس ، وسأل عنه الكاتب الذي جاء به ، فقال : ليس لي به علم شغلني عنه موت ابنك والجزع عليه ، ولم أكن أحسبك إلا قد استوثقت منه ، فانصرف عنه آجب وتركه لما فيه من الحزن على ابنه .
فلما طال الأمر على إلياس مل السكون في الجبال واشتاق إلى الناس نزل من الجبل فانطلق حتى نزل بامرأة من بني إسرائيل ، وهي أم يونس بن متى ذي النون استخفى عندها ستة أشهر ويونس بن متى يومئذ مولود يرضع ، فكانت أم يونس تخدمه بنفسها وتواسيه بذات يدها ، ثم إن إلياس سئم ضيق البيوت بعد تعوده فسحة الجبال ، فأحب اللحوق بالجبال فخرج وعاد إلى مكانه ، فجزعت أم يونس لفراقه فأوحشها فقده ، ثم لم تلبث إلا يسيرا حتى مات ابنها يونس حين فطمته ، فعظمت مصيبتها فخرجت في طلب إلياس ، فلم تزل ترقى الجبال وتطوف فيها حتى عثرت عليه ، فوجدته وقالت له : إني قد فجعت بعدك لموت ابني فعظمت فيه مصيبتي واشتد لفقده بلائي ، وليس لي ولد غيره ، فارحمني وادع لي ربك جل جلاله ليحيي لي ابني وإني قد تركته مسجى لم أدفنه ، وقد أخفيت مكانه ، فقال لها إلياس : ليس هذا مما أمرت به ، وإنما أنا عبد مأمور أعمل بما يأمرني ربي ، فجزعت المرأة وتضرعت فأعطف الله - تعالى - قلب إلياس لها ، فقال لها : متى مات ابنك ؟ قالت : منذ سبعة أيام فانطلق إلياس معها وسار سبعة أيام أخرى حتى انتهى إلى منزلها ، فوجد ابنها ميتا له أربعة عشر يوما ، فتوضأ وصلى ودعا ، فأحيا الله تعالى يونس بن متى ، فلما عاش وجلس وثب إلياس وتركه ، وعاد إلى موضعه .
فلما طال عصيان قومه ضاق بذلك إلياس ذرعا فأوحى الله - تعالى - إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود : يا إلياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه ؟ ألست أميني على وحيي وحجتي في أرضي وصفوتي من خلقي ؟ فسلني أعطك ، فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم ، قال : تميتني وتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملوني ، فأوحى الله - تعالى - إليه : يا إلياس ما هذا باليوم الذي أعري عنك الأرض وأهلها ، وإنما قوامها وصلاحها بك وبأشباهك ، وإن كنتم قليلا ولكن سلني فأعطك ، فقال إلياس : إن لم تمتني فأعطني ثأري من بني إسرائيل ، قال الله تعالى : فأي شيء تريد [ ص: 57 ] أن أعطيك ؟ قال : تمكنني من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشر عليهم سحابة إلا بدعوتي ، ولا تمطر عليهم سبع سنين قطرة إلا بشفاعتي ، فإنهم لا يذلهم إلا ذلك ، قال الله تعالى : يا إلياس أنا أرحم بخلقي من ذلك ، وإن كانوا ظالمين ، قال : فست سنين ، قال : أنا أرحم بخلقي من ذلك ، قال : فخمس سنين ، قال : أنا أرحم بخلقي من ذلك ولكني أعطيك ثأرك ثلاث سنين ، أجعل خزائن المطر بيدك ، قال إلياس : : فبأي شيء أعيش ؟ قال : أسخر لك جيشا من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف والأرض التي لم تقحط . قال إلياس : قد رضيت ، قال : فأمسك الله - تعالى - عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدواب والهوام والشجر وجهد الناس جهدا شديدا ، وإلياس على حالته مستخف من قومه ، يوضع له الرزق حيثما كان ، وقد عرف ذلك قومه وكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في بيت قالوا : لقد دخل إلياس هذا المكان ، وطلبوه ولقي من أهل ذلك المنزل شرا .
قال ابن عباس : أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط ، فمر إلياس بعجوز فقال لها : هل عندك طعام ؟ قالت : نعم شيء من دقيق وزيت قليل ، قال : فدعا بهما ودعا فيه بالبركة ومسه حتى ملأ جرابها دقيقا ، وملأ خوابيها زيتا ، فلما رأوا ذلك عندها قالوا : من أين لك هذا ؟ قالت : مر بي رجل من حاله كذا وكذا فوصفته بوصفه فعرفوه ، فقالوا : ذلك إلياس ، فطلبوه فوجدوه فهرب منهم ، ثم إنه أوى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب ، به ضر فآوته وأخفت أمره ، فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به ، واتبع اليسع إلياس فآمن به وصدقه ولزمه ، وكان يذهب حيثما ذهب وكان إلياس قد أسن فكبر واليسع شاب ، ثم إن الله - تعالى - أوحى إلى إلياس : إنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص من البهائم والدواب والطير والهوام بحبس المطر ، فيزعمون - والله أعلم - أن إلياس قال : يا رب دعني أكن أنا الذي أدعو لهم وآتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء ، لعلهم أن يرجعوا وينزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك ، فقيل له : نعم ، فجاء إلياس إلى بني إسرائيل ، فقال : إنكم قد هلكتم جوعا وجهدا ، وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر بخطاياكم ، وإنكم على باطل فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم ، فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون ، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل ، فنزعتم ودعوت الله - تعالى - ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء ، قالوا : أنصفت فخرجوا بأوثانهم فدعوها ، فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ، ثم قالوا لإلياس : إنا قد هلكنا فادع الله تعالى لنا ، فدعا لهم إلياس ومعه اليسع بالفرج ، فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون ، فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر فأغاثهم ، وأحييت بلادهم ، فلما كشف الله - تعالى - عنهم الضر نقضوا العهد ، ولم ينزعوا عن كفرهم وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه ، فلما رأى ذلك إلياس دعا ربه - عز وجل - أن يريحه منهم ، فقيل له فيما يزعمون : انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى موضع كذا فما جاءك [ ص: 58 ] من شيء فاركبه ولا تهبه ، فخرج إلياس ومعه اليسع حتى إذا كانا بالموضع الذي أمر أقبل فرس من نار ، وقيل : لونه كلون النار ، حتى وقف بين يديه ، فوثب عليه إلياس ، فانطلق به الفرس فناداه اليسع : يا إلياس ، ما تأمرني ؟ فقذف إليه إلياس بكسائه من الجو الأعلى ، فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل ، فكان ذلك آخر العهد به ، فرفع الله تعالى إلياس من بين أظهرهم ، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب ، وكساه الريش فكان إنسيا ملكيا أرضيا سماويا ، وسلط الله تعالى على آجب الملك وقومه عدوا لهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى رهقهم ، فقتل آجب وامرأته أزبيل في بستان مزدكي ، فلم تزل جيفتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما ، ونبأ الله - تعالى - اليسع وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل ، وأوحى الله - تعالى - إليه وأيده ، فآمنت به بنو إسرائيل فكانوا يعظمونه ، وحكم الله - تعالى - فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع .
وروى السري بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي رواد قال : الخضر وإلياس يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ، ويوافيان الموسم في كل عام .
وقيل : إن إلياس موكل بالفيافي ، والخضر موكل بالبحار فذلك قوله تعالى : " وإن إلياس لمن المرسلين " .
[ ص: 59 ] ( وتركنا عليه في الآخرين ( 129 ) سلام على إلياسين ( 130 ) إنا كذلك نجزي المحسنين ( 131 ) إنه من عبادنا المؤمنين ( 132 ) وإن لوطا لمن المرسلين ( 133 ) إذ نجيناه وأهله أجمعين ( 134 ) إلا عجوزا في الغابرين ( 135 ) ثم دمرنا الآخرين ( 136 ) وإنكم لتمرون عليهم مصبحين ( 137 ) وبالليل أفلا تعقلون ( 138 ) وإن يونس لمن المرسلين ( 139 ) )
( وتركنا عليه في الآخرين سلام على إلياسين ) قرأ نافع وابن عامر : " آل ياسين " بفتح الهمزة مشبعة ، وكسر اللام مقطوعة ، لأنها في المصحف مفصولة ، وقرأ الآخرون بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة
فمن قرأ " آل يس " مقطوعة ، قيل : أراد آل محمد - صلى الله عليه وسلم - . وهذا القول بعيد لأنه لم يسبق له ذكر . وقيل : أراد آل إلياس .
والقراءة المعروفة بالوصل ، واختلفوا فيه ، فقد قيل : إلياسين لغة في إلياس ، مثل : إسماعيل وإسماعين ، وميكائيل وميكائين .
وقال الفراء : هو جمع أراد إلياس وأتباعه من المؤمنين ، فيكون بمنزلة الأشعرين والأعجمين بالتخفيف ، وفي حرف عبد الله بن مسعود : سلام على إدراسين يعني : إدريس وأتباعه ؛ لأنه يقرأ : وإن إدريس لمن المرسلين .
( إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ) أي : الباقين في العذاب .
( ثم دمرنا الآخرين ) والتدمير : الإهلاك .
( وإنكم لتمرون عليهم ) على آثارهم ومنازلهم ، ) ( مصبحين ) وقت الصباح .
) ( وبالليل ) يريد : تمرون بالنهار وبالليل عليهم إذا ذهبتم إلى أسفاركم ورجعتم ، ( أفلا تعقلون ) فتعتبرون بهم .
قوله تعالى : ( وإن يونس لمن المرسلين ) من جملة رسل الله .
[ ص: 60 ] ( إذ أبق إلى الفلك المشحون ( 140 ) فساهم فكان من المدحضين ( 141 ) فالتقمه الحوت وهو مليم ( 142 ) فلولا أنه كان من المسبحين ( 143 ) للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ( 144 ) فنبذناه بالعراء وهو سقيم ( 145 ) )
) ( إذ أبق إلى الفلك المشحون ) يعني : هرب .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - ووهب : كان يونس وعد قومه العذاب ، فلما تأخر عنهم العذاب خرج كالمشور منهم ، فقصد البحر فركب السفينة ، فاحتبست السفينة فقال الملاحون : هاهنا عبد آبق من سيده ، فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس ، فاقترعوا ثلاثا فوقعت على يونس ، فقال يونس : أنا الآبق ، وزج نفسه في الماء .
وروي في القصة : أنه لما وصل إلى البحر كانت معه امرأته وابنان له ، فجاء مركب فأراد أن يركب معهم فقدم امرأته ليركب بعدها ، فحال الموج بينه وبين المركب ومر المركب ، ثم جاءت موجة أخرى وأخذت ابنه الأكبر وجاء ذئب فأخذ الابن الأصغر ، فبقي فريدا ، فجاء مركب آخر فركبه فقعد ناحية من القوم ، فلما مرت السفينة في البحر ركدت ، فاقترعوا ، وقد ذكرنا القصة في سورة يونس .
فذلك قوله عز وجل : ) ( فساهم ) فقارع ، والمساهمة : إلقاء السهام على جهة القرعة ، ( فكان من المدحضين ) المقروعين .
( فالتقمه الحوت ) ابتلعه ، ( وهو مليم ) آت بما يلام عليه .
( فلولا أنه كان من المسبحين ) من الذاكرين لله قبل ذلك ، وكان كثير الذكر . وقال ابن عباس : من المصلين . وقال وهب : من العابدين . وقال الحسن : ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملا صالحا . وقال الضحاك : شكر الله تعالى له طاعته القديمة .
وقيل : " فلولا أنه كان من المسبحين " في بطن الحوت . قال سعيد بن جبير : يعني قوله : " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " ( الأنبياء - 87 ) .
( للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ) لصار بطن الحوت له قبرا إلى يوم القيامة .
) ( فنبذناه ) طرحناه ، ) ( بالعراء ) يعني : على وجه الأرض ، قال السدي : بالساحل ، والعراء : الأرض الخالية عن الشجر والنبات ) . ( وهو سقيم ) عليل كالفرخ الممعط . وقيل : كان قد بلي لحمه ورق عظمه ولم يبق له قوة . [ ص: 61 ]
واختلفوا في مدة لبثه في بطن الحوت ، فقال مقاتل بن حيان : ثلاثة أيام . وقال عطاء : سبعة أيام . وقال الضحاك : عشرين يوما . وقال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان : أربعين يوما . وقال الشعبي : التقمه ضحى ولفظه عشية .
( وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ( 146 ) وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ( 147 ) )
( وأنبتنا عليه ) أي : له ، وقيل : عنده ( شجرة من يقطين ) يعني : القرع ، على قول جميع المفسرين .
وقال الحسن ومقاتل : كل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض ليس له ساق ولا يبقى على الشتاء نحو القرع والقثاء والبطيخ فهو يقطين .
قال مقاتل بن حيان : فكان يونس يستظل بالشجرة ، وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشية حتى اشتد لحمه ونبت شعره وقوي ، فنام نومة فاستيقظ وقد يبست الشجرة فحزن حزنا شديدا وأصابه أذى الشمس فجعل يبكي ، فبعث الله - تعالى - إليه جبريل وقال : أتحزن على شجرة ولا تحزن على مائة ألف من أمتك وقد أسلموا وتابوا .
فإن قيل : قال هاهنا : " فنبذناه بالعراء وهو سقيم " ، وقال في موضع آخر : " لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء " ( القلم - 49 ) فهذا يدل على أنه لم ينبذ ؟
قيل : " لولا " هناك يرجع إلى الذم ، معناه : لولا نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم ، ولكن تداركه النعمة فنبذ وهو غير مذموم .
قوله عز وجل : ( وأرسلناه إلى مائة ألف ) قال قتادة : أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل قبل أن يصيبه ما أصابه ، وقوله : " وأرسلناه " أي : وقد أرسلناه ، وقيل : كان إرساله بعد خروجه من بطن الحوت إليهم ، وقيل : إلى قوم آخرين . ) ( أو يزيدون ) قال ابن عباس : معناه : ويزيدون " أو " بمعنى الواو ، كقوله : " عذرا أو نذرا " ( المرسلات - 6 ) ، وقال مقاتل والكلبي : معناه بل يزيدون . وقال الزجاج : " أو " هاهنا على أصله ، ومعناه : أو يزيدون على تقديركم وظنكم ، كالرجل يرى قوما فيقول : هؤلاء ألف أو يزيدون ، فالشك على تقدير المخلوقين ، والأكثرون على أن معناه : ويزيدون .
واختلفوا في مبلغ تلك الزيادة فقال ابن عباس ، ومقاتل : كانوا عشرين ألفا ، ورواه أبي بن كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . [ ص: 62 ]
وقال الحسن : بضعا وثلاثين ألفا .
وقال سعيد بن جبير : سبعين ألفا
( فآمنوا فمتعناهم إلى حين ( 148 ) فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ( 149 ) أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ( 150 ) ألا إنهم من إفكهم ليقولون ( 151 ) ولد الله وإنهم لكاذبون ( 152 ) أصطفى البنات على البنين ( 153 ) ما لكم كيف تحكمون ( 154 ) أفلا تذكرون ( 155 ) أم لكم سلطان مبين ( 156 ) )
( فآمنوا ) يعني : الذين أرسل إليهم يونس بعد معاينة العذاب ، ( فمتعناهم إلى حين ) إلى انقضاء آجالهم .
قوله تعالى : ) ( فاستفتهم ) فاسأل يا محمد أهل مكة وهو سؤال توبيخ ، ( ألربك البنات ولهم البنون ) وذلك أن جهينة وبني سلمة بن عبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله يقول : جعلوا لله البنات ولأنفسهم البنين .
( أم خلقنا الملائكة إناثا ) معناه : أخلقنا الملائكة إناثا ، ( وهم شاهدون ) حاضرون خلقنا إياهم ، نظيره قوله : " أشهدوا خلقهم " ( الزخرف - 19 ) .
( ألا إنهم من إفكهم ) من كذبهم ، ( ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون ) .
) ( أصطفى ) قرأ أبو جعفر : " لكاذبون اصطفى " موصولا على الخبر عن قول المشركين ، وعند الوقف يبتدئ : " اصطفى " بكسر الألف ، وقراءة العامة بقطع الألف ، لأنها ألف استفهام دخلت على ألف الوصل ، فحذفت ألف الوصل وبقيت ألف الاستفهام مفتوحة مقطوعة ، مثل : أستكبر ونحوها ، ( أصطفى البنات على البنين ) .
( ما لكم كيف تحكمون ) لله بالبنات ولكم بالبنين .
( أفلا تذكرون ) أفلا تتعظون .
( أم لكم سلطان مبين ) برهان بين على أن لله ولدا .
ابو وليد البحيرى
2022-09-09, 12:30 AM
الحلقة (353)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ ص
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية12
[ ص: 63 ] ) ( فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ( 157 ) وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ( 158 ) سبحان الله عما يصفون ( 159 ) إلا عباد الله المخلصين ( 160 ) فإنكم وما تعبدون ( 161 ) ما أنتم عليه بفاتنين ( 162 ) إلا من هو صال الجحيم ( 163 ) وما منا إلا له مقام معلوم ( 164 ) )
( فأتوا بكتابكم ) الذي لكم فيه حجة ( إن كنتم صادقين ) في قولكم .
( وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) قال مجاهد وقتادة : أراد بالجنة الملائكة ، سموا جنة لاجتنانهم عن الأبصار .
وقال ابن عباس : حي من الملائكة يقال لهم الجن ، ومنهم إبليس ، قالوا : هم بنات الله .
وقال الكلبي : قالوا - لعنهم الله - بل تزوج من الجن فخرج منها الملائكة تعالى الله عن ذلك ، وقد كان زعم بعض قريش أن الملائكة بنات الله تعالى الله . فقال أبو بكر الصديق : فمن أمهاتهم ؟ قالوا : سروات الجن .
وقال الحسن : معنى النسب أنهم أشركوا الشياطين في عبادة الله ، ( ولقد علمت الجنة أنهم ) يعني قائلي هذا القول ) ( لمحضرون ) في النار ، ثم نزه نفسه عما قالوا فقال :
( سبحان الله عما يصفون ) ( إلا عباد الله المخلصين ) هذا استثناء من المحضرين ، أي : أنهم لا يحضرون .
قوله عز وجل : ) ( فإنكم ) يقول لأهل مكة : ( وما تعبدون ) من الأصنام .
( ما أنتم عليه ) على ما تعبدون ، ) ( بفاتنين ) بمضلين أحدا .
( إلا من هو صال الجحيم ) إلا من قدر الله أنه سيدخل النار ، أي : سبق له في علم الله الشقاوة .
قوله عز وجل : ( وما منا إلا له مقام معلوم ) يقول جبرائيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وما منا معشر الملائكة إلا له مقام معلوم ، أي : ما منا ملك إلا له مقام معلوم في السماوات يعبد الله فيه .
قال ابن عباس : ما في السماوات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يسبح . [ ص: 64 ]
وروينا عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أطت السماء ، وحق لها أن تئط ، والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله "
قال السدي : إلا له مقام معلوم في القربة والمشاهدة .
وقال أبو بكر الوراق : إلا له مقام معلوم يعبد الله عليه ، كالخوف والرجاء والمحبة والرضا .
( وإنا لنحن الصافون ( 165 ) وإنا لنحن المسبحون ( 166 ) وإن كانوا ليقولون ( 167 ) لو أن عندنا ذكرا من الأولين ( 168 ) لكنا عباد الله المخلصين ( 169 ) فكفروا به فسوف يعلمون ( 170 ) ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( 171 ) إنهم لهم المنصورون ( 172 ) وإن جندنا لهم الغالبون ( 173 ) )
) ( وإنا لنحن الصافون ) قال قتادة : هم الملائكة صفوا أقدامهم . وقال الكلبي : صفوف الملائكة في السماء للعبادة كصفوف الناس في الأرض .
( وإنا لنحن المسبحون ) أي : المصلون المنزهون الله عن السوء ، يخبر جبريل عليه السلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح ، وأنهم ليسوا بمعبودين ، كما زعمت الكفار ، ثم أعاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين فقال :
) ( وإن كانوا ) وقد كانوا يعني : أهل مكة ، ) ( ليقولون ) لام التأكيد .
( لو أن عندنا ذكرا من الأولين ) أي : كتابا مثل كتاب الأولين .
( لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به ) أي : فلما أتاهم ذلك الكتاب كفروا به ، ) ( فسوف يعلمون ) هذا تهديد لهم .
( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ) وهي قوله : " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي " ( المجادلة - 21 ) .
( إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) أي : حزب الله لهم الغلبة بالحجة والنصرة في العاقبة .
[ ص: 65 ] ( فتول عنهم حتى حين ( 174 ) وأبصرهم فسوف يبصرون ( 175 ) أفبعذابنا يستعجلون ( 176 ) فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين ( 177 ) وتول عنهم حتى حين ( 178 ) وأبصر فسوف يبصرون ( 179 ) سبحان ربك رب العزة عما يصفون ( 180 ) وسلام على المرسلين ( 181 ) والحمد لله رب العالمين ( 182 ) )
( فتول ) أعرض ( عنهم حتى حين ) قال ابن عباس : يعني الموت . وقال مجاهد : يوم بدر . وقال السدي : حتى نأمرك بالقتال . وقيل : إلى أن يأتيهم عذاب الله ، قال مقاتل بن حيان : نسختها آية القتال .
) ( وأبصرهم ) إذا نزل بهم العذاب ) ( فسوف يبصرون ) ذلك فقالوا : متى هذا العذاب ؟
قال الله عز وجل : ( أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل ) يعني : العذاب ) ( بساحتهم ) قال مقاتل : بحضرتهم . وقيل : بفنائهم . قال الفراء : العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم ، ( فساء صباح المنذرين ) فبئس صباح الكافرين الذين أنذروا بالعذاب .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، أخبرنا مالك ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج إلى خيبر ، أتاها ليلا وكان إذا جاء قوما بليل لم يغز حتى يصبح ، قال : فلما أصبح خرجت يهود خيبر بمساحيها ومكاتلها ، فلما رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : محمد والله محمد والخميس ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " .
ثم كرر ما ذكرنا تأكيدا لوعيد العذاب فقال :
( وتول عنهم حتى حين وأبصر ) العذاب إذا نزل بهم ، ( فسوف يبصرون ) . ثم نزه نفسه فقال :
( سبحان ربك رب العزة ) الغلبة والقوة ، ( عما يصفون ) من اتخاذ الصاحبة والأولاد .
( وسلام على المرسلين ) الذين بلغوا عن الله التوحيد والشرائع .
( والحمد لله رب العالمين ) على هلاك الأعداء ونصرة الأنبياء عليهم السلام . [ ص: 66 ]
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا إبراهيم بن سهلويه ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا وكيع ، عن ثابت بن أبي صفية ، عن أصبغ بن نبانة ، عن علي قال : " من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليكن آخر كلامه من مجلسه : سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين " .
سُورَةُ ص
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ( 1 ) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ( 2 ) )
( ص ) قِيلَ : هُوَ قَسَمٌ ، وَقِيلَ : اسْمُ السُّورَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي سَائِرِ حُرُوفِ التَّهَجِّي فِي أَوَائِلِ السُّورِ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ : " ص " مِفْتَاحُ اسْمِ الصَّمَدِ ، وَصَادِقِ الْوَعْدِ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ : مَعْنَاهُ صَدَقَ اللَّهُ .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - : صَدَقَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
( وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) أَيْ ذِي الْبَيَانِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : ذِي الشَّرَفِ ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ " ( الزُّخْرُفِ - 44 ) ، وَهُوَ قَسَمٌ .
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقِسْمِ ، قِيلَ : جَوَابُهُ قَدْ تَقَدَّمَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ " ص " أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقُرْآنِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ صَدَقَ .
وَقَالَ الْفَرَّاءُ : " ص " مَعْنَاهَا : وَجَبَ وَحَقَّ ، وَهُوَ جَوَابُ قَوْلِهِ : " وَالْقُرْآنِ " كَمَا تَقُولُ : نَزَلَ وَاللَّهِ .
وَقِيلَ : جَوَابُ الْقِسْمِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ : وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ الْكُفَّارُ ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) . [ ص: 70 ]
قَالَ قَتَادَةُ : مَوْضِعُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ : ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) كَمَا قَالَ : " وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا " ( ق - 2 ) .
وَقِيلَ : فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ ، تَقْدِيرُهُ : بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا ، ( فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ .
وَقَالَ الْأَخْفَشُ : جَوَابُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : " إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ " ( ص - 14 ) ، كَقَوْلِهِ : " تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا " ( الشُّعَرَاءِ - 97 ) وَقَوْلِهِ : " وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ " ( الطَّارِقِ - 1 : 3 ) .
وَقِيلَ : جَوَابُهُ قَوْلُهُ : " إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا " ( ص - 54 ) .
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ : قَوْلُهُ : " إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ " ( ص - 64 ) ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَبَيْنَ هَذَا الْجَوَابِ أَقَاصِيصُ وَأَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ .
وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ : بَلْ لِتَدَارُكِ كَلَامٍ وَنَفْيِ آخَرَ ، وَمَجَازُ الْآيَةِ : إِنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي عِزَّةِ حَمِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ وَتَكَبُّرٍ عَنِ الْحَقِّ وَشِقَاقٍ وَخِلَافٍ وَعَدَاوَةٍ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَقَالَ مُجَاهِدُ : " فِي عِزَّةٍ " مُعَازِّينَ .
( كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص ( 3 ) )
( كم أهلكنا من قبلهم من قرن ) يعني : من الأمم الخالية ، ) ( فنادوا ) استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النقمة ، ( ولات حين مناص ) قوة ولا فرار " والمناص " مصدر ناص ينوص وهو الفوت ، والتأخر ، يقال : ناص ينوص إذا تأخر ، وباص يبوص إذا تقدم ، " ولات " بمعنى ليس بلغة أهل اليمن .
وقال النحويون : هي " لا " زيدت فيها التاء ، كقولهم : رب وربت وثم وثمت ، وأصلها هاء وصلت بلا فقالوا : " لاه " كما قالوا : ثمة ، فجعلوها في الوصل تاء ، والوقف عليها بالتاء عند الزجاج ، وعند الكسائي بالهاء : ولاة . ذهب جماعة إلى أن التاء زيدت في " حين " والوقف على " ولا " ثم يبتدأ : " تحين " ، وهو اختيار أبي عبيدة ، وقال : كذلك وجدت في مصحف عثمان ، وهذا كقول أبي وجزة السعدي :
العاطفون تحين ما من عاطف والمطمعون زمان ما من مطعم [ ص: 71 ]
وفي حديث ابن عمر ، وسأله رجل عن عثمان ، فذكر مناقبه ثم قال : اذهب بها تلان إلى أصحابك ، يريد : الآن .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب ، قال بعضهم لبعض : مناص أي : اهربوا وخذوا حذركم ، فلما أنزل الله بهم العذاب ببدر قالوا : مناص ، فأنزل الله تعالى : " ولات حين مناص " أي ليس حين هذا القول .
( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ( 4 ) أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ( 5 ) )
( وعجبوا ) يعني : الكفار الذين ذكرهم الله - عز وجل - في قوله : " بل الذين كفروا " ( أن جاءهم منذر منهم ) يعني : رسولا من أنفسهم ينذرهم ( وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ) .
( أجعل الآلهة إلها واحدا ) وذلك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أسلم ، فشق ذلك على قريش ، وفرح به المؤمنون ، فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش ، وهم الصناديد والأشراف ، وكانوا خمسة وعشرين رجلا أكبرهم سنا الوليد بن المغيرة قال لهم : امشوا إلى أبي طالب ، فأتوا أبا طالب ، وقالوا له : أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء ، وإنا قد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك ، فأرسل أبو طالب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعاه ، فقال : يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء ، فلا تمل كل الميل على قومك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وماذا يسألوني ؟ قالوا : ارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم ؟ فقال أبو جهل : لله أبوك لنعطيكها وعشرا أمثالها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قولوا لا إله إلا الله ، فنفروا من ذلك وقاموا ، وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا ؟ كيف يسع الخلق كلهم إله واحد ؟
( إن هذا لشيء عجاب ) أي : عجيب ، والعجب والعجاب واحد ، كقولهم : رجل كريم وكرام ، وكبير وكبار ، وطويل وطوال ، وعريض وعراض .
[ ص: 72 ] ( وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ( 6 ) ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق ( 7 ) أؤنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب ( 8 ) أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب ( 9 ) )
) ( وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم ) أي : انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب يقول بعضهم لبعض : امشوا واصبروا على آلهتكم ، أي : اثبتوا على عبادة آلهتكم ( إن هذا لشيء يراد ) أي لأمر يراد بنا ، وذلك أن عمر لما أسلم وحصل للمسلمين قوة بمكانه قالوا : إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لشيء يراد بنا .
وقيل : يراد بأهل الأرض ، وقيل : يراد بمحمد أن يملك علينا .
( ما سمعنا بهذا ) أي بهذا الذي يقوله محمد من التوحيد ( في الملة الآخرة ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - والكلبي ، ومقاتل : يعنون النصرانية ؛ لأنها آخر الملل وهم لا يوحدون ، بل يقولون : ثالث ثلاثة .
وقال مجاهد وقتادة : يعنون ملة قريش ودينهم الذي هم عليه .
( إن هذا إلا اختلاق ) كذب وافتعال .
( أؤنزل عليه الذكر ) القرآن ) ( من بيننا ) وليس بأكبرنا ولا أشرفنا ، يقوله أهل مكة . قال الله عز وجل :
( بل هم في شك من ذكري ) أي وحيي وما أنزلت ، ( بل لما يذوقوا عذاب ) ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول .
) ( أم عندهم ) أعندهم ، ( خزائن رحمة ربك ) أي : نعمة ربك يعني : مفاتيح النبوة يعطونها من شاءوا ، نظيره : " أهم يقسمون رحمة ربك " ( الزخرف - 32 ) أي نبوة ربك ، ( العزيز الوهاب ) العزيز في ملكه ، الوهاب وهب النبوة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
[ ص: 73 ] ( أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب ( 10 ) جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ( 11 ) كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد ( 12 ) )
( أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما ) أي : ليس لهم ذلك ، ( فليرتقوا في الأسباب ) أي : إن ادعوا شيئا من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء ، وليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون . قال مجاهد وقتادة : أراد بالأسباب : أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء ، وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو طريق فهو سببه ، وهذا أمر توبيخ وتعجيز .
( جند ما هنالك ) أي : هؤلاء الذين يقولون هذا القول جند هنالك ، " ما " صلة ، ) ( مهزوم ) مغلوب ، ( من الأحزاب ) أي : من جملة الأجناد ، يعني : قريشا .
قال قتادة : أخبر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين ، فقال : " سيهزم الجمع ويولون الدبر " ( القمر - 45 ) فجاء تأويلها يوم بدر ، و " هنالك " إشارة إلى بدر ومصارعهم ، " من الأحزاب " أي : من جملة الأحزاب ، أي : هم من القرون الماضية الذين تحزبوا وتجمعوا على الأنبياء بالتكذيب ، فقهروا وأهلكوا . ثم قال معزيا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ( كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد ) قال ابن عباس ، ومحمد بن كعب : ذو البناء المحكم ، وقيل : أراد : ذو الملك الشديد الثابت .
وقال القتيبي : تقول العرب : هم في عز ثابت الأوتاد ، يريدون أنه دائم شديد .
وقال الأسود بن يعفر :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل ملك ثابت الأوتاد فأصل هذا أن بيوتهم كانت تثبت بالأوتاد .
وقال الضحاك : ذو القوة والبطش . وقال عطية : ذو الجنود والجموع الكثيرة ، يعني : أنهم كانوا يقوون أمره ، ويشدون ملكه ، كما يقوي الوتد الشيء ، وسميت الأجناد أوتادا لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتدونها في أسفارهم ، وهو رواية عطية عن ابن عباس . [ ص: 74 ]
وقال الكلبي ومقاتل : " الأوتاد " جمع الوتد ، وكانت له أوتاد يعذب الناس عليها ، وكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد ، وشد كل يد ورجل منه إلى سارية ، ويتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتى يموت .
وقال مجاهد ، ومقاتل بن حيان : كان يمد الرجل مستلقيا على الأرض ، يشد يديه ورجليه ورأسه على الأرض بالأوتاد .
وقال السدي : كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيات .
وقال قتادة وعطاء : كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب عليها بين يديه .
ابو وليد البحيرى
2022-09-09, 12:35 AM
الحلقة (354)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ ص
مَكِّيَّةٌ
الاية13 إلى الاية24
( وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب ( 13 ) إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ( 14 ) وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ( 15 ) )
) ( وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب ) الذين تحزبوا على الأنبياء ، فأعلم أن مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب .
) ( إن كل ) ما كل ، ( إلا كذب الرسل فحق عقاب ) وجب عليهم ونزل بهم عذابي . ) ( وما ينظر ) ينتظر ) ( هؤلاء ) يعني : كفار مكة ، ( إلا صيحة واحدة ) وهي نفخة الصور ، ( ما لها من فواق ) قرأ حمزة ، والكسائي : " فواق " بضم الفاء ، وقرأ الآخرون بفتحها وهما لغتان ، فالفتح لغة قريش ، والضم لغة تميم .
قال ابن عباس وقتادة : من رجوع ، أي : ما يرد ذلك الصوت فيكون له رجوع .
وقال مجاهد : نظرة . وقال الضحاك : مثنوية ، أي صرف ورد .
والمعنى : أن تلك الصيحة التي هي ميعاد عذابهم إذا جاءت لم ترد ولم تصرف .
وفرق بعضهم بين الفتح والضم ، فقال الفراء ، وأبو عبيدة : الفتح بمعنى الراحة والإفاقة ، كالجواب من الإجابة ، ذهبا بها إلى إفاقة المريض من علته ، والفواق بالضم ما بين الحلبتين ، وهو أن تحلب الناقة ثم تترك ساعة حتى يجتمع اللبن ، فما بين الحلبتين فواق ، أي أن العذاب لا يمهلهم بذلك القدر .
وقيل : هما أيضا مستعارتان من الرجوع ؛ لأن اللبن يعود إلى الضرع بين الحلبتين ، وإفاقة المريض : [ ص: 75 ] رجوعه إلى الصحة .
( وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ( 16 ) اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ( 17 ) )
( وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني كتابنا ، و " القط " الصحيفة التي أحصت كل شيء .
قال الكلبي : لما نزلت في الحاقة : " فأما من أوتي كتابه بيمينه " ( الحاقة - 19 ) ، " وأما من أوتي كتابه بشماله " ( الحاقة - 25 ) قالوا استهزاء : عجل لنا كتابنا في الدنيا قبل يوم الحساب . وقال سعيد بن جبير : يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول .
وقال الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والسدي : يعني عقوبتنا ونصيبنا من العذاب .
وقال عطاء : قاله النضر بن الحارث ، وهو قوله : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " ( الأنفال : 32 ) .
وعن مجاهد قال : " قطنا " حسابنا ، ويقال لكتاب الحساب قط .
وقال أبو عبيدة والكسائي : " القط " : الكتاب بالجوائز .
قال الله تعالى : ( اصبر على ما يقولون ) أي على ما يقوله الكفار من تكذيبك ( واذكر عبدنا داود ذا الأيد ) قال ابن عباس : أي القوة في العبادة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن أوس ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أحب الصيام إلى الله صيام داود ، وأحب الصلاة [ ص: 76 ] إلى الله صلاة داود ، كان يصوم يوما ويفطر يوما ، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه ، وينام سدسه " .
وقيل : ذو القوة في الملك .
( إنه أواب ) رجاع إلى الله - عز وجل - بالتوبة عن كل ما يكره ، قال ابن عباس : مطيع . قال سعيد بن جبير : مسبح بلغة الحبش .
( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ( 18 ) والطير محشورة كل له أواب ( 19 ) وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ( 20 ) )
( إنا سخرنا الجبال معه ) كما قال : " وسخرنا مع داود الجبال " ( الأنبياء - 79 ) ( يسبحن ) بتسبيحه ، ( بالعشي والإشراق ) قال الكلبي : غدوة وعشية . والإشراق : هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها ، وفسره ابن عباس : بصلاة الضحى .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن أبي شيبة ، حدثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم ، حدثنا الحجاج بن نصير ، أخبرنا أبو بكر الهذلي ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس في قوله : " بالعشي والإشراق " قال : كنت أمر بهذه الآية لا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ، ثم صلى الضحى ، فقال : " يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق " .
قوله عز وجل : ) ( والطير ) أي : وسخرنا له الطير ، ) ( محشورة ) مجموعة إليه تسبح معه ، ( كل له أواب ) مطيع رجاع إلى طاعته بالتسبيح ، وقيل : أواب معه أي مسبح .
( وشددنا ملكه ) أي : قويناه بالحرس والجنود ، قال ابن عباس : كان أشد ملوك الأرض سلطانا ، كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل . [ ص: 77 ]
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن ، حدثنا داود بن سليمان ، حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا محمد بن الفضل ، حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن علي بن أحمد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن رجلا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود - عليه السلام - أن هذا غصبني بقرا ، فسأله داود فجحد ، فقال للآخر : البينة ؟ فلم يكن له بينة ، فقال لهما داود : قوما حتى أنظر في أمركما ، فأوحى الله إلى داود في منامه أن يقتل الذي استعدى عليه ، فقال : هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت ، فأوحى الله إليه مرة أخرى فلم يفعل ، فأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة ، فأرسل داود إليه فقال : إن الله أوحى إلي أن أقتلك ، فقال : تقتلني بغير بينة ؟ قال داود : نعم والله لأنفذن أمر الله فيك ، فلما عرف الرجل أنه قاتله ، قال : لا تعجل حتى أخبرك ، إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته ، فلذلك أخذت ، فأمر به داود فقتل ، فاشتدت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداود ، واشتد به ملكه فذلك قوله عز وجل : " وشددنا ملكه " .
( وآتيناه الحكمة ) يعني : النبوة والإصابة في الأمور ، ( وفصل الخطاب ) قال ابن عباس : بيان الكلام .
وقال ابن مسعود ، والحسن ، والكلبي ، ومقاتل : علم الحكم والتبصر في القضاء .
وقال علي بن أبي طالب : هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ؛ لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به .
ويروى ذلك عن أبي بن كعب قال : فصل الخطاب الشهود والأيمان . وهو قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح . [ ص: 78 ]
وروي عن الشعبي : أن فصل الخطاب : هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه : " أما بعد " إذا أراد الشروع في كلام آخر ، وأول من قاله داود عليه السلام .
( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ( 21 ) )
قوله عز وجل : ( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ) هذه الآية من قصة امتحان داود عليه السلام ، واختلف العلماء بأخبار الأنبياء عليهم السلام في سببه :
فقال قوم : سبب ذلك أنه عليه السلام تمنى يوما من الأيام منزلة إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وسأل ربه أن يمتحنه كما امتحنهم ، ويعطيه من الفضل مثل ما أعطاهم .
فروى السدي ، والكلبي ، ومقاتل : عن أشياخهم قد دخل حديث بعضهم في بعض قالوا : كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام يوما يقضي فيه بين الناس ، ويوما يخلو فيه لعبادة ربه ، ويوما لنسائه وأشغاله ، وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فقال : يا رب أرى الخير كله وقد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي ، فأوحى الله إليه : إنهم ابتلوا ببلايا لم تبتل بها فصبروا عليها ، ابتلي إبراهيم بنمرود وبذبح ابنه ، وابتلي إسحاق بالذبح وبذهاب بصره ، وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف ، فقال : رب لو ابتليتني بمثل ما ابتليتهم صبرت أيضا . فأوحى الله إليه إنك مبتلى في شهر كذا وفي يوم كذا فاحترس ، فلما كان ذلك اليوم الذي وعده الله دخل داود محرابه وأغلق بابه ، وجعل يصلي ويقرأ الزبور ، فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن - وقيل : كان جناحاها من الدر والزبرجد - فوقعت بين رجليه فأعجبه حسنها ، فمد يده ليأخذها ويريها بني إسرائيل فينظروا إلى قدرة الله تعالى ، فلما قصد أخذها طارت غير بعيد من غير أن تؤيسه من نفسها ، فامتد إليها ليأخذها ، فتنحت ، فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة ، فذهب ليأخذها ، فطارت من الكوة ، فنظر داود أين تقع فيبعث من يصيدها ، فأبصر امرأة في بستان على شط بركة لها تغتسل هذا قول الكلبي .
وقال السدي : رآها تغتسل على سطح لها فرأى امرأة من أجمل النساء خلقا ، فعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة فأبصرت ظله فنقضت شعرها فغطى بدنها ، فزاده ذلك إعجابا بها فسأل عنها ، فقيل : هي تيشايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا ، وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود . [ ص: 79 ]
وذكر بعضهم أنه أحب أن يقتل أوريا ويتزوج امرأته ، فكان ذنبه هذا القدر .
وذكر بعضهم أنه كتب داود إلى ابن أخته أيوب أن ابعث أوريا إلى موضع كذا ، وقدمه قبل التابوت ، وكان من قدم على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد ، فبعثه وقدمه ففتح له ، فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه - أيضا - أن يبعثه إلى عدو كذا وكذا ، فبعثه ففتح له ، فكتب إلى داود بذلك فكتب له - أيضا - أن يبعثه إلى عدو كذا وكذا أشد منه بأسا ، فبعثه فقتل في المرة الثالثة ، فلما انقضت عدة المرأة تزوجها داود ، فهي أم سليمان عليهما السلام .
وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : كان ذلك ذنب داود أنه التمس من الرجل أن ينزل له عن امرأته .
قال أهل التفسير : كان ذلك مباحا لهم غير أن الله تعالى لم يرض له ذلك ؛ لأنه كان ذا رغبة في الدنيا ، وازدياد للنساء ، وقد أغناه الله عنها بما أعطاه من غيرها .
وروي عن الحسن في سبب امتحان داود عليه السلام : أنه كان قد جزأ الدهر أجزاء ، يوما لنسائه ، ويوما للعبادة ، ويوما للقضاء بين بني إسرائيل ، ويوما لبني إسرائيل ، يذاكرهم ويذاكرونه ويبكيهم ويبكونه ، فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروه فقالوا : هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا ، فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك .
وقيل : إنهم ذكروا فتنة النساء فأضمر داود في نفسه أنه إن ابتلي اعتصم ، فلما كان يوم عبادته أغلق أبوابه وأمر أن لا يدخل عليه أحد ، وأكب على التوراة فبينما هو يقرأ إذ دخلت عليه حمامة من ذهب كما ذكرنا . قال : وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه ، فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا إذا سار إليه قتل ، ففعل فأصيب فتزوج امرأته .
قالوا : فلما دخل داود بامرأة أوريا لم يلبث إلا يسيرا حتى بعث الله إليه ملكين في صورة رجلين في يوم عبادته ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فمنعهما الحرس فتسورا المحراب عليه ، فما شعر وهو يصلي إلا وهما بين يديه جالسين ، يقال : كانا جبريل وميكائيل ، فذلك قوله عز وجل : ( وهل أتاك نبأ الخصم ) خبر الخصم ، ( إذ تسوروا المحراب ) صعدوا وعلوا ، يقال : تسورت الحائط والسور إذا علوته ، وإنما جمع الفعل وهما اثنان لأن الخصم اسم يصلح للواحد والاثنين والجمع [ ص: 80 ] والمذكر والمؤنث ، ومعنى الجمع في الاثنين موجود ؛ لأن معنى الجمع ضم شيء إلى شيء هذا كما قال الله تعالى : " فقد صغت قلوبكما " ( التحريم - 4 ) .
( إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ( 22 ) إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب ( 23 ) )
( إذ دخلوا على داود ففزع منهم ) خاف منهما حين هجما عليه في محرابه بغير إذنه ، فقال : ما أدخلكما علي ؟ ( قالوا لا تخف خصمان ) أي نحن خصمان ( بغى بعضنا على بعض ) جئناك لتقضي بيننا ، فإن قيل : كيف قالا " بغى بعضنا على بعض " وهما ملكان لا يبغيان ؟ قيل : معناه : أرأيت خصمين بغى أحدهما على الآخر ، وهذا من معاريض الكلام لا على تحقيق البغي من أحدهما .
( فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط ) أي لا تجر ، يقال : شط الرجل شططا وأشط إشطاطا إذا جار في حكمه ، ومعناه مجاوزة الحد ، وأصل الكلمة من شطت الدار وأشطت ، إذا بعدت ( واهدنا إلى سواء الصراط ) أرشدنا إلى طريق الصواب والعدل ، فقال داود لهما : تكلما .
فقال أحدهما : ( إن هذا أخي ) أي : على ديني وطريقتي ، ( له تسع وتسعون نعجة ) يعني امرأة ( ولي نعجة واحدة ) أي امرأة واحدة ، والعرب تكني بالنعجة عن المرأة . قال الحسين بن الفضل : هذا تعريض للتنبيه والتفهيم ؛ لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي فهو كقولهم : ضرب زيد عمرا ، أو اشترى بكر دارا ، ولا ضرب هنالك ولا شراء .
( فقال أكفلنيها ) قال ابن عباس : أعطنيها . قال مجاهد : انزل لي عنها . وحقيقته : ضمها إلي فاجعلني كافلها ، وهو الذي يعولها وينفق عليها ، والمعنى : طلقها لأتزوجها .
) ( وعزني ) وغلبني ( في الخطاب ) أي : في القول . وقيل : قهرني لقوة ملكه . قال الضحاك : يقول إن تكلم كان أفصح مني ، وإن حارب كان أبطش مني .
وحقيقة المعنى : أن الغلبة كانت له لضعفي في يده ، وإن كان الحق معي وهذا كله تمثيل لأمر [ ص: 81 ] داود مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود حيث كان لداود تسع وتسعون امرأة ولأوريا امرأة واحدة فضمها إلى نسائه .
( قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ( 24 ) )
( قال ) داود ( لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ) أي : بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه .
فإن قيل : كيف قال لقد ظلمك ولم يكن سمع قول صاحبه ؟
قيل : معناه إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك ، وقيل : قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما يقول .
( وإن كثيرا من الخلطاء ) الشركاء ، ( ليبغي بعضهم على بعض ) يظلم بعضهم بعضا ، ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) فإنهم لا يظلمون أحدا . ( وقليل ما هم ) أي : قليل هم ، و " ما " صلة يعني : الصالحين الذين لا يظلمون قليل .
قالوا : فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك وصعد إلى السماء ، فعلم داود أن الله تعالى ابتلاه ، وذلك قوله :
( وظن داود ) أيقن وعلم ، ( أنما فتناه ) أنما ابتليناه .
وقال السدي بإسناده : إن أحدهما لما قال : " هذا أخي " الآية ، قال داود للآخر : ما تقول فقال : إن لي تسعا وتسعين نعجة ولأخي نعجة واحدة وأنا أريد أن آخذها منه فأكمل نعاجي مائة ، قال : وهو كاره ، إذا لا ندعك وإن رمت ذلك ضربت منك هذا وهذا وهذا ، يعني : طرف الأنف وأصله والجبهة . فقال : يا داود أنت أحق بذلك حيث لم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة ولك تسع وتسعون امرأة ، فلم تزل تعرضه للقتل حتى قتل وتزوجت امرأته ، فنظر داود فلم ير أحدا فعرف ما وقع فيه .
وقال القائلون بتنزيه الأنبياء في هذه القصة : إن ذنب داود إنما كان أنه تمنى أن تكون امرأة أوريا حلالا له ، فاتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه ، فلما بلغ قتله داود لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده إذا هلك ، ثم تزوج امرأته ، فعاتبه الله على ذلك ؛ لأن ذنوب الأنبياء [ ص: 82 ] وإن صغرت فهي عظيمة عند الله .
وقيل : كان ذنب داود أن أوريا كان خطب تلك المرأة ووطن نفسه عليها ، فلما غاب في غزاته خطبها داود فتزوجت منه لجلالته ، فاغتم لذلك أوريا ، فعاتبه الله على ذلك حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها وعنده تسع وتسعون امرأة .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي قال : ومما يصدق ما ذكرنا عن المتقدمين ما أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه أن المعافى بن زكريا القاضي ببغداد أخبره عن محمد بن جرير الطبري ، قال : حدثني يونس بن عبد الأعلى الصيرفي ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة ، عن أبي صخر ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه سمعه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن داود النبي - عليه السلام - حين نظر إلى المرأة فهم أن يجمع على بني إسرائيل وأوصى صاحب البعث ، فقال : إذا حضر العدو فقرب فلانا بين يدي التابوت ، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به وبمن قدم بين يدي التابوت ، فلم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش فقتل زوج المرأة ، ونزل الملكان يقصان عليه قصته ، ففطن داود فسجد ومكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبينه وهو يقول في سجوده : رب زل داود زلة أبعد مما بين المشرق والمغرب ، رب إن لم ترحم ضعف داود ، ولم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا في الخلق من بعده ، فجاءه جبريل من بعد أربعين ليلة فقال : يا داود إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به ، فقال داود : إن الرب قادر على أن يغفر لي الهم الذي هممت به ، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل ، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة ، فقال : يا رب دمي الذي عند داود ، فقال جبريل : ما سألت ربك عن ذلك وإن شئت لأفعلن ، فقال : نعم ، فعرج جبريل وسجد داود ، فمكث ما شاء الله ثم نزل جبريل ، فقال : سألت الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه ، فقال : قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة ، فيقول له : هب لي دمك الذي عند داود ، فيقول : هو لك يا رب ، فيقول : إن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضا عنه .
وروي عن ابن عباس ، وعن كعب الأحبار ، ووهب بن منبه قالوا جميعا : إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه ، فتحولا في صورتيهما فعرجا وهما يقولان : قضى الرجل على نفسه ، وعلم داود أنما عني به فخر ساجدا أربعين يوما ، لا يرفع رأسه إلا لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة ، [ ص: 83 ] ثم يعود ساجدا تمام أربعين يوما ، لا يأكل ولا يشرب ، وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه عز وجل - ويسأله التوبة ، وكان من دعائه في سجوده : سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء ، سبحان خالق النور ، سبحان الحائل بين القلوب ، سبحان خالق النور ، إلهي أنت خليت بيني وبين عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي ، سبحان خالق النور ، إلهي أنت خلقتني وكان من سابق علمك ما أنا إليه صائر ، سبحان خالق النور ، إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء ، فيقال : هذا داود الخاطئ ، سبحان خالق النور ، إلهي بأي عين أنظر إليك يوم القيامة ، وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي ، [ سبحان خالق النور ] إلهي بأي قدم أمشي أمامك وأقوم بين يديك يوم تزول أقدام الخاطئين ، سبحان خالق النور ، إلهي من أين يطلب العبد المغفرة إلا من عند سيده سبحان خالق النور ، إلهي أنا الذي لا أطيق حر شمسك ، فكيف أطيق حر نارك سبحان خالق النور ، إلهي أنا الذي لا أطيق صوت رعدك ، فكيف أطيق سوط جهنم سبحان خالق النور ، إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب ، سبحان خالق النور ، إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل عذري ، سبحان خالق النور ، إلهي برحمتك اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك لهواي ، سبحان خالق النور ، إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني ، سبحان خالق النور ، فررت إليك بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين ، ولا تخزني يوم الدين ، سبحان خالق النور .
وقال مجاهد : مكث أربعين يوما ساجدا لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينه حتى غطى رأسه ، فنودي : يا داود أجائع فتطعم أو ظمآن فتسقى أو عار فتكسى فأجيب في غير ما طلب ، قال : فنحب نحبة هاج لها العود فاحترق من حر جوفه ، ثم أنزل الله له التوبة والمغفرة .
قال وهب : إن داود أتاه نداء : إني قد غفرت لك ، قال : يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدا قال : اذهب إلى قبر أوريا فناده ، فأنا أسمعه نداءك فتحلل منه ، قال : فانطلق وقد لبس المسوح حتى جلس عند قبره ، ثم نادى يا أوريا فقال : لبيك من هذا الذي قطع عني لذتي وأيقظني قال : أنا داود ، قال : ما جاء بك يا نبي الله ، قال : أسألك أن تجعلني في حل مما كان مني إليك ، قال : وما كان منك إلي قال : عرضتك للقتل : قال : عرضتني للجنة فأنت في حل ، فأوحى الله إليه : يا داود ألم تعلم أني حكم عدل لا أقضي بالعنت ، ألا أعلمته أنك قد تزوجت امرأته قال : فرجع إليه فناداه [ ص: 84 ] فأجابه فقال : من هذا الذي قطع علي لذتي قال : أنا داود ، قال : يا نبي الله أليس قد عفوت عنك قال : نعم ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وقد تزوجتها ، قال : فسكت ولم يجبه ، ودعاه فلم يجبه ، وعاوده فلم يجبه ، فقام على قبره وجعل التراب على رأسه ، ثم نادى : الويل لداود ثم الويل الطويل لداود ، سبحان خالق النور ، والويل لداود إذا نصبت الموازين بالقسط ، سبحان خالق النور ، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يؤخذ بذقنه فيدفع إلى المظلوم ، سبحان خالق النور ، الويل ثم الويل الطويل له حين يسحب عل وجهه مع الخاطئين إلى النار ، سبحان خالق النور ، فأتاه نداء من السماء : يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك ، قال : يا رب كيف وصاحبي لم يعف عني قال : يا داود أعطيه من الثواب يوم القيامة ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه ، فأقول له : رضي عبدي فيقول : يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي فأقول : هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي ، قال : يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي . فذلك قوله تعالى :
( فاستغفر ربه وخر راكعا ) أي ساجدا ، عبر بالركوع عن السجود ؛ لأن كل واحد فيه انحناء .
قال الحسين بن الفضل : سألني عبد الله بن طاهر عن قوله : " وخر راكعا " هل يقال للراكع : خر قلت : لا ومعناه ، فخر بعدما كان راكعا ، أي : سجد ) ( وأناب ) أي : رجع وتاب .
ابو وليد البحيرى
2022-09-09, 12:39 AM
الحلقة (355)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ ص
مَكِّيَّةٌ
الاية25 إلى الاية35
( فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ( 25 ) )
( فغفرنا له ذلك ) يعني : ذلك الذنب ، ) ( وإن له ) بعد المغفرة ) ( عندنا ) يوم القيامة ، ) ( لزلفى ) لقربة ومكانة ، ( وحسن مآب ) أي : حسن مرجع ومنقلب .
وقال وهب بن منبه : إن داود لما تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا يرقأ دمعه ليلا ولا نهارا ، وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة ، فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام : يوم للقضاء بين بني إسرائيل ، ويوم لنسائه ، ويوم يسبح في الفيافي والجبال والسواحل ، ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب ، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ، فيساعدونه على ذلك ، فإذا كان يوم نياحته يخرج في الفيافي فيرفع صوته بالمزامير فيبكي ويبكي معه [ الشجر والرمال والطير والوحوش حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار ، ثم يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير فيبكي ويبكي معه ] الجبال والحجارة والدواب والطير ، حتى تسيل من بكائهم الأودية ، ثم يجيء [ ص: 85 ] إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الحيتان ودواب البحر وطير الماء والسباع ، فإذا أمسى رجع ، فإذا كان يوم نوحه على نفسه نادى مناديه أن اليوم يوم نوح داود على نفسه فليحضر من يساعده ، فيدخل الدار التي فيها المحاريب ، فيبسط له ثلاثة فرش مسوح حشوها ليف ، فيجلس عليها ويجيء أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي ، فيجلسون في تلك المحاريب ثم يرفع داود صوته بالبكاء والنوح على نفسه ، ويرفع الرهبان معه أصواتهم ، فلا يزال يبكي حتى تغرق الفرش من دموعه ، ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب ، فيجيء ابنه سليمان فيحمله فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ، ثم يمسح بها وجهه ، ويقول : يا رب اغفر لي ما ترى ، فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدنيا لعدله .
وقال وهب : ما رفع داود رأسه حتى قال له الملك : أول أمرك ذنب وآخره معصية ، ارفع رأسك فرفع رأسه فمكث حياته لا يشرب ماء إلا مزجه بدموعه ، ولا يأكل طعاما إلا بله بدموعه .
وذكر الأوزاعي مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مثل عيني داود كقربتين تنطفان ماء ، ولقد خدت الدموع في وجهه كخديد الماء في الأرض " .
قال وهب : لما تاب الله على داود قال : يا رب غفرت لي فكيف لي أن لا أنسى خطيئتي فأستغفر منها وللخاطئين إلى يوم القيامة قال : فوسم الله خطيئته في يده اليمنى ، فما رفع فيها طعاما ولا شرابا إلا بكى إذا رآها ، وما قام خطيبا في الناس إلا بسط راحته فاستقبل الناس ليروا وسم خطيئته ، وكان يبدأ إذا دعا فاستغفر للخاطئين قبل نفسه .
وقال قتادة عن الحسن : كان داود بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين ، يقول : تعالوا إلى داود الخاطئ فلا يشرب شرابا إلا مزجه بدموع عينيه ، وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعة فلا يزال يبكي عليه حتى يبتل بدموع عينيه ، وكان يذر عليه الملح والرماد فيأكل ويقول : هذا أكل الخاطئين . قال : وكان داود قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر ، فلما كان من خطيئته ما كان ، صام الدهر كله وقام الليل كله .
وقال ثابت : كان داود إذ ذكر عقاب الله تخلعت أوصاله ، فلا يشدها إلا الأسر ، وإذا ذكر رحمة الله تراجعت .
وفي القصة : أن الوحوش والطير كانت تستمع إلى قراءته ، فلما فعل ما فعل كانت لا تصغي [ ص: 86 ] إلى قراءته ، فروي أنها قالت : يا داود ذهبت خطيئتك بحلاوة صوتك .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سليمان بن حرب وأبو النعمان قالا : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " سجدة ص ليست من عزائم السجود ، وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها " .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي ، عن العوام قال : سألت مجاهدا عن سجدة ص فقال : سألت ابن عباس من أين سجدت ؟ قال : أوما تقرأ : " ومن ذريته داود وسليمان " إلى " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " ( الأنعام : 84 - 90 ) وكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به ، فسجدها داود ، فسجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا قتيبة ، حدثنا محمد بن زيد بن خنيس ، حدثنا الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال : قال لي ابن جريج : أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا رسول الله إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة ، فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي ، فسمعتها وهي تقول : اللهم اكتب لي بها عندك أجرا ، وضع عني بها وزرا ، واجعلها لي عندك ذخرا ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود . قال الحسن : قال ابن جريج : قال لي جدك : قال ابن عباس : فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدة ثم سجد ، فسمعته وهو يقول مثل ذلك ما أخبره الرجل عن قول الشجرة " .
[ ص: 87 ] ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ( 26 ) وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ( 27 ) أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ( 28 ) )
قوله تعالى : ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ) تدبر أمور العباد بأمرنا ، ( فاحكم بين الناس بالحق ) بالعدل ، ( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) أي بأن تركوا الإيمان بيوم الحساب . وقال الزجاج : بتركهم العمل لذلك اليوم .
وقال عكرمة والسدي : في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا ، أي : تركوا القضاء بالعدل .
( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ) قال ابن عباس : لا لثواب ولا لعقاب . ( ذلك ظن الذين كفروا ) يعني : أهل مكة هم الذين ظنوا أنهم خلقوا لغير شيء ، وأنه لا بعث ولا حساب ( فويل للذين كفروا من النار ) .
( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ) قال مقاتل : قال كفار قريش للمؤمنين : إنا نعطى في الآخرة من الخير ما يعطون ، فنزلت هذه الآية ( أم نجعل المتقين كالفجار ) أي المؤمنين كالكفار وقيل : أراد بالمتقين أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أي : لا نجعل ذلك .
[ ص: 88 ] ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ( 29 ) ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب ( 30 ) إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد ( 31 ) )
( كتاب أنزلناه إليك ) أي : هذا الكتاب أنزلناه إليك ، ) ( مبارك ) كثير خيره ونفعه ، ) ( ليدبروا ) أي : ليتدبروا ، ) ( آياته ) وليتفكروا فيها . قرأ أبو جعفر : " لتدبروا " بتاء واحدة وتخفيف الدال ، قال الحسن : تدبر آياته : اتباعه ) ( وليتذكر ) ليتعظ ، ( أولو الألباب ) .
قوله عز وجل : ( ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد ) .
قال الكلبي : غزا سليمان أهل دمشق ونصيبين ، فأصاب منهم ألف فرس .
وقال مقاتل : ورث من أبيه داود ألف فرس .
وقال عوف عن الحسن : بلغني أنها كانت خيلا أخرجت من البحر لها أجنحة .
قالوا : فصلى سليمان الصلاة الأولى ، وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه ، فعرضت عليه تسعمائة ، فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت ، وفاتته الصلاة ، ولم يعلم بذلك فاغتم لذلك هيبة لله ، فقال : ردوها علي ، فردوها عليه ، فأقبل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف تقربا إلى الله - عز وجل - وطلبا لمرضاته ، حيث اشتغل بها عن طاعته ، وكان ذلك مباحا له وإن كان حراما علينا ، كما أبيح لنا ذبح بهيمة الأنعام ، وبقي منها مائة فرس ، فما بقي في أيدي الناس اليوم من الخيل يقال من نسل تلك المائة .
قال الحسن : فلما عقر الخيل أبدله الله - عز وجل - خيرا منها وأسرع ، وهي الريح تجري بأمره كيف يشاء .
وقال إبراهيم التيمي : كانت عشرين فرسا . وعن عكرمة : كانت عشرين ألف فرس ، لها أجنحة .
قال الله تعالى : ( إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد ) " والصافنات " : هي الخيل القائمة [ ص: 89 ] على ثلاث قوائم وأقامت واحدة على طرف الحافر من يد أو رجل ، يقال : صفن الفرس يصفن صفونا : إذا قام على ثلاثة قوائم ، وقلب أحد حوافره . وقيل : الصافن في اللغة القائم . وجاء في الحديث : " من سره أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوأ مقعده من النار " أي قياما . والجياد : الخيار السراع ، واحدها جواد .
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يريد الخيل السوابق .
( فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ( 32 ) ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق ( 33 ) )
( فقال إني أحببت حب الخير ) أي : آثرت حب الخير ، وأراد بالخير الخيل ، والعرب تعاقب بين الراء واللام ، فتقول : ختلت الرجل وخترته أي : خدعته ، وسميت الخيل خيرا ؛ لأنه معقود بنواصيها الخير : الأجر والمغنم . قال مقاتل : حب الخير يعني المال ، فهي الخيل التي عرضت عليه . ( عن ذكر ربي ) يعني : عن الصلاة وهي صلاة العصر ( حتى توارت بالحجاب ) أي : توارت الشمس بالحجاب استترت بما يحجبها عن الأبصار ، يقال : الحاجب جبل دون قاف بمسيرة سنة ، والشمس تغرب من ورائه .
( ردوها علي ) أي : ردوا الخيل علي ، فردوها ، ( فطفق مسحا بالسوق والأعناق ) قال أبو عبيدة : " طفق يفعل " مثل " ما زال يفعل " ، والمراد بالمسح : القطع ، فجعل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف ، هذا قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل ، وأكثر المفسرين ، وكان ذلك مباحا له ؛ لأن نبي الله لم يكن يقدم على محرم ، ولم يكن يتوب عن ذنب بذنب آخر .
وقال محمد بن إسحاق : لم يعنفه الله على عقر الخيل إذا كان ذلك أسفا على ما فاته من فريضة ربه عز وجل . [ ص: 90 ]
وقال بعضهم : إنه ذبحها ذبحا وتصدق بلحومها ، وكان الذبح على ذلك الوجه مباحا في شريعته .
وقال قوم : معناه أنه حبسها في سبيل الله ، وكوى سوقها وأعناقها بكي الصدقة .
وقال الزهري ، وابن كيسان : إنه كان يمسح سوقها وأعناقها بيده ، يكشف الغبار عنها حبا لها وشفقة عليها ، وهذا قول ضعيف ، والمشهور هو الأول .
وحكي عن علي أنه قال في معنى قوله : " ردوها علي " يقول سليمان بأمر الله - عز وجل - للملائكة الموكلين بالشمس : " ردوها علي " يعني : الشمس ، فردوها عليه حتى صلى العصر في وقتها ، وذلك أنه كان يعرض عليه الخيل لجهاد عدو حتى توارت بالحجاب .
( ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب ( 34 ) )
قوله عز وجل : ( ولقد فتنا سليمان ) اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه .
وكان سبب ذلك ما ذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه قال : سمع سليمان - عليه السلام - بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون ، بها ملك عظيم الشأن ، لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر ، وكان الله قد آتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر ، إنما يركب إليه الريح ، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء ، حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس ، فقتل ملكها واستولى واستفاء وسبى ما فيها ، وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك يقال لها : جرادة ، لم ير مثلها حسنا وجمالا فاصطفاها لنفسه ، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه ، وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه ، وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها ، فشق ذلك علىسليمان فقال لها : ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب ، والدمع الذي لا يرقأ ؟ قالت : إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك ، قال سليمان : فقد أبدلك الله به ملكا هو أعظم من ملكه ، وسلطانا هو أعظم من سلطانه ، وهداك للإسلام وهو خير من [ ص: 91 ] ذلك كله ، قالت : إن ذلك كذلك ، ولكني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن ، فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشيا لرجوت أن يذهب ذلك حزني ، وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي ، فأمر سليمان الشياطين ، فقال : مثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئا ، فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه ، فعمدت إليه حين صنعوه فأزرته وقمصته وعممته وردته بمثل ثيابه التي كان يلبس ، ثم كان إذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه في ولائدها حتى تسجد له ، ويسجدن له كما كانت تصنع به في ملكه ، وتروح كل عشية بمثل ذلك وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحا ، وبلغ ذلك آصف بن برخيا ، وكان صديقا ، وكان لا يرد عن أبواب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل ، حاضرا كان سليمان أو غائبا ، فأتاه فقال : يا نبي الله كبر سني ، ورق عظمي ، ونفد عمري ، وقد حان مني الذهاب ، فقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله وأثني عليهم بعلمي فيهم ، وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم فقال : افعل . فجمع له سليمان الناس ، فقام فيهم خطيبا فذكر من مضى من أنبياء الله تعالى ، فأثنى على كل نبي بما فيه ، فذكر ما فضله الله حتى انتهى إلى سليمان ، فقال : ما أحلمك في صغرك ، وأورعك في صغرك ، وأفضلك في صغرك ، وأحكم أمرك في صغرك ، وأبعدك من كل ما تكره في صغرك ، ثم انصرف ، فوجد سليمان - عليه السلام - في نفسه من ذلك حتى ملأه غضبا ، فلما دخل سليمان داره أرسل إليه ، فقال : يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله ، فأثنيت عليهم خيرا في كل زمانهم ، وعلى كل حال من أمرهم ، فلما ذكرتني جعلت تثني علي بخير في صغري ، وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري ؟ فما الذي أحدثت في آخر أمري ؟ فقال : إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة ، فقال : في داري ؟ فقال : في دارك ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، لقد عرفت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك ، ثم رجع سليمان إلى داره وكسر ذلك الصنم ، وعاقب تلك المرأة وولائدها ، ثم أمر بثياب الطهرة فأتي بها وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار ، ولا ينسجها إلا الأبكار ، ولا يغسلها إلا الأبكار ، لم تمسسها امرأة قد رأت الدم ، فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده ، فأمر برماد ففرش له ، ثم أقبل تائبا إلى الله - عز وجل - حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك فيه بثيابه تذللا لله تعالى ، وتضرعا إليه يبكي ويدعو ، ويستغفر مما كان في داره ، فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى ، ثم رجع إلى داره ، وكانت له أم ولد يقال لها الأمينة ، كان إذا دخل مذهبه أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهر ، وكان لا يمس خاتمه [ ص: 92 ] إلا وهو طاهر ، وكان ملكه في خاتمه فوضعه يوما عندها ، ثم دخل مذهبه فأتاها الشيطان صاحب البحر ، واسمه صخر ، على صورة سليمان لا تنكر منه شيئا ، فقال : خاتمي أمينة ! فناولته إياه ، فجعله في يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس ، وخرج سليمان فأتى الأمينة وقد غيرت حاله ، وهيئته عند كل من رآه ، فقال : يا أمينة خاتمي ، قالت : من أنت ؟ قال : أنا سليمان بن داود ، قالت : كذبت فقد جاء سليمان فأخذ خاتمه وهو جالس على سرير ملكه ، فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته ، فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل فيقول : أنا سليمان بن داود ، فيحثون عليه التراب ويسبونه ، ويقولون انظروا إلى هذا المجنون ، أي شيء يقول يزعم أنه سليمان ، فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر ، فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق فيعطونه كل يوم سمكتين ، فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى فأكلها ، فمكث بذلك أربعين صباحا عدة ما كان عبد الوثن في داره ، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين ، فقال آصف : يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم اختلاف حكم ابن داود ما رأيت ؟ قالوا : نعم ، قال : أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهن فهل أنكرتن منه في خاصة أمره ما أنكرناه في عامة أمر الناس وعلانيته ، فدخل على نسائه ، فقال : ويحكن هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرنا ؟ . فقلن : أشده ما يدع منا امرأة في دمها ولا يغتسل من الجنابة . فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون إن هذا لهو البلاء المبين ، ثم خرج على بني إسرائيل فقال : ما في الخاصة أعظم مما في العامة ، فلما مضى أربعون صباحا طار الشيطان عن مجلسه ، ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه ، فبلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين ، وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك ، حتى إذا كان العشي أعطاه سمكتيه وأعطاه السمكة التي أخذت الخاتم ، فخرج سليمان بسمكتيه ، فباع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة ، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها فاستقبله خاتمه في جوفها ، فأخذه فجعله في يده ، ووقع ساجدا ، وعكفت عليه الطير والجن ، وأقبل عليه الناس ، وعرف الذي كان قد دخل عليه لما كان قد حدث في داره ، فرجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه ، وأمر الشياطين فقال : ائتوني بصخر فطلبته الشياطين حتى أخذته ، فأتي به وجاءوا له بصخرة فنقرها فأدخله فيها ثم شد عليه بأخرى ، ثم أوثقها بالحديد والرصاص ، ثم أمر به فقذف في البحر . هذا حديث وهب . [ ص: 93 ]
وقال الحسن : ما كان الله ليسلط الشيطان على نسائه .
وقال السدي : كان سبب فتنة سليمان أنه كان له مائة امرأة ، وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة هي آثر نسائه وآمنهن عنده ، وكان يأتمنها على خاتمه إذا أتى حاجته ، فقالت له يوما : إن أخي كان بينه وبين فلان خصومة ، وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك ، فقال : نعم ، ولم يفعل فابتلي بقوله ، فأعطاها خاتمه ودخل المخرج ، فجاء الشيطان في صورته فأخذه وجلس على مجلس سليمان ، وخرج سليمان - عليه السلام - فسألها خاتمه فقالت : ألم تأخذه ؟ قال : لا . وخرج مكانه ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما ، فأنكر الناس حكمه ، فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم حتى دخلوا على نسائه ، فقالوا : إنا قد أنكرنا هذا ، فإن كان سليمان فقد ذهب عقله ، فبكى النساء عند ذلك فأقبلوا حتى أحدقوا به ، ونشروا التوراة فقرءوها فطار من بين أيديهم ، حتى وقع على شرفة ، والخاتم معه ، ثم طار حتى ذهب إلى البحر ، فوقع الخاتم منه في البحر ، فابتلعه حوت ، وأقبل سليمان حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع قد اشتد جوعه ، فاستطعمه من صيده ، وقال : إني أنا سليمان ، فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه ، فجعل يغسل دمه على شاطئ البحر ، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه ، وأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم ، فشق بطونهما وجعل يغسلهما ، فوجد خاتمه في بطن إحداهما ، فلبسه فرد الله عليه ملكه وبهاءه .
وحامت عليه الطير فعرف القوم أنه سليمان ، فقاموا يعتذرون مما صنعوا . فقال : ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم ، هذا أمر كائن لا بد منه ، ثم جاء حتى أتى مملكته وأمر حتى أتي بالشيطان الذي أخذ خاتمه وجعله في صندوق من حديد ، وأطبق عليه بقفل ، وختم عليه بخاتمه ، وأمر به فألقي في البحر وهو حي كذلك حتى الساعة .
وفي بعض الروايات أن سليمان لما افتتن سقط الخاتم من يده ، وكان فيه ملكه فأعاده سليمان إلى يده فسقط فأيقن سليمان بالفتنة ، فأتى آصف فقال لسليمان : إنك مفتون بذنبك ، والخاتم لا يتماسك في يدك أربعة عشر يوما ففر إلى الله تائبا ، فإني أقوم مقامك ، وأسير بسيرتك إلى أن يتوب الله عليك ، ففر سليمان هاربا إلى ربه ، وأخذ آصف الخاتم ، فوضعه في أصبعه فثبت فهو [ ص: 94 ] الجسد الذي قال الله تعالى : " وألقينا على كرسيه جسدا " فأقام آصف في ملكه يسير بسيرته أربعة عشر يوما إلى أن رد الله على سليمان ملكه ، فجلس على كرسيه وأعاد الخاتم في يده فثبت .
وروي عن سعيد بن المسيب قال : احتجب سليمان عن الناس ثلاثة أيام ، فأوحى الله إليه احتجبت عن الناس ثلاثة أيام ؟ فلم تنظر في أمور عبادي ؟ فابتلاه الله - عز وجل - فذكر حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه كما روينا .
وقيل : قال سليمان يوما لأطوفن الليلة على نسائي كلهن ، فتأتي كل واحدة بابن يجاهد في سبيل الله ، ولم يستثن ، فجامعهن فما خرج له منهن إلا شق مولود ، فجاءت به القابلة فألقته على كرسيه ، فذلك قوله تعالى : " وألقينا على كرسيه جسدا " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قال سليمان : لأطوفن الليلة على تسعين امرأة ، كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة ، جاءت بشق رجل ، وايم الله الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون "
وقال طاوس عن أبي هريرة : لأطوفن الليلة بمائة امرأة ، قال له الملك : قل إن شاء الله ، فلم يقل ونسي . وأشهر الأقاويل أن الجسد الذي ألقي على كرسيه هو صخر الجني ، فذلك قوله عز وجل : ( وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب ) أي رجع إلى ملكه بعد أربعين يوما فلما رجع .
( قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب ( 35 ) )
( قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) قال مقاتل وابن كيسان : لا يكون لأحد من بعدي . قال عطاء بن أبي رباح : يريد هب لي ملكا لا تسلبنيه في آخر عمري وتعطه غيري ، كما استلبته فيما مضى من عمري .
( إنك أنت الوهاب ) قيل : سأل ذلك ليكون آية لنبوته ، ودلالة على رسالته ، ومعجزة . [ ص: 95 ]
وقيل : سأل ذلك ليكون علما على قبول توبته حيث أجاب الله دعاءه ورد إليه ملكه ، وزاد فيه .
وقال مقاتل بن حيان : كان لسليمان ملكا ولكنه أراد بقول : " لا ينبغي لأحد من بعدي " تسخير الرياح والطير والشياطين ، بدليل ما بعده .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي ، فأمكنني الله منه ، فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد ، حتى تنظروا إليه كلكم ، فذكرت دعوة أخي سليمان " رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي " فرددته خاسئا .
ابو وليد البحيرى
2022-09-09, 12:43 AM
الحلقة (356)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ ص
مَكِّيَّةٌ
الاية36 إلى الاية70
( فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ( 36 ) والشياطين كل بناء وغواص ( 37 ) وآخرين مقرنين في الأصفاد ( 38 ) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ( 39 ) )
قوله عز وجل : ( فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء ) لينة ليست بعاصفة ، ( حيث أصاب ) حيث أراد تقول العرب : أصاب الصواب فأخطأ الجواب ، تريد أراد الصواب .
) ( والشياطين ) أي : وسخرنا له الشياطين ، ( كل بناء ) يبنون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ، ) ( وغواص ) يستخرجون له اللآلئ من البحر ، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر .
( وآخرين مقرنين في الأصفاد ) مشدودين في القيود ، أي : وسخرنا له آخرين يعني : مردة الشياطين ، سخروا له حتى قرنهم في الأصفاد .
( هذا عطاؤنا ) أي قلنا له هذا عطاؤنا ( فامنن أو أمسك بغير حساب ) المن : هو الإحسان إلى من لا يستثنيه ، معناه : أعط من شئت وأمسك عمن شئت بغير حساب لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما أمسكت .
قال الحسن : ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان فإنه إن أعطى أجر ، وإن [ ص: 96 ] لم يعط لم يكن عليه تبعة .
وقال مقاتل : هذا في أمر الشياطين ، يعني : خل من شئت منهم ، وأمسك من شئت في وثاقك ، لا تبعة عليك فيما تتعاطاه .
( وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ( 40 ) واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ( 41 ) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ( 42 ) ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب ( 43 ) وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ( 44 ) )
( وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب )
قوله عز وجل : ( واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) بمشقة وضر .
قرأ أبو جعفر : " بنصب " بضم النون والصاد ، وقرأ يعقوب بفتحهما ، وقرأ الآخرون بضم النون وسكون الصاد ، ومعنى الكل واحد .
قال قتادة ومقاتل : بنصب في الجسد ، وعذاب في المال ، وقد ذكرنا قصة أيوب ومدة بلائه في سورة الأنبياء عليهم السلام .
فلما انقضت مدة بلائه قيل له : ( اركض برجلك ) اضرب برجلك الأرض ففعل فنبعت عين ماء ، ( هذا مغتسل ) فأمره الله أن يغتسل منها ، ففعل فذهب كل داء كان بظاهره ، ثم مشى أربعين خطوة ، فركض الأرض برجله الأخرى ، فنبعت عين أخرى ، ماء عذب بارد ، فشرب منه ، فذهب كل داء كان بباطنه ، فقوله : " هذا مغتسل بارد " يعني : الذي اغتسل منه ، ) ( وشراب ) أراد الذي شرب منه .
( ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب وخذ بيدك ضغثا ) وهو ملء الكف من الشجر أو الحشيش ، ( فاضرب به ولا تحنث ) في يمينك ، وكان قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوط ، فأمره الله أن يأخذ ضغثا يشتمل على مائة عود صغار ، ويضربها به ضربة [ ص: 97 ] واحدة ، ( إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ) .
( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار ( 45 ) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ( 46 ) وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ( 47 ) واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار ( 48 ) هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب ( 49 ) )
( واذكر عبادنا ) قرأ ابن كثير " عبدنا " على التوحيد ، وقرأ الآخرون " عبادنا " بالجمع ، ( إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي ) قال ابن عباس : أولي القوة في طاعة الله تعالى ( والأبصار ) في المعرفة بالله ، أي : البصائر في الدين ، قال قتادة ومجاهد : أعطوا قوة في العبادة ، وبصرا في الدين .
( إنا أخلصناهم ) اصطفيناهم ( بخالصة ذكرى الدار ) قرأ أهل المدينة : " بخالصة " مضافا ، وقرأ الآخرون بالتنوين ، فمن أضاف فمعناه : أخلصناهم بذكر الدار الآخرة ، وأن يعملوا لها ، والذكرى : بمعنى الذكر . قال مالك بن دينار : نزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها ، وأخلصناهم بحب الآخرة وذكرها .
وقال قتادة : كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله عز وجل .
وقال السدي : أخلصوا بخوف الآخرة .
وقيل : معناه أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة .
قال ابن زيد : ومن قرأ بالتنوين فمعناه : بخلة خالصة ، وهي ذكرى الدار ، فيكون " ذكرى " الدار بدلا عن الخالصة .
وقيل : " أخلصناهم " : جعلناهم مخلصين بما أخبرنا عنهم من ذكر الآخرة .
[ ص: 98 ] ( وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار هذا ذكر ) أي : هذا الذي يتلى عليكم ذكر ، أي : شرف ، وذكر جميل تذكرون به ( وإن للمتقين لحسن مآب ) .
( جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ( 50 ) متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب ( 51 ) وعندهم قاصرات الطرف أتراب ( 52 ) هذا ما توعدون ليوم الحساب ( 53 ) إن هذا لرزقنا ما له من نفاد ( 54 ) هذا وإن للطاغين لشر مآب ( 55 ) جهنم يصلونها فبئس المهاد ( 56 ) هذا فليذوقوه حميم وغساق ( 57 ) )
( جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ) أي : أبوابها مفتحة لهم .
( متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب وعندهم قاصرات الطرف أتراب ) مستويات الأسنان ، بنات ثلاثة وثلاثين سنة ، واحدها ترب . وعن مجاهد قال : متواخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن .
( هذا ما توعدون ) قرأ ابن كثير : " يوعدون " بالياء هاهنا ، وفي " ق " أي : ما يوعد المتقون ، وافق أبو عمرو هاهنا ، وقرأ الباقون بالتاء فيهما ، أي : قل للمؤمنين : هذا ما توعدون ، ( ليوم الحساب ) أي في يوم الحساب .
( إن هذا لرزقنا ما له من نفاد ) فناء وانقطاع .
) ( هذا ) أي الأمر هذا ( وإن للطاغين ) للكافرين ( لشر مآب ) مرجع .
( جهنم يصلونها ) يدخلونها ( فبئس المهاد ) .
) ( هذا ) أي هذا العذاب ، ( فليذوقوه حميم وغساق ) قال الفراء : أي هذا حميم وغساق فليذوقوه ، والحميم : الماء الحار الذي انتهى حره . [ ص: 99 ]
" وغساق " : قرأ حمزة ، والكسائي وحفص : " وغساق " حيث كان بالتشديد ، وخففها الآخرون ، فمن شدد جعله اسما على فعال ، نحو الخباز والطباخ ، ومن خفف جعله اسما على فعال نحو العذاب .
واختلفوا في معنى الغساق ، قال ابن عباس : هو الزمهرير يحرقهم ببرده ، كما تحرقهم النار بحرها .
وقال مقاتل ومجاهد : هو الذي انتهى برده .
وقيل : هو المنتن بلغة الترك .
وقال قتادة : هو ما يغسق أي : ما يسيل من القيح والصديد من جلود أهل النار ، ولحومهم ، وفروج الزناة ، من قوله : غسقت عينه إذا انصبت ، والغسقان الانصباب .
( وآخر من شكله أزواج ( 58 ) هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار ( 59 ) قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار ( 60 ) )
( وآخر ) قرأ أهل البصرة : " وأخر " بضم الألف على جمع أخرى ، مثل : الكبرى والكبر ، واختاره أبو عبيدة لأنه نعته بالجمع ، فقال : أزواج ، وقرأ الآخرون بفتح الهمزة مشبعة على الواحد ، ( من شكله ) مثله أي : مثل الحميم والغساق ، ) ( أزواج ) أي : أصناف أخر من العذاب .
( هذا فوج مقتحم معكم ) قال ابن عباس : " هذا " هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للقادة هذا يعني : الأتباع ، فوج : جماعة مقتحم معكم النار ، أي : داخلوها كما أنتم دخلتموها . والفوج : القطيع من الناس وجمعه أفواج ، والاقتحام الدخول في الشيء رميا بنفسه فيه . قال الكلبي : إنهم يضربون بالمقامع حتى يوقعوا أنفسهم في النار خوفا من تلك المقامع ، فقالت القادة : ( لا مرحبا بهم ) يعني : بالأتباع ، ( إنهم صالوا النار ) أي : داخلوها كما صلينا .
) ( قالوا ) فقال الأتباع للقادة : ( بل أنتم لا مرحبا بكم ) والمرحب والرحب : السعة ، تقول العرب : مرحبا وأهلا وسهلا أي : أتيت رحبا وسعة ، وتقول : لا مرحبا بك ، أي : لا رحبت عليك الأرض . ( أنتم قدمتموه لنا ) يقول الأتباع للقادة : أنتم بدأتم بالكفر قبلنا ، وشرعتم وسننتموه لنا . وقيل : أنتم قدمتم هذا العذاب لنا ، بدعائكم إيانا إلى الكفر ، ( فبئس القرار ) أي : فبئس دار القرار جهنم .
[ ص: 100 ] ) ( قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار ( 61 ) وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار ( 62 ) أأتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار ( 63 ) إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ( 64 ) قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار ( 65 ) )
( قالوا ) يعني : الأتباع ( ربنا من قدم لنا هذا ) أي : شرعه وسنه لنا ، ( فزده عذابا ضعفا في النار ) أي : ضعف عليه العذاب في النار . قال ابن مسعود : يعني حيات وأفاعي .
) ( وقالوا ) يعني صناديد قريش وهم في النار ، ( ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم ) في الدنيا ، ( من الأشرار ) يعنون فقراء المؤمنين : عمارا ، وخبابا ، وصهيبا ، وبلالا وسلمان رضي الله عنهم . ثم ذكروا أنهم كانوا يسخرون من هؤلاء ، فقالوا :
) ( أتخذناهم سخريا ) قرأ أهل البصرة ، وحمزة ، والكسائي : " من الأشرار اتخذناهم " وصل ، ويكسرون الألف عند الابتداء ، وقرأ الآخرون بقطع الألف وفتحها على الاستفهام .
قال أهل المعاني : القراءة الأولى أولى ; لأنهم علموا أنهم اتخذوهم سخريا فلا يستقيم الاستفهام ، وتكون " أم " على هذه القراءة بمعنى " بل " ومن فتح الألف قال : هو على اللفظ لا على المعنى ليعادل " أم " في قوله ( أم زاغت عنهم الأبصار ) قال الفراء : هذا من الاستفهام الذي معناه التوبيخ والتعجب " أم زاغت " أي مالت " عنهم الأبصار " . ومجاز الآية : ما لنا لا نرى هؤلاء الذين اتخذناهم سخريا لم يدخلوا معنا النار أم دخلوها فزاغت عنهم أبصارنا ، فلم نرهم حين دخلوها .
وقيل : أم هم في النار ولكن احتجبوا عن أبصارنا
وقال ابن كيسان : أم كانوا خيرا منا ولكن نحن لا نعلم ، فكانت أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدهم شيئا . ) ( إن ذلك ) الذي ذكرت ) ( لحق ) ثم بين فقال : ( تخاصم أهل النار ) أي : تخاصم أهل النار في النار لحق .
) ( قل ) يا محمد لمشركي مكة ، ( إنما أنا منذر ) مخوف ( وما من إله إلا الله الواحد القهار ) .
[ ص: 101 ] ( رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ( 66 ) قل هو نبأ عظيم ( 67 ) أنتم عنه معرضون ( 68 ) ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون ( 69 ) إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين ( 70 ) )
) ( رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ) .
) ( قل ) يا محمد ، ) ( هو ) يعني : القرآن ، ( نبأ عظيم ) قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وقيل : يعني : القيامة كقوله : " عم يتساءلون عن النبأ العظيم " ( النبأ : 1 - 2 ) .
( أنتم عنه معرضون ما كان لي من علم بالملإ الأعلى ) يعني : الملائكة ، ( إذ يختصمون ) يعني : في شأن آدم عليه السلام ، حين قال الله تعالى : " إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها " ( البقرة : 30 ) .
( إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين ) قال الفراء : إن شئت جعلت " أنما " في موضع رفع ، أي : ما يوحى إلي إلا الإنذار ، وإن شئت جعلت المعنى : ما يوحى إلي إلا أني نذير مبين .
وقرأ أبو جعفر : " إنما " بكسر الألف ؛ لأن الوحي قول .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر ، قال مر بنا خالد بن اللجلاج ، فدعاه مكحول فقال : يا إبراهيم حدثنا حديث عبد الرحمن بن عائش ، قال : سمعت عبد الرحمن بن عائش الحضرمي يقول : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " رأيت ربي - عز وجل - في أحسن صورة ، فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد ؟ قلت : أنت أعلم أي رب ، مرتين ، قال : فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ، فعلمت ما في السماء والأرض " . قال : ثم تلا هذه الآية " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين " ( الأنعام : 75 ) ثم قال : فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد ؟ قلت : في الكفارات ، قال : وما هن ؟ قلت : المشي على الأقدام إلى الجماعات ، والجلوس في المساجد خلف الصلوات ، وإبلاغ الوضوء أماكنه في المكاره ، قال : ومن يفعل ذلك يعش بخير ويمت بخير ، ويكن من خطيئته كيوم ولدته أمه ، ومن الدرجات إطعام الطعام ، [ ص: 102 ] وبذل السلام ، وأن يقوم بالليل والناس نيام . قال : قل اللهم إني أسألك الطيبات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وأن تغفر لي ، وترحمني ، وتتوب علي ، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تعلموهن ، فوالذي نفس محمد بيده إنهن لحق " .
ابو وليد البحيرى
2022-09-09, 12:49 AM
الحلقة (357)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الزُّمَرِ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية10
( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين ( 71 ) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ( 72 ) فسجد الملائكة كلهم أجمعون ( 73 ) إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين ( 74 ) قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين ( 75 ) قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ( 76 ) قال فاخرج منها فإنك رجيم ( 77 ) وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين ( 78 ) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ( 79 ) قال فإنك من المنظرين ( 80 ) إلى يوم الوقت المعلوم ( 81 ) )
قوله عز وجل : ( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين ) يعني : آدم عليه السلام .
( فإذا سويته ) أتممت خلقه ، ( ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت ) . ألف استفهام دخلت على ألف الوصل ( أم كنت من العالين ) المتكبرين . استفهام توبيخ وإنكار ، يقول : أستكبرت بنفسك حتى أبيت السجود ؟ أم كنت من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود لكونك منهم ؟
( قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاخرج منها ) أي : من الجنة ، وقيل : من السماوات . وقال الحسن وأبو العالية : أي من الخلقة التي أنت فيها . قال الحسين بن الفضل : هذا تأويل صحيح لأن إبليس تجبر وافتخر بالخلقة ، فغير الله خلقته ، فاسود وقبح بعد حسنه ، ( فإنك رجيم ) مطرود .
( وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ) ، وهو النفخة الأولى .
[ ص: 103 ]
( قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين ( 82 ) إلا عبادك منهم المخلصين ( 83 ) قال فالحق والحق أقول ( 84 ) لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ( 85 ) قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ( 86 ) إن هو إلا ذكر للعالمين ( 87 ) ولتعلمن نبأه بعد حين ( 88 ) )
) ( قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول ) قرأ عاصم وحمزة ويعقوب : " فالحق " برفع القاف على الابتداء ، وخبره محذوف تقديره : الحق مني ، ونصب الثانية أي : وأنا أقول الحق ، قاله مجاهد ، وقرأ الآخرون بنصبهما ، واختلفوا في وجههما ، قيل : نصب الأولى على الإغراء كأنه قال : الزم الحق ، والثاني بإيقاع القول عليه أي : أقول الحق . وقيل : الأول قسم ، أي : فبالحق وهو الله - عز وجل - فانتصب بنزع الخافض ، وهو حرف الصفة ، وانتصاب الثاني بإيقاع القول عليه . وقيل : الثاني تكرار القسم ، أقسم الله بنفسه .
( لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين قل ما أسألكم عليه ) على تبليغ الرسالة ( من أجر ) جعل ، ( وما أنا من المتكلفين ) المتقولين القرآن من تلقاء نفسي ، وكل من قال شيئا من تلقاء نفسه فقد تكلف له .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : دخلنا على عبد الله بن مسعود فقال : يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم : الله أعلم . قال الله تعالى لنبيه : " قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين " .
قوله ) ( إن هو ) ما هو ، يعني : القرآن ) ( إلا ذكر ) موعظة ، ) ( للعالمين ) للخلق أجمعين .
) ( ولتعلمن ) أنتم يا كفار مكة ، ) ( نبأه ) خبر صدقه ، ) ( بعد حين ) قال ابن عباس وقتادة : بعد الموت . وقال عكرمة : يعني يوم القيامة . وقال الكلبي : من بقي علم ذلك إذا ظهر أمره وعلا ، ومن مات علمه بعد موته . قال الحسن : ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين .
سُورَةُ الزُّمَرِ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلُهُ ( قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) الْآيَةَ .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
) ( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 1 ) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ( 2 ) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ( 3 ) )
( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ ) أَيْ : هَذَا تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ . وَقِيلَ : تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ : ( مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) أَيْ : تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ لَا مِنْ غَيْرِهِ .
( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) قَالَ مُقَاتِلٌ : لَمْ نُنْزِلْهُ بَاطِلًا لِغَيْرِ شَيْءٍ ، ( فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ) الطَّاعَةَ .
( أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) قَالَ قَتَادَةُ : شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ . وَقِيلَ : لَا يَسْتَحِقُّ الدِّينَ الْخَالِصَ إِلَّا اللَّهُ وَقِيلَ : الدِّينُ الْخَالِصُ مِنَ الشَّرَكِ هُوَ لِلَّهِ .
( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ ) أَيْ : مِنْ دُونِ اللَّهِ ، ) ( أَوْلِيَاءَ ) يَعْنِي : الْأَصْنَامَ ، ( مَا نَعْبُدُهُمْ ) أَيْ قَالُوا : مَا نَعْبُدُهُمْ ، ( إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ .
[ ص: 108 ] قَالَ قَتَادَةُ : وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ : مَنْ رَبُّكُمْ ، وَمَنْ خَلَقَكُمْ ، وَمَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ؟ قَالُوا : اللَّهُ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : فَمَا مَعْنَى عِبَادَتِكُمُ الْأَوْثَانَ ؟ قَالُوا : لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ، أَيْ : قُرْبَى ، وَهُوَ اسْمٌ أُقِيمَ فِي مَقَامِ الْمَصْدَرِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ تَقْرِيبًا وَيَشْفَعُوا لَنَا عِنْدَ اللَّهِ ، ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) مِنْ أَمْرِ الدِّينِ ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) لَا يُرْشِدُ لِدِينِهِ مَنْ كَذَبَ فَقَالَ : إِنَّ الْآلِهَةَ تَشْفَعُ وَكَفَى بِاتِّخَاذِ الْآلِهَةِ دُونَهُ كَذِبًا وَكُفْرًا
( لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار ( 4 ) خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار ( 5 ) خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون ( 6 ) )
( لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى ) لاختار ، ( مما يخلق ما يشاء ) يعني : الملائكة ، كما قال : " لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا " ( الأنبياء - 17 ) ثم نزه نفسه فقال : ) ( سبحانه ) تنزيها له عن ذلك ، وعما لا يليق بطهارته ، ( هو الله الواحد القهار ) .
( خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ) قال قتادة : يغشي هذا هذا ، كما قال : " يغشي الليل النهار " ( الأعراف - 54 ) وقيل : يدخل أحدهما على الآخر كما قال : " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل " ( الحج - 61 ) .
وقال الحسن ، والكلبي : ينقص من الليل فيزيد في النهار ، وينقص من النهار فيزيد في الليل ، فما نقص من الليل دخل في النهار ، وما نقص من النهار دخل في الليل . ومنتهى النقصان تسع ساعات ، ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة ، وأصل التكوير اللف والجمع ، ومنه : كور العمامة . ( وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار ) .
( خلقكم من نفس واحدة ) يعني : آدم ، ( ثم جعل منها زوجها ) يعني حواء ، ( وأنزل لكم من الأنعام ) معنى الإنزال هاهنا : الإحداث والإنشاء كقوله تعالى : " أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم " ( الأعراف - 26 ) . [ ص: 109 ]
وقيل : إنه أنزل الماء الذي هو سبب نبات القطن الذي يكون منه اللباس ، وسبب النبات الذي تبقى به الأنعام .
وقيل : " وأنزل لكم من الأنعام " جعلها لكم نزلا ورزقا . ( ثمانية أزواج ) أصناف ، تفسيرها في سورة الأنعام ( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ) نطفة ثم علقة ثم مضغة ، كما قال الله تعالى : " وقد خلقكم أطوارا " ( نوح - 14 ) ( في ظلمات ثلاث ) قال ابن عباس : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ( ذلكم الله ) الذي خلق هذه الأشياء ، ( ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون ) عن طريق الحق بعد هذا البيان .
( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور ( 7 ) وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ( 8 ) )
) ( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر ) قال ابن عباس والسدي : لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر ، وهم الذين قال الله تعالى : " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " ( الحجر - 42 ) فيكون عاما في اللفظ خاصا في المعنى ، كقوله تعالى : " عينا يشرب بها عباد الله " ( الإنسان - 6 ) يريد بعض العباد ، وأجراه قوم على العموم ، وقالوا : لا يرضى لأحد من عباده الكفر .
ومعنى الآية : لا يرضى لعباده أن يكفروا به . يروى ذلك عن قتادة ، وهو قول السلف ، قالوا : كفر الكافر غير مرضي لله عز وجل ، وإن كان بإرادته . ( وإن تشكروا ) تؤمنوا بربكم وتطيعوه ، ( يرضه لكم ) فيثيبكم عليه . قرأ أبو عمرو : " يرضه لكم " ساكنة الهاء ، ويختلسها أهل المدينة وعاصم وحمزة ، والباقون بالإشباع ) . ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور ) .
( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ) راجعا إليه مستغيثا به ، ( ثم إذا خوله نعمة منه ) أعطاه نعمة منه ، ) ( نسي ) ترك ( ما كان يدعو إليه من قبل ) أي : نسي الضر الذي [ ص: 110 ] كان يدعو الله إلى كشفه ، ( وجعل لله أندادا ) يعني : الأوثان ، ( ليضل عن سبيله ) ليزل عن دين الله .
) ( قل ) لهذا الكافر : ( تمتع بكفرك قليلا ) في الدنيا إلى أجلك ، ( إنك من أصحاب النار ) قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة ، وقال مقاتل : نزلت في أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي . وقيل : عام في كل كافر .
( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ( 9 ) )
( أم من هو قانت ) قرأ ابن كثير ونافع وحمزة : " أمن " بتخفيف الميم ، وقرأ الآخرون بتشديدها ، فمن شدد فله وجهان :
أحدهما : أن تكون الميم في " أم " صلة ، فيكون معنى الكلام استفهاما وجوابه محذوفا مجازه : أمن هو قانت كمن هو غير قانت ؟ كقوله : " أفمن شرح الله صدره للإسلام " ( الزمر - 22 ) يعني كمن لم يشرح صدره .
والوجه الآخر : أنه عطف على الاستفهام مجازه : الذي جعل لله أندادا خير أمن هو قانت ؟ . ومن قرأ بالتخفيف فهو ألف استفهام دخلت على من ، معناه : أهذا كالذي جعل لله أندادا ؟
وقيل : الألف في " أمن " بمعنى حرف النداء ، تقديره : يا من هو قانت ، والعرب تنادي بالألف كما تنادي بالياء ، فتقول : أبني فلان ويا بني فلان ، فيكون معنى الآية : قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ، يا من هو قانت ( آناء الليل ) إنك من أهل الجنة ، قاله ابن عباس .
وفي رواية عطاء : نزلت في أبي بكر الصديق .
وقال الضحاك : نزلت في أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - . [ ص: 111 ]
وعن ابن عمر أنها نزلت في عثمان .
وعن الكلبي أنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان .
والقانت : المقيم على الطاعة . قال ابن عمر : " القنوت " : قراءة القرآن وطول القيام ، و " آناء الليل " : ساعاته ، ( ساجدا وقائما ) يعني : في الصلاة ، ( يحذر الآخرة ) يخاف الآخرة ، ( ويرجو رحمة ربه ) يعني : كمن لا يفعل شيئا من ذلك ، ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) قيل : " الذين يعلمون " عمار ، " والذين لا يعلمون " : أبو حذيفة المخزومي ، ( إنما يتذكر أولو الألباب ) .
( قل ياعبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ( 10 ) )
( قل ياعباد الذين آمنوا اتقوا ربكم ) بطاعته واجتناب معصيته ، ( للذين أحسنوا في هذه الدنيا ) أي : آمنوا وأحسنوا العمل ، ) ( حسنة ) يعني : الجنة ، قاله مقاتل . وقال السدي : في هذه الدنيا حسنة يعني : الصحة والعافية ، ( وأرض الله واسعة ) قال ابن عباس : يعني ارتحلوا من مكة . وفيه حث على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي .
وقيل : نزلت في مهاجري الحبشة .
وقال سعيد بن جبير : من أمر بالمعاصي فليهرب . ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى .
وقيل : نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا .
قال علي - رضي الله عنه - : كل مطيع يكال له كيلا ويوزن له وزنا إلا الصابرون ، فإنه يحثى لهم حثيا .
ويروى : " يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ، ويصب عليهم الأجر صبا بغير حساب ، قال الله تعالى : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل .
ابو وليد البحيرى
2022-09-09, 12:53 AM
الحلقة (358)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الزُّمَرِ
مَكِّيَّةٌ
الاية11 إلى الاية36
[ ص: 112 ] ( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ( 11 ) وأمرت لأن أكون أول المسلمين ( 12 ) قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( 13 ) قل الله أعبد مخلصا له ديني ( 14 ) فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ( 15 ) لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده ياعباد فاتقون ( 16 ) والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عبادي ( 17 ) )
) ( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ) مخلصا له التوحيد لا أشرك به شيئا .
( وأمرت لأن أكون أول المسلمين ) من هذه الأمة .
( قل إني أخاف إن عصيت ربي ) وعبدت غيره ، ( عذاب يوم عظيم ) وهذا حين دعي إلى دين آبائه .
( قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه ) أمر توبيخ وتهديد ، كقوله : " اعملوا ما شئتم " ( فصلت - 40 ) . ( قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ) أزواجهم وخدمهم ، ( يوم القيامة ) قال ابن عباس : وذلك أن الله جعل لكل إنسان منزلا في الجنة وأهلا فمن عمل بطاعة الله كان ذلك المنزل والأهل له ، ومن عمل بمعصية الله دخل النار ، وكان ذلك المنزل والأهل لغيره ممن عمل بطاعة الله . وقيل : خسران النفس بدخول النار ، وخسران الأهل بأن يفرق بينه وبين أهله ، ( ألا ذلك هو الخسران المبين ) .
( لهم من فوقهم ظلل من النار ) أطباق سرادقات من النار ودخانها ، ( ومن تحتهم ظلل ) فراش ومهاد من نار إلى أن ينتهي إلى القعر ، وسمى الأسفل ظللا ؛ لأنها ظلل لمن تحتهم ، نظيرها قوله - عز وجل - : " لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش " ( الأعراف - 41 ) .
( ذلك يخوف الله به عباده ياعباد فاتقون ) .
( والذين اجتنبوا الطاغوت ) الأوثان ( أن يعبدوها وأنابوا إلى الله ) رجعوا إلى عبادة الله ، ( لهم البشرى ) في الدنيا ، والجنة في العقبى ) ( فبشر عباد ) .
( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ( 18 ) أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ( 19 ) لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد ( 20 ) )
( الذين يستمعون القول ) القرآن ، [ ص: 113 ] ( فيتبعون أحسنه ) قال السدي : أحسن ما يؤمرون فيعملون به . وقيل : هو أن الله تعالى ذكر في القرآن الانتصار من الظالم وذكر العفو ، والعفو أحسن الأمرين . وقيل : ذكر العزائم والرخص فيتبعون الأحسن وهو العزائم . وقيل : يستمعون القرآن وغير القرآن فيتبعون القرآن .
وقال عطاء عن ابن عباس : آمن أبو بكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه عثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا ، فنزلت فيهم : " فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " وكله حسن . ) ( أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ) .
وقال ابن زيد : نزلت " والذين اجتنبوا الطاغوت " الآيتان ، في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون : لا إله إلا الله : زيد بن عمرو بن نفيل ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي . والأحسن : قول لا إله إلا الله .
( أفمن حق عليه كلمة العذاب ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : من سبق في علم الله أنه من أهل النار . وقيل : كلمة العذاب قوله : " لأملأن جهنم " ، وقيل : قوله : " هؤلاء في النار ولا أبالي " . ( أفأنت تنقذ من في النار ) أي : لا تقدر عليه . قال ابن عباس : يريد أبا لهب وولده .
( لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية ) أي : منازل في الجنة رفيعة ، وفوقها منازل أرفع منها ، ( تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد ) أي : وعدهم الله تلك الغرف والمنازل وعدا لا يخلفه . [ ص: 114 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني عبد العزيز بن عبد الله ، حدثني مالك عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم " ، قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ، قال : " بلى - والذي نفسي بيده - رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " .
( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ( 21 ) أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ( 22 ) )
قوله عز وجل : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ) أدخل ذلك الماء ، ) ( ينابيع ) عيونا وركايا ) ( في الأرض ) قال الشعبي : كل ماء في الأرض فمن السماء نزل ، ( ثم يخرج به ) أي : بالماء ( زرعا مختلفا ألوانه ) أحمر وأصفر وأخضر ، ) ( ثم يهيج ) ييبس ) ( فتراه ) بعد خضرته ونضرته ، ( مصفرا ثم يجعله حطاما ) فتاتا متكسرا ، ( إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) .
قوله عز وجل : ( أفمن شرح الله صدره للإسلام ) وسعه لقبول الحق ، ( فهو على نور من ربه ) ليس كمن أقسى الله قلبه .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا عبد الله بن محمد بن شيبة ، حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن يزيد الموصلي ببغداد ، حدثنا أبو فروة واسمه يزيد بن محمد ، حدثني أبي عن أبيه ، حدثنا زيد بن أبي أنيسة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود قال : تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) قلنا : يا رسول الله كيف انشراح صدره ؟ [ ص: 115 ] قال : " إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح " قلنا : يا رسول الله فما علامة ذلك ؟ قال : " الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والتأهب للموت قبل نزول الموت " .
قوله عز وجل : ( فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ) قال مالك بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب ، وما غضب الله - عز وجل - على قوم إلا نزع منهم الرحمة .
( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد ( 23 ) )
قوله عز وجل : ( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها ) يشبه بعضه بعضا في الحسن ، ويصدق بعضه بعضا ليس فيه تناقض ولا اختلاف . ) ( مثاني ) يثنى فيه ذكر الوعد والوعيد ، والأمر والنهي ، والأخبار والأحكام ، ) ( تقشعر ) تضطرب وتشمئز ، ( منه جلود الذين يخشون ربهم ) والاقشعرار تغير في جلد الإنسان عند الوجل والخوف ، وقيل : المراد من الجلود القلوب ، أي : قلوب الذين يخشون ربهم . ( ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ) أي : لذكر الله ، أي : إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله ، وإذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم ، كما قال الله تعالى : " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " ( الرعد - 28 ) .
وحقيقة المعنى : أن قلوبهم تقشعر من الخوف ، وتلين عند الرجاء .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد ، حدثنا موسى بن محمد بن علي ، حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أم كلثوم بنت العباس ، عن العباس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها " . [ ص: 116 ]
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا موسى بن إسحاق الأنصاري ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد بهذا الإسناد ، وقال : " إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله حرمه الله على النار " .
قال قتادة : هذا نعت أولياء الله نعتهم الله بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر الله ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم ، إنما ذلك في أهل البدع ، وهو من الشيطان .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، ثنا ابن شيبة ، حدثنا حمدان بن داود ، حدثنا سلمة بن شيبة ، حدثنا خلف بن سلمة ، حدثنا هشيم عن حصين عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال : قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر : كيف كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن ؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله - عز وجل - تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم ، قال : فقلت لها : إن ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشيا عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
وبه عن سليمان بن سلمة ثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي أنا ابن عمر : مر برجل من أهل العراق ساقطا فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر الله سقط ، قال ابن عمر : إنا لنخشى الله وما نسقط !
وقال ابن عمر : إن الشيطان ليدخل في جوف أحدهم ، ما كان هذا صنيع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وذكر عن ابن سيرين : الذين يصرعون إذ قرئ عليهم القرآن ؟ فقال : بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره ، فإن رمى بنفسه فهو صادق .
) ( ذلك ) يعني : أحسن الحديث ، ( هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد ) .
[ ص: 117 ] ( أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون ( 24 ) كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ( 25 ) فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ( 26 ) ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون ( 27 ) قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ( 28 ) )
) ( أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب ) أي : شدته ، ( يوم القيامة ) قال مجاهد : يجر على وجهه في النار . وقال عطاء : يرمى به في النار منكوسا فأول شيء منه تمسه النار وجهه . قال مقاتل : هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه ، وفي عنقه صخرة مثل جبل عظيم من الكبريت ، فتشتعل النار في الحجر ، وهو معلق في عنقه فخر ووهجها على وجهه لا يطيق دفعها عن وجهه ؛ للأغلال التي في عنقه ويده .
ومجاز الآية : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن هو آمن من العذاب ؟ .
) ( وقيل ) يعني : تقول الخزنة ، ( للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون ) أي : وباله .
( كذب الذين من قبلهم ) من قبل كفار مكة كذبوا الرسل ، ( فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) يعني : وهم آمنون غافلون من العذاب .
( فأذاقهم الله الخزي ) العذاب والهوان ، ( في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) .
( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون ) يتعظون .
) ( قرآنا عربيا ) نصب على الحال ، ( غير ذي عوج ) قال ابن عباس : غير مختلف . قال مجاهد : غير ذي لبس . قال السدي : غير مخلوق . ويروى ذلك عن مالك بن أنس ، وحكي عن سفيان بن عيينة عن سبعين من التابعين أن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق ( لعلهم يتقون ) الكفر والتكذيب به .
[ ص: 118 ] ( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( 29 ) إنك ميت وإنهم ميتون ( 30 ) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ( 31 ) )
) ( ضرب الله مثلا رجلا ) قال الكسائي : نصب " رجلا " ؛ لأنه تفسير للمثل ، ( فيه شركاء متشاكسون ) متنازعون مختلفون سيئة أخلاقهم ، يقال : رجل شكس شرس ، إذا كان سيئ الخلق ، مخالفا للناس ، لا يرضى بالإنصاف ، ( ورجلا سلما لرجل ) قرأ أهل مكة والبصرة : " سالما " بالألف أي : خالصا له لا شريك ولا منازع له فيه ، وقرأ الآخرون : " سلما " بفتح اللام من غير ألف ، وهو الذي لا ينازع فيه من قولهم : هو لك سلم ، أي : مسلم لا منازع لك فيه . ( هل يستويان مثلا ) هذا مثل ضربه الله - عز وجل - للكافر الذي يعبد آلهة شتى ، والمؤمن الذي لا يعبد إلا الله الواحد ، وهذا استفهام إنكار أي : لا يستويان ، ثم قال : ) ( الحمد لله ) أي : لله الحمد كله دون غيره من المعبودين . ( بل أكثرهم لا يعلمون ) ما يصيرون إليه والمراد بالأكثر الكل .
( إنك ميت ) أي : ستموت ، ( وإنهم ميتون ) أي : سيموتون . قال الفراء والكسائي : الميت - بالتشديد - من لم يمت وسيموت ، الميت - بالتخفيف - من فارقه الروح ، ولذلك لم يخفف هاهنا .
( ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ) قال ابن عباس : يعني : المحق والمبطل ، والظالم والمظلوم .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا ابن مالك ، حدثنا ابن حنبل ، حدثني أبي ، حدثنا ابن نمير ، حدثنا محمد - يعني - ابن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن عبد الله بن الزبير ، عن الزبير بن العوام قال : لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " قال الزبير : أي رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟ قال : " نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه " قال الزبير : والله إن الأمر لشديد [ ص: 119 ] .
وقال ابن عمر : عشنا برهة من الدهر وكنا نرى أن هذه الآية أنزلت فينا وفي أهل الكتابين " ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " قلنا : كيف نختصم وديننا وكتابنا واحد ؟ حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف ، فعرفت أنها نزلت فينا .
وعن أبي سعيد الخدري في هذه الآية قال : كنا نقول : ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة ؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا : نعم هو هذا .
وعن إبراهيم قال : لما نزلت : " ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " قالوا : كيف نختصم ونحن إخوان ؟ فلما قتل عثمان قالوا : هذه خصومتنا ؟
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم ، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له أخذ من سيئاته فجعلت عليه " .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشمهيني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتدرون من المفلس " ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال : " إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، وكان قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيقضي هذا من حسناته وهذا من حسناته ، قال : فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار " .
[ ص: 120 ] ( فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ( 32 ) والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ( 33 ) لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ( 34 ) ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ( 35 ) أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ( 36 ) )
قوله عز وجل : ( فمن أظلم ممن كذب على الله ) فزعم أن له ولدا وشريكا ، ( وكذب بالصدق ) بالقرآن ، ( إذ جاءه أليس في جهنم مثوى ) منزل ومقام ، ) ( للكافرين ) استفهام بمعنى التقرير .
( والذي جاء بالصدق وصدق به ) قال ابن عباس : " والذي جاء بالصدق " يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بلا إله إلا الله " وصدق به " الرسول أيضا بلغه إلى الخلق . وقال السدي : " والذي جاء بالصدق " جبريل جاء بالقرآن ، " وصدق به " محمد - صلى الله عليه وسلم - تلقاه بالقبول . وقال الكلبي وأبو العالية : " والذي جاء بالصدق " رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وصدق به " أبو بكر - رضي الله عنه - . وقال قتادة ومقاتل : " والذي جاء بالصدق " رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وصدق به " هم المؤمنون ؛ لقوله عز وجل : ( أولئك هم المتقون . ) وقال عطاء : " والذي جاء بالصدق " الأنبياء " وصدق به " الأتباع ، وحينئذ يكون الذي بمعنى : الذين ، كقوله تعالى : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " ( البقرة - 17 ) ثم قال : " ذهب الله بنورهم " ( البقرة - 17 ) . وقال الحسن : هم المؤمنون صدقوا به في الدنيا وجاءوا به في الآخرة . وفي قراءة عبد الله بن مسعود : والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به . ( أولئك هم المتقون ) .
( لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ) يسترها عليهم بالمغفرة ، ( ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ) قال مقاتل : يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوئ .
قوله عز وجل : ( أليس الله بكاف عبده ) ؟ يعني : محمدا - صلى الله عليه وسلم - وقرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي : " عباده " بالجمع يعني : الأنبياء عليهم السلام ، قصدهم قومهم بالسوء كما قال : " وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه " ( غافر - 5 ) فكفاهم الله شر من عاداهم ، ( ويخوفونك بالذين من دونه ) وذلك أنهم خوفوا النبي - صلى الله عليه وسلم - معرة الأوثان . وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون ( ومن يضلل الله فما له من هاد ) . [ ص: 121 ]
ابو وليد البحيرى
2022-09-09, 12:57 AM
الحلقة (359)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الزُّمَرِ
مَكِّيَّةٌ
الاية37 إلى الاية61
( ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ( 37 ) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ( 38 ) قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون ( 39 ) من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ( 40 ) إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل ( 41 ) الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ( 42 ) )
) ( ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ) : منيع في ملكه ، منتقم من أعدائه . ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر ) بشدة وبلاء ، ( هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة ) بنعمة وبركة ، ( هل هن ممسكات رحمته ) قرأ أهل البصرة : " كاشفات " و " ممسكات " بالتنوين " ضره " " ورحمته " بنصب الراء والتاء . وقرأ الآخرون بلا تنوين وجر الراء والتاء على الإضافة . قال مقاتل : فسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فسكتوا ، فقال الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : ( قل حسبي الله ) ثقتي به واعتمادي عليه ، ( عليه يتوكل المتوكلون ) يثق به الواثقون .
( قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ) أي : ينزل عليه عذاب دائم .
( إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ) وبال ضلالته عليه ، ( وما أنت عليهم بوكيل ) بحفيظ ورقيب لم توكل بهم ولا تؤاخذ بهم .
قوله عز وجل : ( الله يتوفى الأنفس ) أي : الأرواح ، ( حين موتها ) فيقبضها عند فناء أكلها وانقضاء أجلها . وقوله : ( حين موتها ) يريد موت أجسادها . ( والتي لم تمت ) يريد يتوفى [ ص: 122 ] الأنفس التي لم تمت ، ( في منامها ) والتي تتوفى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل والتمييز ، ولكل إنسان نفسان : إحداهما نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت فتزول بزوالها النفس ، والأخرى نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام ، وهو بعد النوم يتنفس ( فيمسك التي قضى عليها الموت ) فلا يردها إلى الجسد .
قرأ حمزة والكسائي : " قضي " بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء ، " الموت " رفع على ما لم يسم فاعله ، وقرأ الآخرون بفتح القاف والضاد ، " الموت " نصب لقوله - عز وجل - : " الله يتوفى الأنفس " ( ويرسل الأخرى ) ويرد الأخرى وهي التي لم يقض عليها الموت إلى الجسد ، ( إلى أجل مسمى ) إلى أن يأتي وقت موته .
ويقال : للإنسان نفس وروح ، فعند النوم تخرج النفس وتبقى الروح . وعن علي قال : تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد ، فبذلك يرى الرؤيا ، فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة . ويقال : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله ، فإذا أرادت الرجوع إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده ، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها إلى انقضاء مدة حياتها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زهير حدثنا عبد الله بن عمر حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ، ثم يقول : باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه ، إن أمسكت نفسي فارحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين . "
( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) لدلالات على قدرته حيث لم يغلط في إمساك ما يمسك من الأرواح ، وإرسال ما يرسل منها .
قال مقاتل : لعلامات لقوم يتفكرون في أمر البعث ، يعني : إن توفي نفس النائم وإرسالها بعد التوفي دليل على البعث .
[ ص: 123 ] ( أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ( 43 ) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون ( 44 ) وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ( 45 ) قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ( 46 ) )
( أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل ) يا محمد ، ) ( أولو كانوا ) وإن كانوا يعني الآلهة ، ( لا يملكون شيئا ) من الشفاعة ، ) ( ولا يعقلون ) أنكم تعبدونهم . وجواب هذا محذوف تقديره : وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم .
( قل لله الشفاعة جميعا ) قال مجاهد : لا يشفع أحد إلا بإذنه ، ( له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون . ) . ( وإذا ذكر الله وحده اشمأزت ) نفرت ، وقال ابن عباس ومجاهد ومقاتل : انقبضت عن التوحيد . وقال قتادة : استكبرت . وأصل الاشمئزاز النفور والاستكبار ، ( قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ) .
( وإذا ذكر الذين من دونه ) يعني : الأصنام ( إذا هم يستبشرون ) يفرحون . قال مجاهد ومقاتل : وذلك حين قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة : " والنجم " فألقى الشيطان في أمنيته : تلك الغرانيق العلى ، ففرح به الكفار .
( قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ) ، أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو نعيم الإسفراييني ، أخبرنا أبو عوانة ، حدثنا السلمي ، حدثنا النضر بن محمد ، حدثنا عكرمة بن عمار ، أخبرنا يحيى بن أبي كثير ، حدثنا أبو سلمة قال : سألت عائشة رضي الله عنها بم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتتح الصلاة من الليل ؟ قالت : كان يقول : " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " .
[ ص: 124 ] ( ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ( 47 ) وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ( 48 ) فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 49 ) قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ( 50 ) )
قوله عز وجل : ( ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ) قال مقاتل : ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة . قال السدي : ظنوا أنها حسنات فبدت لهم سيئات . والمعنى : أنهم كانوا يتقربون إلى الله بعبادة الأصنام ، فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا . وروي أن محمد بن المنكدر جزع عند الموت ، فقيل له في ذلك فقال : أخشى أن يبدو لي ما لم أحتسب .
( وبدا لهم سيئات ما كسبوا ) أي : مساوئ أعمالهم من الشرك والظلم بأولياء الله . ( وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) .
( فإذا مس الإنسان ضر ) شدة ، ( دعانا ثم إذا خولناه ) أعطيناه ( نعمة منا قال إنما أوتيته على علم ) أي : على علم من الله أني له أهل . وقال مقاتل : على خير علمه الله عندي ، وذكر الكناية لأن المراد من النعمة الإنعام . ( بل هي فتنة ) يعني : تلك النعمة فتنة استدراج من الله تعالى وامتحان وبلية . وقيل : بل كلمته التي قالها فتنة . ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) أنه استدراج وامتحان .
( قد قالها الذين من قبلهم ) قال مقاتل : يعني قارون فإنه قال : " إنما أوتيته على علم عندي " ( القصص - 78 ) ( فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ) فما أغنى عنهم الكفر من العذاب شيئا .
[ ص: 125 ] ( فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين ( 51 ) أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( 52 ) قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ( 53 ) )
( فأصابهم سيئات ما كسبوا ) أي : جزاؤها يعني العذاب . ثم أوعد كفار مكة فقال : ( والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين ) بفائتين ؛ لأن مرجعهم إلى الله عز وجل .
( أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ) أي : يوسع الرزق لمن يشاء ، ) ( ويقدر ) أي : يقتر على من يشاء ، ( إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) .
قوله عز وجل : ( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله )
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن ناسا من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا ، وزنوا وأكثروا ، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت هذه الآية .
وقال عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام ، فأرسل إليه : كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما يضاعف له العذاب ، وأنا قد فعلت ذلك كله ، فأنزل الله عز وجل : " إلا من تاب وآمن وعمل صالحا " ( مريم - 60 ) فقال وحشي : هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك ؟ فأنزل الله تعالى : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ( النساء : 48 ، 116 ) فقال وحشي : أراني بعد في شبهة ، فلا أدري يغفر لي أم لا ؟ فأنزل الله تعالى : " قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " ، فقال وحشي : نعم هذا ، فجاء وأسلم ، فقال المسلمون : هذا له خاصة أم للمسلمين عامة ؟ فقال : بل للمسلمين عامة . [ ص: 126 ]
وروي عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا ، فافتتنوا فكنا نقول : لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا ، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، فكتبها عمر بن الخطاب بيده ثم بعث بها إلى عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا .
وروى مقاتل بن حيان عن نافع عن ابن عمر قال : كنا معاشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نرى أو نقول : ليس بشيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم " ( محمد - 33 ) فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر والفواحش ، قال : فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا قد هلك ، فنزلت هذه الآية ، فكففنا عن القول في ذلك ، فكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه ، وإن لم يصب منها شيئا رجونا له ، وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر .
وروي عن ابن مسعود أنه دخل المسجد فإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال ، فقام على رأسه فقال : يا مذكر لم تقنط الناس ؟ ثم قرأ : " ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " .
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الحموي أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن خزيم الشاشي ، حدثنا عبد الله بن حميد ، حدثنا حيان بن هلال وسليمان بن حرب وحجاج بن منهال قالوا : حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ولا يبالي " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن أبي عدي عن شعبة عن قتادة عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة [ ص: 127 ] وتسعين إنسانا ، ثم خرج يسأل فأتى راهبا فسأله ، فقال : هل لي من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله فكمل به المائة . فقال له رجل : ائت قرية كذا وكذا ، فأدركه الموت فنأى بصدره نحوها ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وأوحى إلى هذه أن تباعدي ، وقال : قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له " .
ورواه مسلم بن الحجاج عن محمد بن المثنى العنبري عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة بهذا الإسناد ، وقال : " فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ فقال له : لا ، فقتله وكمل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم ، فقال له : قتلت مائة نفس فهل لي من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " قال رجل - لم يعمل خيرا قط - لأهله : إذا مات فحرقوه ، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ، قال : فلما مات فعلوا ما أمرهم ، فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ، ثم قال له : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب وأنت أعلم ، فغفر له " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا أبو الحسين محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن عكرمة بن عمار ، حدثنا ضمضم بن جوس قال : دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ ، فقال : يا يماني تعال ، وما أعرفه ، فقال : لا تقولن لرجل : والله لا يغفر الله لك أبدا ، ولا يدخلك الله الجنة ، قلت : ومن أنت يرحمك الله ؟ قال : أبو هريرة ، قال فقلت : [ ص: 128 ] إن هذه الكلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته أو لخادمه ، قال : فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد في العبادة والآخر يقول كأنه مذنب ، فجعل يقول : أقصر أقصر عما أنت فيه ، قال فيقول : خلني وربي ، قال : حتى وجده يوما على ذنب استعظمه ، فقال : أقصر ، فقال : خلني وربي أبعثت علي رقيبا ؟ فقال : والله لا يغفر الله لك أبدا ، ولا يدخلك الجنة أبدا . قال : فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده ، فقال للمذنب : ادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي ؟ فقال : لا يا رب ، فقال : اذهبوا به إلى النار " قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته .
قوله عز وجل : ( إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) .
أخبرنا عبد الرحمن بن أبي بكر القفال ، أخبرنا أبو مسعود محمد بن أحمد بن يونس الخطيب ، حدثنا محمد بن يعقوب الأصم ، حدثنا أبو قلابة ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى : " إلا اللمم " ( النجم - 32 ) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما
( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون ( 54 ) واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ( 55 ) )
قوله عز وجل : ( وأنيبوا إلى ربكم ) أقبلوا وارجعوا إليه بالطاعة ، ( وأسلموا له ) أخلصوا له التوحيد ، ( من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون ) .
( واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ) يعني : القرآن ، والقرآن كله حسن ، ومعنى الآية ما قاله الحسن : التزموا طاعته واجتنبوا معصيته ، فإن القرآن ذكر القبيح لتجتنبه ، وذكر الأدون لئلا ترغب فيه ، وذكر الأحسن لتؤثره . قال السدي : " الأحسن " ما أمر الله به في الكتاب ، ( من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ) .
[ ص: 129 ] ( أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين ( 56 ) أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين ( 57 ) أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ( 58 ) بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ( 59 ) ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ( 60 ) وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ( 61 ) )
( أن تقول نفس ) يعني : لئلا تقول نفس ، كقوله : " وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم " ( النحل - 15 ) أي : لئلا تميد بكم . قال المبرد : أي بادروا واحذروا أن تقول نفس . وقال الزجاج : خوف أن تصيروا إلى حال تقولون هذا القول . ( ياحسرتا ) يا ندامتا ، والتحسر الاغتمام على ما فات ، وأراد : يا حسرتي ، على الإضافة ، لكن العرب تحول ياء الكناية ألفا في الاستغاثة ، فتقول : يا حسرتا ويا ندامتا ، وربما ألحقوا بها الياء بعد الألف ليدل على الإضافة . وكذلك قرأ أبو جعفر ) ( يا حسرتاي ) ، وقيل : معنى قوله : " ياحسرتا " يا أيتها الحسرة هذا وقتك ، ( على ما فرطت في جنب الله ) قال الحسن : قصرت في طاعة الله . وقال مجاهد : في أمر الله . وقال سعيد بن جبير : في حق الله . وقيل : ضيعت في ذات الله . وقيل : معناه قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضاء الله . والعرب تسمي الجنب جانبا ) . ( وإن كنت لمن الساخرين ) المستهزئين بدين الله وكتابه ورسوله والمؤمنين . قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل يسخر بأهل طاعته .
( أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب ) عيانا ، ( لو أن لي كرة ) رجعة إلى الدنيا ، ( فأكون من المحسنين ) الموحدين .
ثم يقال لهذا القائل : ( بلى قد جاءتك آياتي ) يعني : القرآن ، ( فكذبت بها ) وقلت إنها ليست من الله ، ( واستكبرت ) تكبرت عن الإيمان بها ، ( وكنت من الكافرين ) .
( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله ) فزعموا أن له ولدا وشريكا ، ( وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ) عن الإيمان .
( وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم ) قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : " بمفازاتهم " بالألف على [ ص: 130 ] الجمع أي : بالطرق التي تؤديهم إلى الفوز والنجاة ، وقرأ الآخرون : " بمفازتهم " على الواحد لأن المفازة بمعنى الفوز ، أي : ينجيهم بفوزهم من النار بأعمالهم الحسنة . قال المبرد : المفازة مفعلة من الفوز ، والجمع حسن كالسعادة والسعادات . ( لا يمسهم السوء ) لا يصيبهم المكروه ( ولا هم يحزنون ) .
ابو وليد البحيرى
2022-09-09, 01:03 AM
الحلقة (360)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ غَافِرٍ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية4
( الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ( 62 ) له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون ( 63 ) قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ( 64 ) ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ( 65 ) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ( 66 ) وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ( 67 ) )
( الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ) أي : الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها . ( له مقاليد السموات والأرض ) مفاتيح خزائن السموات والأرض واحدها مقلاد مثل : مفتاح ، ومقليد مثل : منديل ومناديل . وقال قتادة ومقاتل : مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة . وقال الكلبي : خزائن المطر وخزائن النبات . ( والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون ) .
قوله عز وجل ( قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ) ؟ قال مقاتل : وذلك أن كفار قريش دعوه إلى دين آبائه . قرأ أهل الشام " تأمرونني " بنونين خفيفتين على الأصل ، وقرأ أهل المدينة بنون واحدة خفيفة على الحذف ، وقرأ الآخرون بنون واحدة مشددة على الإدغام .
( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ) الذي عملته قبل الشرك وهذا خطاب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمراد منه غيره . وقيل : هذا أدب من الله عز وجل لنبيه وتهديد لغيره ؛ لأن الله تعالى عصمه من الشرك . ( ولتكونن من الخاسرين ) .
( بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) لإنعامه عليك .
قوله عز وجل : ( وما قدروا الله حق قدره ) ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره ، ثم أخبر عن عظمته فقال ( والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ) [ ص: 131 ] .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، حدثنا شيبان عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع ، فيقول : أنا الملك ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ، ثم قرأ : " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة " .
ورواه مسلم بن الحجاج عن أحمد بن عبد الله بن يونس عن فضيل بن عياض عن منصور ، وقال : " والجبال والشجر على إصبع ، وقال : ثم يهزهن هزا ، فيقول : ( أنا الملك أنا الله ) " .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني الحسين بن فنجويه ، حدثنا عمر بن الخطاب ، حدثنا عبد الله بن الفضل ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو أسامة ، عن عمر بن حمزة ، عن سالم بن عبد الله ، أخبرني عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : " يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بشماله ، ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون " ، هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني ، حدثنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، حدثنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن يونس عن الزهري ، حدثني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض " .
( ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ( 68 ) )
قوله عز وجل : ( ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض ) ماتوا من الفزع وهي النفخة الأولى ( إلا من شاء الله ) اختلفوا في الذين استثناهم الله عز وجل ، وقد ذكرناهم في سورة النمل ، قال الحسن : إلا من شاء الله يعني الله وحده ، ( ثم نفخ فيه ) أي : في الصور ، ) ( أخرى ) أي : مرة أخرى ، ( فإذا هم قيام ينظرون ) [ من قبورهم ] ينتظرون أمر الله فيهم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : [ ص: 132 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بين النفختين أربعون " قالوا : أربعون يوما قال؟ " أبيت " ، قالوا : أربعون شهرا؟ قال : " أبيت " ، قالوا : أربعون سنة؟ قال : " أبيت " قال : " ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد ، وهو عجب الذنب ومنه يتركب الخلق يوم القيامة .
( وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ( 69 ) ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ( 70 ) وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ( 71 ) )
قوله عز وجل : ( وأشرقت الأرض ) أضاءت ، ( بنور ربها ) بنور خالقها ، وذلك حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه ، فما يتضارون في نوره كما لا يتضارون في الشمس في اليوم الصحو . وقال الحسن والسدي : بعدل ربها ، وأراد بالأرض عرصات القيامة . ( ووضع الكتاب ) أي : كتاب الأعمال ، ( وجيء بالنبيين والشهداء ) قال ابن عباس : يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة ، وهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال عطاء : يعني الحفظة ، يدل عليه قوله تعالى : " وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد " ( ق - 21 ( وقضي بينهم بالحق ) أي : بالعدل ، ( وهم لا يظلمون ) أي : لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم .
( ووفيت كل نفس ما عملت ) أي : ثواب ما عملت ، ( وهو أعلم بما يفعلون ) قال عطاء : يريد أني عالم بأفعالهم لا أحتاج إلى كاتب ولا إلى شاهد .
( وسيق الذين كفروا إلى جهنم ) سوقا عنيفا ، ) ( زمرا ) أفواجا بعضها على إثر بعض ، كل أمة على حدة قال أبو عبيدة والأخفش : " زمرا " أي : جماعات في تفرقة ، واحدتها زمرة . ( حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها ) السبعة وكانت مغلقة قبل ذلك ، قرأ أهل الكوفة " فتحت ، وفتحت " بالتخفيف ، وقرأ الآخرون بالتشديد على التكثير ( وقال لهم خزنتها ) توبيخا وتقريعا لهم ، ( ألم يأتكم رسل منكم ) من أنفسكم ( يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت ) وجبت ، ( كلمة العذاب على الكافرين ) وهو قوله عز وجل : " لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " ( هود - 119 ) .
[ ص: 133 ] ( قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين ( 72 ) وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ( 73 ) )
( قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ) قال الكوفيون : هذه الواو زائدة حتى تكون جوابا لقوله : " حتى إذا جاءوها " كما في سوق الكفار ، وهذا كما قال الله تعالى : " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء " ( الأنبياء - 48 ) أي : ضياء ، والواو زائدة .
وقيل : الواو واو الحال ، مجازه : وقد فتحت أبوابها ، فأدخل الواو لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم ، وحذفها في الآية الأولى لبيان أنها كانت مغلقة قبل مجيئهم .
فإذا لم تجعل الواو زائدة في قوله : " وفتحت " اختلفوا في جواب قوله : " وقال لهم خزنتها " والواو فيه ملغاة ، تقديره : حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها . وقال الزجاج : القول عندي أن الجواب محذوف ، تقديره : حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ، وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين دخلوها ، فحذف " دخلوها ؛ لدلالة الكلام عليه .
( وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم ) يريد أن خزنة الجنة يسلمون عليهم ويقولون : طبتم . قال ابن عباس : طاب لكم المقام . قال قتادة : هم إذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض حتى إذا هذبوا وطيبوا أدخلوا الجنة ، فقال لهم رضوان وأصحابه : " سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " .
وروي عن علي عليه السلام قال : سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان فيغتسل المؤمن من إحداهما فيطهر ظاهره ، ويشرب من الأخرى فيطهر باطنه ، وتلقيهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون : ( سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) .
[ ص: 134 ] ( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ( 74 ) وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ( 75 ) )
( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض ) أي : أرض الجنة . وهو قوله عز وجل : " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " ( الأنبياء - 105 ) ( نتبوأ ) ننزل ، ( من الجنة حيث نشاء ) قال الله تعالى : ( فنعم أجر العاملين ) ثواب المطيعين .
( وترى الملائكة حافين من حول العرش ) أي : محدقين محيطين بالعرش ، مطيفين بحوافيه أي : بجوانبه ، ( يسبحون بحمد ربهم ) قيل : هذا تسبيح تلذذ لا تسبيح تعبد ؛ لأن التكليف يزول في ذلك اليوم ( وقضي بينهم بالحق ) أي : قضي بين أهل الجنة والنار بالعدل ، ( وقيل الحمد لله رب العالمين ) يقول أهل الجنة : شكرا لله ، حين تم وعد الله لهم .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر بأثر غيث فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات ، فقال : عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب منه وأعجب ، فقيل له : إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن ، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل ال حم في القرآن .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو محمد الرومي ، حدثنا أبو العباس السراج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب أن الجراح بن أبي الجراح حدثه عن ابن عباس قال : لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم . وقال ابن مسعود : إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن . وقال سعد بن إبراهيم : كن - آل حم - يسمين العرائس .
سُورَةُ غَافِرٍ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( حم ( 1 ) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 2 ) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 3 ) )
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : ) ( حم ) قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي حُرُوفِ التَّهَجِّي . قَالَ الْسُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : حم اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ . وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْهُ قَالَ : الر ، وَحم ، وَنون ، حُرُوفُ " الرَّحْمَنِ " مُقَطَّعَةً . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ : الْحَاءُ افْتِتَاحُ أَسْمَائِهِ : حَكِيمٌ حَمِيدٌ حَيٌّ حَلِيمٌ حَنَّانٌ ، وَالْمِيمُ افْتِتَاحُ أَسْمَائِهِ : مَالِكٌ مَجِيدٌ مَنَّانٌ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكِسَائِيُّ : مَعْنَاهُ قَضَى مَا هُوَ كَائِنٌ كَأَنَّهُمَا أَشَارَا إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ : حُمَّ ، بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ . وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ : حِم بِكَسْرِ الْحَاءِ ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا .
( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ ) سَاتِرِ الذَّنْبِ ، ( وَقَابِلِ التَّوْبِ ) [ ص: 138 ] يَعْنِي التَّوْبَةَ ، مَصْدَرُ تَابَ يَتُوبُ تَوْبًا . وَقِيلَ : التَّوْبُ جَمْعُ تَوْبَةٍ مِثْلُ دَوْمَةٍ وَدَوْمٍ وَحَوْمَةٍ وَحَوْمٍ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : غَافِرُ الذَّنْبِ لِمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَقَابِلُ التَّوْبِ مِمَّنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ( شَدِيدُ الْعِقَابِ ) لِمَنْ لَا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، ( ذِي الطَّوْلِ ) ذِي الْغِنَى عَمَّنْ لَا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ . قَالَ مُجَاهِدٌ : " ذِي الطَّوْلِ " : ذِي السَّعَةِ وَالْغِنَى . وَقَالَ الْحَسَنُ : ذُو الْفَضْلِ . وَقَالَ قَتَادَةُ : ذُو النِّعَمِ . وَقِيلَ : ذُو الْقُدْرَةِ . وَأَصْلُ الطَّوْلِ الْإِنْعَامُ الَّذِي تَطُولُ مُدَّتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ . ( لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .
( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد ( 4 ) )
( ما يجادل في آيات الله ) في دفع آيات الله بالتكذيب والإنكار ، ( إلا الذين كفروا ) قال أبو العالية : آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن : " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا " " وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد " ( البقرة - 176 ) .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا محمد بن خالد ، أخبرنا داود بن سليمان ، أخبرنا عبد الله بن حميد ، حدثنا الحسين بن علي الجعفي عن زائدة عن ليث عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن جدالا في القرآن كفر " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوما يتمارون في القرآن ، فقال : " إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله عز وجل بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله يصدق [ ص: 139 ] بعضه بعضا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوه ، وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه " .
قوله تعالى : ( فلا يغررك تقلبهم في البلاد ) تصرفهم في البلاد للتجارات وسلامتهم فيها مع كفرهم ، فإن عاقبة أمرهم العذاب ، نظيره قوله عز وجل : " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد " ( آل عمران - 196 ) .
ابو وليد البحيرى
2022-09-21, 11:12 PM
الحلقة (361)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ غَافِرٍ
مَكِّيَّةٌ
الاية5 إلى الاية26
( كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب ( 5 ) وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار ( 6 ) )
( كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم ) وهم الكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب من بعد قوم نوح ، ( وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ) قال ابن عباس : ليقتلوه ويهلكوه . وقيل : ليأسروه . والعرب تسمي الأسير أخيذا ، ( وجادلوا بالباطل ليدحضوا ) ليبطلوا ، ( به الحق ) الذي جاء به الرسل ، ومجادلتهم مثل قولهم : إن أنتم إلا بشر مثلنا ( إبراهيم - 10 ) ، ولولا أنزل علينا الملائكة ( الفرقان - 21 ) ونحو ذلك ، ( فأخذتهم فكيف كان عقاب ) .
( وكذلك حقت كلمة ربك ) يعني : كما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة حقت ( على الذين كفروا ) من قومك ، ( أنهم أصحاب النار ) قال الأخفش : لأنهم أو بأنهم أصحاب النار .
( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ( 7 ) )
قوله عز وجل : ( الذين يحملون العرش ومن حوله ) حملة العرش والطائفون به وهم الكروبيون ، وهم سادة الملائكة . قال ابن عباس : حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام ، ويروى أن أقدامهم في تخوم الأرضين ، والأرضون والسماوات إلى [ ص: 140 ] حجزهم ، وهم يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت ، سبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان الحي الذي لا يموت ، سبوح قدوس رب الملائكة والروح .
وقال ميسرة بن عروبة : أرجلهم في الأرض السفلى ، ورءوسهم خرقت العرش ، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، وهم أشد خوفا من أهل السماء السابعة ، وأهل السماء السابعة أشد خوفا من أهل السماء التي تليها ، والتي تليها أشد خوفا من التي تليها . وقال مجاهد : بين الملائكة والعرش سبعون حجابا من نور .
وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام " .
وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال : إن ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام ، والعرش يكسى كل يوم سبعين ألف لون من النور ، لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله ، والأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة .
وقال مجاهد : بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب من نور ، وحجاب من ظلمة ، وحجاب نور وحجاب ظلمة .
وقال وهب بن منبه : إن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة ، صف خلف صف يطوفون بالعرش ، يقبل هؤلاء ويدبر هؤلاء ، فإذا استقبل بعضهم بعضا هلل هؤلاء وكبر هؤلاء ، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام ، أيديهم إلى أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم ، فإذا سمعوا تكبير أولئك وتهليلهم رفعوا أصواتهم ، فقالوا : سبحانك وبحمدك ما أعظمك [ ص: 141 ] وأجلك أنت الله لا إله غيرك ، أنت الأكبر ، الخلق كلهم لك راجعون . ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ليس منهم أحد إلا وهو يسبح بتحميد لا يسبحه الآخر ، ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام ، وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه أربعمائة عام ، واحتجب الله من الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجابا من نار ، وسبعين حجابا من ظلمة ، وسبعين حجابا من نور ، وسبعين حجابا من در أبيض ، وسبعين حجابا من ياقوت أحمر ، وسبعين حجابا من ياقوت أصفر وسبعين حجابا من زبرجد أخضر ، وسبعين حجابا من ثلج ، وسبعين حجابا من ماء ، وسبعين حجابا من برد ، وما لا يعلمه إلا الله تعالى . قال : ولكل واحد من حملة العرش ومن حوله أربعة وجوه ، وجه ثور ووجه أسد ووجه نسر ووجه إنسان ، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة ، أما جناحان فعلى وجهه مخافة أن ينظر إلى العرش فيصعق ، وأما جناحان فيهفو بهما ، ليس لهم كلام إلا التسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد .
قوله عز وجل : ( يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ) يصدقون بأنه واحد لا شريك له .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا عمر بن عبد الله الرقاشي ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا هارون بن رباب ، حدثنا شهر بن حوشب قال : حملة العرش ثمانية : فأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك . وأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك . قال : وكأنهم ينظرون ذنوب بني آدم .
قوله عز وجل : ( ويستغفرون للذين آمنوا ربنا ) يعني يقولون ربنا ، ( وسعت كل شيء رحمة وعلما ) قيل : نصب على التفسير ، وقيل : على النقل ، أي : وسعت رحمتك وعلمك كل شيء ، ( فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ) دينك ( وقهم عذاب الجحيم ) قال مطرف : أنصح عباد الله للمؤمنين هم الملائكة ، وأغش الخلق للمؤمنين هم الشياطين .
( ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم ( 8 ) )
( ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم ) قال سعيد بن جبير : يدخل المؤمن الجنة فيقول : أين أبي ؟ أين أمي ؟ أين ولدي ؟ [ ص: 142 ] أين زوجي ؟ فيقال : إنهم لم يعملوا مثل عملك ، فيقول : إني كنت أعمل لي ولهم ، فيقال : أدخلوهم الجنة .
( وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم ( 9 ) إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ( 10 ) قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ( 11 ) )
( وقهم السيئات ) العقوبات ، ( ومن تق السيئات ) أي : ومن تقه السيئات يعني العقوبات ، وقيل : جزاء السيئات ، ( يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم ) .
قوله عز وجل : ( إن الذين كفروا ينادون ) يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم حين عرضت عليهم سيئاتهم ، وعاينوا العذاب ، فيقال لهم : ( لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ) يعني لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم اليوم أنفسكم عند حلول العذاب بكم .
( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ) قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وقتادة والضحاك : كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم فأحياهم الله في الدنيا ، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة ، فهما موتتان وحياتان ، وهذا كقوله تعالى : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " ( البقرة - 28 ) ، وقال السدي : أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم للسؤال ، ثم أميتوا في قبورهم ثم أحيوا في الآخرة . ( فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ) أي : من خروج من النار إلى الدنيا فنصلح أعمالنا ونعمل بطاعتك ، نظيره : " هل إلى مرد من سبيل " ( الشورى - 44 ) .
[ ص: 143 ] ( ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير ( 12 ) هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب ( 13 ) فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ( 14 ) رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق ( 15 ) يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ( 16 ) )
قال الله تعالى : ( ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم ) وفيه متروك استغني عنه لدلالة الظاهر عليه ، مجازه : فأجيبوا أن لا سبيل إلى ذلك ، وهذا العذاب والخلود في النار بأنكم إذا دعي الله وحده كفرتم ، إذا قيل لا إله إلا الله كفرتم وقلتم : " أجعل الآلهة إلها واحدا " ( ص - 5 ( وإن يشرك به ) غيره ، ) ( تؤمنوا ) تصدقوا ذلك الشرك ، ( فالحكم لله العلي الكبير ) الذي لا أعلى منه ولا أكبر .
( هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا ) يعني : المطر الذي هو سبب الأرزاق ، ( وما يتذكر ) وما يتعظ بهذه الآيات ، ( إلا من ينيب ) يرجع إلى الله تعالى في جميع أموره .
( فادعوا الله مخلصين له الدين ) الطاعة والعبادة . ( ولو كره الكافرون ) .
( رفيع الدرجات ) رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة ، ( ذو العرش ) خالقه ومالكه ، ( يلقي الروح ) ينزل الوحي ، سماه روحا ؛ لأنه تحيا به القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح ، ( من أمره ) قال ابن عباس : من قضائه . وقيل : من قوله . وقال مقاتل : بأمره . ( على من يشاء من عباده لينذر ) أي : لينذر النبي بالوحي ، ( يوم التلاق ) وقرأ يعقوب بالتاء أي : لتنذر أنت يا محمد يوم التلاق ، يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض . قال قتادة ومقاتل : يلتقي فيه الخلق والخالق . قال ابن زيد : يتلاقى العباد . وقال ميمون بن مهران : يلتقي الظالم والمظلوم والخصوم . وقيل : يلتقي العابدون والمعبودون . وقيل : يلتقي فيه المرء مع عمله .
( يوم هم بارزون ) خارجون من قبورهم ظاهرون لا يسترهم شيء ، ( لا يخفى على الله منهم ) من أعمالهم وأحوالهم ، ) ( شيء ) يقول الله تعالى في ذلك اليوم بعد فناء الخلق : ( لمن الملك اليوم ) [ ص: 144 ] فلا أحد يجيبه ، فيجيب نفسه فيقول : ( لله الواحد القهار ) الذي قهر الخلق بالموت .
( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب ( 17 ) وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ( 18 ) يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ( 19 ) والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير ( 20 ) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ( 21 ) )
( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ) يجزى المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، ( لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب ) .
( وأنذرهم يوم الآزفة ) يعني : يوم القيامة ، سميت بذلك ؛ لأنها قريبة إذ كل ما هو آت قريب ، نظيره قوله عز وجل : " أزفت الآزفة " ( النجم - 57 ) أي : قربت القيامة ( إذ القلوب لدى الحناجر ) وذلك أنها تزول عن أماكنها من الخوف حتى تصير إلى الحناجر ، فلا هي تعود إلى أماكنها ، ولا هي تخرج من أفواههم فيموتوا ويستريحوا ، ) ( كاظمين ) مكروبين ممتلئين خوفا وحزنا ، والكظم تردد الغيظ والخوف والحزن في القلب حتى يضيق به . ( ما للظالمين من حميم ) قريب ينفعهم ، ( ولا شفيع يطاع ) فيشفع فيهم .
( يعلم خائنة الأعين ) أي : خيانتها وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل . قال مجاهد : وهو نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه . ( وما تخفي الصدور ) .
( والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه ) يعني الأوثان ( لا يقضون بشيء ) لأنها لا تعلم شيئا ولا تقدر على شيء ، قرأ نافع وابن عامر : " تدعون " بالتاء ، وقرأ الآخرون بالياء . ( إن الله هو السميع البصير ) .
( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة ) قرأ ابن عامر : " منكم " بالكاف ، وكذلك هو في مصاحفهم ، ( وآثارا في الأرض ) فلم ينفعهم ذلك ( فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ) يدفع عنهم العذاب .
[ ص: 145 ] ( ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب ( 22 ) ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ( 23 ) إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب ( 24 ) فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال ( 25 ) وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ( 26 ) )
( ذلك ) أي : ذلك العذاب الذي نزل بهم ، ( بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب ) .
قوله عز وجل : ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا ) يعني : فرعون وقومه ( اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه ) قال قتادة : هذا غير القتل الأول ؛ لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان ، فلما بعث موسى - عليه السلام - أعاد القتل عليهم ، فمعناه أعيدوا عليهم القتل ( واستحيوا نساءهم ) ليصدوهم بذلك عن متابعة موسى ومظاهرته ، ( وما كيد الكافرين ) وما مكر فرعون وقومه واحتيالهم ، ( إلا في ضلال ) أي : يذهب كيدهم باطلا ويحيق بهم ما يريده الله عز وجل .
( وقال فرعون ) لملئه ، ( ذروني أقتل موسى ) وإنما قال هذا ؛ لأنه كان في خاصة قوم فرعون من يمنعه من قتله خوفا من الهلاك ( وليدع ربه ) أي : وليدع موسى ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منا ، ( إني أخاف أن يبدل ) يغير ، ) ( دينكم ) الذي أنتم عليه ، ( أو أن يظهر في الأرض الفساد ) قرأ يعقوب وأهل الكوفة " أو أن يظهر " وقرأ الآخرون " وأن يظهر " وقرأ أهل المدينة والبصرة وحفص " يظهر " بضم الياء وكسر الهاء على التعدية ، ) ( الفساد ) نصب لقوله : " أن يبدل دينكم " حتى يكون الفعلان على نسق واحد ، وقرأ الآخرون بفتح الياء والهاء على اللزوم ، " الفساد " رفع ، وأراد بالفساد تبديل الدين وعبادة غيره .
ابو وليد البحيرى
2022-09-21, 11:18 PM
الحلقة (362)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ غَافِرٍ
مَكِّيَّةٌ
الاية27 إلى الاية56
[ ص: 146 ] ( وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ( 27 ) وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ( 28 ) )
( وقال موسى ) لما توعده فرعون بالقتل ، ( إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ) .
واختلفوا في هذا المؤمن : قال مقاتل والسدي : كان قبطيا ابن عم فرعون وهو الذي حكى الله عنه فقال : " وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى " ( القصص - 20 ) ، وقال قوم : كان إسرائيليا ، ومجاز الآية : وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون وكان اسمه حزئيل عند ابن عباس وأكثر العلماء . وقال ابن إسحاق : كان اسمه جبران . وقيل : كان اسم الرجل الذي آمن من آل فرعون حبيبا ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ) لأن يقول ربي الله ، ( وقد جاءكم بالبينات من ربكم ) أي : بما يدل على صدقه ، ( وإن يك كاذبا فعليه كذبه ) لا يضركم ذلك ، ( وإن يك صادقا ) فكذبتموه ، ( يصبكم بعض الذي يعدكم ) قال أبو عبيد : المراد بالبعض الكل ، أي : إن قتلتموه وهو صادق أصابكم ما يتوعدكم به من العذاب . قال الليث : " بعض " صلة ، يريد : يصبكم الذي يعدكم . وقال أهل المعاني : هذا على الظاهر في الحجاج كأنه قال : أقل ما في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم وفي بعض ذلك هلاككم ، فذكر البعض ليوجب الكل . ( إن الله لا يهدي ) إلى دينه ، ( من هو مسرف ) مشرك ) ( كذاب ) على الله . [ ص: 147 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثني الأوزاعي ، حدثني يحيى بن أبي كثير ، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي ، حدثني عروة بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولوى ثوبه في عنقه ، فخنقه به خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " .
( ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ( 29 ) وقال الذي آمن ياقوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب ( 30 ) مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ( 31 ) ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد ( 32 ) )
( ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض ) غالبين في أرض مصر ، ( فمن ينصرنا من بأس الله ) من يمنعنا من عذاب الله ، ( إن جاءنا ) والمعنى لكم الملك اليوم فلا تتعرضوا لعذاب الله بالتكذيب ، وقتل النبي فإنه لا مانع من عذاب الله إن حل بكم ، ( قال فرعون ما أريكم ) من الرأي والنصيحة ، ( إلا ما أرى ) لنفسي . وقال الضحاك : ما أعلمكم إلا ما أعلم ، ( وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) ما أدعوكم إلا إلى طريق الهدى .
( وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ) أي : مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب حتى أتاهم العذاب ، ( وما الله يريد ظلما للعباد ) أي : لا يهلكهم قبل اتخاذ الحجة عليهم .
( ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد ) يوم القيامة يدعى كل أناس بإمامهم وينادي بعضهم بعضا ، فينادي أصحاب الجنة أصحاب النار ، وأصحاب النار أصحاب الجنة ، وينادى أصحاب الأعراف ، وينادى بالسعادة والشقاوة ، ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وفلان بن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا ، وينادى حين يذبح الموت : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت . [ ص: 148 ]
وقرأ ابن عباس والضحاك : " يوم التناد " بتشديد الدال أي : يوم التنافر ، وذلك أنهم هربوا فندوا في الأرض كما تند الإبل إذا شردت عن أربابها .
قال الضحاك : وكذلك إذا سمعوا زفير النار ندوا هربا فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفا ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قوله تعالى : " والملك على أرجائها " ( الحاقة - 17 ) وقوله : يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا . ( الرحمن - 33 )
( يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ( 33 ) ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب ( 34 ) الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ( 35 ) )
( يوم تولون مدبرين ) منصرفين عن موقف الحساب إلى النار . وقال مجاهد : فارين غير معجزين ( ما لكم من الله من عاصم ) يعصمكم من عذابه ، ( ومن يضلل الله فما له من هاد ) . ( ولقد جاءكم يوسف من قبل ) يعني يوسف بن يعقوب " من قبل " أي : من قبل موسى ، ) ( بالبينات ) يعني قوله : " أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار " ( يوسف - 39 ( فما زلتم في شك مما جاءكم به ) قال ابن عباس : من عبادة الله وحده لا شريك له ، ( حتى إذا هلك ) مات ( قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا ) أي : أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدد عليكم الحجة ، ( كذلك يضل الله من هو مسرف ) مشرك ، ) ( مرتاب ) شاك .
( الذين يجادلون في آيات الله ) قال الزجاج : هذا تفسير للمسرف المرتاب يعني هم الذين يجادلون في آيات الله أي : في إبطالها بالتكذيب ( بغير سلطان ) حجة ) ( أتاهم ) من الله ( كبر مقتا ) أي : كبر ذلك الجدال مقتا ، ( عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ) قرأ أبو عمرو وابن عامر " قلب " بالتنوين ، وقرأ الآخرون بالإضافة ، دليله قراءة عبد الله بن مسعود " على قلب كل متكبر جبار " .
[ ص: 149 ] ) ( وقال فرعون ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب ( 36 ) أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب ( 37 ) وقال الذي آمن ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ( 38 ) ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ( 39 ) من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ( 40 ) ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار ( 41 ) )
( وقال فرعون ) لوزيره : ( ياهامان ابن لي صرحا ) والصرح : البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد ، وأصله من التصريح وهو الإظهار ، ( لعلي أبلغ الأسباب ) . ( أسباب السماوات ) يعني : طرقها وأبوابها من سماء إلى سماء ، ( فأطلع إلى إله موسى ) قراءة العامة برفع العين نسقا على قوله : " أبلغ الأسباب " وقرأ حفص عن عاصم بنصب العين وهي قراءة حميد الأعرج ، على جواب " لعل " بالفاء ، ( وإني لأظنه ) يعني موسى ، ) ( كاذبا ) فيما يقول إن له ربا غيري ، ( وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل ) قرأ أهل الكوفة ويعقوب : " وصد " بضم الصاد نسقا على قوله : " زين لفرعون . " قال ابن عباس : صده الله عن سبيل الهدى . وقرأ الآخرون بالفتح أي : صد فرعون الناس عن السبيل . ( وما كيد فرعون إلا في تباب ) يعني : وما كيده في إبطال آيات موسى إلا في خسار وهلاك . ( وقال الذي آمن ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ) طريق الهدى .
( ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع ) متعة تنتفعون بها مدة ثم تنقطع ، ( وإن الآخرة هي دار القرار ) التي لا تزول .
( من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ) قال مقاتل : لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير . ( ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة ) يعني : ما لكم ، كما تقول : ما لي أراك حزينا ؟ أي : ما لك ؟ يقول : أخبروني عنكم ؟ كيف هذه الحال أدعوكم إلى النجاة من النار بالإيمان بالله ، ( وتدعونني إلى النار ) ؟ إلى الشرك الذي يوجب النار ، ثم فسر فقال :
[ ص: 150 ] ( تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار ( 42 ) لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار ( 43 ) فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ( 44 ) فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب ( 45 ) النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ( 46 ) )
( تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار ) في انتقامه ممن كفر ، الغفار لذنوب أهل التوحيد .
( لا جرم ) حقا ، ( أنما تدعونني إليه ) أي : إلى الوثن ، ( ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة ) قال السدي : لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة ، يعني ليست له استجابة دعوة . وقيل : ليست له دعوة إلى عبادته في الدنيا ؛ لأن الأوثان لا تدعي الربوبية ، ولا تدعو إلى عبادتها ، وفي الآخرة تتبرأ من عابديها . ( وأن مردنا إلى الله ) : مرجعنا إلى الله فيجازي كلا بما يستحق ، ( وأن المسرفين ) المشركين ، ( هم أصحاب النار ) .
( فستذكرون ما أقول لكم ) إذا عاينتم العذاب حين لا ينفعكم الذكر ، ( وأفوض أمري إلى الله ) وذلك أنهم توعدوه لمخالفته دينهم ، ( إن الله بصير بالعباد ) يعلم المحق من المبطل ، ثم خرج المؤمن من بينهم ، فطلبوه فلم يقدروا عليه .
وذلك قوله عز وجل ( فوقاه الله سيئات ما مكروا ) ما أرادوا به من الشر قال قتادة : نجا مع موسى وكان قبطيا ، ) ( وحاق ) نزل ، ( بآل فرعون سوء العذاب ) الغرق في الدنيا ، والنار في الآخرة .
وذلك قوله عز وجل : ) ( النار ) هي رفع على البدل من السوء ، ( يعرضون عليها غدوا وعشيا ) صباحا ومساء ، قال ابن مسعود : أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود يعرضون على النار كل يوم مرتين ، تغدو وتروح إلى النار ، ويقال : يا آل فرعون هذه منازلكم حتى تقوم الساعة . [ ص: 151 ]
وقال قتادة ، ومقاتل ، والسدي ، والكلبي : تعرض روح كل كافر على النار بكرة وعشيا ما دامت الدنيا .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، فيقال له : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة " .
ثم أخبر الله عن مستقرهم يوم القيامة فقال : ( ويوم تقوم الساعة أدخلوا ) قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر : " الساعة ادخلوا " بحذف الألف والوصل ، وبضمها في الابتداء ، وضم الخاء من الدخول ، أي : يقال لهم : ادخلوا يا " آل فرعون أشد العذاب " ، وقرأ الآخرون " أدخلوا " بقطع الألف وكسر الخاء من الإدخال ، أي : يقال للملائكة : أدخلوا آل فرعون أشد العذاب . قال ابن عباس : يريد ألوان العذاب غير الذي كانوا يعذبون به منذ أغرقوا .
( وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار ( 47 ) قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد ( 48 ) وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب ( 49 ) قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ( 50 ) )
( وإذ يتحاجون في النار ) أي : اذكر يا محمد لقومك إذ يختصمون ، يعني أهل النار في النار ، ( فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا ) في الدنيا ، ( فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار ) والتبع يكون واحدا وجمعا في قول أهل البصرة ، وواحده تابع ، وقال أهل الكوفة : هو جمع لا واحد له ، وجمعه أتباع .
( قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد وقال الذين في النار ) حين اشتد عليهم العذاب ، ( لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب ) .
) ( قالوا ) يعني : خزنة جهنم لهم ، ( أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا ) أنتم إذا ربكم ، إنا لا ندعو لكم ؛ لأنهم علموا أنه لا يخفف عنهم العذاب . قال الله تعالى : ( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) [ ص: 152 ] أي : يبطل ويضل ولا ينفعهم .
( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ( 51 ) يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ( 52 ) ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب ( 53 ) هدى وذكرى لأولي الألباب ( 54 ) فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار ( 55 ) إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير ( 56 ) )
قوله عز وجل ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ) قال ابن عباس : بالغلبة والقهر . وقال الضحاك : بالحجة ، وفي الآخرة بالعذر . وقيل : بالانتقام من الأعداء في الدنيا والآخرة ، وكل ذلك قد كان للأنبياء والمؤمنين ، فهم منصورون بالحجة على من خالفهم ، وقد نصرهم الله بالقهر على من ناوأهم وإهلاك أعدائهم ، ونصرهم بعد أن قتلوا بالانتقام من أعدائهم ، كما نصر يحيى بن زكريا لما قتل ، قتل به سبعون ألفا ، فهم منصورون بأحد هذه الوجوه ، ( ويوم يقوم الأشهاد ) يعني : يوم القيامة يقوم الحفظة من الملائكة يشهدون للرسل بالتبليغ وعلى الكفار بالتكذيب .
( يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ) إن اعتذروا عن كفرهم لم يقبل منهم ، وإن تابوا لم ينفعهم ، ( ولهم اللعنة ) البعد من الرحمة ، ( ولهم سوء الدار ) يعني جهنم .
( ولقد آتينا موسى الهدى ) قال مقاتل : الهدى من الضلالة يعني التوراة ، ( وأورثنا بني إسرائيل الكتاب ) التوراة .
( هدى وذكرى لأولي الألباب ) .
) ( فاصبر ) يا محمد على أذاهم ، ( إن وعد الله ) في إظهار دينك وإهلاك أعدائك ) ( حق ) قال الكلبي : نسخت آية القتال آية الصبر ، ( واستغفر لذنبك ) هذا تعبد من الله ليزيده به درجة وليصير سنة لمن بعده ، ( وسبح بحمد ربك ) صل شاكرا لربك ( بالعشي والإبكار ) قال الحسن : يعني صلاة العصر وصلاة الفجر . وقال ابن عباس : الصلوات الخمس .
( إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم ) ما في قلوبهم ، والصدر [ ص: 153 ] موضع القلب ، فكنى به عن القلب لقرب الجوار ، ( إلا كبر ) قال ابن عباس : ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والعظمة ، ( ما هم ببالغيه ) قال مجاهد : ما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر ؛ لأن الله عز وجل مذلهم .
قال ابن قتيبة : إن في صدورهم إلا تكبر على محمد - صلى الله عليه وسلم - وطمع في أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك .
قال أهل التفسير : نزلت في اليهود ، وذلك أنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن صاحبنا المسيح بن داود - يعنون الدجال - يخرج في آخر الزمان ، فيبلغ سلطانه في البر والبحر ، ويرد الملك إلينا ، قال الله تعالى : ( فاستعذ بالله ) من فتنة الدجال ، ( إنه هو السميع البصير ) .
ابو وليد البحيرى
2022-09-21, 11:31 PM
الحلقة (363)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ فُصِّلَتْ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية5
( لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 57 ) )
( لخلق السماوات والأرض ) مع عظمهما ، ) ( أكبر ) أعظم في الصدور ، ( من خلق الناس ) أي : من إعادتهم بعد الموت ، ( ولكن أكثر الناس ) يعني الكفار ، ( لا يعلمون ) حيث لا يستدلون بذلك على توحيد خالقها . وقال قوم : " أكبر " أي : أعظم من خلق الدجال ، ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) يعني اليهود الذين يخاصمون في أمر الدجال .
وروي عن هشام بن عامر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من خلق الدجال " .
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أخبرنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي فذكر الدجال ، فقال : " إن بين يديه ثلاث سنين : سنة تمسك السماء ثلث قطرها ، والأرض ثلث نباتها ، والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها ، والأرض ثلثي نباتها ، والثالثة تمسك السماء قطرها كله ، والأرض نباتها كله ، فلا يبقى ذات ظلف ولا ذات ضرس من البهائم إلا هلك ، وإن من أشد فتنته أنه يأتي الأعرابي فيقول : أرأيت إن أحييت لك إبلك أليس تعلم أني ربك ؟ قال : [ ص: 154 ] فيقول : بلى ، فيتمثل له نحو إبله كأحسن ما يكون ضروعا وأعظمه أسنمة . قال : ويأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه فيقول : أرأيت إن أحييت لك أباك وأخاك ألست تعلم أني ربك ؟ فيقول : بلى ، فيتمثل له الشيطان نحو أبيه ونحو أخيه " . قالت : ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجته ، ثم رجع والقوم في اهتمام وغم مما حدثهم ، قالت : فأخذ بلحمتي الباب فقال : مهيم أسماء ؟ فقلت : يا رسول الله لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال ، قال : " إن يخرج وأنا حي فأنا حجيجه ، وإلا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن " . قالت أسماء فقلت : يا رسول الله والله إنا لنعجن عجينا فما نخبزه حتى نجوع فكيف بالمؤمنين يومئذ ؟ قال : " يجزيهم ما يجزئ أهل السماء من التسبيح والتقديس " .
وبهذا الإسناد قال : أخبرنا معمر ، عن ابن خثيم ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة ، السنة كالشهر ، والشهر كالجمعة ، والجمعة كاليوم ، واليوم كاضطرام السعفة في النار " .
أخبرنا أبو سعيد الطاهري ، أخبرنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق الدبري ، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال : قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم ذكر الدجال فقال : " إني لأنذركموه ، وما من نبي إلا أنذر قومه ، لقد أنذر نوح قومه ، ولكني سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه : تعلمون أنه أعور وإن الله ليس بأعور " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا جويرية عن نافع عن عبد الله قال : ذكر الدجال عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إن الله لا يخفى عليكم ، إن الله ليس بأعور ، وأشار بيده إلى عينه ، وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى ، كأن عينه عنبة طافية " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا علي بن حجر ، [ ص: 155 ] حدثنا شعيب بن صفوان عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن عقبة بن عمرو بن مسعود الأنصاري قال : انطلقت معه إلى حذيفة بن اليمان فقال له عقبة : حدثني ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدجال ؟ قال : " إن الدجال يخرج وإن معه ماء ونارا ، فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق ، وأما الذي يراه الناس نارا فماء بارد عذب ، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه نارا فإنه ماء عذب طيب " فقال عقبة : وأنا قد سمعته تصديقا لحذيفة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني إبراهيم بن المنذر ، حدثنا ابن الوليد ، حدثنا ابن عمرو وهو الأوزاعي ، حدثنا إسحاق ، حدثني أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ، ليس من نقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها ، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات ، فيخرج إليه كل كافر ومنافق " .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشمهيني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يأتي المسيح من قبل المشرق وهمته المدينة ، حتى ينزل دبر أحد ، ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام ، وهناك يهلك " .
أخبرنا أبو سعيد الطاهري ، أخبرنا جدي عبد الصمد البزار ، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق الدبري ، ثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يتبع الدجال من أمتي سبعون ألفا عليهم السيجان " ويرويه أبو أمامة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " مع الدجال يومئذ سبعون ألف يهودي كلهم ذو تاج وسيف محلى " .
[ ص: 156 ] ( وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون ( 58 ) إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ( 59 ) وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ( 60 ) )
قوله تعالى : ( وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون ) قرأ أهل الكوفة " تتذكرون " بالتاء ، وقرأ الآخرون بالياء ، لأن أول الآيات وآخرها خبر عن قوم .
) ( إن الساعة ) أي : القيامة ( لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) .
( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) أي : اعبدوني دون غيري أجبكم وأثبكم وأغفر لكم ، فلما عبر عن العبادة بالدعاء جعل الإنابة استجابة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان ، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان عن منصور عن أبي ذر عن يسيع الكندي عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر : " إن الدعاء هو العبادة " ثم قرأ : " ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن علي الدورقي ، حدثنا أبو الحسن علي بن يوسف الشيرازي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى القرشي ببغداد ، حدثنا محمد بن عبيد بن العلاء ، حدثنا أحمد بن بديل ، حدثنا وكيع ، حدثنا أبو المليح قال : سمعت أبا صالح يذكر عن أبي هريرة قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من لم يدع الله غضب الله عليه " . [ ص: 157 ]
وقيل : الدعاء هو الذكر والسؤال ، ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأبو بكر : " سيدخلون " بضم الياء وفتح الخاء ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الخاء ، " داخرين " صاغرين ذليلين .
( الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ( 61 ) ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون ( 62 ) كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون ( 63 ) الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين ( 64 ) هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين ( 65 ) )
( الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون ) .
) ( كذلك ) يعني كما أفكتم عن الحق مع قيام الدلائل كذلك ، ( يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون ) .
( الله الذي جعل لكم الأرض قرارا ) فراشا ، ( والسماء بناء ) سقفا كالقبة ، ( وصوركم فأحسن صوركم ) قال مقاتل : خلقكم فأحسن خلقكم . قال ابن عباس : خلق ابن آدم قائما معتدلا يأكل ويتناول بيده ، وغير ابن آدم يتناول بفيه . ( ورزقكم من الطيبات ) قيل : من غير رزق الدواب ( ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين ) قال الفراء : هو خبر وفيه إضمار الأمر ، مجازه : فادعوه واحمدوه .
وروي عن مجاهد عن ابن عباس قال : من قال لا إله إلا الله فليقل على إثرها الحمد لله رب العالمين ، فذلك قوله - عز وجل - : " فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين " .
[ ص: 158 ] ( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين ( 66 ) هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون ( 67 ) هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ( 68 ) ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون ( 69 ) الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون ( 70 ) إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ( 71 ) )
( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين ) وذلك حين دعي إلى الكفر .
( هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ) أي : أطفالا ( ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ) أي : من قبل أن يصير شيخا ، ) ( ولتبلغوا ) جميعا ، ( أجلا مسمى ) وقتا معلوما محدودا لا تجاوزونه ، يريد أجل الحياة إلى الموت ، ( ولعلكم تعقلون ) أي : لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته .
( هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله ) يعني : القرآن ، يقولون ليس من عند الله ، ( أنى يصرفون ) كيف يصرفون عن دين الحق . قيل : هم المشركون . وعن محمد بن سيرين وجماعة : أنها نزلت في القدرية .
( إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ) يجرون .
[ ص: 159 ] ( في الحميم ثم في النار يسجرون ( 72 ) ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون ( 73 ) من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين ( 74 ) ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ( 75 ) ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين ( 76 ) فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون ( 77 ) ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون ( 78 ) الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ( 79 ) ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ( 80 ) )
( في الحميم ثم في النار يسجرون ) قال مقاتل : توقد بهم النار . وقال مجاهد : يصيرون وقودا للنار . ( ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله ) يعني الأصنام ، ( قالوا ضلوا عنا ) فقدناهم فلا نراهم ( بل لم نكن ندعو من قبل شيئا ) قيل : أنكروا . وقيل : معناه بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا ينفع ويضر . وقال الحسين بن الفضل : أي : لم نكن نصنع من قبل شيئا ، أي : ضاعت عبادتنا لها ، كما يقول من ضاع عمله : ما كنت أعمل شيئا . قال الله عز وجل : ) ( كذلك ) أي : كما أضل هؤلاء ، ( يضل الله الكافرين ) .
) ( ذلكم ) العذاب الذي نزل بكم ، ( بما كنتم تفرحون ) تبطرون وتأشرون ، ( في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ) تفرحون وتختالون .
( ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين فاصبر إن وعد الله ) بنصرك ، ( حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم ) من العذاب في حياتك ، ( أو نتوفينك ) قبل أن يحل ذلك بهم ، ( فإلينا يرجعون ) .
( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ) خبرهم في القرآن ، ( ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ) بأمر الله وإرادته ، ( فإذا جاء أمر الله ) قضاؤه بين الأنبياء والأمم ، ( قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون ) .
( الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ) بعضها ، ( ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ) في [ ص: 160 ] أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها ( ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم ) تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد ولتبلغوا عليها حاجاتكم ، ( وعليها وعلى الفلك تحملون ) أي : على الإبل في البر وعلى السفن في البحر . نظيره : قوله تعالى : " وحملناهم في البر والبحر " ( الإسراء - 70 ) .
( ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون ( 81 ) أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ( 82 ) فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ( 83 ) فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين ( 84 ) فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ( 85 ) )
( ويريكم آياته ) دلائل قدرته ، ( فأي آيات الله تنكرون ) .
( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض ) يعني : مصانعهم وقصورهم ، ( فما أغنى عنهم ) لم ينفعهم ، ( ما كانوا يكسبون ) وقيل : هو بمعنى الاستفهام ، ومجازه : أي شيء أغنى عنهم كسبهم ؟
( فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا ) رضوا ( بما عندهم من العلم ) قال مجاهد : هو قولهم نحن أعلم ، لن نبعث ولن نعذب ، سمى ذلك علما على ما يدعونه ويزعمونه وهو في الحقيقة جهل . (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين ) يعني : تبرأنا مما كنا نعدل بالله .
( فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ) عذابنا ، ) ( سنت الله ) قيل : نصبها بنزع الخافض ، أي : كسنة الله . وقيل : على المصدر . وقيل : على الإغراء أي : احذروا سنة الله ( التي قد خلت في عباده ) وتلك السنة أنهم إذا عاينوا عذاب الله آمنوا ، ولا ينفعهم إيمانهم عند معاينة العذاب . ( وخسر هنالك الكافرون ) بذهاب الدارين ، قال الزجاج : الكافر خاسر في كل وقت ، ولكنهم يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب .
سُورَةُ فُصِّلَتْ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( حم ( 1 ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 2 ) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 3 ) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ( 4 ) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ( 5 ) )
( ( حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) قَالَ الْأَخْفَشُ : " تَنْزِيلٌ : مُبْتَدَأٌ ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ) . ( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ) بُيِّنَتْ آيَاتُهُ ، ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) : اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ ، وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ لِسَانِهِمْ مَا عَلِمُوهُ ، وَنُصِبَ : " قُرْآنًا " بِوُقُوعِ الْبَيَانِ عَلَيْهِ أَيْ : فَصَّلْنَاهُ قُرْآنًا .
( بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) نَعْتَانِ لِلْقُرْآنِ أَيْ : بَشِيرًا لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ ، وَنَذِيرًا لِأَعْدَائِهِ ، ( فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ) لَا يَصْغُونَ إِلَيْهِ تَكَبُّرًا .
( وَقَالُوا ) يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ ، ( قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ ) فِي أَغْطِيَةٍ ، ( مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ) فَلَا نَفْقَهُ مَا تَقُولُ ، ( وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ ) صَمَمٌ فَلَا نَسْمَعُ مَا تَقُولُ ، وَالْمَعْنَى : إِنَّا فِي تَرْكِ الْقَبُولِ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَفْهَمُ وَلَا يَسْمَعُ ، ( وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ) خِلَافٌ فِي الدِّينِ وَحَاجِزٌ فِي الْمِلَّةِ فَلَا نُوَافِقُكَ عَلَى مَا تَقُولُ ، ( فَاعْمَلْ ) أَنْتَ عَلَى دِينِكَ ، ( إِنَّنَا عَامِلُونَ ) عَلَى دِينِنَا .
ابو وليد البحيرى
2022-09-21, 11:36 PM
الحلقة (364)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ فُصِّلَتْ
مَكِّيَّةٌ
الاية6 إلى الاية27
[ ص: 164 ] ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين ( 6 ) الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ( 7 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ( 8 ) )
( ( قل إنما أنا بشر مثلكم ) يعني كواحد منكم ولولا الوحي ما دعوتكم ، وهو قوله : ( يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ) قال الحسن : علمه الله التواضع ، ( فاستقيموا إليه ) توجهوا إليه بالطاعة ولا تميلوا عن سبيله ، ( واستغفروه ) من ذنوبكم ، ( وويل للمشركين ) .
( الذين لا يؤتون الزكاة ) قال ابن عباس : الذين لا يقولون لا إله إلا الله وهي زكاة الأنفس . والمعنى : لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد . وقال الحسن وقتادة : لا يقرون بالزكاة ، ولا يرون إيتاءها واجبا . وكان يقال : الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك . وقال الضحاك ومقاتل : لا ينفقون في الطاعة ولا يتصدقون . وقال مجاهد : لا يزكون أعمالهم ( وهم بالآخرة هم كافرون ) .
( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ) قال ابن عباس : غير مقطوع . وقال مقاتل : غير منقوص . ومنه " المنون " ؛ لأنه ينقص منة الإنسان وقوته ، وقيل : غير ممنون عليهم به . وقال مجاهد : غير محسوب .
وقال السدي : نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى ، إذا عجزوا عن الطاعة يكتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون فيه .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن عاصم بن أبي النجود عن خيثمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ، ثم مرض قيل للملك الموكل به : اكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه أو أكفته إلي " .
[ ص: 165 ] ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ( 9 ) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ( 10 ) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ( 11 ) )
قوله عز وجل : ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ) : يوم الأحد والاثنين ، ( وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ) .
( وجعل فيها ) أي في الأرض ، ( رواسي ) جبالا ثوابت ، ( من فوقها ) من فوق الأرض ، ( وبارك فيها ) أي : في الأرض ، بما خلق فيها من البحار والأنهار والأشجار والثمار ، ( وقدر فيها أقواتها ) قال الحسن ومقاتل : قسم في الأرض أرزاق العباد والبهائم . وقال عكرمة والضحاك : قدر في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد . قال الكلبي : قدر الخبز لأهل قطر ، والتمر لأهل قطر ، والذرة لأهل قطر ، والسمك لأهل قطر ، وكذلك أقواتها . ( في أربعة أيام ) يريد خلق ما في الأرض ، وقدر الأقوات في يومين : يوم الثلاثاء والأربعاء فهما مع الأحد والاثنين أربعة أيام ، رد الآخر على الأول في الذكر ، كما تقول : تزوجت أمس امرأة واليوم ثنتين ، وإحداهما هي التي تزوجتها بالأمس ، ( سواء للسائلين ) قرأ أبو جعفر " سواء " رفع على الابتداء ، أي : هي سواء . وقرأ يعقوب بالجر على نعت قوله : " في أربعة أيام " ، وقرأ الآخرون " سواء " نصب على المصدر ، أي : استوت سواء أي : استواء . ومعناه : سواء للسائلين عن ذلك . قال قتادة والسدي : من سأل عنه فهكذا الأمر سواء لا زيادة ولا نقصان جوابا لمن سأل : في كم خلقت الأرض والأقوات ؟
( ثم استوى إلى السماء ) أي : عمد إلى خلق السماء ، ( وهي دخان ) وكان ذلك الدخان بخار الماء ، ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ) أي : ائتيا ما آمركما أي : افعلاه ، كما يقال : ائت ما هو الأحسن ، أي : افعله .
وقال طاوس عن ابن عباس : ائتيا : أعطيا ، يعني أخرجا ما خلقت فيكما من المنافع لمصالح العباد . [ ص: 166 ]
[ قال ابن عباس ] : قال الله عز وجل : أما أنت يا سماء فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك ، وأنت يا أرض فشقي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك . وقال لهما : افعلا ما آمركما طوعا وإلا ألجأتكما إلى ذلك [ حتى تفعلاه كرها ] فأجابتا بالطوع ، و ( قالتا أتينا طائعين ) ولم يقل طائعتين ؛ لأنه ذهب به إلى السماوات والأرض ومن فيهن ، مجازه : أتينا بما فينا طائعين ، فلما وصفهما بالقول أجراهما في الجمع مجرى من يعقل .
( فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ( 12 ) فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ( 13 ) إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون ( 14 ) )
( ( فقضاهن سبع سماوات في يومين ) أي : أتمهن وفرغ من خلقهن ، ( وأوحى في كل سماء أمرها ) قال عطاء عن ابن عباس : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلمه إلا الله .
وقال قتادة والسدي : يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها .
وقال مقاتل : وأوحى إلى كل سماء ما أراد من الأمر والنهي ، وذلك يوم الخميس والجمعة .
( وزينا السماء الدنيا بمصابيح ) كواكب ، ( وحفظا ) لها ، ونصب " حفظا " على المصدر ، أي : حفظناها بالكواكب حفظا من الشياطين الذين يسترقون السمع ، ( ذلك ) الذي ذكر من صنعه ، ( تقدير العزيز ) في ملكه ، ( العليم ) بحفظه . قوله عز وجل : ( فإن أعرضوا ) يعني : هؤلاء المشركين عن الإيمان بعد هذا البيان ، ( فقل أنذرتكم ) خوفتكم ، ( صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) أي : هلاكا مثل هلاكهم ، والصاعقة المهلكة من كل شيء .
( إذ جاءتهم ) يعني : عادا وثمود ، ( الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ) أراد بقوله : ( من بين أيديهم ) الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم من قبلهم ، ( ومن خلفهم ) يعني : ومن بعد [ ص: 167 ] الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم الذين أرسلوا إليهم ، هود وصالح ، فالكناية في قوله " من بين أيديهم " راجعة إلى [ عاد وثمود ] وفي قوله : ( ومن خلفهم ) راجعة إلى الرسل . ( أن لا ) بأن لا ( تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ) بدل هؤلاء الرسل ، ( ملائكة ) أي : لو شاء ربنا دعوة الخلق لأنزل ملائكة ، ( فإنا بما أرسلتم به كافرون ) .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، حدثنا عبد الله بن حامد الأصفهاني ، حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي ، أخبرنا أحمد بن مجدة بن العريان ، حدثنا الحماني ، حدثنا ابن فضيل ، عن الأجلح ، عن الذيال بن حرملة ، عن جابر بن عبد الله قال : قال الملأ من قريش وأبو جهل : قد التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر ، فأتاه فكلمه ، ثم أتانا ببيان من أمره ، فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر ، وعلمت من ذلك علما ، وما يخفى علي أن كان كذلك أو لا . فأتاه فلما خرج إليه قال : يا محمد أنت خير أم هاشم ؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ أنت خير أم عبد الله ؟ فبم تشتم آلهتنا ؟ وتضلل آباءنا ؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رأسا ما بقيت ، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش ، وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني أنت وعقبك من بعدك ؟ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساكت لا يتكلم ، فلما فرغ ، قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بسم الله الرحمن الرحيم : " حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته " إلى قوله : " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " الآية . فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ، ولم يخرج إلى قريش فاحتبس عنهم . فقال أبو جهل : يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى دين محمد ، وقد أعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته ، فانطلقوا بنا إليه ، فانطلقوا إليه ، فقال أبو جهل : والله يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى دين محمد وأعجبك طعامه ، قال : فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد ، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمدا أبدا . وقال : والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء ، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، وقرأ السورة إلى قوله : " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " الآية . فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف . وقد علمتم أن محمدا [ ص: 168 ] إذا قال شيئا لم يكذب ، فخفت أن ينزل بكم العذاب .
وقال محمد بن كعب القرظي : حدثت أن عتبة بن ربيعة كان سيدا حليما قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس وحده في المسجد : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد وأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل منا بعضها فنعطيه ويكف عنا ، وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيدون ويكثرون ، فقالوا : بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه ، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت جماعتهم ، وسفهت أحلامهم ، وعبت آلهتهم ، وكفرت من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قل يا أبا الوليد . فقال : يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا ، وإن كان هذا الذي بك رئيا تراه لا تستطيع رده طلبنا لك الطب ، ولعل هذا شعر جاش به صدرك . فإنكم لعمري بني عبد المطلب يقدرون على ذلك ما لا يقدر عليه غيركم ، حتى إذا فرغ ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أوقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم ، قال : فاستمع مني . قال : أفعل ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : بسم الله الرحمن الرحيم : " حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا " ، ثم مضى فيها يقرأ ، فلما سمعها عتبة أنصت له ، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه ، حتى انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة فسجد . ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد فأنت وذاك ، فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ فقال : ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت بمثله قط ، ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة . يا معشر قريش أطيعوني ، خلوا ما بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم ، فأنتم أسعد الناس به . فقالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه . قال : هذا رأيي لكم ، فاصنعوا ما بدا لكم .
( فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون ( 15 ) )
قوله عز وجل : ( ( فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة ) [ ص: 169 ] وذلك أن هودا - عليه السلام - هددهم بالعذاب ، فقالوا : من أشد منا قوة ؟ نحن نقدر على دفع العذاب عنا بفضل قوتنا ، وكانوا ذوي أجسام طوال ، قال الله تعالى ردا عليهم : ( أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون ) .
( ( فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون . ( 16 ) وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ( 17 ) ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ( 18 ) ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون ( 19 ) .
( فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا ) عاصفة شديدة الصوت ، من الصرة وهي الصيحة . وقيل : هي الباردة من الصر وهو البرد . ( في أيام نحسات ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب " نحسات " بسكون الحاء ، وقرأ الآخرون بكسرها أي : نكدات مشئومات ذات نحوس . وقال الضحاك : أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين ، ودامت الرياح عليهم من غير مطر ، ( لنذيقهم عذاب الخزي ) أي : عذاب الهون والذل ، ( في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى ) أشد إهانة ( وهم لا ينصرون ) .
( وأما ثمود فهديناهم ) دعوناهم قاله مجاهد . وقال ابن عباس : بينا لهم سبيل الهدى . وقيل : دللناهم على الخير والشر ، كقوله : " هديناه السبيل " ( الإنسان - 3 ) ، ( فاستحبوا العمى على الهدى ) فاختاروا الكفر على الإيمان ، ( فأخذتهم صاعقة العذاب ) [ أي : هلكة العذاب ] ، ( الهون ) أي : ذي الهون أي : الهوان ، وهو الذي يهينهم ويخزيهم ، ( بما كانوا يكسبون ) . ( ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ويوم يحشر أعداء الله إلى النار ) قرأ نافع ويعقوب : " نحشر " بالنون " أعداء " نصب . وقرأ الآخرون بالياء ورفعها وفتح الشين " أعداء " رفع أي : يجمع إلى النار ، ( فهم يوزعون ) يساقون ويدفعون إلى النار . وقال قتادة والسدي : يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا .
[ ص: 170 ] ( ( حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون ( 20 ) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون ( 21 ) وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ( 22 ) )
( حتى إذا ما جاءوها ) جاءوا النار ، ( شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ) أي : بشراتهم . ( بما كانوا يعملون ) قال السدي وجماعة : المراد بالجلود الفروج . وقال مقاتل : تنطق جوارحهم بما كتمت الألسن من عملهم .
( وقالوا ) يعني : الكفار الذين يحشرون إلى النار ، ( لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ) تم الكلام هاهنا . وقال الله تعالى : ( وهو خلقكم أول مرة ) وليس هذا من جواب الجلود ، ( وإليه ترجعون ) .
( وما كنتم تستترون ) أي : تستخفون [ عند أكثر أهل العلم . وقال مجاهد : تتقون . وقال قتادة : تظنون . ( أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ) .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، أخبرنا سفيان ، أخبرنا منصور ، عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن عبد الله بن مسعود قال : اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي ، أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم ، قليل فقه قلوبهم ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا . وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا ، فأنزل الله تعالى : " وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون " . قيل : الثقفي عبد ياليل ، وختناه القرشيان : ربيعة ، وصفوان بن أمية .
[ ص: 171 ] ( ( وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ( 23 ) فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين ( 24 ) وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ( 25 ) وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ( 26 ) فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون ( 27 ) )
قوله تعالى : ( وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم ) أهلككم ، أي : ظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون - أرداكم . قال ابن عباس : طرحكم في النار ، ( فأصبحتم من الخاسرين . ) ثم أخبر عن حالهم فقال :
( فإن يصبروا فالنار مثوى لهم ) مسكن لهم ، ( وإن يستعتبوا ) يسترضوا ويطلبوا العتبى ، ( فما هم من المعتبين ) المرضين ، والمعتب الذي قبل عتابه وأجيب إلى ما سأل . يقال : أعتبني فلان ، أي : أرضاني بعد إسخاطه إياي ، واستعتبته : طلبت منه أن يعتب أي : يرضى .
( وقيضنا لهم ) أي : بعثنا ووكلنا . وقال مقاتل : هيأنا . وقال الزجاج : سببنا لهم . ( قرناء ) نظراء من الشياطين حتى أضلوهم ، ( فزينوا لهم ما بين أيديهم ) من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة ، ( وما خلفهم ) من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب به وإنكار البعث ، ( وحق عليهم القول في أمم ) [ مع أمم . ( قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ) .
( وقال الذين كفروا ) من مشركي قريش ، ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) قال ابن عباس : يعني الغطوا فيه ، وكان بعضهم يوصي إلى بعض إذا رأيتم محمدا يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر واللغو . قال مجاهد : والغوا فيه بالمكاء والصفير . وقال الضحاك : أكثروا الكلام فيختلط عليه ما يقول . وقال السدي : صيحوا في وجهه . ( لعلكم تغلبون ) محمدا على قراءته .
( فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي ) يعني بأسوأ الذي ، أي : بأقبح الذي ، ( كانوا يعملون ) في الدنيا وهو الشرك بالله .
ابو وليد البحيرى
2022-09-21, 11:41 PM
الحلقة (365)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ فُصِّلَتْ
مَكِّيَّةٌ
الاية28 إلى الاية50
[ ص: 172 ] ( ( ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون ( 28 ) وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين ( 29 ) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ( 30 ) )
( ذلك ) الذي ذكرت من العذاب الشديد ، ( جزاء أعداء الله ) ثم بين ذلك الجزاء فقال : ( النار ) أي : هو النار ، ( لهم فيها ) أي : في النار ، ( دار الخلد ) دار الإقامة لا انتقال منها ، ( جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون ) .
( وقال الذين كفروا ) أي : في النار يقولون : ( ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس ) يعنون إبليس وقابيل بن آدم الذي قتل أخاه ؛ لأنهما سنا المعصية . ( نجعلهما تحت أقدامنا ) في النار ، ( ليكونا من الأسفلين ) ليكونا في الدرك الأسفل من النار . قال ابن عباس : ليكونا أشد عذابا منا .
قوله عز وجل : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) سئل أبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - عن الاستقامة فقال : أن لا تشرك بالله شيئا . وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " الاستقامة " أن تستقيم على الأمر والنهي ، ولا تروغ روغان الثعلب . وقال عثمان بن عفان - رضي الله عنه - : أخلصوا العمل لله . وقال علي - رضي الله عنه - : أدوا الفرائض . وقال ابن عباس : استقاموا على أداء الفرائض .
وقال الحسن : استقاموا على أمر الله تعالى فعملوا بطاعته ، واجتنبوا معصيته .
وقال مجاهد وعكرمة : استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله .
وقال مقاتل : استقاموا على المعرفة ولم يرتدوا . وقال قتادة : كان الحسن إذا تلا هذه الآية قال : اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة . [ ص: 173 ]
قوله عز وجل : ( تتنزل عليهم الملائكة ) قال ابن عباس : عند الموت . وقال قتادة ومقاتل : إذا قاموا من قبورهم . قال وكيع بن الجراح : البشرى تكون في ثلاث مواطن : عند الموت وفي القبر وعند البعث . ( ألا تخافوا ) من الموت . وقال مجاهد : لا تخافوا على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة . ( ولا تحزنوا ) على ما خلفتم من أهل وولد ، فإنا نخلفكم في ذلك كله . وقال عطاء بن أبي رباح : لا تخافوا ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم . ( وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) .
( ( نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون ( 31 ) نزلا من غفور رحيم ( 32 ) ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ( 33 ) )
( نحن أولياؤكم ) تقول لهم الملائكة الذين تنزل عليهم بالبشارة : نحن أولياؤكم أنصاركم وأحباؤكم ، ( في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) [ أي : في الدنيا والآخرة . وقال السدي : تقول الملائكة : نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا ، ونحن أولياؤكم في الآخرة ] يقولون لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة . ( ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ) من الكرامات واللذات ، ( ولكم فيها ) في الجنة ، ( ما تدعون ) تتمنون .
( نزلا ) رزقا ، ( من غفور رحيم ) .
قوله عز وجل : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله ) إلى طاعته ، ( وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) قال ابن سيرين [ والسدي وابن عباس : هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله . وقال الحسن : هو المؤمن الذي أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه ، وعمل صالحا في إجابته ، وقال : إنني من المسلمين .
وقالت عائشة : أرى هذه الآية نزلت في المؤذنين . [ ص: 174 ]
وقال عكرمة : هو المؤذن . أبو أمامة الباهلي : " وعمل صالحا " صلى ركعتين بين الأذان والإقامة .
وقال قيس بن أبي حازم : هو الصلاة بين الأذان والإقامة .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن أيوب الطوسي ، حدثنا أبو يحيى بن أبي ميسرة ، حدثنا عبد الله بن زيد المقرئ ، حدثنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بين كل أذانين صلاة " ، ثلاث مرات ، ثم قال في الثالثة : " لمن شاء " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان عن زيد العمي عن أبي إياس معاوية بن قرة عن أنس بن مالك قال سفيان : لا أعلمه إلا وقد رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة " .
( ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ( 34 ) )
قوله عز وجل : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) قال الفراء : " لا " هاهنا صلة ، معناه : ولا تستوي الحسنة والسيئة - يعني - : الصبر والغضب ، والحلم والجهل ، والعفو والإساءة . ( ادفع بالتي هي أحسن ) قال ابن عباس : أمر بالصبر عند الغضب ، وبالحلم عند الجهل ، وبالعفو عند الإساءة . ( فإذا الذي بينك وبينه عداوة ) يعني : إذا فعلت ذلك خضع لك عدوك ، وصار الذي بينك وبينه عداوة ، ( كأنه ولي حميم ) كالصديق والقريب . قال مقاتل بن حيان : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وذلك أنه لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أسلم فصار وليا بالإسلام حميما بالقرابة .
[ ص: 175 ] ( ( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ( 35 ) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ( 36 ) ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ( 37 ) فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ( 38 ) ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير ( 39 ) إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير ( 40 ) )
( وما يلقاها ) ما يلقى هذه الخصلة وهي دفع السيئة بالحسنة ، ( إلا الذين صبروا ) على كظم الغيظ واحتمال المكروه ، ( وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) في الخير والثواب . وقال قتادة : " الحظ العظيم " الجنة ، أي : ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة .
( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع ) لاستعاذتك وأقوالك ، ( العليم ) بأفعالك وأحوالك .
قوله عز وجل : ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن ) إنما قال : " خلقهن " بالتأنيث لأنه أجراها على طريق جمع التكسير ، ولم يجرها على طريق التغليب للمذكر على المؤنث . ( إن كنتم إياه تعبدون ) .
( فإن استكبروا ) عن السجود ، ( فالذين عند ربك ) يعني الملائكة ( يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ) لا يملون ولا يفترون .
( ومن آياته ) دلائل قدرته ، ( أنك ترى الأرض خاشعة ) يابسة غبراء لا نبات فيها ، ( فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير ) .
( إن الذين يلحدون في آياتنا ) يميلون عن الحق في أدلتنا . قال مجاهد : يلحدون في آياتنا بالمكاء والتصدية واللغو واللغط . قال قتادة : يكذبون في آياتنا . قال السدي : يعاندون ويشاقون . [ ص: 176 ]
قال مقاتل : نزلت في أبي جهل .
( لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار ) وهو أبو جهل ، ( خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة ) قيل : هو حمزة ، وقيل : عثمان . وقيل : عمار بن ياسر . ( اعملوا ما شئتم ) أمر تهديد ووعيد ، ( إنه بما تعملون بصير ) عالم فيجازيكم به .
( ( إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز ( 41 ) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ( 42 ) ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم ( 43 ) ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ( 44 ) )
( إن الذين كفروا بالذكر ) بالقرآن ، ( لما جاءهم ) ثم أخذ في وصف الذكر وترك جواب : " إن الذين كفروا " على تقدير : الذين كفروا بالذكر يجازون بكفرهم . وقيل : خبره قوله من بعد : " أولئك ينادون من مكان بعيد " . ( وإنه لكتاب عزيز ) قال الكلبي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : كريم على الله . قال قتادة : أعزه الله عز وجل عزا فلا يجد الباطل إليه سبيلا .
وهو قوله : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) قال قتادة والسدي : الباطل : هو الشيطان ، لا يستطيع أن يغيره أو يزيد فيه أو ينقص منه .
قال الزجاج : معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه . وعلى هذا معنى : " الباطل " الزيادة والنقصان .
وقال مقاتل : لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ، ولا يجيء من بعده كتاب فيبطله . . ( تنزيل من حكيم حميد ) ثم عزى نبيه - صلى الله عليه وسلم - على تكذيبهم
فقال : ( ما يقال لك ) من الأذى ، ( إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ) يقول : إنه قد قيل للأنبياء والرسل قبلك : ساحر ، كما يقال لك وكذبوا كما كذبت . ( إن ربك لذو مغفرة ) لمن تاب وآمن بك ( وذو عقاب أليم ) لمن أصر على التكذيب .
( ولو جعلناه ) أي : جعلنا هذا الكتاب الذي تقرؤه على الناس ، ( قرآنا أعجميا ) بغير [ ص: 177 ] لغة العرب ، ( لقالوا لولا فصلت آياته ) هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمها . ( أأعجمي وعربي ) يعني : أكتاب أعجمي ورسول عربي ؟ وهذا استفهام على وجه الإنكار . أي : أنهم كانوا يقولون : المنزل عليه عربي والمنزل أعجمي .
قال مقاتل : وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدخل على يسار غلام عامر بن الحضرمي ، وكان يهوديا أعجميا يكنى أبا فكيهة ، فقال المشركون : إنما يعلمه يسار فضربه سيده ، وقال : إنك تعلم محمدا ، فقال يسار : هو يعلمني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية :
( قل ) يا محمد ، ( هو ) يعني : القرآن ، ( للذين آمنوا هدى وشفاء ) هدى من الضلالة وشفاء لما في القلوب ، وقيل : شفاء من الأوجاع .
( والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى ) قال قتادة : عموا عن القرآن وصموا عنه فلا ينتفعون به . ( أولئك ينادون من مكان بعيد ) أي : أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم ، وهذا مثل لقلة انتفاعهم بما يوعظون به كأنهم ينادون من حيث لا يسمعون .
( ( ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب ( 45 ) من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ( 46 ) إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد ( 47 ) )
( ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ) فمصدق ومكذب كما اختلف قومك في كتابك ، ( ولولا كلمة سبقت من ربك ) في تأخير العذاب عن المكذبين بالقرآن ، ( لقضي بينهم ) لفرغ من عذابهم وعجل إهلاكهم ، ( وإنهم لفي شك منه ) من صدقك ، ( مريب ) موقع لهم الريبة .
( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ) .
( إليه يرد علم الساعة ) أي : علمها إذا سئل عنها مردود إليه لا يعلمه غيره ، ( وما تخرج من ثمرات من أكمامها ) قرأ أهل المدينة والشام وحفص : " ثمرات " ، على الجمع ، وقرأ الآخرون [ ص: 178 ] " ثمرة " على التوحيد ، ( من أكمامها ) أوعيتها ، واحدها : كم . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يعني الكفرى قبل أن تنشق . ( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ) إلا بإذنه . يقول : يرد إليه علم الساعة كما يرد إليه علم الثمار والنتاج . ( ويوم يناديهم ) ينادي الله المشركين ، ( أين شركائي ) الذين كنتم تزعمون أنها آلهة ، ( قالوا ) يعني المشركين ، ( آذناك ) أعلمناك ، ( ما منا من شهيد ) أي : من شاهد بأن لك شريكا لما عاينوا العذاب تبرءوا من الأصنام .
( ( وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص ( 48 ) لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط ( 49 ) ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ ( 50 ) )
( وضل عنهم ما كانوا يدعون ) يعبدون ، ( من قبل ) في الدنيا ( وظنوا ) أيقنوا ، ( ما لهم من محيص ) مهرب .
( لا يسأم الإنسان ) لا يمل الكافر ، ( من دعاء الخير ) أي : لا يزال يسأل ربه الخير ، يعني المال والغنى والصحة ، ( وإن مسه الشر ) الشدة والفقر ، ( فيئوس ) من روح الله ، ( قنوط ) من رحمته .
( ولئن أذقناه رحمة منا ) آتيناه خيرا وعافية وغنى ، ( من بعد ضراء مسته ) من بعد شدة وبلاء أصابته ، ( ليقولن هذا لي ) أي : بعملي وأنا محقوق بهذا ، ( وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ) يقول هذا الكافر : لست على يقين من البعث ، فإن كان الأمر على ذلك ، ورددت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ، أي : الجنة ، أي : كما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة . ( فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لنقفنهم على مساوئ أعمالهم ، ( ولنذيقنهم من عذاب غليظ ) .
ابو وليد البحيرى
2022-09-21, 11:47 PM
الحلقة (366)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الشُّورَى
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية18
[ ص: 179 ] ( وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ( 51 ) قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد ( 52 ) سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ( 53 ) ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط ( 54 ) )
( ( وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ) كثير والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة ، فيقال : أطال فلان الكلام والدعاء وأعرض ، أي : أكثر . ( قل أرأيتم إن كان ) هذا القرآن ، ( من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد ) خلاف للحق بعيد عنه ، أي : فلا أحد أضل منكم .
( سنريهم آياتنا في الآفاق ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يعني منازل الأمم الخالية . ( وفي أنفسهم ) بالبلاء والأمراض .
وقال قتادة : في الآفاق يعني : وقائع الله في الأمم ، وفي أنفسهم يوم بدر .
وقال مجاهد ، والحسن ، والسدي : " في الآفاق " : ما يفتح من القرى على محمد - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، " وفي أنفسهم " : فتح مكة . ( حتى يتبين لهم أنه الحق ) يعني : دين الإسلام . وقيل : القرآن يتبين لهم أنه من عند الله . وقيل : محمد - صلى الله عليه وسلم - يتبين لهم أنه مؤيد من قبل الله تعالى .
وقال عطاء وابن زيد : " في الآفاق " يعني : أقطار السماء والأرض من الشمس والقمر والنجوم والنبات والأشجار والأنهار . " وفي أنفسهم " من لطيف الصنعة وبديع الحكمة ، حتى يتبين لهم أنه الحق .
( أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) قال مقاتل : أولم يكف بربك شاهدا أن القرآن من الله تعالى . قال الزجاج : معنى الكفاية هاهنا : أن الله - عز وجل - قد بين من الدلائل ما فيه كفاية ، يعني : أولم يكف بربك ؛ لأنه على كل شيء شهيد ، شاهد لا يغيب عنه شيء .
( ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ) في شك من البعث ، ( ألا إنه بكل شيء محيط ) أحاط بكل شيء علما .
سُورَةُ الشُّورَى
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( حم ( 1 ) عسق ( 2 ) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 3 ) )
( حم عسق ) سُئِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ : لِمَ يُقَطَّعُ حم عسق وَلَمْ يُقَطَّعْ كهيعص ؟ فَقَالَ : لِأَنَّهَا سُورَةٌ أَوَائِلُهَا حم ، فَجَرَتْ مَجْرَى نَظَائِرِهَا ، فَكَانَ " حم " مُبْتَدَأً " وَعسق " خَبَرَهُ ، وَلِأَنَّهُمَا عُدَّا آيَتَيْنِ ، وَأَخَوَاتُهَا مِثْلُ : " كهيعص " " وَالمص " " وَالمر " عُدَّتْ آيَةً وَاحِدَةً .
وَقِيلَ : لِأَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي " كهيعص " وَأَخَوَاتِهَا أَنَّهَا حُرُوفُ التَّهَجِّي لَا غَيْرَ ، وَاخْتَلَفُوا فِي " حم " فَأَخْرَجَهَا بَعْضُهُمْ مِنْ حَيِّزِ الْحُرُوفِ وَجَعَلَهَا فِعْلًا وَقَالَ : مَعْنَاهَا حَمَّ أَيْ : قَضَى مَا هُوَ كَائِنٌ .
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ : ح حِلْمُهُ ، م مَجْدُهُ ، ع عِلْمُهُ ، س سَنَاؤُهُ ، ق قُدْرَتُهُ ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا .
وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ : ح حَرْبٌ يَعِزُّ فِيهَا الذَّلِيلُ وَيَذِلُّ فِيهَا الْعَزِيزَ مِنْ قُرَيْشٍ ، م مُلْكٌ يَتَحَوَّلُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ ، ع عَدُوٌّ لِقُرَيْشٍ يَقْصِدُهُمْ ، س سَيِّئٌ يَكُونُ فِيهِمْ ، ق قُدْرَةُ اللَّهِ النَّافِذَةُ فِي خَلْقِهِ . [ ص: 184 ]
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ صَاحِبِ كِتَابٍ إِلَّا وَقَدْ أُوحِيَتْ إِلَيْهِ " حم عسق " . فَلِذَلِكَ قَالَ :
( كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ ) . ( كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ " يُوحَى " بِفَتْحِ الْحَاءِ وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ : " وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ " ( الزُّمَرِ - 65 ) ، فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ : ( اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) تَبْيِينٌ لِلْفَاعِلِ كَأَنَّهُ قِيلَ : مَنْ يُوحِي ؟ فَقِيلَ : اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ " يُوحِي " بِكَسْرِ الْحَاءِ ، إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .
قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - : يُرِيدُ أَخْبَارَ الْغَيْبِ .
( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ( 4 ) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَة ُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُو نَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 5 ) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ( 6 ) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ( 7 ) )
( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ) أَيْ : كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَتَفَطَّرُ فَوْقَ الَّتِي تَلِيهَا مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ : " اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدَا " . نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ : وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ( مَرْيَمَ 88 - 90 ) . ( وَالْمَلَائِكَة ُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُو نَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، ( أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .
( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ) يَحْفَظُ أَعْمَالَهُمْ وَيُحْصِيهَا عَلَيْهِمْ لِيُجَازِيَهُمْ بِهَا ، ( وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) لَمْ يُوَكِّلْكَ اللَّهُ بِهِمْ حَتَّى تُؤْخَذَ بِهِمْ .
( وَكَذَلِكَ ) مِثْلَ مَا ذَكَرْنَا ، ( أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى ) مَكَّةَ ، يَعْنِي : أَهْلَهَا ، ( وَمَنْ حَوْلَهَا ) يَعْنِي قُرَى الْأَرْضِ كُلَّهَا ، ( وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ ) أَيْ : تُنْذِرُهُمْ بِيَوْمِ الْجَمْعِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الْأَرْضِينَ ( لَا رَيْبَ فِيهِ ) لَا شَكَّ [ ص: 185 ] فِي الْجَمْعِ أَنَّهُ كَائِنٌ ثُمَّ بَعْدَ الْجَمْعِ يَتَفَرَّقُونَ . ( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْخَشْمَاذِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ التَّنُوخِيُّ ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِ ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ كُرَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، قَالَ الثَّعْلَبِيُّ : وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ فَنْجَوَيْهِ الدِّينَوَرِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، حَدَّثَنِي أَبِي ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ ، حَدَّثَنِي أَبُو قُبَيْلٍ الْمُعَافِرِيُّ عَنْ شُفَيٍّ الْأَصْبَحِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ قَابِضًا عَلَى كَفَّيْهِ وَمَعَهُ كِتَابَانِ ، فَقَالَ : " أَتُدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ ؟ " قُلْنَا : لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى : هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ وَعِدَّتُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا نُطَفًا فِي الْأَصْلَابِ ، وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا نُطَفًا فِي الْأَرْحَامِ إِذْ هُمْ فِي الطِّينَةِ مُنْجَدِلُونَ فَلَيْسَ بِزَائِدٍ فِيهِمْ وَلَا نَاقِصٍ مِنْهُمْ ، إِجْمَالٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي يَسَارِهِ : هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ وَعِدَّتُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا نُطَفًا فِي الْأَصْلَابِ ، وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا نُطَفًا فِي الْأَرْحَامِ إِذْ هُمْ فِي الطِّينَةِ مُنْجَدِلُونَ ، فَلَيْسَ بِزَائِدٍ فِيهِمْ وَلَا بِنَاقِصٍ مِنْهُمْ ، إِجْمَالٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : فَفِيمَ الْعَمَلُ إذًا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : " اعْمَلُوا وَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ . ثُمَّ قَالَ : " فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ " فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ ، " وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ " عَدْلٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " .
( ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير ( 8 ) )
قوله عز وجل : ( ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : على دين واحد . وقال مقاتل : على ملة الإسلام كقوله تعالى : " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " ( الأنعام - 35 ) ، ( ولكن يدخل من يشاء في رحمته ) في دين الإسلام ، ( والظالمون ) الكافرون ، ( ما لهم من ولي ) يدفع عنهم العذاب ، ( ولا نصير ) يمنعهم من النار .
[ ص: 186 ] ( أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ( 9 ) وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب ( 10 ) فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( 11 ) له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم ( 12 ) شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ( 13 ) )
( أم اتخذوا ) بل اتخذوا ، أي : الكافرون ، ( من دونه ) أي : من دون الله ، ( أولياء فالله هو الولي ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : وليك يا محمد وولي من اتبعك ، ( وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ) .
( وما اختلفتم فيه من شيء ) من أمر الدين ، ( فحكمه إلى الله ) يقضي فيه ويحكم يوم القيامة بالفصل الذي يزيل الريب ، ( ذلكم الله ) الذي يحكم بين المختلفين هو ( ربي عليه توكلت وإليه أنيب ) .
( فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ) من مثل خلقكم حلائل ، قيل : إنما قال " من أنفسكم " لأنه خلق حواء من ضلع آدم . ( ومن الأنعام أزواجا ) أصنافا ذكورا وإناثا ، ( يذرؤكم ) يخلقكم ، ( فيه ) أي : في الرحم . وقيل : في البطن . وقيل : على هذا الوجه من الخلقة . قال مجاهد : نسلا بعد نسل من الناس والأنعام . وقيل : " في " بمعنى الباء ، أي : يذرؤكم به . وقيل : معناه يكثركم بالتزويج . ( ليس كمثله شيء ) " مثل " صلة ، أي : ليس هو كشيء ، فأدخل المثل للتوكيد كقوله : " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به " ( البقرة - 137 ) ، وقيل : الكاف صلة ، مجازه : ليس مثله شيء . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ليس له نظير . ( وهو السميع البصير ) .
( له مقاليد السماوات والأرض ) مفاتيح الرزق في السموات والأرض . قال الكلبي : المطر والنبات . ( يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) لأن مفاتيح الرزق بيده ، ( إنه بكل شيء عليم ) .
قوله عز وجل : ( شرع لكم من الدين ) بين وسن لكم ، ( ما وصى به نوحا ) وهو أول أنبياء الشريعة . قال مجاهد : أوصيناك وإياه يا محمد دينا واحدا . ( والذي أوحينا إليك ) من [ ص: 187 ] القرآن وشرائع الإسلام ، ( وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ) واختلفوا في وجه الآية : فقال قتادة : تحليل الحلال وتحريم الحرام . وقال الحكم : تحريم الأمهات والبنات والأخوات .
وقال مجاهد : لم يبعث الله نبيا إلا وصاه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة له ، فذلك دينه الذي شرع لهم .
وقيل : هو التوحيد والبراءة من الشرك . وقيل : هو ما ذكر من بعد ، وهو قوله : ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة .
( كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ) من التوحيد ورفض الأوثان ثم قال : ( الله يجتبي إليه من يشاء ) يصطفي إليه من عباده من يشاء ، ( ويهدي إليه من ينيب ) يقبل إلى طاعته .
( وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب ( 14 ) فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير ( 15 ) )
( وما تفرقوا ) يعني أهل الأديان المختلفة ، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يعني أهل الكتاب كما ذكر في سورة المنفكين . ( إلا من بعد ما جاءهم العلم ) بأن الفرقة ضلالة ولكنهم فعلوا ذلك ، ( بغيا بينهم ) أي : للبغي ، قال عطاء : يعني بغيا بينهم على محمد - صلى الله عليه وسلم - ( ولولا كلمة سبقت من ربك ) في تأخير العذاب عنهم ، ( إلى أجل مسمى ) وهو يوم القيامة ، ( لقضي بينهم ) بين من آمن وكفر ، يعني أنزل العذاب بالمكذبين في الدنيا ، ( وإن الذين أورثوا الكتاب ) يعني اليهود والنصارى ، ( من بعدهم ) من بعد أنبيائهم ، وقيل : من بعد الأمم الخالية . وقال قتادة : معناه من قبلهم أي : من قبل مشركي مكة . ( لفي شك منه مريب ) أي : من محمد - صلى الله عليه وسلم - .
( فلذلك فادع ) أي : فإلى ذلك كما يقال دعوت إلى فلان ولفلان ، وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد ، ( واستقم كما أمرت ) اثبت على الدين الذي أمرت به ، [ ص: 188 ] ( ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ) أي : آمنت بكتب الله كلها ، ( وأمرت لأعدل بينكم ) أن أعدل بينكم . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أمرت أن لا أحيف عليكم بأكثر مما افترض الله عليكم من الأحكام . وقيل : لأعدل بينكم في جميع الأحوال والأشياء ، ( الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) يعني : إلهنا واحد ، وإن اختلفت أعمالنا ، فكل يجازى بعمله ، ( لا حجة ) لا خصومة ، ( بيننا وبينكم ) نسختها آية القتال ، فإذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة لم يكن بينه وبين من لا يجيب خصومة ، ( الله يجمع بيننا ) في المعاد لفصل القضاء ، ( وإليه المصير ) .
( والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد ( 16 ) الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب ( 17 ) يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ( 18 ) )
( والذين يحاجون في الله ) يخاصمون في دين الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - . وقال قتادة : هم اليهود قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، فنحن خير منكم ، فهذه خصومتهم . ( من بعد ما استجيب له ) أي : استجاب له الناس فأسلموا ودخلوا في دينه لظهور معجزته ، ( حجتهم داحضة ) خصومتهم باطلة ، ( عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد ) في الآخرة . ( الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ) قال قتادة ، ومجاهد ، ومقاتل : سمي العدل ميزانا ؛ لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أمر الله تعالى بالوفاء ، ونهى عن البخس . ( وما يدريك لعل الساعة قريب ) ولم يقل قريبة ؛ لأن تأنيثها غير حقيقي ، ومجازه : الوقت . وقال الكسائي : إتيانها قريب . قال مقاتل : ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الساعة وعنده قوم من المشركين ، قالوا تكذيبا : متى تكون الساعة ؟ فأنزل الله هذه الآية : ( يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ) ظنا منهم أنها غير آتية ، ( والذين آمنوا مشفقون ) أي : خائفون ، ( منها ويعلمون أنها الحق ) أنها آتية لا ريب فيها . [ ص: 189 ] ( ألا إن الذين يمارون ) يخاصمون ، وقيل : تدخلهم المرية والشك ، ( في الساعة لفي ضلال بعيد )
ابو وليد البحيرى
2022-09-21, 11:53 PM
الحلقة (367)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الشُّورَى
مَكِّيَّةٌ
الاية19 إلى الاية43
( الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز ( 19 ) من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ( 20 ) )
قوله عز وجل : ( الله لطيف بعباده ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : حفي بهم . قال عكرمة : بار بهم . قال السدي : رفيق . قال مقاتل : لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعا بمعاصيهم ، يدل عليه قوله : " يرزق من يشاء " ( البقرة - 212 ) ، وكل من رزقه الله من مؤمن وكافر وذي روح فهو ممن يشاء الله أن يرزقه . قال جعفر الصادق : اللطف في الرزق من وجهين ، أحدهما : أنه جعل رزقك من الطيبات ، والثاني : أنه لم يدفعه إليك بمرة واحدة . ( وهو القوي العزيز ) . ( من كان يريد حرث الآخرة ) الحرث في اللغة : الكسب ، يعني : من كان يريد بعمله الآخرة ، ( نزد له في حرثه ) بالتضعيف بالواحد عشرة إلى ما شاء الله من الزيادة . ( ومن كان يريد حرث الدنيا ) يريد بعمله الدنيا ، ( نؤته منها ) قال قتادة : أي : نؤته بقدر ما قسم الله له ، كما قال : " عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد " ( الإسراء - 18 ) . ( وما له في الآخرة من نصيب ) لأنه لم يعمل للآخرة .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو طاهر الزيادي ، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال ، حدثنا أبو الأزهر أحمد بن منيع العبدي ، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي ، حدثنا سفيان عن المغيرة عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بشرت هذه الأمة بالسنا والرفعة والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب " .
[ ص: 190 ] ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم ( 21 ) ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ( 22 ) ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور ( 23 ) )
قوله عز وجل : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) يعني كفار مكة . يقول : أم لهم آلهة سنوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ؟
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : شرعوا لهم دينا غير دين الإسلام .
( ولولا كلمة الفصل ) لولا أن الله حكم في كلمة الفصل بين الخلق بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة حيث قال : " بل الساعة موعدهم " ( القمر - 46 ) ، ( لقضي بينهم ) لفرغ من عذاب الذين يكذبونك في الدنيا ، ( وإن الظالمين ) المشركين ، ( لهم عذاب أليم ) في الآخرة .
( ترى الظالمين ) المشركين يوم القيامة ، ( مشفقين ) وجلين ( مما كسبوا وهو واقع بهم ) جزاء كسبهم واقع بهم . ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ) .
( ذلك الذي ) ذكرت من نعيم الجنة ( يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) فإنهم أهله ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة قال : سمعت طاوسا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سئل عن قوله : " إلا المودة في القربى " قال سعيد بن جبير : قربى آل محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : عجلت ، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة ، فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة .
وكذلك روى الشعبي وطاوس عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " إلا المودة في القربى " [ ص: 191 ] يعني : أن تحفظوا قرابتي وتودوني وتصلوا رحمي . وإليه ذهب مجاهد ، وقتادة ، وعكرمة ، ومقاتل ، والسدي ، والضحاك - رضي الله عنهم - .
وقال عكرمة : لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجرا إلا أن تحفظوني في قرابتي بيني وبينكم ، وليس كما يقول الكذابون .
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في معنى الآية : إلا أن تودوا الله وتتقربوا إليه بطاعته ، وهذا قول الحسن قال : هو القربى إلى الله ، يقول : إلا التقرب إلى الله والتودد إليه بالطاعة والعمل الصالح .
وقال بعضهم : معناه إلا أن تودوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم ، وهو قول سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب .
واختلفوا في قرابته قيل : هم فاطمة وعلي وأبناؤهما ، وفيهم نزل : " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " ( الأحزاب - 33 ) .
وروينا عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " ، قيل لزيد بن أرقم : من أهل بيته ؟ قال : هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، حدثنا خالد ، حدثنا شعبة عن واقد قال : سمعت أبي يحدث عن ابن عمر عن أبي بكر قال : ارقبوا محمدا في أهل بيته .
وقيل : هم الذين تحرم عليهم الصدقة من أقاربه ويقسم فيهم الخمس ، وهم بنو هاشم ، وبنو المطلب ، الذين لم يتفرقوا في جاهلية ولا في إسلام .
وقال قوم : هذه الآية منسوخة وإنما نزلت بمكة ، وكان المشركون يؤذون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله هذه الآية فأمرهم فيها بمودة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلة رحمه ، فلما هاجر إلى المدينة وآواه [ ص: 192 ] الأنصار ونصروه أحب الله - عز وجل - أن يلحقه بإخوانه من الأنبياء - عليهم السلام - حيث قالوا : " وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين " ( الشعراء - 109 ) فأنزل الله تعالى : " قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله " فهي منسوخة بهذه الآية ، وبقوله : " قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين " ( الزمر - 86 ) ، وغيرها من الآيات . وإلى هذا ذهب الضحاك بن مزاحم ، والحسين بن الفضل .
وهذا قول غير مرضي ; لأن مودة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكف الأذى عنه ومودة أقاربه ، والتقرب إلى الله بالطاعة والعمل الصالح من فرائض الدين ، وهذه أقاويل السلف في معنى الآية ، فلا يجوز المصير إلى نسخ شيء من هذه الأشياء .
وقوله : " إلا المودة في القربى " ، ليس باستثناء متصل بالأول حتى يكون ذلك أجرا في مقابلة أداء الرسالة ، بل هو منقطع ، ومعناه : ولكني أذكركم المودة في القربى وأذكركم قرابتي منكم ، كما روينا في حديث زيد بن أرقم : " أذكركم الله في أهل بيتي " .
قوله عز وجل : ( ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ) أي : من يزد طاعة نزد له فيها حسنا بالتضعيف ، ( إن الله غفور ) للذنوب ، ( شكور ) للقليل حتى يضاعفها .
( أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور ( 24 ) )
( أم يقولون ) بل يقولون يعني : كفار مكة ، ( افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك . ) قال مجاهد : يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشق عليك أذاهم ، وقولهم : إنه مفتر . قال قتادة : يعني يطبع على قلبك فينسيك القرآن وما أتاك ، فأخبرهم أنه لو افترى على الله لفعل به ما أخبر عنه في هذه الآية . ثم ابتدأ فقال : ( ويمح الله الباطل ) قال الكسائي : فيه تقديم وتأخير مجازه : والله يمحو الباطل . وهو في محل رفع ، ولكنه حذف منه الواو في المصحف على اللفظ كما حذفت من قوله : " ويدع الإنسان " ( الإسراء - 11 ) " وسندع الزبانية " ( العلق - 18 ) ، أخبر أن ما يقولونه باطل يمحوه الله ، ( ويحق الحق بكلماته ) أي : الإسلام بما أنزل من كتابه ، وقد فعل الله ذلك فمحا باطلهم وأعلى كلمة الإسلام . ( إنه عليم بذات الصدور ) قال ابن عباس : لما نزلت : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى وقع في قلوب قوم منها شيء وقالوا يريد أن يحثنا على أقاربه من بعده ، فنزل جبريل فأخبره أنهم اتهموه وأنزل هذه الآية ، فقال القوم : يا رسول الله فإنا نشهد أنك صادق ؟ فنزل :
( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ) .
[ ص: 193 ] ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ( 25 ) )
( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يريد أولياءه وأهل طاعته . قيل : التوبة ترك المعاصي نية وفعلا والإقبال على الطاعة نية وفعلا . قال سهل بن عبد الله : التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة . ( ويعفو عن السيئات ) إذا تابوا .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان ، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا أبو عوانة عن سليمان عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن الحارث بن سويد قال : دخلت على عبد الله أعوده ، فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لله أفرح بتوبة عبده من رجل - أظنه قال - في برية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه ، فنزل فنام فاستيقظ وقد ضلت راحلته ، فطاف عليها حتى أدركه العطش ، فقال : أرجع إلى حيث كانت راحلتي فأموت عليه ، فرجع فأغفى فاستيقظ فإذ هو بها عنده عليها طعامه وشرابه " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن الصباح وزهير بن حرب قالا : حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا إسحاق بن أبي طلحة ، حدثني أنس بن مالك وهو عمه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ، وقد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح " .
( ويعفو عن السيئات ) فيمحوها إذا تابوا . ( ويعلم ما تفعلون ) قرأ حمزة والكسائي وحفص " تفعلون " بالتاء ، وقالوا : هو خطاب للمشركين ، وقرأ الآخرون بالياء ؛ لأنه بين خبرين عن قوم ، فقال قبله : عن عباده ، وبعده : ويزيدهم من فضله .
[ ص: 194 ] ( ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد ( 26 ) ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير ( 27 ) )
( ويستجيب الذين آمنوا ) أي : ويجيب الذين آمنوا ، ( وعملوا الصالحات ) إذا دعوه . وقال عطاء عن ابن عباس : ويثيب الذين آمنوا . ( ويزيدهم من فضله ) سوى ثواب أعمالهم تفضلا منه . قال أبو صالح عنه : يشفعهم في إخوانهم ، ويزيدهم من فضله ، قال : في إخوان إخوانهم .
( والكافرون لهم عذاب شديد ) .
( ولو بسط الله الرزق لعباده ) قال خباب بن الأرت : فينا نزلت هذه الآية ، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع فتمنيناها فأنزل الله عز وجل هذه الآية : " ولو بسط الله الرزق " وسع الله الرزق ( لعباده ) ( لبغوا ) لطغوا وعتوا ، ( في الأرض ) .
قال ابن عباس : بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ومركبا بعد مركب وملبسا بعد ملبس . ( ولكن ينزل ) أرزاقهم ( بقدر ما يشاء ) كما يشاء نظرا منه لعباده ، ( إنه بعباده خبير بصير ) .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو عمر بكر بن محمد المزني ، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله حفيد العباس بن حمزة ، حدثنا الحسين بن الفضل البجلي ، حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد الدمشقي ، حدثنا صدقة عن عبد الله ، حدثنا هشام الكناني عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل عن الله عز وجل قال : " يقول الله عز وجل من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرد ، وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه ، وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا ومؤيدا ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت ، وأنا أكره مساءته ولا بد له منه ، وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة [ ص: 195 ] ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك ، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير " .
( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد ( 28 ) ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ( 29 ) وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ( 30 ) )
قوله عز وجل : ( وهو الذي ينزل الغيث ) المطر ، ( من بعد ما قنطوا ) يعني : من بعد ما يئس الناس منه ، وذلك أدعى لهم إلى الشكر . قال مقاتل : حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين حتى قنطوا ، ثم أنزل الله المطر فذكرهم الله نعمته . ( وينشر رحمته ) يبسط مطره كما قال : " وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته " . ( الأعراف - 75 ( وهو الولي ) لأهل طاعته ، ( الحميد ) عند خلقه .
( ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ) يعني : يوم القيامة .
( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) قرأ أهل المدينة والشام " بما كسبت " بغير فاء ، وكذلك هو في مصاحفهم ، فمن حذف الفاء جعل " ما " في أول الآية بمعنى الذي أصابكم بما كسبت أيديكم . ( ويعفو عن كثير ) قال الحسن : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ، ولا اختلاج عرق إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدثنا بشر بن موسى الأسدي ، حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا مروان بن معاوية ، أخبرني الأزهر بن راشد الباهلي عن الخضر بن القواس البجلي عن أبي سخيلة قال : [ ص: 196 ] قال علي بن أبي طالب : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله - عز وجل - حدثنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " . قال : وسأفسرها لك يا علي : " ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم ، والله - عز وجل - أكرم من أن يثني عليهم العقوبة في الآخرة ، وما عفا الله عنكم في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه " .
قال عكرمة : ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفر له إلا بها ، أو درجة لم يكن الله ليبلغها إلا بها .
( وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ( 31 ) ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام ( 32 ) إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ( 33 ) أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ( 34 ) ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص ( 35 ) )
( وما أنتم بمعجزين ) بفائتين ، ( في الأرض ) هربا يعني لا تعجزونني حيثما كنتم ولا تسبقونني ، ( وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) .
قوله عز وجل : ( ومن آياته الجواري ) يعني : السفن ، واحدتها جارية وهي السائرة ، ( في البحر كالأعلام ) أي : الجبال . [ قال مجاهد : القصور ، واحدها علم ] . وقال الخليل بن أحمد : كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم .
( إن يشأ يسكن الريح ) التي تجريها ، ( فيظللن ) يعني : الجواري ( رواكد ) ثوابت ، ( على ظهره ) على ظهر البحر لا تجري . ( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) أي : لكل مؤمن ؛ لأن صفة المؤمن الصبر في الشدة والشكر في الرخاء .
( أو يوبقهن ) يهلكهن ويغرقهن ، ( بما كسبوا ) أي : بما كسبت ركبانها من الذنوب . ( ويعف عن كثير ) من ذنوبهم [ فلا يعاقب عليها ] .
( ويعلم ) قرأ أهل المدينة والشام : " ويعلم " برفع الميم على الاستئناف كقوله عز وجل في سورة براءة : " ويتوب الله على من يشاء " ( التوبة - 15 ) ، وقرأ الآخرون بالنصب على الصرف ، والجزم [ ص: 197 ] إذا صرف عنه معطوفه نصب ، وهو كقوله تعالى : " ويعلم الصابرين " ( آل عمران - 142 ) ، صرف من حال الجزم إلى النصب استخفافا وكراهية لتوالي الجزم . ( الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص ) أي : يعلم الذين يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى الله بعد البعث أن لا مهرب لهم من عذاب الله .
( فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ( 36 ) والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ( 37 ) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ( 38 ) والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ( 39 ) )
( فما أوتيتم من شيء ) [ من رياش الدنيا ، ( فمتاع الحياة الدنيا ) ليس من زاد المعاد ، ( وما عند الله ) من الثواب ، ( خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ) فيه بيان أن المؤمن والكافر يستويان في أن الدنيا متاع قليل لهما يتمتعان بها فإذا صارا إلى الآخرة كان ما عند الله خير للمؤمن .
( والذين يجتنبون كبائر الإثم ) قرأ حمزة والكسائي : " كبير الإثم " على الواحد هاهنا ، وفي سورة النجم ، وقرأ الآخرون : " كبائر " بالجمع ، وقد ذكرنا معنى الكبائر في سورة النساء ( والفواحش ) قال السدي : يعني الزنا . وقال مجاهد ومقاتل : ما يوجب الحد . ( وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) يحلمون ويكظمون الغيظ ويتجاوزون .
( والذين استجابوا لربهم ) أجابوه إلى ما دعاهم إليه من طاعته ، ( وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ) يتشاورون فيما يبدو لهم ولا يعجلون ( ومما رزقناهم ينفقون ) .
( والذين إذا أصابهم البغي ) الظلم والعدوان ، ( هم ينتصرون ) ينتقمون من ظالميهم من غير أن يعتدوا . قال ابن زيد : جعل الله المؤمنين صنفين : صنف يعفون عن ظالميهم فبدأ بذكرهم ، وهو قوله : " وإذا ما غضبوا هم يغفرون " ، وصنف ينتصرون من ظالميهم ، وهم الذين ذكروا في هذه الآية .
قال إبراهيم في هذه الآية : كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا .
قال عطاء : هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم ، ثم مكنهم الله في الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم .
[ ص: 198 ] ( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ( 40 ) ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ( 41 ) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ( 42 ) ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( 43 ) )
ثم ذكر الله الانتصار فقال : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ سمى الجزاء سيئة ] وإن لم تكن سيئة لتشابههما في الصورة . قال مقاتل : يعني القصاص في الجراحات والدماء .
قال مجاهد والسدي : هو جواب القبيح ، إذا قال : أخزاك الله تقول : أخزاك الله ، وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي .
قال سفيان بن عيينة : قلت لسفيان الثوري ما قوله عز وجل : " وجزاء سيئة سيئة مثلها " ؟ قال : أن يشتمك رجل فتشتمه ، وأن يفعل بك فتفعل به ، فلم أجد عنده شيئا . فسألت هشام بن حجيرة عن هذه الآية ؟ فقال : الجارح إذا جرح يقتص منه ، وليس هو أن يشتمك فتشتمه .
ثم ذكر العفو فقال : ( فمن عفا ) عمن ظلمه ، ( وأصلح ) بالعفو بينه وبين ظالمه ، ( فأجره على الله ) قال الحسن : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : من كان له على الله أجر فليقم . فلا يقوم إلا من عفا ، ثم قرأ هذه الآية . ( إنه لا يحب الظالمين ) قال ابن عباس : الذين يبدءون بالظلم .
( ولمن انتصر بعد ظلمه ) أي : بعد ظلم الظالم إياه ، ( فأولئك ) يعني المنتصرين ، ( ما عليهم من سبيل ) بعقوبة ومؤاخذة .
( إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ) يبدءون بالظلم ، ( ويبغون في الأرض بغير الحق ) يعملون فيها بالمعاصي ، ( أولئك لهم عذاب أليم ) .
( ولمن صبر وغفر ) فلم ينتصر ، ( إن ذلك ) الصبر والتجاوز ، ( لمن عزم الأمور ) حقها وجزمها . قال مقاتل : من الأمور التي أمر الله بها . قال الزجاج : الصابر يؤتى بصبره الثواب ، فالرغبة في الثواب أتم عزما .
ابو وليد البحيرى
2022-09-22, 12:01 AM
الحلقة (368)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية21
[ ص: 199 ] ( ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل ( 44 ) وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم ( 45 ) وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل ( 46 ) استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير ( 47 ) )
( ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده ) فما له من أحد يلي هدايته بعد إضلال الله إياه ويمنعه من عذاب الله . ( وترى الظالمين لما رأوا العذاب ) يوم القيامة ، ( يقولون هل إلى مرد من سبيل ) يسألون الرجعة في الدنيا . ( وتراهم يعرضون عليها ) أي : على النار ، ( خاشعين ) خاضعين متواضعين ، ( من الذل ينظرون من طرف خفي ) خفي النظر لما عليهم من الذل يسارقون النظر إلى النار خوفا منها وذلة في أنفسهم . وقيل : " من " بمعنى الباء أي : بطرف خفي ضعيف من الذل . وقيل : إنما قال : " من طرف خفي " ؛ لأنه لا يفتح عينه إنما ينظر ببعضها . وقيل : معناه ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم يحشرون عميا ، والنظر بالقلب خفي . ( وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ) قيل : خسروا أنفسهم بأن صاروا إلى النار ، وأهليهم بأن صاروا لغيرهم في الجنة . ( ألا إن الظالمين في عذاب مقيم ) .
( وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل ) طريق إلى الصواب وإلى الوصول إلى الحق في الدنيا والجنة في العقبى ، قد انسد عليهم طريق الخير .
( استجيبوا لربكم ) أجيبوا داعي الله يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - ( من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ) لا يقدر أحد على دفعه وهو يوم القيامة ( ما لكم من ملجإ ) تلجئون إليه ( يومئذ وما لكم من نكير ) من منكر يغير ما بكم .
[ ص: 200 ] ( فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور ( 48 ) لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ( 49 ) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير ( 50 ) وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ( 51 ) )
( فإن أعرضوا ) عن الإجابة ، ( فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك ) ما عليك ، ( إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة ) قال ابن عباس : يعني الغنى والصحة . ( فرح بها وإن تصبهم سيئة ) قحط ، ( بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور ) أي : لما تقدم من نعمة الله عليه ، ينسى ويجحد بأول شدة جميع ما سلف من النعم .
( لله ملك السماوات والأرض ) له التصرف فيهما بما يريد ، ( يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ) فلا يكون له ولد ذكر . قيل : من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر ؛ لأن الله تعالى بدأ بالإناث . ( ويهب لمن يشاء الذكور ) فلا يكون له أنثى .
( أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ) يجمع له بينهما فيولد له الذكور والإناث . ( ويجعل من يشاء عقيما ) فلا يلد ولا يولد له . قيل : هذا في الأنبياء - عليهم السلام - ( يهب لمن يشاء إناثا ) يعني : لوطا لم يولد له ذكر إنما ولد له ابنتان ، ( ويهب لمن يشاء الذكور ) يعني : إبراهيم عليه السلام لم يولد له أنثى ، ( أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ) يعني : محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولد له بنون وبنات ، ( ويجعل من يشاء عقيما ) يحيى وعيسى عليهما السلام لم يولد لهما ، وهذا على وجه التمثيل . والآية عامة في حق كافة الناس . ( إنه عليم قدير ) .
قوله عز وجل : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ) وذلك أن اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه ؟ فقال : لم ينظر موسى إلى الله - عز وجل - فأنزل الله تعالى : " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا " يوحي إليه في المنام أو بالإلهام ، ( أو من وراء حجاب ) يسمعه كلامه ولا يراه ، كما كلمه موسى عليه الصلاة والسلام . [ ص: 201 ] ( أو يرسل رسولا ) إما جبريل أو غيره من الملائكة ، ( فيوحي بإذنه ما يشاء ) أي : يوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله ما يشاء .
قرأ نافع : " أو يرسل " برفع اللام على الابتداء ، " فيوحي " ساكنة الياء ، وقرأ الآخرون بنصب اللام والياء عطفا على محل الوحي لأن معناه : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي إليه أو يرسل رسولا . ( إنه علي حكيم ) .
( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ( 52 ) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ( 53 ) )
( وكذلك ) أي : كما أوحينا إلى سائر رسلنا ، ( أوحينا إليك روحا من أمرنا ) قال ابن عباس : نبوة . وقال الحسن : رحمة . وقال السدي ومقاتل : وحيا . وقال الكلبي : كتابا . وقال الربيع : جبريل . وقال مالك بن دينار : يعني القرآن . ( ما كنت تدري ) قبل الوحي ، ( ما الكتاب ولا الإيمان ) يعني شرائع الإيمان ومعالمه ، قال محمد بن إسحاق بن خزيمة : " الإيمان " في هذا الموضع : الصلاة ، ودليله : قوله - عز وجل - : وما كان الله ليضيع إيمانكم ( البقرة 143 ) .
وأهل الأصول على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا مؤمنين قبل الوحي ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعبد الله قبل الوحي على دين إبراهيم ، ولم يتبين له شرائع دينه .
( ولكن جعلناه نورا ) قال ابن عباس : يعني الإيمان . وقال السدي : يعني القرآن . ( نهدي به ) نرشد به ، ( من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي ) أي لتدعو ، ( إلى صراط مستقيم ) يعني الإسلام .
( صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ) أي : أمور الخلائق كلها في الآخرة .
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( حم ( 1 ) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 3 ) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ( 4 ) )
( حم ) ( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ) أَقْسَمَ بِالْكِتَابِ الَّذِي أَبَانَ طَرِيقَ الْهُدَى مِنْ طَرِيقِ الضَّلَالَةِ ، وَأَبَانَ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنَ الشَّرِيعَةِ .
( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) قَوْلُهُ : " جَعَلْنَاهُ " أَيْ : صَيَّرْنَا قِرَاءَةَ هَذَا الْكِتَابَ عَرَبِيًّا . وَقِيلَ : بَيَّنَّاهُ . وَقِيلَ : سَمَّيْنَاهُ . وَقِيلَ : وَصَفْنَاهُ ، يُقَالُ : جَعَلَ فُلَانٌ زَيْدًا أَعْلَمَ النَّاسِ ، أَيْ وَصَفَهُ ، هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا " ( الزُّخْرُفِ 19 ) وَقَوْلُهُ : " جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ " ( الْحِجْرِ 91 ) ، وَقَالَ : " أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ " ( التَّوْبَةِ 19 ) كُلُّهَا بِمَعْنَى الْوَصْفِ وَالتَّسْمِيَةِ .
" وَإِنَّهُ " ( يَعْنِي الْقُرْآنَ ، ( فِي أُمِّ الْكِتَابِ ) فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ . قَالَ قَتَادَةُ : " أُمُّ الْكِتَابِ " : أَصْلُ الْكِتَابِ ، وَأُمُّ كُلِّ شَيْءٍ : أَصْلُهُ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ ، فَالْكِتَابُ عِنْدَهُ ، ثُمَّ قَرَأَ " وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا " فَالْقُرْآنُ مُثَبَّتٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَمَا قَالَ : " بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ " ( الْبُرُوجِ 21 ) . ( لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) قَالَ قَتَادَةُ : يُخْبِرُ عَنْ مَنْزِلَتِهِ وَشَرَفِهِ ، أَيْ : إِنْ كَذَّبْتُمْ بِالْقُرْآنِ يَا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّهُ عِنْدَنَا لَعَلِيٌّ رَفِيعٌ شَرِيفٌ مُحْكَمٌ مِنَ الْبَاطِلِ .
[ ص: 206 ] ( أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ( 5 ) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ( 6 ) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 7 ) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ( 8 ) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( 9 ) )
( ( أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا ) يُقَالُ : ضَرَبْتُ عَنْهُ وَأَضْرَبْتُ عَنْهُ إِذَا تَرَكْتُهُ وَأَمْسَكْتُ عَنْهُ ، " وَالصَّفْحُ " مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ صَفَحْتَ عَنْهُ إِذَا أَعْرَضْتَ عَنْهُ ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُوَلِّيَهُ صَفْحَةَ وَجْهِكَ [ وَعُنُقِكَ ] . وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْقُرْآنُ . وَمَعْنَاهُ : أَفَنَتْرُكُ عَنْكُمُ الْوَحْيَ وَنُمْسِكُ عَنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ فَلَا نَأْمُرُكُمْ [ وَلَا نَنْهَاكُمْ ] مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ أَسْرَفْتُمْ فِي كُفْرِكُمْ وَتَرَكْتُمُ الْإِيمَانَ ؟ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ ، أَيْ : لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ .
قَالَ قَتَادَةُ : وَاللَّهِ لَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ رُفِعَ حِينَ رَدَّهُ أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَهَلَكُوا ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَادَ عَلَيْهِمْ بِعَائِدَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ، فَكَرَّرَهُ عَلَيْهِمْ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ : أَفَنُضْرِبُ عَنْكُمْ بِتَذْكِيرِنَا إِيَّاكُمْ صَافِحِينَ مُعْرِضِينَ .
قَالَ الْكِسَائِيُّ : أَفَنَطْوِي عَنْكُمُ الذِّكْرَ طَيًّا فَلَا تُدْعَوْنَ وَلَا تُوعَظُونَ . وَقَالَ الْكَلْبِيُّ : أَفَنَتْرُكُكُم ْ سُدًى لَا نَأْمُرُكُمْ وَلَا نَنْهَاكُمْ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ : أَفَنُعْرِضُ عَنْكُمْ وَنَتْرُكُكُمْ فَلَا نُعَاقِبَكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ . ( أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ) قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ : " إِنْ كُنْتُمْ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ ، عَلَى مَعْنَى : إِذْ كُنْتُمْ ، كَقَوْلِهِ : " وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " ( آلِ عِمْرَانَ 139 ) ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ عَلَى مَعْنَى : لِأَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ [ مُشْرِكِينَ ] .
( وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ ) أَيْ وَمَا كَانَ يَأْتِيهِمْ ، ( مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) كَاسْتِهْزَاءِ قَوْمِكَ بِكَ ، يُعَزِّي نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
( فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا ) أَيْ أَقْوَى مِنْ قَوْمِكَ ، يَعْنِي الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ أُهْلِكُوا بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ ، ( وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ) أَيْ صِفَتُهُمْ وَسُنَّتُهُمْ وَعُقُوبَتُهُمْ ، فَعَاقِبَةُ هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ فِي الْإِهْلَاكِ .
( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ) أَيْ سَأَلْتَ قَوْمَكَ ، [ ص: 207 ] ( مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) أَقَرُّوا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا ، وَأَقَرُّوا بِعِزِّهِ وَعِلْمِهِ ثُمَّ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَأَنْكَرُوا قُدْرَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ لِفَرْطِ جَهْلِهِمْ . إِلَى هَاهُنَا تَمَّ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ .
( الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون ( 10 ) والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون ( 11 ) والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ( 12 ) لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ( 13 ) وإنا إلى ربنا لمنقلبون ( 14 ) )
ثم ابتدأ دالا على نفسه بصنعه فقال : ( ( الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون ) إلى مقاصدكم في أسفاركم .
( والذي نزل من السماء ماء بقدر ) أي بقدر حاجتكم إليه لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أهلكهم . ( فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك ) أي كما أحيينا هذه البلدة [ الميتة ] بالمطر كذلك ( تخرجون ) من قبوركم أحياء .
( والذي خلق الأزواج ) أي الأصناف ( كلها ) ( وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ) في البر والبحر .
( لتستووا على ظهوره ) ذكر الكناية ؛ لأنه ردها إلى " ما " . ( ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ) بتسخير المراكب في البر والبحر ، ( وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا ) ذلل لنا هذا ، ( وما كنا له مقرنين ) مطيقين ، وقيل : ضابطين .
( وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) لمنصرفون في المعاد .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، أخبرني علي بن ربيعة أنه شهد عليا - رضي الله عنه - حين ركب فلما وضع رجله في الركاب قال : بسم الله ، فلما استوى قال : الحمد لله ، ثم قال : سبحان الذي سخر لنا هذا وما [ ص: 208 ] كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ، ثم حمد ثلاثا وكبر ثلاثا ، ثم قال : لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، ثم ضحك . فقال : ما يضحكك يا أمير المؤمنين ؟ قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ما فعلت ، وقال مثل ما قلت ، ثم ضحك ، فقلنا : ما يضحكك يا نبي الله ؟ قال : " العبد " ، أو قال : " عجبت للعبد إذا قال لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، يعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هو " .
( ( وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين ( 15 ) أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين ( 16 ) وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ( 17 ) أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ( 18 ) )
قوله - عز وجل - : ( وجعلوا له من عباده جزءا ) أي نصيبا وبعضا وهو قولهم : الملائكة بنات الله . ومعنى الجعل هاهنا الحكم بالشيء والقول ، كما تقول : جعلت زيدا أفضل الناس ، أي وصفته وحكمت به ، ( إن الإنسان ) يعني الكافر ، ( لكفور ) جحود لنعم الله ، ( مبين ) ظاهر الكفران .
( أم اتخذ مما يخلق بنات ) هذا استفهام توبيخ وإنكار ، يقول : اتخذ ربكم لنفسه البنات ، ( وأصفاكم بالبنين ) ؟ كقوله : " أفأصفاكم ربكم بالبنين " ( الإسراء 40 ) .
( وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ) بما جعل لله شبها ، وذلك أن ولد كل شيء يشبهه ، يعني إذا بشر أحدهم بالبنات كما ذكر في سورة النحل : " وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم " ( النحل 58 ) من الحزن والغيظ .
( أومن ينشأ ) قرأ حمزة والكسائي وحفص : " ينشأ " بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين ، أي يربى ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وسكون النون وتخفيف الشين ، أي ينبت ويكبر ، ( في الحلية ) في الزينة يعني النساء ، ( وهو في الخصام غير مبين ) في المخاصمة غير مبين للحجة [ ص: 209 ] من ضعفهن وسفههن . قال قتادة في هذه الآية : قلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها .
وفي محل " من " ثلاثة أوجه : الرفع على الابتداء ، والنصب على الإضمار مجازه : أومن ينشأ في الحلية يجعلونه بنات الله ، والخفض ردا على قوله : " مما يخلق " ، وقوله : " بما ضرب " .
( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون ( 19 ) وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ( 20 ) أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون ( 21 ) )
( ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ) قرأ أهل الكوفة ، وأبو عمرو : " عباد الرحمن " بالباء والألف بعدها ورفع الدال كقوله تعالى : " بل عباد مكرمون " ( الأنبياء 26 ) ، وقرأ الآخرون : " عند الرحمن " بالنون ونصب الدال على الظرف ، وتصديقه قوله - عز وجل - : " إن الذين عند ربك " ( الأعراف 206 ) الآية . ( أشهدوا خلقهم ) قرأ أهل المدينة على ما لم يسم فاعله ، ولين الهمزة الثانية بعد همزة الاستفهام أي : أحضروا خلقهم . وقرأ الآخرون بفتح الشين أي أحضروا خلقهم حين خلقوا ، وهذا كقوله : " أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون " ( الصافات 150 ) ، ( ستكتب شهادتهم ) على الملائكة أنهم بنات الله ، ( ويسألون ) عنها .
قال الكلبي ومقاتل : لما قالوا هذا القول سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ما يدريكم أنهم إناث ؟ " قالوا : سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا . فقال الله تعالى : ستكتب شهادتهم ويسألون عنها في الآخرة .
( وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ) يعني الملائكة . قاله قتادة ومقاتل والكلبي ، قال مجاهد : يعني الأوثان ، وإنما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضاه منا بعبادتها . قال الله تعالى : ( ما لهم بذلك من علم ) فيما يقولون ( إن هم إلا يخرصون ) ما هم إلا كاذبون في قولهم : إن الله تعالى رضي منا بعبادتها ، وقيل : إن هم إلا يخرصون في قولهم : إن الملائكة إناث وإنهم بنات الله .
( أم آتيناهم كتابا من قبله ) أي من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله ( فهم به مستمسكون ) .
ابو وليد البحيرى
2022-09-22, 12:06 AM
الحلقة (369)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
مَكِّيَّةٌ
الاية22 إلى الاية58
[ ص: 210 ] ( ( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ( 22 ) وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ( 23 ) قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ( 24 ) فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين ( 25 ) وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون ( 26 ) إلا الذي فطرني فإنه سيهدين ( 27 ) وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ( 28 ) )
( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة ) على دين وملة . قال مجاهد : على إمام ( وإنا على آثارهم مهتدون ) جعلوا أنفسهم باتباع آبائهم مهتدين .
( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها ) أغنياؤها ورؤساؤها ، ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) بهم .
( قل ) قرأ ابن عامر وحفص : " قال " على الخبر ، وقرأ الآخرون " قل " على الأمر ، ( أولو جئتكم ) قرأ أبو جعفر : " جئناكم " على الجمع ، والآخرون " جئتكم " على الواحد ، ( بأهدى ) بدين أصوب ( مما وجدتم عليه آباءكم ) قال الزجاج : قل لهم [ يا محمد ] : أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جئتكم بأهدى منه ؟ فأبوا أن يقبلوا و ( قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ) .
( فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين ) .
قوله - عز وجل - : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء ) أي بريء ، ولا يثنى البراء ولا يجمع ولا يؤنث ؛ لأنه مصدر وضع موضع النعت . ( مما تعبدون ) . ( إلا الذي فطرني ) خلقني ( فإنه سيهدين ) يرشدني لدينه .
( وجعلها ) يعني هذه الكلمة ، ( كلمة باقية في عقبه ) قال مجاهد وقتادة : يعني كلمة التوحيد وهي : " لا إله إلا الله " كلمة باقية في عقبه : في ذريته . قال قتادة : لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده . وقال القرظي : يعني : وجعل وصية إبراهيم التي أوصى بها بنيه باقية في نسله وذريته ، [ ص: 211 ] وهو قوله - عز وجل - : " ووصى بها إبراهيم بنيه " ( البقرة 132 ) .
وقال ابن زيد : يعني قوله : " أسلمت لرب العالمين " ( البقرة 131 ) وقرأ : " هو سماكم المسلمين " ( الحج 78 ) .
( لعلهم يرجعون ) لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون عما هم عليه إلى دين إبراهيم . وقال السدي : لعلهم يتوبون ويرجعون إلى طاعة الله - عز وجل - .
( ( بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ( 29 ) ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون ( 30 ) وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( 31 ) أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون ( 32 ) ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ( 33 ) ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون ( 34 ) وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ( 35 ) )
( بل متعت هؤلاء وآباءهم ) يعني : المشركين في الدنيا ، ولم أعاجلهم بالعقوبة على الكفر ، ( حتى جاءهم الحق ) يعني : القرآن . وقال الضحاك : الإسلام . ( ورسول مبين ) يبين لهم الأحكام وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان من حق هذا الإنعام أن يطيعوه ، فلم يفعلوا ، وعصوا .
وهو قوله - عز وجل - : ( ولما جاءهم الحق ) يعني : القرآن . ( قالوا هذا سحر وإنا به كافرون ) . ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) يعنون الوليد بن المغيرة من مكة ، وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف ، قاله قتادة .
وقال مجاهد : عتبة بن ربيعة من مكة ، وابن عبد ياليل الثقفي من الطائف .
وقيل : الوليد بن المغيرة من مكة ، ومن الطائف : حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي . ويروى هذا عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال الله تعالى :
( أهم يقسمون رحمة ربك ) يعني النبوة . قال مقاتل يقول : بأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاءوا ؟ ثم قال :
( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ) فجعلنا هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا ملكا [ ص: 212 ] وهذا مملوكا ، فكما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق كما شئنا ، كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا .
( ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ) بالغنى والمال ، ( ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ) ليستخدم بعضهم بعضا فيسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل ، فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش ، هذا بماله ، وهذا بأعماله ، فيلتئم قوام أمر العالم . وقال قتادة والضحاك : يملك بعضهم بمالهم بعضا بالعبودية والملك . ( ورحمة ربك ) [ يعني الجنة ] ( خير ) للمؤمنين ( مما يجمعون ) مما يجمع الكفار من الأموال .
( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ) أي : لولا أن يصيروا كلهم كفارا فيجتمعون على الكفر ( لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ) قرأ ابن كثير ، وأبو جعفر ، وأبو عمرو : " سقفا " بفتح السين وسكون القاف على الواحد ، ومعناه الجمع كقوله تعالى : " فخر عليهم السقف من فوقهم " ( النحل 26 ) ، وقرأ الباقون بضم السين والقاف على الجمع ، وهي جمع " سقف " مثل : رهن ورهن . قال أبو عبيدة : ولا ثالث لهما . وقيل : هو جمع سقيف . وقيل : جمع سقوف جمع الجمع . ( ومعارج ) مصاعد ودرجا من فضة ( عليها يظهرون ) يعلون ويرتقون . يقال : ظهرت على السطح إذا علوته .
( ولبيوتهم أبوابا ) من فضة ( وسررا ) أي : وجعلنا لهم سررا من فضة ( عليها يتكئون ) .
( وزخرفا ) أي وجعلنا مع ذلك لهم زخرفا وهو الذهب ، نظيره : " أو يكون لك بيت من زخرف " ( الإسراء 93 ( وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ) قرأ حمزة وعاصم : " لما " بالتشديد على معنى : وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا فكان : " لما " بمعنى إلا . وخففه الآخرون على معنى : وكل ذلك متاع الحياة الدنيا فيكون : " إن " للابتداء ، " وما " صلة . يريد : إن هذا كله متاع الحياة الدنيا يزول ويذهب ( والآخرة عند ربك للمتقين ) خاصة ، يعني الجنة .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون [ ص: 213 ] الطيسفوني ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام ، أخبرنا أحمد بن سيار القرشي ، حدثنا عبد الرحمن بن يونس أبو مسلم ، حدثنا أبو بكر بن منظور ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها قطرة ماء " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا محمد بن إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن [ مجالد ] بن سعيد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن المستورد بن شداد أخي بني فهر قال : كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السخلة الميتة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها " ؟ قالوا : من هوانها ألقوها ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها " .
( ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ( 36 ) وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ( 37 ) )
قوله - عز وجل - : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن ) أي يعرض عن ذكر الرحمن فلم يخف عقابه ، ولم يرج ثوابه . يقال : عشوت إلى النار أعشو عشوا ، إذا قصدتها مهتديا بها ، وعشوت عنها : أعرضت عنها ، كما يقول : عدلت إلى فلان ، وعدلت عنه ، وملت إليه ، وملت عنه . قال القرظي : يولي ظهره عن ذكر الرحمن وهو القرآن . قال أبو عبيدة والأخفش : يظلم بصرف بصره عنه . قال الخليل بن أحمد : أصل العشو النظر ببصر ضعيف . وقرأ ابن عباس : " ومن يعش " بفتح الشين أي يعم ، يقال عشى يعشى عشا إذا عمي فهو أعشى ، وامرأة عشواء . ( نقيض له شيطانا ) قرأ يعقوب : " يقيض " بالياء ، والباقون بالنون ، نسبب له شيطانا ونضمه إليه ونسلطه عليه . ( فهو له قرين ) لا يفارقه ، يزين له العمى ويخيل إليه أنه على الهدى .
( وإنهم ) يعني الشياطين ( ليصدونهم عن السبيل ) أي ليمنعونهم عن الهدى ، وجمع [ ص: 214 ] الكناية ؛ لأن قوله : " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا " في مذهب جمع وإن كان اللفظ على الواحد ( ويحسبون أنهم مهتدون ) ويحسب كفار بني آدم أنهم على الهدى .
( ( حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ( 38 ) ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ( 39 ) أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين ( 40 ) فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون ( 41 ) )
( حتى إذا جاءنا ) قرأ أهل العراق غير أبي بكر : " جاءنا " على الواحد يعنون الكافر ، وقرأ الآخرون : جاءانا ، على التثنية يعنون الكافر وقرينه ، جعلا في سلسلة واحدة . ( قال ) الكافر لقرينه الشيطان : ( يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ) أي بعد ما بين المشرق والمغرب فغلب اسم أحدهما على الآخر كما يقال للشمس والقمر : القمران ، ولأبي بكر وعمر : العمران . وقيل : أراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء ، والأول أصح ( فبئس القرين ) قال أبو سعيد الخدري : إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير إلى النار .
( ولن ينفعكم اليوم ) في الآخرة ( إذ ظلمتم ) أشركتم في الدنيا ( أنكم في العذاب مشتركون ) يعني لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف الاشتراك عنكم شيئا من العذاب ؛ لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب . وقال مقاتل : لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم فأنتم وقرناؤكم اليوم مشتركون في العذاب كما كنتم مشتركين في الدنيا [ في الكفر ] .
( أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين ) يعني الكافرين الذين حقت عليهم كلمة العذاب لا يؤمنون .
( فإما نذهبن بك ) بأن نميتك قبل أن نعذبهم ( فإنا منهم منتقمون ) بالقتل بعدك .
( أو نرينك ) في حياتك ( الذي وعدناهم ) من العذاب ( فإنا عليهم مقتدرون ) قادرون ، متى شئنا عذبناهم . وأراد به مشركي مكة انتقم منهم يوم بدر ، هذا قول أكثر المفسرين . وقال الحسن وقتادة : عنى به أهل الإسلام من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقد كان بعد النبي [ ص: 215 ] - صلى الله عليه وسلم - نقمة شديدة في أمته ، فأكرم الله نبيه وذهب به ولم يره في أمته إلا الذي يقر عينه ، وأبقى النقمة بعده . وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أري ما يصيب أمته بعده فما رئي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله .
( ( أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون ( 42 ) فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم ( 43 ) وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ( 44 ) واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ( 45 ) )
( فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم ) .
( وإنه ) يعني القرآن ( لذكر لك ) لشرف لك ( ولقومك ) من قريش ، نظيره : " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم " ( الأنبياء 10 ) ، أي شرفكم ( وسوف تسألون ) عن حقه وأداء شكره ، روى الضحاك عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك ؟ لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية ، فكان بعد ذلك إذا سئل لمن هذا ؟ قال : لقريش .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا عبد الرحمن بن شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا عاصم بن محمد بن زيد ، عن أبيه ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي اثنان " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري قال : كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث عن معاوية قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين " .
وقال مجاهد : القوم هم العرب ، فالقرآن لهم شرف إذ نزل بلغتهم ، ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب ، حتى يكون [ الأكثر لقريش ولبني هاشم .
وقيل : " ذكر ذلك " : شرف لك بما أعطاك من الحكمة ، " ولقومك " المؤمنين بما [ ص: 216 ] هداهم ] الله به ، وسوف تسألون عن القرآن وعما يلزمكم من القيام بحقه .
قوله - عز وجل - : ( ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) اختلفوا في هؤلاء المسئولين :
قال عطاء عن ابن عباس : لما أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعث الله له آدم وولده من المرسلين ، فأذن جبريل ثم أقام ، وقال : يا محمد تقدم فصل بهم ، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل : سل يا محمد " من أرسلنا قبلك من رسلنا " ، الآية ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا أسأل فقد اكتفيت " ، وهذا قول الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد ، قالوا : جمع الله له المرسلين ليلة أسري به وأمره أن يسألهم فلم يشك ولم يسأل .
وقال أكثر المفسرين : سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد ؟ وهو قول ابن عباس في سائر الروايات ، ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي والحسن والمقاتليين . يدل عليه قراءة عبد الله وأبي : " واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا " ، ومعنى الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله - عز وجل - .
( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين ( 46 ) فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون ( 47 ) وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون ( 48 ) وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون ( 49 ) )
قوله - عز وجل - : ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون ) استهزاء .
( وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها ) قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها ( وأخذناهم بالعذاب ) بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس ، فكانت هذه دلالات لموسى ، وعذابا لهم ، فكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها ( لعلهم يرجعون ) عن كفرهم .
( وقالوا ) لموسى لما عاينوا العذاب ( يا أيها الساحر ) يا أيها العالم الكامل الحاذق ، وإنما قالوا هذا توقيرا وتعظيما له ، لأن السحر عندهم كان علما عظيما وصفة ممدوحة ، وقيل : معناه [ ص: 217 ] يا أيها الذي غلبنا بسحره . وقال الزجاج : خاطبوه به لما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر . ( ادع لنا ربك بما عهد عندك ) أي بما أخبرتنا من عهده إليك إن آمنا كشف عنا العذاب فاسأله يكشف عنا العذاب ( إننا لمهتدون ) مؤمنون ، فدعا موسى فكشف عنهم فلم يؤمنوا ، فذلك قوله - عز وجل - :
( فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ( 50 ) ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون ( 51 ) أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ( 52 ) فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ( 53 ) فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ( 54 ) )
( فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ) ينقضون عهدهم ويصرون على كفرهم .
( ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار ) أنهار النيل ( تجري من تحتي ) من تحت قصوري ، وقال قتادة : تجري بين يدي في جناني وبساتيني . وقال الحسن : بأمري . ( أفلا تبصرون ) عظمتي وشدة ملكي .
( أم أنا خير ) بل أنا خير ، " أم " بمعنى " بل " ، وليس بحرف عطف على قول أكثر المفسرين ، وقال الفراء : الوقف على قوله : " أم " ، وفيه إضمار ، مجازه : أفلا تبصرون أم [ تبصرون ] ، ثم ابتدأ فقال : أنا خير ( من هذا الذي هو مهين ) ضعيف حقير يعني موسى ، قوله : ( ولا يكاد يبين ) يفصح بكلامه للثغته التي في لسانه .
( فلولا ألقي عليه ) إن كان صادقا ( أسورة من ذهب ) قرأ حفص ويعقوب " أسورة " جمع سوار ، وقرأ الآخرون " أساورة " على جمع الأسورة ، وهي جمع الجمع . قال مجاهد : كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب يكون ذلك دلالة لسيادته ، فقال فرعون : هلا ألقى رب موسى عليه أسورة من ذهب إن كان سيدا تجب علينا طاعته . ( أو جاء معه الملائكة مقترنين ) متتابعين يقارن بعضهم بعضا يشهدون له بصدقه ويعينونه على أمره .
قال الله تعالى : ( فاستخف قومه ) أي استخف فرعون قومه القبط ، أي وجدهم جهالا . وقيل : حملهم على الخفة والجهل . يقال : استخفه عن رأيه ، إذا حمله على الجهل وأزاله عن الصواب ، [ ص: 218 ] ( فأطاعوه ) على تكذيب موسى ( إنهم كانوا قوما فاسقين ) .
( فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ( 55 ) فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ( 56 ) ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ( 57 ) وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ( 58 ) )
( فلما آسفونا ) أغضبونا ( انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ) . ( فجعلناهم سلفا ) قرأ حمزة والكسائي " سلفا " بضم السين واللام ، قال الفراء : هو جمع سليف من سلف بضم اللام يسلف ، أي تقدم ، وقرأ الآخرون بفتح السين واللام على جمع السالف ، مثل : حارس وحرس وخادم وخدم ، وراصد ورصد ، وهما جميعا الماضون المتقدمون من الأمم ، يقال : سلف يسلف ، إذا تقدم والسلف من تقدم من الآباء ، فجعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون . ( ومثلا للآخرين ) عبرة وعظة لمن بقي بعدهم . وقيل : سلفا لكفار هذه الأمة إلى النار ومثلا لمن يجيء بعدهم .
( ولما ضرب ابن مريم مثلا ) قال ابن عباس وأكثر المفسرين : إن الآية نزلت في مجادلة عبد الله بن الزبعري مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن عيسى عليه السلام ، لما نزل قوله - عز وجل - : " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " ( الأنبياء - 98 ) ، وقد ذكرناه في سورة الأنبياء عليهم السلام . ( إذا قومك منه يصدون ) قرأ أهل المدينة والشام والكسائي : " يصدون " بضم الصاد ، أي يعرضون ، نظيره قوله تعالى : " يصدون عنك صدودا " ، ( النساء - 61 ) وقرأ الآخرون بكسر الصاد .
واختلفوا في معناه ، قال الكسائي : هما لغتان مثل يعرشون ويعرشون ، وشد عليه يشد ويشد ، ونم بالحديث ينم وينم .
وقال ابن عباس : معناه يضجون . وقال سعيد بن المسيب : يصيحون . وقال الضحاك : يعجون . وقال قتادة : يجزعون . وقال القرظي : يضجرون . ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون يقولون ما يريد محمد منا إلا أن نعبده ونتخذه إلها كما عبدت النصارى عيسى .
( وقالوا أآلهتنا خير أم هو ) قال قتادة : " أم هو " يعنون محمدا ، فنعبده ونطيعه ونترك آلهتنا .
وقال السدي وابن زيد : " أم هو " يعني عيسى ، قالوا : يزعم محمد أن كل ما عبد من دون الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة في النار ، وقال الله تعالى : ( ما ضربوه ) يعني هذا المثل ( لك إلا جدلا ) خصومة بالباطل وقد علموا أن المراد من قوله : " وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " ( الأنبياء - 98 ) ، هؤلاء الأصنام . ( بل هم قوم خصمون ) . [ ص: 219 ]
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن عبد الله الحمشاوي ، أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا حجاج بن دينار الواسطي ، عن أبي غالب عن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل " ، ثم قرأ : " ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون " .
ابو وليد البحيرى
2022-09-22, 12:13 AM
الحلقة (370)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الدُّخَانِ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية9
( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ( 59 ) ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ( 60 ) وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم ( 61 ) )
ثم ذكر عيسى فقال : ( إن هو ) ما هو ، يعني عيسى عليه السلام ( إلا عبد أنعمنا عليه ) بالنبوة ( وجعلناه مثلا ) آية وعبرة ( لبني إسرائيل ) يعرفون به قدرة الله - عز وجل - على ما يشاء حيث خلقه من غير أب .
( ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة ) أي ولو نشاء لأهلكناكم وجعلنا بدلا منكم ملائكة ( في الأرض يخلفون ) يكونون خلفا منكم يعمرون الأرض ويعبدونني ويطيعونني . وقيل : يخلف بعضهم بعضا .
( وإنه ) يعني عيسى عليه السلام ( لعلم للساعة ) يعني نزوله من أشراط الساعة يعلم به قربها ، وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة : " وإنه لعلم للساعة " بفتح اللام والعين أي أمارة وعلامة .
وروينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عادلا يكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ويضع الجزية ، وتهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام " .
ويروى : " أنه ينزل على ثنية بالأرض المقدسة ، وعليه ممصرتان ، وشعر رأسه دهين ، وبيده حربة وهي التي يقتل بها الدجال ، فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر ، فيتأخر الإمام فيقدمه [ ص: 220 ] عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ، ويخرب البيع والكنائس ، ويقتل النصارى إلا من آمن به " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا ابن بكير ، حدثنا الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري أن أبا هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم " ؟
وقال الحسن وجماعة : " وإنه " يعني وإن القرآن لعلم للساعة يعلمكم قيامها ، ويخبركم بأحوالها وأهوالها ( فلا تمترن بها ) فلا تشكن فيها ، قال ابن عباس : لا تكذبوا بها ( واتبعون ) على التوحيد ( هذا ) الذي أنا عليه ( صراط مستقيم ) .
( ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين ( 62 ) ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون ( 63 ) إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ( 64 ) فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم ( 65 ) هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون ( 66 ) )
( ولا يصدنكم ) لا يصرفنكم ( الشيطان ) عن دين الله ( إنه لكم عدو مبين ) .
( ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ) بالنبوة ( ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ) من أحكام التوراة ، قال قتادة : يعني اختلاف الفرق الذين تحزبوا على أمر عيسى . قال الزجاج : الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه ، وبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه . ( فاتقوا الله وأطيعون ) .
( إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم هل ينظرون إلا الساعة ) يعني أنها تأتيهم لا محالة فكأنهم ينتظرونها ( أن تأتيهم بغتة ) فجأة ( وهم لا يشعرون ) .
[ ص: 221 ] ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ( 67 ) يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ( 68 ) الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ( 69 ) ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ( 70 ) يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ( 71 ) )
( الأخلاء ) على المعصية في الدنيا ( يومئذ ) يوم القيامة ( بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) إلا المتحابين في الله - عز وجل - على طاعة الله - عز وجل - .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد ، أن أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمد بن جرير ، حدثنا ابن عبد الأعلى ، عن قتادة ، حدثنا أبو ثور عن معمر عن قتادة عن أبي إسحاق أن عليا قال في هذه الآية : خليلان مؤمنان وخليلان كافران ، فمات أحد المؤمنين فقال : يا رب إن فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ، ويخبرني أني ملاقيك ، يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني ، فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما ، فيقول : ليثن أحدكما على صاحبه ، فيقول : نعم الأخ ، ونعم الخليل ، ونعم الصاحب ، قال : ويموت أحد الكافرين ، فيقول : يا رب إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ، ويخبرني أني غير ملاقيك ، فيقول بئس الأخ ، وبئس الخليل ، وبئس الصاحب .
( يا عباد ) أي فيقال لهم : يا عبادي ( لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ) وروي عن المعتمر بن سليمان عن أبيه قال : سمعت أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع ، فينادي مناد : " يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون " فيرجوها الناس كلهم فيتبعها : ( الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ) فييأس الناس منها غير المسلمين فيقال لهم : ( ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ) تسرون وتنعمون .
( يطاف عليهم بصحاف ) جمع صحفة وهي القصعة الواسعة ( من ذهب وأكواب ) جمع كوب وهو إناء مستدير مدور الرأس لا عرى لها ( وفيها ) أي في الجنة ( ما تشتهيه الأنفس ) قرأ أهل المدينة والشام وحفص : ( تشتهيه ) وكذلك في مصاحفهم ، وقرأ الآخرون بحذف الهاء . ( وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ) . [ ص: 222 ]
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن عبد الرحمن بن سابط قال : قال رجل : يا رسول الله أفي الجنة خيل ؟ فإني أحب الخيل ، فقال : " إن يدخلك الله الجنة لا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت ، إلا فعلت " ، فقال أعرابي : يا رسول الله أفي الجنة إبل ؟ فقال : " يا أعرابي إن يدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك " .
( وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ( 72 ) لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون ( 73 ) إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون ( 74 ) لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون ( 75 ) وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ( 76 ) ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون ( 77 ) )
( وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون ) وفي الحديث : " لا ينزع رجل من الجنة من ثمرة إلا نبت مكانها مثلاها " .
( إن المجرمين ) المشركين ( في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ونادوا يا مالك ) . يدعون خازن النار ( ليقض علينا ربك ) ليمتنا ربك فنستريح فيجيبهم مالك بعد ألف سنة ( قال إنكم ماكثون ) مقيمون في العذاب .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة يذكره عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال [ النبي - صلى الله عليه وسلم - ] : " إن أهل النار يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ، ثم يرد عليهم إنكم ماكثون ، قال : هانت - والله - دعوتهم على مالك [ ص: 223 ] وعلى رب مالك ، ثم يدعون ربهم فيقولون : ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ، قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين ، ثم يرد عليهم : اخسئوا فيها ولا تكلمون ، قال : فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة ، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم ، فشبه أصواتهم بأصوات الحمير ، أولها زفير وآخرها شهيق .
( لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون ( 78 ) أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون ( 79 ) أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ( 80 ) قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ( 81 ) سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون ( 82 ) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ( 83 ) .
( لقد جئناكم بالحق ) يقول أرسلنا إليكم يا معشر قريش رسولنا بالحق ( ولكن أكثركم للحق كارهون ) .
( أم أبرموا ) أم أحكموا ( أمرا ) في المكر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( فإنا مبرمون ) محكمون أمرا في مجازاتهم ، قال مجاهد : إن كادوا شرا كدتهم مثله .
( أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ) ما يسرونه من غيرهم ويتناجون به بينهم ( بلى ) نسمع ذلك ونعلم ( ورسلنا ) أيضا من الملائكة يعني الحفظة ( لديهم يكتبون ) .
( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) يعني إن كان للرحمن ولد في قولكم وعلى زعمكم ، فأنا أول من عبده فإنه واحد لا شريك له ولا ولد . وروي عن ابن عباس : ( إن كان ) أي ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول العابدين الشاهدين له بذلك ، جعل : " إن " بمعنى الجحد .
وقال السدي : معناه لو كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده بذلك ، ولكن لا ولد له .
وقيل : " العابدين " بمعنى الآنفين ، أي : أنا أول الجاحدين والمنكرين لما قلتم .
ويقال : معناه : أنا أول من غضب للرحمن أن يقال له ولد ، يقال : عبد يعبد إذا أنف وغضب .
وقال قوم : قل ما يقال : عبد فهو عابد ، إنما يقال : فهو عبد .
ثم نزه نفسه فقال : ( سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون ) عما يقولون من الكذب .
( فذرهم يخوضوا ) في باطلهم ( ويلعبوا ) في دنياهم ( حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ) يعني يوم القيامة .
[ ص: 224 ] ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم ( 84 ) وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون ( 85 ) ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ( 86 ) ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون ( 87 ) وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ( 88 ) فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون ( 89 ) )
( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) [ قال قتادة : يعبد في السماء وفي الأرض لا إله إلا هو ] ( وهو الحكيم ) في تدبير خلقه ( العليم ) بمصالحهم .
( وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون ) قرأ ابن كثير والكسائي " يرجعون " بالياء ، والآخرون بالتاء .
( ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق ) وهم عيسى وعزير والملائكة فإنهم عبدوا من دون الله ، ولهم الشفاعة ، وعلى هذا يكون " من " في محل الرفع ، وقيل : " من " في محل الخفض ، وأراد بالذين يدعون عيسى وعزيرا والملائكة ، يعني أنهم لا يملكون الشفاعة إلا من شهد بالحق ، والأول أصح ، وأراد بشهادة الحق قوله لا إله إلا الله كلمة التوحيد ( وهم يعلمون ) بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم .
( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون ) يصرفون عن عبادته .
( وقيله يا رب ) يعني قول محمد - صلى الله عليه وسلم - شاكيا إلى ربه : يا رب ( إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ) قرأ عاصم وحمزة " وقيله " بجر اللام والهاء ، على معنى : وعنده علم الساعة وعلم قيله يا رب ، وقرأ الآخرون بالنصب ، وله وجهان : أحدهما معناه : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله يا رب ، والثاني : وقال قيله .
( فاصفح عنهم ) أعرض عنهم ( وقل سلام ) معناه : المتاركة ، كقوله تعالى : " سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين " ( القصص - 55 ( فسوف يعلمون ) قرأ أهل المدينة والشام بالتاء ، والباقون بالياء ، قال مقاتل : نسختها آية السيف .
سُورَةُ الدُّخَانِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( حم ( 1 ) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ( 3 ) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( 4 ) .
( حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ : هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُجُومًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً . وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ ، حَدَّثَنَا الْأَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ ، أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ وَاسْمُهُ مُصْعَبٌ حَدَّثَهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَمِّهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " يَنْزِلُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ لِكُلِّ نَفْسٍ إِلَّا إِنْسَانًا فِي قَلْبِهِ شَحْنَاءُ أَوْ مُشْرِكًا بِاللَّهِ " ( إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) .
( فِيهَا ) أَيْ فِي اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ ( يُفْرَقُ ) يُفْصَلُ ( كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) مُحْكَمٍ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَكْتُبُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا هُوَ كَائِنٌ فِي السَّنَةِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ [ ص: 228 ] حَتَّى الْحُجَّاجِ ، يُقَالُ : يَحُجُّ فُلَانٌ [ وَيَحُجُّ فُلَانٌ ] ، قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ : يُبْرَمُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلُّ أَجَلٍ وَعَمَلٍ وَخَلْقٍ وَرِزْقٍ ، وَمَا يَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : هِيَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ يُبْرَمُ فِيهَا أَمْرُ السَّنَةِ وَتُنْسَخُ الْأَحْيَاءُ مِنَ الْأَمْوَاتِ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ أَحَدٌ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَحَدٌ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " تُقْطَعُ الْآجَالُ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى شَعْبَانَ ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهُ وَلَقَدْ أُخْرِجَ اسْمُهُ فِي الْمَوْتَى " .
وَرَوَى أَبُو الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا : أَنَّ اللَّهَ يَقْضِي الْأَقْضِيَةَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ، وَيُسَلِّمُهَا إِلَى أَرْبَابِهَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ .
( أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( 5 ) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 6 ) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ( 7 ) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ( 8 ) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ( 9 ) )
( أَمْرًا ) أَيْ أَنْزَلْنَا أَمْرًا ( مِنْ عِنْدِنَا ) قَالَ الْفَرَّاءُ : نَصَبَ عَلَى مَعْنَى : فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ فَرْقًا وَأَمْرًا ، أَيْ نَأْمُرُ بِبَيَانِ ذَلِكَ أَمْرًا ( إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ .
( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : رَأْفَةً مِنِّي بِخَلْقِي وَنِعْمَتِي عَلَيْهِمْ بِمَا بَعَثَنَا إِلَيْهِمْ مِنَ الرُّسُلِ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ لِلرَّحْمَةِ ( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ : " رَبِّ " جَرًّا ، رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ : " مِنْ رَبِّكَ " ، وَرَفَعَهُ الْآخَرُونَ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ : " هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " ، وَقِيلَ : عَلَى الِابْتِدَاءِ ( إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) أَنَّ اللَّهَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .
( لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ ) مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ ( يَلْعَبُونَ ) يَهْزَءُونَ بِهِ لَاهُونَ عَنْهُ .
ابو وليد البحيرى
2022-10-15, 11:09 PM
الحلقة (371)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الدُّخَانِ
مَكِّيَّةٌ
الاية10 إلى الاية44
[ ص: 229 ] ( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ( 10 ) يغشى الناس هذا عذاب أليم ( 11 ) ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ( 12 ) )
( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ) اختلفوا في هذا الدخان :
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن كثير ، عن سفيان ، حدثنا منصور والأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : بينما رجل يحدث في كندة ، فقال : يجيء دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمن [ كهيئة ] الزكام ، ففزعنا فأتيت ابن مسعود وكان متكئا فغضب فجلس ، فقال : من علم فليقل ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم : لا أعلم ، فإن الله قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : " قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين " ( ص - 86 ) ، وإن قريشا أبطئوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف " فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام ، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان ، فجاء أبو سفيان فقال : يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم ، فقرأ : " فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين " إلى قوله : " إنكم عائدون " ، أفيكشف عنهم عذاب الآخرة إذا جاء ؟ ثم عادوا إلى كفرهم ، فذلك قوله : ( يوم نبطش البطشة الكبرى ) يعني يوم بدر و ( لزاما ) يوم بدر ، " الم غلبت الروم " ، إلى " سيغلبون " ( الروم - 3 ) ، الروم قد مضى .
ورواه محمد بن إسماعيل عن يحيى عن وكيع عن الأعمش ، قال : قالوا : ( ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ) فقيل له : إن كشفنا عنهم عادوا إلى كفرهم ، فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا فانتقم الله منهم يوم بدر ، فذلك قوله : " فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين " ، إلى قوله : " إنا منتقمون " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : خمس قد مضين اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان .
وقال قوم : هو دخان يجيء قبل قيام الساعة ولم يأت بعد ، فيدخل في أسماع الكفار والمنافقين حتى يكون كالرأس الحنيذ ، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه النار ، وهو قول ابن عباس وابن عمر والحسن . [ ص: 230 ]
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عقيل بن محمد الجرجاني ، حدثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا البغدادي ، حدثنا محمد بن جرير الطبري ، حدثني عصام بن رواد بن الجراح ، حدثنا أبي ، أخبرنا أبو سفيان بن سعيد ، حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أول الآيات الدخان ، ونزول عيسى بن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن أبين ، تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا " ، قال حذيفة : يا رسول الله وما الدخان ؟ فتلا هذه الآية : " يوم تأتي السماء بدخان مبين " ، يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة ، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام ، وأما الكافر فكمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره .
( أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ( 13 ) ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون ( 14 ) إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون ( 15 ) يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ( 16 ) ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم ( 17 ) أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين ( 18 ) )
( أنى لهم الذكرى ) من أين لهم التذكر والاتعاظ ؟ يقول : كيف يتذكرون ويتعظون ؟ ( وقد جاءهم رسول مبين ) ظاهر الصدق يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - .
( ثم تولوا عنه ) أعرضوا عنه ( وقالوا معلم ) أي يعلمه بشر ( مجنون ) .
قال الله تعالى : ( إنا كاشفوا العذاب ) أي عذاب الجوع ( قليلا ) أي زمانا يسيرا ، قال مقاتل : إلى يوم بدر . ( إنكم عائدون ) إلى كفركم .
( يوم نبطش البطشة الكبرى ) وهو يوم بدر ( إنا منتقمون ) وهذا قول ابن مسعود وأكثر العلماء ، وقال الحسن : يوم القيامة ، وروى عكرمة ذلك عن ابن عباس .
( ولقد فتنا ) بلونا ( قبلهم ) قبل هؤلاء ( قوم فرعون وجاءهم رسول كريم ) على الله وهو موسى بن عمران .
( أن أدوا إلي عباد الله ) يعني بني إسرائيل أطلقهم ولا تعذبهم ( إني لكم رسول أمين ) على الوحي .
[ ص: 231 ] ( وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين ( 19 ) وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون ( 20 ) وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون ( 21 ) فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون ( 22 ) فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون ( 23 ) واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون ( 24 ) كم تركوا من جنات وعيون ( 25 ) وزروع ومقام كريم ( 26 ) ونعمة كانوا فيها فاكهين ( 27 ) )
( وأن لا تعلوا على الله ) لا تتجبروا عليه بترك طاعته ( إني آتيكم بسلطان مبين ) ببرهان بين على صدق قولي ، فلما قال ذلك توعدوه بالقتل ، فقال :
( وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون ) . ( وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون ) أي : تقتلوني ، وقال ابن عباس : تشتموني وتقولوا هو ساحر . وقال قتادة : ترجموني بالحجارة .
( وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون ) فاتركوني لا معي ولا علي . وقال ابن عباس : فاعتزلوا أذاي باليد واللسان ، فلم يؤمنوا .
( فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون ) مشركون ، فأجابه الله وأمره أن يسري ، فقال :
( فأسر بعبادي ليلا ) أي ببني إسرائيل ( إنكم متبعون ) يتبعكم فرعون وقومه .
( واترك البحر ) إذا قطعته أنت وأصحابك ( رهوا ) ساكنا على حالته وهيئته ، بعد أن ضربته ودخلته ، معناه : لا تأمره أن يرجع ، اتركه حتى يدخله آل فرعون ، وأصل " الرهو " : السكون . وقال مقاتل : معناه : اترك البحر رهوا [ راهيا ] أي : ساكنا ، فسمي بالمصدر ، أي ذا رهو . وقال كعب : اتركه طريقا . قال قتادة : طريقا يابسا . قال قتادة : لما قطع موسى البحر عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم وخاف أن يتبعه فرعون [ وجنوده ] فقيل له : اترك البحر رهوا كما هو ( إنهم جند مغرقون ) أخبر موسى أنه يغرقهم ليطمئن قلبه في تركه البحر كما جاوزه . ثم ذكر ما تركوا بمصر .
فقال : ( كم تركوا ) [ يعني بعد الغرق ] ( من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ) مجلس شريف ، قال قتادة : الكريم الحسن .
( ونعمة ) ومتعة وعيش لين ( كانوا فيها فاكهين ) ناعمين وفكهين : أشرين بطرين .
[ ص: 232 ] ( كذلك وأورثناها قوما آخرين ( 28 ) فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ( 29 ) ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين ( 30 ) من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين ( 31 ) ولقد اخترناهم على علم على العالمين ( 32 ) )
( كذلك ) قال الكلبي : كذلك أفعل بمن عصاني ( وأورثناها قوما آخرين ) يعني بني إسرائيل .
( فما بكت عليهم السماء والأرض ) وذلك أن المؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض أربعين صباحا ، وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقده ، ولا لهم على الأرض عمر صالح فتبكي الأرض عليه .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو عبد الله الفنجوي ، حدثنا أبو علي المقري ، حدثنا أبو يعلى الموصلي ، حدثنا أحمد بن إسحاق البصري ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن عبيدة الربذي ، أخبرني يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما من عبد إلا له في السماء بابان باب يخرج منه رزقه ، وباب يدخل فيه عمله ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه " وتلا " فما بكت عليهم السماء والأرض " .
قال عطاء : بكاء السماء حمرة أطرافها .
قال السدي : لما قتل الحسين بن علي بكت عليه السماء ، وبكاؤها حمرتها .
( وما كانوا منظرين ) لم ينظروا حين أخذهم العذاب لتوبة ولا لغيرها .
( ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين ) قتل الأبناء واستحياء النساء والتعب في العمل .
( من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين ولقد اخترناهم ) يعني مؤمني بني إسرائيل ( على علم ) بهم ( على العالمين ) على عالمي زمانهم .
[ ص: 233 ] ( وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين ( 33 ) إن هؤلاء ليقولون ( 34 ) إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين ( 35 ) فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ( 36 ) أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين ( 37 ) )
( وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين ) قال قتادة : نعمة بينة من فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، والنعم التي أنعمها عليهم . وقال ابن زيد : ابتلاهم بالرخاء والشدة ، وقرأ : " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " ( الأنبياء - 35 ) .
( إن هؤلاء ) يعني مشركي مكة ( ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى ) أي لا موتة إلا هذه التي نموتها في الدنيا ، ثم لا بعث بعدها . وهو قوله : ( وما نحن بمنشرين ) بمبعوثين بعد موتتنا .
( فأتوا بآبائنا ) [ الذين ماتوا ] ( إن كنتم صادقين ) أنا نبعث أحياء بعد الموت ، ثم خوفهم مثل عذاب الأمم الخالية فقال : ( أهم خير أم قوم تبع ) أي ليسوا خيرا منهم ، يعني أقوى وأشد وأكثر من قوم تبع . قال قتادة : هو تبع الحميري ، وكان سار بالجيوش حتى حير الحيرة ، وبنى سمرقند وكان من ملوك اليمن ، سمي تبعا لكثرة أتباعه ، وكل واحد منهم يسمى : " تبعا " لأنه يتبع صاحبه ، وكان هذا يعبد النار فأسلم ودعا قومه إلى الإسلام وهم حمير ، فكذبوه وكان من خبره ما ذكره محمد بن إسحاق وغيره .
وذكر عكرمة عن ابن عباس قالوا : كان تبع الآخر وهو أسعد أبو كرب بن مليك [ جاء بكرب ] حين أقبل من المشرق وجعل طريقه على المدينة ، وقد كان حين مر بها خلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة ، فقدمها وهو مجمع لإخرابها واستئصال أهلها ، فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا ذلك من أمره ، فخرجوا لقتاله وكان الأنصار يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل ، فأعجبه ذلك وقال : إن هؤلاء لكرام ، إذ جاءه حبران اسمهما : كعب وأسد من أحبار بني قريظة ، عالمان وكانا ابني عم ، حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها ، فقالا له : أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة . فإنها مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش اسمه محمد ، مولده مكة ، وهذه دار هجرته ومنزلك الذي أنت به يكون به من القتل والجراح أمر كبير في أصحابه ، وفي عدوهم . قال تبع : من يقاتله وهو نبي ؟ قالا يسير إليه قومه فيقتلون هاهنا ، فتناهى لقولهما عما كان يريد بالمدينة ، ثم إنهما دعواه إلى دينهما فأجابهما واتبعهما على دينهما وأكرمهما وانصرف عن المدينة ، وخرج بهما ونفر من اليهود عامدين إلى اليمن ، [ ص: 234 ] فأتاه في الطريق نفر من هذيل وقالوا : إنا ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة ، قال : أي بيت ؟ قالوا : بيت بمكة ، وإنما تريد هذيل هلاكه لأنهم عرفوا أنه لم يرده أحد قط بسوء إلا هلك ، فذكر ذلك للأحبار ، فقالوا : ما نعلم لله في الأرض بيتا غير هذا البيت ، فاتخذه مسجدا وانسك عنده وانحر واحلق رأسك ، وما أراد القوم إلا هلاكك لأنه ما ناوأهم أحد قط إلا هلك ، فأكرمه واصنع عنده ما يصنع أهله ، فلما قالوا له ذلك أخذ النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم صلبهم ، فلما قدم مكة نزل الشعب شعب البطائح ، وكسا البيت الوصائل ، وهو أول من كسا البيت ، ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة ، وأقام به ستة أيام وطاف به وحلق وانصرف ، فلما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بين ذلك وبينه ، قالوا : لا تدخل علينا وقد فارقت ديننا ، فدعاهم إلى دينه وقال إنه دين خير من دينكم ، قالوا : فحاكمنا إلى النار ، وكانت باليمن نار في أسفل جبل يتحاكمون إليها فيما يختلفون فيه ، فتأكل الظالم ولا تضر المظلوم ، فقال تبع : أنصفتم ، فخرج القوم بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه ، فخرجت النار فأقبلت حتى غشيتهم ، فأكلت الأوثان وما قربوا معها ، ومن حمل ذلك من رجال حمير ، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما ، يتلوان التوراة تعرق جباههما لم تضرهما ، ونكصت النار حتى رجعت إلى مخرجها الذي خرجت منه فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما ، فمن هنالك كان أصل اليهودية في اليمن .
وذكر أبو حاتم عن الرقاشي قال : كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة ، آمن بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث بسبعمائة سنة .
وذكر لنا أن كعبا كان يقول : ذم الله قومه ولم يذمه .
وكانت عائشة تقول : لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا .
وقال سعيد بن جبير : هو الذي كسا البيت .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن سهل بن سعد قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم " . [ ص: 235 ]
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن علي بن سالم الهمداني ، حدثنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أدري تبع نبيا كان أو غير نبي " . ( والذين من قبلهم ) من الأمم الكافرة . ( أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين ) . ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ( 38 ) ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 39 ) إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين ( 40 ) يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون ( 41 ) إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم ( 42 ) إن شجرة الزقوم ( 43 ) طعام الأثيم ( 44 ) )
( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ) قيل : يعني للحق وهو الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية . ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) .
( إن يوم الفصل ) يوم يفصل الرحمن بين العباد ( ميقاتهم أجمعين ) يوافي يوم القيامة الأولون والآخرون .
( يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ) لا ينفع قريب قريبه ولا يدفع عنه شيئا ( ولا هم ينصرون ) لا يمنعون من عذاب الله .
( إلا من رحم الله ) يريد المؤمنين فإنه يشفع بعضهم لبعض ( إنه هو العزيز ) في انتقامه من أعدائه ( الرحيم ) بالمؤمنين .
( إن شجرة الزقوم طعام الأثيم ) [ أي ذي الإثم ] وهو أبو جهل .
ابو وليد البحيرى
2022-10-15, 11:16 PM
الحلقة (372)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية24
[ ص: 236 ] ( كالمهل يغلي في البطون ( 45 ) كغلي الحميم ( 46 ) خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ( 47 ) ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ( 48 ) ذق إنك أنت العزيز الكريم ( 49 ) إن هذا ما كنتم به تمترون ( 50 ) إن المتقين في مقام أمين ( 51 ) )
( كالمهل ) هو دردي الزيت الأسود ( يغلي في البطون ) قرأ ابن كثير وحفص " يغلي " بالياء ، جعلوا الفعل للمهل ، وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث الشجرة ، " في البطون " أي بطون الكفار ( كغلي الحميم ) كالماء الحار إذا اشتد غليانه .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو بكر العبدوسي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد بن يزيد ، حدثنا سليمان بن يوسف ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا شعبة عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أيها الناس اتقوا الله حق تقاته ، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لأمرت على أهل الدنيا معيشتهم ، فكيف بمن تكون طعامه وليس لهم طعام غيره " .
قوله تعالى : ( خذوه ) أي يقال للزبانية : خذوه ، يعني الأثيم ( فاعتلوه ) قرأ أهل الكوفة ، وأبو جعفر ، وأبو عمرو : بكسر التاء ، وقرأ الباقون بضمها ، وهما لغتان ، أي ادفعوه وسوقوه ، يقال : عتله يعتله عتلا إذا ساقه بالعنف والدفع والجذب ( إلى سواء الجحيم ) وسطه .
( ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ) قال مقاتل ، إن خازن النار يضربه على رأسه فينقب رأسه عن دماغه ، ثم يصب فيه ماء حميما قد انتهى حره .
ثم يقال له : ( ذق ) هذا العذاب ( إنك ) قرأ الكسائي " أنك " بفتح الألف ، أي لأنك كنت تقول : أنا العزيز ، وقرأ الآخرون بكسرها على الابتداء ( إنك أنت العزيز الكريم ) عند قومك بزعمك ، وذلك أن أبا جهل كان يقول : أنا أعز أهل الوادي وأكرمهم ، فيقول له هذا خزنة النار ، على طريق الاستحقار والتوبيخ .
( إن هذا ما كنتم به تمترون ) تشكون فيه ولا تؤمنون به . ثم ذكر مستقر المتقين ، فقال :
( إن المتقين في مقام أمين ) قرأ أهل المدينة والشام : " في مقام " بضم الميم على المصدر ، [ ص: 237 ] أي في إقامة ، وقرأ الآخرون بفتح الميم ، أي في مجلس أمين ، أمنوا فيه من الغير ، أي من الموت ومن الخروج منه .
( في جنات وعيون ( 52 ) يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين ( 53 ) كذلك وزوجناهم بحور عين ( 54 ) يدعون فيها بكل فاكهة آمنين ( 55 ) لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم ( 56 ) فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم ( 57 ) فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ( 58 ) فارتقب إنهم مرتقبون ( 59 ) )
( في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم ) أي كما أكرمناهم بما وصفنا من الجنات والعيون واللباس كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم ( بحور عين ) أي قرناهم بهن ، ليس من عقد التزويج ، لأنه لا يقال : زوجته بامرأة ، قال أبو عبيدة : جعلناهم أزواجا لهن كما يزوج البعل بالبعل ، أي جعلناهم اثنين اثنين ، و " الحور " : هن النساء النقيات البياض . قال مجاهد : يحار فيهن الطرف من بياضهن وصفاء لونهن . وقال أبو عبيدة : " الحور " : هن شديدات بياض الأعين الشديدات سوادها ، واحدها أحور ، والمرأة حوراء ، و " العين " جمع العيناء ، وهي عظيمة العينين .
( يدعون فيها بكل فاكهة ) اشتهوها ( آمنين ) من نفادها ومن مضرتها . وقال قتادة : آمنين من الموت والأوصاب والشياطين .
( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) أي سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا ، وبعدها وضع : " إلا " موضع سوى وبعد ، وهذا كقوله تعالى : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " ( النساء - 22 ) ، أي سوى ما قد سلف ، وبعد ما قد سلف ، وقيل : إنما استثنى الموتة الأولى وهي في الدنيا من موت في الجنة لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف إلى أسباب الجنة ، يلقون الروح والريحان ويرون منازلهم في الجنة ، فكان موتهم في الدنيا كأنهم في الجنة لاتصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها . ( ووقاهم عذاب الجحيم ) .
( فضلا من ربك ) أي فعل ذلك بهم فضلا منه ( ذلك هو الفوز العظيم ) .
( فإنما يسرناه ) سهلنا القرآن ، كناية عن غير مذكور ( بلسانك ) أي على لسانك ( لعلهم يتذكرون ) يتعظون .
( فارتقب ) فانتظر النصر من ربك . وقيل : فانتظر لهم العذاب . ( إنهم مرتقبون ) [ ص: 238 ] منتظرون قهرك بزعمهم .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن فنجويه ، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى ، حدثنا أبو عيسى موسى بن علي الختلي ، حدثنا أبو هاشم الرفاعي ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا عمر بن عبد الله بن أبي خثعم ، عن يحيى بن كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك "
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( حم ( 1 ) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 2 ) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ( 3 ) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 4 ) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 5 ) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ( 6 ) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( 7 ) )
( حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ ) قَرَأَ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَيَعْقُوبُ : " آيَاتٍ " وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٍ " بِكَسْرِ التَّاءِ فِيهِمَا رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ : " لِآيَاتٍ " وَهُوَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِرَفْعِهِمَا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ ، عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ : إِنَّ لِي عَلَيْكَ مَالًا وَعَلَى أَخِيكَ مَالٌ ، يَنْصِبُونَ الثَّانِي وَيَرْفَعُونَهُ ( لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ .
( وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ ) يَعْنِي الْغَيْثَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ ( فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .
( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ) يُرِيدُ هَذَا الَّذِي قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ نَقُصُّهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ( فَبِأَيِ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ ) بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ ( وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ) قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ : " تُؤْمِنُونَ " بِالتَّاءِ ، عَلَى مَعْنَى قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ : فَبِأَيِّ حَدِيثٍ تُؤْمِنُونَ ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ .
( وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) كَذَّابٍ صَاحِبِ إِثْمٍ ، يَعْنِي : النَّضِرَ بْنَ الْحَارِثِ .
[ ص: 242 ] ( يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم ( 8 ) وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ( 9 ) من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم ( 10 ) هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم ( 11 ) الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ( 12 ) وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ( 13 ) قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون ( 14 ) )
( يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا ) قال مقاتل : من القرآن ( شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ) وذكر بلفظ الجمع ردا إلى " كل " في قوله : " لكل أفاك أثيم " .
( من ورائهم ) أمامهم ( جهنم ) يعني أنهم في الدنيا [ ممتعون بأموالهم ] ولهم في الآخرة النار يدخلونها ( ولا يغني عنهم ما كسبوا ) من الأموال ( شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ) ولا ما عبدوا من دون الله من الآلهة ( ولهم عذاب عظيم ) .
( هذا ) يعني هذا القرآن ( هدى ) بيان من الضلالة ( والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم ) .
( الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ) ومعنى تسخيرها أنه خلقها لمنافعنا . فهو مسخر لنا من حيث إنا ننتفع به ( جميعا منه ) فلا تجعلوا لله أندادا ، قال ابن عباس : " جميعا منه " ، كل ذلك رحمة منه . قال الزجاج : كل ذلك تفضل منه وإحسان . ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) .
( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) أي لا يخافون وقائع الله ولا يبالون نقمته ، قال ابن عباس ومقاتل : نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وذلك أن رجلا من بني غفار شتمه بمكة فهم عمر - رضي الله تعالى عنه - أن يبطش به ، فأنزل الله هذه الآية ، [ ص: 243 ] وأمره أن يعفو عنه .
وقال القرظي والسدي : نزلت في أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل مكة كانوا في أذى شديد من المشركين ، من قبل أن يؤمروا بالقتال ، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله هذه الآية ثم نسختها آية القتال . ( ليجزي قوما ) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي " لنجزي " بالنون ، وقرأ الآخرون بالياء ، أي ليجزي الله ، وقرأ أبو جعفر " ليجزى " بضم الياء الأولى وسكون الثانية وفتح الزاي ، قال أبو عمرو : وهو لحن ، قال الكسائي : معناه ليجزي الجزاء قوما ( بما كانوا يكسبون ) .
( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون ( 15 ) ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين ( 16 ) وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ( 17 ) ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ( 18 ) )
( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب ) التوراة ( والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات ) الحلالات ، يعني المن والسلوى ( وفضلناهم على العالمين ) أي عالمي زمانهم ، قال ابن عباس لم يكن أحد من العالمين في زمانهم أكرم على الله ولا أحب إليه منهم .
( وآتيناهم بينات من الأمر ) يعني العلم بمبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وما بين لهم من أمره ( فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) .
( ثم جعلناك ) [ يا محمد ] ( على شريعة ) سنة وطريقة بعد موسى ( من الأمر ) من الدين ( فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) يعني مراد الكافرين ، وذلك أنهم كانوا [ ص: 244 ] يقولون له : ارجع إلى دين آبائك ، فإنهم كانوا أفضل منك ، فقال جل ذكره :
( إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا ) .
( إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين ( 19 ) هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون ( 20 ) أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ( 21 ) وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ( 22 ) )
( إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا ) [ لن يدفعوا عنك من عذاب الله شيئا ] إن اتبعت أهواءهم ( وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين ) .
( هذا ) يعني القرآن ( بصائر للناس ) [ معالم للناس ] في الحدود والأحكام يبصرون بها ( وهدى ورحمة لقوم يوقنون ) .
( أم حسب ) [ بل حسب ] ( الذين اجترحوا السيئات ) اكتسبوا المعاصي والكفر ( أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ) نزلت في نفر من مشركي مكة ، قالوا للمؤمنين : لئن كان ما تقولون حقا لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا . ( سواء محياهم ) قرأ حمزة والكسائي وحفص ويعقوب : " سواء " بالنصب ، أي : نجعلهم سواء ، يعني : أحسبوا أن حياة الكافرين ( ومماتهم ) كحياة المؤمنين وموتهم سواء كلا ، وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء والخبر أي محياهم ومماتهم سواء فالضمير فيهما يرجع إلى المؤمنين والكافرين جميعا ، معناه : المؤمن مؤمن محياه ومماته أي في الدنيا والآخرة ، والكافر كافر في الدنيا والآخرة ( ساء ما يحكمون ) بئس ما يقضون ، قال مسروق : قال لي رجل من أهل مكة : هذا مقام أخيك تميم الداري ، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو كاد أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد ويبكي . " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات " الآية .
( وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ) .
[ ص: 245 ] ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ( 23 ) وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ( 24 ) )
( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) قال ابن عباس والحسن وقتادة : ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه ، فلا يهوى شيئا إلا ركبه لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه ، ولا يحرم ما حرم الله . وقال آخرون : معناه اتخذ معبوده هواه فيعبد ما تهواه نفسه .
قال سعيد بن جبير : كانت العرب يعبدون الحجارة والذهب والفضة ، فإذا وجدوا شيئا أحسن من الأول رموه أو كسروه ، وعبدوا الآخر .
قال الشعبي : إنما سمي الهوى لأنه يهوي بصاحبه في النار .
( وأضله الله على علم ) منه بعاقبة أمره ، وقيل على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه ( وختم ) طبع ( على سمعه ) فلم يسمع الهدى ( وقلبه ) فلم يعقل الهدى ( وجعل على بصره غشاوة ) قرأ حمزة والكسائي " غشوة " بفتح الغين وسكون الشين ، والباقون " غشاوة " ظلمة فهو لا يبصر الهدى ( فمن يهديه من بعد الله ) [ أي فمن يهديه ] بعد أن أضله الله ( أفلا تذكرون ) .
( وقالوا ) يعني منكري البعث ( ما هي إلا حياتنا الدنيا ) أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا ( نموت ونحيا ) أي يموت الآباء ويحيا الأبناء ، وقال الزجاج : يعني نموت ونحيا ، فالواو للاجتماع ( وما يهلكنا إلا الدهر ) أي وما يفنينا إلا مر الزمان وطول العمر واختلاف الليل والنهار . ( وما لهم بذلك ) الذي قالوه ( من علم ) أي لم يقولوه عن علم [ علموه ] ( إن هم إلا يظنون ) .
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد محمش الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، حدثنا أبو الحسن أحمد بن يوسف السلمي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن همام بن منبه ، حدثنا أبو هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قال الله تعالى : لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر ، فإني أنا الدهر ، أرسل الليل والنهار ، فإذا شئت قبضتهما " . [ ص: 246 ]
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، حدثنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن أيوب عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يسب أحدكم الدهر [ فإن الله هو الدهر ] ، ولا يقولن للعنب الكرم ، فإن الكرم هو الرجل المسلم " .
ومعنى الحديث : أن العرب كان من شأنهم ذم الدهر ، وسبه عند النوازل ، لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره ، فيقولون : أصابتهم قوارع الدهر ، وأبادهم الدهر ، كما أخبر الله تعالى عنهم : " وما يهلكنا إلا الدهر " فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها ، فكان مرجع سبهم إلى الله - عز وجل - ، إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يضيفونها إلى الدهر ، [ فنهوا عن سب الدهر ] .
ابو وليد البحيرى
2022-10-15, 11:22 PM
الحلقة (373)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية10
( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ( 25 ) قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 26 ) ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون ( 27 ) وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون ( 28 ) )
( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة ) [ أي ليوم القيامة ] ( لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . ( ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون ) يعني الكافرين الذين هم أصحاب الأباطيل ، يظهر في ذلك اليوم خسرانهم بأن يصيروا إلى النار .
( وترى كل أمة جاثية ) باركة على الركب ، وهي جلسة المخاصم بين يدي الحاكم ينتظر القضاء .
قال سلمان الفارسي : إن في القيامة ساعة هي عشر سنين ، يخر الناس فيها جثاة على ركبهم [ ص: 247 ] حتى إبراهيم عليه السلام ينادي ربه : لا أسألك إلا نفسي .
( كل أمة تدعى إلى كتابها ) الذي فيه أعمالها ، وقرأ يعقوب " كل أمة " نصب ، ويقال لهم : ( اليوم تجزون ما كنتم تعملون ) .
( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ( 29 ) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين ( 30 ) وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين ( 31 ) وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ( 32 ) )
( هذا كتابنا ) يعني ديوان الحفظة ( ينطق عليكم بالحق ) يشهد عليكم ببيان شاف ، فكأنه ينطق وقيل : المراد بالكتاب اللوح المحفوظ . ( إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) أي نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم أي بكتبها وإثباتها عليكم .
وقيل : " نستنسخ " أي نأخذ نسخته ، وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان ، فيثبت الله منه ما كان له فيه ثواب أو عقاب ، ويطرح منه اللغو نحو قولهم : هلم واذهب .
وقيل : الاستنساخ من اللوح المحفوظ تنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم ، والاستنساخ لا يكون إلا من أصل ، فينسخ كتاب من كتاب .
وقال الضحاك : نستنسخ أي نثبت . وقال السدي : نكتب . وقال الحسن : نحفظ .
( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين ) [ الظفر ] الظاهر .
( وأما الذين كفروا ) يقال لهم ( أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين ) متكبرين كافرين .
( وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها ) قرأ حمزة : " والساعة " نصب ، عطفها على الوعد ، وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء ( قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا ) أي ما نعلم ذلك إلا حدسا وتوهما . ( وما نحن بمستيقنين ) أنها كائنة .
[ ص: 248 ] ( وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ( 33 ) وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ( 34 ) ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون ( 35 ) فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين ( 36 ) وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ( 37 ) )
( وبدا لهم ) [ في الآخرة ] ( سيئات ما عملوا ) في الدنيا أي جزاؤها ( وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) .
( وقيل اليوم ننساكم ) نترككم في النار ( كما نسيتم لقاء يومكم هذا ) تركتم الإيمان والعمل للقاء هذا اليوم ( ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ) . ( ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا ) حتى قلتم : لا بعث ولا حساب ( فاليوم لا يخرجون منها ) قرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضم الراء ، وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الراء ( ولا هم يستعتبون ) لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله ، لأنه لا يقبل ذلك اليوم عذرا ولا توبة .
( فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين وله الكبرياء ) العظمة ( في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، حدثنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي ، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن الشرقي ، حدثنا أحمد بن حفص وعبد الله بن محمد الفراء وقطن بن إبراهيم قالوا : أخبرنا حفص بن عبد الله ، حدثني إبراهيم بن طهمان ، عن عطاء بن السائب ، عن الأغر أبي مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله - عز وجل - : الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني في واحد منهما أدخلته النار " .
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( حم ( 1 ) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 2 ) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ( 3 ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 4 ) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ( 5 ) )
( حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ) يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَهُوَ الْأَجَلُ الَّذِي تَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى فَنَائِهِمَا ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا ) خُوِّفُوا بِهِ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ ( مُعْرِضُونَ ) .
( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) أَيْ بِكِتَابٍ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ قَبْلَ الْقُرْآنِ فِيهِ بَيَانُ مَا تَقُولُونَ ( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) قَالَ الْكَلْبِيُّ : أَيْ بَقِيَّةٍ مِنْ عِلْمٍ يُؤْثَرُ عَنِ الْأَوَّلِينَ ، أَيْ يُسْنَدُ إِلَيْهِمْ . قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ : رِوَايَةٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ . وَقَالَ قَتَادَةُ : خَاصَّةٌ مِنْ عِلْمٍ . وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْأَثَرِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ ، يُقَالُ : أَثَرْتُ الْحَدِيثَ أَثَرًا وَأَثَارَةً ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْخَبَرِ : أَثَرٌ . ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) .
( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ ) يَعْنِي الْأَصْنَامَ لَا تُجِيبُ عَابِدِيهَا [ ص: 252 ] إِلَى شَيْءٍ يَسْأَلُونَهَا ( إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) أَبَدًا مَا دَامَتِ الدُّنْيَا ( وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ) لِأَنَّهَا جَمَادٌ لَا تَسْمَعُ وَلَا تَفْهَمُ .
( وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ( 6 ) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين ( 7 ) أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم ( 8 ) قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين ( 9 ) )
( وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ) جاحدين ، بيانه قوله : " تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون " ( القصص - 63 ) .
( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين ) يسمون القرآن سحرا .
( أم يقولون افتراه ) محمد من قبل نفسه ، فقال الله - عز وجل - : ( قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا ) لا تقدرون أن تردوا عني عذابه إن عذبني على افترائي ، فكيف أفتري على الله من أجلكم ( هو أعلم بما تفيضون فيه ) تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن والقول فيه إنه سحر . ( كفى به شهيدا بيني وبينكم ) أن القرآن جاء من عنده ( وهو الغفور الرحيم ) في تأخير العذاب عنكم ، قال الزجاج : هذا دعاء لهم إلى التوبة ، معناه : إن الله - عز وجل - غفور لمن تاب منكم رحيم به .
( قل ما كنت بدعا من الرسل ) أي بديعا ، مثل : نصف ونصيف ، وجمع البدع أبداع ، لست بأول مرسل ، قد بعث قبلي كثير من الأنبياء ، فكيف تنكرون نبوتي . ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) اختلف العلماء في معنى هذه الآية :
فقال بعضهم : معناه ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة ، فلما نزلت هذه الآية فرح المشركون ، فقالوا : واللات والعزى ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحد ، وما له علينا من مزية وفضل ، ولولا أنه ابتدع ما يقوله من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به ، فأنزل الله : " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " ، ( الفتح - 2 ) فقالت الصحابة : هنيئا لك يا نبي الله قد علمنا ما يفعل [ ص: 253 ] بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فأنزل الله تعالى : " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات " الآية ، ( الفتح - 5 ) وأنزل : " وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا " ( الأحزاب - 47 ) فبين الله تعالى ما يفعل به وبهم . وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة ، قالوا : إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه [ وإنما أخبر بغفران ذنبه ] عام الحديبية ، فنسخ ذلك .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري ، عن خارجة بن زيد قال : كانت أم العلاء الأنصارية تقول : لما قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكنتهم ، قالت [ فطار لنا ] عثمان بن مظعون في السكنى ، فمرض فمرضناه ، ثم توفي فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدخل فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي قد أكرمك الله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : وما يدريك أن الله قد أكرمه " ؟ فقلت : لا والله لا أدري ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما هو فقد أتاه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم " قالت : فوالله لا أزكي بعده أحدا أبدا ، قالت : ثم رأيت لعثمان بعد في النوم عينا تجري فقصصتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " ذاك عمله " .
وقال جماعة : قوله " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " في الدنيا ، أما في الآخرة فقد علم أنه في الجنة ، وأن من كذبه فهو في النار ، ثم اختلفوا فيه :
قال ابن عباس - رضي الله عنه - ما : لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرى النائم وهو بمكة أرضا ذات سباخ ونخل رفعت له ، يهاجر إليها ، فقال له أصحابه متى تهاجر إلى الأرض التي أريت ؟ فسكت ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " ، أأترك في مكاني أم أخرج وإياكم إلى الأرض التي رفعت لي ؟ .
وقال بعضهم : " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدنيا ، بأن أقيم معكم في مكانكم أم أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي ، أم أقتل كما قتل الأنبياء من قبلي وأنتم أيها المصدقون لا أدري [ ص: 254 ] تخرجون معي أم تتركون ، أم ماذا يفعل بكم ، [ وأنتم ] أيها المكذبون ، أترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم ، أم أي شيء يفعل بكم ، مما فعل بالأمم المكذبة ؟ .
ثم أخبر الله - عز وجل - أنه يظهر دينه على الأديان ، فقال : " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله " ، ( الصف - 9 ) وقال في أمته : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ( الأنفال - 33 ) ، فأخبر الله ما يصنع به وبأمته ، هذا قول السدي .
( إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) أي ما أتبع إلا القرآن ، ولا أبتدع من عندي شيئا ( وما أنا إلا نذير مبين ) .
( قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( 10 ) )
( قل أرأيتم ) معناه : أخبروني ماذا تقولون ( إن كان ) يعني القرآن ( من عند الله وكفرتم به ) أيها المشركون ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ) المثل : صلة ، يعني : عليه ، أي على أنه من عند الله ( فآمن ) يعني الشاهد ( واستكبرتم ) عن الإيمان به ، وجواب قوله : " إن كان من عند الله " محذوف ، على تقدير : أليس قد ظلمتم ؟ يدل على هذا المحذوف قوله : ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) وقال الحسن : جوابه : فمن أضل منكم ، كما قال في سورة السجدة .
واختلفوا في هذا الشاهد ، قال قتادة والضحاك : هو عبد الله بن سلام ، شهد على نبوة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وآمن به ، واستكبر اليهود فلم يؤمنوا .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن منير سمع عبد الله بن بكير ، حدثنا حميد ، عن أنس قال : " سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أرض يخترف فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : فما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : أخبرني بهن جبريل آنفا ، قال : جبريل ؟ قال : نعم ، قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : " قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله " ( البقرة - 97 ) ، فأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة [ ص: 255 ] فزيادة كبد الحوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت ، قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، [ يا رسول الله ] إن اليهود قوم بهت ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني ، فجاءت اليهود فقال : أي رجل عبد الله فيكم ؟ قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام ؟ قالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج عبد الله ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فقالوا : شرنا وابن شرنا ، فانتقصوه ، قال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن يوسف قال : سمعت مالكا يحدث عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام ، وفيه نزلت هذه الآية : " وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله " . قال : لا أدري قال مالك الآية أو في الحديث .
وقال الآخرون : الشاهد هو موسى بن عمران .
وقال الشعبي : قال مسروق في هذه الآية : والله ما نزلت في عبد الله بن سلام لأن ال حم نزلت بمكة ، وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة ، ونزلت هذه الآية في محاجة كانت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقومه ، ومثل القرآن التوراة فشهد موسى على التوراة ومحمد - صلى الله عليه وسلم - على الفرقان ، وكل واحد يصدق الآخر .
وقيل : هو نبي من بني إسرائيل فآمن واستكبرتم فلم تؤمنوا ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) .
ابو وليد البحيرى
2022-10-15, 11:29 PM
الحلقة (374)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
مَكِّيَّةٌ
الاية11 إلى الاية29
[ ص: 256 ] ( وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ( 11 ) ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ( 12 ) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 13 ) أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ( 14 ) )
( وقال الذين كفروا ) من اليهود ( للذين آمنوا لو كان ) [ دين محمد - صلى الله عليه وسلم - ] ( خيرا ما سبقونا إليه ) يعني عبد الله بن سلام وأصحابه .
وقال قتادة : نزلت في مشركي مكة ، قالوا : لو كان ما يدعونا إليه محمد خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان .
وقال الكلبي : الذين كفروا : أسد وغطفان ، قالوا للذين آمنوا يعني : جهينة ومزينة : لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا إليه رعاء البهم .
قال الله تعالى : ( وإذ لم يهتدوا به ) يعني بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان ( فسيقولون هذا إفك قديم ) كما قالوا أساطير الأولين .
( ومن قبله ) أي ومن قبل القرآن ( كتاب موسى ) يعني التوراة ( إماما ) يقتدى به ( ورحمة ) من الله لمن آمن به ، ونصبا على الحال عن الكسائي ، وقال أبو عبيدة : فيه إضمار ، أي جعلناه إماما ورحمة ، وفي الكلام محذوف ، تقديره : وتقدمه كتاب موسى إماما ولم يهتدوا به ، كما قال في الآية الأولى : " وإذ لم يهتدوا به " .
( وهذا كتاب مصدق ) أي القرآن مصدق للكتب التي قبله ( لسانا عربيا ) نصب على الحال ، وقيل بلسان عربي ( لينذر الذين ظلموا ) يعني مشركي مكة ، قرأ أهل الحجاز والشام ويعقوب : " لتنذر " بالتاء على خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقرأ الآخرون بالياء يعني الكتاب ( وبشرى للمحسنين ) " وبشرى " في محل الرفع ، أي هذا كتاب مصدق وبشرى .
( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ) .
[ ص: 257 ] ( ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين ( 15 ) أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ( 16 ) والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين ( 17 ) )
قوله - عز وجل - : ( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ) قرأ أهل الكوفة : " إحسانا " [ كقوله تعالى : " وبالوالدين إحسانا " ( البقرة - 83 ) ] ( حملته أمه كرها ووضعته كرها ) يريد شدة الطلق . قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو " كرها " بفتح الكاف فيهما ، وقرأ الآخرون بضمهما . ( وحمله وفصاله ) فطامه ، وقرأ يعقوب : " وفصله " بغير ألف ( ثلاثون شهرا ) يريد أقل مدة الحمل ، وهي ستة أشهر ، وأكثر مدة الرضاع أربعة وعشرون شهرا .
وروى عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا ، وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا ( حتى إذا بلغ أشده ) نهاية قوته ، وغاية شبابه واستوائه ، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة ، فذلك قوله : ( وبلغ أربعين سنة ) .
وقال السدي والضحاك : نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وقد مضت القصة .
وقال الآخرون : نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه أبي قحافة عثمان بن عمرو ، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو .
قال علي بن أبي طالب : الآية نزلت في أبي بكر ، أسلم أبواه جميعا ، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره ، أوصاه الله بهما ، ولزم ذلك من بعده .
وكان أبو بكر صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثماني عشرة سنة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عشرين سنة ، في تجارة إلى الشام ، فلما بلغ أربعين سنة ونبئ النبي - صلى الله عليه وسلم - آمن به ودعا ربه ف ( قال رب أوزعني ) [ ص: 258 ] ألهمني ( أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ) بالهداية والإيمان ( وأن أعمل صالحا ترضاه ) قال ابن عباس : وأجابه الله - عز وجل - ، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه ، ودعا أيضا فقال : ( وأصلح لي في ذريتي ) فأجابه الله ، فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعا ، فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا ، فأدرك أبو قحافة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وابنه أبو بكر وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وابن عبد الرحمن أبو عتيق كلهم أدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة . قوله : ( إني تبت إليك وإني من المسلمين ) .
( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ) يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا ، وكلها حسن ، و " الأحسن " بمعنى الحسن ، فيثيبهم عليها ( ونتجاوز عن سيئاتهم ) فلا نعاقبهم عليها ، قرأ حمزة والكسائي وحفص " نتقبل " " ونتجاوز " بالنون ، " أحسن " نصب ، وقرأ الآخرون بالياء وضمها ، " أحسن " رفع . ( في أصحاب الجنة ) مع أصحاب الجنة ( وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ) وهو قوله - عز وجل - : " وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار " ( التوبة - 72 ) .
( والذي قال لوالديه ) إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث ( أف لكما ) وهي كلمة كراهية ( أتعدانني أن أخرج ) من قبري حيا ( وقد خلت القرون من قبلي ) فلم يبعث منهم أحد ( وهما يستغيثان الله ) يستصرخان ويستغيثان الله عليه ، ويقولان له : ( ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا ) ما هذا الذي تدعواني إليه ( إلا أساطير الأولين ) قال ابن عباس والسدي ، ومجاهد : نزلت في عبد الله . [ ص: 259 ]
وقيل : في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه ، كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام وهو يأبى ، ويقول : أحيوا لي عبد الله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما تقولون .
وأنكرت عائشة رضي الله عنها أن يكون هذا في عبد الرحمن بن أبي بكر .
والصحيح أنها نزلت في كافر عاق لوالديه ، قاله الحسن وقتادة .
وقال الزجاج : قول من قال إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه ، يبطله قوله :
( أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ( 18 ) ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ( 19 ) )
( أولئك الذين حق عليهم القول ) الآية ، أعلم الله تعالى أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب ، وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المسلمين فلا يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب .
ومعنى " أولئك الذين حق عليهم القول " : وجب عليهم العذاب ( في أمم ) [ مع أمم ] ( قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ) .
( ولكل درجات مما عملوا ) قال ابن عباس - رضي الله عنه - ما : يريد من سبق إلى الإسلام ، فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو بساعة . وقال مقاتل : ولكل فضائل بأعمالهم فيوفيهم الله جزاء أعمالهم .
وقيل : " ولكل " : يعني ولكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين " درجات " منازل ومراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم ، فيجازيهم عليها .
قال ابن زيد في هذه الآية : درج أهل النار تذهب سفلا ودرج أهل الجنة تذهب علوا .
( وليوفيهم ) قرأ ابن كثير ، وأهل البصرة ، وعاصم : بالياء ، وقرأ الباقون بالنون . ( أعمالهم وهم لا يظلمون ) .
[ ص: 260 ] ( ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ( 20 ) )
( ويوم يعرض الذين كفروا على النار ) فيقال لهم : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب : " أأذهبتم " ، بالاستفهام ويهمز ابن عامر همزتين ، والآخرون بلا استفهام على الخبر ، وكلاهما فصيحان ، لأن العرب تستفهم بالتوبيخ ، وترك الاستفهام فتقول : أذهبت ففعلت كذا ؟ ( واستمتعتم بها ) يقول : أذهبتم طيباتكم يعني اللذات وتمتعتم بها ؟ ( فاليوم تجزون عذاب الهون ) أي العذاب الذي فيه ذل وخزي ( بما كنتم تستكبرون ) [ تتكبرون ] ( في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ) فلما وبخ الله الكافرين بالتمتع بالطيبات في الدنيا آثر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والصالحون اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة .
وروينا عن عمر قال : دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثر الرمال بجنبه ، فقلت : يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله ، فقال : " أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا " .
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، ثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت عبد الرحمن بن يزيد يحدث ، عن الأسود بن يزيد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن المنصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : لقد كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا وما هو [ ص: 261 ] إلا الماء والتمر ، غير أن جزى الله نساء من الأنصار خيرا ، كن ربما أهدين لنا شيئا من اللبن .
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي ، أخبرنا الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا عبد الله بن معاوية الجمحي ، حدثنا ثابت بن يزيد ، عن هلال بن خباب عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - ما قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيت الليالي المتتابعة طاويا ، وأهله لا يجدون عشاء ، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير .
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي ، أخبرنا الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن ، حدثنا روح بن أسلم ، حدثنا أبو حاتم البصري ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أتت علي ثلاثون من بين ليلة ويوم وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، [ حدثنا محمد بن إسماعيل ] حدثنا يوسف بن عيسى ، حدثنا ابن فضيل ، عن أبيه ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة أنه قال : لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء ، إما إزار وإما كساء ، قد ربطوا في أعناقهم ، فمنها ما يبلغ نصف الساقين ، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني ، حدثنا أبو طاهر محمد بن الحارث ، حدثنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن مبارك ، عن شعبة بن الحجاج ، عن سعد بن إبراهيم ، [ عن أبيه إبراهيم ] أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائما ، فقال : قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكفن [ ص: 262 ] في بردة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه ، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه ، قال : وأراه قال : وقتل حمزة وهو خير مني ، فلم يوجد ما يكفن فيه إلا بردة ، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط ، أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا ، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام .
وقال جابر بن عبد الله : رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي ، فقال : ما هذا يا جابر ؟ قلت : اشتهيت لحما فاشتريته ، فقال عمر : أو كلما اشتهيت شيئا يا جابر اشتريت ، أما تخاف هذه الآية : " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا " .
( واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ( 21 ) قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ( 22 ) )
قوله - عز وجل - : ( واذكر أخا عاد ) يعني هودا عليه السلام ( إذ أنذر قومه بالأحقاف ) قال ابن عباس : " الأحقاف " : واد بين عمان ومهرة .
وقال مقاتل : كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له : " مهرة " وإليها تنسب الإبل المهرية ، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم ، وكانوا من قبيلة إرم .
قال قتادة : ذكر لنا أن عادا كانوا أحياء باليمن ، وكانوا أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها : " الشحر " . و " الأحقاف " جمع حقف ، وهي المستطيل المعوج من الرمال . قال ابن زيد : هي ما استطال من الرمل كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلا ، قال الكسائي : هي ما استدار من الرمل .
( وقد خلت النذر ) مضت الرسل ( من بين يديه ) أي من قبل هود ( ومن خلفه ) إلى قومهم ( ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) .
( قالوا أجئتنا لتأفكنا ) [ لتصرفنا ] ( عن آلهتنا ) أي عن عبادتها ( فأتنا بما تعدنا ) [ من العذاب ] ( إن كنت من الصادقين ) أن العذاب نازل بنا .
[ ص: 263 ] ( قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون ( 23 ) فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ( 24 ) تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ( 25 ) )
( قال ) هود ( إنما العلم عند الله ) وهو يعلم متى يأتيكم العذاب ( وأبلغكم ما أرسلت به ) من الوحي ( ولكني أراكم قوما تجهلون ) .
( فلما رأوه ) يعني ما يوعدون به من العذاب ( عارضا ) سحابا يعرض أي يبدو في ناحية من السماء ثم يطبق السماء ( مستقبل أوديتهم ) فخرجت عليهم سحابة سوداء من واد لهم يقال له : " المغيث " وكانوا قد حبس عنهم المطر ، فلما رأوها استبشروا ( قالوا هذا عارض ممطرنا ) يقول الله تعالى : ( بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ) فجعلت الريح تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة .
( تدمر كل شيء ) مرت به من رجال عاد وأموالها ، [ ( بأمر ربها ) ] فأول ما عرفوا أنها عذاب رأوا ما كان خارجا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض ، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح فقلعت أبوابهم وصرعتهم ، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال ، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام ، لهم أنين ، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتهم فرمت بهم في البحر .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفراييني ، أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ ، أخبرنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو بن الحارث ، أخبرنا النضر . حدثه عن سليمان بن يسار ، عن عائشة أنها قالت : ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه بياض لهواته ، وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه ، فقلت : يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا ، رجاء أن يكون فيه المطر ، وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية ، فقال : " يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ، قد عذب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب فقالوا : " هذا عارض ممطرنا " ، الآية .
( فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ) قرأ عاصم ، وحمزة ، ويعقوب : " يرى " بضم الياء " مساكنهم " برفع النون يعني : لا يرى شيء إلا مساكنهم ، وقرأ الآخرون بالتاء وفتحها ، " مساكنهم " [ ص: 264 ] نصب؛ يعني لا ترى أنت يا محمد إلا مساكنهم لأن السكان والأنعام بادت بالريح ، فلم يبق إلا هود ومن آمن معه . ( كذلك نجزي القوم المجرمين ) .
( ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ( 26 ) ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون ( 27 ) فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون ( 28 ) )
( ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ) يعني فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطول العمر وكثرة المال .
قال المبرد : " ما " في قوله " فيما " بمنزلة الذي ، و " إن " بمنزلة ما ، وتقديره : ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه . ( وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) .
( ولقد أهلكنا ما حولكم ) يا أهل مكة ( من القرى ) كحجر ثمود وأرض سدوم ونحوهما ( وصرفنا الآيات ) الحجج والبينات ( لعلهم يرجعون ) عن كفرهم فلم يرجعوا ، فأهلكناهم ، يخوف مشركي مكة .
( فلولا ) فهلا ( نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة ) يعني الأوثان ، اتخذوها آلهة يتقربون بها إلى الله - عز وجل - ، " القربان " : كل ما يتقرب به إلى الله - عز وجل - ، وجمعه : " قرابين " ، كالرهبان والرهابين .
( بل ضلوا عنهم ) قال مقاتل : بل ضلت الآلهة عنهم فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم ( وذلك إفكهم ) أي كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقربهم إلى الله - عز وجل - وتشفع لهم ( وما كانوا يفترون ) يكذبون أنها آلهة . [ ص: 265 ]
قوله - عز وجل - : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ( 29 ) )
( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ) الآية ، قال المفسرون : لما مات أبو طالب خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه ، فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي قال : لما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف إلى نفر من ثقيف ، وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم ، وهم إخوة ثلاثة : عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب بنو [ عمرو بن ] عمير ، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح ، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه .
فقال له أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة ، إن كان الله أرسلك ، وقال الآخر : ما وجد الله أحدا يرسله غيرك ؟ وقال الثالث : والله ما أكلمك كلمة أبدا ، لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك .
فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عندهم ، وقد يئس من خير ثقيف ، وقال لهم : إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي [ سري ] ، وكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ قومه فيزيدهم عليه ذلك ، فلم يفعلوا ، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس ، وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة ، وهما فيه فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب ، فجلس فيه ، وابنا ربيعة ينظران إليه ، ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف ، ولقد لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك المرأة التي من بني جمح ، فقال لها : ماذا لقينا من أحمائك ؟
فلما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، أنت أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .
فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له : عداس ، فقالا له : خذ قطفا من العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، فقل له يأكل [ ص: 266 ] منه ، ففعل ذلك عداس ، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده قال : بسم الله ، ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أي البلاد أنت يا عداس ؟ وما دينك ؟ قال : أنا نصراني ، وأنا رجل من أهل نينوى ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ قال له : وما يدريك ما يونس بن متى ؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي فأكب عداس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبل رأسه ويديه وقدميه .
قال : فيقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه : أما غلامك فقد أفسده عليك ، فلما جاءهم عداس قالا له : ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟ قال : يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل ، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي ، فقالا ويحك يا عداس لا يصرفك عن دينك فإن دينك خير من دينه .
ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من الطائف راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف ، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين اليمن ، فاستمعوا له ، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا لما سمعوا ، فقص الله خبرهم عليه ، فقال : " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن " .
ابو وليد البحيرى
2022-10-15, 11:35 PM
الحلقة (375)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سورة محمد
مدنية
الاية1 إلى الاية4
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، فأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بنخلة ، عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا " إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " ( الجن - 2 ) ، [ ص: 267 ] فأنزل الله على نبيه : " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن " ، ( الجن - 1 ) وإنما أوحى إليه قول الجن .
وروي : أنهم لما رجعوا بالشهب بعث إبليس سراياه لتعرف الخبر ، وكان أول بعث بعث ركبا من أهل نصيبين ، وهم أشراف الجن وساداتهم ، فبعثهم إلى تهامة .
وقال أبو حمزة [ الثمالي ] : بلغنا أنهم من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا ، وهم عامة جنود إبليس ، فلما رجعوا قالوا : " إنا سمعنا قرآنا عجبا " .
وقال جماعة : بل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف إليه نفرا من الجن من أهل نينوى ، وجمعهم له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة ، فأيكم يتبعني ؟ فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا ، فاتبعه عبد الله بن مسعود ، قال عبد الله : ولم يحضر معه أحد غيري ، فانطلقنا حتى إذا كنا على مكة دخل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - شعبا يقال له : شعب الحجون ، وخط لي خطا ثم أمرني أن أجلس فيه ، وقال : لا تخرج منه حتى أعود إليك ، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن ، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي ، وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه ، حتى ما أسمع صوته ، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، ففرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الفجر ، فانطلق إلي وقال : أنمت ؟ فقلت : لا والله يا رسول الله ، وقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك ، تقول : اجلسوا ، قال : لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ، ثم قال : هل رأيت شيئا ؟ قلت : نعم يا رسول الله رأيت رجالا سودا مستثفري ثياب بيض ، قال : أولئك جن نصيبين سألوني المتاع - والمتاع الزاد - فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة .
قال : فقالوا : يا رسول الله تقذرها الناس ، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستنجى بالعظم والروث .
قال : فقلت : يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم ؟ قال : إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت ، قال فقلت : يا رسول الله سمعت لغطا شديدا ؟ فقال : إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إلي فقضيت بينهم بالحق ، قال : ثم تبرز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أتاني ، فقال : هل معك ماء ؟ قلت : يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر ، فاستدعاه فصببت على يده فتوضأ وقال : " تمرة طيبة وماء طهور " . [ ص: 268 ]
قال قتادة : ذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخا شمطا من الزط فأفزعوه حين رآهم ، فقال : اظهروا ، فقيل له : إن هؤلاء قوم من الزط ، فقال : ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يريد الجن .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغفار بن محمد ، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود وهو ابن أبي هند ، عن عامر قال : سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ؟ قال فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود فقلت : هل شهد أحد منكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ؟ قال : لا ولكنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا : استطير أو اغتيل ، قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء ، قال فقلنا : يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال : أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن .
قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم .
قال وسألوه الزاد ، فقال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم من الجن " . .
ورواه مسلم عن علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن داود بهذا الإسناد إلى قوله : " وآثار نيرانهم " .
قال الشعبي : وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة إلى آخر الحديث من قول الشعبي مفصلا من حديث عبد الله .
قوله - عز وجل - : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ) اختلفوا في عدد ذلك [ ص: 269 ] النفر ، فقال ابن عباس : كانوا سبعة من جن نصيبين ، فجعلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسلا إلى قومهم . وقال آخرون : كانوا تسعة . وروى عاصم عن زر بن حبيش : كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن . ( فلما حضروه قالوا أنصتوا ) قالوا : صه .
وروي في الحديث : " أن الجن ثلاثة أصناف : صنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء ، وصنف حيات وكلاب ، وصنف يحلون ويظعنون " .
فلما حضروه قال بعضهم لبعض : أنصتوا واسكتوا لنستمع إلى قراءته ، فلا يحول بيننا وبين الاستماع شيء ، فأنصتوا واستمعوا القرآن حتى كاد يقع بعضهم على بعض من شدة حرصهم .
( فلما قضي ) فرغ من تلاوته ( ولوا إلى قومهم ) انصرفوا إليهم ( منذرين ) مخوفين داعين بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
( قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ( 30 ) يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ( 31 ) )
( قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ) قال عطاء : كان دينهم اليهودية ، لذلك قالوا : إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى .
( يا قومنا أجيبوا داعي الله ) يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - ( وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ) " من " صلة ، أي ذنوبكم ( ويجركم من عذاب أليم ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : فاستجاب [ ص: 270 ] لهم من قومهم نحو من سبعين رجلا من الجن ، فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوافقوه في البطحاء ، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم ، وفيه دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مبعوثا إلى الجن والإنس جميعا .
قال مقاتل : لم يبعث قبله نبي إلى الإنس والجن جميعا .
واختلف العلماء في حكم مؤمني الجن فقال قوم : ليس لهم ثواب إلا نجاتهم من النار ، وتأولوا قوله : " يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم " ، وإليه ذهب أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه .
وحكى سفيان عن ليث قال : الجن ثوابهم أن يجاروا من النار ، ثم يقال لهم : كونوا ترابا ، وهذا مثل البهائم .
وعن أبي الزناد قال : إذا قضي بين الناس قيل لمؤمني الجن : عودوا ترابا ، فيعودون ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر : " يا ليتني كنت ترابا " ( النبأ - 40 ) .
وقال الآخرون : يكون لهم الثواب في الإحسان كما يكون عليهم العقاب في الإساءة كالإنس ، وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى .
وقال جرير عن الضحاك : الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون .
وذكر النقاش في " تفسيره " حديث أنهم يدخلون الجنة . فقيل : هل يصيبون من نعيمها ؟ قال : يلهمهم الله تسبيحه وذكره ، فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة . وقال أرطاة بن المنذر : سألت ضمرة بن حبيب : هل للجن ثواب ؟ قال : نعم ، وقرأ : " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " ( الرحمن - 74 ) ، قال : فالإنسيات للإنس والجنيات للجن .
وقال عمر بن عبد العزيز : إن مؤمني الجن حول الجنة ، في ربض ورحاب ، وليسوا فيها .
( ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين ( 32 ) .
( ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض ) لا يعجز الله فيفوته ( وليس له من دونه أولياء ) أنصار يمنعونه من الله ( أولئك في ضلال مبين ) .
[ ص: 271 ] ( أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ( 33 ) ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ( 34 ) فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ( 35 ) )
( ( أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن ) لم يعجز عن إبداعهن ( بقادر ) هكذا قراءة العامة ، واختلفوا في وجه دخول الباء فيه ، فقال أبو عبيدة والأخفش : الباء زائدة للتأكيد ، كقوله : " تنبت بالدهن " .
وقال الكسائي ، والفراء : العرب تدخل الباء في الاستفهام مع الجحد ، فتقول : ما أظنك بقائم .
وقرأ يعقوب : " يقدر " بالياء على الفعل ، واختار أبو عبيدة قراءة العامة لأنها في قراءة عبد الله قادر بغير باء .
( على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ) .
( ويوم يعرض الذين كفروا على النار ) فيقال لهم ( أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال ) أي فيقال لهم : ( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) .
( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ) قال ابن عباس : ذوو الحزم . وقال الضحاك : ذوو الجد والصبر .
واختلفوا فيهم ، فقال ابن زيد : كل الرسل كانوا أولي عزم ، لم يبعث الله نبيا إلا كان ذا عزم وحزم ، ورأي وكمال عقل ، وإنما أدخلت " من " للتجنيس لا للتبعيض ، كما يقال : اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز .
وقال بعضهم : الأنبياء كلهم أولو عزم إلا يونس بن متى ، لعجلة كانت منه ، ألا ترى أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " ولا تكن كصاحب الحوت " ؟ .
وقال قوم : هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام ، وهم ثمانية عشر ، لقوله تعالى بعد ذكرهم : " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " ( الأنعام - 90 ) .
وقال الكلبي : هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشفة مع أعداء الدين . [ ص: 272 ]
وقيل : هم ستة : نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، عليهم السلام ، وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء .
وقال مقاتل : هم ستة : نوح ، صبر على أذى قومه ، وإبراهيم ، صبر على النار ، وإسحاق صبر على الذبح ، ويعقوب ، صبر على فقد ولده وذهاب بصره ، ويوسف ، صبر على البئر والسجن ، وأيوب ، صبر على الضر .
وقال ابن عباس وقتادة : هم نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، أصحاب الشرائع ، فهم مع محمد - صلى الله عليه وسلم - خمسة .
قلت : ذكرهم الله على التخصيص في قوله : " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم " ( الأحزاب - 7 ) ، وفي قوله تعالى : " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا " ( الشورى - 13 ) .
أخبرنا أبو طاهر المطهر بن علي بن عبيد الله الفارسي ، حدثنا أبو ذر محمد بن إبراهيم سبط الصالحاني ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ الحافظ ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، أخبرنا محمد بن الحجاج ، أخبرنا السري بن حيان ، أخبرنا عباد بن عباد ، حدثنا مجالد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : قالت عائشة قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد ، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها ، والصبر على مجهودها ، ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم ، وقال : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وإني والله لا بد لي من طاعته ، والله لأصبرن كما صبروا ، وأجهدن كما جهدوا ، ولا قوة إلا بالله " .
قوله تعالى : ( ولا تستعجل لهم ) أي ولا تستعجل العذاب لهم ، فإنه نازل بهم لا محالة ، كأنه ضجر بعض الضجر فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم ، فأمر بالصبر وترك الاستعجال .
ثم أخبر عن قرب العذاب فقال : [ ص: 273 ]
( كأنهم يوم يرون ما يوعدون ) من العذاب في الآخرة ( لم يلبثوا ) [ في الدنيا ] ( إلا ساعة من نهار ) أي إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من نهار ، لأن ما مضى وإن كان طويلا كأن لم يكن .
ثم قال : ( بلاغ ) أي هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ من الله إليكم ، والبلاغ بمعنى التبليغ ( فهل يهلك ) بالعذاب إذا نزل ( إلا القوم الفاسقون ) الخارجون من أمر الله .
قال الزجاج : تأويله : لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون ، ولهذا قال قوم : ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية .
سورة محمد
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم ( 1 ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ( 2 ) ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ( 3 ) )
( ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم ) أبطلها فلم يقبلها [ وأراد بالأعمال ما فعلوا من إطعام الطعام وصلة الأرحام ] قال الضحاك : أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وجعل الدائرة عليهم .
( والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد ) قال سفيان الثوري : يعني لم يخالفوه في شيء ( وهو الحق من ربهم ) قال ابن عباس - رضي الله عنه - ما : " الذين كفروا وصدوا " : مشركو مكة ، " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " : الأنصار . ( كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ) حالهم ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : عصمهم أيام حياتهم ، يعني أن هذا الإصلاح يعود إلى إصلاح أعمالهم حتى لا يعصوا .
( ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل ) الشيطان ( وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم ) يعني القرآن ( كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ) أشكالهم ، قال الزجاج : كذلك يبين الله أمثال حسنات المؤمنين ، وإضلال أعمال الكافرين .
[ ص: 278 ] ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم ( 4 ) )
( ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ) نصب على الإغراء ، أي فاضربوا رقابهم يعني أعناقهم . ( حتى إذا أثخنتموهم ) بالغتم في القتل وقهرتموهم ( فشدوا الوثاق ) يعني في الأسر حتى لا يفلتوا منكم ، والأسر يكون بعد المبالغة في القتل ، كما قال : " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " ( الأنفال - 67 ( فإما منا بعد وإما فداء ) يعني : بعد أن تأسروهم فإما أن تمنوا عليهم منا بإطلاقهم من غير عوض ، وإما أن تفادوهم فداء .
واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : هي منسوخة بقوله : " فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم " ( الأنفال - 57 ) ، وبقوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ( التوبة - 5 ) . وإلى هذا القول ذهب قتادة والضحاك والسدي وابن جريج ، وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي ، قالوا : لا يجوز المن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء .
وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة ، والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يقتلهم أو يسترقهم أو يمن عليهم ، فيطلقهم بلا عوض أو يفاديهم بالمال ، أو بأسارى المسلمين ، وإليه ذهب ابن عمر ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، وأكثر الصحابة والعلماء ، وهو قول الثوري ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق .
قال ابن عباس : لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله - عز وجل - في الأسارى : " فإما منا بعد وإما فداء " .
وهذا هو الأصح والاختيار ، لأنه عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده :
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، [ حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن يوسف ] حدثنا الليث ، حدثنا سعيد بن أبي سعيد سمع أبا هريرة قال : بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خيلا قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة بن أثال ، فربطوه بسارية [ من سواري ] المسجد ، فخرج إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما عندك يا ثمامة ؟ فقال : عندي خير يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت [ ص: 279 ] تريد المال فسل تعط منه ما شئت ، حتى كان الغد ، فقال له : ما عندك يا ثمامة ؟ فقال : عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر ، [ وإن تقتل تقتل ذا دم ، وإن كنت تريد المال سل تعط ] فتركه حتى كان بعد الغد ، فقال له : ما عندك يا ثمامة ؟ فقال : عندي ما قلت لك ، فقال : " أطلقوا ثمامة " ، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ، ثم دخل المسجد ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين إلي ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ، فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة قال له قائل : أصبوت ؟ فقال : لا ولكن أسلمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا والله لا يأتيكم مناليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين قال : أسر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا من بني عقيل فأوثقوه ، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ففداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف .
قوله - عز وجل - : ( حتى تضع الحرب أوزارها ) أي أثقالها وأحمالها ، يعني حتى تضع أهل الحرب السلاح ، فيمسكوا عن الحرب .
وأصل " الوزر " : ما يحتمل الإنسان ، فسمى الأسلحة أوزارا لأنها تحمل .
وقيل : " الحرب " هم المحاربون ، كالشرب والركب .
وقيل : " الأوزار " الآثام ، ومعناه حتى يضع المحاربون آثامها ، بأن يتوبوا من كفرهم فيؤمنوا بالله ورسوله .
وقيل : حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا ، ومعنى الآية : أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يدخل أهل الملل كلها في الإسلام ، ويكون الدين كله لله فلا [ ص: 280 ] يكون بعده جهاد ولا قتال ، وذلك عند نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام ، وجاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال " .
وقال الكلبي : حتى يسلموا أو يسالموا .
وقال الفراء : حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم .
( ذلك ) الذي ذكرت وبينت من حكم الكفار ( ولو يشاء الله لانتصر منهم ) فأهلكهم وكفاكم أمرهم بغير قتال ( ولكن ) أمركم بالقتال ( ليبلو بعضكم ببعض ) فيصير من قتل من المؤمنين إلى الثواب ومن قتل من الكافرين إلى العذاب ( والذين قتلوا في سبيل الله ) قرأ أهل البصرة وحفص : " قتلوا " بضم القاف وكسر التاء خفيف ، يعني الشهداء ، وقرأ الآخرون : " قاتلوا " بالألف من المقاتلة ، وهم المجاهدون ( فلن يضل أعمالهم ) قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ، وقد فشت في المسلمين الجراحات والقتل .
ابو وليد البحيرى
2022-10-15, 11:39 PM
الحلقة (376)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سورة محمد
مدنية
الاية5 إلى الاية25
( ( سيهديهم ويصلح بالهم ( 5 ) ويدخلهم الجنة عرفها لهم ( 6 ) )
( سيهديهم ) أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور ، وفي الآخرة إلى الدرجات ( ويصلح بالهم ) يرضي خصماءهم ويقبل أعمالهم .
( ويدخلهم الجنة عرفها لهم ) أي بين لهم منازلهم في الجنة حتى يهتدوا إلى مساكنهم لا يخطئون ولا يستدلون عليها أحدا كأنهم سكانها منذ خلقوا ، فيكون المؤمن أهدى إلى درجته ، وزوجته وخدمه منه إلى منزله وأهله في الدنيا ، هذا قول أكثر المفسرين .
وروى عطاء عن ابن عباس : " عرفها لهم " أي طيبها لهم ، من العرف ، وهو الريح الطيبة ، وطعام [ ص: 281 ] معرف أي : مطيب .
( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ( 7 ) والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ( 8 ) ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ( 9 ) أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ( 10 ) ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ( 11 ) إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ( 12 ) )
( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ) أي دينه ورسوله ( ينصركم ) على عدوكم ( ويثبت أقدامكم ) عند القتال .
( والذين كفروا فتعسا لهم ) قال ابن عباس : بعدا لهم . وقال أبو العالية : سقوطا لهم . وقال الضحاك : خيبة لهم . وقال ابن زيد : شقاء لهم . قال الفراء : هو نصب على المصدر ، على سبيل الدعاء . وقيل : في الدنيا العثرة ، وفي الآخرة التردي في النار . ويقال للعاثر : تعسا إذا لم يريدوا قيامه ، وضده لعا إذا أرادوا قيامه ( وأضل أعمالهم ) لأنها كانت في طاعة الشيطان .
( ذلك ) التعس والإضلال ( بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ) .
ثم خوف الكفار فقال : ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم ) أي أهلكهم ( وللكافرين أمثالها ) إن لم يؤمنوا ، يتوعد مشركي مكة .
( ذلك ) الذي ذكرت ( بأن الله مولى الذين آمنوا ) وليهم وناصرهم ( وأن الكافرين لا مولى لهم ) لا ناصر لهم . ثم ذكر مآل الفريقين فقال :
( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ) في الدنيا ( ويأكلون كما تأكل الأنعام ) ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم ، وهم لاهون ساهون عما في غد ، قيل : المؤمن في الدنيا يتزود ، والمنافق يتزين ، والكافر يتمتع ( والنار مثوى لهم ) .
[ ص: 282 ] ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم ( 13 ) أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم ( 14 ) مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ( 15 ) )
( ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك ) أي أخرجك أهلها ، قال ابن عباس : كم رجال هم أشد من أهل مكة ؟ يدل عليه قوله : ( أهلكناهم ) ولم يقل : أهلكناها ( فلا ناصر لهم ) قال ابن عباس : لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال : " أنت أحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إلي ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك " فأنزل الله هذه الآية .
( أفمن كان على بينة من ربه ) يقين من دينه ، محمد والمؤمنون ( كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم ) يعني عبادة الأوثان ، وهم أبو جهل والمشركون .
( مثل الجنة التي وعد المتقون ) أي صفتها ( فيها أنهار من ماء غير آسن ) آجن متغير منتن ، قرأ ابن كثير " أسن " بالقصر ، والآخرون بالمد ، وهما لغتان يقال : أسن الماء يأسن أسنا ، وأجن يأجن ، أسونا وأجونا ، إذا تغير ( وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة ) [ لذيذة ] ( للشاربين ) لم تدنسها الأرجل ولم تدنسها الأيدي ( وأنهار من عسل مصفى ) .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أخبرنا أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعلي بن مسهر ، عن عبيد الله بن عمر ، عن خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة " .
قال كعب الأحبار : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر [ ص: 283 ] خمرهم ، ونهر سيحان نهر عسلهم ، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر .
( ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار ) أي من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار ( وسقوا ماء حميما ) شديد الحر تسعر عليهم جهنم منذ خلقت إذا أدني منهم شوى وجوههم ووقعت فروة رءوسهم فإذا شربوه ( فقطع أمعاءهم ) فخرجت من أدبارهم ، والأمعاء جميع ما في البطن من الحوايا واحدها معى .
( ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم ( 16 ) والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ( 17 ) فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم ( 18 ) )
( ومنهم ) يعني من هؤلاء الكفار ( من يستمع إليك ) وهم المنافقون ، يستمعون قولك فلا يعونه ولا يفهمونه ، تهاونا به وتغافلا ( حتى إذا خرجوا من عندك ) يعني فإذا خرجوا من عندك ( قالوا للذين أوتوا العلم ) من الصحابة : ( ماذا قال ) محمد ( آنفا ) ؟ يعني الآن ، هو من الائتناف ويقال : ائتنفت الأمر أي ابتدأته وأنف الشيء أوله .
قال مقاتل : وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب ويعيب المنافقين ، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود استهزاء : ماذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
قال ابن عباس : وقد سئلت فيمن سئل .
( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم ) فلم يؤمنوا ( واتبعوا أهواءهم ) في الكفر والنفاق .
( والذين اهتدوا ) يعني المؤمنين ( زادهم ) ما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( هدى وآتاهم تقواهم ) وفقهم للعمل بما أمرهم به ، وهو التقوى ، قال سعيد بن جبير : وآتاهم ثواب تقواهم . ( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ) [ ص: 284 ]
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، حدثنا أبو إسحاق الهاشمي ، حدثنا الحسين بن الحسن ، حدثنا ابن المبارك ، أخبرنا معمر بن راشد ، عمن سمع المقبري يحدث عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنى مطغيا ، أو فقرا منسيا ، أو مرضا مفسدا ، أو هرما مفندا ، أو موتا مجهزا ، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر ، أو الساعة والساعة أدهى وأمر " .
قوله - عز وجل - : ( فقد جاء أشراطها ) أي أماراتها وعلاماتها ، واحدها : شرط ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - من أشراط الساعة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أحمد بن المقدام ، حدثنا فضل بن سليمان ، حدثنا أبو حازم ، حدثنا سهل بن سعد قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بأصبعيه هكذا ، بالوسطى والتي تلي الإبهام : " بعثت أنا والساعة كهاتين " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حفص بن عمر الحوضي ، حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن أنس قال : لأحدثنكم بحديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحدثنكم به أحد غيري ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويكثر الجهل ، ويكثر الزنا ، ويكثر شرب الخمر ، ويقل الرجال ويكثر النساء ، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن سنان ، حدثنا فليح ، حدثني هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي فقال : متى الساعة ؟ فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث ، فقال بعض القوم : سمع ما قال فكره ما قال . وقال بعضهم : بل لم يسمع ، حتى إذا قضى حديثه ، قال : " أين السائل عن الساعة ؟ " قال : ها أنا يا رسول [ ص: 285 ] الله ، قال : " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " . قال : كيف إضاعتها ؟ قال : " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " .
قوله - عز وجل - : ( فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم ) فمن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة ؟ نظيره : " يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى " ( الفجر - 2323 ) .
( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم ( 19 ) )
قوله - عز وجل - : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) قيل : الخطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به غيره ، وقيل : معناه فاثبت عليه . وقال الحسين بن الفضل : فازدد علما على علمك . وقال أبو العالية وابن عيينة : هو متصل بما قبله معناه : إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا ملجأ ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله . وقيل : فاعلم أنه لا إله إلا الله ، أن الممالك تبطل عند قيامها ، فلا ملك ولا حكم لأحد إلا لله ( واستغفر لذنبك ) أمر بالاستغفار مع أنه مغفور له لتستن به أمته .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أبي بردة ، عن الأغر المزني قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة " .
قوله - عز وجل - : ( وللمؤمنين والمؤمنات ) هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة حيث أمر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم ( والله يعلم متقلبكم ومثواكم ) قال ابن عباس والضحاك : " متقلبكم " متصرفكم [ ومنتشركم في أعمالكم في الدنيا ، " ومثواكم " مصيركم في الآخرة إلى الجنة أو إلى النار .
وقال مقاتل وابن جرير : " متقلبكم " منصرفكم ] لأشغالكم بالنهار ، " ومثواكم " مأواكم إلى مضاجعكم بالليل . [ ص: 286 ]
وقال عكرمة : " متقلبكم " من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات . " ومثواكم " مقامكم في الأرض .
وقال ابن كيسان : " متقلبكم " من ظهر إلى بطن ، " ومثواكم " مقامكم في القبور .
والمعنى : أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها .
( ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم ( 20 ) طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ( 21 ) )
( ويقول الذين آمنوا ) حرصا منهم على الجهاد : ( لولا نزلت سورة ) تأمرنا بالجهاد ( فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال ) قال قتادة : كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة ، وهي أشد القرآن على المنافقين ( رأيت الذين في قلوبهم مرض ) يعني المنافقين ( ينظرون إليك ) شزرا بتحديق شديد ، كراهية منهم للجهاد وجبنا عن لقاء العدو ( نظر المغشي عليه من الموت ) كما ينظر الشاخص بصره عند الموت ( فأولى لهم ) وعيد وتهديد ، ومعنى قولهم في التهديد : " أولى لك " أي : وليك وقاربك ما تكره .
ثم قال : ( طاعة وقول معروف ) وهذا ابتداء محذوف الخبر ، تقديره : طاعة ، وقول معروف أمثل ، أي لو أطاعوا وقالوا قولا معروفا كان أمثل وأحسن .
وقيل : مجازه : يقول هؤلاء المنافقون قبل نزول السورة المحكمة : طاعة ، رفع على الحكاية أي أمرنا طاعة أو منا طاعة ، " وقول معروف " : حسن .
وقيل : هو متصل بما قبله ، واللام في قوله : " لهم " بمعنى الباء ، مجازه : فأولى بهم طاعة الله ورسوله ، وقول معروف بالإجابة ، أي لو أطاعوا كانت الطاعة والإجابة أولى بهم ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء .
( فإذا عزم الأمر ) أي جد الأمر ولزم فرض القتال وصار الأمر معزوما ( فلو صدقوا الله ) في إظهار الإيمان والطاعة ( لكان خيرا لهم ) وقيل : جواب " إذا " محذوف تقديره فإذا عزم الأمر نكلوا وكذبوا فيما وعدوا ولو صدقوا الله لكان خيرا لهم .
[ ص: 287 ] ( ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ( 22 ) أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ( 23 ) أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ( 24 ) إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ( 25 ) )
( فهل عسيتم ) فلعلكم ( إن توليتم ) أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه ( أن تفسدوا في الأرض ) تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية فتفسدوا في الأرض بالمعصية والبغي وسفك الدماء ، وترجعوا إلى الفرقة بعد ما جمعكم الله بالإسلام . ( وتقطعوا أرحامكم ) قرأ يعقوب : " وتقطعوا " بفتح التاء خفيف ، والآخرون بالتشديد " وتقطعوا " من التقطيع ، على التكثير ، لأجل الأرحام ، قال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام ، وقطعوا الأرحام ، وعصوا الرحمن ؟ وقال بعضهم : هو من الولاية . وقال المسيب بن شريك والفراء : يقول فهل عسيتم إن وليتم أمر الناس أن تفسدوا في الأرض بالظلم ، نزلت في بني أمية وبني هاشم ، يدل عليه قراءة علي بن أبي طالب " توليتم " بضم التاء والواو وكسر اللام ، يقول : إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة وعاونتموهم .
( أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ) عن الحق .
( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) فلا تفهم مواعظ القرآن وأحكامه ، و " أم " بمعنى " بل " .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأني عقيل بن محمد ، أخبرنا المعافى بن زكريا ، أخبرنا محمد بن جرير ، حدثنا بشر ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال : تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " فقال شاب من أهل اليمن : بل على قلوب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها ، فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولي فاستعان به .
( إن الذين ارتدوا على أدبارهم ) رجعوا كفارا ( من بعد ما تبين لهم الهدى ) قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بعد ما عرفوه ووجدوا نعته في كتابهم . [ ص: 288 ]
وقال ابن عباس ، والضحاك ، والسدي : هم المنافقون .
( الشيطان سول لهم ) زين لهم القبيح ( وأملى لهم ) قرأ أهل البصرة بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على ما لم يسم فاعله ، وقرأ مجاهد بإرسال الياء على وجه الخبر من الله - عز وجل - عن نفسه أنه يفعل ذلك ، وتروى هذه القراءة عن يعقوب ، وقرأ الآخرون : " وأملى لهم " بفتح الألف ، أي : وأملى الشيطان لهم ، مد لهم في الأمل .
ابو وليد البحيرى
2022-10-15, 11:44 PM
الحلقة (377)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْفَتْحِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية1 إلى الاية4
( ( ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم ( 26 ) فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ( 27 ) ذلك
بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ( 28 ) أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ( 29 ) ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ( 30 ) )
( ذلك بأنهم ) يعني المنافقين أو اليهود ( قالوا للذين كرهوا ما نزل الله ) وهم المشركون ( سنطيعكم في بعض الأمر ) في التعاون على عداوة محمد - صلى الله عليه وسلم - والقعود عن الجهاد ، وكانوا يقولونه سرا فأخبر الله تعالى عنهم ( والله يعلم إسرارهم ) قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر : بكسر الهمزة ، على المصدر ، والباقون بفتحها على جمع السر .
( فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك ) الضرب ( بأنهم اتبعوا ما أسخط الله ) قال ابن عباس : بما كتموا من التوراة وكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ( وكرهوا رضوانه ) كرهوا ما فيه رضوان الله ، وهو الطاعة والإيمان . ( فأحبط أعمالهم ) .
( أم حسب الذين في قلوبهم مرض ) يعني المنافقين ( أن لن يخرج الله أضغانهم ) لن يظهر أحقادهم على المؤمنين فيبديها حتى يعرفوا نفاقهم ، واحدها : " ضغن " ، قال ابن عباس : حسدهم .
( ولو نشاء لأريناكهم ) أي لأعلمناكهم وعرفناكهم ( فلعرفتهم بسيماهم ) بعلامتهم ، [ ص: 289 ] قال الزجاج : المعنى : لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة تعرفهم بها .
قال أنس : ما خفي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين ، كان يعرفهم بسيماهم .
( ولتعرفنهم في لحن القول ) في معناه ومقصده .
" واللحن " : وجهان صواب وخطأ ، فالفعل من الصواب : لحن يلحن لحنا فهو لحن إذا فطن للشيء ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " .
والفعل من الخطأ لحن يلحن لحنا فهو لاحن . والأصل فيه : إزالة الكلام عن جهته .
والمعنى : إنك تعرفهم فيما يعرضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم ، فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عرفه بقوله ، ويستدل بفحوى كلامه على فساد دخيلته .
( والله يعلم أعمالكم ) .
( ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ( 31 ) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم ( 32 ) )
( ولنبلونكم ) ولنعاملنكم معاملة المختبر بأن نأمركم بالجهاد والقتال ( حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ) أي : علم الوجود ، يريد : حتى يتبين المجاهد والصابر على دينه من غيره ( ونبلو أخباركم ) أي نظهرها ونكشفها بإباء من يأبى القتال ، ولا يصبر على الجهاد .
وقرأ أبو بكر عن عاصم : " وليبلونكم حتى يعلم " ، ويبلو بالياء فيهن ، لقوله تعالى : [ " والله يعلم أعمالكم " ، وقرأ الآخرون بالنون فيهن ، لقوله تعالى ] " ولو نشاء لأريناكهم " ، وقرأ يعقوب : " ونبلوا " ساكنة الواو ، ردا على قوله : " ولنبلونكم " وقرأ الآخرون بالفتح ردا على قوله : " حتى نعلم " .
( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا ) إنما يضرون أنفسهم ( وسيحبط أعمالهم ) فلا يرون لها ثوابا في الآخرة ، [ ص: 290 ] قال ابن عباس - رضي الله عنه - ما : هم المطعمون يوم بدر ، نظيرها قوله - عز وجل - : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " ( الأنفال - 3636 ) الآية .
( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ( 33 ) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم ( 34 ) فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ( 35 ) إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم ( 36 ) )
( ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ) قال عطاء : بالشك والنفاق ، وقال الكلبي : بالرياء والسمعة . وقال الحسن : بالمعاصي والكبائر .
وقال أبو العالية : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل ، فنزلت هذه الآية فخافوا الكبائر بعده أن تحبط الأعمال .
وقال مقاتل : لا تمنوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتبطلوا أعمالكم ، نزلت في بني أسد ، وسنذكره في سورة الحجرات إن شاء الله تعالى .
( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم ) قيل : هم أصحاب القليب . وحكمها عام .
( فلا تهنوا ) لا تضعفوا ( وتدعوا إلى السلم ) أي لا تدعوا إلى الصلح ابتداء ، منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح ، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا ( وأنتم الأعلون ) الغالبون ، قال الكلبي : آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات ( والله معكم ) بالعون والنصرة ( ولن يتركم أعمالكم ) لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم ، يقال : وتره يتره وترا وترة : إذا نقص حقه ، قال ابن عباس ، وقتادة ، ومقاتل ، والضحاك : لن يظلمكم أعمالكم الصالحة بل يؤتيكم أجورها . ثم حض على طلب الآخرة فقال :
( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ) باطل وغرور ( وإن تؤمنوا وتتقوا ) الفواحش ، [ ص: 291 ] ( يؤتكم أجوركم ) جزاء أعمالكم في الآخرة ( ولا يسألكم ) ربكم ( أموالكم ) لإيتاء الأجر بل يأمركم بالإيمان والطاعة ليثيبكم عليها الجنة ، نظيره قوله : " ما أريد منهم من رزق " ( الذاريات - 57 ) ، وقيل : لا يسألكم محمد أموالكم ، نظيره : " قل ما أسألكم عليه من أجر " ( الفرقان - 57 ) .
وقيل : معنى الآية : لا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلها في الصدقات ، إنما يسألانكم غيضا من فيض ، ربع العشر فطيبوا بها نفسا . وإلى هذا القول ذهب ابن عيينة ، يدل عليه سياق الآية :
( ( إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ( 37 ) ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ( 38 ) )
( إن يسألكموها فيحفكم ) أي يجهدكم ويلحف عليكم بمسألة جميعها ، يقال : أحفى فلان فلانا إذا جهده ، وألحف عليه بالمسألة .
( تبخلوا ) بها فلا تعطوها .
( ويخرج أضغانكم ) بغضكم وعداوتكم ، قال قتادة : علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأضغان . ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله ) يعني إخراج ما فرض الله عليكم ( فمنكم من يبخل ) بما فرض عليه من الزكاة ( ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني ) عن صدقاتكم وطاعتكم ( وأنتم الفقراء ) إليه وإلى ما عنده من الخير . ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) بل يكونوا أمثل منكم وأطوع لله منكم .
قال الكلبي : هم كندة والنخع ، وقال الحسن : هم العجم ، وقال عكرمة : فارس والروم .
أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نصر الكوفاني ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر ، حدثنا إسحاق النجيبي المصري المعروف بابن النحاس ، أخبرنا أبو الطيب الحسن بن محمد الرياش ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا مسلم بن خالد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن [ ص: 292 ] أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية : " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " ، قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ فضرب على فخذ سلمان الفارسي ثم قال : " هذا وقومه ، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس " .
سُورَةُ الْفَتْحِ
مَدَنِيَّةٌ
( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ( 1 ) )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا )
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرْخَسِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّرْخَسِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ، فَقَالَ عُمَرُ : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا عُمَرُ نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُكَ ، قَالَ عُمَرُ : فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ النَّاسِ ، وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ ، فَمَا لَبِثْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ، ثُمَّ قَرَأَ : " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ " .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَفِيدُ الْعَبَّاسِ بْنِ حَمْزَةَ ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَجَلِيُّ ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ : نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا " إِلَى آخَرَ الْآيَةِ ، مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَصْحَابُهُ مُخَالِطُهُمُ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ ، فَقَالَ : " نَزَلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا " ، فَلَمَّا تَلَاهَا نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : هَنِيئًا مَرِيئًا لَكَ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكَ مَا يَفْعَلُ بِكَ ، فَمَاذَا يَفْعَلُ بِنَا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا : " لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ " ، حَتَّى خَتَمَ الْآيَةَ . [ ص: 296 ] اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْفَتْحِ : رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ : أَنَّهُ فَتْحُ مَكَّةَ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ : فَتْحُ خَيْبَرَ .
وَالْأَكْثَرُون َ عَلَى أَنَّهُ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ .
وَمَعْنَى الْفَتْحِ فَتْحُ الْمُنْغَلِقِ ، وَالصُّلْحُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْحُدَيْبِيَ ةِ كَانَ مُتَعَذِّرًا حَتَّى فَتَحَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - . وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ : " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا " ، قَالَ : الْحُدَيْبِيَةُ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى ، عَنْ إِسْرَائِيلَ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ : تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا ، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ ، يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ عَشَرَةَ مِائَةٍ ، وَالْحُدَيْبِيَ ةُ بِئْرٌ ، فَنَزَحْنَاهَا فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَاهَا فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهَا ، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَدَعَا ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا فَتَرَكْنَاهَا غَيْرَ بَعِيدٍ ، ثُمَّ إِنَّهَا أَصْدَرَتْنَا مَا شِئْنَا نَحْنُ وَرِكَابُنَا .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ فِي قَوْلِهِ : " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا " ، قَالَ : فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ ، غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، وَأُطْعِمُوا نَخْلَ خَيْبَرَ ، وَبَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسٍ ، فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِظُهُورِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمَجُوسِ .
قَالَ الزَّهْرِيُّ : لَمْ يَكُنْ فَتْحٌ أَعْظَمَ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اخْتَلَطُوا بِالْمُسْلِمِين َ فَسَمِعُوا كَلَامَهُمْ فَتَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ فِي قُلُوبِهِمْ ، أَسْلَمَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ ، وَكَثُرَ بِهِمْ سَوَادُ الْإِسْلَامِ .
قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا " ، أَيْ قَضَيْنَا لَكَ قَضَاءً بَيِّنًا . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : إِنَّا [ ص: 297 ] فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا بِغَيْرِ قِتَالٍ ، وَكَانَ الصُّلْحُ مِنَ الْفَتْحِ .
( ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ( 2 ) )
قيل : اللام في قوله : ( ليغفر ) لام كي ، معناه : إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح .
وقال الحسين بن الفضل : هو مردود إلى قوله : " واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات " ( محمد - 19 ) " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " و " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات " الآية .
وقال محمد بن جرير : هو راجع إلى قوله : " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره " ( النصر : 1 - 3 ) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك في الجاهلية قبل الرسالة ، وما تأخر إلى وقت نزول هذه السورة .
وقيل : ( وما تأخر ) مما يكون ، وهذا على طريقة من يجوز الصغائر على الأنبياء . [ ص: 298 ]
وقال سفيان الثوري : ) ما تقدم ( مما عملت في الجاهلية ) وما تأخر ( كل شيء لم تعمله ، ويذكر مثل ذلك على طريق التأكيد ، كما يقال : أعطى من رآه ومن لم يره ، وضرب من لقيه ومن لم يلقه .
وقال عطاء الخراساني : ) ما تقدم من ذنبك ( يعني ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك ) وما تأخر ( ذنوب أمتك بدعوتك .
) ويتم نعمته عليك ( بالنبوة والحكمة ) ويهديك صراطا مستقيما ( أي يثبتك عليه ، والمعنى ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى الصراط المستقيم وهو الإسلام . وقيل : ويهديك أي يهدي بك .
( ( وينصرك الله نصرا عزيزا ( 3 ) هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ( 4 ) )
( وينصرك الله نصرا عزيزا ) غالبا . وقيل : معزا .
( هو الذي أنزل السكينة ) الطمأنينة والوقار ( في قلوب المؤمنين ) لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم . قال ابن عباس : كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة ( ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) .
قال ابن عباس : بعث الله رسوله بشهادة أن لا إله إلا الله ، فلما صدقوه زادهم الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام ثم الحج ثم الجهاد ، حتى أكمل لهم دينهم ، فكلما أمروا بشيء فصدقوه ازدادوا تصديقا إلى تصديقهم .
وقال الضحاك : يقينا مع يقينهم .
قال الكلبي : هذا في أمر الحديبية حين صدق الله رسوله الرؤيا بالحق .
( ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ) .
ابو وليد البحيرى
2022-10-15, 11:51 PM
الحلقة (378)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْفَتْحِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية5 إلى الاية20
[ ص: 299 ] ) ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ( 5 ) ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ( 6 ) ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما ( 7 ) إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ( 8 ) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا ( 9 ) إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ( 10 ) (
) ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ) وقد ذكرنا عن أنس أن الصحابة قالوا لما نزل " ليغفر لك الله " : هنيئا مريئا فما يفعل بنا فنزل : " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات " الآية .
) ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ) أهل النفاق بالمدينة وأهل الشرك بمكة ) الظانين بالله ظن السوء ) أن لن ينصر محمدا والمؤمنين ) عليهم دائرة السوء ) بالعذاب والهلاك ) وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ) .
) ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ( 8 ( لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه ) أي تعينوه وتنصروه ) وتوقروه ) تعظموه وتفخموه ، هذه الكنايات راجعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهاهنا وقف ) وتسبحوه ) أي تسبحوا الله يريد تصلوا له ) بكرة وأصيلا ) بالغداة والعشي ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : " ليؤمنوا ، ويعزروه ، ويوقروه ، ويسبحوه " بالياء فيهن لقوله : في " قلوب المؤمنين " ، وقرأ الآخرون بالتاء فيهن .
) إن الذين يبايعونك ) يا محمد بالحديبية على أن لا يفروا ) إنما يبايعون الله ) لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا حاتم بن إسماعيل ، عن يزيد بن أبي عبيد قال : قلت [ ص: 300 ] لسلمة بن الأكوع : على أي شيء بايعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية ؟ قال : على الموت .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، عن مسلم بن الحجاج ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن خالد ، عن الحكم بن عبد الله بن الأعرج ، عن معقل بن يسار ، قال : لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يبايع الناس ، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه ، ونحن أربع عشرة مائة ، قال : لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر .
قال أبو عيسى : معنى الحديثين صحيح بايعه جماعة على الموت ، أي لا نزال نقاتل بين يديك ما لم نقتل ، وبايعه آخرون ، وقالوا : لا نفر .
) يد الله فوق أيديهم ) قال ابن عباس - رضي الله عنه - ما : يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم .
وقال السدي : كانوا يأخذون بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبايعونه ، ويد الله فوق أيديهم في المبايعة .
قال الكلبي : نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة .
) فمن نكث ) نقض البيعة ) فإنما ينكث على نفسه ) عليه وباله ) ومن أوفى بما عاهد عليه الله ) ثبت على البيعة ) فسيؤتيه ) قرأ أهل العراق " فسيؤتيه " بالياء ، وقرأ الآخرون بالنون ) أجرا عظيما ) وهو الجنة .
( سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا ( 11 )
( سيقول لك المخلفون من الأعراب ) قال ابن عباس ، ومجاهد : يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة ، وأشجع وأسلم ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت ، فأحرم بالعمرة وساق معه الهدي ليعلم الناس أنه لا يريد حربا ، [ ص: 301 ] فتثاقل عنه كثير من الأعراب وتخلفوا واعتلوا بالشغل ، فأنزل الله تعالى فيهم : " سيقول لك المخلفون من الأعراب " يعني الذين خلفهم الله - عز وجل - عن صحبتك ، إذا انصرفت إليهم فعاتبهم على التخلف .
) شغلتنا أموالنا وأهلونا ) يعني النساء والذراري ، أي لم يكن لنا من يخلفنا فيهم ) فاستغفر لنا ) تخلفنا عنك ، فكذبهم الله - عز وجل - في اعتذارهم ، فقال :
) يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ) من أمر الاستغفار ، فإنهم لا يبالون استغفر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لا .
) قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا ) [ سوءا ] ) أو أراد بكم نفعا ) قرأ حمزة والكسائي : " ضرا " بضم الضاد ، وقرأ الآخرون بفتحها لأنه قابله بالنفع والنفع ضد الضر ، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدفع عنهم الضر ، ويعجل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم ، فأخبرهم أنه : إن أراد بهم شيئا من ذلك لم يقدر أحد على دفعه . ) بل كان الله بما تعملون خبيرا ) .
( بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا ( 12 ( ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا ( 13 ( ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما ( 14 )
( بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا ) أي ظننتم أن العدو يستأصلهم فلا يرجعون ) وزين ذلك في قلوبكم ) زين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم ) وظننتم ظن السوء ) وذلك أنهم قالوا : إن محمدا وأصحابه أكلة رأس ، فلا يرجعون ، فأين تذهبون معه ، انتظروا ما يكون من أمرهم . ) وكنتم قوما بورا ) هلكى لا تصلحون لخير .
ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا ( 13 ( للكافرين سعيرا ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما
( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا ( 15 ( قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما ( 16 ) [ ص: 302 ]
( سيقول المخلفون ) يعني هؤلاء الذين تخلفوا عن الحديبية ( إذا انطلقتم ) سرتم وذهبتم [ أيها المؤمنون ] ( إلى مغانم لتأخذوها ) يعني غنائم خيبر ( ذرونا نتبعكم ) إلى خيبر لنشهد معكم قتال أهلها ، وذلك أنهم لما انصرفوا من الحديبية وعدهم الله فتح خيبر وجعل غنائمها لمن شهد الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة إذ انصرفوا عنهم على صلح ولم يصيبوا منهم شيئا .
قال الله تعالى : ( يريدون أن يبدلوا كلام الله ) قرأ حمزة والكسائي : " كلم الله " بغير ألف جمع كلمة ، وقرأ الآخرون : " كلام الله " ، يريدون أن يغيروا مواعيد الله تعالى لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصة .
وقال مقاتل : يعني أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن لا يسير منهم أحد .
وقال ابن زيد : هو قول الله - عز وجل - : " فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا " ( التوبة - 83 ) ، والأول أصوب ، وعليه عامة أهل التأويل .
) قل لن تتبعونا ) إلى خيبر ) كذلكم قال الله من قبل ) أي من قبل مرجعنا إليكم أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب ) فسيقولون بل تحسدوننا ) أي يمنعكم الحسد من أن نصيب معكم الغنائم ) بل كانوا لا يفقهون ) لا يعلمون عن الله ما لهم وعليهم من الدين ) إلا قليلا ) منهم وهو من صدق الله والرسول .
) قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، [ ص: 303 ] [ وعطاء ] : هم أهل فارس . وقال كعب : هم الروم ، وقال الحسن : فارس والروم . وقال سعيد بن جبير : هوازن وثقيف . وقال قتادة : هوازن وغطفان يوم حنين . وقال الزهري ، ومقاتل ، وجماعة : هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب . .
قال رافع بن خديج : كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة ، فعلمنا أنهم هم .
وقال ابن جريج : دعاهم عمر - رضي الله عنه - إلى قتال فارس .
وقال أبو هريرة : لم تأت هذه الآية بعد .
) تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا ) يعني الجنة ) وإن تتولوا ) [ تعرضوا ] ) كما توليتم من قبل ) عام الحديبية ) يعذبكم عذابا أليما ) وهو النار ، فلما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة : كيف بنا يا رسول الله ؟ .
( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما ( 17 )
فأنزل الله تعالى : ( ليس على الأعمى حرج ) [ يعني في التخلف عن الجهاد ] ) ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما ) [ ص: 304 ] قرأ أهل المدينة والشام " ندخله " و " نعذبه " بالنون فيهما ، وقرأ الآخرون بالياء لقوله : ) ومن يطع الله ) .
( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ( 18 )
( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك ) بالحديبية على أن يناجزوا قريشا ولا يفروا ) تحت الشجرة ) وكانت سمرة ، قال سعيد بن المسيب : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة ، قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها .
وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة ، فقال : أين كانت ؟ فجعل بعضهم يقول : هاهنا ، وبعضهم : هاهنا ، فلما كثر اختلافهم قال : سيروا ، قد ذهبت الشجرة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان قال عمرو : سمعت جابر بن عبد الله قال : قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية : " أنتم خير أهل الأرض " ، وكنا ألفا وأربعمائة ، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، عن مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن حاتم ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يسأل : كم كانوا يوم الحديبية ؟ قال : كنا أربع عشرة مائة فبايعناه ، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة ، وهي سمرة ، فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره .
وروى سالم عن جابر قال : كنا خمس عشرة مائة . [ ص: 305 ]
وقال عبد الله بن أبي أوفى : كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة ، وكانت أسلم ثمن المهاجرين .
وكان سبب هذه البيعة - على ما ذكره محمد بن إسحاق عن أهل العلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا خراش بن أبي أمية الخزاعي حين نزل الحديبية ، فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على جمل له ، يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا به جمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا قتله فمنعته الأحابيش ، فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ، فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ، ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني : عثمان بن عفان ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته ، فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعد بن العاص حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها ، فنزل عن دابته وحمله بين يديه ، ثم أردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال عظماء قريش لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به ، قال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين أن عثمان قد قتل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا نبرح حتى نناجز القوم " ، ودعا الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة .
وكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت ، قال بكر بن الأشج : بايعوه على الموت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بل على ما استطعتم " .
وقال جابر بن عبد الله ومعقل بن يسار : لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر ، فكان أول من بايع بيعة الرضوان من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا جد بن قيس أخو بني سلمة ، قال جابر : لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته مستترا بها من الناس ، ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا علي بن أحمد بن نضرويه ، حدثنا أبو عمران موسى بن سهل بن عبد الحميد الجوني ، حدثنا [ ص: 306 ] محمد بن رمح ، حدثنا الليث بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة " .
قوله - عز وجل - : ( فعلم ما في قلوبهم ) من الصدق والوفاء ( فأنزل السكينة ) الطمأنينة والرضا ( عليهم وأثابهم فتحا قريبا ) يعني فتح خيبر .
( ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما ( 19 ) وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما ( 20 ) )
( ( ومغانم كثيرة يأخذونها ) من أموال يهود خيبر ، وكانت خيبر ذات عقار وأموال ، فاقتسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم ( وكان الله عزيزا حكيما ) .
( وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها ) وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة ( فعجل لكم هذه ) يعني خيبر ( وكف أيدي الناس عنكم ) وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قصد خيبر وحاصر أهلها همت قبائل من بني أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة ، فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم ، وقيل : كف أيدي الناس عنكم يعني أهل مكة بالصلح ( ولتكون ) كفهم وسلامتكم ( آية للمؤمنين ) على صدقك ويعلموا أن الله هو المتولي حياطتهم وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم ( ويهديكم صراطا مستقيما ) يثبتكم على الإسلام ويزيدكم بصيرة ويقينا بصلح الحديبية ، وفتح خيبر وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم ثم خرج في بقية المحرم سنة سبع إلى خيبر .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن حميد ، عن أنس بن مالك [ ص: 307 ] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : كان إذا غزا بنا قوما لم يكن يغير بنا حتى يصبح وينظر ، فإن سمع أذانا كف عنهم ، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم قال : فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلا فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال : فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم ، فلما رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : محمد - والله - محمد والخميس ، فلما رآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الله أكبر ، الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، أخبرنا أبو علي الحنفي عبيد الله بن عبد المجيد ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا إياس بن سلمة ، حدثني أبي قال : . . . خرجنا إلى خيبر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم :
تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ونحن عن فضلك ما استغنينا
فثبت الأقدام إن لاقينا [ وأنزلن سكينة علينا
]
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من هذا ؟ " فقال : أنا عامر ، قال : " غفر لك ربك " ، قال : وما استغفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإنسان يخصه إلا استشهد ، قال : فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له : يا نبي الله لولا متعتنا بعامر ، قال : فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول :
قد علمت [ خيبر ] أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
قال : وبرز له عمي عامر ، فقال :
قد علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مغامر
قال : فاختلفا ضربتين ، فوقع سيف مرحب في ترس عامر وذهب عامر يسفل له ، فرجع سيفه [ على نفسه ] فقطع أكحله ، وكانت فيها نفسه . قال سلمة : فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون : بطل عمل عامر قتل نفسه ، قال : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي ، فقلت : يا رسول [ ص: 308 ] الله بطل عمل عامر قتل نفسه ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قال ذلك " ؟ قلت : ناس من أصحابك ، قال : " كذب من قال ذلك ، بل له أجره مرتين " ، ثم أرسلني إلى علي - رضي الله عنه - - وهو أرمد - فقال : لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، قال : فأتيت عليا - رضي الله عنه - فجئت به أقوده وهو أرمد ، حتى أتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبصق في عينيه فبرأ ، وأعطاه الراية ، وخرج مرحب فقال :
قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فقال علي - رضي الله عنه - :
أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات [ كريه المنظره ]
أوفيهم بالصاع كيل السندره
ابو وليد البحيرى
2022-10-15, 11:56 PM
الحلقة (379)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْفَتْحِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية21 إلى الاية25
قال : فضرب رأس مرحب فقتله ، ثم كان الفتح على يديه .
وروى حديث خيبر جماعة : سهل بن سعد ، وأنس ، وأبو هريرة ، يزيدون وينقصون ، وفيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس ، فأخذ أبو بكر - رضي الله عنه - راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم نهض فقاتل قتالا شديدا ، ثم رجع فأخذها عمر - رضي الله عنه - فقاتل قتالا شديدا ، هو أشد من القتال الأول ، ثم رجع ، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال : " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه " ، فدعا علي بن أبي طالب فأعطاه إياها وقال : " امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك " ، فأتى مدينة خيبر ، فخرج مرحب ، صاحب الحصن ، وعليه مغفر وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه ، وهو يرتجز ، فبرز إليه علي فضربه فقد الحجر والمغفر وفلق رأسه حتى أخذ السيف في الأضراس ، ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر ، يرتجز فخرج إليه الزبير بن العوام ، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب : أيقتل ابني يا رسول الله ؟ قال : " بل ابنك يقتله إن شاء الله " ، ثم التقيا فقتله الزبير ، ثم لم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتح الحصون ، ويقتل المقاتلة ويسبي الذرية ، ويحوز الأموال .
قال محمد بن إسحاق : وكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم ، وعنده قتل محمود بن سلمة ، [ ص: 309 ] ألقت عليه اليهود حجرا فقتله ، ثم فتح العموص ، حصن ابن أبي الحقيق ، فأصاب منها سبايا ، منهم صفية بنت حيي بن أخطب ، جاء بلال بها وبأخرى معها ، فمر بهما على قتلى من قتلى يهود ، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها ، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أعزبوا عني هذه الشيطانة " ، وأمر بصفية فحيزت خلفه ، وألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اصطفاها لنفسه ، وقال رسول الله لبلال ، لما رأى من تلك اليهودية ما رأى : " أنزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمر بامرأتين على قتلى رجالهما " ، وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمرا وقع في حجرها ، فعرضت رؤياها على زوجها ، فقال : ما هذا إلا أنك تتمنين ملك الحجاز محمدا ، فلطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها ، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها وبها أثر منها فسألها ما هو ؟ فأخبرته هذا الخبر ، وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزوجها كنانة بن الربيع ، وكان عنده كنز بني النضير فسأله ، فجحده أن يكون يعلم مكانه ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل من اليهود فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني قد رأيت كنانة يطوف بهذه الخربة كل غداة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكنانة : أرأيت إن وجدناه عندك أنقتلك ؟ قال : نعم ؟ فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخربة فحفرت ، فأخرج منها بعض كنزهم ، ثم سأله ما بقي فأبى أن يؤديه ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزبير بن العوام فقال : عذبه حتى تستأصل ما عنده ، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه ، ثم دفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر ، فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس ، فركب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، وركب أبو طلحة ، وأنا رديف أبي طلحة ، فأجرى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما دخل القرية قال : " الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " ، قالها ثلاثا ، وخرج القوم إلى أعمالهم ، فقالوا : محمد قال عبد العزيز ، وقال بعض أصحابنا : والخميس يعني : الجيش قال : فأصبناها عنوة ، فجمع السبي فجاء دحية فقال : يا نبي الله [ أعطني جارية من السبي ، قال : اذهب فخذ جارية فأخذ صفية بنت حيي ، فجاء رجل إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا نبي الله ] أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير ، لا تصلح إلا لك ، قال : " ادعوه بها " ، فجاء بها ، فلما نظر إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خذ جارية من السبي غيرها " ، قال : فأعتقها النبي - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها ، [ ص: 310 ] فقال له ثابت : يا أبا حمزة ما أصدقها ؟ قال : نفسها ، أعتقها وتزوجها ، حتى إذا كان بالطريق جهزتها له أم سليم ، فأهدتها له من الليل ، فأصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - عروسا ، فقال : من كان عنده شيء فليجئ به ، وبسط نطعا فجعل الرجل يجيء بالتمر وجعل الآخر يجيء بالسمن ، قال : وأحسبه قد ذكر السويق ، قال : فحاسوا حيسا فكانت وليمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا عبد الواحد الشيباني قال : سمعت ابن أبي أوفى يقول : أصابتنا مجاعة ليالي خيبر ، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها ، فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اكفئوا القدور ولا تطعموا من لحوم الحمر شيئا ، قال عبد الله : فقلنا إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها لم تخمس ، وقال آخرون : حرمها البتة وسألت سعيد بن جبير فقال : حرمها البتة .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي ، أخبرنا خالد بن الحارث ، حدثنا شعبة ، عن هشام بن زيد ، عن أنس أن امرأة يهودية أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومة ، فأكل منها ، فجيء بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسألها عن ذلك ، فقالت : أردت لأقتلك ، قال : " ما كان الله ليسلطك على ذلك ، أو قال : علي " ، قال : قالوا ألا نقتلها ؟ قال : لا . قال : فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقال محمد بن إسماعيل : قال يونس ، عن الزهري قال عروة ، قالت عائشة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه الذي مات فيه : " يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر ، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن بشار ، أخبرنا حرمي ، أخبرنا شعبة قال : أخبرني عمارة ، عن عكرمة ، [ ص: 311 ] عن عائشة قالت : لما فتحت خيبر قلنا : الآن نشبع من التمر .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أحمد بن المقدام ، حدثنا فضيل بن سليمان ، حدثنا موسى بن عقبة ، أخبرني نافع ، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ظهر على أهل خيبر أراد أن يخرج اليهود منها ، وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين ، فسأل اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتركهم على أن يكفوا العمل ولهم نصف الثمر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نقركم على ذلك ما شئنا " . فأقروا حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحاء .
قال محمد بن إسحاق : فلما سمع أهل فدك بما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر بعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه أن يسيرهم ويحقن لهم دماءهم ، ويخلوا له الأموال ، ففعل . ثم إن أهل خيبر سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعاملهم الأموال على النصف ، ففعل على أنا إذا شئنا أخرجناكم ، فصالحه أهل فدك على مثل ذلك ، فكانت خيبر للمسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب .
فلما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية ، وقد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقيل لها : الذراع ، فأكثرت فيها السم ، وسممت سائر الشاة ، ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، تناول الذراع فأخذها فلاك منها مضغة فلم يسغها ، ومعه بشر بن البراء بن معرور ، وقد أخذ منها كما أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأما بشر فأساغها ، وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلفظها ، ثم قال : " إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم " ، ثم دعا بها فاعترفت ، فقال : " ما حملك على ذلك ؟ " قالت : بلغت من قومي ما لم يخف عليك ، فقلت : إن كان ملكا استرحت منه ، وإن كان نبيا فسيخبر ، فتجاوز عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل .
قال : ودخلت أم بشر بن البراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعوده في مرضه الذي توفي فيه ، فقال : [ ص: 312 ] " يا أم بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت بخيبر مع ابنك تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري " ، وكان المسلمون يرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات شهيدا مع ما أكرمه الله من النبوة .
( وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا ( 21 ) ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا ( 22 ) سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ( 23 ) وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا ( 24 ) )
قوله - عز وجل - : ( وأخرى لم تقدروا عليها ) أي وعدكم الله فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها ( قد أحاط الله بها ) حتى يفتحها لكم كأنه حفظها لكم ومنعها من غيركم حتى تأخذوها ، قال ابن عباس : علم الله أنه يفتحها لكم .
واختلفوا فيها ، فقال ابن عباس ، والحسن ومقاتل : هي فارس والروم ، وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم ، بل كانوا خولا لهم حتى قدروا عليها بالإسلام .
وقال الضحاك وابن زيد : هي خيبر ، وعدها الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يصيبها ، ولم يكونوا يرجونها .
وقال قتادة : هي مكة . وقال عكرمة : حنين . وقال مجاهد : ما فتحوا حتى اليوم .
( وكان الله على كل شيء قديرا ) .
( ولو قاتلكم الذين كفروا ) يعني : أسدا ، وغطفان ، وأهل خيبر ، ( لولوا الأدبار ) [ لانهزموا ] ( ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا ) .
( سنة الله التي قد خلت من قبل ) أي كسنة الله في نصر أوليائه وقهر أعدائه ( ولن تجد لسنة الله تبديلا ) .
قوله - عز وجل - : ( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا ) قرأ أبو عمرو بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء ، واختلفوا في هؤلاء : [ ص: 313 ]
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عمرو بن محمد الناقد ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك رضي الله عنهم : أن ثمانين رجلا من أهل مكة ، هبطوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جبل التنعيم متسلحين يريدون غدر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، فأخذهم سلما فاستحياهم ، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية : " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم " .
قال عبد الله بن مغفل المزني : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن ، وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره ، وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح ، فخرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا ، فدعا عليهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " جئتم في عهد ؟ أو هل جعل لكم أحد أمانا ؟ " فقالوا : اللهم لا فخلى سبيلهم ، [ فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية ] .
( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ( 25 ) )
قوله - عز وجل - : ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام ) الآية . روى الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه ، يريدون زيارة البيت ، لا يريد قتالا وساق معه سبعين بدنة ، والناس سبعمائة رجل ، وكانت كل بدنة عن عشرة نفر ، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة ، وبعث عينا له من خزاعة يخبره عن قريش ، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان ، أتاه عينة الخزاعي وقال : إن قريشا قد جمعوا لك جموعا ، وقد جمعوا لك الأحابيش ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أشيروا علي أيها الناس ، أترون [ ص: 314 ] أن أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم ؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين ، وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله ؟ أو ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ " .
فقال أبو بكر : يا رسول الله إنما خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حربا ، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه .
فقال : " امضوا على اسم الله " ، فنفروا ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة ، فخذوا ذات اليمين " ، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش ، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته ، فقال الناس : حل حل ، فألحت ، فقالوا : " خلأت القصواء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " ، ثم قال : " والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياه ، ثم زجرها فوثبت .
قال : فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، وشكا الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العطش ، فنزع سهما من كنانته وأعطاه رجلا من أصحابه يقال له ناجية بن عمير ، وهو سائق بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فنزل في البئر فغرزه في جوفه ، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه ، فبينما هم كذلك إذ جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت .
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكنا جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس ، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره " .
فقال بديل : سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشا ، قال : إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل ، وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا ، قال : فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء ، وقال ذو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول .
قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فحدثهم بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - . فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال : أي قوم ألستم بالوالد ؟ قالوا : بلى ، قال : أولست بالولد ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل تتهموني ؟ قالوا : [ ص: 315 ] لا قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى ، قال : فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته ، قالوا : ائته . فأتاه فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوا من قوله لبديل . فقال عروة عند ذلك : يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى ، فإني والله لأرى وجوها وأشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك .
فقال له أبو بكر الصديق : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ .
فقال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر ، فقال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك .
قال : وجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب يده بنعل السيف ، وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فرفع عروة رأسه فقال : من هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة ، فقال : أي غدر ألست أسعى في غدرتك .
وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء " .
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فوالله - ما تنخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له ، فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظرة تعظيما له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها .
فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته ، فقالوا : ائته ، فلما أشرف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، [ ص: 316 ] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوها له " ، فبعثت له واستقبله الناس يلبون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ؟
فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، فما أرى أن يصدوا عن البيت .
ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه ، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس ، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعظاما لما رأى فقال : يا معشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل ، صد الهدي في قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، فقالوا له : اجلس إنما أنت رجل أعرابي لا علم لك ، فغضب الحليس عند ذلك ، فقال : يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم ، أن تصدوا عن بيت الله من جاءه معظما له ، والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد ، فقالوا له : مه ، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به .
فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته ، فقالوا : ائته ، فلما أشرف عليهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا مكرز وهو رجل فاجر ، فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو ، وقال عكرمة : فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قد سهل لكم من أمركم .
قال الزهري في حديثه : فجاء سهيل بن عمرو ، فقال : هات نكتب بيننا وبينكم كتابا ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال له : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم .
فقال سهيل : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب باسمك اللهم ، كما كنت تكتب .
فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم .
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي : " اكتب باسمك اللهم ، ثم قال : اكتب : هذا ما قضى عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .
فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب يا علي : محمد بن عبد الله . [ ص: 317 ]
قال الزهري : وذلك لقوله : لا يسألون خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ، فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو ، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : وعلى أن تخلوا بيننا وبين البيت ، فنطوف به ، فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب إنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل ، فكتب ، فقال سهيل : وعلى أنه لا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا ، فقال المسلمون : سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟
وروى أبو إسحاق عن البراء قصة الصلح وفيه قالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا ولكن أنت محمد بن عبد الله ، قال : أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ، ثم قال لعلي - رضي الله عنه - : امح رسول الله ، قال : لا والله لا أمحوك أبدا ، قال : " فأرنيه " ، فأراه إياه ، فمحاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده ، وفي روايته : فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب وليس يحسن أن يكتب ، فكتب : هذا ما قضى محمد بن عبد الله .
ابو وليد البحيرى
2022-10-16, 12:00 AM
الحلقة (380)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْفَتْحِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية26 إلى الاية29
قال البراء : صالح على ثلاثة أشياء : على أن من أتاه من المشركين رده إليهم ، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه ، وعلى أن يدخلها من قابل ، ويقيم بها ثلاثة أيام ، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف والقوس ونحوه .
وروى ثابت عن أنس : أن قريشا صالحوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشترطوا : أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه علينا ، فقالوا : يا رسول الله أنكتب هذا ؟ قال : " نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا " .
رجعنا إلى حديث الزهري قال : فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، يرسف في قيوده قد انفلت وخرج من أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي ، فقال النبي : إنا لم نقض الكتاب بعد ، قال : فوالله إذن لا أصالحك على شيء أبدا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فأجره لي ، فقال : فما أنا بمجيره لك ، قال : بلى فافعل ، قال : ما أنا بفاعل ، ثم جعل سهيل يجره ليرده إلى قريش ، قال أبو جندل : أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما لقيت ؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله .
وفي الحديث : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أبا جندل احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم عقدا وصلحا ، وإنا لا نغدر ، فوثب عمر يمشي إلى جنب أبي جندل ، ويقول : اصبر فإنما هم المشركون ودم أحدهم كدم كلب ، ويدني قائم السيف منه ، قال عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه فضن الرجل بأبيه . [ ص: 318 ]
وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرجوا وهم لا يشكون في الفتح ، لرؤيا رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رأوا ذلك دخل الناس أمر عظيم حتى كادوا يهلكون ، وزادهم أمر أبي جندل شرا إلى ما بهم .
قال عمر : [ والله ] ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ .
قال الزهري في حديثه عن عروة عن [ مروان ] والمسور ، ورواه أبو وائل عن سهل بن حنيف قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت : ألست نبي الله حقا ؟ قال : بلى ، قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن ؟ قال : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري ، قلت : أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى ، أفأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ قلت : لا قال : فإنك آتيه ومطوف به ، قال : فأتيت أبا بكر ، فقلت : يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال : بلى . قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . قلت : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن ؟ قال : أيها الرجل إنه رسول الله ليس يعصي ربه وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق ، قلت : أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى ، أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا قال : فإنك آتيه ومطوف به .
قال الزهري : قال عمر : فعملت لذلك أعمالا .
قال : فلما فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : قوموا فانحروا ، ثم احلقوا ، قال : فوالله ما قام رجل منهم ، حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة : يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم أن يقتل بعضا غما .
قال ابن عمر وابن عباس : حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يرحم الله المحلقين ، قالوا : والمقصرين ؟ قال : يرحم الله المحلقين ، قالوا : يا رسول الله والمقصرين ؟ قال : [ ص: 319 ] والمقصرين ، قالوا : يا رسول الله فلم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين ؟ قال : لأنهم لم يشكوا . قال ابن عمر : وذلك لأنه تربص قوم وقالوا لعلنا نطوف بالبيت .
قال ابن عباس : وأهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ المشركين بذلك .
وقال الزهري في حديثه : ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى " ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات " ، حتى بلغ " بعصم الكوافر " ( الممتحنة - 10 ) ، فطلق عمر - رضي الله عنه - يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية ، قال : فنهاهم أن يردوا النساء وأمر برد الصداق .
قال : ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، فجاءه أبو بصير عتبة بن أسيد ، رجل من قريش وهو مسلم ، وكان ممن حبس بمكة فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعثا في طلبه رجلا من بني عامر بن لؤي ، ومعه مولى لهم ، فقدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقالا العهد الذي جعلت لنا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصح في ديننا الغدر ، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، ثم دفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا جيدا ، فاستله الآخر ، فقال : أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت به ، فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه ، فأخذه وعلاه به فضربه حتى برد ، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآه : لقد رأى هذا ذعرا ، فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ويلك ما لك ؟ قال : قتل والله صاحبي وإني لمقتول ، فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف حتى وقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا نبي الله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ويل أمه مسعر حرب ، لو كان معه أحد ، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر ، وبلغ المسلمين الذين كانوا حبسوا بمكة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بصير : ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد ، فخرج عصابة منهم إليه ، وانفلت أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير ، حتى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلا فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن ، فأرسل إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقدموا عليه بالمدينة ، فأنزل الله تعالى : " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا " حتى بلغ " حمية الجاهلية " ، [ ص: 320 ] وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينه وبين البيت .
قال الله - عز وجل - : ( هم الذين كفروا ) يعني كفار مكة ( وصدوكم عن المسجد الحرام ) أن تطوفوا به ( والهدي ) أي : وصدوا الهدي ، وهي البدن التي ساقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت سبعين بدنة ( معكوفا ) محبوسا ، يقال : عكفته عكفا إذا حبسته وعكوفا لازم ، كما يقال : رجع رجعا ورجوعا ( أن يبلغ محله ) منحره وحيث يحل نحره يعني الحرم ( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ) يعني المستضعفين بمكة ( لم تعلموهم ) لم تعرفوهم ( أن تطئوهم ) بالقتل وتوقعوا بهم ( فتصيبكم منهم معرة بغير علم ) قال ابن زيد : معرة إثم . وقال ابن إسحاق : غرم الدية .
وقيل : الكفارة لأن الله - عز وجل - أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدية ، فقال : " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " ( النساء - 92 ) .
وقيل : هو أن المشركين يعيبونكم ويقولون قتلوا أهل دينهم ، والمعرة : المشقة ، يقول : لولا أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم فيلزمكم بهم كفارة أو يلحقكم سبة . وجواب لولا محذوف ، تقديره : لأذن لكم في دخولها ولكنه حال بينكم وبين ذلك .
( ليدخل الله في رحمته من يشاء ) فاللام في " ليدخل " متعلق بمحذوف دل عليه معنى الكلام ، يعني : حال بينكم وبين ذلك ليدخل الله في رحمته في دين الإسلام من يشاء من أهل مكة بعد الصلح قبل أن تدخلوها ( لو تزيلوا ) لو تميزوا يعني المؤمنين من الكفار ( لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) بالسبي والقتل بأيديكم . [ ص: 321 ]
وقال بعض أهل العلم : " لعذبنا " جواب لكلامين أحدهما : " لولا رجال " ، والثاني : " لو تزيلوا " ، ثم قال : ( ليدخل الله في رحمته من يشاء ) يعني المؤمنين والمؤمنات .
( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما ( 26 ) )
( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية ) حين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن البيت ، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وأنكروا محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والحمية : الأنفة ، يقال : فلان ذو حمية إذا كان ذا غضب وأنفة .
قال مقاتل : قال أهل مكة : قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا ، [ فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا ] على رغم أنفنا ، واللات والعزى لا يدخلونها علينا ، فهذه " حمية الجاهلية " ، التي دخلت قلوبهم .
( فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) حتى لم يدخلهم ما دخلهم من الحمية فيعصوا الله في قتالهم ( وألزمهم كلمة التقوى ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعكرمة ، والسدي ، وابن زيد ، وأكثر المفسرين : كلمة التقوى " لا إله إلا الله " .
وروي عن أبي بن كعب مرفوعا .
وقال علي وابن عمر : " كلمة التقوى " لا إله إلا الله والله أكبر .
وقال عطاء بن أبي رباح : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . [ ص: 322 ]
وقال عطاء الخراساني : هي لا إله إلا الله محمد رسول الله .
وقال الزهري : هي بسم الله الرحمن الرحيم .
( وكانوا أحق بها ) من كفار مكة ( وأهلها ) أي وكانوا أهلها في علم الله ، لأن الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه أهل الخير ( وكان الله بكل شيء عليما ) .
( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ( 27 ) )
( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أري في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين ، ويحلقون رءوسهم ويقصرون ، فأخبر بذلك أصحابه ، ففرحوا وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك ، فلما انصرفوا ولم يدخلوا شق عليهم ، فأنزل الله هذه الآية .
وروي عن مجمع بن جارية الأنصاري : قال شهدنا الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، [ فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر ، فقال بعضهم : ما بال الناس ؟ فقالوا : أوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فخرجنا نوجف ، فوجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ] واقفا على راحلته عند كراع الغميم ، فلما اجتمع إليه الناس قرأ : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " ، فقال عمر : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : " نعم والذي نفسي بيده " .
ففيه دليل على أن المراد بالفتح صلح الحديبية ، وتحقق الرؤيا كان في العام المقبل ، فقال جل ذكره :
" لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق " ، أخبر أن الرؤية التي أراه إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام صدق وحق . [ ص: 323 ]
قوله : ( لتدخلن ) يعني وقال : لتدخلن . وقال ابن كيسان : " لتدخلن " من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حكاية عن رؤياه ، فأخبر الله عن رسوله أنه قال ذلك ، وإنما استثنى مع علمه بدخولها بإخبار الله تعالى ، تأدبا بآداب الله ، حيث قال له : " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " ( الكهف - 23 ) .
وقال أبو عبيدة : " إن " بمعنى إذ ، مجازه : إذ شاء الله ، كقوله : " إن كنتم مؤمنين " .
وقال الحسين بن الفضل : يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول ، لأن بين الرؤيا وتصديقها سنة ، ومات في تلك السنة ناس فمجاز الآية : لتدخلن المسجد الحرام كلكم إن شاء الله .
وقيل الاستثناء واقع على الأمن لا على الدخول ، لأن الدخول لم يكن فيه شك ، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عند دخول المقبرة : " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " ، فالاستثناء راجع إلى اللحوق لا إلى الموت .
( محلقين رءوسكم ) كلها ( ومقصرين ) بأخذ بعض شعورها ( لا تخافون فعلم ما لم تعلموا ) أن الصلاح كان في الصلح وتأخير الدخول ، وهو قوله تعالى : " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات " الآية ( الفتح - 25 ) . ( فجعل من دون ذلك ) أي من قبل دخولكم المسجد الحرام ( فتحا قريبا ) وهو صلح الحديبية عند الأكثرين ، وقيل : فتح خيبر .
( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ( 28 ) محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ( 29 ) )
( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ) على أنك نبي صادق فيما تخبر .
( محمد رسول الله ) تم الكلام هاهنا ، قاله ابن عباس ، شهد له بالرسالة ، ثم قال مبتدئا : ( والذين معه ) فالواو فيه للاستئناف ، أي : والذين معه من المؤمنين ( أشداء على الكفار ) غلاظ عليهم كالأسد على فريسته لا تأخذهم فيهم رأفة ( رحماء بينهم ) متعاطفون متوادون بعضهم [ ص: 324 ] لبعض ، كالولد مع الوالد ، كما قال : " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " : ( المائدة - 54 ) : ( تراهم ركعا سجدا ) أخبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها ( يبتغون فضلا من الله ) أن يدخلهم الجنة ( ورضوانا ) أن يرضى عنهم ( سيماهم ) أي علامتهم ( في وجوههم من أثر السجود ) اختلفوا في هذه السيما : فقال قوم : هو نور وبياض في وجوههم يوم القيامة يعرفون به أنهم سجدوا في الدنيا ، وهو رواية عطية العوفي عن ابن عباس ، قال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس : استنارت وجوههم من كثرة ما صلوا . وقال شهر بن حوشب : تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر .
وقال آخرون : هو السمت الحسن والخشوع والتواضع . وهو رواية الوالبي عن ابن عباس قال : ليس بالذي ترون لكنه سيماء الإسلام وسجيته وسمته وخشوعه . وهو قول مجاهد ، والمعنى : أن السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به .
وقال الضحاك : هو صفرة الوجه من السهر .
وقال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى .
قال عكرمة وسعيد بن جبير : هو أثر التراب على الجباه .
قال أبو العالية : إنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب .
وقال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس .
( ذلك ) الذي ذكرت ( مثلهم ) صفتهم ( في التوراة ) هاهنا تم الكلام ، ثم ذكر نعتهم في الإنجيل ، فقال : ( ومثلهم ) صفتهم ( في الإنجيل كزرع أخرج شطأه ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر : " شطأه " بفتح الطاء ، وقرأ الآخرون بسكونها ، وهما لغتان كالنهر والنهر ، وأراد أفراخه ، يقال : أشطأ الزرع فهو مشطئ ، إذا أفرخ ، قال مقاتل : هو نبت واحد ، فإذا خرج ما بعده فهو شطؤه . [ ص: 325 ]
وقال السدي : هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى .
قوله : ( فآزره ) قرأ ابن عامر : " فأزره " بالقصر والباقون بالمد ، أي : قواه وأعانه وشد أزره ( فاستغلظ ) غلظ ذلك الزرع ( فاستوى ) أي تم وتلاحق نباته وقام ( على سوقه ) أصوله ( يعجب الزراع ) أعجب ذلك زراعه .
هذا مثل ضربه الله - عز وجل - لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في الإنجيل [ أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون .
قال قتادة : مثل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإنجيل ] مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
وقيل : " الزرع " محمد - صلى الله عليه وسلم - ، و " الشطء " : أصحابه والمؤمنون .
وروي عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال : " محمد رسول الله والذين معه " : أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ، " أشداء على الكفار " عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، " رحماء بينهم " عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، " تراهم ركعا سجدا " علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، " يبتغون فضلا من الله " بقية العشرة المبشرين بالجنة .
وقيل : " كمثل زرع " محمد ، " أخرج شطأه " أبو بكر " فآزره " عمر " فاستغلظ " عثمان ، للإسلام " فاستوى على سوقه " علي بن أبي طالب استقام الإسلام بسيفه ، " يعجب الزراع " قال : هم المؤمنون .
( ليغيظ بهم الكفار ) قول عمر لأهل مكة بعدما أسلم : لا تعبدوا الله سرا بعد اليوم .
حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد الشجاعي السرخسي إملاء ، أخبرنا أبو بكر عبد الله بن أحمد القفال ، حدثنا أبو أحمد عبد الله بن محمد الفضل السمرقندي ، حدثنا شيخي أبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي ، حدثنا أبو رجاء قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عبد الرحمن بن حميد ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " أبو بكر في الجنة ، وعمر في الجنة ، وعثمان في الجنة ، وعلي في الجنة ، وطلحة في الجنة ، والزبير في الجنة ، وعبد الرحمن [ ص: 326 ] بن عوف في الجنة ، وسعد بن أبي وقاص في الجنة ، وسعيد بن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة " .
حدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن قاسم حدثنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي ، حدثنا أحمد بن هاشم الأنطاكي ، حدثنا قطبة بن العلاء ، حدثنا سفيان الثوري ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأفرضهم زيد ، وأقرؤهم أبي ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " .
ورواه معمر عن قتادة مرسلا وفيه : " وأقضاهم علي " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا عبد العزيز المختار قال خالد الحذاء ، حدثنا عن أبي عثمان قال حدثني عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل قال : فأتيته فقلت : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة ، فقلت : من الرجال ؟ فقال : أبوها ، قلت : ثم من ؟ قال : عمر بن الخطاب فعد رجالا فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم .
أخبرنا أبو منصور عبد الملك وأبو الفتح نصر ، ابنا علي بن أحمد بن منصور ومحمد بن الحسين بن شاذويه الطوسي بها قالا حدثنا أبو الحسن محمد بن يعقوب ، أخبرنا الحسن بن محمد بن أحمد بن كيسان النحوي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك الأسدي ، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل هو ابن يحيى بن سلمة بن كهيل ، حدثنا أبي عن أبيه عن سلمة عن أبي الزعراء عن ابن مسعود [ ص: 327 ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي : أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد عبد الله بن مسعود " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد أن أحدا ارتج وعليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعثمان ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اثبت أحد ما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " .
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، حدثنا أبو سعيد الأشج ، أخبرنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن عدي بن ثابت ، عن زر بن حبيش ، عن علي قال : عهد إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق .
حدثنا أبو المظفر التميمي ، أخبرنا عبد الرحمن بن عثمان ، أخبرنا خيثمة بن سليمان ، حدثنا محمد بن عيسى بن حيان المدائني ، حدثنا محمد بن الفضل بن عطية ، عن عبد الله بن مسلم عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة " .
قوله - عز وجل - : ( ليغيظ بهم الكفار ) أي إنما كثرهم وقواهم ليكونوا غيظا للكافرين . [ ص: 328 ]
قال مالك بن أنس : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابته هذه الآية .
أخبرنا أبو الطيب طاهر بن محمد بن العلاء البغوي ، حدثنا أبو معمر الفضل بن إسماعيل بن إبراهيم الإسماعيلي ، أخبرنا جدي أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أخبرني الهيثم بن خلف الدوري ، حدثنا المفضل بن غسان بن المفضل العلائي ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا عبيدة بن أبي رابطة عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن مغفل المزني قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الله الله في أصحابي ، الله الله في أصحابي ، الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه " .
حدثنا أبو المظفر بن محمد بن أحمد بن حامد التميمي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم ، أخبرنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي القصار بالكوفة ، أخبرنا وكيع بن الجراح ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسين الزعفراني ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن عروة ، حدثنا محمد بن الحسين بن محمد بن إشكاب ، حدثنا شبابة بن سوار ، حدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي خباب عن أبي سليم الهمداني ، عن أبيه ، عن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن سرك أن تكون من أهل الجنة فإن قوما يتنحلون حبك يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، [ ص: 329 ] نبزهم الرافضة ، فإن أدركتهم فجاهدهم فإنهم مشركون " ، في إسناد هذا الحديث نظر .
قول الله - عز وجل - : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم ) قال ابن جرير : يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة ، ورد الهاء والميم على معنى الشطء لا على لفظه ، ولذلك لم يقل : " منه " ( مغفرة وأجرا عظيما ) يعني الجنة .
ابو وليد البحيرى
2022-11-08, 12:03 AM
الحلقة (381)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية1 إلى الاية9
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ
مَدَنِيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 1 ) )
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) قَرَأَ يَعْقُوبُ : " لَا تَقَدَّمُوا " بِفَتْحِ التَّاءِ وَالدَّالِ ، مِنَ التَّقَدُّمِ أَيْ لَا تَتَقَدَّمُوا ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ ، مِنَ التَّقْدِيمِ ، وَهُوَ لَازِمٌ بِمَعْنَى التَّقَدُّمِ ، [ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ] : تَقُولُ الْعَرَبُ : لَا تَقَدَّمْ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ وَبَيْنَ يَدَيِ الْأَبِ ، أَيْ لَا تُعَجِّلْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ دُونَهُ ، وَالْمَعْنَى : بَيْنَ الْيَدَيْنِ الْأَمَامُ . وَالْقُدَّامُ : أَيْ لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ أَمْرِهِمَا وَنَهْيِهِمَا . وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ : رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ فِي الذَّبْحِ يَوْمَ الْأَضْحَى ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، أَيْ لَا تَذْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاسًا ذَبَحُوا قَبْلَ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الذَّبْحَ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانَ بْنُ حَرْبٍ ، حَدَّثْنَا شُعْبَةُ ، عَنْ يَزِيدَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ : خَطَبَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّحْرِ ، قَالَ : " إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا ، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ نُصَلِّيَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُكَ [ ص: 334 ] فِي شَيْءٍ " .
وَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ فِي النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ ، أَيْ : لَا تَصُومُوا قَبْلَ أَنْ يَصُومَ نَبِيُّكُمْ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُمْ ، أَنَّهُ قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَمِّرِ الْقَعْقَاعَ مَعْبَدَ بْنَ زُرَارَةَ ، قَالَ عُمَرُ : بَلْ أَمِّرِ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي ، قَالَ عُمَرُ : مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ ، فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا ، فَنَزَلَتْ فِي ذَلِكَ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " حَتَّى انْقَضَتْ .
وَرَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ أَبِي مَلِيكَةَ ، قَالَ فَنَزَلَتْ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ " إِلَى قَوْلِهِ : " أَجْرٌ عَظِيمٌ " ، وَزَادَ : قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : فَمَا كَانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ أَبِيهِ ، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي نَاسٍ كَانُوا يَقُولُونَ : لَوْ أُنْزِلَ فِي كَذَا ، أَوْ صُنِعَ فِي كَذَا وَكَذَا ، فَكَرِهَ اللَّهُ ذَلِكَ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : لَا تَفْتَاتُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ حَتَّى يَقْضِيَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ : يَعْنِي فِي الْقِتَالِ وَشَرَائِعِ الدِّينِ لَا تَقْضُوا أَمْرًا دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . [ ص: 335 ]
( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) فِي تَضْيِيعِ حَقِّهِ وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ ( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ) لِأَقْوَالِكُمْ ( عَلِيمٌ ) بِأَفْعَالِكُمْ .
( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ( 2 ) )
( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ) أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده ، ولا ينادونه كما ينادي بعضهم بعضا ( أن تحبط أعمالكم ) لئلا تحبط حسناتكم . وقيل : مخافة أن تحبط حسناتكم ( وأنتم لا تشعرون ) .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : لما نزلت هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " الآية ، جلس ثابت بن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى ؟ فقال سعد : إنه لجاري وما علمت له شكوى ، قال : فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال ثابت : أنزلت هذه الآية ، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنا من أهل النار ، فذكر ذلك سعد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بل هو من أهل الجنة " .
وروي أنه لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي ، فمر به عاصم بن عدي فقال : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في ، وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي ، وأن أكون من أهل النار ، فمضى عاصم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغلب ثابتا البكاء ، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول ، فقال لها : إذا دخلت بيت فرسي فشدي علي الضبة بمسمار ، وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأتى عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبره خبره فقال له : اذهب فادعه ، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده ، فجاء [ ص: 336 ] إلى أهله فوجده في بيت الفرس ، فقال له : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوك ، فقال : اكسر الضبة فكسرها ، فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة ؟ فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله ، ولا أرفع صوتي أبدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله : ( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ) .
( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم ( 3 ) )
( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ) الآية .
قال أنس : فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا ، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة الكذاب ، رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار وانهزمت طائفة منهم ، فقال : أف لهؤلاء ، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا ، ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع ، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له : اعلم أن فلانا رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من المعسكر عند فرس يسير في طوله ، وقد وضع على درعي برمة ، فائت خالد بن الوليد وأخبره حتى يسترد درعي ، وائت أبا بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقل له : إن علي دينا حتى يقضى ، وفلان من رقيقي عتيق ، فأخبر الرجل خالدا فوجد درعه والفرس على ما وصفه له ، فاسترد الدرع ، وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته .
قال مالك بن أنس : لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه .
قال أبو هريرة وابن عباس : لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا كأخي السرار [ ص: 337 ] .
وقال ابن الزبير : لما نزلت هذه الآية ما حدث عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك فيسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته ، فأنزل الله تعالى : " إن الذين يغضون أصواتهم " ، يخفضون ( أصواتهم عند رسول الله ) إجلالا له ( أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ) اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج خالصه ( لهم مغفرة وأجر عظيم ) .
( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ( 4 ) ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم ( 5 ) )
( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ) قرأ العامة بضم الجيم ، وقرأ أبو جعفر بفتح الجيم ، وهما لغتان ، وهي جمع الحجر ، والحجر جمع الحجرة فهي جمع الجمع .
قال ابن عباس : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية إلى بني العنبر وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري ، فلما علموا أنه توجه نحوهم هربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عيينة بن حصن وقدم بهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري ، فقدموا وقت الظهيرة ، ووافقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلا في أهله ، فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون ، وكان لكل امرأة من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ حجرة ، فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] ، فجعلوا ينادون : يا محمد اخرج إلينا ، حتى أيقظوه من نومه ، فخرج إليهم فقالوا : يا محمد فادنا عيالنا ، فنزل جبريل عليه السلام فقال : إن الله يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو ، وهو على دينكم ؟ فقالوا : نعم ، فقال سبرة : أنا لا أحكم بينهم إلا وعمي شاهد ، وهو الأعور بن بشامة ، فرضوا به ، فقال الأعور : أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد رضيت ، ففادى نصفهم وأعتق نصفهم ، فأنزل الله تعالى : " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون " ، وصفهم بالجهل وقلة العقل .
( ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم ) قال مقاتل : لكان خيرا لهم لأنك كنت تعتقهم جميعا وتطلقهم بلا فداء ( والله غفور رحيم ) .
[ ص: 338 ] وقال قتادة : نزلت في ناس من أعراب بني تميم جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فنادوا على الباب .
ويروى ذلك عن جابر قال : جاءت بنو تميم فنادوا على الباب : اخرج إلينا يا محمد ، فإن مدحنا زين ، وذمنا شين ، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين ، فقالوا : نحن ناس من بني تميم جئنا بشعرائنا وخطبائنا لنشاعرك ونفاخرك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا " ، فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لثابت بن قيس بن شماس ، وكان خطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - : " قم فأجبه " ، فأجابه ، وقام شاعرهم فذكر أبياتا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت : " أجبه " فأجابه . فقام الأقرع بن حابس ، فقال : إن محمدا لمؤتى له والله ما أدري هذا الأمر ، تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا ، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولا ، ثم دنا من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما يضرك ما كان قبل هذا " ثم أعطاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكساهم ، وقد كان تخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم لحداثة سنه ، فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما أعطاهم ، وأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فنزل فيهم : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم " الآيات الأربع إلى قوله : " غفور رحيم " .
وقال زيد بن أرقم : جاء ناس من العرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس به ، وإن يكن ملكا نعش في جنابه ، فجاءوا فجعلوا ينادونه ، يا محمد يا محمد ، فأنزل الله : " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم .
( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ( 6 ) )
قوله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) الآية ، نزلت في الوليد [ ص: 339 ] بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيما لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أن يغزوهم ، فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلناه من حق الله - عز وجل - ، فبدا له الرجوع ، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فاتهمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه ، وقال له : انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم ، وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار ، ففعل ذلك خالد ، ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء ، فأخذ منهم صدقاتهم ، ولم ير منهم إلا الطاعة والخير ، فانصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره الخبر ، فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق ) يعني الوليد بن عقبة ( بنبأ ) بخبر ( فتبينوا أن تصيبوا ) كي لا تصيبوا بالقتل والقتال ( قوما ) برآء ( بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) من إصابتكم بالخطأ .
( واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ( 7 ) )
( واعلموا أن فيكم رسول الله ) فاتقوا الله أن تقولوا باطلا أو تكذبوه ، فإن الله يخبره ويعرفه أحوالكم فتفتضحوا ( لو يطيعكم ) أي الرسول ( في كثير من الأمر ) مما تخبرونه به فيحكم برأيكم ( لعنتم ) لأثمتم وهلكتم ، والعنت : الإثم والهلاك . ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان ) فجعله أحب الأديان إليكم ( وزينه ) حسنه ( في قلوبكم ) حتى اخترتموه ، وتطيعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( وكره إليكم الكفر والفسوق ) قال ابن عباس : يريد الكذب ( والعصيان ) جميع معاصي الله . ثم عاد من الخطاب إلى الخبر ، وقال : ( أولئك هم الراشدون ) المهتدون .
[ ص: 340 ] ( فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم ( 8 ) وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ( 9 ) )
( فضلا ) أي كان هذا فضلا ( من الله ونعمة والله عليم حكيم ) .
قوله - عز وجل - : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) الآية .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا معتمر قال : سمعت أبي يقول : إن أنسا قال : قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لو أتيت عبد الله بن أبي ، فانطلق إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون معه ، وهي أرض سبخة ، فلما أتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إليك عني ، والله لقد آذاني نتن حمارك ، فقال رجل من الأنصار منهم : والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه فتشاتما ، فغضب لكل واحد منهما أصحابه ، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنها نزلت : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " .
ويروى أنها لما نزلت قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض .
وقال قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مداراة في حق بينهما ، فقال أحدهما للآخر : لآخذن حقي منك عنوة ، لكثرة عشيرته ، وإن الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى أن يتبعه ، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ، ولم يكن قتال بالسيوف .
وقال سفيان عن السدي : كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد تحت رجل ، وكان بينها وبين زوجها شيء فرقي بها إلى علية وحبسها ، فبلغ ذلك قومها فجاءوا ، وجاء قومه فاقتتلوا بالأيدي والنعال ، فأنزل الله - عز وجل - : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضا بما فيه لهما وعليهما ( فإن بغت إحداهما ) تعدت إحداهما ، [ ص: 341 ] ( على الأخرى ) وأبت الإجابة إلى حكم كتاب الله ( فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء ) ترجع ( إلى أمر الله ) في كتابه ( فإن فاءت ) رجعت إلى الحق ( فأصلحوا بينهما بالعدل ) بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله ( وأقسطوا ) اعدلوا ( إن الله يحب المقسطين ) .
ابو وليد البحيرى
2022-11-08, 12:11 AM
الحلقة (382)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ ق
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية 5
( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ( 10 ) )
( إنما المؤمنون إخوة ) في الدين والولاية ( فأصلحوا بين أخويكم ) إذا اختلفا واقتتلا ، قرأ يعقوب " بين إخوتكم " بالتاء على الجمع ( واتقوا الله ) فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره ( لعلكم ترحمون ) .
[ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ] ، أخبرنا أبو محمد الحسين بن أحمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه ، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة " .
وفي هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان ، لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين ، يدل عليه ما روي عن الحارث الأعور أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - سئل - وهو القدوة - في قتال أهل البغي ، عن أهل الجمل وصفين : أمشركون هم ؟ فقال : لا ، من الشرك فروا ، فقيل : أمنافقون هم ؟ فقال : لا ، إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا ، قيل : فما حالهم ؟ قال : إخواننا بغوا علينا .
والباغي في الشرع هو الخارج على الإمام العدل ، فإذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة فامتنعوا عن طاعة الإمام العدل بتأويل محتمل ، ونصبوا إماما فالحكم فيهم أن يبعث الإمام إليهم ويدعوهم [ ص: 342 ] إلى طاعته ، فإن أظهروا مظلمة أزالها عنهم ، وإن لم يذكروا مظلمة ، وأصروا على بغيهم ، قاتلهم الإمام حتى يفيئوا إلى طاعته ، ثم الحكم في قتالهم أن لا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ، ولا يذفف على جريحهم ، نادى منادي علي - رضي الله عنه - يوم الجمل : ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح . وأتي علي - رضي الله عنه - يوم صفين بأسير فقال له : لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين . وما أتلفت إحدى الطائفتين على الأخرى في حال القتال من نفس أو مال فلا ضمان عليه .
قال ابن شهاب : كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول ، وأتلف فيها أموال كثيرة ، ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم ، وجرى الحكم عليهم ، فما علمته اقتص من أحد ولا أغرم مالا أتلفه .
أما من لم يجتمع فيهم هذه الشرائط الثلاث بأن كانوا جماعة قليلين لا منعة لهم ، أو لم يكن لهم تأويل ، أو لم ينصبوا إماما ، فلا يتعرض لهم إن لم ينصبوا قتالا ولم يتعرضوا للمسلمين ، فإن فعلوا فهم كقطاع الطريق .
روي أن عليا - رضي الله عنه - سمع رجلا يقول في ناحية المسجد : لا حكم إلا لله تعالى ، فقال علي : كلمة حق أريد بها باطل ، لكم علينا ثلاث : لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ، ولا نبدؤكم بقتال .
( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ( 11 ) )
وقوله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم ) الآية ، قال ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه كان في أذنه وقر ، فكان إذا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه ، فيسمع ما يقول ، فأقبل ذات يوم وقد فاتته [ ركعة من صلاة [ ص: 343 ] الفجر ] ، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم ، فضن كل رجل بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد ، فكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلسا يجلس فيه قام قائما كما هو ، فلما فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخطى رقاب الناس ، ويقول : تفسحوا تفسحوا ، فجعلوا يتفسحون له حتى انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبينه وبينه رجل ، فقال له : تفسح ، فقال الرجل : قد أصبت مجلسا فاجلس ، فجلس ثابت خلفه مغضبا ، فلما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل ، فقال : من هذا ؟ قال : أنا فلان ، فقال ثابت : ابن فلانة ، وذكر أما له كان يعير بها في الجاهلية ، فنكس الرجل رأسه واستحيا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال الضحاك : نزلت في وفد بني تميم الذين ذكرناهم ، كانوا يستهزءون بفقراء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل عمار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة ، لما رأوا من رثاثة حالهم ، فأنزل الله تعالى في الذين آمنوا منهم : ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ) أي رجال من رجال . و " القوم " : اسم يجمع الرجال والنساء ، وقد يختص بجمع الرجال ( عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ) .
روي عن أنس أنها نزلت في نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عيرن أم سلمة بالقصر .
وعن عكرمة عن ابن عباس : أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب ، قال لها النساء : يهودية بنت يهوديين . ( ولا تلمزوا أنفسكم ) أي لا يعب بعضكم بعضا ، ولا يطعن بعضكم على بعض ( ولا تنابزوا بالألقاب ) التنابز : التفاعل من النبز ، وهو اللقب ، وهو أن يدعى الإنسان بغير ما سمي به .
قال عكرمة : هو قول الرجل للرجل : يا فاسق يا منافق يا كافر .
وقال الحسن : كان اليهودي والنصراني يسلم ، فيقال له بعد إسلامه يا يهودي يا نصراني ، فنهوا عن ذلك . [ ص: 344 ]
قال عطاء : هو أن تقول لأخيك : يا كلب يا حمار يا خنزير .
وروي عن ابن عباس قال : " التنابز بالألقاب " : أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف من عمله .
( بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) . أي بئس الاسم أن يقول : يا يهودي أو يا فاسق بعد ما آمن وتاب ، وقيل معناه : إن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق ، وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ، فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا اسم الفسوق ( ومن لم يتب ) من ذلك ( فأولئك هم الظالمون ) .
( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم ( 12 ) )
( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ) قيل : نزلت الآية في رجلين اغتابا رفيقهما ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ، ويتقدم لهما إلى المنزل فيهيئ لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب ، فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره ، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام فلم يهيئ لهما شيئا ، فلما قدما قالا له : ما صنعت شيئا ؟ قال : لا ، غلبتني عيناي ، قالا له : انطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطلب لنا منه طعاما ، فجاء سلمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأله طعاما ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : انطلق إلى أسامة بن زيد ، وقل له : إن كان عنده فضل من طعام وإدام فليعطك ، وكان أسامة خازن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى رحله ، فأتاه فقال : ما عندي شيء ، فرجع سلمان إليهما وأخبرهما ، فقالا كان عند أسامة طعام ولكن بخل ، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا ، فلما رجع قالا لو بعثناك إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، ثم انطلقا يتجسسان ، هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فلما جاءا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهما : " ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما " ، قالا والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحما ، قال : بل ظللتم تأكلون لحم سلمان [ ص: 345 ] وأسامة ، فأنزل الله - عز وجل - : " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن " ، وأراد : أن يظن بأهل الخير سوءا ( إن بعض الظن إثم ) قال سفيان الثوري : الظن ظنان : أحدهما إثم ، وهو أن تظن وتتكلم به ، والآخر ليس بإثم وهو أن تظن ولا تتكلم .
( ولا تجسسوا ) التجسس : هو البحث عن عيوب الناس ، نهى الله تعالى عن البحث عن المستور من أمور الناس وتتبع عوراتهم حتى لا يظهر على ما ستره الله منها .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا "
أخبرنا أبو بكر محمد بن محمد بن علي بن الحسن الطوسي بها ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفراييني ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أخبرنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا يحيى بن أكثم ، أخبرنا الفضل بن موسى الشيباني ، عن الحسين بن واقد ، عن أوفى بن دلهم ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنه - ما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورات المسلمين ، يتتبع الله عورته ، ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله " .
قال : ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والمؤمن أعظم عند الله حرمة منك .
وقال زيد بن وهب : قيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا ، فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن يظهر لنا شيء نأخذه به ( ولا يغتب بعضكم بعضا ) يقول : [ ص: 346 ] لا يتناول بعضكم بعضا بظهر الغيب بما يسوءه مما هو فيه .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو الطاهر الحارثي ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أنهم ذكروا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا فقالوا : لا يأكل حتى يطعم ، ولا يرحل حتى يرحل ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اغتبتموه " فقالوا : إنما حدثنا بما فيه ، قال : " حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه " .
قوله - عز وجل - : ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) قال مجاهد : لما قيل لهم " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا " قالوا : لا ، قيل : ( فكرهتموه ) أي فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا .
قال الزجاج : تأويله : إن ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحم أخيك ، وهو ميت لا يحس بذلك .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن أبي شيبة ، حدثنا الفريابي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج ، حدثني صفوان بن عمرو ، حدثنا راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير ، عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم ولحومهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " [ ص: 347 ] .
قال ميمون بن سياه : بينا أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول : كل ، قلت : يا عبد الله ولم آكل ؟ قال : بما اغتبت عبد فلان ، فقلت : والله ما ذكرت فيه خيرا ولا شرا ، قال : لكنك استمعت ورضيت به ، فكان ميمون لا يغتاب أحدا ولا يدع أحدا يغتاب عنده أحدا .
( واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) .
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ( 13 ) )
( ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) الآية . قال ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس ، وقوله للرجل الذي لم يفسح له : ابن فلانة ، يعيره بأمه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من الذاكر فلانة ؟ فقال ثابت : أنا يا رسول الله ، فقال : انظر في وجوه القوم فنظر فقال : ما رأيت يا ثابت ؟ قال : رأيت أبيض وأحمر وأسود ، قال : فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى ، فنزلت في ثابت هذه الآية ، وفي الذي لم يتفسح : " يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا " ( المجادلة - 11 ) .
وقال مقاتل : لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا حتى علا ظهر الكعبة وأذن ، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم ، وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا ، وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئا يغيره . وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء ، فأتى جبريل فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قالوا ، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله تعالى هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء فقال :
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) يعني آدم وحواء أي إنكم متساوون في النسب . ( وجعلناكم شعوبا ) جمع شعب بفتح الشين ، وهي رءوس القبائل مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج ، سموا شعوبا لتشعبهم واجتماعهم ، كشعب أغصان الشجر ، والشعب من الأضداد يقال : شعب ، أي : جمع ، وشعب أي : فرق . ( وقبائل ) وهي دون الشعوب ، واحدتها قبيلة وهي كبكر من ربيعة وتميم من مضر ، ودون القبائل العمائر ، واحدتها عمارة ، بفتح العين ، وهم كشيبان من بكر ، ودارم من تميم ، ودون العمائر البطون ، واحدتها بطن ، وهم كبني غالب ولؤي من قريش [ ص: 348 ] ودون البطون الأفخاذ واحدتها فخذ ، وهم كبني هاشم وأمية من بني لؤي ، ثم الفصائل والعشائر واحدتها فصيلة وعشيرة ، وليس بعد العشيرة حي يوصف به .
وقيل : الشعوب من العجم ، والقبائل من العرب ، والأسباط من بني إسرائيل .
وقال أبو روق : " الشعوب " الذين لا يعتزون إلى أحد ، بل ينتسبون إلى المدائن والقرى ، " والقبائل " : العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم .
( لتعارفوا ) ليعرف بعضكم بعضا في قرب النسب وبعده ، لا ليتفاخروا . ثم أخبر أن أرفعهم منزلة عند الله أتقاهم فقال :
( إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) قال قتادة في هذه الآية : إن أكرم الكرم التقوى ، وألأم اللؤم الفجور .
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه ، أخبرنا إبراهيم بن خزيم الشاشي ، حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا سلام بن أبي مطيع ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الحسب المال ، والكرم التقوى " .
وقال ابن عباس : كرم الدنيا الغنى ، وكرم الآخرة التقوى .
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم ، أنا عبد الله بن أحمد بن حمويه ، أخبرنا إبراهيم بن خزيم ، حدثنا عبد بن حميد ، أخبرنا الضحاك بن مخلد ، عن موسى بن عبيدة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه ، فلما خرج لم يجد مناخا ، فنزل على أيدي الرجال ، ثم قام فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : " الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها [ بآبائها ] ، الناس رجلان بر تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله [ ص: 349 ] ثم تلا " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى " ، ثم قال : أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد هو ابن سلام حدثنا عبدة عن عبيد الله ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الناس أكرم ؟ قال : أكرمهم عند الله أتقاهم ، قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله . قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فعن معادن العرب تسألوني ؟ قالوا : نعم ، قال : " فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عمرو الناقد ، حدثنا كثير بن هشام ، حدثنا جعفر بن برقان ، عن يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " .
( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم ( 14 ) )
قوله - عز وجل - : ( قالت الأعراب آمنا ) الآية ، نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنة جدبة فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر ، فأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، يمنون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويريدون الصدقة ، ويقولون : أعطنا ، فأنزل الله فيهم هذه الآية . [ ص: 350 ]
وقال السدي : نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح ، وهم أعراب جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار ، كانوا يقولون : آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم ، فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا ، فأنزل الله - عز وجل - " قالت الأعراب آمنا " صدقنا .
( قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسبي ( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) فأخبر أن حقيقة الإيمان التصديق بالقلب ، وأن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيمانا دون التصديق بالقلب والإخلاص .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن غرير الزهري ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، أخبرني عامر بن سعد ، عن أبيه قال : أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهطا وأنا جالس فيهم ، قال : فترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم رجلا لم يعطه وهو أعجبهم إلي ، فقمت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ فساررته ] ، فقلت : ما لك عن فلان ؟ والله إني لأراه مؤمنا ، قال : أو مسلما ، قال : فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم منه ، فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا ؟ قال : أو مسلما ، قال : " إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه " .
فالإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة ، يقال : أسلم الرجل إذا دخل في السلم كما يقال : أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء ، وأصاف إذا دخل في الصيف ، وأربع إذا دخل في الربيع ، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان ، والأبدان والجنان ، كقوله - عز وجل - لإبراهيم عليه السلام : " أسلم قال أسلمت لرب العالمين " ( البقرة - 131 ) ، ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب ، وذلك قوله : ( ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) .
( وإن تطيعوا الله ورسوله ) ظاهرا وباطنا سرا وعلانية . قال ابن عباس تخلصوا الإيمان ( لا يلتكم ) قرأ أبو عمرو " يألتكم " بالألف لقوله تعالى : " وما ألتناهم " ( الطور - 21 ) والآخرون بغير ألف ، وهما لغتان ، معناهما : لا ينقصكم ، يقال : ألت يألت ألتا ولات يليت ليتا إذا نقص ، [ ص: 351 ] ( من أعمالكم شيئا ) أي لا ينقص من ثواب أعمالكم شيئا ( إن الله غفور رحيم ) .
( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ( 15 ) قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم ( 16 ) يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ( 17 ) إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون ( 18 ) )
ثم بين حقيقة الإيمان ، فقال : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ) لم يشكوا في دينهم ( وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) في إيمانهم .
فلما نزلت هاتان الآيتان أتت الأعراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحلفون بالله إنهم مؤمنون صادقون ، وعرف الله غير ذلك منهم ، فأنزل الله - عز وجل - :
( قل أتعلمون الله بدينكم ) والتعليم هاهنا بمعنى الإعلام ، ولذلك قال : " بدينكم " وأدخل الباء فيه ، يقول : أتخبرون الله بدينكم الذي أنتم عليه ( والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم ) لا يحتاج إلى إخباركم .
( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم ) أي بإسلامكم ( بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ) وفي مصحف عبد الله " إذ هداكم للإيمان " ( إن كنتم صادقين ) إنكم مؤمنون .
( إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون ) قرأ ابن كثير " يعملون " بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء .
سُورَةُ ق
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ( 1 ) )
( ق ) [ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ قَسَمٌ ، وَقِيلَ : ] هُوَ اسْمٌ لِلسُّورَةِ ، وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ .
وَقَالَ الْقُرَظِيُّ : هُوَ مِفْتَاحُ اسْمِهِ " الْقَدِيرِ " ، وَ " الْقَادِرِ " وَ " الْقَاهِرِ " وَ " الْقَرِيبِ " وَ " الْقَابِضِ " .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ : هُوَ جَبَلٌ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ ، مِنْهُ خُضْرَةُ السَّمَاءِ وَالسَّمَاءُ مَقْبِيَّةٌ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ كَتِفَاهَا ، وَيُقَالُ هُوَ وَرَاءِ الْحِجَابِ الَّذِي تَغِيبُ الشَّمْسُ مِنْ وَرَائِهِ بِمَسِيرَةِ سَنَةٍ .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ قُضِيَ الْأَمْرُ ، أَوْ قُضِيَ مَا هُوَ كَائِنٌ ، كَمَا قَالُوا فِي حم .
( وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) الشَّرِيفِ الْكَرِيمِ عَلَى اللَّهِ ، الْكَثِيرِ الْخَيْرِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ ، فَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ : جَوَابُهُ : " بَلْ عَجِبُوا " ، وَقِيلَ : جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ ، [ ص: 356 ] مَجَازُهُ : وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ لَتُبْعَثُنَّ . وَقِيلَ : جَوَابُهُ قَوْلُهُ : " مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ " . وَقِيلَ : " قَدْ عَلِمْنَا " وَجَوَابَاتُ الْقَسَمِ سَبْعَةٌ : " إِنَّ " الشَّدِيدَةُ كَقَوْلِهِ : " وَالْفَجْرِ - إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ " ( الْفَجْرِ - 14 ) ، وَ " مَا " النَّفْيِ كَقَوْلِهِ : " وَالضُّحَى - مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ " ( الضُّحَى - 1 - 3 ) ، وَ " اللَّامُ " الْمَفْتُوحَةُ كَقَوْلِهِ : " فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ " ( الْحِجْرِ - 92 ) وَ " إِنْ " الْخَفِيفَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " ( الشُّعَرَاءِ - 38 ) وَ " لَا " كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ " ( النَّحْلِ - 38 ) ، وَ " قَدْ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا - قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا " ( الشَّمْسِ - 1 - 9 ) .
ابو وليد البحيرى
2022-11-08, 01:06 AM
الحلقة (383)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ ق
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية 32
( بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ( 2 ) أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد ( 3 ) قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ ( 4 ) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ( 5 ) )
و " بل " كقوله : " والقرآن المجيد - بل عجبوا " .
( أن جاءهم منذر ) مخوف ( منهم ) يعرفون نسبه وصدقه وأمانته ( فقال الكافرون هذا شيء عجيب ) غريب .
( أئذا متنا وكنا ترابا ) نبعث ، ترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه ( ذلك رجع ) أي رد إلى الحياة ( بعيد ) وغير كائن ، أي : يبعد أن نبعث بعد الموت .
قال الله - عز وجل - : ( قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ) أي تأكل من لحومهم ودمائهم وعظامهم لا يعزب عن علمه شيء . قال السدي : هو الموت ، يقول : قد علمنا من يموت منهم ومن يبقى ( وعندنا كتاب حفيظ ) [ محفوظ من الشياطين ومن أن يدرس ويتغير وهو اللوح المحفوظ ، وقيل : حفيظ ] أي : حافظ لعدتهم وأسمائهم .
( بل كذبوا بالحق ) بالقرآن ( لما جاءهم فهم في أمر مريج ) مختلط ، قال سعيد بن جبير ومجاهد : ملتبس . قال قتادة في هذه الآية : من ترك الحق مرج عليه أمره والتبس عليه دينه . وقال الحسن : ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم . وذكر الزجاج معنى اختلاط أمرهم ، فقال : هو أنهم يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، مرة شاعر ، ومرة ساحر ، ومرة معلم ، ويقولون للقرآن مرة سحر ، ومرة [ ص: 357 ] رجز ، ومرة مفترى ، فكان أمرهم مختلطا ملتبسا عليهم .
( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ( 6 ) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ( 7 ) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ( 8 ) ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد ( 9 ) والنخل باسقات لها طلع نضيد ( 10 ) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج ( 11 ) )
ثم دلهم على قدرته ، فقال : ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ) بغير عمد ( وزيناها ) بالكواكب ( وما لها من فروج ) شقوق وفتوق وصدوع ، واحدها فرج .
( والأرض مددناها ) بسطناها على وجه الماء ( وألقينا فيها رواسي ) جبالا ثوابت ( وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ) حسن كريم يبهج به ، أي : يسر .
( تبصرة ) [ أي جعلنا ذلك تبصرة ] ( وذكرى ) أي تبصيرا وتذكيرا ( لكل عبد منيب ) أي : ليبصر به ويتذكر به .
( ونزلنا من السماء ماء مباركا ) كثير الخير وفيه حياة كل شيء ، وهو المطر ( فأنبتنا به جنات وحب الحصيد ) يعني البر والشعير وسائر الحبوب التي تحصد ، فأضاف الحب إلى الحصيد ، وهما واحد لاختلاف اللفظين ، كما يقال : مسجد الجامع وربيع الأول . وقيل : " وحب الحصيد " أي : وحب النبت [ الحصيد ] .
( والنخل باسقات ) قال مجاهد وعكرمة وقتادة : طوالا يقال : بسقت [ النخلة ] بسوقا إذا طالت . وقال سعيد بن جبير : مستويات . ( لها طلع ) ثمر وحمل ، سمي بذلك لأنه يطلع ، والطلع أول ما يظهر قبل أن ينشق ( نضيد ) متراكب متراكم منضود بعضه على بعض في أكمامه ، فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد .
( رزقا للعباد ) أي جعلناها رزقا للعباد ( وأحيينا به ) أي بالمطر ( بلدة ميتا ) أنبتنا فيها الكلأ ( كذلك الخروج ) من القبور .
[ ص: 358 ] ( كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود ( 12 ) وعاد وفرعون وإخوان لوط ( 13 ) وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد ( 14 ) أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ( 15 ) ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ( 16 ) إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ( 17 ) )
قوله - عز وجل - : ( كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع ) وهو تبع الحميري ، واسمه أسعد أبو كرب ، قال قتادة : ذم الله تعالى قوم تبع ولم يذمه ، ذكرنا قصته في سورة الدخان .
( كل كذب الرسل ) أي : كل من هؤلاء المذكورين كذب الرسل ( فحق وعيد ) وجب لهم عذابي . ثم أنزل جوابا لقولهم " ذلك رجع بعيد " :
( ( أفعيينا بالخلق الأول ) يعني : أعجزنا حين خلقناهم أولا [ فنعيا ] بالإعادة . وهذا تقرير لهم لأنهم اعترفوا بالخلق الأول وأنكروا البعث ، ويقال لكل من عجز عن شيء : عيي به . ( بل هم في لبس ) أي : في شك ( من خلق جديد ) وهو البعث .
( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ) يحدث به قلبه ولا يخفى علينا سرائره وضمائره ( ونحن أقرب إليه ) أعلم به ( من حبل الوريد ) لأن أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضا ، ولا يحجب علم الله شيء ، و " حبل الوريد " : عرق العنق ، وهو عرق بين الحلقوم والعلباوين ، يتفرق في البدن ، والحبل هو الوريد ، فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين .
( إذ يتلقى المتلقيان ) أي : يتلقى ويأخذ الملكان الموكلان بالإنسان عمله ومنطقه يحفظانه ويكتبانه ( عن اليمين وعن الشمال ) أي أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله ، فالذي عن اليمين يكتب الحسنات ، والذي عن الشمال يكتب السيئات . ( قعيد ) أي : قاعد ، ولم يقل : قعيدان ، لأنه أراد : عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، فاكتفى بأحدهما عن الآخر ، هذا قول أهل البصرة . وقال أهل الكوفة : أراد : قعودا ، كالرسول فجعل للاثنين والجمع ، كما قال الله تعالى في الاثنين : " [ ص: 359 ] فقولا إنا رسول رب العالمين " ( الشعراء - 16 ) ، وقيل : أراد بالقعيد الملازم الذي لا يبرح ، لا القاعد الذي هو ضد القائم . وقال مجاهد : القعيد الرصيد .
( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ( 18 ) وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ( 19 ) )
( ما يلفظ من قول ) ما يتكلم من كلام فيلفظه أي : يرميه من فيه ( إلا لديه رقيب ) حافظ ( عتيد ) حاضر أينما كان . قال الحسن : إن الملائكة يجتنبون الإنسان على حالين : عند غائطه وعند جماعه .
وقال مجاهد : يكتبان عليه حتى أنينه في مرضه . وقال عكرمة : لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر فيه .
وقال الضحاك : مجلسهما تحت الضرس على الحنك ، ومثله عن الحسن ، وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا الحسين بن محمد الدينوري ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا الفضل بن العباس بن مهران ، حدثنا طالوت ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا جعفر بن الزبير عن القاسم بن محمد عن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كاتب الحسنات على يمين الرجل ، وكاتب السيئات على يسار الرجل ، وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا؛ وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر " .
( وجاءت سكرة الموت ) غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله ( بالحق ) أي بحقيقة الموت ، وقيل : بالحق من أمر الآخرة حتى يتبينه الإنسان ويراه بالعيان . وقيل : بما يئول [ ص: 360 ] إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة . ويقال لمن جاءته سكرة الموت : ( ذلك ما كنت منه تحيد ) تميل ، قال الحسن : تهرب وقال ابن عباس : تكره ، وأصل الحيد الميل ، يقال : حدت عن الشيء أحيد حيدا ومحيدا : إذا ملت عنه .
( ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد ( 20 ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ( 21 ) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ( 22 ) وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ( 23 ) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ( 24 ) )
( ونفخ في الصور ) يعني نفخة البعث ( ذلك يوم الوعيد ) أي : ذلك اليوم يوم الوعيد الذي وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه . قال مقاتل : يعني بالوعيد العذاب ، أي : يوم وقوع الوعيد .
( وجاءت ) ذلك اليوم ( كل نفس معها سائق ) يسوقها إلى المحشر ( وشهيد ) يشهد عليها بما عملت ، قال الضحاك : السائق من الملائكة ، والشاهد من أنفسهم الأيدي والأرجل ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس . وقال الآخرون : هما جميعا من الملائكة ، فيقول الله :
( لقد كنت في غفلة من هذا ) . ( لقد كنت في غفلة من هذا ) اليوم في الدنيا ( فكشفنا عنك غطاءك ) الذي كان في الدنيا على قلبك وسمعك وبصرك ( فبصرك اليوم حديد ) نافذ تبصر ما كنت تنكر في الدنيا . وروي عن مجاهد قال : يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك .
( وقال قرينه ) الملك الموكل به ( هذا ما لدي عتيد ) معد محضر ، وقيل : " ما " بمعنى ( من ) قال مجاهد : يقول هذا الذي وكلتني به من ابن آدم حاضر عندي قد أحضرته وأحضرت ديوان أعماله ، فيقول الله - عز وجل - لقرينه : ( ألقيا في جهنم ) هذا خطاب للواحد بلفظ التثنية على عادة العرب ، تقول : ويحك ويلك ارحلاها وازجراها وخذاها وأطلقاها ، للواحد ، قال الفراء : وأصل ذلك أن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه وسفره اثنان ، فجرى كلام الواحد على صاحبيه ، ومنه قولهم في الشعر للواحد : خليلي . وقال الزجاج : هذا أمر للسائق والشهيد ، وقيل : للمتلقيين . ( كل كفار عنيد )
عاص معرض عن [ ص: 361 ] الحق . قال عكرمة ومجاهد : مجانب للحق معاند لله .
( مناع للخير معتد مريب ( 25 ) الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد ( 26 ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد ( 27 ) قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ( 28 ) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ( 29 ) يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ( 30 ) )
( مناع للخير ) أي للزكاة المفروضة وكل حق وجب في ماله ( معتد ) ظالم لا يقر بتوحيد الله ( مريب ) شاك في التوحيد ، ومعناه : داخل في الريب .
( الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد ) وهو النار .
( قال قرينه ) يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر : ( ربنا ما أطغيته ) ما أضللته وما أغويته ( ولكن كان في ضلال بعيد ) عن الحق ، فيتبرأ عنه شيطانه ، قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل : " قال قرينه " يعني : الملك ، قال سعيد بن جبير : يقول الكافر يا رب إن الملك زاد علي في الكتابة ، فيقول الملك " ربنا ما أطغيته " ، يعني ما زدت عليه وما كتبت إلا ما قال وعمل ، ولكن كان في ضلال بعيد ، طويل لا يرجع عنه إلى الحق .
( قال ) فيقول الله ( لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ) في القرآن وأنذرتكم وحذرتكم على لسان الرسول ، وقضيت عليكم ما أنا قاض .
( ما يبدل القول لدي ) لا تبديل لقولي ، وهو قوله : " لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " ( السجدة - 13 ) ، وقال قوم : معنى قوله : " ما يبدل القول لدي " أي : لا يكذب عندي ، ولا يغير القول عن وجهه لأني أعلم الغيب . وهذا قول الكلبي ، واختيار الفراء ، لأنه قال : " ما يبدل القول لدي " ولم يقل ما يبدل قولي .
( وما أنا بظلام للعبيد ) فأعاقبهم بغير جرم .
( يوم نقول لجهنم ) قرأ نافع وأبو بكر " يقول " بالياء ، أي : يقول الله ، لقوله : " قال لا تختصموا " ، وقرأ الآخرون بالنون ( هل امتلأت ) وذلك لما سبق لها من وعده إياها أنه يملؤها [ ص: 362 ] من الجنة والناس ، وهذا السؤال من الله - عز وجل - لتصديق خبره وتحقيق وعده ( وتقول ) جهنم ( هل من مزيد ) قيل : معناه قد امتلأت ولم يبق في موضع لم يمتلئ ، فهو استفهام إنكار ، هذا قول عطاء ومجاهد ومقاتل بن سليمان . وقيل : هذا استفهام بمعنى الاستزادة ، وهو قول ابن عباس في رواية أبي صالح ، وعلى هذا يكون السؤال بقوله : " هل امتلأت " ، قبل دخول جميع أهلها فيها ، وروي عن ابن عباس : أن الله تعالى سبقت كلمته " لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " ( السجدة - 13 ) ، فلما سيق أعداء الله إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها شيء ، فتقول : ألست قد أقسمت لتملأني ؟ فيضع قدمه عليها ، ثم يقول : هل امتلأت ؟ فتقول : قط قط قد امتلأت فليس في مزيد .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي ، أخبرنا [ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ] حدثنا أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن أيوب الطوسي ، أخبرنا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي ، حدثنا آدم بن أبي إياس العسقلاني ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تزال جهنم تقول هل من مزيد ، حتى يضع رب العزة فيها قدمه ، فتقول قط قط وعزتك ، ويزوي بعضها إلى بعض ، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقا فيسكنه فضول الجنة " .
( وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد ( 31 ) هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ ( 32 ) )
( وأزلفت الجنة ) قربت وأدنيت ( للمتقين ) الشرك ( غير بعيد ) ينظرون إليها قبل أن يدخلوها .
( هذا ما توعدون ) قرأ ابن كثير بالياء والآخرون بالتاء ، يقال لهم : هذا الذي ترونه ما توعدون على ألسنة الأنبياء عليهم السلام ( لكل أواب ) رجاع إلى الطاعة عن المعاصي ، قال سعيد بن المسيب : هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب . وقال الشعبي ومجاهد : الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها . وقال الضحاك : هو التواب . وقال ابن عباس وعطاء : المسبح ، من قوله : [ ص: 363 ] " يا جبال أوبي معه " ( سبأ - 10 ) وقال قتادة : المصلي . ( حفيظ ) قال ابن عباس : الحافظ لأمر الله ، وعنه أيضا : هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها . قال قتادة حفيظ لما استودعه الله من حقه . قال الضحاك : الحافظ على نفسه المتعهد لها . قال الشعبي : المراقب . قال سهل بن عبد الله : المحافظ على الطاعات والأوامر .
ابو وليد البحيرى
2022-11-08, 01:11 AM
الحلقة (384)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ
مَكِّيَّةٌ
الاية1 إلى الاية 19
( من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ( 33 ) ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود ( 34 ) لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ( 35 ) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص ( 36 ) إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ( 37 ) )
( من خشي الرحمن بالغيب ) محل " من " جر على نعت الأواب . ومعنى الآية : من خاف الرحمن وأطاعه بالغيب ولم يره . وقال الضحاك والسدي : يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد . قال الحسن : إذا أرخى الستر وأغلق الباب . ( وجاء بقلب منيب ) مخلص مقبل إلى طاعة الله .
( ادخلوها ) [ أي : يقال لأهل هذه الصفة : ادخلوها ] أي ادخلوا الجنة ( بسلام ) بسلامة من العذاب والهموم . وقيل بسلام من الله وملائكته عليهم . وقيل : بسلامة من زوال النعم ( ذلك يوم الخلود ) .
( لهم ما يشاءون فيها ) وذلك أنهم يسألون الله تعالى حتى تنتهي مسألتهم فيعطون ما شاءوا ، ثم يزيدهم الله من عنده ما لم يسألوه ، وهو قوله : ( ولدينا مزيد ) يعني الزيادة لهم في النعيم ما لم يخطر ببالهم . وقال جابر وأنس : هو النظر إلى وجه الله الكريم .
قوله - عز وجل - : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد ) ضربوا وساروا وتقلبوا وطافوا ، وأصله من النقب ، وهو الطريق كأنهم سلكوا كل طريق ( هل من محيص ) فلم يجدوا محيصا من أمر الله . وقيل : " هل من محيص " مفر من الموت ؟ فلم يجدوا [ منه مفرا ، وهذا إنذار ] لأهل مكة وأنهم على مثل سبيلهم لا يجدون مفرا عن الموت يموتون ، فيصيرون إلى عذاب الله .
( إن في ذلك ) فيما ذكرت من العبر وإهلاك القرى ( لذكرى ) تذكرة وعظة ( لمن كان له قلب ) [ ص: 364 ] قال ابن عباس : أي عقل . قال الفراء : هذا جائز في العربية ، تقول : ما لك قلب ، وما قلبك معك ، أي ما عقلك معك ، وقيل : له قلب حاضر مع الله . ( أو ألقى السمع ) استمع القرآن ، واستمع ما يقال له ، لا يحدث نفسه بغيره ، تقول العرب : ألق إلي سمعك ، أي استمع ( وهو شهيد ) أي حاضر القلب ليس بغافل ولا ساه .
( ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ( 38 ) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ( 39 ) ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ( 40 ) )
قوله - عز وجل - : ( ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ) إعياء وتعب .
نزلت في اليهود حيث قالوا : يا محمد أخبرنا بما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة ؟ فقال : " خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين ، والجبال يوم الثلاثاء ، والمدائن والأنهار والأقوات يوم الأربعاء ، والسماوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات من يوم الجمعة ، وخلق في أول الثلاث الساعات الآجال ، وفي الثانية الآفة ، وفي الثالثة آدم " ، قالوا : صدقت إن أتممت ، قال : وما ذاك ؟ قالوا : ثم استراح يوم السبت ، واستلقى على العرش ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم .
( فاصبر على ما يقولون ) من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد ، وهذا قبل الأمر بقتالهم ( وسبح بحمد ربك ) أي : صل حمدا لله ( قبل طلوع الشمس ) يعني : صلاة الصبح ( وقبل الغروب ) يعني : صلاة العصر . وروي عن ابن عباس قال : " قبل الغروب " الظهر والعصر .
( ومن الليل فسبحه ) يعني : صلاة المغرب والعشاء . وقال مجاهد : " ومن الليل " أي : صلاة الليل أي وقت صلى . ( وأدبار السجود ) قرأ أهل الحجاز وحمزة " وإدبار السجود " بكسر الهمزة ، مصدر أدبر إدبارا ، وقرأ الآخرون بفتحها على جمع الدبر . [ ص: 365 ]
قال عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، والحسن ، والشعبي ، والنخعي ، والأوزاعي : " أدبار السجود " الركعتان بعد صلاة المغرب ، وأدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر . وهي رواية العوفي عن ابن عباس . وروي عنه مرفوعا ، هذا قول أكثر المفسرين .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا أبو أيوب الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين أمام الصبح .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا صالح بن عبد الله ، حدثنا أبو عوانة عن قتادة ، عن زرارة بن أبي أوفى ، عن سعيد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " .
أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أخبرنا أبو محمد الجراحي ، أخبرنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا بدل بن المحبر ، حدثنا عبد الملك بن معدان عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما أحصى ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين بعد المغرب وفي الركعتين قبل [ صلاة الفجر ] : ب " قل يا أيها الكافرون " ، و " قل هو الله أحد " . [ ص: 366 ]
قال مجاهد : " وأدبار السجود " هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات .
أخبرنا أبو الحسين طاهر بن الحسين الروقي الطوسي بها ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن أيوب ، أخبرنا مسدد ، حدثنا خالد هو ابن عبد الله ، حدثنا سهيل عن أبي عبيد عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من سبح في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، وكبر الله ثلاثا وثلاثين ، وحمد الله ثلاثا وثلاثين ، فذلك تسعة وتسعون ، ثم قال تمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إسحاق ، أخبرنا يزيد ، أخبرنا ورقاء عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم ، قال : كيف ذاك ؟ قالوا : صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا ، وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال ، قال : " أفلا أخبركم بأمر تدركون به من كان قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم ، ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله : تسبحون في دبر كل صلاة عشرا ، وتحمدون عشرا ، وتكبرون عشرا " .
قوله - عز وجل - : ( واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب ( 41 ) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج ( 42 ) )
( واستمع يوم ينادي المنادي ) أي : واستمع يا محمد صيحة القيامة والنشور يوم ينادي المنادي ، قال مقاتل : يعني إسرافيل ينادي بالحشر يا أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة ، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء ( من مكان قريب ) من صخرة بيت المقدس ، وهي وسط الأرض . قال الكلبي : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا .
( يوم يسمعون الصيحة بالحق ) وهي الصيحة الأخيرة ( ذلك يوم الخروج ) من القبور .
[ ص: 367 ] ( إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير ( 43 ) يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير ( 44 ) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ( 45 ) )
( إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ) جمع سريع ، أي : يخرجون سراعا ( ذلك حشر علينا ) جمع علينا ( يسير ) .
( نحن أعلم بما يقولون ) يعني : كفار مكة في تكذيبك ( وما أنت عليهم بجبار ) بمسلط تجبرهم على الإسلام إنما بعثت مذكرا ( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) أي : ما أوعدت به من عصاني من العذاب .
قال ابن عباس : قالوا : يا رسول الله لو خوفتنا ، فنزلت " فذكر بالقرآن من يخاف وعيد " .
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ( 1 ) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ( 2 ) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ( 3 ) فَالْمُقَسِّمَا تِ أَمْرًا ( 4 ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( 5 ) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ( 6 ) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ( 7 ) )
( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) يَعْنِي : الرِّيَاحَ الَّتِي تَذْرُو التُّرَابَ ذَرْوًا ، يُقَالُ : ذَرَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ وَأَذْرَتْ .
( فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ) يَعْنِي : السَّحَابَ تَحْمِلُ ثُقْلًا مِنَ الْمَاءِ .
( فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ) هِيَ السُّفُنُ تَجْرِي فِي الْمَاءِ جَرْيًا سَهْلًا .
( فَالْمُقَسِّمَا تِ أَمْرًا ) هِيَ الْمَلَائِكَةُ يُقَسِّمُونَ الْأُمُورَ بَيْنَ الْخَلْقِ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ ، أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى صُنْعِهِ وَقُدْرَتِهِ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ فَقَالَ : ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ ) مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ( لَصَادِقٌ ) .
( وَإِنَّ الدِّينَ ) [ الْحِسَابَ وَالْجَزَاءَ ] ( لَوَاقِعٌ ) لِكَائِنٌ . ثُمَّ ابْتَدَأَ قَسَمًا آخَرَ فَقَالَ :
( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ : ذَاتِ الْخَلْقِ الْحَسَنِ الْمُسْتَوِي ، يُقَالُ لِلنَّسَّاجِ إِذَا نَسَجَ الثَّوْبَ فَأَجَادَ : مَا أَحْسَنَ حَبْكَهُ! قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : ذَاتُ الزِّينَةِ . قَالَ الْحَسَنُ : حُبِكَتْ بِالنُّجُومِ . قَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ الْمُتْقَنَةُ الْبُنْيَانِ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ : ذَاتُ الطَّرَائِقِ [ ص: 372 ] كَحُبُكِ الْمَاءِ إِذَا ضَرَبَتْهُ الرِّيحُ ، وَحُبُكِ الرَّمْلِ وَالشَّعْرِ الْجَعْدِ ، وَلَكِنَّهَا لَا تُرَى لِبُعْدِهَا مِنَ النَّاسِ ، وَهِيَ جَمْعُ حِبَاكٍ وَحَبِيكَةٍ ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ :
( إنكم لفي قول مختلف ( 8 ) يؤفك عنه من أفك ( 9 ) قتل الخراصون ( 10 ) الذين هم في غمرة ساهون ( 11 ) يسألون أيان يوم الدين ( 12 ) يوم هم على النار يفتنون ( 13 ) ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون ( 14 ) )
( إنكم ) أي : يا أهل مكة ( لفي قول مختلف ) في القرآن وفي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، تقولون في القرآن : سحر وكهانة وأساطير الأولين ، وفي محمد - صلى الله عليه وسلم - : ساحر وشاعر ومجنون . وقيل : " لفي قول مختلف " أي : مصدق ومكذب .
( يؤفك عنه من أفك ) يصرف عن الإيمان به من صرف حتى يكذبه ، يعني : من حرمه الله الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن . وقيل " عن " بمعنى : من أجل ، أي يصرف من أجل هذا القول المختلف أو بسببه عن الإيمان من صرف . وذلك أنهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان فيقولون : إنه ساحر وكاهن ومجنون ، فيصرفونه عن الإيمان ، وهذا معنى قول مجاهد .
( قتل الخراصون ) لعن الكذابون ، يقال : تخرص على فلان الباطل ، وهم المقتسمون الذين اقتسموا عقاب مكة ، واقتسموا القول في النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصرفوا الناس عن دين الإسلام . وقال مجاهد : هم الكهنة .
( الذين هم في غمرة ) غفلة وعمى وجهالة ( ساهون ) لاهون غافلون عن أمر الآخرة ، والسهو : الغفلة عن الشيء ، وهو ذهاب القلب عنه .
( يسألون أيان يوم الدين ) يقولون : يا محمد متى يوم الجزاء ، يعني : يوم القيامة تكذيبا واستهزاء .
قال الله - عز وجل - : ( يوم هم ) أي يكون هذا الجزاء في يوم هم ( على النار يفتنون ) أي : يعذبون ويحرقون بها كما يفتن الذهب بالنار . وقيل : " على " بمعنى الباء أي بالنار ، وتقول لهم خزنة النار : ( ذوقوا فتنتكم ) .
( ذوقوا فتنتكم ) عذابكم ( هذا الذي كنتم به تستعجلون ) في الدنيا تكذيبا به .
[ ص: 372 ] ( إن المتقين في جنات وعيون ( 15 ) آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ( 16 ) كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ( 17 ) وبالأسحار هم يستغفرون ( 18 ) )
( إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ) أعطاهم ( ربهم ) من الخير والكرامة ( إنهم كانوا قبل ذلك ) قبل دخولهم الجنة ( محسنين ) في الدنيا .
( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ) والهجوع النوم بالليل دون النهار ، " وما " صلة ، والمعنى : كانوا يهجعون قليلا من الليل ، أي يصلون أكثر الليل .
وقيل : معناه كان الليل الذي ينامون فيه كله قليلا وهذا معنى قول سعيد بن جبير عن ابن عباس ، يعني : كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئا ، إما من أولها أو من أوسطها . قال أنس بن مالك : كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء . وقال محمد بن علي : كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة . قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : قل ليلة أتت عليهم هجعوها كلها . قال مجاهد : كانوا لا ينامون كل الليل .
ووقف بعضهم على قوله : " قليلا " أي : كانوا من الناس قليلا ثم ابتدأ : " من الليل ما يهجعون " ، وجعله جحدا أي : لا ينامون بالليل البتة ، بل يقومون للصلاة والعبادة ، وهو قول الضحاك ومقاتل . ( وبالأسحار هم يستغفرون ) قال الحسن : لا ينامون من الليل إلا أقله ، وربما نشطوا فمدوا إلى السحر ، ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار . وقال الكلبي ومجاهد ومقاتل : وبالأسحار يصلون ، وذلك أن صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ينزل الله إلى سماء الدنيا كل [ ص: 374 ] ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول : أنا الملك أنا الملك ، من الذي يدعوني فأستجيب له ؟ من الذي يسألني فأعطيه ؟ من الذي يستغفرني فأغفر له ؟ " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا سليمان بن أبي مسلم عن طاوس سمع ابن عباس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجد ، قال : " اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن ، [ ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن ] ولك الحمد أنت الحق ، ووعدك الحق ، ولقاؤك حق ، وقولك حق ، والجنة حق والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حق ، والساعة حق ، اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت ، وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت ، أنت المقدم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت ولا إله غيرك " . قال سفيان : وزاد عبد الكريم أبو أمية : " ولا حول ولا قوة إلا بالله " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا صدقة ، أخبرنا الوليد عن الأوزاعي ، حدثني عمير بن هانئ ، حدثني جنادة بن أبي أمية ، حدثني عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من تعار من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ثم قال : اللهم اغفر لي ، أو دعا استجيب له ، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته " .
( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ( 19 ) )
قوله - عز وجل - : ( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) السائل : الذي يسأل الناس ، والمحروم : الذي ليس له في الغنائم سهم ، ولا يجرى عليه من الفيء شيء ، هذا قولابن عباس وسعيد بن [ ص: 375 ] المسيب ، قالا [ المحروم الذي ] ليس له في الإسلام سهم ، ومعناه في اللغة : الذي منع الخير والعطاء .
وقال قتادة والزهري : " المحروم " المتعفف الذي لا يسأل .
وقال زيد بن أسلم : هو المصاب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته . وهو قول محمد بن كعب القرظي ، قال : المحروم صاحب الجائحة ثم قرأ : " إنا لمغرمون بل نحن محرومون " ( الواقعة - 66 - 67 ) .
ابو وليد البحيرى
2022-11-08, 01:16 AM
الحلقة (385)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ
مَكِّيَّةٌ
الاية20 إلى الاية 60
( وفي الأرض آيات للموقنين ( 20 ) وفي أنفسكم أفلا تبصرون ( 21 ) وفي السماء رزقكم وما توعدون ( 22 ) فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ( 23 ) )
( وفي الأرض آيات ) عبر ( للموقنين ) إذا ساروا فيها من الجبال والبحار والأشجار والثمار وأنواع النبات . ( وفي أنفسكم ) آيات ، إذ كانت نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما إلى أن نفخ فيها الروح .
وقال عطاء عن ابن عباس : يريد اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع .
وقال ابن الزبير : يريد سبيل الغائط والبول يأكل ويشرب من مدخل واحد ويخرج من سبيلين .
( أفلا تبصرون ) [ قال مقاتل ] أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث .
( وفي السماء رزقكم ) قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل : يعني المطر الذي هو سبب الأرزاق ( وما توعدون ) قال عطاء : من الثواب والعقاب . وقال مجاهد : من الخير والشر . وقال الضحاك : وما توعدون من الجنة والنار ، ثم أقسم بنفسه فقال :
( فورب السماء والأرض إنه لحق ) أي : ما ذكرت من أمر الرزق لحق ( مثل ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم : " مثل " برفع اللام بدلا من " الحق " ، وقرأ الآخرون بالنصب أي كمثل ( ما أنكم تنطقون ) فتقولون : لا إله إلا الله . وقيل : شبه تحقيق ما أخبر عنه بتحقيق [ ص: 376 ] نطق الآدمي ، كما تقول : إنه لحق كما أنت ها هنا ، وإنه لحق كما أنك تتكلم ، والمعنى : إنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة . قال بعض الحكماء : يعني : كما أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره فكذلك كل إنسان يأكل رزق نفسه الذي قسم له ، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره .
( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ( 24 ) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون ( 25 ) فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين ( 26 ) فقربه إليهم قال ألا تأكلون ( 27 ) فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم ( 28 ) فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم ( 29 ) )
قوله - عز وجل - : ( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم ) ذكرنا عددهم في سورة هود ( المكرمين ) [ قيل : سماهم مكرمين ] لأنهم كانوا ملائكة كراما عند الله ، وقد قال الله تعالى في وصفهم : " بل عباد مكرمون " ( الأنبياء - 26 ) وقيل : لأنهم كانوا ضيف إبراهيم وكان إبراهيم أكرم الخليقة ، وضيف الكرام مكرمون .
وقيل : لأن إبراهيم عليه السلام أكرمهم بتعجيل قراهم ، والقيام بنفسه عليهم بطلاقة الوجه .
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : خدمته إياهم بنفسه .
وروي عن ابن عباس : سماهم مكرمين لأنهم جاءوا غير مدعوين . وروينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " .
( إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون ) أي : غرباء لا نعرفكم ، قال ابن عباس : قال في نفسه هؤلاء قوم لا نعرفهم . وقيل : إنما أنكر أمرهم لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان . وقال أبو العالية : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض .
( فراغ ) فعدل ومال ( إلى أهله فجاء بعجل سمين ) مشوي .
( فقربه إليهم ) ليأكلوا فلم يأكلوا ( قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة ) أي : صيحة ، قيل : لم يكن ذلك إقبالا من مكان [ ص: 377 ] إلى مكان ، وإنما هو كقول القائل : أقبل يشتمني ، بمعنى أخذ في شتمي ، أي أخذت تولول كما قال : " قالت يا ويلتا " ، ( هود - 72 ( فصكت وجهها ) قال ابن عباس : لطمت وجهها . وقال الآخرون : جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجبا ، كعادة النساء إذا أنكرن شيئا ، وأصل الصك : ضرب الشيء بالشيء العريض .
( وقالت عجوز عقيم ) مجازه : أتلد عجوز عقيم ؟ وكانت سارة لم تلد قبل ذلك .
( قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم ( 30 ) قال فما خطبكم أيها المرسلون ( 31 ) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ( 32 ) لنرسل عليهم حجارة من طين ( 33 ) مسومة عند ربك للمسرفين ( 34 ) فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين ( 35 ) فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ( 36 ) وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم ( 37 ) )
( قالوا كذلك قال ربك ) أي كما قلنا لك قال ربك إنك ستلدين غلاما ( إنه هو الحكيم العليم ) .
( قال ) [ يعني إبراهيم ] ( فما خطبكم أيها المرسلون ) . ( قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ) يعني : قوم لوط .
( لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة ) معلمة ( عند ربك للمسرفين ) قال ابن عباس : للمشركين ، والشرك أسرف الذنوب وأعظمها .
( فأخرجنا من كان فيها ) أي : في قرى قوم لوط ( من المؤمنين ) وذلك قوله : " فأسر بأهلك بقطع من الليل " ( هود - 81 ) .
( فما وجدنا فيها غير بيت ) أي غير أهل بيت ( من المسلمين ) يعني لوطا وابنتيه ، وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعا لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم .
( وتركنا فيها ) أي في مدينة قوم لوط ( آية ) عبرة ( للذين يخافون العذاب الأليم ) أي : علامة للخائفين تدلهم على أن الله تعالى أهلكهم فيخافون مثل عذابهم .
[ ص: 378 ] ( وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين ( 38 ) فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون ( 39 ) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم ( 40 ) وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ( 41 ) ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ( 42 ) وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين ( 43 ) فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ( 44 ) فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين ( 45 ) )
( وفي موسى ) أي : وتركنا في إرسال موسى آية وعبرة . وقيل : هو معطوف على قوله : " وفي الأرض آيات للموقنين " ، [ وفي موسى ] ( إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين ) بحجة ظاهرة .
( فتولى ) فأعرض وأدبر عن الإيمان ( بركنه ) أي بجمعه وجنوده الذين كانوا يتقوى بهم ، كالركن الذي يقوى به البنيان ، نظيره : " أو آوي إلى ركن شديد " ( هود - 80 ( وقال ساحر أو مجنون ) قال أبو عبيدة : " أو " بمعنى الواو .
( فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ) أغرقناهم فيه ( وهو مليم ) أي : آت بما يلام عليه من دعوى الربوبية وتكذيب الرسول .
( وفي عاد ) أي : وفي إهلاك عاد أيضا آية ( إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ) وهي التي لا خير فيها ولا بركة ولا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا .
( ما تذر من شيء أتت عليه ) من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم ( إلا جعلته كالرميم ) كالشيء الهالك البالي ، وهو نبات الأرض إذا يبس وديس . قال مجاهد : كالتبن اليابس . قال قتادة : كرميم الشجر . قال أبو العالية : كالتراب المدقوق . وقيل : أصله من العظم البالي .
( وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين ) يعني وقت فناء آجالهم ، وذلك أنهم لما عقروا الناقة قيل لهم : تمتعوا ثلاثة أيام .
( فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة ) يعني بعد مضي الأيام الثلاثة ، وهي الموت في قول ابن عباس ، قال مقاتل : يعني العذاب ، و " الصاعقة " : كل عذاب مهلك ، وقرأ الكسائي : " الصعقة " ، وهي الصوت الذي يكون من الصاعقة ( وهم ينظرون ) يرون ذلك عيانا .
[ ص: 379 ] ( فما استطاعوا من قيام ) فما قاموا بعد نزول العذاب بهم ولا قدروا على نهوض . قال قتادة : لم ينهضوا من تلك الصرعة ( وما كانوا منتصرين ) ممتنعين منا . قال قتادة : ما كانت عندهم قوة يمتنعون بها من الله .
( وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين ( 46 ) والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ( 47 ) والأرض فرشناها فنعم الماهدون ( 48 ) ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ( 49 ) ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ( 50 ) ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين ( 51 ) كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ( 52 ) )
( وقوم نوح ) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : " وقوم " بجر الميم ، أي : وفي قوم نوح ، وقرأ الآخرون بنصبها بالحمل على المعنى ، وهو أن قوله : " فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم " ، معناه : أغرقناهم وأغرقنا قوم نوح . ( من قبل ) أي : من قبل هؤلاء ، وهم عاد وثمود وقوم فرعون . ( إنهم كانوا قوما فاسقين ) .
( والسماء بنيناها بأيد ) بقوة وقدرة ( وإنا لموسعون ) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : قادرون . وعنه أيضا : لموسعون الرزق على خلقنا . وقيل : ذو سعة . قال الضحاك : أغنياء ، دليله : قوله - عز وجل - : " على الموسع قدره " ( البقرة - 236 ) ، قال الحسن : مطيقون .
( والأرض فرشناها ) بسطناها ومهدناها لكم ( فنعم الماهدون ) الباسطون نحن : قال ابن عباس : نعم ما وطأت لعبادي .
( ومن كل شيء خلقنا زوجين ) صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض ، والشمس والقمر ، والليل والنهار ، والبر والبحر ، والسهل والجبل ، والشتاء والصيف ، والجن والإنس ، والذكر والأنثى ، والنور والظلمة ، والإيمان والكفر ، والسعادة والشقاوة ، والحق والباطل ، والحلو والمر . ( لعلكم تذكرون ) فتعلمون أن خالق الأزواج فرد .
( ففروا إلى الله ) فاهربوا من عذاب الله إلى ثوابه ، بالإيمان والطاعة . قال ابن عباس : فروا منه إليه واعملوا بطاعته . وقال سهل بن عبد الله : فروا مما سوى الله إلى الله ( إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين ) .
( كذلك ) أي : كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون كذلك ( ما أتى الذين من قبلهم ) [ ص: 380 ] من قبل كفار مكة ( من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ) .
( أتواصوا به بل هم قوم طاغون ( 53 ) فتول عنهم فما أنت بملوم ( 54 ) وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ( 55 ) وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( 56 ) )
قال الله تعالى : ( أتواصوا به ) أي : أوصى أولهم آخرهم وبعضهم بعضا بالتكذيب وتواطئوا عليه ؟ والألف فيه للتوبيخ ( بل هم قوم طاغون ) قال ابن عباس : حملهم الطغيان فيما أعطيتهم ووسعت عليهم على تكذيبك ( فتول عنهم ) فأعرض عنهم ( فما أنت بملوم ) لا لوم عليك فقد أديت الرسالة وما قصرت فيما أمرت به .
قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واشتد ذلك على أصحابه ، وظنوا أن الوحي قد انقطع ، وأن العذاب قد حضر إذ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتولى عنهم ، فأنزل الله تعالى : ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) فطابت أنفسهم .
قال مقاتل : معناه عظ بالقرآن كفار مكة ، فإن الذكرى تنفع من [ سبق ] في علم الله أن يؤمن منهم . وقال الكلبي : عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم .
( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) قال الكلبي والضحاك وسفيان : هذا خاص لأهل طاعته من الفريقين ، يدل عليه قراءة ابن عباس : " وما خلقت الجن والإنس - من المؤمنين - إلا ليعبدون " ، ثم قال في أخرى : " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس " ، ( الأعراف - 79 ) .
وقال بعضهم : وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلا لعبادتي ، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي ، وهذا معنى قول زيد بن أسلم ، قال : هو على ما جبلوا عليه من الشقاوة والسعادة .
وقال علي بن أبي طالب : " إلا ليعبدون " أي إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي ، يؤيده قوله - عز وجل - : " وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا " . ( التوبة - 31 ) .
وقال مجاهد : إلا ليعرفوني . وهذا أحسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده ، دليله : قوله [ ص: 381 ] تعالى : " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " ( الزخرف - 87 ) .
وقيل : معناه إلا ليخضعوا إلي ويتذللوا ، ومعنى العبادة في اللغة : التذلل والانقياد ، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله ، متذلل لمشيئته لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق عليه .
وقيل : " إلا ليعبدون " إلا ليوحدوني ، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء ، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء ، بيانه قوله - عز وجل - : " فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين " . ( العنكبوت - 65 ) .
( ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ( 57 ) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ( 58 ) فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون ( 59 ) فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون ( 60 ) )
( ما أريد منهم من رزق ) أي : أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم ( وما أريد أن يطعمون ) أي : أن يطعموا أحدا من خلقي ، وإنما أسند الإطعام إلى نفسه ، لأن الخلق عيال الله ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه . كما جاء في الحديث يقول الله تعالى : " استطعمتك فلم تطعمني " أي : لم تطعم عبدي ، ثم بين أن الرازق هو لا غيره فقال :
( إن الله هو الرزاق ) يعني : لجميع خلقه ( ذو القوة المتين ) وهو القوي المقتدر المبالغ في القوة والقدرة .
( فإن للذين ظلموا ) كفروا من أهل مكة ( ذنوبا ) نصيبا من العذاب ( مثل ذنوب أصحابهم ) مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا من قوم نوح وعاد وثمود ، وأصل " الذنوب " في اللغة : الدلو العظيمة المملوءة ماء ، ثم استعمل في الحظ والنصيب ( فلا يستعجلون ) بالعذاب يعني أنهم أخروا إلى يوم القيامة .
يدل عليه قوله - عز وجل - : ( فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون ) . يعني : يوم القيامة ، وقيل : يوم بدر .
ابو وليد البحيرى
2022-11-08, 01:21 AM
الحلقة (386)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الطُّورِ
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 37
سُورَةُ الطُّورِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَالطُّورِ ( 1 ) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ( 2 ) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ( 3 ) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ( 4 ) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ( 5 ) )
( وَالطُّورِ ) أَرَادَ بِهِ الْجَبَلَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ ، أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ .
( وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ) مَكْتُوبٍ .
( فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ) " وَالرَّقُّ " : مَا يُكْتَبُ فِيهِ ، وَهُوَ أَدِيمُ الصُّحُفِ ، وَ " الْمَنْشُورُ " : الْمَبْسُوطُ ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْكِتَابِ ، قَالَ الْكَلْبِيُّ : هُوَ مَا كَتَبَ اللَّهُ بِيَدِهِ لِمُوسَى مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُوسَى يَسْمَعُ صَرِيرَ الْقَلَمِ .
وَقِيلَ : هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ . وَقِيلَ : دَوَاوِينُ الْحَفَظَةِ تَخْرُجُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْشُورَةً ، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ . دَلِيلُهُ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا " ، ( الْإِسْرَاءِ - 13 ) .
( وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ) بِكَثْرَةِ الْغَاشِيَةِ وَالْأَهْلِ ، وَهُوَ بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ حِذَاءَ الْعَرْشِ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ يُقَالُ لَهُ : الضُّرَاحُ ، حُرْمَتُهُ فِي السَّمَاءِ كَحُرْمَةِ الْكَعْبَةِ فِي الْأَرْضِ ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَطُوفُونَ بِهِ وَيُصَلُّونَ فِيهِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ أَبَدًا .
( وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ) يَعْنِي : السَّمَاءَ ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا " . ( الْأَنْبِيَاءِ - 32 ) .
[ ص: 386 ] ( والبحر المسجور ( 6 ) إن عذاب ربك لواقع ( 7 ) ما له من دافع ( 8 ) )
( والبحر المسجور ) قال محمد بن كعب القرظي والضحاك : يعني الموقد المحمى بمنزلة التنور المسجور ، وهو قول ابن عباس ، وذلك ما روي أن الله تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة نارا فيزاد بها في نار جهنم ، كما قال الله تعالى : " وإذا البحار سجرت " ، ( التكوير - 6 ) وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يركبن رجل بحرا إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا ، فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا " .
وقال مجاهد والكلبي : " المسجور " : المملوء ، يقال : سجرت الإناء إذا ملأته .
وقال الحسن ، وقتادة ، وأبو العالية : هو اليابس الذي قد ذهب ماؤه ونضب
وقال الربيع بن أنس : المختلط العذب بالمالح .
وروى الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي أنه قال في البحر المسجور : هو بحر تحت العرش ، غمره كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين ، فيه ماء غليظ يقال له : بحر الحيوان . يمطر العباد بعد النفخة الأولى منه أربعين صباحا فينبتون في قبورهم . هذا قول مقاتل : أقسم الله بهذه الأشياء . ( إن عذاب ربك لواقع ) نازل كائن .
( ما له من دافع ) مانع ، قال جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه المغرب ، وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ " والطور " إلى قوله " إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع " ، فكأنما صدع قلبي حين سمعته ، ولم يكن أسلم يومئذ ، قال : فأسلمت خوفا من نزول العذاب ، وما كنت أظن أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب .
[ ص: 387 ] يوم تمور السماء مورا ( 9 ) وتسير الجبال سيرا ( 10 ) فويل يومئذ للمكذبين ( 11 ) الذين هم في خوض يلعبون ( 12 ) يوم يدعون إلى نار جهنم دعا ( 13 ) هذه النار التي كنتم بها تكذبون ( 14 ) أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ( 15 ) اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون ( 16 ) إن المتقين في جنات ونعيم ( 17 ) فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم ( 18 ) )
ثم بين أنه متى يقع فقال :
( يوم تمور السماء مورا ) أي : تدور كدوران الرحى وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة . قال قتادة : تتحرك . قال عطاء الخراساني : تختلف أجزاؤها بعضها في بعض . وقيل : تضطرب ، و " المور " يجمع هذه المعاني ، فهو في اللغة : الذهاب والمجيء والتردد والدوران والاضطراب .
( وتسير الجبال سيرا ) فتزول عن أماكنها وتصير هباء منثورا .
( فويل ) فشدة عذاب ( يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون ) يخوضون في الباطل يلعبون غافلين لاهين .
( يوم يدعون ) يدفعون ( إلى نار جهنم دعا ) دفعا بعنف وجفوة ، وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم ، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ثم يدفعون بهم إلى النار دفعا على وجوههم ، وزجا في أقفيتهم حتى يردوا النار ، فإذا دنوا منها قال لهم خزنتها :
( هذه النار التي كنتم بها تكذبون ) في الدنيا . ( أفسحر هذا ) وذلك أنهم كانوا ينسبون محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى السحر ، وإلى أنه يغطي على الأبصار بالسحر ، فوبخوا به ، وقيل لهم : ( أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ) .
( اصلوها ) قاسوا شدتها ( فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم ) الصبر والجزع ( إنما تجزون ما كنتم تعملون ) .
( إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين ) معجبين بذلك ناعمين ( بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم ) ويقال لهم :
[ ص: 388 ] ( كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ( 19 ) متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين ( 20 ) والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين ( 21 ) )
( كلوا واشربوا هنيئا ) مأمون العاقبة من التخمة والسقم ( بما كنتم تعملون ) .
( متكئين على سرر مصفوفة ) موضوعة بعضها إلى جنب بعض ( وزوجناهم بحور عين ) .
( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ) قرأ أبو عمرو : " وأتبعناهم " ، بقطع الألف على التعظيم ، " ذرياتهم " ، بالألف وكسر التاء فيهما لقوله : " ألحقنا بهم " " وما ألتناهم " ، ليكون الكلام على نسق واحد .
وقرأ الآخرون : " واتبعتهم " بوصل الألف وتشديد التاء بعدها وسكون التاء الأخيرة .
ثم اختلفوا في " ذريتهم " : قرأ أهل المدينة الأولى بغير ألف وضم التاء ، والثانية بالألف وكسر التاء ، وقرأ أهل الشام ويعقوب كلاهما بالألف وكسر التاء في الثانية ، وقرأ الآخرون بغير ألف فيهما ورفع التاء في الأولى ونصبها في الثانية .
واختلفوا في معنى الآية ، فقال قوم : معناها والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ، يعني : أولادهم الصغار والكبار ، فالكبار بإيمانهم بأنفسهم ، والصغار بإيمان آبائهم ، فإن الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعا لأحد الأبوين ( ألحقنا بهم ذريتهم ) المؤمنين [ في الجنة بدرجاتهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم ] تكرمة لآبائهم لتقر بذلك أعينهم . وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم .
وقال آخرون : معناه والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم البالغون بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم . وهو قول الضحاك ، ورواية العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أخبر الله - عز وجل - أنه يجمع لعبده المؤمن ذريته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه ، يدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمل أبيه ، من غير أن ينقص الآباء من أعمالهم شيئا ، فذلك قوله : ( وما ألتناهم ) قرأ ابن كثير بكسر اللام ، والباقون بفتحها أي ما نقصناهم يعني الآباء ( من عملهم من شيء ) . [ ص: 389 ]
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله الحديثي ، حدثنا سعيد بن محمد بن إسحاق الصيرفي ، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جبارة بن المغلس ، حدثنا قيس بن الربيع ، حدثنا عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل ، لتقر بهم عينه " ، ثم قرأ : " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم " ، إلى آخر الآية .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي - رضي الله عنه - قال : سألت خديجة رضي الله تعالى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ولدين ماتا لها في الجاهلية ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هما في النار " ، فلما رأى الكراهة في وجهها ، قال : " لو رأيت مكانهما لأبغضتهما " ، قالت : يا رسول الله فولدي منك ؟ قال : " في الجنة " ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار " ، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم " .
( كل امرئ بما كسب رهين ) قال مقاتل : كل امرئ كافر بما عمل من الشرك مرتهن في النار ، والمؤمن لا يكون مرتهنا ، لقوله - عز وجل - : " كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين " ، ثم ذكر ما يزيدهم من الخير والنعمة فقال :
[ ص: 390 ] وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون ( 22 ) يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم ( 23 ) ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون ( 24 ) وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ( 25 ) قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ( 26 ) )
( وأمددناهم بفاكهة ) زيادة على ما كان لهم ( ولحم مما يشتهون ) من أنواع اللحمان .
( يتنازعون ) يتعاطون ويتناولون ( فيها كأسا لا لغو فيها ) وهو الباطل ، وروي ذلك عن قتادة ، وقال مقاتل بن حيان : لا فضول فيها . وقال سعيد بن المسيب : لا رفث فيها . وقال ابن زيد : لا سباب ولا تخاصم فيها . وقال القتيبي : لا تذهب عقولهم فيلغوا ويرفثوا ( ولا تأثيم ) أي لا يكون منهم ما يؤثمهم . قال الزجاج : لا يجري بينهم ما يلغي ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لشربة الخمر . وقيل : لا يأثمون في شربها .
( ويطوف عليهم ) بالخدمة ( غلمان لهم كأنهم ) في الحسن والبياض والصفاء ( لؤلؤ مكنون ) مخزون مصون لم تمسه الأيدي . قال سعيد بن جبير : يعني في الصدف .
قال عبد الله بن عمر : وما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام ، وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه .
وروي عن الحسن أنه لما تلا هذه الآية قال : قالوا يا رسول الله : الخادم كاللؤلؤ المكنون ، فكيف المخدوم ؟
وعن قتادة أيضا قال : ذكر لنا أن رجلا قال : يا نبي الله هذا الخادم فكيف المخدوم ؟ قال : " فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " .
( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) يسأل بعضهم بعضا في الجنة . قال ابن عباس : يتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف في الدنيا .
( قالوا إنا كنا قبل في أهلنا ) في الدنيا ( مشفقين ) خائفين من العذاب .
[ ص: 391 ] فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم ( 27 ) إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم ( 28 ) فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ( 29 ) أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ( 30 ) قل تربصوا فإني معكم من المتربصين ( 31 ) أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون ( 32 ) )
( فمن الله علينا ) بالمغفرة ( ووقانا عذاب السموم ) قال الكلبي : عذاب النار . وقال الحسن : " السموم " اسم من أسماء جهنم .
( إنا كنا من قبل ) في الدنيا ( ندعوه ) نخلص له العبادة ( إنه ) قرأ أهل المدينة [ والكسائي ] " أنه " بفتح الألف ، أي : لأنه أو بأنه ، وقرأ الآخرون بالكسر على الاستئناف ( هو البر ) قال ابن عباس : اللطيف . وقال الضحاك : الصادق فيما وعد ( الرحيم ) .
( فذكر ) يا محمد بالقرآن أهل مكة ( فما أنت بنعمة ربك ) برحمته وعصمته ( بكاهن ) تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وحي ( ولا مجنون ) نزلت في الذين اقتسموا عقاب مكة يرمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكهانة والسحر والجنون والشعر .
( أم يقولون ) بل يقولون ، يعني : هؤلاء المقتسمين الخراصين ( شاعر ) أي : هو شاعر ( نتربص به ريب المنون ) حوادث الدهر وصروفه فيموت ويهلك كما هلك من قبله من الشعراء ، ويتفرق أصحابه ، وإن أباه مات شابا ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه ، و " المنون " يكون بمعنى الدهر ، ويكون بمعنى الموت ، سميا بذلك لأنهما يقطعان الأجل .
( قل تربصوا ) انتظروا بي الموت ( فإني معكم من المتربصين ) [ من المنتظرين ] حتى يأتي أمر الله فيكم ، فعذبوا يوم بدر بالسيف .
( أم تأمرهم أحلامهم ) عقولهم ( بهذا ) وذلك أن عظماء قريش كانوا يوصفون بالأحلام والعقول ، فأزرى الله بعقولهم حين لم تتميز لهم معرفة الحق من الباطل ( أم هم ) بل هم ( قوم طاغون ) .
[ ص: 392 ] أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون ( 33 ) فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ( 34 ) أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ( 35 ) أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ( 36 ) أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون ( 37 ) )
( أم يقولون تقوله ) أي : يخلق القرآن من تلقاء نفسه ، " والتقول " ، تكلف القول ، ولا يستعمل إلا في الكذب ، ليس الأمر كما زعموا ( بل لا يؤمنون ) بالقرآن استكبارا . ثم ألزمهم الحجة فقال : ( فليأتوا بحديث مثله ) أي : مثل القرآن ونظمه وحسن بيانه ( إن كانوا صادقين ) أن محمدا يقوله من قبل نفسه .
( أم خلقوا من غير شيء ) قال ابن عباس : من غير رب ، ومعناه : أخلقوا من غير شيء خلقهم فوجدوا بلا خالق ؟ وذلك مما لا يجوز أن يكون ، لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم ، فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق ( أم هم الخالقون ) لأنفسهم وذلك في البطلان أشد ، لأن ما لا وجود له كيف يخلق ؟
فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقا فليؤمنوا به ، ذكر هذا المعنى أبو سليمان الخطابي .
وقال الزجاج : معناه : أخلقوا باطلا لا يحاسبون ولا يؤمرون ؟ وقال ابن كيسان : أخلقوا عبثا وتركوا سدى لا يؤمرون ولا ينهون ، فهو كقول القائل : فعلت كذا وكذا من غير شيء أي : لغير شيء ، أم هم الخالقون لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر ؟
( أم خلقوا السماوات والأرض ) فيكونوا هم الخالقين ، ليس الأمر كذلك ( بل لا يوقنون ) .
( أم عندهم خزائن ربك ) قال عكرمة : يعني النبوة . قال مقاتل : أبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاءوا ؟ قال الكلبي : خزائن المطر والرزق ( أم هم المسيطرون ) المسلطون الجبارون ، قال عطاء : أرباب قاهرون فلا يكونوا تحت أمر ونهي ، يفعلون ما شاءوا . ويجوز بالسين والصاد جميعا ، قرأ ابن عامر بالسين هاهنا وقوله : " بمسيطر " ، وقرأ حمزة بإشمام الزاي فيهما ، وقرأ ابن كثير هاهنا بالسين و " بمصيطر " بالصاد ، وقرأ الآخرون بالصاد فيهما .
ابو وليد البحيرى
2022-11-08, 01:33 AM
الحلقة (387)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ النَّجْمِ
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 11
[ ص: 393 ] أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين ( 38 ) أم له البنات ولكم البنون ( 39 ) أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ( 40 ) أم عندهم الغيب فهم يكتبون ( 41 ) أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون ( 42 ) )
( أم لهم سلم ) مرقى ومصعد إلى السماء ( يستمعون فيه ) أي يستمعون عليه الوحي ، كقوله : " ولأصلبنكم في جذوع النخل " ( طه - 71 ) أي : عليها ، معناه : ألهم سلم يرتقون به إلى السماء ، فيستمعون الوحي ويعلمون أن ما هم عليه حق بالوحي ، فهم مستمسكون به كذلك ؟ ( فليأت مستمعهم ) إن ادعوا ذلك ( بسلطان مبين ) حجة بينة .
( أم له البنات ولكم البنون ) هذا إنكار عليهم حين جعلوا لله ما يكرهون ، كقوله : " فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون " ( الصافات - 149 ) .
( أم تسألهم أجرا ) جعلا على ما جئتهم به ودعوتهم إليه من الدين ( فهم من مغرم مثقلون ) أثقلهم ذلك المغرم الذي تسألهم ، فمنعهم من ذلك عن الإسلام .
( أم عندهم الغيب ) أي : علم ما غاب عنهم ، حتى علموا أن ما يخبرهم الرسول من أمر القيامة والبعث باطل .
وقال قتادة : هذا جواب لقولهم : " نتربص به ريب المنون " ، يقول : أعندهم علم الغيب حتى علموا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يموت قبلهم ؟ ( فهم يكتبون ) أي : يحكمون ، والكتاب : الحكم ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجلين اللذين تخاصما إليه : " أقضي بينكما بكتاب الله " أي بحكم الله .
وقال ابن عباس : معناه أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس به ؟
( أم يريدون كيدا ) مكرا بك ليهلكوك ؟ ( فالذين كفروا هم المكيدون ) أي : هم المجزيون بكيدهم ، يريد أن ضرر ذلك يعود عليهم ، ويحيق مكرهم بهم ، وذلك أنهم مكروا به في دار الندوة فقتلوا ببدر .
[ ص: 394 ] أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون ( 43 ) وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ( 44 ) فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ( 45 ) يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون ( 46 ) وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 47 ) واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ( 48 ) )
( أم لهم إله غير الله ) يرزقهم وينصرهم ؟ ( سبحان الله عما يشركون ) قال الخليل : ما في هذه السورة من ذكر " أم " كله استفهام وليس بعطف .
( وإن يروا كسفا ) قطعة ( من السماء ساقطا ) هذا جواب لقولهم : " فأسقط علينا كسفا من السماء " ، يقول : لو عذبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم لم ينتهوا عن كفرهم ( يقولوا ) لمعاندتهم هذا ( سحاب مركوم ) بعضه على بعض يسقينا .
( فذرهم حتى يلاقوا ) يعانوا ( يومهم الذي فيه يصعقون ) أي : يموتون ، حتى يعانوا الموت ، قرأ ابن عامر وعاصم يصعقون بضم الياء ، أي : يهلكون .
( يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون ) أي : لا ينفعهم كيدهم يوم الموت ولا يمنعهم من العذاب مانع .
( وإن للذين ظلموا ) [ كفروا ] ( عذابا دون ذلك ) أي : عذابا في الدنيا قبل عذاب الآخرة . قال ابن عباس : يعني القتل يوم بدر ، وقال الضحاك : هو الجوع والقحط سبع سنين . وقال البراء بن عازب : هو عذاب القبر . ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) أن العذاب نازل بهم .
( واصبر لحكم ربك ) إلى أن يقع بهم العذاب الذي حكمنا عليهم ( فإنك بأعيننا ) أي بمرأى منا ، قال ابن عباس : نرى ما يعمل بك . وقال الزجاج : إنك بحيث نراك ونحفظك فلا يصلون إلى مكروهك . ( وسبح بحمد ربك حين تقوم ) قال سعيد بن جبير وعطاء : أي : قل حين تقوم من مجلسك : سبحانك اللهم وبحمدك ، فإن كان المجلس خيرا ازددت فيه إحسانا ، وإن كان غير ذلك كان كفارة له . [ ص: 395 ]
أخبرنا أبو عبد الله عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد القفال ، أخبرنا أبو منصور أحمد بن الفضل البرونجردي ، أخبرنا أبو أحمد بكر بن محمد الصيرفي ، حدثنا أحمد بن عبد الله القرشي ، حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج ، عن موسى بن عقبة ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من جلس مجلسا وكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، إلا كان كفارة لما بينهما " .
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : معناه صل لله حين تقوم من مقامك .
وقال الضحاك والربيع : إذا قمت إلى الصلاة فقل : " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك " .
أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أخبرنا أبو محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا الحسن بن عرفة ويحيى بن موسى قال : حدثنا أبو معاوية عن حارثة بن أبي الرجال ، عن عمرة عن عائشة قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة قال : " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك " .
وقال الكلبي : هو ذكر الله باللسان حين تقوم من الفراش إلى أن تدخل في الصلاة .
أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني ، أخبرنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي ، أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر اللؤلئي ، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث ، حدثنا [ ص: 396 ] محمد بن نافع ، حدثنا زيد بن حباب ، أخبرني معاوية بن صالح ، أخبرنا أزهر بن سعيد الحرازي عن عاصم بن حميد قال : سألت عائشة رضي الله تعالى عنها بأي شيء كان يفتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيام الليل ؟ فقالت : كان إذا قام كبر الله عشرا ، وحمد الله عشرا ، وسبح الله عشرا ، وهلل عشرا ، واستغفر عشرا ، وقال : اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ، ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة " .
( ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ( 49 ) )
( ومن الليل فسبحه ) أي : صل له ، قال مقاتل : يعني صلاة المغرب والعشاء . ( وإدبار النجوم ) يعني الركعتين قبل صلاة الفجر ، وذلك حين تدبر النجوم أي تغيب بضوء الصبح ، هذا قول أكثر المفسرين . وقال الضحاك : هو فريضة صلاة الصبح .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه أنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بالطور .
سُورَةُ النَّجْمِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ( 1 ) )
( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْوَالِبِيِّ وَالْعَوْفِيِّ : يَعْنِي الثُّرَيَّا إِذَا سَقَطَتْ وَغَابَتْ ، وَهُوِيُّهُ مَغِيبُهُ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الثُّرَيَّا نَجْمًا .
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا : " مَا طَلَعَ النَّجْمُ قَطُّ وَفِي الْأَرْضِ مِنَ الْعَاهَةِ شَيْءٌ إِلَّا رُفِعَ " وَأَرَادَ بِالنَّجْمِ الثُّرَيَّا .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ نُجُومُ السَّمَاءِ كُلُّهَا حِينَ تَغْرُبُ لَفْظُهُ وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ ، سُمِّيَ الْكَوْكَبُ نَجْمًا لِطُلُوعِهِ ، وَكُلُّ طَالِعٍ نَجْمٌ ، يُقَالُ : نَجَمَ السِّنُّ وَالْقَرْنُ وَالنَّبْتُ : إِذَا طَلَعَ .
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ الرُّجُومُ مِنَ النُّجُومِ يَعْنِي مَا تُرْمَى بِهِ الشَّيَاطِينُ عِنْدَ اسْتِرَاقِهِمُ السَّمْعَ . [ ص: 400 ]
وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَّالِيُّ : هِيَ النُّجُومُ إِذَا انْتَثَرَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ الْقُرْآنُ سَمِّيَ نَجْمًا لِأَنَّهُ نُزِّلَ نُجُومًا مُتَفَرِّقَةً فِي عِشْرِينَ سَنَةً ، وَسُمِّي التَّفْرِيقُ : تَنْجِيمًا ، وَالْمُفَرَّقُ : مُنَجَّمًا ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيُّ .
" الْهُوِّيُّ " : النُّزُولُ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ . وَقَالَ الْأَخْفَشُ : " النَّجْمُ " هُوَ النَّبْتُ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ " ( الرَّحْمَنِ - 6 ) ، وَهُوِيُّهُ سُقُوطُهُ عَلَى الْأَرْضِ . وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ : يَعْنِي مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ ، وَ " الْهُوِيُّ " : النُّزُولُ ، يُقَالُ : هَوَى يَهْوِي هُوِيًّا [ إِذَا نَزَلَ ] مِثْلُ مَضَى يَمْضِي مُضِيًّا .
( ما ضل صاحبكم وما غوى ( 2 ) وما ينطق عن الهوى ( 3 ) إن هو إلا وحي يوحى ( 4 ) علمه شديد القوى ( 5 ) ذو مرة فاستوى ( 6 ) وهو بالأفق الأعلى ( 7 ) )
وجواب القسم : قوله : ( ما ضل صاحبكم ) يعني : محمدا - صلى الله عليه وسلم - ما ضل عن طريق الهدى ( وما غوى ( وما ينطق عن الهوى ) أي : بالهوى يريد لا يتكلم بالباطل ، وذلك أنهم قالوا : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقول القرآن من تلقاء نفسه .
( إن هو ) ما نطقه في الدين ، وقيل : القرآن ( إلا وحي يوحى ) أي : وحي من الله يوحى إليه .
( علمه شديد القوى ) جبريل ، والقوى جمع القوة .
( ذو مرة ) قوة وشدة في خلقه يعني جبريل . قال ابن عباس : ذو مرة يعني : ذو منظر حسن . وقال مقاتل : ذو خلق طويل حسن . ( فاستوى ) يعني : جبريل .
( وهو ) يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وأكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا أن يظهروا كناية المعطوف عليه ، فيقولون استوى هو وفلان ، وقلما يقولون : استوى وفلان نظير هذا قوله : " أئذا كنا ترابا وآباؤنا " ( النمل - 67 ) عطف الآباء على المكنى في " كنا " من غير إظهار نحن ، ومعنى الآية : استوى جبريل ومحمد عليهما السلام ليلة المعراج ( بالأفق الأعلى ) وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس ، وقيل : " فاستوى " يعني جبريل ، وهو كناية عن جبريل أيضا أي : قام في صورته التي خلقه [ ص: 401 ] الله ، وهو بالأفق الأعلى ، وذلك أن جبريل كان يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين ، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريه نفسه على الصورة التي جبل عليها فأراه نفسه مرتين : مرة في الأرض ومرة في السماء ، فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى ، والمراد بالأعلى جانب المشرق ، وذلك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب ، فخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغشيا عليه ، فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه ، وجعل يمسح الغبار عن وجهه ، وهو قوله : " ثم دنا فتدلى " وأما في السماء فعند سدرة المنتهى ، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
( ثم دنا فتدلى ( 8 ) فكان قاب قوسين أو أدنى ( 9 ) )
قوله - عز وجل - : ( ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ) اختلفوا في معناه :
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن ابن الأشوع عن الشعبي عن مسروق قال : قلت لعائشة فأين قوله : " ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى " ؟ قالت : " ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل ، وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته ، فسد الأفق " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا طلق بن غنام ، حدثنا زائدة عن الشيباني قال : سألت زرا عن قوله : " فكان قاب قوسين أو أدنى " ، قال : أخبرنا عبد الله - يعني ابن مسعود - أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل له ستمائة جناح .
فمعنى الآية : ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض " فتدلى " فنزل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فكان منه " قاب قوسين أو أدنى " ، بل أدنى ، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة ، قيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : ثم تدلى فدنا؛ لأن التدلي سبب الدنو .
وقال آخرون : ثم دنا الرب - عز وجل - من محمد - صلى الله عليه وسلم - فتدلى ، فقرب منه حتى كان قاب [ ص: 402 ] قوسين أو أدنى . وروينا في قصة المعراج عن شريك بن عبد الله عن أنس : ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى . وهذا رواية ابن سلمة عن ابن عباس ، " والتدلي " هو النزول إلى الشيء حتى يقرب منه .
وقال مجاهد : دنا جبريل من ربه .
وقال الضحاك : دنا محمد - صلى الله عليه وسلم - من ربه فتدلى فأهوى للسجود ، فكان منه قاب قوسين أو أدنى .
ومعنى قوله : " قاب قوسين " أي قدر قوسين ، و " القاب " و " القيب " و " القاد " و " القيد " : عبارة عن المقدار ، و " القوس " : ما يرمى به في قول الضحاك ومجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس ، فأخبر أنه كان بين جبريل وبين محمد عليهما السلام مقدار قوسين ، قال مجاهد : معناه حيث الوتر من القوس ، وهذا إشارة إلى تأكيد القرب . وأصله : أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد خرجا بقوسيهما فألصقا بينهما ، يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه .
وقال عبد الله بن مسعود : " قاب قوسين " أي : قدر ذراعين ، وهو قول سعيد بن جبير وشقيق بن سلمة ، و " القوس " : الذراع يقاس بها كل شيء ، " أو أدنى " : بل أقرب .
( فأوحى إلى عبده ما أوحى ( 10 ) )
( فأوحى ) أي : أوحى الله ( إلى عبده ) محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى ، قال ابن عباس في رواية عطاء ، والكلبي ، والحسن ، والربيع ، وابن زيد : معناه : أوحى جبريل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى إليه ربه - عز وجل - .
قال سعيد بن جبير : أوحى إليه : " ألم يجدك يتيما فآوى " ( الضحى - 6 ) إلى قوله تعالى : " ورفعنا لك ذكرك " ، ( الشرح - 4 ) وقيل : أوحى إليه : إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك .
[ ص: 403 ] ( ما كذب الفؤاد ما رأى ( 11 ) )
( ما كذب الفؤاد ما رأى ) قرأ أبو جعفر " ما كذب الفؤاد " بتشديد الذال أي : ما كذب قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما رأى بعينه تلك الليلة ، بل صدقه وحققه ، وقرأ الآخرون بالتخفيف أي : ما كذب فؤاد محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي رأى بل صدقه ، يقال : كذبه إذا قال له الكذب مجازه : ما كذب الفؤاد فيما رأى ، واختلفوا في الذي رآه ، فقال قوم : رأى جبريل ، وهو قول ابن مسعود وعائشة .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حفص هو ابن غياث عن الشيباني عن زر عن عبد الله قال : " ما كذب الفؤاد ما رأى " قال : رأى جبريل له ستمائة جناح .
وقال آخرون : هو الله - عز وجل - . ثم اختلفوا في معنى الرؤية ، فقال بعضهم : جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده ، وهو قول ابن عباس .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن حجاج ، حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش عن زياد بن الحصين عن أبي العالية عن ابن عباس : " ما كذب الفؤاد ما رأى " . " ولقد رآه نزلة أخرى " قال : رآه بفؤاده مرتين .
وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس والحسن وعكرمة ، قالوا : رأى محمد ربه ، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة ، واصطفى موسى بالكلام ، واصطفى محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية .
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول : لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه ، وتحمل الآية على رؤيته جبريل عليه السلام : [ ص: 404 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر عن مسروق قال : قلت لعائشة يا أماه هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت : أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب ؟ من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير " ، ( الأنعام - 103 ) " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب " ( الشورى - 51 ) ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت : " وما تدري نفس ماذا تكسب غدا " ( لقمان - 34 ) ومن حدثك أنه كتم شيئا فقد كذب ، ثم قرأت : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " ( المائدة - 67 ) الآية ، ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن [ شقيق ] عن أبي ذر قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل رأيت ربك ؟ قال : " نور أنى أراه " .
ابو وليد البحيرى
2022-11-08, 01:39 AM
الحلقة (388)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ النَّجْمِ
مَكِّيَّةٌ
الاية 12 إلى الاية 33
( أفتمارونه على ما يرى ( 12 ) ولقد رآه نزلة أخرى ( 13 ) عند سدرة المنتهى ( 14 ) )
( أفتمارونه على ما يرى ) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب : " أفتمرونه " بفتح التاء [ وسكون الميم ] بلا ألف ، أي : أفتجحدونه ، تقول العرب : مريت الرجل حقه إذا جحدته ، وقرأ الآخرون : " أفتمارونه " بالألف وضم التاء على معنى أفتجادلونه على ما يرى وذلك أنهم جادلوه حين أسري به ، فقالوا : صف لنا بيت المقدس ، وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به ، والمعنى : أفتجادلونه جدالا ترومون به دفعه عما رآه وعلمه .
( ولقد رآه نزلة أخرى ) يعني : رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلا من السماء نزلة أخرى ، وذلك أنه رآه في صورته مرتين ، مرة في الأرض ومرة في السماء .
( عند سدرة المنتهى ) وعلى قول ابن عباس معنى : " نزلة أخرى " هو أنه كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - عرجات في تلك الليلة لمسألة التخفيف من أعداد الصلوات ، فيكون لكل عرجة نزلة ، فرأى ربه [ ص: 405 ] في بعضها ، وروينا عنه : " أنه رأى ربه بفؤاده مرتين " وعنه : " أنه رأى بعينه " قوله : " عند سدرة المنتهى " روينا عن عبد الله بن مسعود قال : لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها ، قال تعالى : " عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى " ، قال : فراش من ذهب .
وروينا في حديث المعراج : " ثم صعد بي إلى السماء السابعة فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام فسلمت عليه ، ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة " .
" والسدرة " شجرة النبق ، وقيل لها : سدرة المنتهى لأنه إليها ينتهي علم الخلق . قال هلال بن [ يساف ] : سأل ابن عباس كعبا عن سدرة المنتهى وأنا حاضر ، فقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش على رءوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق ، وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن شيبة ، حدثنا المسوحي ، حدثنا عبيد بن يعيش ، حدثنا يونس بن بكير ، أخبرنا محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر سدرة المنتهى ، قال : " يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة عام ويستظل في الفنن منها مائة ألف راكب ، فيها فراش من ذهب ، كأن ثمرها القلال " .
وقال مقاتل : هي شجرة تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان ، لو أن ورقة وضعت منها في الأرض لأضاءت لأهل الأرض ، وهي طوبى التي ذكرها الله تعالى في سورة الرعد .
[ ص: 406 ] ( عندها جنة المأوى ( 15 ) إذ يغشى السدرة ما يغشى ( 16 ) ما زاغ البصر وما طغى ( 17 ) لقد رأى من آيات ربه الكبرى ( 18 ) )
( عندها جنة المأوى ) قال عطاء عن ابن عباس : جنة يأوي إليها جبريل والملائكة . وقال مقاتل والكلبي : يأوي إليها أرواح الشهداء .
( إذ يغشى السدرة ما يغشى ) قال ابن مسعود : فراش من ذهب .
وروينا في حديث المعراج عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال ، فلما غشى من أمر الله ما غشى تغيرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، وأوحى إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة " .
وقال مقاتل : تغشاها الملائكة أمثال الغربان ، وقال السدي : من الطيور . وروي عن أبي العالية عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أو غيره قال : غشيها نور الخلائق وغشيتها الملائكة من حب الله أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة . قال : فكلمه عند ذلك ، فقال له : سل . وعن الحسن قال : غشيها نور رب العزة فاستنارت . ويروى في الحديث : " رأيت على كل ورقة منها ملكا قائما يسبح الله تعالى " .
( ما زاغ البصر وما طغى ) أي : ما مال بصر النبي - صلى الله عليه وسلم - يمينا ولا شمالا وما طغى ، أي ما جاوز ما رأى . وقيل : ما جاوز ما أمر به وهذا وصف أدبه في ذلك المقام إذ لم يلتفت جانبا .
( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) يعني : الآيات العظام . وقيل : أراد ما رأى تلك الليلة في مسيره وعوده ، دليله قوله : " لنريه من آياتنا " ، ( الإسراء - 1 ) وقيل : معناه لقد رأى من آيات ربه الآية الكبرى .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري ، حدثنا أبي ، حدثنا [ ص: 407 ] شعبة عن سليمان الشيباني سمع زر بن حبيش عن عبد الله قال : لقد رأى من آيات ربه الكبرى قال : رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حفص بن عمرو ، حدثنا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة [ عن عبد الله ] " لقد رأى من آيات ربه الكبرى " ؟ قال : رأى رفرفا أخضر سد أفق السماء .
( أفرأيتم اللات والعزى ( 19 ) )
قوله - عز وجل - : ( أفرأيتم اللات والعزى ) هذه أسماء أصنام اتخذوها آلهة يعبدونها ، اشتقوا لها أسماء من أسماء الله تعالى فقالوا من الله : اللات ، ومن العزيز : العزى . وقيل : العزى : تأنيث الأعز ، أما " اللات " قال قتادة : كانت بالطائف ، وقال ابن زيد : بيت بنخلة كانت قريش تعبده .
وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو صالح : " اللات " بتشديد التاء ، وقالوا : كان رجلا يلت السويق للحاج ، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه .
وقال مجاهد : كان في رأس جبل له غنيمة يسلأ منها السمن ويأخذ منها الأقط ، ويجمع رسلها ثم يتخذ منها حيسا فيطعم منه الحاج ، وكان ببطن نخلة ، فلما مات عبدوه ، وهو اللات .
وقال الكلبي : كان رجلا من ثقيف يقال له صرمة بن غنم ، وكان يسلأ السمن فيضعها على صخرة ثم تأتيه العرب فتلت به أسوقتهم ، فلما مات الرجل حولتها ثقيف إلى منازلها فعبدتها ، فسدرة الطائف على موضع اللات .
وأما " العزى " : قال مجاهد : هي شجرة بغطفان كانوا يعبدونها ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد فقطعها فجعل خالد بن الوليد يضربها بالفأس ويقول : [ ص: 408 ]
يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها .
ويقال : إن خالدا رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : قد قلعتها ، فقال : ما رأيت ؟ قال : ما رأيت شيئا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما قلعت ، فعاودها فعاد إليها ومعه المعول فقلعها واجتث أصلها فخرجت منها امرأة عريانة ، فقتلها ثم رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك ، فقال : " تلك العزى ولن تعبد أبدا " .
وقال الضحاك : هي صنم لغطفان وضعها لهم سعد بن ظالم الغطفاني ، وذلك أنه قدم مكة فرأى الصفا والمروة ، ورأى أهل مكة يطوفون بينهما ، فعاد إلى بطن نخلة ، وقال لقومه : إن لأهل مكة الصفا والمروة وليستا لكم ، ولهم إله يعبدونه وليس لكم ، قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : أنا أصنع لكم كذلك ، فأخذ حجرا من الصفا وحجرا من المروة ونقلهما إلى نخلة ، فوضع الذي أخذ من الصفا ، فقال : هذا الصفا ، ثم وضع الذي أخذه من المروة ، فقال : هذه المروة ، ثم أخذ ثلاثة أحجار فأسندها إلى شجرة ، فقال : هذا ربكم ، فجعلوا يطوفون بين الحجرين ويعبدون الحجارة ، حتى افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة ، فأمر برفع الحجارة ، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فقطعها .
وقال ابن زيد : هي بيت بالطائف كانت تعبده ثقيف .
( ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) )
( ومناة ) قرأ ابن كثير بالمد والهمزة ، وقرأ العامة بالقصر غير مهموز ، لأن العرب سمت زيد مناة وعبد مناة ، ولم يسمع فيها المد . قال قتادة : هي لخزاعة كانت بقديد ، قالت عائشة رضي الله عنها في الأنصار : كانوا يهلون لمناة ، وكانت حذو قديد . قال ابن زيد : بيت كان بالمشلل يعبده بنو كعب . قال الضحاك : مناة صنم لهذيل وخزاعة يعبدها أهل مكة . وقال بعضهم : اللات والعزى ومناة : أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها .
واختلف القراء في الوقف على اللات ومناة : فوقف بعضهم عليهما بالهاء وبعضهم بالتاء . وقال بعضهم : ما كتب في المصحف بالتاء يوقف عليه بالتاء ، وما كتب بالهاء فيوقف عليه بالهاء . [ ص: 409 ]
وأما قوله : ( الثالثة الأخرى ) [ فالثالثة ] نعت لمناة ، أي : الثالثة للصنمين في الذكر ، وأما الأخرى فإن العرب لا تقول الثالثة الأخرى ، إنما الأخرى هاهنا نعت للثانية . قال الخليل : فالياء لوفاق رءوس الآي ، كقوله : " مآرب أخرى " ( طه - 18 ) ولم يقل : أخر . وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها : أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة .
ومعنى الآية : " أفرأيتم " : أخبرونا يا أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله ، قال الكلبي : كان المشركون بمكة يقولون : الأصنام والملائكة بنات الله ، وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره ذلك .
( ألكم الذكر وله الأنثى ( 21 ) تلك إذا قسمة ضيزى ( 22 ) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ( 23 ) )
فقال الله تعالى منكرا عليهم : ( ( ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى ) قال ابن عباس وقتادة : أي قسمة جائرة حيث جعلتم لربكم ما تكرهون لأنفسكم . قال مجاهد ومقاتل : قسمة عوجاء . وقال الحسن : غير معتدلة .
قرأ ابن كثير : " ضئزى " بالهمز ، وقرأ الآخرون بغير همز .
قال الكسائي : يقال منه ضاز يضيز ضيزا ، وضاز يضوز ضوزا ، وضاز يضاز ضازا إذا ظلم ونقص ، وتقدير ضيزى من الكلام فعلى بضم الفاء ، لأنها صفة والصفات لا تكون إلا على فعلى بضم الفاء ، نحو حبلى وأنثى وبشرى ، أو فعلى بفتح الفاء ، نحو غضبى وسكرى وعطشى ، وليس في كلام العرب فعلى بكسر الفاء في النعوت ، إنما يكون في الأسماء ، مثل : ذكرى وشعرى ، وكسر الضاد هاهنا لئلا تنقلب الياء واوا وهي من بنات الياء كما قالوا في جمع أبيض بيض ، والأصل بوض مثل حمر وصفر ، فأما من قال : ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى .
( إن هي ) ما هذه الأصنام ( إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ) حجة بما تقولون إنها آلهة . ثم رجع إلى الخبر بعد المخاطبة فقال : ( إن يتبعون إلا الظن ) في قولهم إنها آلهة ( وما تهوى الأنفس ) وما زين لهم الشيطان ( ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) البيان بالكتاب والرسول أنها ليست بآلهة ، فإن العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار .
[ ص: 410 ] ( أم للإنسان ما تمنى ( 24 ) فلله الآخرة والأولى ( 25 ) وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ( 26 ) إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى ( 27 ) وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ( 28 ) فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ( 29 ) ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ( 30 ) )
( ( أم للإنسان ما تمنى ) أيظن الكافر أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام ؟
( فلله الآخرة والأولى ) ليس كما ظن الكافر وتمنى ، بل لله الآخرة والأولى ، لا يملك أحد فيهما شيئا إلا بإذنه .
( وكم من ملك في السماوات ) يعبدهم هؤلاء الكفار ويرجون شفاعتهم عند الله ( لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله ) في الشفاعة ( لمن يشاء ويرضى ) أي : من أهل التوحيد . قال ابن عباس : يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن - رضي الله عنه - . وجمع الكناية في قوله : " شفاعتهم " والملك واحد؛ لأن المراد من قوله : " وكم من ملك " الكثرة ، فهو كقوله : " فما منكم من أحد عنه حاجزين " ( الحاقة - 47 ) .
( إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى ) أي : بتسمية الأنثى حين قالوا : إنهم بنات الله .
( وما لهم به من علم ) قال مقاتل : [ معناه ] ما يستيقنون أنهم [ بنات الله ] ( إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) " والحق " بمعنى العلم ، أي : لا يقوم الظن مقام العلم . وقيل : " الحق " بمعنى العذاب ، [ أي : أظنهم لا ينقذهم من العذاب شيء ] .
( فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ) يعني القرآن . وقيل : الإيمان ( ولم يرد إلا الحياة الدنيا . ) .
ثم صغر رأيهم فقال : ( ذلك مبلغهم من العلم ) أي : ذلك نهاية علمهم وقدر عقولهم أن [ ص: 411 ] آثروا الدنيا على الآخرة .
وقيل : لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكة بنات الله ، وأنها تشفع لهم ، فاعتمدوا على ذلك وأعرضوا عن القرآن .
( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ) أي : هو عالم بالفريقين فيجازيهم .
( ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ( 31 ) الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ( 32 ) )
( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) وهذا معترض بين الآية الأولى وبين قوله : ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ) فاللام في قوله : " ليجزي " متعلق بمعنى الآية الأولى؛ لأنه إذا كان أعلم بهم جازى كلا بما يستحقه ، الذين أساءوا وأشركوا : بما عملوا من الشرك ( ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) وحدوا ربهم : " بالحسنى " بالجنة . وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك ، ولذلك قال : " ولله ما في السماوات وما في الأرض " .
ثم وصفهم فقال : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) اختلفوا في معنى الآية ، فقال قوم : هذا استثناء صحيح ، واللمم من الكبائر والفواحش ، ومعنى الآية : إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب ، ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة [ ومجاهد ، والحسن ] ، ورواية عطاء عن ابن عباس .
قال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك .
وقال السدي قال أبو صالح : سئلت عن قول الله تعالى : " إلا اللمم " ، فقلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده ، فذكرت ذلك لابن عباس فقال : لقد أعانك عليها ملك كريم . [ ص: 412 ]
وروينا عن عطاء عن ابن عباس في قوله : " إلا اللمم " ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما " .
وأصل " اللمم والإلمام " : ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ، ولا يكون إعادة ، ولا إقامة .
وقال آخرون : هذا استثناء منقطع ، مجازه : لكن اللمم ، ولم يجعلوا اللمم من الكبائر والفواحش ، ثم اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به ، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا ؟ فأنزل الله هذه الآية . وهذا قول زيد بن ثابت ، وزيد بن أسلم .
وقال بعضهم : هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي هريرة ، ومسروق ، والشعبي ، ورواية طاوس عن ابن عباس .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمود بن غيلان ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : ما رأيت أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك ويكذبه " .
ورواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وزاد : " العينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد [ زناها ] البطش ، والرجل زناها الخطى " . [ ص: 413 ]
وقال الكلبي : " اللمم " على وجهين : كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة ، فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر والفواحش ، والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه .
وقال سعيد بن المسيب : هو ما لم على القلب أي خطر .
وقال الحسين بن الفضل : " اللمم " النظرة من غير تعمد ، فهو مغفور ، فإن أعاد النظرة فليس بلمم وهو ذنب .
( إن ربك واسع المغفرة ) قال ابن عباس : لمن فعل ذلك وتاب ، تم الكلام هاهنا ، ثم قال : ( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ) أي خلق أباكم آدم من التراب ( وإذ أنتم أجنة ) جمع جنين ، سمي جنينا لاجتنانه في البطن ( في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم ) قال ابن عباس : لا تمدحوها . قال الحسن : علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة ، فلا تزكوا أنفسكم ، لا تبرءوها عن الآثام ، ولا تمدحوها بحسن أعمالها .
قال الكلبي ومقاتل : كان الناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( هو أعلم بمن اتقى ) أي : بر وأطاع وأخلص العمل لله تعالى .
( أفرأيت الذي تولى ( 33 ) )
قوله - عز وجل - : ( ( أفرأيت الذي تولى ) نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان قد اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - على دينه فعيره بعض المشركين وقال له : أتركت دين الأشياخ وضللتهم ؟ قال : إني خشيت عذاب الله ، فضمن الذي عاتبه إن هو [ وافقه ] أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل [ ص: 414 ] عنه عذاب الله ، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه تمامه ، فأنزل الله - عز وجل - " أفرأيت الذي تولى " أدبر عن الإيمان .
ابو وليد البحيرى
2022-11-08, 01:44 AM
الحلقة (389)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ النَّجْمِ
مَكِّيَّةٌ
الاية 34 إلى الاية 62
( وأعطى قليلا وأكدى ( 34 ) أعنده علم الغيب فهو يرى ( 35 ) أم لم ينبأ بما في صحف موسى ( 36 ) وإبراهيم الذي وفى ( 37 ) )
( وأعطى ) صاحبه ( قليلا وأكدى ) بخل بالباقي .
وقال مقاتل : " أعطى " يعني الوليد " قليلا " من الخير بلسانه ، ثم " أكدى " : يعني قطعه وأمسك ولم يقم على العطية .
وقال السدي : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وذلك أنه كان ربما يوافق النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمور .
وقال محمد بن كعب القرظي نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال : والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق ، فذلك قوله : " وأعطى قليلا وأكدى " أي لم يؤمن به ، ومعنى " أكدى " : يعني قطع ، وأصله من الكدية ، وهي حجر يظهر في البئر يمنع من الحفر ، تقول العرب : أكدى الحافر وأجبل ، إذا بلغ في الحفر الكدية والجبل .
( أعنده علم الغيب فهو يرى ) ما غاب عنه ويعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه .
( أم لم ينبأ ) لم يخبر ( بما في صحف موسى ) يعني : أسفار التوراة .
( وإبراهيم ) في صحف إبراهيم عليه السلام ( الذي وفى ) تمم وأكمل ما أمر به .
قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة : عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه إلى خلقه
قال مجاهد : وفى بما فرض عليه . [ ص: 415 ]
قال الربيع : وفى رؤياه وقام بذبح ابنه .
وقال عطاء الخراساني : استكمل الطاعة . وقال أبو العالية : وفى سهام الإسلام . وهو قوله : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " ، ( البقرة - 124 ) والتوفية الإتمام . وقال الضحاك : وفى ميثاق المناسك .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الخيري ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني ، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الزهري ، حدثنا إسحاق بن منصور عن إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إبراهيم الذي وفى [ صلى ] أربع ركعات أول النهار " .
أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أخبرنا أبو محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا أبو جعفر الشيباني ، حدثنا أبو مسهر ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله تبارك وتعالى أنه قال : " ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره " .
( ألا تزر وازرة وزر أخرى ( 38 ) )
ثم بين ما في صحفهما فقال : ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ) أي : لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى ، ومعناه : لا تؤخذ نفس بإثم غيرها . وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة بأنه يحمل عنه الإثم . [ ص: 416 ]
وروى عكرمة عن ابن عباس قال : كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره ، كان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وامرأته وعبده ، حتى كان إبراهيم عليه السلام فنهاهم عن ذلك ، وبلغهم عن الله : " ألا تزر وازرة وزر أخرى " .
( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ( 39 ) )
( ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) أي : عمل ، كقوله : " إن سعيكم لشتى " ، ( الليل - 4 ) وهذا أيضا في صحف إبراهيم وموسى .
وقال ابن عباس : هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة ، بقوله : " ألحقنا بهم ذريتهم " ، ( الطور - 21 ) فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء .
وقال عكرمة : كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى ، فأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم ، لما روي أن امرأة رفعت صبيا لها فقالت : يا رسول الله ألهذا حج ؟ قال : " نعم ، ولك أجر " .
وقال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن أمي افتلتت نفسها ، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : " نعم " .
وقال الربيع بن أنس : " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " يعني الكافر ، فأما المؤمن فله ما سعى وما سعي له .
وقيل : ليس للكافر من الخير إلا ما عمل هو ، فيثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير [ ص: 417 ]
ويروى أن عبد الله بن أبي كان أعطى العباس قميصا ألبسه إياه ، فلما مات أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه ليكفنه فيه ، فلم يبق له حسنة في الآخرة يثاب عليها .
( وأن سعيه سوف يرى ( 40 ) ثم يجزاه الجزاء الأوفى ( 41 ) وأن إلى ربك المنتهى ( 42 ) )
( وأن سعيه سوف يرى ) في ميزانه يوم القيامة ، [ مأخوذة ] من : أريته الشيء .
( ثم يجزاه الجزاء الأوفى ) الأكمل والأتم أي : يجزى الإنسان بسعيه ، يقال : جزيت فلانا سعيه وبسعيه ، قال الشاعر :
إن أجز علقمة بن سعد سعيه لم أجزه ببلاء يوم واحد فجمع بين اللغتين .
( وأن إلى ربك المنتهى ) أي : منتهى الخلق ومصيرهم إليه ، وهو مجازيهم بأعمالهم . وقيل : منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الآمال .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسن بن محمد الشيباني أخبرنا محمد بن سليمان بن الفتح الحنبلي ، حدثنا علي بن محمد المصري ، أخبرنا أبو إسحاق بن منصور الصعدي ، أخبرنا العباس بن زفر ، عن أبي جعفر الرازي ، عن أبيه عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : " وأن إلى ربك المنتهى " ، قال : " لا فكرة في الرب " ، وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعا : " تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق " فإنه لا تحيط به الفكرة .
[ ص: 418 ] ( وأنه هو أضحك وأبكى ( 43 ) وأنه هو أمات وأحيا ( 44 ) وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ( 45 ) من نطفة إذا تمنى ( 46 ) وأن عليه النشأة الأخرى ( 47 ) )
( وأنه هو أضحك وأبكى ) فهذا يدل على أن كل ما يعمله الإنسان فبقضائه وخلقه حتى الضحك والبكاء ، قال مجاهد والكلبي : أضحك أهل الجنة في الجنة ، وأبكى أهل النار في النار . وقال الضحاك : أضحك الأرض بالنبات ، وأبكى السماء بالمطر .
قال عطاء بن أبي مسلم : يعني أفرح وأحزن ، لأن الفرح يجلب الضحك ، والحزن يجلب البكاء .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا قيس ، هو ابن الربيع الأسدي ، حدثنا سماك بن حرب قال : قلت لجابر بن سمرة : أكنت تجالس النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم وكان أصحابه يجلسون ويتناشدون الشعر ، ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية ، فيضحكون ويتبسم معهم إذا ضحكوا - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - .
وقال معمر عن قتادة : سئل ابن عمر هل كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحكون ؟ قال : نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل .
( وأنه هو أمات وأحيا ) أي : أمات في الدنيا وأحيا للبعث . وقيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء . وقيل : أمات الكافر بالنكرة وأحيا المؤمن بالمعرفة .
( وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ) من كل حيوان .
( من نطفة إذا تمنى ) أي : تصب في الرحم ، يقال : منى الرجل وأمنى . قاله الضحاك وعطاء بن أبي رباح . وقال آخرون : تقدر ، يقال : منيت الشيء إذا قدرته .
( وأن عليه النشأة الأخرى ) أي : الخلق الثاني للبعث يوم القيامة .
[ ص: 419 ] ( وأنه هو أغنى وأقنى ( 48 ) وأنه هو رب الشعرى ( 49 ) وأنه أهلك عادا الأولى ( 50 ) )
( ( وأنه هو أغنى وأقنى ) قال أبو صالح : أغنى الناس بالأموال وأقنى أي : أعطى القنية وأصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية .
قال الضحاك : أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال ، وأقنى بالإبل والبقر والغنم .
وقال قتادة والحسن : " أقنى " : أخدم .
وقال ابن عباس : " أغنى وأقنى " : أعطى فأرضى .
قال مجاهد ومقاتل : " أقنى " : أرضى بما أعطى وقنع .
وقال ابن زيد : " أغنى " : أكثر " وأقنى " : أقل وقرأ : " يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " ، ( الإسراء - 30 ) وقال الأخفش : " أقنى " : أفقر . وقال ابن كيسان : أولد .
( وأنه هو رب الشعرى ) وهو كوكب خلف الجوزاء وهما شعريان ، يقال لإحداهما العبور وللأخرى الغميصاء ، سميت بذلك لأنها أخفى من الأخرى ، والمجرة بينهما . وأراد هاهنا الشعرى العبور ، وكانت خزاعة تعبدها ، وأول من سن لهم ذلك رجل من أشرافهم يقال له أبو كبشة عبدها ، وقال : لأن النجوم تقطع السماء عرضا والشعرى طولا فهي مخالفة لها ، فعبدتها خزاعة ، فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خلاف العرب في الدين سموه ابن أبي كبشة لخلافه إياهم ، كخلاف أبي كبشة في عبادة الشعرى .
( ( وأنه أهلك عادا الأولى ) قرأ أهل المدينة والبصرة بلام مشددة بعد الدال ، ويهمز واوه قالون عن نافع ، والعرب تفعل ذلك فتقول : قم لان عنا ، تريد : قم الآن ، ويكون الوقف عند " عادا " ، والابتداء " أولى " بهمزة واحدة مفتوحة بعدها لام مضمومة ، [ ويجوز الابتداء : لولى ] بحذف الهمزة المفتوحة .
وقرأ الآخرون : " عادا الأولى " ، وهم قوم هود أهلكوا بريح صرصر ، فكان لهم عقب ، فكانوا عادا الأخرى .
[ ص: 420 ] ( وثمود فما أبقى ( 51 ) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى ( 52 ) والمؤتفكة أهوى ( 53 ) فغشاها ما غشى ( 54 ) فبأي آلاء ربك تتمارى ( 55 ) هذا نذير من النذر الأولى ( 56 ) أزفت الآزفة ( 57 ) ليس لها من دون الله كاشفة ( 58 ) أفمن هذا الحديث تعجبون ( 59 ) وتضحكون ولا تبكون ( 60 ) )
( وثمود ) قوم صالح أهلكهم الله بالصيحة ( فما أبقى ) منهم أحدا .
( وقوم نوح من قبل ) أي : أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود ( إنهم كانوا هم أظلم وأطغى ) لطول دعوة نوح إياهم وعتوهم على الله بالمعصية والتكذيب .
( والمؤتفكة ) قرى قوم لوط ( أهوى ) أسقط أي : أهواها جبريل بعدما رفعها إلى السماء .
( فغشاها ) ألبسها الله ( ما غشى ) يعني : الحجارة المنضودة المسومة .
( فبأي آلاء ربك ) نعم ربك أيها الإنسان ، وقيل : أراد الوليد بن المغيرة ( تتمارى ) تشك وتجادل ، وقال ابن عباس : تكذب .
( هذا نذير ) يعني : محمدا - صلى الله عليه وسلم - ( من النذر الأولى ) أي : رسول من الرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم ، وقال قتادة : يقول : أنذر محمد كما أنذر الرسل من قبله .
( أزفت الآزفة ) دنت القيامة واقتربت الساعة .
( ليس لها من دون الله كاشفة ) أي : مظهرة مقيمة كقوله تعالى : " لا يجليها لوقتها إلا هو " ، ( الأعراف - 187 ) والهاء فيه للمبالغة أو على تقدير : نفس كاشفة . ويجوز أن تكون الكاشفة مصدرا كالخافية والعافية ، والمعنى : ليس لها من دون الله كاشف أي : لا يكشف عنها ولا يظهرها غيره .
وقيل : معناه : ليس لها راد يعني : إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد ، وهذا قول عطاء وقتادة والضحاك .
( أفمن هذا الحديث ) يعني القرآن ( تعجبون وتضحكون ) يعني : استهزاء ( ولا تبكون ) مما فيه من الوعيد .
[ ص: 421 ] ( وأنتم سامدون ( 61 ) فاسجدوا لله واعبدوا ( 62 ) )
( ( وأنتم سامدون ) لاهون غافلون ، و " السمود " : الغفلة عن الشيء واللهو ، يقال : دع عنك سمودك أي لهوك ، هذا رواية الوالبي والعوفي عن ابن عباس وقال عكرمة عنه : هو الغناء بلغة أهل اليمن ، وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا . وقال الضحاك : أشرون بطرون . وقال مجاهد : غضاب مبرطمون . فقيل له : ما البرطمة ؟ قال : الإعراض .
( فاسجدوا لله واعبدوا ) أي : واعبدوه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا نصر بن علي ، أخبرني أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد عن عبد الله قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة : النجم ، قال : فسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا ، وهو أمية بن خلف .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا آدم بن أبي إياس ، أخبرنا ابن أبي ذئب ، أخبرنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت قال : قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - " والنجم " فلم يسجد فيها .
قلت : فهذا دليل على أن سجود التلاوة غير واجب . قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : [ ص: 422 ] إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء . وهو قول الشافعي وأحمد .
وذهب قوم إلى أن وجوب سجود التلاوة على القارئ والمستمع جميعا ، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي .
ابو وليد البحيرى
2022-11-08, 01:54 AM
الحلقة (390)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ القمر
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 37
سورة القمر
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
( ( اقتربت الساعة وانشق القمر ( 1 ) )
( اقتربت الساعة ) دنت القيامة ( وانشق القمر ) .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، أخبرنا بشر بن المفضل ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما .
وقال شيبان عن قتادة : فأراهم انشقاق القمر مرتين .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى عن شعبة وسفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقتين ، فرقة فوق الجبل وفرقة دونه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اشهدوا " . [ ص: 426 ]
وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله قال : انشق القمر بمكة . وقال مقاتل : انشق القمر ثم التأم بعد ذلك .
وروى أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله قال : [ انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] فقالت قريش : سحركم ابن أبي كبشة ، فاسألوا السفار ، فسألوهم فقالوا : نعم قد رأيناه ، فأنزل الله - عز وجل - : " اقتربت الساعة وانشق القمر " .
( وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ( 2 ) وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ( 3 ) )
( ( وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ) أي : ذاهب وسوف يذهب ويبطل من قولهم : مر الشيء واستمر إذا ذهب ، مثل قولهم : قر واستقر ، قال هذا قول مجاهد وقتادة . وقال أبو العالية [ والضحاك ] : " مستمر " أي : قوي شديد يعلو كل سحر ، من قولهم : مر الحبل إذا صلب واشتد وأمررته إذا أحكمت فتله واستمر الشيء إذا قوي واستحكم .
( وكذبوا واتبعوا أهواءهم ) أي : كذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وما عاينوا من قدرة الله - عز وجل - واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل . ( وكل أمر مستقر ) قال الكلبي : لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا فسيظهر ، وما كان منه في الآخرة فسيعرف . وقال قتادة : كل أمر مستقر فالخير مستقر بأهل الخير ، [ والشر مستقر بأهل الشر ] .
وقيل : كل أمر من خير أو شر مستقر قراره ، فالخير مستقر بأهله في الجنة ، والشر مستقر بأهله في النار .
وقيل : يستقر قول المصدقين والمكذبين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعقاب . وقال مقاتل : لكل حديث منتهى . وقيل : كل ما قدر كائن واقع لا محالة .
وقرأ أبو جعفر " مستقر " بكسر الراء ، ولا وجه له .
[ ص: 427 ] ( ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ( 4 ) حكمة بالغة فما تغن النذر ( 5 ) فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر ( 6 ) خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر ( 7 ) )
( ولقد جاءهم ) يعني : أهل مكة ( من الأنباء ) أخبار الأمم المكذبة في القرآن ( ما فيه مزدجر ) [ متناهى ] ، مصدر بمعنى الازدجار ، أي نهي وعظة ، يقال : زجرته وازدجرته إذا نهيته عن السوء ، وأصله : مزتجر ، قلبت التاء دالا .
( حكمة بالغة ) يعني : القرآن حكمة تامة قد بلغت الغاية ( فما تغن النذر ) يجوز أن تكون " ما " نفيا على معنى : فليست تغني النذر ، ويجوز أن يكون استفهاما والمعنى : فأي شيء تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم ؟ كقوله : " وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون " ( يونس - 101 ) و " النذر " : جمع نذير .
( فتول عنهم ) أعرض عنهم نسختها آية القتال . قيل : هاهنا وقف تام . وقيل : ( فتول عنهم يوم يدع الداع ) أي : إلى يوم الداعي ، قال مقاتل : هو إسرافيل ينفخ قائما على صخرة بيت المقدس ( إلى شيء نكر ) [ منكر ] فظيع لم يروا مثله فينكرونه استعظاما ، قرأ ابن كثير : " نكر " بسكون الكاف ، والآخرون بضمها .
( خشعا أبصارهم ) قرأ أبو عمرو ، ويعقوب ، وحمزة ، والكسائي : " خاشعا " على الواحد ، وقرأ الآخرون : " خشعا " - بضم الخاء وتشديد الشين - على الجمع . ويجوز في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد والجمع والتذكير والتأنيث ، تقول : مررت برجال حسن أوجههم ، وحسنة أوجههم ، وحسان أوجههم ، قال الشاعر :
ورجال حسن أوجههم
من إياد بن نزار بن معد
وفي قراءة عبد الله : " خاشعة أبصارهم " أي : ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب .
( يخرجون من الأجداث ) من القبور ( كأنهم جراد منتشر ) منبث حيارى ، وذكر المنتشر [ ص: 428 ] على لفظ الجراد ، نظيرها : " كالفراش المبثوث " ، ( القارعة - 4 ) وأراد أنهم يخرجون فزعين لا جهة لأحد منهم يقصدها ، كالجراد لا جهة لها ، تكون مختلطة بعضها في بعض .
( مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر ( 8 ) كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ( 9 ) فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ( 10 ) ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ( 11 ) وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ( 12 ) وحملناه على ذات ألواح ودسر ( 13 ) )
( مهطعين ) مسرعين مقبلين ( إلى الداعي ) إلى صوت إسرافيل ( يقول الكافرون هذا يوم عسر ) يوم صعب شديد .
قوله - عز وجل - : ( كذبت قبلهم ) أي : قبل أهل مكة ( قوم نوح فكذبوا عبدنا ) نوحا ( وقالوا مجنون وازدجر ) أي : زجروه عن دعوته ومقالته بالشتم والوعيد ، وقالوا : " لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين " ( الشعراء - 116 ) وقال مجاهد : معنى : ازدجر أي : استطير جنونا .
( فدعا ) نوح ( ربه ) وقال ( أني مغلوب ) مقهور ( فانتصر ) فانتقم لي منهم .
( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ) منصب انصبابا شديدا ، لم ينقطع أربعين يوما ، وقال يمان : قد طبق ما بين السماء والأرض .
( وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء ) يعني ماء السماء وماء الأرض ، وإنما قال : " فالتقى الماء " والالتقاء لا يكون من واحد ، إنما يكون بين اثنين فصاعدا؛ لأن الماء يكون جمعا وواحدا . وقرأ عاصم الجحدري : فالتقى الماءان . ( على أمر قد قدر ) أي : قضي عليهم في أم الكتاب . وقال مقاتل : قدر الله أن يكون الماءان سواء فكانا على ما قدر .
( وحملناه ) يعني : نوحا ( على ذات ألواح ودسر ) أي سفينة ذات ألواح ، ذكر النعت وترك الاسم ، أراد بالألواح خشب السفينة العريضة ( ودسر ) أي : المسامير التي تشد بها الألواح ، واحدها دسار ودسير ، يقال : دسرت السفينة إذا شددتها بالمسامير . وقال الحسن : الدسر صدر السفينة سميت بذلك لأنها تدسر الماء بجؤجئها ، أي تدفع . وقال مجاهد : هي عوارض السفينة . وقيل : أضلاعها . وقال الضحاك : الألواح جانباها ، والدسر أصلها وطرفاها .
[ ص: 429 ] ( تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ( 14 ) ولقد تركناها آية فهل من مدكر ( 15 ) فكيف كان عذابي ونذر ( 16 ) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( 17 ) )
( تجري بأعيننا ) أي : بمرأى منا . وقال مقاتل بن حيان : بحفظنا ، ومنه قولهم للمودع : عين الله عليك . وقال سفيان : بأمرنا ( جزاء لمن كان كفر ) [ قال مقاتل بن حيان ] : يعني : فعلنا به وبهم من إنجاء نوح وإغراق قومه ثوابا لمن كان كفر به وجحد أمره ، وهو نوح عليه السلام ، وقيل : " من " بمعنى ما أي : جزاء لما كان كفر من أيادي الله ونعمه عند الذين أغرقهم ، أو جزاء لما [ صنع ] بنوح وأصحابه . وقرأ مجاهد : " جزاء لمن كان كفر " بفتح الكاف والفاء ، يعني كان الغرق جزاء لمن كان كفر بالله وكذب رسوله .
( ولقد تركناها ) يعني : [ الفعلة التي ] فعلنا ( آية ) يعتبر بها . وقيل : أراد السفينة . قال قتادة : أبقاها الله [ بباقر دي ] من أرض الجزيرة . عبرة وآية حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة ( فهل من مدكر ) أي : متذكر متعظ معتبر خائف مثل عقوبتهم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زهير عن أبي إسحاق أنه سمع رجلا سأل الأسود عن قوله : " فهل من مدكر " أو مذكر ؟ قال : سمعت عبد الله يقرؤها " فهل من مدكر " ، وقال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها : " فهل من مدكر " دالا .
( فكيف كان عذابي ونذر ) أي : إنذاري . قال الفراء : الإنذار والنذر مصدران ، تقول العرب : أنذرت إنذارا ونذرا ، كقولهم أنفقت إنفاقا ونفقة ، وأيقنت إيقانا ويقينا ، أقيم الاسم مقام المصدر .
( ولقد يسرنا ) سهلنا ( القرآن للذكر ) ليتذكر ويعتبر به ، وقال سعيد بن جبير : يسرناه للحفظ والقراءة ، وليس شيء من كتب الله يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن " فهل من مدكر " ، متعظ بمواعظه .
[ ص: 430 ] ( كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر ( 18 ) إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر ( 19 ) تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر ( 20 ) فكيف كان عذابي ونذر ( 21 ) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( 22 ) كذبت ثمود بالنذر ( 23 ) فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر ( 24 ) أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر ( 25 ) )
( كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا ) شديدة الهبوب ( في يوم نحس مستمر ) شديد دائم الشؤم ، استمر عليهم بنحو سنة فلم يبق منهم أحدا إلا أهلكه . قيل : كان ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر .
( تنزع الناس ) تقلعهم ثم ترمي بهم على رءوسهم فتدق رقابهم . وروي أنها كانت تنزع الناس من قبورهم ( كأنهم أعجاز نخل ) قال ابن عباس : أصولها ، وقال الضحاك : أوراك نخل . ( منقعر ) [ منقطع ] من مكانه ساقط على الأرض . وواحد الأعجاز عجز ، مثل عضد وأعضاد وإنما قال : " أعجاز نخل " وهي أصولها التي قطعت فروعها؛ لأن الريح كانت تبين رءوسهم من أجسادهم ، فتبقي أجسادهم بلا رءوس .
( فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر كذبت ثمود بالنذر ) بالإنذار الذي جاءهم به صالح .
( فقالوا أبشرا ) آدميا ( منا واحدا نتبعه ) ونحن جماعة كثيرة وهو واحد ( إنا إذا لفي ضلال ) خطأ وذهاب عن الصواب ( وسعر ) قال ابن عباس : عذاب . وقال الحسن : شدة عذاب . وقال قتادة : عناء ، يقولون : إنا إذا لفي عناء وعذاب مما يلزمنا من طاعته . قال سفيان بن عيينة : هو جمع سعير . وقال الفراء : جنون ، يقال ناقة مسعورة إذا كانت خفيفة الرأس هائمة على وجهها . وقال وهب : وسعر : أي : بعد عن الحق .
( أألقي الذكر عليه ) أأنزل الذكر الوحي ( من بيننا بل هو كذاب أشر ) بطر متكبر يريد أن يتعظم علينا بادعائه النبوة ، " والأشر " : المرح والتجبر .
( سيعلمون غدا من الكذاب الأشر ( 26 ) إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ( 27 ) ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر ( 28 ) فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ( 29 ) فكيف كان عذابي ونذر ( 30 ) إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ( 31 ) )
( سيعلمون ) قرأ ابن عامر وحمزة : " ستعلمون " بالتاء على معنى قال صالح لهم ، وقرأ [ ص: 431 ] الآخرون بالياء ، يقول الله تعالى : ( سيعلمون غدا ) حين ينزل بهم العذاب . وقال الكلبي : يعني يوم القيامة . وذكر " الغد " للتقريب على عادة الناس ، يقولون : إن مع اليوم غدا ( من الكذاب الأشر ) .
( إنا مرسلو الناقة ) أي : باعثوها ومخرجوها من الهضبة التي سألوا ، وذلك أنهم تعنتوا على صالح ، فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء ، فقال الله تعالى : ( إنا مرسلو الناقة فتنة لهم ) محنة واختبارا لهم ( فارتقبهم ) فانتظر ما هم صانعون ( واصطبر ) واصبر على ارتقابهم ، وقيل : على ما يصيبك من الأذى .
( ونبئهم أن الماء قسمة بينهم ) وبين الناقة يوم لها ويوم لهم ، وإنما قال بينهم لأن العرب إذا أخبرت عن بني آدم وعن البهائم غلبت بني آدم على البهائم ( كل شرب ) نصيب من الماء ( محتضر ) يحضره من كانت نوبته ، فإذا كان يومها حضرت شربها ، وإذا كان يومهم حضروا شربهم ، وحضر واحتضر بمعنى واحد ، قال مجاهد : يعني يحضرون الماء إذا غابت الناقة ، فإذا جاءت الناقة حضروا اللبن .
( فنادوا صاحبهم ) وهو قدار بن سالف ( فتعاطى ) فتناول الناقة بسيفه ( فعقر ) أي : فعقرها .
( فكيف كان عذابي ونذر ) ثم بين عذابهم فقال :
( إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة ) قال عطاء : يريد صيحة جبريل عليه السلام ( فكانوا كهشيم المحتظر ) قال ابن عباس : هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة من الشجرة والشوك دون السباع ، فما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيم . [ ص: 432 ]
وقال ابن زيد : هو الشجر البالي الذي تهشم حتى ذرته الريح . والمعنى : أنهم صاروا كيبس الشجر إذا تحطم ، والعرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس : هشيما .
وقال قتادة : كالعظام النخرة المحترقة . وقال سعيد بن جبير : هو التراب الذي يتناثر من الحائط .
( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( 32 ) كذبت قوم لوط بالنذر ( 33 ) إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر ( 34 ) نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر ( 35 ) ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ( 36 ) ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ( 37 ) )
( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصبا ) ريحا ترميهم بالحصباء ، وهي الحصى وقال الضحاك : يعني صغار الحصى . وقيل : " الحصباء " هي الحجر الذي دون ملء الكف ، وقد يكون الحاصب الرامي فيكون المعنى على هذا : أرسلنا عليهم عذابا يحصبهم أي : يرميهم بالحجارة ، ثم استثنى فقال : ( إلا آل لوط ) يعني لوطا وابنتيه ( نجيناهم ) من العذاب ( بسحر ) .
( نعمة من عندنا ) أي : جعلناه نعمة منا عليهم حيث أنجيناهم ( كذلك ) كما أنعمنا على آل لوط ( نجزي من شكر ) قال مقاتل : من وحد الله لم يعذبه مع المشركين .
( ولقد أنذرهم ) لوط ( بطشتنا ) أخذنا إياهم بالعقوبة ( فتماروا بالنذر ) شكوا بالإنذار وكذبوا ولم يصدقوا .
( ولقد راودوه عن ضيفه ) طلبوا أن يسلم إليهم أضيافه ( فطمسنا أعينهم ) وذلك أنهم لما قصدوا دار لوط وعالجوا الباب ليدخلوا ، قالت الرسل [ للوط ] : خل بينهم وبين الدخول فإنا رسل ربك لن يصلوا إليك ، فدخلوا الدار فصفقهم جبريل بجناحه بإذن الله فتركهم عميا يترددون متحيرين لا يهتدون إلى الباب ، فأخرجهم لوط عميا لا يبصرون . قوله : " فطمسنا أعينهم " أي : صيرناها [ ص: 433 ] كسائر الوجه لا يرى لها شق ، هذا قول أكثر المفسرين . وقال الضحاك : طمس الله أبصارهم فلم يروا الرسل ، فقالوا : قد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا ، فلم يروهم فرجعوا . ( فذوقوا عذابي ونذر ) أي : [ ما أنذركم ] به لوط من العذاب .
ابو وليد البحيرى
2022-11-22, 11:38 PM
الحلقة (391)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الرَّحْمَنِ
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 11
( ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر ( 38 ) فذوقوا عذابي ونذر ( 39 ) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( 40 ) ولقد جاء آل فرعون النذر ( 41 ) كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ( 42 ) أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ( 43 ) أم يقولون نحن جميع منتصر ( 44 ) سيهزم الجمع ويولون الدبر ( 45 ) )
( ولقد صبحهم بكرة ) جاءهم وقت الصبح ( عذاب مستقر ) دائم استقر فيهم حتى أفضى بهم إلى عذاب الآخرة ، وقيل : عذاب حق .
( فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ولقد جاء آل فرعون النذر ) يعني : موسى وهارون عليهما السلام ، وقيل : هي الآيات التي أنذرهم بها موسى .
( كذبوا بآياتنا كلها ) وهي الآيات التسع ( فأخذناهم ) بالعذاب ( أخذ عزيز ) غالب في انتقامه ( مقتدر ) قادر على إهلاكهم ، لا يعجزه ما أراد ، ثم خوف أهل مكة فقال :
( أكفاركم خير من أولئكم ) أشد وأقوى من الذين أحللت بهم نقمتي من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون ؟ وهذا استفهام بمعنى الإنكار أي : ليسوا بأقوى منهم ( أم لكم براءة ) العذاب ( في الزبر ) في الكتب ، أنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية .
( أم يقولون ) يعني : كفار مكة ( نحن جميع منتصر ) قال الكلبي : نحن جميع أمرنا [ منتصر ] من أعدائنا المعنى : نحن يد واحدة على من خالفنا منتصر ممن عادانا ، ولم يقل منتصرون لموافقة رءوس الآي .
قال الله تعالى : ( سيهزم الجمع ) قرأ يعقوب : " سنهزم " بالنون " الجمع " نصب وقرأ الآخرون بالياء وضمها ، " الجمع " رفع على غير تسمية الفاعل ، يعني : كفار مكة ( ويولون الدبر ) [ ص: 434 ] يعني : الأدبار فوحد لأجل رءوس الآي ، كما يقال : ضربنا منهم الرءوس وضربنا منهم الرأس إذا كان الواحد يؤدي معنى الجمع ، أخبر الله أنهم يولون أدبارهم منهزمين فصدق الله وعده وهزمهم يوم بدر .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبته يوم بدر : " اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم " ، فأخذ أبو بكر بيده ، فقال : حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك - وهو في الدرع - فخرج وهو يقول : " سيهزم الجمع ويولون الدبر " .
( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ( 46 ) إن المجرمين في ضلال وسعر ( 47 ) يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر ( 48 ) )
( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) قال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول : لما نزلت : " سيهزم الجمع ويولون الدبر " كنت لا أدري أي جمع يهزم ، فلما كان يوم بدر رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يثب في درعه ويقول : " سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم جميعا والساعة أدهى وأمر " أعظم داهية وأشد مرارة من الأسر والقتل يوم بدر .
( إن المجرمين ) المشركين ( في ضلال وسعر ) قيل : " في ضلال " بعد عن الحق . قال الضحاك : " وسعر " أي : نار تسعر عليهم : وقيل : " ضلال " ذهاب عن طريق الجنة في الآخرة ، " وسعر " : نار مسعرة ، قال الحسين بن الفضل : إن المجرمين في ضلال في الدنيا ونار في الآخرة . وقال قتادة : في عناء وعذاب .
ثم بين عذابهم فقال : ( يوم يسحبون ) يجرون ( في النار على وجوههم ) ويقال لهم ( ذوقوا مس سقر ) .
[ ص: 435 ] ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ( 49 ) )
( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) أي : ما خلقناه فمقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ ، قال الحسن : قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له .
أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين القرشي ، أخبرنا أبو مسلم غالب بن علي الرازي ، أخبرنا أبو [ معشر ] يعقوب بن عبد الجليل بن يعقوب ، حدثنا أبو يزيد حاتم بن محبوب ، أخبرنا أحمد بن نصر النيسابوري ، أخبرنا عبد الله بن الوليد العدني ، أخبرنا الثوري عن زياد بن إسماعيل السهمي عن محمد بن عباد المخزومي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : جاءت مشركو قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية : " إن المجرمين في ضلال وسعر " إلى قوله : " إنا كل شيء خلقناه بقدر " .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي الخدشاهي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجوربذي ، أخبرنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، أخبرنا عبد الله بن وهب ، أخبرني أبو هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن [ الحبلي ] عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال : وكان عرشه على الماء " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم عن طاوس اليماني قال : أدركت ناسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون : " كل شيء بقدر الله " ، قال : وسمعت عبد الله بن [ عمر ] - رضي الله عنه - يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ، أو الكيس والعجز " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا أبو جعفر [ ص: 436 ] محمد بن علي بن دحيم الشيبابي ، أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة ، أخبرنا يعلى بن عبيد ، [ وعبيد الله ] بن موسى وأبو نعيم عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر - زاد [ عبيد الله ] : خيره وشره " .
ورواه أبو داود عن شعبة عن منصور وقال : عن ربعي عن علي ولم يقل : عن رجل ، وهذا أصح .
( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ( 50 ) ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر ( 51 ) وكل شيء فعلوه في الزبر ( 52 ) وكل صغير وكبير مستطر ( 53 ) )
( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) ( واحدة ) . يرجع إلى المعنى دون اللفظ أي : وما أمرنا إلا مرة واحدة
وقيل : معناه : وما أمرنا للشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة : كن فيكون لا مراجعة فيها كلمح بالبصر . قال عطاء عن ابن عباس : يريد أن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر وقال الكلبي عنه : وما أمرنا لمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر .
( ولقد أهلكنا أشياعكم ) أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السالفة .
( فهل من مدكر ) متعظ يعلم أن ذلك حق فيخاف ويعتبر .
( وكل شيء فعلوه ) يعني فعله الأشياع من خير وشر ( في الزبر ) في كتاب الحفظة ، وقيل : في اللوح المحفوظ .
( وكل صغير وكبير ) من الخلق وأعمالهم وآجالهم ( مستطر ) مكتوب ، يقال : سطرت [ ص: 437 ] واستطرت وكتبت واكتتبت .
( إن المتقين في جنات ونهر ( 54 ) في مقعد صدق عند مليك مقتدر ( 55 ) )
( إن المتقين في جنات ) بساتين ( ونهر ) أي أنهار ، ووحده لأجل رءوس الآي ، وأراد أنهار الجنة من الماء والخمر واللبن والعسل . وقال الضحاك : يعني في ضياء وسعة ومنه النهار . وقرأ الأعرج " ونهر " ، بضمتين جمع نهار يعني : نهارا لا ليل لهم .
( في مقعد صدق ) في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم ( عند مليك مقتدر ) ملك قادر لا يعجزه شيء . قال [ جعفر ] الصادق : مدح الله المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق .
سُورَةُ الرَّحْمَنِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( الرَّحْمَنُ ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ ( 2 ) خَلَقَ الْإِنْسَانَ ( 3 ) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ( 4 ) )
( الرَّحْمَنُ ) قِيلَ : نَزَلَتْ حِينَ قَالُوا : وَمَا الرَّحْمَنُ ؟ . وَقِيلَ : هُوَ جَوَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ حِينَ قَالُوا : إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ .
( عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) قَالَ الْكَلْبِيُّ : عَلَّمَ الْقُرْآنَ مُحَمَّدًا . وَقِيلَ : " عَلَّمَ الْقُرْآنَ " يَسَّرَهُ لِلذِّكْرِ .
( خَلَقَ الْإِنْسَانَ ) يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ . ( عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَقِيلَ : عَلَّمَهُ اللُّغَاتِ كُلَّهَا ، وَكَانَ آدَمُ يَتَكَلَّمُ بِسَبْعِمِائَةِ [ أَلْفِ ] لُغَةٍ أَفْضَلُهَا الْعَرَبِيَّةُ .
وَقَالَ الْآخَرُونَ : " الْإِنْسَانُ " اسْمُ جِنْسٍ ، وَأَرَادَ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ " عَلَّمَهُ الْبَيَانَ " النُّطْقَ وَالْكِتَابَةَ وَالْفَهْمَ وَالْإِفْهَامَ ، حَتَّى عَرَفَ مَا يَقُولُ وَمَا يُقَالُ لَهُ . هَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَابْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ .
وَقَالَ السُّدِّيُّ : عَلَّمَ كُلَّ قَوْمٍ لِسَانَهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ : " خَلَقَ الْإِنْسَانَ " يَعْنِي : مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " عَلَّمَهُ الْبَيَانَ " يَعْنِي بَيَانَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ لِأَنَّهُ كَانَ يُبِينُ [ عَنِ ] الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَعَنْ يَوْمِ الدِّينِ .
[ ص: 442 ] ( الشمس والقمر بحسبان ( 5 ) والنجم والشجر يسجدان ( 6 ) والسماء رفعها ووضع الميزان ( 7 ) ألا تطغوا في الميزان ( 8 ) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ( 9 ) والأرض وضعها للأنام ( 10 ) فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام ( 11 ) )
( الشمس والقمر بحسبان ) قال مجاهد : كحسبان الرحى . وقال غيره : أي يجريان بحساب ومنازل لا يعدوانها ، قاله ابن عباس وقتادة . وقال ابن زيد وابن كيسان : يعني بهما تحسب الأوقات والآجال ، لولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئا . وقال الضحاك : يجريان بقدر ، والحسبان يكون مصدر حسبت حسابا وحسبانا ، مثل الغفران والكفران ، والرجحان والنقصان ، وقد يكون جمع الحساب كالشبهان والركبان .
( والنجم والشجر يسجدان ) النجم ما ليس له ساق من النبات ، والشجر ما له ساق يبقى في الشتاء ، وسجودهما سجود ظلهما كما قال : " يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله " ( النحل - 48 ) قال مجاهد : النجم هو الكوكب وسجوده طلوعه .
( والسماء رفعها ) فوق الأرض ( ووضع الميزان ) قال مجاهد : أراد بالميزان العدل . المعنى : أنه أمر بالعدل يدل عليه قوله تعالى : ( ألا تطغوا في الميزان ) أي لا تجاوزوا العدل . وقال الحسن وقتادة والضحاك : أراد به الذي يوزن به ليوصل به إلى الإنصاف والانتصاف ، وأصل الوزن التقدير " ألا تطغوا " يعني لئلا تميلوا وتظلموا وتجاوزوا الحق في الميزان .
( وأقيموا الوزن بالقسط ) بالعدل ، وقال أبو الدرداء وعطاء : معناه أقيموا لسان الميزان بالعدل . قال ابن عيينة : الإقامة باليد والقسط بالقلب ( ولا تخسروا ) ولا تنقصوا ( الميزان ) ولا تطففوا في الكيل والوزن .
( والأرض وضعها للأنام ) للخلق الذين بثهم فيها .
( فيها فاكهة ) يعني : أنواع الفواكه ، قال ابن كيسان : يعني ما يتفكهون به من النعم التي لا تحصى ( والنخل ذات الأكمام ) الأوعية التي يكون فيها الثمر لأن ثمر النخل يكون في غلاف ما لم ينشق ، واحدها كم ، وكل ما ستر شيئا فهو كم وكمة ، ومنه كم القميص ، ويقال للقلنسوة كمة ، قال الضحاك : " ذات الأكمام " أي ذات الغلف . وقال الحسن : أكمامها : لفيفها . [ وقال ابن زيد : [ ص: 443 ] هو الطلع قبل أن ينشق ] .
ابو وليد البحيرى
2022-11-22, 11:43 PM
الحلقة (392)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الرَّحْمَنِ
مَكِّيَّةٌ
الاية 12 إلى الاية 39
( والحب ذو العصف والريحان ( 12 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 13 ) )
( والحب ذو العصف ) أراد بالحب جميع الحبوب التي تحرث في الأرض ، قال مجاهد : هو ورق الزرع . قال ابن كيسان : " العصف " ورق كل شيء يخرج منه الحب ، يبدو أولا ورقا وهو العصف ثم يكون سوقا ، ثم يحدث الله فيه أكماما ثم يحدث في الأكمام الحب . وقال ابن عباس في رواية الوالبي : هو التبن . وهو قول الضحاك وقتادة . وقال عطية عنه : هو ورق الزرع الأخضر إذا قطع رءوسه ويبس ، نظيره : " كعصف مأكول " ( الفيل - 5 ) .
( والريحان ) هو الرزق في قول الأكثرين ، قال ابن عباس : كل ريحان في القرآن فهو رزق . وقال الحسن وابن زيد هو ريحانكم الذي يشم ، قال الضحاك : " العصف " : هو التبن . و " الريحان " ثمرته .
وقراءة العامة : " والحب ذو العصف والريحان " ، كلها مرفوعات بالرد على الفاكهة . وقرأ ابن عامر " والحب ذا العصف والريحان " بنصب الباء والنون وذا بالألف على معنى : خلق الإنسان وخلق هذه الأشياء . وقرأ حمزة والكسائي " والريحان " بالجر عطفا على العصف فذكر قوت الناس والأنعام ، ثم خاطب الجن والإنس فقال :
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) أيها الثقلان ، يريد من هذه الأشياء المذكورة . وكرر هذه الآية في هذه السورة تقريرا للنعمة وتأكيدا في التذكير بها على عادة العرب في الإبلاغ والإشباع ، يعدد على الخلق آلاءه ويفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها ، كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع عليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها : ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا ؟ ألم تكن عريانا فكسوتك أفتنكر هذا ؟ ألم تك خاملا ؟ فعززتك أفتنكر هذا ؟ ومثل هذا التكرار شائع في كلام العرب حسن تقريرا .
وقيل : خاطب بلفظ التثنية على عادة العرب تخاطب الواحد بلفظ التثنية كقوله تعالى : " ألقيا في جهنم " ( ق - 24 ) .
وروي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله : قرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة الرحمن حتى ختمها ، ثم قال : " ما لي أراكم سكوتا ، للجن [ كانوا ] أحسن منكم ردا ، ما قرأت عليهم هذه [ ص: 444 ] الآية مرة " فبأي آلاء ربكما تكذبان " إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب ، فلك الحمد " .
( خلق الإنسان من صلصال كالفخار ( 14 ) وخلق الجان من مارج من نار ( 15 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 16 ) رب المشرقين ورب المغربين ( 17 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 18 ) مرج البحرين يلتقيان ( 19 ) بينهما برزخ لا يبغيان ( 20 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 21 ) )
( خلق الإنسان من صلصال كالفخار ) .
( وخلق الجان ) وهو أبو الجن . وقال الضحاك : هو إبليس ( من مارج من نار ) وهو الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه . قال مجاهد : وهو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت ، من قولهم : مرج أمر القوم ، إذا اختلط .
( فبأي آلاء ربكما تكذبان رب المشرقين ) مشرق الصيف ومشرق الشتاء . ( ورب المغربين ) مغرب الصيف ومغرب الشتاء . ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
( مرج البحرين ) العذب والمالح أرسلهما وخلاهما ( يلتقيان ) .
( بينهما برزخ ) حاجز من قدرة الله تعالى ( لا يبغيان ) لا يختلطان ولا يتغيران ولا يبغي أحدهما على صاحبه . وقال قتادة : لا يطغيان على الناس بالغرق . وقال الحسن : " مرج البحرين " بحر الروم وبحر الهند ، وأنتم الحاجز بينهما . وعن قتادة أيضا : بحر فارس وبحر الروم بينهما برزخ يعني الجزائر . قال مجاهد والضحاك : بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
[ ص: 445 ] ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ( 22 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 23 ) وله الجواري المنشآت في البحر كالأعلام ( 24 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 25 ) كل من عليها فان ( 26 ) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ( 27 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 28 ) )
( يخرج منهما ) قرأ أهل المدينة والبصرة : " يخرج " بضم الياء وفتح الراء ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الراء ( اللؤلؤ والمرجان ) وإنما يخرج من المالح دون العذب وهذا جائز في كلام العرب أن يذكر شيئان ثم يخص أحدهما بفعل ، كما قال - عز وجل - : " يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم " ( الأنعام - 130 ) . وكانت الرسل من الإنس دون الجن . وقال بعضهم يخرج من ماء السماء وماء البحر . قال ابن جريج : إذا أمطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها فحيثما وقعت قطرة كانت لؤلؤة ، واللؤلؤة : ما عظم من الدر ، والمرجان : صغارها . وقال مقاتل ومجاهد على الضد من هذا . وقيل : " المرجان " الخرز الأحمر . وقال عطاء الخراساني : هو اليسر . ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
( وله الجواري ) السفن الكبار ( المنشآت ) قرأ حمزة وأبو بكر : " المنشئات " بكسر الشين ، أي : المنشئات للسير [ يعني اللاتي ابتدأن وأنشأن السير ] . وقرأ الآخرون بفتح الشين أي المرفوعات ، وهي التي رفع خشبها بعضها على بعض . وقيل : هي ما رفع قلعه من السفن وأما ما لم يرفع قلعه فليس من المنشئات . وقيل المخلوقات المسخرات ( في البحر كالأعلام ) كالجبال جمع علم وهو الجبل الطويل ، شبه السفن في البحر ، بالجبال في البر ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
( كل من عليها ) أي على الأرض من حيوان فإنه هالك ( فان ) .
( ويبقى وجه ربك ذو الجلال ) ذو العظمة والكبرياء ( والإكرام ) أي مكرم أنبيائه وأوليائه بلطفه مع جلاله وعظمته . ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
( يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن ( 29 ) )
( يسأله من في السماوات والأرض ) من ملك وإنس وجن . وقال قتادة : لا يستغني عنه أهل السماء والأرض . قال ابن عباس : فأهل السماوات يسألونه المغفرة وأهل الأرض يسألونه الرحمة [ والرزق والتوبة والمغفرة ] وقال مقاتل : يسأله أهل الأرض الرزق [ ص: 446 ] والمغفرة وتسأله الملائكة أيضا لهم الرزق والمغفرة .
( كل يوم هو في شأن ) قال مقاتل : نزلت في اليهود حين قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا .
قال المفسرون : من شأنه أن يحيي ويميت ، ويرزق ، ويعز قوما ، ويذل قوما ، ويشفي مريضا ، ويفك عانيا ويفرج مكروبا ، ويجيب داعيا ، ويعطي سائلا ويغفر ذنبا إلى ما لا يحصى من أفعاله وأحداثه في خلقه ما يشاء .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس المزكي - إملاء - أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى البزاز ، أخبرنا يحيى بن الربيع المكي ، أخبرنا سفيان بن عيينة ، أخبرنا أبو حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إن مما خلق الله - عز وجل - لوحا من درة بيضاء ، دفتاه ياقوتة حمراء ، قلمه نور وكتابه نور ، ينظر الله - عز وجل - فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ، يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله : " كل يوم هو في شأن " .
قال سفيان بن عيينة : الدهر كله عند الله يومان أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة ، فالشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة الدنيا : الإخبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة ، والإعطاء والمنع ، وشأن يوم القيامة : الجزاء والحساب ، والثواب والعقاب .
وقيل : شأنه جل ذكره أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر ، عسكرا من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ، وعسكرا من الأرحام إلى الدنيا ، وعسكرا من الدنيا إلى القبور ، ثم يرتحلون جميعا إلى الله - عز وجل - . [ ص: 447 ]
قال الحسين بن الفضل : هو سوق المقادير إلى المواقيت . وقال أبو سليمان الداراني في هذه الآية : كل يوم له إلى العبيد بر جديد .
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 30 ) سنفرغ لكم أيها الثقلان ( 31 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 32 ) يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ( 33 ) )
( فبأي آلاء ربكما تكذبان سنفرغ لكم ) قرأ حمزة والكسائي : سيفرغ بالياء لقوله : " يسأله من في السماوات والأرض " ، " ويبقى وجه ربك " " وله الجوار " فأتبع الخبر .
وقرأ الآخرون بالنون ، وليس المراد منه الفراغ عن شغل ، لأن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن ، ولكنه وعيد من الله تعالى [ للخلق ] بالمحاسبة ، كقول القائل : لأتفرغن لك ، وما به شغل ، وهذا قول ابن عباس والضحاك وإنما حسن هذا الفراغ لسبق ذكر الشأن .
وقال آخرون : معناه : سنقصدكم بعد الترك والإمهال ونأخذ في أمركم ، كقول القائل للذي لا شغل له : قد فرغت لي . وقال بعضهم : إن الله وعد أهل التقوى وأوعد أهل الفجور ، ثم قال : سنفرغ لكم مما وعدناكم وأخبرناكم ، فنحاسبكم ونجازيكم وننجز لكم ما وعدناكم ، فيتم ذلك ويفرغ منه ، وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل .
( أيها الثقلان ) أي الجن والإنس ، سميا ثقلين لأنهما ثقل على الأرض أحياء وأمواتا ، قال الله تعالى : " وأخرجت الأرض أثقالها " ، ( الزلزلة - 2 ) وقال بعض أهل المعاني : كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي " فجعلهما ثقلين إعظاما لقدرهما .
وقال جعفر بن محمد الصادق : سمي الجن والإنس ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا ) أي تجوزوا وتخرجوا ، [ ص: 448 ] ( من أقطار السماوات والأرض ) أي من جوانبهما وأطرافهما ( فانفذوا ) معناه إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السماوات والأرض : فاهربوا واخرجوا منها . [ والمعنى ] حيثما كنتم أدرككم الموت ، كما قال جل ذكره : " أينما تكونوا يدرككم الموت " ، ( النساء - 78 ) وقيل : يقال لهم هذا يوم القيامة إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا ( لا تنفذون إلا بسلطان ) أي : بملك ، وقيل بحجة ، والسلطان : القوة التي يتسلط بها على الأمر ، فالملك والقدرة والحجة كلها سلطان ، يريد حيثما توجهتم كنتم في ملكي وسلطاني . وروي عن ابن عباس قال : معناه : إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموا ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببينة من الله - عز وجل - . وقيل قوله : " إلا بسلطان " أي إلا إلى سلطان كقوله : " وقد أحسن بي " ( يوسف - 100 ) أي إلي .
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 34 ) يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ( 35 ) )
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) وفي الخبر : يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا ) الآية فذلك قوله - عز وجل - :
( يرسل عليكما شواظ من نار ) . ( يرسل عليكما شواظ من نار ) قرأ ابن كثير " شواظ " : بكسر الشين والآخرون بضمها ، وهما لغتان ، مثل صوار من البقر وصوار . وهو اللهيب الذي لا دخان فيه هذا قول أكثر المفسرين . وقال مجاهد هو اللهب الأخضر المنقطع من النار ( ونحاس ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو " ونحاس " بجر السين عطفا على النار ، وقرأ الباقون برفعها عطفا على الشواظ .
قال سعيد بن جبير والكلبي : " النحاس " : الدخان وهو رواية عطاء عن ابن عباس .
ومعنى الرفع يرسل عليكما شواظ ، ويرسل نحاس ، أي يرسل هذا مرة وهذا مرة ، ويجوز أن يرسلا معا من غير أن يمتزج أحدهما بالآخر ، ومن كسر بالعطف على النار يكون ضعيفا؛ لأنه لا يكون شواظ من نحاس ، فيجوز أن يكون تقديره : شواظ من نار وشيء من نحاس ، على أنه حكي أن الشواظ لا يكون من النار والدخان جميعا . [ ص: 449 ]
قال مجاهد وقتادة : النحاس هو الصفر المذاب يصب على رءوسهم ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس . وقال عبد الله بن مسعود : هو المهل .
( فلا تنتصران ) أي فلا تمتنعان من الله ولا يكون لكم ناصر منه .
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 36 ) فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان ( 37 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 38 ) فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ( 39 ) )
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) ( فإذا انشقت ) [ انفرجت ] ( السماء ) فصارت أبوابا لنزول الملائكة ( فكانت وردة كالدهان ) أي كلون الفرس الورد ، وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة والصفرة . قال قتادة : إنها اليوم خضراء ، ويكون لها يومئذ لون آخر يضرب إلى الحمرة .
وقيل : إنها تتلون ألوانا يومئذ كلون الفرس الورد يكون في الربيع أصفر وفي أول الشتاء أحمر فإذا اشتد الشتاء كان أغبر فشبه السماء في تلونها عند انشقاقها بهذا الفرس في تلونه .
( كالدهان ) جمع دهن ، شبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل ، وشبه الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه ، وهو قول الضحاك ومجاهد وقتادة والربيع .
وقال عطاء بن أبي رباح : " كالدهان " كعصير الزيت يتلون في الساعة ألوانا .
وقال مقاتل : كدهن الورد الصافي . وقال ابن جريج : تصير السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصيبها حر جهنم .
وقال الكلبي : كالدهان أي كالأديم الأحمر وجمعه أدهنة ودهن ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) . ( فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) قال الحسن وقتادة : لا يسألون عن ذنوبهم لتعلم من جهتهم ؛ لأن الله - عز وجل - علمها منهم ، وكتبت الملائكة عليهم ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس . [ ص: 450 ]
وعنه أيضا : لا تسأل الملائكة المجرمين ؛ لأنهم يعرفونهم بسيماهم . دليله : ما بعده ، وهذا قول مجاهد .
وعن ابن عباس في الجمع بين هذه الآية وبين قوله : " فوربك لنسألنهم أجمعين " ( الحجر - 92 ) قال : لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا ؛ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يسألهم لم عملتم كذا وكذا ؟
وعن عكرمة أنه قال : إنها مواطن ، يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها .
وعن ابن عباس أيضا : لا يسألون سؤال شفقة ورحمة وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ .
وقال أبو العالية : لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم .
ابو وليد البحيرى
2022-11-22, 11:48 PM
الحلقة (393)
الجزء السابع
- تفسير البغوى
سُورَةُ الرَّحْمَنِ
مَكِّيَّةٌ
الاية 40 إلى الاية 68
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 40 ) ( يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام ( 41 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 42 ) هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون ( 43 ) يطوفون بينها وبين حميم آن ( 44 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 45 ) )
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( يعرف المجرمون بسيماهم ) وهو سواد الوجوه وزرقة العيون ، كما قال جل ذكره : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " ( آل عمران - 106 ( فيؤخذ بالنواصي والأقدام ) تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلف ويلقون في النار ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
ثم يقال لهم : ( هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون ) المشركون ( يطوفون بينها وبين حميم آن ) قد انتهى حره . قال الزجاج : أنى يأنى فهو آن إذا انتهى في النضج ، والمعنى : أنهم يسعون بين الجحيم والحميم فإذا استغاثوا من حر النار جعل عذابهم الحميم الآني الذي صار كالمهل . وهو قوله " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل " ( الكهف - 29 ) وقال كعب الأحبار : " آن " واد من أودية جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون في ذلك الوادي حتى تنخلع أوصالهم ، ثم يخرجون منه وقد أحدث الله تعالى لهم خلقا جديدا فيلقون في النار وذلك قوله : " يطوفون بينها وبين حميم آن " .
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) وكل ما ذكر الله تعالى من قوله : " كل من عليها فان " إلى [ ص: 451 ] هاهنا مواعظ وزواجر وتخويف . وكل ذلك نعمة من الله تعالى ؛ لأنها تزجر عن المعاصي ولذلك ختم كل آية بقوله : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
( ولمن خاف مقام ربه جنتان ( 46 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 47 ) )
ثم ذكر ما أعده لمن اتقاه وخافه فقال : ( ولمن خاف مقام ربه ) أي : مقامه بين يدي ربه للحساب فترك المعصية والشهوة . وقيل : قيام ربه عليه ، بيانه قوله : " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " ( الرعد - 33 ) . وقال إبراهيم ومجاهد : هو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من مخافة الله . ( جنتان ) قال مقاتل : جنة عدن وجنة نعيم . قال محمد بن علي الترمذي : جنة لخوفه ربه وجنة لتركه شهوته .
قال الضحاك : هذا لمن راقب الله في السر والعلانية بعلمه ما عرض له من محرم تركه من خشية الله وما عمل من خير أفضى به إلى الله ، لا يحب أن يطلع عليه أحد .
وقال قتادة : إن المؤمنين خافوا ذلك المقام فعملوا لله ودأبوا بالليل والنهار .
أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين القرشي ، أخبرنا أبو مسلم غالب بن علي الرازي ، حدثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن يونس ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن موسى بن عيسى الحلواني ، وأخبرنا محمد بن عبيد الهمداني ، أخبرنا هاشم بن القاسم عن أبي عقيل هو الثقفي عن يزيد بن سنان سمعت [ بكير ] بن فيروز قال : سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة " .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، [ ص: 452 ] أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشمهيني ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة مولى حويطب بن عبد العزى عن عطاء بن يسار ، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقص على المنبر وهو يقول : " ولمن خاف مقام ربه جنتان " قلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ولمن خاف مقام ربه جنتان " فقلت الثانية : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ولمن خاف مقام ربه جنتان " . فقلت الثالثة : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ قال : " وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء " .
( ذواتا أفنان ( 48 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 49 ) فيهما عينان تجريان ( 50 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 51 ) فيهما من كل فاكهة زوجان ( 52 ) )
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) ثم وصف الجنتين فقال :
( ذواتا أفنان ) أغصان ، واحدها فنن ، وهو الغصن المستقيم طولا . وهذا قول مجاهد وعكرمة والكلبي . وقال عكرمة : ظل الأغصان على الحيطان . قال الحسن : ذواتا ظلال . قال ابن عباس : ألوان . قال سعيد بن جبير والضحاك : ألوان الفاكهة ، واحدها فن من قولهم أفنن فلان في حديثه إذا أخذ في فنون منه وضروب . وجمع عطاء بين القولين فقال : في كل غصن فنون من الفاكهة . وقال قتادة : ذواتا فضل وسعة على ما سواهما ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
( فيهما عينان تجريان ) قال ابن عباس : بالكرامة والزيادة على أهل الجنة . قال الحسن : تجريان بالماء الزلال ، إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل . وقال عطية : إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
( فيهما من كل فاكهة زوجان ) صنفان ونوعان قيل : معناه : إن فيهما من كل ما يتفكه [ ص: 453 ] به ضربين رطبا ويابسا . قال ابن عباس : ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو .
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 53 ) متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان ( 54 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 55 ) فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ( 56 ) )
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
( متكئين على فرش ) جمع فراش ( بطائنها ) جمع بطانة ، وهي التي تحت الظهارة . وقال الزجاج : وهي مما يلي الأرض . ( من إستبرق ) وهو ما غلظ من الديباج . قال ابن مسعود وأبو هريرة : هذه البطائن فما ظنكم بالظواهر ؟ وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من إستبرق ، فما الظواهر ؟ قال : هذا مما قال الله - عز وجل - : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " ( السجدة - 17 ) وعنه أيضا قال : بطائنها من إستبرق فظواهرها من نور جامد . وقال ابن عباس : وصف البطائن وترك الظواهر ؛ لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظواهر .
( وجنى الجنتين دان ) الجنى ما يجتنى من الثمار ، يريد : ثمرها دان قريب يناله القائم والقاعد والنائم . قال ابن عباس : تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله ، إن شاء قائما وإن شاء قاعدا . قال قتادة : لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك . ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
( فيهن قاصرات الطرف ) غاضات الأعين ، قصرن طرفهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم . ولا يردن غيرهم . قال ابن زيد : تقول لزوجها : وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك ، فالحمد لله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجتك . ( لم يطمثهن ) لم يجامعهن ولم [ يفترعهن ] [ ص: 454 ] وأصله من الطمث ، وهو الدم ومنه قيل للحائض : طامث ، كأنه قال : لم تدمهن بالجماع ( إنس قبلهم ولا جان ) قال الزجاج : فيه دليل على أن الجني يغشى كما يغشى الإنسي . قال مجاهد : إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه .
قال مقاتل في قوله : ( لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ) لأنهن خلقن في الجنة . فعلى قوله : هؤلاء من حور الجنة .
وقال الشعبي : هن من نساء الدنيا لم يمسسن منذ أنشئن خلقا ، وهو قول الكلبي يعني : لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنس ولا جان .
وقرأ طلحة بن مصرف : " لا يطمثهن " بضم الميم فيهما .
وقرأ الكسائي إحداهما بالضم ، فإن كسر الأولى ضم الثانية وإن ضم الأولى كسر الثانية ؛ لما روى أبو إسحاق السبيعي قال : كنت أصلي خلف أصحاب علي - رضي الله عنه - فأسمعهم يقرءون : لم يطمثهن بالرفع ، وكنت أصلي خلف أصحاب عبد الله بن مسعود فأسمعهم يقرءون بكسر الميم ، وكان الكسائي يضم إحداهما ويكسر الأخرى لئلا يخرج عن هذين الأثرين .
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 57 ) كأنهن الياقوت والمرجان ( 58 ) )
( فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان ) قال قتادة : صفاء الياقوت في بياض المرجان .
وروينا عن أبي سعيد في صفة أهل الجنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة ، يرى مخ سوقهن دون لحمهما ودمائهما وجلدهما " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين على إثرهم كأشد [ ص: 455 ] كوكب إضاءة ، قلوبهم على قلب رجل واحد ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، لكل امرئ منهم زوجتان كل واحدة منهما يرى مخ ساقها من وراء لحمها من الحسن ، يسبحون الله بكرة وعشيا لا يسقمون ولا يبولون ولا يتغوطون ، ولا يتفلون ، ولا يتمخطون ، آنيتهم الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب ، ووقود مجامرهم الألوة ، ورشحهم المسك " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين ، أخبرنا هارون بن محمد بن هارون ، أخبرنا حازم بن يحيى الحلواني ، أخبرنا سهيل بن عثمان العسكري ، أخبرنا عبيدة بن حميد ، عن عطاء بن السائب ، عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن المرأة من أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من حرير ، ومخها ، إن الله تعالى يقول : كأنهن الياقوت والمرجان ، فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه " .
وقال عمرو بن ميمون : " إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء " .
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 59 ) هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ( 60 ) )
( فبأي آلاء ربكما تكذبان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة . وقال ابن عباس : هل جزاء من قال : لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا الجنة ؟ . [ ص: 456 ]
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، أخبرنا [ ابن شيبة ] ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن بهرام ، أخبرنا الحجاج بن يوسف المكتب ، أخبرنا بشر بن الحسين ، عن الزبير بن عدي ، عن أنس بن مالك قال : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " ثم قال : [ هل تدرون ما قال ربكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ] قال : " يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة " .
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 61 ) ومن دونهما جنتان ( 62 ) )
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ومن دونهما جنتان ) أي من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان . قال ابن عباس : من دونهما في الدرج . وقال ابن زيد : من دونهما في الفضل . وقال أبو موسى الأشعري : جنتان من ذهب للسابقين وجنتان من فضة للتابعين . وقال ابن جريج : هن أربع ، جنتان للمقربين السابقين فيهما من كل فاكهة زوجان ، وجنتان لأصحاب اليمين والتابعين ( فيهما فاكهة ونخل ورمان ) .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا علي بن عبد الله ، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الصمد ، عن أبي عمران ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " .
وقال الكسائي : " ومن دونهما جنتان " أي أمامهما وقبلهما ، يدل عليه قول الضحاك : الجنتان [ ص: 457 ] الأوليان من ذهب وفضة ، والأخريان من ياقوت .
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 63 ) مدهامتان ( 64 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 65 ) فيهما عينان نضاختان ( 66 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 67 ) فيهما فاكهة ونخل ورمان ( 68 ) )
( فبأي آلاء ربكما تكذبان مدهامتان ) ناعمتان سوداوان من ريهما وشدة خضرتهما ؛ لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد . يقال : إدهام الزرع إذا علاه السواد ريا ادهيماما فهو مدهام .
( فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان ) فوارتان بالماء لا تنقطعان . " والنضخ " : فوران الماء من العين . قال ابن عباس : تنضخان بالخير والبركة على أهل الجنة . وقال ابن مسعود : تنضخان بالمسك والكافور على أولياء الله . وقال أنس بن مالك : تنضخان بالمسك والعنبر في دور أهل الجنة كطش المطر .
( فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان ) قال بعضهم : ليس النخل والرمان من الفاكهة ، والعامة على أنها من الفاكهة ، وإنما أعاد ذكر النخل والرمان وهما من جملة الفواكه للتخصيص والتفصيل . كما قال تعالى : " من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال " ( البقرة - 98 ) .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أخبرنا عبد الله بن المبارك عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر ، وورقها ذهب أحمر ، وسعفها كسوة لأهل الجنة فيها مقطعاتهم وحللهم ، وثمرها أمثال القلال أو الدلاء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد ليس له عجم .
ابو وليد البحيرى
2022-11-22, 11:55 PM
الحلقة (394)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
مَكِّيَّةٌ
الاية 40 إلى الاية 68
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 69 ) فيهن خيرات حسان ( 70 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 71 ) حور مقصورات في الخيام ( 72 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 73 ) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ( 74 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 75 ) متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان ( 76 ) )
( فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن ) يعني في الجنات الأربع ( خيرات حسان ) روى [ ص: 458 ] الحسن عن أبيه عن أم سلمة قالت : قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أخبرني عن قوله : ( خيرات حسان ) قال : " خيرات الأخلاق حسان الوجوه " .
( فبأي آلاء ربكما تكذبان حور مقصورات ) محبوسات مستورات في الحجال . يقال : امرأة مقصورة وقصيرة إذا كانت مخدرة مستورة لا تخرج . وقال مجاهد : يعني قصرن طرفهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يبغين لهم بدلا .
وروينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى [ أهل ] الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض ولملأت ما بينهما ريحا ، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها " .
( في الخيام ) جمع خيمة ، أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن المثنى ، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الصمد ، أخبرنا عمران الجوني ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة ، عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمن " .
( فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر ) قال سعيد بن جبير : " الرفرف " : رياض الجنة . " خضر " : مخضبة . ويروى ذلك عن ابن عباس واحدتها رفرفة ، وقال : الرفارف جمع الجمع . وقيل : " الرفرف " : البسط ، وهو قول الحسن ومقاتل والقرظي وروى العوفي عن ابن عباس : " الرفرف " : فضول المجالس والبسط .
[ ص: 459 ] وقال الضحاك وقتادة : هي مجالس خضر فوق الفرش . وقال ابن كيسان : هي المرافق . وقال ابن عيينة الزرابي وقال غيره : كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف .
( وعبقري حسان ) هي الزرابي والطنافس الثخان ، وهي جمع واحدتها عبقرية . وقال قتادة : " العبقري " عتاق الزرابي ، وقال أبو العالية : هي الطنافس المخملة إلى الرقة . وقال القتيبي : كل ثوب موشى عند العرب : عبقري .
وقال أبو عبيدة : هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي .
قال الخليل : كل جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم عند العرب : عبقري ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمر - رضي الله عنه - : " فلم أر عبقريا يفري فريه " .
( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 77 ) تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ( 78 ) )
( فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ) قرأ أهل الشام " ذو الجلال " بالواو وكذلك هو في مصاحفهم إجراء على الاسم .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أخبرنا أبو محمد بن محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، حدثنا أبو بكر الجوربذي ، أخبرنا أحمد بن حرب ، أخبرنا أبو معاوية الضرير عن عاصم عن عبد الله بن الحارث عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلا مقدار ما يقول : " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام " .
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( 1 ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( 2 ) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ( 3 ) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ( 4 ) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ( 5 ) )
( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) إِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ . وَقِيلَ : إِذَا نَزَلَتْ صَيْحَةُ الْقِيَامَةِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ .
( لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا ) لِمَجِيئِهَا ( كَاذِبَةٌ ) كَذِبٌ كَقَوْلِهِ : " لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً " ( الْغَاشِيَةِ - 11 ) أَيْ : لَغْوًا يَعْنِي أَنَّهَا تَقَعُ صِدْقًا وَحَقًّا . وَ " الْكَاذِبَةُ " اسْمٌ كَالْعَافِيَةِ وَالنَّازِلَةِ .
( خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ) تَخْفِضُ أَقْوَامًا إِلَى النَّارِ ، وَتَرْفَعُ آخَرِينَ إِلَى الْجَنَّةِ . وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : تَخْفِضُ أَقْوَامًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعِينَ ، وَتَرْفَعُ أَقْوَامًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُسْتَضْعَفِينَ .
( إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ) حُرِّكَتْ وَزُلْزِلَتْ زِلْزَالًا قَالَ الْكَلْبِيُّ : إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَوْحَى إِلَيْهَا اضْطَرَبَتْ فَرَقًا . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : تُرَجُّ كَمَا يُرَجُّ الصَّبِيُّ فِي الْمَهْدِ حَتَّى يَنْهَدِمَ كُلُّ بِنَاءٍ عَلَيْهَا وَيَنْكَسِرَ كُلُّ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْجِبَالِ وَغَيْرِهَا ، وَأَصْلُ " الرَّجِّ " فِي اللُّغَةِ : التَّحْرِيكُ يُقَالُ : رَجَجْتُهُ فَارْتَجَّ .
( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ) [ قَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ ] فُتَّتْ فَتًّا فَصَارَتْ كَالدَّقِيقِ الْمَبْسُوسِ وَهُوَ الْمَبْلُولُ . قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالسُّدِّيُّ : كُسِرَتْ كَسْرًا . وَقَالَ الْكَلْبِيُّ : سُيِّرَتْ عَلَى وَجْهِ [ ص: 8 ] الْأَرْضِ تَسْيِيرًا . قَالَ الْحَسَنُ : قُلِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا فَذَهَبَتْ ، نَظِيرُهَا : " فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا " ( طه - 105 ) . قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ : جُعِلَتْ كَثِيبًا مَهِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ شَامِخَةً طَوِيلَةً .
( فكانت هباء منبثا ( 6 ) وكنتم أزواجا ثلاثة ( 7 ) فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ( 8 ) وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ( 9 ) والسابقون السابقون ( 10 ) )
( فكانت هباء منبثا ) غبارا متفرقا كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل الكوة وهو الهباء .
( وكنتم أزواجا ) أصنافا ( ثلاثة ) ، ثم فسرها فقال :
( فأصحاب الميمنة ) هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة . وقال ابن عباس : هم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه ، وقال الله تعالى لهم : هؤلاء في الجنة ولا أبالي . وقال الضحاك : هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم . وقال الحسن والربيع : هم الذين كانوا ميامين مباركين على أنفسهم وكانت أعمارهم في طاعة الله ، وهم التابعون بإحسان ثم عجب نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( ما أصحاب الميمنة ) وهذا كما يقال : زيد ما زيد ! يراد : زيد شديد .
( وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ) يعني أصحاب الشمال ، والعرب تسمي اليد اليسرى الشؤمى ومنه يسمى الشام واليمن ؛ لأن اليمن عن يمين الكعبة والشام عن شمالها ، وهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار .
وقال ابن عباس : هم الذين كانوا على شمال آدم عند إخراج الذرية ، وقال الله لهم : هؤلاء في النار ولا أبالي .
وقال الضحاك : هم الذين يؤتون كتبهم بشمالهم . وقال الحسن : هم المشائيم على أنفسهم وكانت أعمارهم في المعاصي .
( والسابقون السابقون ) قال ابن عباس : السابقون إلى الهجرة هم السابقون في الآخرة . وقال عكرمة : السابقون إلى الإسلام . قال ابن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين ، دليله : قوله : [ ص: 9 ] " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار " ( التوبة - 100 ) .
قال الربيع بن أنس : السابقون إلى إجابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى .
وقال مقاتل : إلى إجابة الأنبياء بالإيمان .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : إلى الصلوات الخمس . وقال الضحاك : إلى الجهاد .
وقال سعيد بن جبير : هم المسارعون إلى التوبة وإلى أعمال البر . قال الله تعالى : " سابقوا إلى مغفرة من ربكم " ( الحديد - 21 ) " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم " ( آل عمران - 133 )
ثم أثنى عليهم فقال : أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون " قال ابن كيسان : والسابقون إلى كل ما دعا الله إليه .
وروي عن كعب قال : هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة . وقيل : هم أولهم رواحا إلى المسجد وأولهم خروجا في سبيل الله . وقال القرظي : إلى كل خير .
( أولئك المقربون ( 11 ) في جنات النعيم ( 12 ) ثلة من الأولين ( 13 ) وقليل من الآخرين ( 14 ) على سرر موضونة ( 15 ) متكئين عليها متقابلين ( 16 ) )
( أولئك المقربون ) من الله . ( في جنات النعيم ثلة من الأولين ) أي من الأمم الماضية من لدن آدم - عليه السلام - إلى زمان نبينا - صلى الله عليه وسلم - والثلة : جماعة غير محصورة العدد .
( وقليل من الآخرين ) يعني من هذه الأمة . قال الزجاج : الذين عاينوا جميع النبيين من لدن آدم - عليه الصلاة والسلام - وصدقوهم أكثر ممن عاين النبي - صلى الله عليه وسلم - .
( على سرر موضونة ) منسوجة كما توضن حلق الدرع فيدخل بعضها في بعض . قال المفسرون : هي موصولة منسوجة بالذهب والجواهر . وقال الضحاك : موضونة مصفوفة .
( متكئين عليها متقابلين ) لا ينظر بعضهم في قفا بعض .
[ ص: 10 ] ( يطوف عليهم ولدان مخلدون ( 17 ) بأكواب وأباريق وكأس من معين ( 18 ) لا يصدعون عنها ولا ينزفون ( 19 ) وفاكهة مما يتخيرون ( 20 ) ولحم طير مما يشتهون ( 21 ) وحور عين ( 22 ) )
( يطوف عليهم ) للخدمة ( ولدان ) [ غلمان ] ( مخلدون ) لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون . وقال الفراء : [ تقول العرب لمن كبر ولم يشمط : إنه مخلد ] .
قال ابن كيسان : يعني ولدانا لا يحولون من حالة إلى حالة .
قال سعيد بن جبير : مقرطون ، يقال : خلد جاريته إذا حلاها بالخلد ، وهو القرط .
قال الحسن : هم أولاد أهل الدنيا لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها ؛ لأن الجنة لا ولادة فيها فهم خدام أهل الجنة . ( بأكواب وأباريق ) فالأكواب : جمع كوب ، وهي الأقداح المستديرة الأفواه ، لا آذان لها ولا عرى ، والأباريق وهي : ذوات الخراطيم ، سميت أباريق لبريق لونها من الصفاء . ( وكأس من معين ) خمر جارية . ( لا يصدعون عنها ) لا تصدع رءوسهم من شربها ( ولا ينزفون ) أي لا يسكرون [ هذا إذا قرئ بفتح الزاي ، ومن كسر فمعناه لا ينفد شرابهم ] . ( وفاكهة مما يتخيرون ) يختارون ما يشتهون يقال تخيرت الشيء إذا أخذت خيره . ( ولحم طير مما يشتهون ) قال ابن عباس يخطر على قلبه لحم الطير فيصير ممثلا بين يديه على ما اشتهى ، ويقال : إنه يقع على صحفة الرجل فيأكل منه ما يشتهي ثم يطير فيذهب . ( وحور عين ) قرأ أبو جعفر ، وحمزة والكسائي : بكسر الراء والنون أي : وبحور عين ، أتبعه قوله : " بأكواب وأباريق " وفاكهة ولحم طير " في الإعراب وإن اختلفا في المعنى ؛ لأن الحور لا يطاف بهن ، كقول الشاعر :
إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا [ ص: 11 ]
والعين لا تزجج وإنما تكحل ، ومثله كثير . وقيل : معناه ويكرمون بفاكهة ولحم طير وحور عين .
وقرأ الباقون بالرفع ، أي : ويطوف عليهم حور عين . وقال الأخفش رفع على معنى : لهم حور عين ، وجاء في تفسيره : " حور عين " بيض ضخام العيون .
( كأمثال اللؤلؤ المكنون ( 23 ) جزاء بما كانوا يعملون ( 24 ) لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما ( 25 ) إلا قيلا سلاما سلاما ( 26 ) وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ( 27 ) في سدر مخضود ( 28 ) )
( كأمثال اللؤلؤ المكنون ) المخزون في الصدف لم تمسه الأيدي . ويروى : أنه يسطع نور في الجنة ، قالوا : وما هذا ؟ قالوا : ضوء ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها .
ويروى أن الحوراء إذا مشت يسمع تقديس الخلاخل من ساقيها وتمجيد الأسورة من ساعديها ، وإن عقد الياقوت ليضحك من نحرها ، وفي رجليها نعلان من ذهب شراكهما من لؤلؤ يصران بالتسبيح . ( جزاء بما كانوا يعملون ) .
( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا ) أي قولا ( سلاما سلاما ) نصبهما اتباعا لقوله " قيلا " أي يسمعون قيلا سلاما سلاما . قال عطاء : يحيي بعضهم بعضا بالسلام . ثم ذكر أصحاب اليمين وعجب من شأنهم فقال - جل ذكره - : ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ( في سدر مخضود ) لا شوك فيه كأنه خضد شوكه ، أي قطع ونزع منه ، هذا قول ابن عباس وعكرمة .
وقال الحسن . لا يعقر الأيدي . قال ابن كيسان : هو الذي لا أذى فيه . قال : وليس شيء من ثمر الجنة في غلف كما يكون في الدنيا من الباقلاء وغيره بل كلها مأكول ومشروب ومشموم ومنظور إليه . قال الضحاك ومجاهد : هو الموقر حملا .
قال سعيد بن جبير : ثمارها أعظم من القلال . .
قال أبو العالية والضحاك : نظر المسلمون إلى وج - وهو واد مخصب بالطائف - فأعجبهم سدرها وقالوا يا ليت لنا مثل هذا فأنزل الله هذه الآية .
ابو وليد البحيرى
2022-11-23, 12:01 AM
الحلقة (395)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
مَكِّيَّةٌ
الاية 32 إلى الاية 47
( وطلح منضود ( 29 ) وظل ممدود ( 30 ) وماء مسكوب ( 31 ) )
( وطلح ) أي : موز - واحدتها طلحة - عن أكثر المفسرين . وقال الحسن : ليس هو بالموز ولكنه شجر له ظل بارد طيب . قال الفراء وأبو عبيدة : الطلح عند العرب : شجر عظام لها شوك .
وروى [ مجالد ] عن الحسن بن سعد قال : قرأ رجل عند علي رضي الله عنه : " وطلح منضود " فقال : وما شأن الطلح ؟ إنما هو : طلع منضود ، ثم قرأ : " طلعها هضيم " قلت : يا أمير المؤمنين إنها في المصحف بالحاء أفلا تحولها ؟ فقال : إن القرآن لا يهاج اليوم ولا يحول .
و " المنضود " المتراكم الذي قد نضد بالحمل من أوله إلى آخره ، ليست له سوق بارزة . قال مسروق : أشجار الجنة من عروقها إلى أفنائها ثمر كله . ( وظل ممدود ) دائم لا تنسخه الشمس والعرب تقول للشيء الذي لا ينقطع : ممدود .
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، حدثنا أبو الحسن أحمد بن يوسف السلمي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال : حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها " .
وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله : ( وظل ممدود ) قال : شجرة في الجنة على ساق العرش يخرج إليها أهل الجنة فيتحدثون في أصلها ويشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل الله - عز وجل - عليها ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا . ( وماء مسكوب ) مصبوب يجري دائما في غير أخدود لا ينقطع .
( وفاكهة كثيرة ( 32 ) لا مقطوعة ولا ممنوعة ( 33 ) وفرش مرفوعة ( 34 ) إنا أنشأناهن إنشاء ( 35 ) فجعلناهن أبكارا ( 36 ) )
( وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ) قال ابن عباس : لا تنقطع إذا جنيت ، ولا تمتنع من أحد أراد أخذها . وقال بعضهم : لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان ، كما ينقطع أكثر ثمار الدنيا إذا جاء الشتاء ، ولا يتوصل إليها إلا بالثمن . وقال القتيبي : يعني لا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا .
وجاء في الحديث : " ما قطعت ثمرة من ثمار الجنة إلا أبدل الله مكانها ضعفين " . ( وفرش مرفوعة ) قال علي : " وفرش مرفوعة " على الأسرة . وقال جماعة من المفسرين : بعضها فوق بعض فهي مرفوعة عالية .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن حبيش ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي حدثنا أبو كريب ، حدثنا رشدين بن سعد ، عن عمرو بن الحارث عن دراج أبي السمح ، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى : " وفرش مرفوعة " قال : " إن ارتفاعها لكما بين السماء والأرض وإن ما بين السماء والأرض لمسيرة خمسمائة عام "
وقيل أراد بالفرش النساء ، والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا على الاستعارة " مرفوعة " رفعن بالجمال والفضل على نساء الدنيا دليل هذا التأويل قوله في عقبه : ( إنا أنشأناهن إنشاء ( إنا أنشأناهن إنشاء ) خلقناهن خلقا جديدا . قال ابن عباس : يعني الآدميات العجز الشمط ، يقول خلقناهن بعد الهرم خلقا آخر . ( فجعلناهن أبكارا ) عذارى . [ ص: 14 ]
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي عن الهيثم بن كليب الشاشي أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا عبد بن حميد ، أخبرنا مصعب بن المقدام ، أخبرنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال : أتت عجوز النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة فقال : " يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز " ، قال : فولت تبكي قال : " أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز ، إن الله تعالى يقول : " إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا "
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الخطيب ، أخبرنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن منصور ، أخبرنا أبو بكر بن محمد بن سليمان بن الحارث الواسطي ببغداد ، أخبرنا خلاد بن يحيى بن صفوان السلمي حدثنا سفيان الثوري عن يزيد بن أبان ، عن أنس بن مالك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : " إنا أنشأناهن إنشاء " قال : عجائز كن في الدنيا عمشا رمصا . فجعلهن أبكارا .
وقال المسيب بن شريك : هن عجائز الدنيا أنشأهن الله تعالى خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا . .
وذكر المسيب عن غيره : أنهن فضلن على الحور العين بصلاتهن في الدنيا .
وقال مقاتل وغيره : هن الحور العين أنشأهن الله لم يقع عليهن ولادة ، فجعلناهن أبكارا عذارى وليس هناك وجع .
( عربا أترابا ( 37 ) )
( عربا ) قرأ حمزة وإسماعيل عن نافع وأبو بكر : " عربا " ساكنة الراء ، الباقون بضمها [ ص: 15 ] وهي جمع " عروب " أي : عواشق متحببات إلى أزواجهن . قاله الحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير ، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس .
وقال عكرمة عنه : ملقة . وقال عكرمة : غنجة . وقال أسامة بن زيد عن أبيه : " عربا " حسنات الكلام .
( أترابا ) مستويات في السن على سن واحد .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن شيبة حدثنا الفريابي عن علي بن أبي شيبة أخبرنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين على خلق آدم طوله ستون ذراعا في سبعة أذرع .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي أخبرنا عبد الله بن محمود ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد ، حدثني عمرو بن الحارث عن دراج أبي السمح عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة وتنصب له قبة [ من لؤلؤ وزبرجد وياقوت ] . كما بين الجابية إلى صنعاء " .
وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ينظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب ، وإنه ليكون عليها سبعون ثوبا ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك " .
وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون أبناء ثلاثين سنة في الجنة لا يزيدون عليها أبدا وكذلك أهل النار " . [ ص: 16 ]
وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن عليهم التيجان ، إن أدنى لؤلؤة فيها تضيء ما بين المشرق والمغرب " .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أخبرنا أبو طاهر الحارثي أخبرنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أخبرنا عبد الله بن المبارك عن محمد بن سليم عن الحجاج بن عتاب العبدي عن عبد الله بن معبد الرماني عن أبي هريرة قال : أدنى أهل الجنة منزلة - وما منهم دنيء - لمن يغدو عليه ويروح عشرة آلاف خادم ، مع كل واحد منهم طريفة ليست مع صاحبه .
( لأصحاب اليمين ( 38 ) ثلة من الأولين ( 39 ) وثلة من الآخرين ( 40 ) )
قوله - عز وجل - ( لأصحاب اليمين ) يريد أنشأناهن لأصحاب اليمين . ( ثلة من الأولين ) من المؤمنين الذين كانوا قبل هذه الأمة . ( وثلة من الآخرين ) من مؤمني هذه الأمة هذا قول عطاء ومقاتل .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني الحسين بن محمد العدل ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدقاق ، حدثنا محمد بن عبد العزيز ، حدثنا عيسى بن المساور ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا عيسى بن موسى عن عروة بن رويم قال : لما أنزل الله على رسوله " ثلة من الأولين وقليل من الآخرين " بكى عمر رضي الله عنه وقال : يا نبي الله آمنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقناه ومن ينجو منا قليل ؟ فأنزل الله - عز وجل - : " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر فقال : " قد أنزل الله - عز وجل - فيما قلت " فقال عمر رضي الله عنه : رضينا عن ربنا وتصديق نبينا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من آدم إلينا ثلة ومني إلى يوم القيامة ثلة ولا يستتمها إلا سودان من رعاة الإبل ممن قال : لا إله إلا الله .
" أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد حدثنا حصين بن نمير عن حصين بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال : " عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي [ ص: 17 ] ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان ، والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق فرجوت أن يكونوا أمتي فقيل : هذا موسى في قومه ، ثم قيل لي : انظر ، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فقيل لي : انظر هكذا وهكذا فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فقيل : هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، فتفرق الناس ولم يبين لهم فتذاكر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أما نحن فولدنا في الشرك ، ولكنا آمنا بالله ورسوله ، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة بن محصن فقال : أمنهم أنا يا رسول الله ؟ فقال : نعم . فقام آخر فقال : أمنهم أنا ؟ قال عليه السلام : " قد سبقك بها عكاشة "
ورواه عبد الله بن مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " عرضت علي الأنبياء الليلة بأتباعها حتى أتى علي موسى عليه السلام في كبكبة بني إسرائيل فلما رأيتهم أعجبوني فقلت : أي رب هؤلاء ؟ قيل : هذا أخوك موسى ومن معه من بني إسرائيل ، قلت : رب فأين أمتي ؟ قيل : انظر عن يمينك ، فإذا ظراب مكة قد سدت بوجوه الرجال ، قيل : هؤلاء أمتك أرضيت ؟ قلت : رب رضيت ، رب رضيت ، قيل انظر عن يسارك ، فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال ، قيل : هؤلاء أمتك أرضيت ؟ قلت : رب رضيت : فقيل : إن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة لا حساب لهم ، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إن استطعتم أن تكونوا من السبعين فكونوا وإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الظراب ، وإن عجزتم فكونوا من أهل الأفق ، فإني قد رأيت ثم أناسا يتهاوشون كثيرا " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبة فقال : " أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ قلنا : نعم ، قال : أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ قلنا : نعم ، قال : والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر . [ ص: 18 ]
وذهب جماعة إلى أن الثلتين جميعا من هذه الأمة وهو قول أبي العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك ، قالوا : " ثلة من الأولين " من سابقي هذه الأمة " وثلة من الآخرين " من آخر هذه الأمة في آخر الزمان .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني الحسين بن محمد الدينوري حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب ، حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان عن أبان بن أبي عياش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية : " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هما جميعا من أمتي " .
( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ( 41 ) في سموم وحميم ( 42 ) وظل من يحموم ( 43 ) لا بارد ولا كريم ( 44 ) إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ( 45 ) وكانوا يصرون على الحنث العظيم ( 46 ) وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ( 47 ) )
قوله تعالى : ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم ) ريح حارة ( وحميم ) ماء حار ( وظل من يحموم ) دخان شديد السواد ، تقول العرب : أسود يحموم إذا كان شديد السواد ، وقال الضحاك : النار سوداء وأهلها سود ، وكل شيء فيها أسود . وقال ابن كيسان : " اليحموم " اسم من أسماء النار . ( لا بارد ولا كريم ) قال قتادة : لا بارد المنزل ولا كريم المنظر . وقال سعيد بن المسيب : ولا كريم ، ولا حسن ، نظيره " من كل زوج كريم " ( الشعراء - 7 ) . وقال مقاتل : طيب . ( إنهم كانوا قبل ذلك ) يعني في الدنيا ( مترفين ) منعمين . ( وكانوا يصرون ) يقيمون ( على الحنث العظيم ) على الذنب الكبير وهو الشرك . وقال الشعبي : " الحنث العظيم " اليمين الغموس . ومعنى هذا : أنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون وكذبوا في ذلك . ( وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ) قرأ أبو جعفر ، ونافع [ ص: 19 ] والكسائي ويعقوب : " أئذا " مستفهما " إنا " بتركه ، وقرأ الآخرون بالاستفهام فيهما .
ابو وليد البحيرى
2022-11-23, 12:07 AM
الحلقة (396)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
مَكِّيَّةٌ
الاية 48 إلى الاية 92
( أوآباؤنا الأولون ( 48 ) قل إن الأولين والآخرين ( 49 ) لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ( 50 ) ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ( 51 ) لآكلون من شجر من زقوم ( 52 ) فمالئون منها البطون ( 53 ) فشاربون عليه من الحميم ( 54 ) فشاربون شرب الهيم ( 55 ) هذا نزلهم يوم الدين ( 56 ) نحن خلقناكم فلولا تصدقون ( 57 ) أفرأيتم ما تمنون ( 58 ) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ( 59 ) نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين ( 60 ) على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ( 61 ) ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون ( 62 ) أفرأيتم ما تحرثون ( 63 ) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ( 64 ) لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون ( 65 ) إنا لمغرمون ( 66 ) )
( أوآباؤنا الأولون قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم ) قرأ أهل المدينة ، وعاصم ، وحمزة : " شرب " بضم الشين . وقرأ الباقون بفتحها وهما لغتان ، فالفتح على المصدر ، والضم اسم بمعنى المصدر كالضعف والضعف و " الهيم " الإبل العطاش ، قال عكرمة وقتادة : الهيام : داء يصيب الإبل لا تروى معه ، ولا تزال تشرب حتى تهلك . يقال : جمل أهيم ، وناقة هيماء ، والإبل هيم . وقال الضحاك وابن عيينة : " الهيم " الأرض السهلة ذات الرمل .
( هذا نزلهم ) يعني ما ذكر من الزقوم والحميم ، أي رزقهم وغذاؤهم وما أعد لهم ، ( يوم الدين ) يوم يجازون بأعمالهم ثم احتج عليهم في البعث بقوله : ( نحن خلقناكم ) قال مقاتل : خلقناكم ولم تكونوا شيئا وأنتم تعلمون ذلك ( فلولا ) فهلا ( تصدقون ) بالبعث . ( أفرأيتم ما تمنون ) تصبون في الأرحام من النطف . ( أأنتم تخلقونه ) يعني أأنتم تخلقونه ما تمنون بشرا ( أم نحن الخالقون نحن قدرنا ) قرأ ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بتشديدها وهما لغتان ( بينكم الموت ) قال مقاتل : فمنكم من يبلغ الهرم ومنكم من يموت صبيا وشابا . وقال الضحاك : تقديره : إنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء ، فعلى هذا يكون معنى " قدرنا " : قضينا .
( وما نحن بمسبوقين ) بمغلوبين عاجزين عن إهلاككم وإبدالكم بأمثالكم فذلك قوله - عز وجل - : [ ص: 20 ] ( على أن نبدل أمثالكم ) . يعني : نأتي بخلق مثلكم بدلا منكم ، ( وننشئكم ) نخلقكم ( في ما لا تعلمون ) من الصور ، قال مجاهد : في أي خلق شئنا .
وقال الحسن : أي نبدل صفاتكم فنجعلكم قردة وخنازير ، كما فعلنا بمن كان قبلكم يعني : إن أردنا أن نفعل ذلك ما فاتنا ذلك . وقال سعيد بن المسيب : " في ما لا تعلمون " يعني : في حواصل طير سود ، تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف ، وبرهوت واد باليمن . ( ولقد علمتم النشأة الأولى ) الخلقة الأولى ولم تكونوا شيئا . ( فلولا تذكرون ) أني قادر على إعادتكم كما قدرت على إبدائكم . ( أفرأيتم ما تحرثون ) يعني : تثيرون من الأرض وتلقون فيها من البذر . ( أأنتم تزرعونه ) تنبتونه ( أم نحن الزارعون ) المنبتون . ( لو نشاء لجعلناه حطاما ) قال عطاء : تبنا لا قمح فيه وقيل : هشيما لا ينتفع به في مطعم وغذاء ( فظلتم ) وأصله : فظللتم حذفت إحدى اللامين تخفيفا . ( تفكهون ) تتعجبون بما نزل بكم في زرعكم [ وهو قول عطاء والكلبي ومقاتل . وقيل تندمون على نفقاتكم ] وهو قول يمان نظيره : " فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها " ( الكهف - 42 ) وقال الحسن : تندمون على ما سلف منكم من المعصية التي أوجبت تلك العقوبة . وقال عكرمة : تتلاومون . وقال ابن كيسان : تحزنون . قال الكسائي : هو تلهف على ما فات ، وهو من الأضداد ، تقول العرب : " تفكهت " أي : تنعمت و " تفكهت " أي : حزنت . ( إنا لمغرمون ) قرأ أبو بكر عن عاصم " أئنا " بهمزتين وقرأ الآخرون على الخبر ، ومجاز الآية : فظلتم تفكهون وتقولون إنا لمغرمون . وقال مجاهد وعكرمة لمولع بنا . وقال ابن عباس [ ص: 21 ] وقتادة : معذبون ، والغرام العذاب . وقال الضحاك وابن كيسان : غرمنا أموالنا وصار ما أنفقنا غرما علينا والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض ، وهو قوله :
( بل نحن محرومون ( 67 ) أفرأيتم الماء الذي تشربون ( 68 ) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ( 69 ) لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون ( 70 ) أفرأيتم النار التي تورون ( 71 ) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ( 72 ) نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين ( 73 ) )
( بل نحن محرومون ) محدودون ممنوعون ، أي : حرمنا ما كنا نطلبه من الريع في الزرع . ( أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن ) السحاب ، واحدتها : مزنة ( أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا ) قال ابن عباس : شديد الملوحة ، قال الحسن : مرا . ( فلولا تشكرون ( أفرأيتم النار التي تورون ) تقدحون وتستخرجون من زندكم . ( أأنتم أنشأتم شجرتها ) التي تقدح منها [ النار ] وهي المرخ والعفار ( أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ) [ يعني نار الدنيا ] تذكرة للنار الكبرى إذا رآها الرائي ذكر جهنم قاله عكرمة ومجاهد ومقاتل . وقال عطاء : موعظة يتعظ بها المؤمن .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد الفقيه حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم " قالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية ، قال : " فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا " .
( ومتاعا ) بلغة ومنفعة ( للمقوين ) المسافرين و " المقوي " : النازل في الأرض والقي والقوا هو : القفر الخالية البعيدة من العمران ، يقال : أقوت الدار إذا خلت من سكانها . والمعنى : أنه ينتفع [ ص: 22 ] بها أهل البوادي والأسفار ، فإن منفعتهم بها أكثر من منفعة المقيم وذلك أنهم يوقدونها ليلا لتهرب منهم السباع ويهتدي بها الضلال وغير ذلك من المنافع ، هذا قول أكثر المفسرين .
وقال مجاهد وعكرمة : " للمقوين " يعني للمستمتعين بها من الناس أجمعين ، المسافرين والحاضرين ، يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون من البرد ، وينتفعون بها في الطبخ والخبز .
قال الحسن : بلغة للمسافرين ، يتبلغون بها إلى أسفارهم ، يحملونها في الخرق والجواليق .
وقال ابن زيد : للجائعين تقول العرب : أقويت منذ كذا وكذا أي : ما أكلت شيئا .
قال قطرب : " المقوي " من الأضداد ، يقال للفقير : مقو لخلوه من المال ، ويقال للغني : مقو ، لقوته على ما يريد ، يقال : أقوى الرجل إذا قويت دوابه وكثر ماله ، وصار إلى حالة القوة . والمعنى أن فيها متاعا للأغنياء والفقراء جميعا لا غنى لأحد عنها .
( فسبح باسم ربك العظيم ( 74 ) فلا أقسم بمواقع النجوم ( 75 ) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ( 76 ) إنه لقرآن كريم ( 77 ) في كتاب مكنون ( 78 ) )
( فسبح باسم ربك العظيم ) . قوله - عز وجل - : ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) ، قال أكثر المفسرين : معناه : أقسم و " لا " صلة ، وكان عيسى بن عمر يقرأ : فلأقسم على التحقيق . وقيل : قوله " فلا " رد لما قاله الكفار في القرآن إنه سحر وشعر وكهانة ، معناه : ليس الأمر كما يقولون ، ثم استأنف القسم ، فقال : ( أقسم بمواقع النجوم ) قرأ حمزة والكسائي : " بموقع " على التوحيد . وقرأ الآخرون " بمواقع " على الجمع . قال ابن عباس : أراد نجوم القرآن ، فإنه كان ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متفرقا نجوما . وقال جماعة من المفسرين : أراد مغارب النجوم ومساقطها . وقال عطاء بن أبي رباح : أراد منازلها . وقال الحسن : أراد انكدارها وانتثارها يوم القيامة .
( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه ) ، يعني هذا الكتاب وهو موضع القسم . ( لقرآن كريم ) عزيز مكرم لأنه كلام الله . قال بعض أهل المعاني : الكريم الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير . ( في كتاب مكنون ) مصون عند الله في اللوح المحفوظ ، محفوظ من الشياطين .
[ ص: 23 ] ( لا يمسه إلا المطهرون ( 79 ) )
( لا يمسه ) أي ذلك الكتاب المكنون ، ( إلا المطهرون ) وهم الملائكة الموصوفون بالطهارة ، يروى هذا عن أنس ، وهو قول سعيد بن جبير ، وأبي العالية ، وقتادة وابن زيد : أنهم الملائكة ، وروى حسان عن الكلبي قال : هم السفرة الكرام البررة .
وروى محمد بن الفضيل عنه لا يقرؤه إلا الموحدون . قال عكرمة : وكان ابن عباس ينهى أن يمكن اليهود والنصارى من قراءة القرآن .
قال الفراء : لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به .
وقال قوم : معناه لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والجنابات ، وظاهر الآية نفي ومعناها نهي ، قالوا : لا يجوز للجنب ولا للحائض ولا المحدث حمل المصحف ولا مسه ، وهو قول عطاء وطاوس ، وسالم ، والقاسم ، وأكثر أهل العلم ، وبه قال مالك والشافعي . وقال الحكم ، وحماد ، وأبو حنيفة : يجوز للمحدث والجنب حمل المصحف ومسه . والأول قول أكثر الفقهاء .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهر .
والمراد بالقرآن : المصحف ، سماه قرآنا على قرب الجوار والاتساع . كما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو " . وأراد به المصحف .
[ ص: 24 ] ( تنزيل من رب العالمين ( 80 ) أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ( 81 ) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ( 82 ) )
( تنزيل من رب العالمين ) أي القرآن منزل من عند رب العالمين . سمي المنزل : تنزيلا على اتساع اللغة ، كما يقال للمقدور : قدر ، وللمخلوق : خلق . ( أفبهذا الحديث ) يعني القرآن ( أنتم ) يا أهل مكة ( مدهنون ) قال ابن عباس : مكذبون . وقال مقاتل بن حيان : كافرون ، نظيره : " ودوا لو تدهن فيدهنون " ( القلم - 9 ) والمدهن والمداهن : الكذاب والمنافق وهو من الإدهان وهو الجري في الباطن على خلاف الظاهر هذا أصله ، ثم قيل للمكذب : مدهن وإن صرح بالتكذيب والكفر . ( وتجعلون رزقكم ) حظكم ونصيبكم من القرآن ( أنكم تكذبون ) قال الحسن في هذه الآية : خسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب به . وقال جماعة من المفسرين : معناه وتجعلون شكركم أنكم تكذبون .
وقال الهيثم بن عدي : إن من لغة أزد شنوءة : ما رزق فلان بمعنى ما شكر وهذا في الاستسقاء بالأنواء ، وذلك أنهم كانوا يقولون إذا مطروا : مطرنا بنوء كذا ، ولا يرون ذلك من فضل الله تعالى ، فقيل لهم : أتجعلون رزقكم ، أي : شكركم بما رزقتم ، يعني شكر رزقكم التكذيب ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك ، عن صالح بن كيسان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن زيد بن خالد الجهني قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب " . ورواه ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزاد : فنزلت هذه الآية " فلا أقسم بمواقع النجوم " إلى قوله : " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " ( الواقعة - 82 ) . [ ص: 25 ]
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني محمد بن سلمة المرادي حدثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث ، أخبرنا أبو يونس حدثه عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين ، ينزل الله تعالى الغيث فيقولون : مطرنا بكوكب كذا وكذا " .
( فلولا إذا بلغت الحلقوم ( 83 ) وأنتم حينئذ تنظرون ( 84 ) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ( 85 ) فلولا إن كنتم غير مدينين ( 86 ) ترجعونها إن كنتم صادقين ( 87 ) فأما إن كان من المقربين ( 88 ) فروح وريحان وجنة نعيم ( 89 ) )
قوله - عز وجل - : ( فلولا ) فهلا ( إذا بلغت الحلقوم ) أي بلغت النفس الحلقوم عند الموت . ( وأنتم حينئذ تنظرون ) يريد وأنتم يا أهل الميت تنظرون إليه متى تخرج نفسه . وقيل : معنى قوله " تنظرون " أي إلى أمري وسلطاني لا يمكنكم الدفع ولا تملكون شيئا . ( ونحن أقرب إليه منكم ) بالعلم والقدرة والرؤية . وقيل : ورسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إليه منكم ( ولكن لا تبصرون ) الذين حضروه . ( فلولا ) فهلا ( إن كنتم غير مدينين ) مملوكين وقال أكثرهم : محاسبين ومجزيين . ( ترجعونها إن كنتم صادقين ) أي تردون نفس هذا الميت إلى جسده بعدما بلغت الحلقوم فأجاب عن قوله : " فلولا إذا بلغت الحلقوم " وعن قوله : " فلولا إن كنتم غير مدينين " بجواب واحد . ومثله قوله - عز وجل - : " فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم " ( البقرة - 38 ) أجيبا بجواب واحد ، معناه : إن كان الأمر كما تقولون - أنه لا بعث ولا حساب ولا إله يجازي - فهلا تردون نفس من يعز عليكم إذا بلغت الحلقوم ، وإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إلى غيركم وهو الله - عز وجل - فآمنوا به . ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت وبين درجاتهم فقال : ( فأما إن كان من المقربين ( فأما إن كان من المقربين ) وهم السابقون . ( فروح ) قرأ يعقوب " فروح " بضم الراء [ ص: 26 ] والباقون بفتحها ، فمن قرأ بالضم ، قال الحسن معناه : تخرج روحه في الريحان ، وقال قتادة : الروح الرحمة أي له الرحمة ، وقيل : معناه فحياة وبقاء لهم .
ومن قرأ بالفتح معناه : فله روح وهو الراحة ، وهو قول مجاهد . وقال سعيد بن جبير : فرح . وقال الضحاك : مغفرة ورحمة .
( وريحان ) استراحة . وقال مجاهد وسعيد بن جبير : رزق . وقال مقاتل : هو الرزق بلسان حمير ، يقال : خرجت أطلب ريحان الله أي رزق الله .
وقال آخرون : هو الريحان الذي يشم . قال أبو العالية : لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه ثم تقبض روحه . .
( وجنة نعيم ) قال أبو بكر الوراق : " الروح " النجاة من النار ، و " الريحان " دخول دار القرار .
( وأما إن كان من أصحاب اليمين ( 90 ) فسلام لك من أصحاب اليمين ( 91 ) وأما إن كان من المكذبين الضالين ( 92 ) )
( وأما إن كان ) المتوفى ( من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين ) أي سلامة لك يا محمد منهم فلا تهتم لهم ، فإنهم سلموا من عذاب الله أو أنك ترى فيهم ما تحب من السلامة .
قال مقاتل : هو أن الله تعالى يتجاوز عن سيئاتهم ويقبل حسناتهم .
وقال الفراء وغيره : مسلم لك أنهم من أصحاب اليمين ، أو يقال لصاحب اليمين : مسلم لك أنك من أصحاب اليمين . وألفيت : إن كالرجل يقول إني مسافر عن قليل ، فيقول له : أنت مصدق مسافر عن قليل ، وقيل : " فسلام لك " أي عليك من أصحاب اليمين . ( وأما إن كان من المكذبين ) بالبعث ( الضالين ) عن الهدى وهم أصحاب المشئمة .
ابو وليد البحيرى
2022-11-23, 12:13 AM
الحلقة (397)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْحَدِيدِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 14
( فنزل من حميم ( 93 ) وتصلية جحيم ( 94 ) إن هذا لهو حق اليقين ( 95 ) فسبح باسم ربك العظيم ( 96 ) )
( فنزل من حميم ) فالذي يعد لهم حميم جهنم . ( وتصلية جحيم ) وإدخال نار عظيمة . ( إن هذا ) يعني ما ذكر من قصة المحتضرين ( لهو حق اليقين ) أي الحق اليقين أضافه إلى نفسه . ( فسبح باسم ربك العظيم ) قيل : فصل بذكر ربك وأمره وقيل : " الباء " زائدة أي فسبح اسم ربك العظيم .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرنا ابن فنجويه ، أخبرنا ابن أبي شيبة ، حدثنا حمزة بن محمد الكاتب ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن موسى بن أيوب الغافقي عن عمه وهو إياس بن عامر ، عن عقبة بن عامر الجهني قال : لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فسبح باسم ربك العظيم " قال : " اجعلوها في ركوعكم " ولما نزلت " سبح اسم ربك الأعلى " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اجعلوها في سجودكم " .
أخبرنا أبو عثمان الضبي أخبرنا أبو محمد الجراحي حدثنا أبو العباس المحبوبي حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا أبو داود ، قال أخبرنا شعبة عن الأعمش قال : سمعت سعد بن عبيدة يحدث عن المستورد ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة ، أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يقول في ركوعه : " سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى ، وما أتى على آية رحمة إلا وقف وسأل ، وما أتى على آية عذاب إلا وقف وتعوذ " . [ ص: 28 ]
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا محمد بن فضيل ، أخبرنا عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم " .
أخبرنا أبو نصر محمد بن الحسن الجلفري حدثني أبو القاسم تمام بن محمد بن عبد الله الرازي بدمشق ، حدثنا علي بن الحسين البزاز وأحمد بن سليمان بن حذلم وابن راشد قالوا : أخبرنا بكار بن قتيبة ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا حجاج الصواف عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . " من قال سبحان الله العظيم وبحمده ، غرست له نخلة في الجنة " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي قال أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني السري بن يحيى أن شجاعا حدثه عن أبي طيبة عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا " وكان أبو طيبة لا يدعها أبدا .
سُورَةُ الْحَدِيدِ
مَدَنِيَّةٌ وَآيَاتُهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 2 ) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 3 ) )
( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ) يَعْنِي هُوَ " الْأَوَّلُ " قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ بِلَا ابْتِدَاءٍ ، كَانَ هُوَ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مَوْجُودًا وَ " الْآخِرُ " بَعْدَ فَنَاءِ كُلِّ شَيْءٍ ، بِلَا انْتِهَاءٍ تَفْنَى الْأَشْيَاءُ وَيَبْقَى هُوَ ، وَ " الظَّاهِرُ " الْغَالِبُ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَ " الْبَاطِنُ " الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ يَمَانٌ : " هُوَ الْأَوَّلُ " الْقَدِيمُ وَ " الْآخِرُ " الرَّحِيمُ وَ " الظَّاهِرُ " الْحَلِيمُ وَ " الْبَاطِنُ " الْعَلِيمُ .
وَقَالَ السُّدِّيُّ : هُوَ الْأَوَّلُ بِبِرِّهِ إِذْ عَرَّفَكَ تَوْحِيدَهُ ، وَالْآخِرُ بِجُودِهِ إِذْ عَرَّفَكَ التَّوْبَةَ عَلَى مَا جَنَيْتَ ، وَالظَّاهِرُ بِتَوْفِيقِهِ إِذْ وَفَّقَكَ لِلسُّجُودِ لَهُ وَالْبَاطِنُ بِسَتْرِهِ إِذْ عَصَيْتَهُ فَسَتَرَ عَلَيْكَ .
وَقَالَ الْجُنَيْدُ : هُوَ الْأَوَّلُ بِشَرْحِ الْقُلُوبِ ، وَالْآخِرُ بِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ ، وَالظَّاهِرُ بِكَشْفِ الْكُرُوبِ ، وَالْبَاطِنُ بِعِلْمِ الْغُيُوبِ . وَسَأَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَعْبًا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ : مَعْنَاهَا : إِنَّ عِلْمَهُ بِالْأَوَّلِ كَعِلْمِهِ بِالْآخَرِ ، وَعِلْمَهُ بِالظَّاهِرِ كَعِلْمِهِ بِالْبَاطِنِ . [ ص: 32 ]
( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ سُهَيْلٍ قَالَ : كَانَ أَبُو صَالِحٍ يَأْمُرُنَا إِذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى ، مُنَزِّلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ، أَعَوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ ، أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَاغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ " . وَكَانَ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ( 4 ) له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور ( 5 ) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور ( 6 ) آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ( 7 ) )
( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور )
( آمنوا بالله ورسوله ) يخاطب كفار مكة ( وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) مملكين فيه : يعني : المال الذي كان بيد غيرهم فأهلكهم وأعطاه قريشا فكانوا في ذلك المال خلفاء عمن مضوا . ( فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ) .
[ ص: 33 ] ( وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ( 8 ) هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم ( 9 ) وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ( 10 ) )
( وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم ) قرأ أبو عمرو : " أخذ " بضم الهمزة وكسر الخاء " ميثاقكم " برفع القاف على ما لم يسم فاعله . وقرأ الآخرون بفتح الهمزة والخاء والقاف ، أي : أخذ الله ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم عليه السلام بأن الله ربكم لا إله لكم سواه ، قاله مجاهد .
وقيل : أخذ ميثاقكم بإقامة الحجج والدلائل التي تدعو إلى متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( إن كنتم مؤمنين ) يوما ، فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والإعلام ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونزول القرآن . ( هو الذي ينزل على عبده ) محمد - صلى الله عليه وسلم - ( آيات بينات ) [ يعني القرآن ] . ( ليخرجكم ) الله بالقرآن ( من الظلمات إلى النور ) وقيل : ليخرجكم الرسول بالدعوة من الظلمات إلى النور أي من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان ( وإن الله بكم لرءوف رحيم ( وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض ) يقول : أي شيء لكم في ترك الإنفاق فيما يقرب من الله وأنتم ميتون تاركون أموالكم ثم بين فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله وبالجهاد فقال : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح ) يعني فتح مكة في قول أكثر المفسرين ، وقال الشعبي : هو صلح الحديبية ( وقاتل ) يقول : لا يستوي في الفضل من أنفق ماله وقاتل العدو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل فتح مكة مع من أنفق وقاتل بعده ( أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ) وروى محمد بن فضيل عن الكلبي أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فإنه أول من أسلم وأول من أنفق ماله في سبيل الله . [ ص: 34 ]
وقال عبد الله بن مسعود : أول من أظهر إسلامه بسيفه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد ، أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب ، أخبرنا محمد بن يونس ، حدثنا العلاء بن عمرو الشيباني ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، حدثنا سفيان بن سعيد عن آدم بن علي عن ابن عمر قال : كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ، فنزل عليه جبريل فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ؟ فقال : " أنفق ماله علي قبل الفتح " قال : فإن الله - عز وجل - يقول : اقرأ عليه السلام وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا أبا بكر إن الله - عز وجل - يقرأ عليك السلام ويقول لك : أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال أبو بكر : أأسخط على ربي ؟ إني عن ربي راض إني عن ربي راض .
( وكلا وعد الله الحسنى ) أي كلا الفريقين وعدهم الله الجنة . قال عطاء : درجات الجنة تتفاضل ، فالذين أنفقوا قبل الفتح في أفضلها . وقرأ ابن عامر : " وكل " بالرفع ( والله بما تعملون خبير ) .
( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم ( 11 ) يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم ( 12 ) )
( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم ) يعني على الصراط ( بين أيديهم وبأيمانهم ) يعني عن أيمانهم . قال بعضهم : أراد جميع جوانبهم ، فعبر بالبعض عن الكل وذلك دليلهم إلى الجنة .
وقال قتادة : ذكر لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه " [ ص: 35 ]
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم ، وأدناهم نورا من نوره أعلى إبهامه فيطفأ مرة ويقد مرة .
وقال الضحاك ومقاتل : " يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم " كتبهم ، يريد أن كتبهم التي أعطوها بأيمانهم ونورهم بين أيديهم . وتقول لهم الملائكة : ( بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم ) .
( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ( 13 ) )
( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا ) قرأ الأعمش وحمزة : " أنظرونا " بفتح الهمزة وكسر الظاء يعني أمهلونا . وقيل انتظرونا . وقرأ الآخرون بحذف الألف في الوصل وضمها في الابتداء وضم الظاء ، تقول العرب : انظرني وأنظرني ، يعني انتظرني . ( نقتبس من نوركم ) نستضيء من نوركم ، وذلك أن الله تعالى يعطي المؤمنين نورا على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ، ويعطي المنافقين أيضا نورا خديعة لهم ، وهو قوله - عز وجل - " وهو خادعهم " ( النساء - 141 ) فبينا هم يمشون إذ بعث الله عليهم ريحا وظلمة فأطفأت نور المنافقين ، فذلك قوله : " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا " ( التحريم - 8 ) مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين . وقال الكلبي : بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ، ولا يعطون النور ، فإذا سبقهم المؤمنون وبقوا في الظلمة قالوا للمؤمنين ، انظرونا نقتبس من نوركم
( قيل ارجعوا وراءكم ) قال ابن عباس : يقول لهم المؤمنون وقال قتادة : تقول لهم الملائكة : ارجعوا وراءكم من حيث جئتم [ ص: 36 ]
( فالتمسوا نورا ) فاطلبوا هناك لأنفسكم نورا فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا ، فيرجعون في طلب النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم ليلقوهم فيميز بينهم وبين المؤمنين ، وهو قوله : ( فضرب بينهم بسور ) أي سور ، و " الباء " صلة يعني بين المؤمنين والمنافقين وهو حائط بين الجنة والنار ( له ) أي لذلك السور ( باب باطنه فيه الرحمة ) أي في باطن ذلك السور الرحمة وهي الجنة ( وظاهره ) أي خارج ذلك السور ( من قبله ) أي من قبل ذلك الظاهر ( العذاب ) وهو النار .
( ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور ( 14 ) )
( ينادونهم ) روي عن عبد الله بن عمر قال : إن السور الذي ذكر الله تعالى في القرآن " فضرب بينهم بسور له باب " هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم .
وقال شريح : كان كعب يقول : في الباب الذي يسمى " باب الرحمة " في بيت المقدس : إنه الباب الذي قال الله - عز وجل - : " فضرب بينهم بسور له باب " الآية . " ينادونهم " يعني : ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور حين حجز بينهم بالسور وبقوا في الظلمة :
( ألم نكن معكم ) في الدنيا نصلي ونصوم ؟ ( قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم ) أهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملتموها في المعاصي والشهوات وكلها فتنة ( وتربصتم ) بالإيمان والتوبة . قال مقاتل : وتربصتم الموت وقلتم يوشك أن يموت فنستريح منه ( وارتبتم ) شككتم في نبوته وفيما أوعدكم به ( وغرتكم الأماني ) الأباطيل وما كنتم تتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين ( حتى جاء أمر الله ) يعني الموت ( وغركم بالله الغرور ) يعني الشيطان ، قال قتادة : ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار .
ابو وليد البحيرى
2022-11-23, 12:18 AM
الحلقة (398)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْحَدِيدِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية 15 إلى الاية 29
( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ( 15 ) ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ( 16 ) )
( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ) قرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، ويعقوب : " تؤخذ " بالتاء ، وقرأ الآخرون بالياء ( فدية ) بدل وعوض بأن تفدوا أنفسكم من العذاب ( ولا من الذين كفروا ) يعني المشركين ( مأواكم النار هي مولاكم ) صاحبكم وأولى بكم ، لما أسلفتم من الذنوب ( وبئس المصير ) قوله - عز وجل - : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) قال الكلبي ومقاتل : نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا : حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب فنزلت : " نحن نقص عليك أحسن القصص " ( يوسف - 3 ) فأخبرهم أن القرآن أحسن قصصا من غيره ، فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ، ثم عادوا فسألوا سلمان عن مثل ذلك فنزل : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها ( الزمر - 23 ) فكفوا عن سؤاله ما شاء الله ثم عادوا فقالوا : حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب فنزلت هذه الآية . فعلى هذا التأويل ، قوله " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " يعني في العلانية وباللسان .
وقال آخرون نزلت في المؤمنين قال عبد الله بن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية : " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " إلا أربع سنين .
وقال ابن عباس : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن ، فقال : " ألم يأن " ألم يحن للذين آمنوا أن تخشع ترق وتلين وتخضع قلوبهم لذكر الله ( وما نزل ) قرأ نافع وحفص عن عاصم بتخفيف الزاي وقرأ الآخرون بتشديدها ( من الحق ) وهو القرآن ( ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ) وهم اليهود والنصارى ( فطال عليهم الأمد ) الزمان بينهم وبين أنبيائهم ( فقست قلوبهم ) قال ابن عباس : مالوا إلى الدنيا وأعرضوا [ ص: 38 ] عن مواعظ الله والمعنى أن الله - عز وجل - ينهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر .
روي أن أبا موسى الأشعري بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن فقال لهم : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم .
( وكثير منهم فاسقون ) يعني الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام .
( اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ( 17 ) إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم ( 18 ) والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ( 19 ) )
( اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون إن المصدقين والمصدقات ) قرأ ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم بتخفيف الصاد فيهما من " التصديق " أي : المؤمنين والمؤمنات ، وقرأ الآخرون بتشديدهما أي المتصدقين والمتصدقات أدغمت التاء في الصاد ( وأقرضوا الله قرضا حسنا ) بالصدقة والنفقة في سبيل الله - عز وجل - ( يضاعف لهم ) ذلك القرض ( ولهم أجر كريم ) ثواب حسن وهو الجنة . ( والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ) والصديق : الكثير الصدق ، قال مجاهد : كل من آمن بالله ورسوله فهو صديق وتلا هذه الآية .
قال الضحاك : هم ثمانية نفر من هذه الأمة ، سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام : أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته . ( والشهداء عند ربهم ) اختلفوا في نظم هذه الآية ، منهم من قال : هي متصلة بما قبلها ، و " الواو " واو النسق ، وأراد بالشهداء المؤمنين المخلصين . قال الضحاك : هم الذين سميناهم . قال [ ص: 39 ] مجاهد : كل مؤمن صديق شهيد ، وتلا هذه الآية .
وقال قوم : تم الكلام عند قوله : " هم الصديقون " ثم ابتدأ فقال : والشهداء عند ربهم ، و " الواو " واو الاستئناف ، وهو قول ابن عباس ومسروق وجماعة . ثم اختلفوا فيهم فقال قوم : هم الأنبياء الذين يشهدون على الأمم يوم القيامة ، يروى ذلك عن ابن عباس هو قول مقاتل بن حيان . وقال مقاتل بن سليمان : هم الذين استشهدوا في سبيل الله .
( لهم أجرهم ) بما عملوا من العمل الصالح ( ونورهم ) على الصراط ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ) .
( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ( 20 ) )
قوله - عز وجل - : ( اعلموا أنما الحياة الدنيا ) أي : أن الحياة الدنيا ، و " ما " صلة ، أي : أن الحياة في هذه الدار ( لعب ) باطل لا حاصل له ( ولهو ) فرح ثم ينقضي ( وزينة ) منظر تتزينون به ( وتفاخر بينكم ) يفخر به بعضكم على بعض ( وتكاثر في الأموال والأولاد ) أي : مباهاة بكثرة الأموال والأولاد ، ثم ضرب لها مثلا فقال : ( كمثل غيث أعجب الكفار ) أي : الزراع ( نباته ) ما نبت من ذلك الغيث ( ثم يهيج ) ييبس ( فتراه مصفرا ) بعد خضرته ونضرته ( ثم يكون حطاما ) يتحطم ويتكسر بعد يبسه ويفنى ( وفي الآخرة عذاب شديد ) قال مقاتل : لأعداء الله ( ومغفرة من الله ورضوان ) لأوليائه وأهل طاعته .
( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) قال سعيد بن جبير : متاع الغرور لمن يشتغل فيها بطلب الآخرة ، ومن اشتغل بطلبها فله متاع بلاغ إلى ما هو خير منه
[ ص: 40 ] ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( 21 ) ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ( 22 ) لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ( 23 ) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ( 24 ) )
( سابقوا ) سارعوا ( إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ) لو وصل بعضها ببعض ( أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) فبين أن أحدا لا يدخل الجنة إلا بفضل الله . قوله - عز وجل - : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ) يعني : قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمار ( ولا في أنفسكم ) يعني : الأمراض وفقد الأولاد ( إلا في كتاب ) يعني : اللوح المحفوظ ( من قبل أن نبرأها ) من قبل أن نخلق الأرض والأنفس . قال ابن عباس : من قبل أن نبرأ المصيبة . وقال أبو العالية : يعني النسمة ( إن ذلك على الله يسير ) أي إثبات ذلك على كثرته هين على الله - عز وجل - . ( لكي لا تأسوا ) تحزنوا ( على ما فاتكم ) من الدنيا ( ولا تفرحوا بما آتاكم ) قرأ أبو عمرو بقصر الألف ، لقوله " فاتكم " فجعل الفعل له وقرأ الآخرون ( آتاكم ) بمد الألف ، أي : أعطاكم . قال عكرمة : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا ( والله لا يحب كل مختال فخور ) متكبر بما أوتي من الدنيا " فخور " يفخر به على الناس .
قال جعفر بن محمد الصادق : يا ابن آدم ما لك تأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت ، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يدك الموت . ( الذين يبخلون ) قيل : هو في محل الخفض على نعت المختال . وقيل : هو رفع بالابتداء [ ص: 41 ] وخبره فيما بعده . ( ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول ) أي : يعرض عن الإيمان ( فإن الله هو الغني الحميد ) قرأ أهل المدينة والشام : " فإن الله الغني " بإسقاط " هو " وكذلك هو في مصاحفهم .
( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ( 25 ) )
قوله - عز وجل - ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ) بالآيات والحجج ( وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ) يعني : العدل . وقال مقاتل بن سليمان : هو ما يوزن به أي : ووضعنا الميزان كما قال : " والسماء رفعها ووضع الميزان " ( الرحمن - 7 ( ليقوم الناس بالقسط ) ليتعاملوا بينهم بالعدل .
( وأنزلنا الحديد ) روي عن ابن عمر يرفعه : إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : الحديد والنار والماء والملح وقال أهل المعاني معنى قوله : " أنزلنا الحديد " [ أنشأنا وأحدثنا أي : أخرج لهم الحديد ] من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه .
وقال قطرب هذا من النزل كما يقال : أنزل الأمير على فلان نزلا حسنا فمعنى الآية : أنه جعل ذلك نزلا لهم . ومثله قوله : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ( الزمر - 6 ) . ( فيه بأس شديد ) قوة شديدة يعني : السلاح للحرب . قال مجاهد : فيه جنة وسلاح يعني آلة الدفع وآلة الضرب ( ومنافع للناس ) مما ينتفعون به في مصالحهم كالسكين والفأس والإبرة ونحوها إذ هو آلة لكل صنعة ( وليعلم الله ) أي : أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق والعدل وليعلم الله وليرى الله ( من ينصره ) أي : دينه ( ورسله بالغيب ) أي : قام بنصرة الدين ولم ير الله ولا الآخرة ، وإنما يحمد ويثاب من أطاع الله بالغيب ( إن الله قوي عزيز ) قوي في أمره ، عزيز في ملكه .
[ ص: 42 ] ( ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ( 26 ) ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ( 27 ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم ( 28 ) لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( 29 ) )
( ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه ) [ على دينه ] ( رأفة ) وهي أشد الرقة ( ورحمة ) كانوا متوادين بعضهم لبعض ، كما قال الله تعالى في وصف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " رحماء بينهم " . ( الفتح - 29 ( ورهبانية ابتدعوها ) من قبل أنفسهم ، وليس هذا بعطف على ما قبله ، وانتصابه بفعل مضمر كأنه قال : وابتدعوا رهبانية أي جاءوا بها من قبل أنفسهم ( ما كتبناها ) أي ما فرضناها ( عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ) يعني : ولكنهم ابتغوا رضوان الله بتلك الرهبانية ، وتلك الرهبانية ما حملوا أنفسهم من المشاق في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والنكاح والتعبد في الجبال ( فما رعوها حق رعايتها ) أي لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها بل ضيعوها وكفروا بدين عيسى فتهودوا وتنصروا ودخلوا في دين ملوكهم وتركوا الترهب ، وأقام منهم أناس على دين عيسى عليه الصلاة والسلام حتى أدركوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فآمنوا به ، وذلك قوله تعالى : ( فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ) وهم الذين ثبتوا عليها وهم أهل الرأفة والرحمة ( وكثير منهم فاسقون ) وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليه الصلاة والسلام .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أنبأني عبد الله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا الصعق بن حزن ، عن عقيل الجعدي عن أبي إسحاق عن سويد بن غفلة ، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث وهلك سائرهن ، فرقة آزت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى عليه الصلاة والسلام ، فأخذوهم وقتلوهم ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم [ ص: 43 ] إلى دين الله ودين عيسى عليه السلام فساحوا في البلاد وترهبوا وهم الذين قال الله - عز وجل - فيهم : " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون " .
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار فقال لي : " يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السلام يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم ، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلا القليل ، فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو له فقالوا : تعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى عليه السلام ، يعنون محمدا - صلى الله عليه وسلم - فتفرقوا في غيران الجبال ، وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ، ثم تلا هذه الآية : " ورهبانية ابتدعوها " الآية . " فآتينا الذين آمنوا منهم " يعني من ثبتوا عليها أجرهم ، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : الهجرة والجهاد ، والصلاة والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع "
وروي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن لكل أمة رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله "
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت ملوك بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوارة والإنجيل ، وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله فقيل لملوكهم : لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه ، فجمعهم ملوكهم [ ص: 44 ] وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها فقالوا : نحن نكفيكم أنفسنا فقالت طائفة : ابنوا لنا أسطوانة ، ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم ، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش ، فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا وقالت طائفة : ابنوا لنا دورا في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم ، ففعلوا بهم ذلك فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه الصلاة والسلام ، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب ، فجعل الرجل يقول : نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دورا كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله - عز وجل - : " ورهبانية ابتدعوها " أي ابتدعها هؤلاء الصالحون ( فما رعوها حق رعايتها ) يعني الآخرين الذين جاءوا من بعدهم ( فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ) يعني الذين ابتدعوها ابتغاء رضوان الله " وكثير منهم فاسقون " هم الذين جاءوا من بعدهم ، قال : فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق منهم إلا قليل انحط رجل من صومعته وجاء سياح من سياحته وصاحب دير من ديره وآمنوا به
فقال الله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ) . الخطاب لأهل الكتابين من اليهود والنصارى ، يقول : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في محمد - صلى الله عليه وسلم - ( وآمنوا برسوله ) محمد - صلى الله عليه وسلم - ( يؤتكم كفلين ) نصيبين ( من رحمته ) يعني يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى عليه الصلاة والسلام ، والإنجيل وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن .
وقال قوم : انقطع الكلام عند قوله " ورحمة " ثم ابتدأ : ورهبانية ابتدعوها وذلك أنهم تركوا الحق فأكلوا الخنزير وشربوا الخمر وتركوا الوضوء والغسل من الجنابة والختان ، فما رعوها يعني : الطاعة والملة " حق رعايتها " كناية عن غير مذكور " فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم " وهم أهل الرأفة والرحمة " وكثير منهم فاسقون " وهم الذين ابتدعوا الرهبانية ، وإليه ذهب مجاهد .
معنى قوله : " إلا ابتغاء رضوان الله " [ على هذا التأويل : ما أمرناهم وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ، وما أمرناهم بالترهب ] . [ ص: 45 ]
قوله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا ) بموسى وعيسى ( اتقوا الله ) وآمنوا برسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - " يؤتكم كفلين من رحمته " .
وروينا عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده "
( ويجعل لكم نورا تمشون به ) قال ابن عباس ومقاتل : يعني على الصراط ، كما قال : " نورهم يسعى بين أيديهم " ( التحريم - 8 ) ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النور هو القرآن . وقال مجاهد : هو الهدى والبيان ، أي يجعل لكم سبيلا واضحا في الدين تهتدون به ( ويغفر لكم والله غفور رحيم ) وقيل : لما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله - عز وجل - : " أولئك يؤتون أجرهم مرتين " ( القصص - 54 ) قالوا للمسلمين : أما من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وبكتابنا وأما من لم يؤمن منا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا ؟ فأنزل الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته " فجعل لهم الأجرين إذا آمنوا برسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وزادهم النور والمغفرة ثم قال : ( لئلا يعلم أهل الكتاب ( لئلا يعلم أهل الكتاب ) قال قتادة : حسد الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب المؤمنين منهم فأنزل الله تعالى " لئلا يعلم أهل الكتاب " .
قال مجاهد : قالت اليهود يوشك أن يخرج [ منا ] . نبي يقطع الأيدي والأرجل ، فلما خرج من العرب كفروا به ، فأنزل الله تعالى " لئلا يعلم أهل الكتاب " أي ليعلم و " لا " صلة ( ألا يقدرون على شيء من فضل الله ) أي ليعلم الذين لم يؤمنوا أنهم لا أجر لهم ولا نصيب لهم في [ ص: 46 ] فضل الله ( وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث عن نافع ، عن ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس ، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال : من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط ؟ فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط ، ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ، ثم قال : من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ، ألا فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين ، فغضبت اليهود والنصارى وقالوا : نحن أكثر عملا وأقل عطاء ؟ قال الله تعالى : " هل ظلمتكم من حقكم شيئا ؟ " قالوا : لا قال : " فإنه فضلي أعطيه من شئت " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني محمد بن العلاء ، حدثنا أبو أسامة عن يزيد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار ، فقالوا : لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملناه باطل ، فقال لهم : لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم ، وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتركوا واستأجر قوما آخرين بعدهم ، فقال : أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر ، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا : ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه ، فقال : أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا فاستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس فاستكملوا أجر الفريقين كليهما فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور " .
ابو وليد البحيرى
2022-11-23, 12:26 AM
الحلقة (399)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 11
سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ
مَدَنِيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( 1 ) )
( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ) الْآيَةَ . نَزَلَتْ فِي خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ كَانَتْ تَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ ، وَكَانَتْ حَسَنَةَ الْجِسْمِ وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ فَأَرَادَهَا فَأَبَتْ ، فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ عَلِيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ، ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَا قَالَ . وَكَانَ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ مِنْ طَلَاقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ . فَقَالَ لَهَا : مَا أَظُنُّكِ إِلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيَّ . فَقَالَتْ : وَاللَّهِ مَا ذَاكَ طَلَاقٌ ، وَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَغْسِلُ شِقَّ رَأْسِهِ - فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوْجِي أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ تُزَوَّجَنِي وَأَنَا شَابَّةٌ غَنِيَّةٌ ذَاتُ مَالٍ وَأَهْلٍ حَتَّى إِذَا أَكَلَ مَالِي وَأَفْنَى شَبَابِي وَتَفَرَّقَ أَهْلِي وَكَبُرَ سِنِّي ظَاهَرَ مِنِّي ، وَقَدْ نَدِمَ ، فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ يَجْمَعُنِي وَإِيَّاهُ تُنْعِشُنِي بِهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : حَرُمْتِ عَلَيْهِ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا ذَكَرَ طَلَاقًا وَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : حَرُمْتِ عَلَيْهِ ، فَقَالَتْ : أَشْكُو إِلَى اللَّهِ فَاقَتِي وَوَحْدَتِي قَدْ طَالَتْ صُحْبَتِي وَنَفَضَتْ لَهُ بَطْنِي . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا أَرَاكِ إِلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ ، وَلِمَ أُومَرْ فِي شَأْنِكِ بِشَيْءٍ ، فَجَعَلَتْ تُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَإِذَا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : حَرُمْتِ عَلَيْهِ هَتَفَتْ وَقَالَتْ : أَشْكُو إِلَى اللَّهِ فَاقَتِي وَشِدَّةَ حَالِي وَإِنَّ لِي صِبْيَةً صِغَارًا إِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيْهِ ضَاعُوا وَإِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيَّ جَاعُوا ، وَجَعَلَتْ تَرْفَعُ رَأْسَهَا إِلَى السَّمَاءِ وَتَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ، اللَّهُمَّ فَأَنْزِلْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكَ ، وَكَانَ هَذَا أَوَّلُ ظِهَارٍ فِي الْإِسْلَامِ . [ ص: 50 ]
فَقَامَتْ عَائِشَةُ تَغْسِلُ شِقَّ رَأْسِهِ الْآخَرِ . فَقَالَتِ : انْظُرْ فِي أَمْرِي جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاءَكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ : أَقْصِرِي حَدِيثَكِ وَمُجَادَلَتَكِ أَمَا تَرَيْنَ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ - وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ أَخَذَهُ مِثْلُ السُّبَاتِ - فَلَمَّا قُضِيَ الْوَحْيُ قَالَ لَهَا : ادْعِي زَوْجَكِ فَدَعَتْهُ ، فَتَلَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ " الْآيَاتِ .
قَالَتْ عَائِشَةُ : تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ كُلَّهَا إِنَّ الْمَرْأَةَ لَتُحَاوِرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ أَسْمَعُ بَعْضَ كَلَامِهَا وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ إِذْ أَنْزَلَ اللَّهُ : " قَدْ سَمِعَ اللَّهُ " الْآيَاتِ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ ) تُخَاصِمُكَ وَتُحَاوِرُكَ وَتَرَاجِعُكَ فِي زَوْجِهَا ( وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ) مُرَاجَعَتَكُمَ ا الْكَلَامَ ( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) سَمِيعٌ لِمَا تُنَاجِيهِ وَتَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ ، بَصِيرٌ بِمَنْ يَشْكُو إِلَيْهِ .
( الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور ( 2 ) )
ثم ذم الظهار فقال : ( الذين يظاهرون منكم من نسائهم ) قرأ عاصم : " يظاهرون " فيها بضم الياء وتخفيف الظاء وألف بعدها وكسر الهاء . وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر ، وحمزة ، والكسائي : بفتح الياء والهاء ، وتشديد الظاء وألف بعدها وقرأ الآخرون بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء من غير ألف .
( ما هن أمهاتهم ) أي ما اللواتي يجعلونهن من زوجاتهم كالأمهات بأمهات . وخفض التاء في " أمهاتهم " على خبر " ما " ومحله نصب كقوله : " 12 31 31 ما هذا بشرا " ( يوسف - 31 ) المعنى : ليس هن بأمهاتهم ( إن أمهاتهم ) أي ما أمهاتهم ( إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول ) لا يعرف في شرع ( وزورا ) كذبا ( وإن الله لعفو غفور ) عفا عنهم وغفر لهم بإيجاب الكفارة عليهم .
وصورة الظهار : أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، أو أنت مني أو معي أو عندي كظهر أمي ، وكذلك لو قال : أنت علي كبطن أمي أو كرأس أمي أو كيد أمي أو قال بطنك أو رأسك أو يدك علي كظهر أمي أو شبه عضوا منها بعضو آخر من أعضاء أمه فيكون ظهارا . [ ص: 51 ]
وعند أبي حنيفة - رضي الله عنه - إن شبهها ببطن الأم أو فرجها أو فخذها يكون ظهارا وإن شبهها بعضو آخر لا يكون ظهارا . ولو قال أنت علي كأمي أو كروح أمي وأراد به الإعزاز والكرامة فلا يكون ظهارا حتى يريده ، ولو شبهها بجدته فقال : أنت علي كظهر جدتي يكون ظهارا وكذلك لو شبهها بامرأة محرمة عليه بالقرابة بأن قال : أنت علي كظهر أختي أو عمتي أو خالتي أو شبهها بامرأة محرمة عليه بالرضاع يكون ظهارا - على الأصح من الأقاويل - .
( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير ( 3 ) )
( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة ) ثم حكم الظهار : أنه يحرم على الزوج وطؤها بعد الظهار ما لم يكفر ، والكفارة تجب بالعود بعد الظهار . لقوله تعالى : " ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة " .
واختلف أهل العلم في " العود " فقال أهل الظاهر : هو إعادة لفظ الظهار ، وهو قول أبي العالية لقوله تعالى : " ثم يعودون لما قالوا " أي إلى ما قالوا [ أي أعادوه مرة أخرى ] . فإن لم يكرر اللفظ فلا كفارة عليه .
وذهب قوم إلى أن الكفارة تجب بنفس الظهار ، والمراد من " العود " هو : العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من نفس الظهار ، وهو قول مجاهد والثوري .
وقال قوم : المراد من " العود " الوطء وهو قول الحسن وقتادة وطاوس والزهري وقالوا : لا كفارة عليه ما لم يطأها . وقال قوم : هو العزم على الوطء ، وهو قول مالك وأصحاب الرأي .
وذهب الشافعي إلى أن العود هو أن يمسكها عقيب الظهار زمانا يمكنه أن يفارقها فلم يفعل ، فإن طلقها عقيب الظهار في الحال أو مات أحدهما في الوقت فلا كفارة عليه لأن العود للقول هو المخالفة . وفسر ابن عباس " العود " بالندم ، فقال : يندمون فيرجعون إلى الألفة ، ومعناه هذا .
قال الفراء يقال : عاد فلان لما قال ، أي فيما قال ، وفي نقض ما قال يعني : [ ص: 52 ] رجع عما قال .
وهذا يبين ما قال الشافعي وذلك أن قصده بالظهار التحريم ، فإذا أمسكها على النكاح فقد خالف قوله ورجع عما قاله فتلزمه الكفارة ، حتى قال : لو ظاهر عن امرأته الرجعية ينعقد ظهاره ولا كفارة عليه حتى يراجعها فإن راجعها صار عائدا ولزمته الكفارة .
قوله : ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) والمراد ب " التماس " : المجامعة ، فلا يحل للمظاهر وطء امرأته التي ظاهر منها ما لم يكفر ، سواء أراد التكفير بالإعتاق أو بالصيام أو بالإطعام ، وعند مالك إن أراد التكفير بالإطعام يجوز له الوطء قبله ، لأن الله تعالى قيد العتق والصوم بما قبل المسيس وقال في الإطعام : " فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " ولم يقل : من قبل أن يتماسا . وعند الآخرين : الإطلاق في الإطعام محمول على المقيد في العتق والصيام .
واختلفوا في تحريم ما سوى الوطء من المباشرات قبل التكفير ، كالقبلة والتلذذ : فذهب أكثرهم إلى أنه لا يحرم سوى الوطء ، وهو قول الحسن ، وسفيان الثوري وأظهر قولي الشافعي كما أن الحيض يحرم الوطء دون سائر الاستمتاعات .
وذهب بعضهم إلى أنه يحرم ، لأن اسم " التماس " يتناول الكل ، ولو جامع المظاهر قبل التكفير يعصي الله تعالى ، والكفارة في ذمته . ولا يجوز أن يعود ما لم يكفر ، ولا يجب بالجماع كفارة أخرى . وقال بعض أهل العلم : إذا واقعها قبل التكفير عليه كفارتان .
وكفارة الظهار مرتبة يجب عليه عتق رقبة مؤمنة ، فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين ، فإن أفطر يوما متعمدا أو نسي النية يجب عليه استئناف الشهرين ، فإن عجز عن الصوم يجب عليه أن يطعم ستين مسكينا . وقد ذكرنا في سورة المائدة مقدار ما يطعم كل مسكين . [ ص: 53 ] ( ذلكم توعظون به ) تؤمرون به ( والله بما تعملون خبير ) .
( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم ( 4 ) )
( فمن لم يجد ) يعني الرقبة ( فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا ) فإن كانت له رقبة إلا أنه محتاج إلى خدمته ، أو له ثمن رقبة لكنه محتاج إليه لنفقته ونفقة عياله فله أن ينتقل إلى الصوم . وقال مالك والأوزاعي : يلزمه الإعتاق إذا كان واجدا للرقبة أو ثمنها وإن كان محتاجا إليه . وقال أبو حنيفة : إن كان واجدا لعين الرقبة يجب عليه إعتاقها وإن كان محتاجا إليها فأما إذا كان واجدا لثمن الرقبة وهو محتاج إليه فله أن يصوم ، فلو شرع المظاهر في صوم شهرين ثم جامع في خلال الشهر بالليل يعصي الله تعالى بتقديم الجماع على الكفارة ، ولكن لا يجب عليه استئناف الشهرين ، وعند أبي حنيفة يجب عليه استئناف الشهرين .
قوله - عز وجل - : ( فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ) يعني المظاهر إذا لم يستطع الصوم لمرض أو كبر أو فرط شهوة ولا يصبر عن الجماع يجب عليه إطعام ستين مسكينا .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري حدثنا أحمد بن علي الكشميهني حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن محمد بن أبي حرملة ، عن عطاء بن يسار أن خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن الصامت ، فظاهر منها وكان به لمم ، فجاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن أوسا ظاهر مني وذكرت أن به لمما فقالت : والذي بعثك بالحق ما جئتك إلا رحمة له إن له في منافع ، فأنزل القرآن فيهما . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مريه فليعتق رقبة ، قالت : والذي بعثك بالحق ما عنده رقبة ولا ثمنها قال : مريه فليصم شهرين متتابعين ، فقالت : والذي بعثك بالحق لو كلفته ثلاثة أيام ما استطاع ، قال : مريه فليطعم ستين مسكينا قالت : والذي بعثك بالحق ما يقدر عليه ، قال : مريه فليذهب إلى فلان ابن فلان فقد أخبرني أن عنده شطر تمر صدقة ، فليأخذه صدقة عليه ثم ليتصدق به على ستين مسكينا " .
وروى سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر قال : كنت امرأ أصيب من النساء ما لم يصب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان ، فبينما هي تحدثني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث أن وقعت عليها فانطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال : أنت بذاك ، فقلت : أنا بذاك - قاله ثلاثا - قلت : أنا بذاك وها أنا ذا فأمض في حكم الله ، فإني صابر لذلك ، قال : فأعتق رقبة . فضربت صفحة عنقي بيدي فقلت : [ ص: 54 ] لا والذي بعثك بالحق ما أملك غيرها قال : فصم شهرين متتابعين ، فقلت : يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا من الصيام ؟ قال : فأطعم ستين مسكينا قلت : والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه [ وحشين ] ما لنا عشاء ، قال : اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك ، فأطعم عنك منها وسقا ستين مسكينا ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك . قال : فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعة والبركة ، أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي قال : فدفعوها إليه .
( ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله ) لتصدقوا ما أتى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الله - عز وجل - ، ( وتلك حدود الله ) يعني ما وصف من الكفارات في الظهار ( وللكافرين عذاب أليم ) قال ابن عباس : لمن جحده وكذب به .
( إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين ( 5 ) يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ( 6 ) )
( إن الذين يحادون الله ورسوله ) أي يعادون الله ورسوله ويشاقون ويخالفون أمرهما ( كبتوا ) أذلوا وأخزوا وأهلكوا ( كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ) حفظ الله أعمالهم ( ونسوه والله على كل شيء شهيد ) .
( ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم ( 7 ) ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ( 8 ) )
( ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون ) قرأ أبو جعفر بالتاء ، لتأنيث النجوى ، وقرأ الآخرون بالياء لأجل الحائل ( من نجوى ثلاثة ) أي من سرار ثلاثة ، يعني من المسارة ، أي : ما من شيء يناجي به الرجل صاحبيه ( إلا هو رابعهم ) بالعلم . [ ص: 55 ]
وقيل : معناه ما يكون من متناجين ثلاثة يسار ، بعضهم بعضا إلا هو رابعهم بالعلم ، يعلم نجواهم ( ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ) قرأ يعقوب : " أكثر " بالرفع على محل الكلام قبل دخول " من " ( ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ) نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم ، يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم ، فيحزنون لذلك ويقولون ما نراهم إلا وقد بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو هزيمة ، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم ، فلما طال ذلك عليهم وكثر شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله " ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى " أي المناجاة ( ثم يعودون لما نهوا عنه ) أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها ( ويتناجون ) قرأ الأعمش وحمزة : و " وينتجون " على وزن يفتعلون ، وقرأ الآخرون " يتناجون " لقوله : " إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول " وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد نهاهم عن النجوى فعصوه ( وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ) وذلك أن اليهود كانوا يدخلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ويقولون ) السام عليك . " والسام " : الموت ، وهم يوهمونه أنهم يقولون : السلام عليك ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرد عليهم فيقول : عليكم ، فإذا خرجوا قالوا : ( في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول ) يريدون : لو كان نبيا حقا لعذبنا الله بما نقول ، قال الله - عز وجل - : ( حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ) [ ص: 56 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أبو أيوب عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة : " أن اليهود أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : السام عليك قال : وعليكم ، فقالت عائشة : السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش ، قالت : أولم تسمع ما قالوا ؟ قال : أولم تسمعي ما قلت ؟ رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في .
( يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير ( 11 ) )
قوله - عز وجل - ( يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا ) الآية قال مقاتل بن حيان : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس منهم يوما وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلموا عليه فرد عليهم ، ثم سلموا على القوم فردوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فلم يفسحوا لهم فشق ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لمن حوله : قم يا فلان وأنت يا فلان ، فأقام من المجلس بقدر النفر الذين قاموا بين يديه من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - الكراهية في وجوههم فأنزل الله هذه الآية .
وقال الكلبي : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، وقد ذكرنا في سورة الحجرات قصته . وقال قتادة : كانوا يتنافسون في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنوا بمجلسهم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض .
وقيل : كان ذلك يوم الجمعة ، فأنزل الله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا )
( يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا ) أي توسعوا في المجلس ، قرأ الحسن وعاصم : " في المجالس " لأن الكل جالس مجلسا معناه : ليتفسح كل رجل في مجلسه . وقرأ الآخرون : " في المجلس " على التوحيد لأن المراد منه مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فافسحوا ) أوسعوا ، يقال : فسح يفسح فسحا : إذا وسع في المجلس ( يفسح الله لكم ) يوسع الله لكم الجنة والمجالس فيها . [ ص: 58 ]
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يخلفه فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا " .
أخبرنا عبد الوهاب بن الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج قال : قال سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل : افسحوا "
وقال أبو العالية ، والقرظي والحسن : هذا في مجالس الحرب ومقاعد القتال ، كان الرجل يأتي القوم في الصف فيقول توسعوا فيأبون عليه لحرصهم على القتال ورغبتهم في الشهادة ( وإذا قيل انشزوا فانشزوا ) قرأ أهل المدينة والشام وعاصم بضم الشين وقرأ الآخرون بكسرهما وهما لغتان أي ارتفعوا قيل : ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسعوا لإخوانكم . وقال عكرمة والضحاك : كان رجال يتثاقلون عن الصلاة إذا نودي لها فأنزل الله تعالى هذه الآية معناه : إذا نودي للصلاة فانهضوا لها
وقال مجاهد وأكثر المفسرين : معناه : إذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة وإلى الجهاد وإلى مجالس كل خير وحق فقوموا لها ولا تقصروا .
( يرفع الله الذين آمنوا منكم ) بطاعتهم لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وقيامهم من مجالسهم وتوسعتهم لإخوانهم ( والذين أوتوا العلم ) من المؤمنين بفضل علمهم وسابقتهم " درجات " فأخبر الله - عز وجل - أن رسوله - صلى الله عليه وسلم - مصيب فيما أمر وأن أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا وأن النفر من أهل بدر مستحقون لما عوملوا من الإكرام .
( والله بما تعملون خبير ) قال الحسن : قرأ ابن مسعود هذه الآية وقال : أيها الناس افهموا هذه الآية ولنرغبنكم في العلم ، فإن الله تعالى يقول : " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [ ص: 59 ] المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم درجات .
[ أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي حدثنا الإمام أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان ] حدثنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله الهروي أخبرنا محمد بن يونس القرشي أخبرنا عبيد الله بن داود ، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة ، حدثني داود بن جميل عن كثير بن قيس قال : كنت جالسا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاء رجل فقال : يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما كانت لك حاجة غيره ؟ قال : لا قال : ولا جئت لتجارة ؟ قال : لا قال : ولا جئت إلا رغبة فيه ؟ قال : نعم قال : فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم ، وإن السماوات والأرض والحوت في الماء لتدعو له ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو علي الحسين بن أحمد بن إبراهيم السراج ، أخبرنا الحسن بن يعقوب العدل ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب الفراء ، حدثنا جعفر بن عون أخبرنا عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بمجلسين في مسجده ، أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه ، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه ، قال : " كلا المجلسين على خير ، وأحدهما أفضل من صاحبه ، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمون الجاهل ، فهؤلاء أفضل وإنما بعثت معلما ثم جلس فيهم " .
ابو وليد البحيرى
2022-11-23, 12:35 AM
الحلقة (400)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْحَشْرِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 7
( يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم ( 12 ) )
قوله - عز وجل - ( يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) أمام مناجاتكم ، قال ابن عباس : وذلك أن الناس سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكثروا حتى شقوا عليه فأراد الله أن يخفف على نبيه ويثبطهم ويردعهم عن ذلك فأمرهم أن يقدموا صدقة على المناجاة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وقال مقاتل بن حيان : نزلت في الأغنياء ، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس ، حتى كره النبي - صلى الله عليه وسلم - طول جلوسهم ومناجاتهم ، فلما رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته ، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئا وأما أهل الميسرة فضنوا واشتد ذلك على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الرخصة .
قال مجاهد : نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي رضي الله عنه تصدق بدينار وناجاه ثم نزلت الرخصة فكان علي رضي الله عنه يقول : آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي وهي آية المناجاة
وروي عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أما ترى دينارا ؟ قلت : لا يطيقونه قال : فكم ؟ قلت : حبة أو شعيرة ، قال : إنك لزهيد ، فنزلت : " أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات " قال علي رضي الله تعالى عنه : فبي قد خفف الله عن هذه الأمة .
( ذلك خير لكم ) يعني : تقديم الصدقة على المناجاة ( وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم ) يعني الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به معفو عنهم .
[ ص: 61 ] ( أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون ( 13 ) ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون ( 14 ) أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون ( 15 ) )
( أأشفقتم أن تقدموا ) قال ابن عباس : أبخلتم ؟ والمعنى : أخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم ( بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا ) ما أمرتم به ( وتاب الله عليكم ) تجاوز عنكم ولم يعاقبكم بترك الصدقة ، وقيل " الواو " صلة مجازه : فإن لم تفعلوا تاب الله عليكم ونسخ الصدقة [ قال مقاتل بن حيان : كان ذلك عشر ليال ثم نسخ ] وقال الكلبي : ما كانت إلا ساعة من نهار .
( فأقيموا الصلاة ) المفروضة ( وآتوا الزكاة ) الواجبة ( وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ) نزلت في المنافقين تولوا اليهود وناصحوهم ونقلوا أسرار المؤمنين إليهم . وأراد بقوله : " غضب الله عليهم " اليهود ( ما هم منكم ولا منهم ) يعني المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاء ، ولا من اليهود والكافرين ، كما قال : " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " ( النساء - 143 ( ويحلفون على الكذب وهم يعلمون ) قال السدي ومقاتل : نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق كان يجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجرة من حجره إذ قال : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان ، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق العينين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " علام تشتمني أنت وأصحابك " ؟ فحلف بالله ما فعل وجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فأنزل الله - عز وجل - هذه الآيات ، فقال : " ويحلفون على الكذب وهم يعلمون " أنهم كذبة .
( أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون ) .
( اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين ( 16 ) لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( 17 ) يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ( 18 ) استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ( 19 ) إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين ( 20 ) كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ( 21 ) )
( اتخذوا أيمانهم ) الكاذبة ( جنة ) يستجنون بها من القتل ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم ( فصدوا عن سبيل الله ) صدوا المؤمنين [ ص: 62 ] عن جهادهم بالقتل وأخذ أموالهم ( فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم ) يوم القيامة ( أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له ) . كاذبين ما كانوا مشركين ( كما يحلفون لكم ) في الدنيا ( ويحسبون أنهم على شيء ) من أيمانهم الكاذبة ( ألا إنهم هم الكاذبون ) ( استحوذ ) غلب واستولى ( عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين ) الأسفلين . أي : هم في جملة من يلحقهم الذل في الدنيا والآخرة . ( كتب الله ) قضى الله قضاء ثابتا ( لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ) [ نظيره ] قوله : " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون " ( الصافات 71 - 72 ) قال الزجاج : غلبة الرسل على نوعين : من بعث منهم بالحرب فهو غالب بالحرب ، ومن لم يؤمر بالحرب فهو غالب بالحجة .
( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ( 22 ) )
قوله - عز وجل - ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) الآية . أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين وأن من كان مؤمنا لا يوالي من كفر ، وإن كان من عشيرته .
قيل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة وسيأتي في سورة الممتحنة إن شاء الله - عز وجل - . [ ص: 63 ]
وروى مقاتل بن حيان عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال : " ولو كانوا آباءهم " يعني : أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد " أو أبناءهم " يعني أبا بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز وقال : يا رسول الله دعني أكن في الرحلة الأولى ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : متعنا بنفسك يا أبا بكر " أو إخوانهم " يعني : مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد " أو عشيرتهم " يعني عمر قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر ، وعليا وحمزة وعبيدة قتلوا يوم بدر عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة
( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ) أثبت التصديق في قلوبهم فهي موقنة مخلصة ، وقيل : حكم لهم بالإيمان فذكر القلوب لأنها موضعه ( وأيدهم بروح منه ) قواهم بنصر منه . قال الحسن : سمى نصره إياهم روحا لأن أمرهم يحيا به . وقال السدي : يعني بالإيمان . وقال الربيع : يعني بالقرآن وحجته ، كما قال : " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " ( الشورى - 52 ) وقيل برحمة منه . وقيل أمدهم بجبريل عليه السلام . ( ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) .
سورة الحشر
مدنية
قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : سورة الحشر قال : قل : سورة النضير
بسم الله الرحمن الرحيم
( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ( 1 ) )
( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ) قال المفسرون : نزلت هذه السورة في بني النضير وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المدينة فصالحته بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه فقبل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم . فلما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرا وظهر على المشركين قالت بنو النضير : والله إنه النبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا ترد له راية فلما غزا أحدا وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشا فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد - صلى الله عليه وسلم - ودخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد الحرام وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة . ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة ونزل جبريل فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة - ذكرناه في سورة آل عمران .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع منهم على خيانة حين أتاهم في دية المسلمين اللذين قتلهما [ ص: 68 ] عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة فهموا بطرح حجر عليه من فوق الحصن فعصمه الله وأخبره بذلك - ذكرناه في سورة المائدة .
فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير وكانوا بقرية يقال لها زهرة فلما سار إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف فقالوا : يا محمد واعية على إثر واعية ، وباكية على إثر باكية قال : نعم . قالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اخرجوا من المدينة . فقالوا : الموت أقرب إلينا من ذلك فتنادوا بالحرب وآذنوا بالقتال ودس المنافقون - عبد الله بن أبي وأصحابه - إليهم : أن لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم ولئن أخرجتم لنخرجن معكم ، فدربوا على الأزقة وحصنوها . ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلوا إليه : أن اخرج في ثلاثين رجلا من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان بيننا وبينك فيستمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبرا من اليهود حتى إذا كانوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض : كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلا من أصحابه كلهم يحب أن يموت قبله ؟ ! فأرسلوا إليه : كيف نفهم ونحن ستون رجلا اخرج في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فيستمعوا منك فإن آمنوا بك آمنا كلنا بك وصدقناك فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة من أصحابه وخرج ثلاثة من اليهود واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل أخوها سريعا حتى أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فساره بخبرهم قبل أن يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم ، فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة فقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلح فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقبلوا ذلك فصالحهم على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة - وهي السلاح - وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم .
وقال ابن عباس : على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم ، ولنبي الله - صلى الله عليه وسلم - ما بقي . [ ص: 69 ]
وقال الضحاك : أعطي كل ثلاثة نفر بعيرا وسقاة ، ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحاء إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة منهم بالحيرة فذلك قوله - عز وجل - : ( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب ) .
( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ( 2 ) )
( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب ) يعني بني النضير ( من ديارهم ) التي كانت بيثرب قال ابن إسحاق : كان إجلاء بني النضير بعد مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحد ، وفتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان . ( لأول الحشر ) قال الزهري : كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى وكان الله - عز وجل - قد كتب عليهم الجلاء ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا .
قال ابن عباس : من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية فكان هذا أول حشر إلى الشام قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : اخرجوا قالوا ، إلى أين ؟ قال : إلى أرض المحشر ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام .
وقال الكلبي : إنما قال : " لأول الحشر " لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
قال مرة الهمداني : كان أول الحشر من المدينة والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحاء من الشام في أيام عمر .
وقال قتادة : كان هذا أول الحشر والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت [ ص: 70 ] معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا .
( ما ظننتم ) أيها المؤمنون ( أن يخرجوا ) من المدينة لعزتهم ومنعتهم وذلك أنهم كانوا أهل حصون وعقار ونخيل كثيرة . ( وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ) أي : وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله ( فأتاهم الله ) أي أمر الله وعذابه ( من حيث لم يحتسبوا ) أنه أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك ( وقذف في قلوبهم الرعب ) بقتل سيدهم كعب بن الأشرف . ( يخربون ) قرأ أبو عمرو : بالتشديد والآخرون بالتخفيف ومعناهما واحد ( بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) قال الزهري : وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صالحهم على أن لهم ما أقلت الإبل كانوا ينظرون إلى الخشب في منازلهم فيهدمونها وينزعون منها ما يستحسنونه فيحملونه على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها . قالابن زيد : كانوا يقلعون العمد وينقضون السقوف وينقبون الجدران ويقلعون الخشب حتى الأوتاد يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون حسدا منهم وبغضا . قال قتادة : كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ويخربها اليهود من داخلها .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها لتتسع لهم المقاتل وجعل أعداء الله ينقبون دورهم في أدبارها فيخرجون إلى التي بعدها فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك قوله - عز وجل - : ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ) فاتعظوا وانظروا فيما نزل بهم ( يا أولي الأبصار ) يا ذوي العقول والبصائر .
( ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ( 3 ) )
( ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء ) الخروج من الوطن ( لعذبهم في الدنيا ) بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة ( ولهم في الآخرة عذاب النار ) .
( ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ( 4 ) ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ( 5 ) )
( ذلك ) الذي لحقهم ( بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ) [ ص: 71 ] ( ما قطعتم من لينة ) الآية . وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا : يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح ! أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخيل فهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض ؟ ! فوجد المسلمون في أنفسهم [ من قولهم وخشوا ] أن يكون ذلك فسادا واختلفوا في ذلك فقال بعضهم : لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا . وقال بعضهم : بل نغيظهم بقطعها . فأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا آدم حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر قال : حرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخل بني النضير وقطع البويرة فنزلت ( ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله )
( ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله ) أخبر الله في هذه الآية أن ما قطعوه وما تركوه فبإذن الله ( وليخزي الفاسقين )
واختلفوا في " اللينة " فقال قوم : النخل كلها لينة ما خلا العجوة [ وهو قول عكرمة وقتادة . ورواه زاذان عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع نخلهم إلا العجوة ] وأهل المدينة يسمون ما خلا العجوة من التمرة : الألوان واحدها لون ولينة . وقال الزهري : هي ألوان النخل كلها إلا العجوة والبرنية . [ ص: 72 ]
وقال مجاهد وعطية : هي النخل كلها من غير استثناء . وقال العوفي عن ابن عباس - رضي الله عنهم - : هي لون من النخل . وقال سفيان : هي كرام النخل .
وقال مقاتل هي ضرب من النخل يقال لثمرها اللون ، وهو شديد الصفرة يرى نواه من خارج ، يغيب فيها الضرس وكان من أجود تمرهم وأعجبها إليهم ، وكانت النخلة الواحدة منها ثمنها ثمن وصيف ، وأحب إليهم من وصيف فلما رأوهم يقطعونها شق ذلك عليهم وقالوا للمؤمنين : إنكم تكرهون الفساد في الأرض ، وأنتم تفسدون دعوا هذا النخل [ قائما هو لمن غلب عليها ] فأخبر الله تعالى أن ذلك بإذنه .
( وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ( 6 ) ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب ( 7 ) )
( وما أفاء الله على رسوله ) أي رده على رسوله . يقال : أفاء يفيء أي رجع وأفاء الله ( منهم ) أي من يهود بني النضير ( فما أوجفتم ) أوضعتم ( عليه من خيل ولا ركاب ) يقال : وجف الفرس والبعير يجف وجيفا وهو سرعة السير ، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير . وأراد بالركاب الإبل التي تحمل القوم . وذلك أن بني النضير لما تركوا رباعهم وضياعهم طلب المسلمون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقسمها بينهم كما فعل بغنائم خيبر فبين الله تعالى في هذه الآية أنها فيء لم يوجف المسلمون عليها خيلا ولا ركابا ولم يقطعوا إليها شقة ولا نالوا مشقة ولم يلقوا حربا ( ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ) فجعل أموال بني النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة يضعها حيث يشاء فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضري أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دعاه إذ جاءه حاجبه يرفأ فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون ؟ قال : نعم . فأدخلهم فلبث يرفأ قليلا ثم جاء فقال : هل لك في عباس وعلي يستأذنان ؟ قال : نعم . فلما دخلا قال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا - وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بني النضير - فقال الرهط : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح [ ص: 73 ] أحدهما من الآخر . قال : اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا نورث ما تركنا صدقة ؟ يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه ، قالوا : قد قال ذلك فأقبل عمر على علي وعباس فقال : أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك ؟ قالا : نعم . قال : فإني أحدثكم عن هذا الأمر إن الله كان خص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره فقال : " وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب " إلى قوله : " قدير " وكانت هذه خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم لقد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياته ثم توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر : أنا ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبضها أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - فعمل بها بما عمل به فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنتم حينئذ جميع وأقبل على علي وعباس : تذكران أن أبا بكر فعل فيه كما تقولان والله يعلم إنه فيها صادق بار راشد تابع للحق ، ثم توفى الله أبا بكر فقلت : أنا ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر والله يعلم إني فيه صادق بار راشد تابع للحق ثم جئتماني كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع فقلت لكما : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا نورث ما تركنا صدقة . فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت : إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وبما عملت به فيها منذ وليتها وإلا فلا تكلماني فيها فقلتما : ادفعها إلينا بذلك ، فدفعتها إليكما أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك ؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي فإني أكفيكما . قوله - عز وجل - ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ) يعني من أموال كفار أهل القرى . قال ابن عباس : هي قريظة والنضير وفدك وخيبر وقرى عرينة ( فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) قد ذكرنا في سورة الأنفال حكم الغنيمة وحكم الفيء . إن مال الفيء كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته يضعه حيث يشاء وكان ينفق منه على أهله نفقة سنتهم ويجعل ما بقي مجعل مال الله .
واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : قوم هو للأئمة بعده . [ ص: 74 ]
وللشافعي فيه قولان : أحدهما - هو للمقاتلة ، والثاني : لمصالح المسلمين . ويبدأ بالمقاتلة ثم بالأهم فالأهم من المصالح .
واختلفوا في تخميس مال الفيء : فذهب بعضهم إلى أنه يخمس فخمسه لأهل الغنيمة وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح ، وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل مصرف جميعه واحد ، ولجميع المسلمين فيه حق . قرأ عمر بن الخطاب : " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " حتى بلغ : " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم والذين جاءوا من بعدهم " ثم قال : هذه استوعبت المسلمين عامة . وقال : ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم .
( كي لا يكون دولة ) قرأ العامة بالياء " دولة " نصب أي لكيلا يكون الفيء دولة وقرأ أبو جعفر : " تكون " بالتاء " دولة " بالرفع على اسم كان أي : كيلا يكون الأمر إلى دولة وجعل الكينونة بمعنى الوقوع وحينئذ لا خبر له . " والدولة " اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم ( بين الأغنياء منكم ) يعني بين الرؤساء والأقوياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا اغتنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه وهو المرباع ثم يصطفي منها بعد المرباع ما شاء فجعله الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - يقسمه فيما أمر به ثم قال : ( وما آتاكم ) أعطاكم ( آتاكم ) [ من الفيء والغنيمة ] ( فخذوه وما نهاكم عنه ) الغلول وغيره ( فانتهوا ) وهذا نازل في أموال الفيء وهو عام في كل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهى عنه . [ ص: 75 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل عن محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله . فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فجاءت فقالت : إنه قد بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله تعالى فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول : قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت : " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " ( الحشر - 7 ) قالت : بلى قال : فإنه قد نهى عنه ( واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) ثم بين من له الحق في الفيء فقال : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا ) .
ابو وليد البحيرى
2022-12-22, 10:48 PM
الحلقة (401)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْحَشْرِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية 8 إلى الاية 17
( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ( 8 ) )
( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا ) رزقا ( من الله ورضوانا ) أي أخرجوا إلى دار الهجرة طلبا لرضا الله - عز وجل - ( وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ) في إيمانهم . قال قتادة : هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والعشائر وخرجوا حبا لله ولرسوله واختاروا الإسلام على ما كانوا فيه من شدة حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها
أخبرنا محمد بن الحسن المروزي أخبرنا أبو العباس الطحان أخبرنا أبو أحمد بن محمد بن قريش بن سليمان أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام حدثني عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أمية بن خالد بن عبد الله بن أسيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين . قال أبو عبيد : هكذا قال عبد الرحمن وهو عندي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد . [ ص: 76 ]
وروينا عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة " .
( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ( 9 ) )
( والذين تبوءوا الدار والإيمان ) الأنصار تبوءوا الدار توطنوا الدار أي : المدينة اتخذوها دار الهجرة والإيمان ( من قبلهم ) أي أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنتين .
ونظم الآية : والذين تبوءوا الدار من قبلهم أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان تبوء .
( يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ) حزازة وغيظا وحسدا ( مما أوتوا ) أي مما أعطى المهاجرين دونهم من الفيء وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط منها الأنصار فطابت أنفس الأنصار بذلك ( ويؤثرون على أنفسهم ) أي يؤثرون على إخوانهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم ( ولو كان بهم خصاصة ) فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم :
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستضافه فبعث إلى نسائه هل عندكن من شيء فقلن : ما معنا إلا الماء . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يضم أو يضيف هذا ؟ فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله فانطلق به إلى امرأته فقال : أكرمي ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : ما عندنا إلا قوت الصبيان [ ص: 77 ] فقال : هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونومت صبيانها ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين فلما أصبح غدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما فأنزل الله - عز وجل - : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل قال : لا فقالوا : تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة قالوا : سمعنا وأطعنا .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال : دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين فقالوا : لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها قال : ألا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فإنه سيصيبكم أثرة بعدي " .
وروي عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النضير للأنصار : " إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة " فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها فأنزل الله - عز وجل - : " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " . [ ص: 78 ]
" والشح " في كلام العرب : البخل ومنع الفضل وفرق العلماء بين الشح والبخل . روي أن رجلا قال لعبد الله بن مسعود : إني أخاف أن أكون قد هلكت فقال : وما ذاك قال : أسمع الله يقول : ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء فقال عبد الله : ليس ذاك بالشح الذي ذكر الله - عز وجل - في القرآن ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلما ولكن ذاك البخل وبئس الشيء البخل .
وقال ابن عمر : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له وقال سعيد بن جبير : " الشح " هو أخذ الحرام ومنع الزكاة وقيل : الشح هو الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم .
قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه ولم يدعه الشح إلى أن يمنع شيئا من شيء أمره الله به فقد وقاه شح نفسه
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو سعد خلف بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي نزار حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن حزاز القهندري حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق السعدي حدثنا أحمد بن منصور الرمادي حدثنا القعنبي حدثنا داود بن قيس الفراء عن عبيد الله بن مقسم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم "
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي حدثنا أبو العباس [ ص: 79 ] الأصم أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أخبرنا أبي وشعيب قالا أخبرنا الليث عن يزيد بن الهاد عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن أبي يزيد عن القعقاع هو ابن اللجلاج عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا " .
( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ( 10 ) ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون ( 11 ) )
قوله - عز وجل - : ( والذين جاءوا من بعدهم ) يعني التابعين وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان والمغفرة فقال : ( يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا ) غشا وحسدا وبغضا ( للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاثة منازل : المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذكر الله فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجا من أقسام المؤمنين .
قال ابن أبي ليلى : الناس على ثلاثة منازل : الفقراء المهاجرين والذين تبوءوا الدار والإيمان والذين جاءوا من بعدهم فاجتهد أن لا تكون خارجا من هذه المنازل .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا أحمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا ابن نمير حدثنا أبي عن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير [ ص: 80 ] عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت : أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فسببتموهم سمعت نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها " .
وقال مالك بن مغول : قال عامر بن شراحيل الشعبي : يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة [ بخصلة ] سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم فقالت : أصحاب موسى عليه السلام . وسئلت النصارى : من خير أهل ملتكم فقالوا : حواري عيسى عليه السلام . وسئلت الرافضة : من شر أهل ملتكم فقالوا : أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ولا يثبت لهم قدم ولا تجتمع لهم كلمة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وإدحاض حجتهم أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة .
قال مالك بن أنس : من يبغض أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين ثم تلا " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " حتى أتى على هذه الآية : " للفقراء المهاجرين والذين تبوءوا الدار والإيمان والذين جاءوا من بعدهم " إلى قوله : رءوف رحيم " . قوله - عز وجل - : ( ألم تر إلى الذين نافقوا ) أي أظهروا خلاف ما أضمروا : يعني : عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه ( يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ) اليهود من بني قريظة والنضير جعل المنافقين إخوانهم في الدين لأنهم كفار مثلهم . ( لئن أخرجتم ) من المدينة ( لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا ) يسألنا خذلانكم وخلافكم ( أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم ) يعني المنافقين ( لكاذبون ) .
[ ص: 81 ] ( لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون ( 12 ) لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ( 13 ) لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ( 14 ) )
( لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ) وكان الأمر كذلك فإنهم أخرجوا من ديارهم فلم يخرج المنافقون معهم وقوتلوا فلم ينصروهم : قوله تعالى : ( ولئن نصروهم ليولن الأدبار ) أي لو قدر وجود نصرهم . قال الزجاج : معناه لو قصدوا نصر اليهود لولوا الأدبار منهزمين ( ثم لا ينصرون ) يعني بني النضير لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصرهم . ( لأنتم ) يا معشر المسلمين ( أشد رهبة في صدورهم من الله ) أي يرهبونكم أشد من رهبتهم من الله ( ذلك ) أي ذلك الخوف منكم ( بأنهم قوم لا يفقهون ) عظمة الله . ( لا يقاتلونكم ) يعني اليهود ( جميعا إلا في قرى محصنة ) أي لا يبرزون لقتالكم إنما يقاتلونكم متحصنين بالقرى والجدران وهو قوله : ( أو من وراء جدر ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : " جدار " على الواحد وقرأ الآخرون : " جدر " بضم الجيم والدال على الجمع . ( بأسهم بينهم شديد ) أي : بعضهم فظ على بعض وعداوة بعضهم بعضا شديدة . وقيل : بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد فإذا خرجوا لكم فهم أجبن خلق الله ( تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ) متفرقة مختلفة قال قتادة : أهل الباطل مختلفة أهواؤهم مختلفة شهادتهم مختلفة أعمالهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق . وقال مجاهد : أراد أن دين المنافقين يخالف دين اليهود . ( ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ) .
( كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ( 15 ) كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ( 16 ) )
( كمثل الذين من قبلهم ) يعني : مثل هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم ( قريبا ) يعني مشركي مكة ( ذاقوا وبال أمرهم ) يعني القتل ببدر وكان ذلك قبل غزوة بني النضير قاله مجاهد . وقال ابن عباس : كمثل الذين من قبلهم يعني بني قينقاع . وقيل : مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سنتان . ( ولهم عذاب أليم ) ثم ضرب مثلا للمنافقين واليهود جميعا في [ ص: 82 ] [ تخاذلهم ] فقال : ( كمثل الشيطان ) أي مثل المنافقين في غرورهم بني النضير وخذلانهم كمثل الشيطان ( إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك )
وذلك ما روى عطاء وغيره عن ابن عباس قال : كان راهب في الفترة يقال له " برصيصا " تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين وإن إبليس أعياه في أمره الحيل فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال : ألا أجد أحدا منكم يكفيني أمر برصيصا فقال الأبيض - وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءه في صورة جبرائيل ليوسوس إليه على وجه الوحي فدفعه جبرائيل إلى أقصى أرض الهند - فقال الأبيض لإبليس : أنا أكفيك أمره فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في عشرة أيام مرة .
فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه حين لم يجبه فقال له : إنك ناديتني وكنت مشتغلا عنك فما حاجتك ؟ قال : حاجتي أني أحببت أن أكون معك فأتأدب بك وأقتبس من عملك وعلمك ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك فقال برصيصا : إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمنا فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين نصيبا إن استجاب لي ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوما بعدها ، فلما انفتل رآه قائما يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده قال له : ما حاجتك قال : حاجتي أن تأذن لي فأرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام معه حولا يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يوما ولا ينفتل عن صلاته إلا في كل أربعين يوما مرة وربما مد إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض . [ ص: 83 ]
فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا : إني منطلق فإن لي صاحبا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادا مما أرى وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد وكره مفارقته للذي رأى من شدة اجتهاده فلما ودعه قال له الأبيض : إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه يشفي الله بها السقيم ويعافي بها المبتلى والمجنون قال برصيصا : إني أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلا وإني أخاف إن علم به الناس شغلوني عن العبادة فلم يزل به الأبيض حتى علمه . ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال : قد والله أهلكت الرجل .
قال : فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله إن بصاحبكم جنونا أفأعالجه قالوا : نعم فقال لهم : إني لا أقوى على جنته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافيه انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان فكان الأبيض يفعل مثل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا فيدعو فيعافون فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل بين ثلاثة إخوة وكان أبوهم ملكهم فمات واستخلف أخاه فكان عمها ملك بني إسرائيل فعذبها وخنقها ثم جاء إليهم في صورة متطبب فقال لهم : أتريدون أن أعالجها قالوا : نعم قال : إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تدعونها عنده إذا جاء شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت وتردونها صحيحة قالوا : ومن هو قال برصيصا قالوا : وكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأنا من ذلك قال : فانطلقوا فابنوا صومعة إلى جانب صومعته حتى تشرفوا عليه فإن قبلها وإلا فضعوها في صومعتها ثم قولوا له هي أمانة عندك فاحتسب فيها .
قال : فانطلقوا إليه فسألوه فأبى عليهم فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض ووضعوا الجارية في صومعته وقالوا : هذه أختنا أمانة فاحتسب فيها . ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا عن صلاته عاين الجارية وما بها من الحسن والجمال فوقعت في قلبه ودخل عليه أمر عظيم ثم أقبل في صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات فذهب عنها الشيطان ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها وكانت تكشف عن نفسها فجاءه الشيطان وقال واقعها فستتوب بعد فتدرك ما تريد من الأمر فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها فقال له الشيطان : ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب فإن سألوك فقل : ذهب بها شيطانها فلم أقدر [ ص: 84 ] عليه . فدخل فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل فجاء الشيطان وهو يدفنها ليلا فأخذ بطرف إزارها فبقي طرف خارجا من التراب ثم رجع برصيصا إلى صومعته فأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم وكانوا يجيئون في طرف الأيام يسألون عنها ويوصونه بها فقالوا : يا برصيصا ما فعلت أختنا قال : قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه فصدقوه وانصرفوا فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال : ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا وإنه ودفنها في موضع كذا وكذا فقال الأخ في نفسه : هذا حلم وهو من عمل الشيطان فإن برصيصا خير من ذلك . قال : فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث . فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك فقال الأوسط مثل ما قاله الأكبر فلم يخبر أحدا فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك فقال أصغرهم لأخويه : والله لقد رأيت كذا وكذا وقال الأوسط : وأنا والله قد رأيت مثله وقال الأكبر : وأنا رأيت مثله فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا : يا برصيصا ما فعلت أختنا قال : أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم اتهمتموني فقالوا : والله لا نتهمك واستحيوا منه فانصرفوا فجاءهم الشيطان فقال : ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وإن طرف إزارها خارج من التراب . فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم فمشوا في مواليهم وغلمانهم ومعهم الفؤوس والمساحي فهدموا صومعته وأنزلوه ثم كتفوه فانطلقوا به إلى الملك فأقر على نفسه وذلك أن الشيطان أتاه فقال : تقتلها ثم تكابر يجتمع عليك أمران : قتل ومكابرة اعترف فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة فلما صلب أتاه الأبيض فقال : يا برصيصا أتعرفني قال : لا قال : أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات فاستجيب لك ويحك ما اتقيت الله في أمانتك ! خنت أهلها وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل أما استحييت فلم يزل يعيره ثم قال في آخر ذلك : ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وفضحت أشباهك من الناس فإن مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك قال : فكيف أصنع قال : تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه فآخذ بأعينهم فأخرجك من مكانك ! قال : وما هي قال تسجد لي [ قال : ما أستطيع . قال : افعل ] فسجد له فقال : يا برصيصا هذا الذي كنت أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك إني بريء منك " إني أخاف الله رب العالمين " .
[ ص: 85 ] ( فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين ( 17 ) )
يقول الله تعالى ( فكان عاقبتهما ) يعني الشيطان وذلك الإنسان ( أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين ) قال ابن عباس : ضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة وذلك أن الله - عز وجل - أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإجلاء بني النضير عن المدينة فدس المنافقون إليهم وقالوا : لا تجيبوا محمدا إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم فإنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم فأجابوهم فدربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين حتى جاءهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فناصبوه الحرب يرجون نصر المنافقين فخذلوهم وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله فكان عاقبة الفريقين النار .
قال ابن عباس رضي الله عنه : فكان الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلا بالتقية والكتمان وطمع أهل الفسوق والفجور في الأحبار ورموهم بالبهتان والقبيح حتى كان أمر جريج الراهب فلما برأه الله مما رموه به انبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس وكانت قصة جريج على ما : أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أخبرنا عبد الغافر بن محمد حدثنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثني زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا جرير بن حازم حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ابن مريم عليه السلام وصاحب جريج وكان جريج رجلا عابدا فاتخذ صومعته فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فقالت : يا جريج فقال : يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت : يا جريج فقال : أي رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فقالت : اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات .
فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها فقالت : إن شئتم لأفتننه لكم قال : فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت : هو من جريج فأتوه فاستنزلوه من صومعته وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال : ما شأنكم قالوا : زنيت بهذه البغية فولدت منك فقال : أين الصبي ؟ فجاءوا به فقال دعوني حتى أصلي فصلى فلما انصرف أتى الصبي وطعن في بطنه وقال : يا غلام من أبوك ؟ قال : فلان الراعي قال : فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب قال : لا ، أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا . وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة فقالت أمه : اللهم [ ص: 86 ] اجعل ابني مثل هذا فترك الثدي وأقبل عليه ونظر إليه فقال : اللهم لا تجعلني مثله . ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع . قال : فكأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فمه فجعل يمصها .
قال : ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون : زنيت وسرقت وهي تقول : حسبي الله ونعم الوكيل فقالت أمه : اللهم لا تجعل ابني مثلها فترك الرضاع ونظر إليها فقال : اللهم اجعلني مثلها فهناك تراجعا الحديث فقالت : مر رجل حسن الهيئة فقلت : اللهم اجعل ابني مثله فقلت : اللهم لا تجعلني مثله ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت فقلت : اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت : اللهم اجعلني مثلها قال : إن ذاك الرجل كان جبارا فقلت اللهم لا تجعلني مثله وإن هذه يقولون لها : زنيت ولم تزن وسرقت ولم تسرق فقلت : اللهم اجعلني مثلها " .
ابو وليد البحيرى
2022-12-22, 10:49 PM
الحلقة (402)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 10
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ( 18 ) ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ( 19 ) لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ( 20 ) لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ( 21 ) )
قوله - عز وجل - ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) يعني ليوم القيامة أي : لينظر أحدكم أي شيء قدم لنفسه عملا صالحا ينجيه أم سيئا يوبقه ( واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله ) تركوا أمر الله ( فأنساهم أنفسهم ) [ أي حظوظ أنفسهم ] حتى لم يقدموا لها خيرا ( أولئك هم الفاسقون )
( لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ) .
[ ص: 87 ] ( هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ( 22 ) هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ( 23 ) )
قوله - عز وجل - : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) قيل : لو جعل في الجبل تمييز وأنزل عليه القرآن لخشع وتشقق وتصدع من خشية الله مع صلابته ورزانته حذرا من أن لا يؤدي حق الله - عز وجل - في تعظيم القرآن والكافر يعرض عما فيه من العبر كأن لم يسمعها يصفه بقساوة القلب ( وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون )
( هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ) الغيب : ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ولم يعلموه والشهادة ما شاهدوه وما علموه ( هو الرحمن الرحيم ) ( هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس ) الطاهر من كل عيب المنزه عما لا يليق به ( السلام ) الذي سلم من النقائص ( المؤمن ) قال ابن عباس : هو الذي أمن الناس من ظلمه وأمن من آمن به من عذابه هو من الأمان الذي هو ضد التخويف كما قال : " وآمنهم من خوف " ( قريش - 4 ) وقيل : معناه المصدق لرسله بإظهار المعجزات والمصدق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب وللكافرين بما أوعدهم من العقاب .
( المهيمن ) الشهيد على عباده بأعمالهم وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ومقاتل . يقال : هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيبا على الشيء وقيل : هو في الأصل مؤيمن قلبت الهمزة هاء كقولهم : أرقت وهرقت ومعناه المؤمن . وقال الحسن : الأمين . وقال الخليل : هو الرقيب الحافظ . وقال ابن زيد : المصدق . وقال سعيد بن المسيب والضحاك : القاضي . وقال ابن كيسان : هو اسم من أسماء الله تعالى في الكتب والله أعلم بتأويله .
( العزيز الجبار ) قال ابن عباس : " الجبار " هو العظيم وجبروت الله عظمته وهو على هذا القول صفة ذات الله وقيل : هو من الجبر وهو الإصلاح يقال : جبرت الأمر وجبرت العظم إذا أصلحته بعد الكسر فهو يغني الفقير ويصلح الكسير . وقال السدي ومقاتل : هو الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما أراد . وسئل بعضهم عن معنى الجبار فقال : هو القهار الذي إذا أراد أمرا فعله لا يحجزه عنه حاجز . [ ص: 88 ]
( المتكبر ) الذي تكبر عن كل سوء . وقيل : المتعظم عما لا يليق به . وأصل الكبر والكبرياء : الامتناع . وقيل : ذو الكبرياء وهو الملك ( سبحان الله عما يشركون ) .
( هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ( 24 ) )
( هو الله الخالق ) المقدر والمقلب للشيء بالتدبير إلى غيره كما قال : " يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق " ( الزمر - 6 ) ( البارئ ) المنشئ للأعيان من العدم إلى الوجود ( المصور ) الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بعضها عن بعض . يقال : هذه صورة الأمر أي مثاله فأولا يكون خلقا ثم برءا ثم تصويرا . ( له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم )
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرني ابن فنجويه حدثنا ابن شيبة حدثنا ابن وهب حدثنا أحمد بن أبي شريح وأحمد بن منصور الرمادي قالا أخبرنا أبو أحمد الزبيري حدثنا خالد بن طهمان حدثني نافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قال حين يصبح - ثلاث مرات - أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ الثلاث الآيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ومن قال حين يمسي كان بتلك المنزلة " .
ورواه أبو عيسى عن محمود بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري بهذا الإسناد وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ
مَدَنِيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ( 1 ) )
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ) الْآيَةَ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيَّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا وَالزُّبَيْرُ وَالْمِقْدَادُ فَقَالَ : " انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا ( رَوْضَةَ خَاخٍ ) فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا " قَالَ : فَانْطَلَقْنَا تَتَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا : أَخْرِجِي الْكِتَابَ فَقَالَتْ : مَا مَعِي كِتَابٌ فَقُلْنَا : لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيِنَّ الثِّيَابَ قَالَ : فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا حَاطِبُ مَا هَذَا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ - يَقُولُ كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا - وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ [ ص: 92 ] يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهَمْ فَأَحْبَبْتُ - إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ - أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ : إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى [ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا ] فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ إِلَى قَوْلِهِ سَوَاءَ السَّبِيلِ
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَذَلِكَ أَنَّ سَارَةَ مَوْلَاةَ أَبِي عَمْرِو بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أَتَتِ الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَجَهَّزُ لِفَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَمُسْلِمَةً جِئْتِ ؟ قَالَتْ : لَا . قَالَ : أَمُهَاجِرَةً جِئْتِ ؟ قَالَتْ : لَا قَالَ : فَمَا جَاءَ بِكِ ؟ قَالَتْ : كُنْتُمُ الْأَصْلَ وَالْعَشِيرَةَ وَالْمَوَالِيَ وَقَدْ ذَهَبَتْ مَوَالِيَّ وَقَدِ احْتَجْتُ حَاجَةً شَدِيدَةً فَقَدِمْتُ عَلَيْكُمْ لِتُعْطُونِي وَتَكْسُوَنِي وَتَحْمِلُونِي فَقَالَ لَهَا : وَأَيْنَ أَنْتِ مِنْ شُبَّانِ مَكَّةَ وَكَانَتْ مُغَنِّيَةً نَائِحَةً قَالَتْ : مَا طُلِبَ مِنِّي شَيْءٌ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَحَثَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَأَعْطَوْهَا نَفَقَةً وَكَسَوْهَا وَحَمَلُوهَا فَأَتَاهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حَلِيفُ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى فَكَتَبَ مَعَهَا إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَأَعْطَاهَا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ وَكَسَاهَا بُرْدًا عَلَى أَنْ تُوصِلَ الْكِتَابَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَكَتَبَ فِي الْكِتَابِ : مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ .
فَخَرَجَتْ سَارَةُ وَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا فَعَلَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا وَعَمَّارًا وَالزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأُسُودِ وَأَبَا مَرْثَدٍ فُرْسَانًا فَقَالَ لَهُمُ : انْطَلَقُوا حَتَّى تَأْتُوا " رَوْضَةَ خَاخٍ " فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَخُذُوا مِنْهَا وَخَلُّوا سَبِيلَهَا وَإِنْ لَمْ تَدْفَعْهُ إِلَيْكُمْ فَاضْرِبُوا عُنُقَهَا .
قَالَ : فَخَرَجُوا حَتَّى أَدْرَكُوهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا لَهَا : أَيْنَ الْكِتَابُ ؟ فَحَلَفَتْ بِاللَّهِ مَا مَعَهَا كِتَابٌ فَبَحَثُوهَا وَفَتَّشُوا مَتَاعَهَا فَلَمْ يَجِدُوا مَعَهَا كِتَابًا فَهَمُّوا بِالرُّجُوعِ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَاللَّهِ مَا كَذَبْنَا وَلَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَلَّ سَيْفَهُ فَقَالَ : أَخْرِجِي الْكِتَابَ وَإِلَّا لِأُجَرِّدَنَّك ِ وَلَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكِ . فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ أَخْرَجَتْهُ مِنْ ذُؤَابَتِهَا وَكَانَتْ قَدْ خَبَّأَتْهُ [ ص: 93 ] فِي شَعْرِهَا فَخَلَّوْا سَبِيلَهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهَا وَلَا لِمَا مَعَهَا فَرَجَعُوا بِالْكِتَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى حَاطِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ : هَلْ تَعْرِفُ الْكِتَابَ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَمَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا كَفَرْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا غَشَشْتُكَ مُنْذُ نَصَحْتُكَ وَلَا أَحْبَبْتُهُمْ مُنْذُ فَارَقْتُهُمْ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَّا وَلَهُ بِمَكَّةَ مِنْ يَمْنَعُ عَشِيرَتَهُ وَكُنْتُ غَرِيبًا فِيهِمْ وَكَانَ أَهْلِي بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَخَشِيتُ عَلَى أَهْلِي فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ بِهِمْ بَأْسَهُ وَأَنَّ كِتَابِي لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَذَرَهُ .
فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ : دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُمُ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي شَأْنِ حَاطِبٍ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ " .
( تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) قِيلَ : أَيِ الْمَوَدَّةَ " وَالْبَاءُ " زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ : " وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ " ( الْحَجِّ - 25 ) وَقَالَ الزَّجَّاجُ : مَعْنَاهُ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ أَخْبَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِرَّهُ بِالْمَوَدَّةِ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ( وَقَدْ كَفَرُوا ) " الْوَاوُ " لِلْحَالِ أَيْ : وَحَالُهُمْ أَنَّهُمْ كَفَرُوا ( بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ) يَعْنِي الْقُرْآنَ ( يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ) مِنْ مَكَّةَ ( أَنْ تُؤْمِنُوا ) أَيْ لِأَنْ آمَنْتُمْ كَأَنَّهُ قَالَ : يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِإِيمَانِكُمْ ( بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ ) هَذَا شَرْطٌ جَوَابُهُ مُتَقَدِّمٌ وَهُوَ قَوْلُهُ : لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) قَالَ مُقَاتِلٌ : بِالنَّصِيحَةِ ( وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ ) مِنَ الْمَوَدَّةِ لِلْكُفَّارِ ( وَمَا أَعْلَنْتُمْ ) أَظْهَرْتُمْ بِأَلْسِنَتِكُم ْ ( وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) أَخْطَأَ طَرِيقَ الْهُدَى .
( إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ( 2 ) )
( إن يثقفوكم ) يظفروا بكم ويروكم ( يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم ) بالضرب والقتل ( وألسنتهم بالسوء ) بالشتم ( وودوا لو تكفرون ) كما كفروا . يقول : لا [ ص: 94 ] تناصحوهم فإنهم لا يناصحونكم ولا يوادونكم .
( لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير ( 3 ) قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ( 4 ) )
( لن تنفعكم أرحامكم ) معناه : لا يدعونكم ولا يحملنكم ذوو أرحامكم وقراباتكم وأولادكم الذين بمكة إلى خيانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وترك مناصحتهم وموالاة أعدائهم فلن تنفعكم أرحامكم ( ولا أولادكم ) الذين عصيتم الله لأجلهم ( يوم القيامة يفصل بينكم ) فيدخل أهل طاعته الجنة وأهل معصيته النار . قرأ عاصم ويعقوب ( يفصل ) بفتح الياء وكسر الصاد مخففا وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الصاد مشددا [ وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح الصاد مشددا ] وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الصاد مخففا . ( والله بما تعملون بصير ) ( قد كانت لكم أسوة ) قدوة ( حسنة في إبراهيم والذين معه ) من أهل الإيمان ( إذ قالوا لقومهم ) من المشركين ( إنا برآء منكم ) جمع بريء ( ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم ) جحدنا وأنكرنا دينكم ( وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ) يأمر حاطبا والمؤمنين بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام والذين معه من المؤمنين في التبرؤ من المشركين ( إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ) يعني : لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان قد قال لأبيه : لأستغفرن لك ثم تبرأ منه - على ما ذكرناه في سورة التوبة - ( وما أملك لك من الله من شيء ) يقول إبراهيم لأبيه : ما أغني عنك ولا أدفع عنك عذاب الله إن عصيته وأشركت به ( ربنا عليك توكلنا ) يقوله إبراهيم ومن معه من المؤمنين ( وإليك أنبنا وإليك المصير ) .
( ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم ( 5 ) لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ( 6 ) عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم ( 7 ) لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ( 8 ) )
( ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا ) قال الزجاج : لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق [ ص: 95 ] فيفتنوا وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولون : لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم ذلك ( واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم ) ( لقد كان لكم فيهم ) أي في إبراهيم ومن معه ( أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ) هذا بدل من قوله " لكم " وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة ( ومن يتول ) يعرض عن الإيمان ويوال الكفار ( فإن الله هو الغني ) عن خلقه ( الحميد ) إلى أوليائه وأهل طاعته .
قال مقاتل : فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين وأظهروا لهم العداوة والبراءة . ويعلم الله شدة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله ( عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم ) أي من كفار مكة ( مودة ) ففعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخوانا وخالطوهم وناكحوهم ( والله قدير والله غفور رحيم ) ثم رخص الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ) ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ) أي لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم ( وتقسطوا إليهم ) تعدلوا فيهم بالإحسان والبر ( إن الله يحب المقسطين ) قال ابن عباس : نزلت في خزاعة كانوا قد صالحوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا فرخص الله في برهم . [ ص: 96 ]
وقال عبد الله بن الزبير : نزلت في أسماء بنت أبي بكر وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى قدمت عليها المدينة بهدايا ضبابا وأقطا وسمنا وهي مشركة فقالت أسماء : لا أقبل منك هدية ولا تدخلي علي بيتي حتى أستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله هذه الآية فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تدخلها منزلها وتقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا قتيبة حدثنا حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومدتهم مع أبيها فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها قال : صليها .
وروي عن ابن عيينة قال : فأنزل الله فيها " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين " . ثم ذكر الذين نهاهم عن صلتهم فقال : ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم ) .
( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ( 9 ) )
( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم ) وهم مشركو مكة ( أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) .
( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم ( 10 ) )
قوله - عز وجل - ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ) الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالا لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه لا يأتيك منا أحد - وإن [ ص: 97 ] كان على دينك - إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه . فكره المؤمنون ذلك وأبي سهيل إلا ذلك فكاتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما وجاءت المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ مهاجرة وهي عاتق فجاء أهلها يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن : " إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن " إلى " ولا هم يحلون لهن "
ابو وليد البحيرى
2022-12-22, 10:50 PM
الحلقة (403)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الصَّفِّ
مَدَنِيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 14
قال عروة فأخبرتني عائشة رضي الله تعالى عنها : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمتحنهن بهذه الآية : " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات " إلى قوله : " غفور رحيم " .
قال عروة : قالت عائشة رضي الله عنها : فمن أقرت بهذا الشرط منهن قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بايعتك كلاما يكلمها به والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ما بايعهن إلا بقوله .
قال ابن عباس : أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتمرا حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يردوه إليه وكتبوا بذلك كتابا وختموا عليه فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم - وقال مقاتل هو : صيفي بن الراهب - في طلبها وكان كافرا فقال : يا محمد رد علي امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف بعد فأنزل الله - عز وجل - : " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات " من دار الكفر إلى دار الإسلام ( فامتحنوهن ) [ ص: 98 ]
قال ابن عباس : امتحانها : أن تستحلف ما خرجت لبغض زوجها ولا عشقا لرجل من المسلمين ولا رغبة عن أرض إلى أرض ولا لحدث أحدثته ولا لالتماس دنيا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحبا لله ولرسوله .
قال فاستحلفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فحلفت فلم يردها وأعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يرد من جاءه من الرجال ويحبس من جاءه من النساء بعد الامتحان ويعطي أزواجهن مهورهن .
( الله أعلم بإيمانهن ) [ أي هذا الامتحان لكم والله أعلم بهن ] ( فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ) ما أحل الله مؤمنة لكافر ( وآتوهم ) يعني أزواجهن الكفار ( ما أنفقوا ) عليهن يعني المهر الذي دفعوا إليهن ( ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ) أي مهورهن أباح الله نكاحهن للمسلمين وإن كان لهن أزواج في دار الكفر لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكفار ( ولا تمسكوا ) [ قرأ أبو عمرو ويعقوب : بالتشديد والآخرون : بالتخفيف من الإمساك ] ( بعصم الكوافر ) " والعصم " : جمع العصمة وهي ما يعتصم به من العقد والنسب . " والكوافر " : جمع الكافرة .
نهى الله المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات يقول : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما .
قال الزهري : فلما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكة مشركتين : قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة والأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية أم ابنه عبد الله بن عمر فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم وهما على شركهما . وكانت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب تحت طلحة بن عبيد الله فهاجر طلحة وهي بمكة على دين قومها ففرق الإسلام بينهما فتزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية .
قال الشعبي : وكانت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت ولحقت [ ص: 99 ] بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأقام أبو العاص بمكة مشركا ثم أتى المدينة فأسلم فردها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
( واسألوا ) أيها المؤمنون ( ما أنفقتم ) أي : إن لحقت امرأة منكم بالمشركين مرتدة فاسألوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم ( وليسألوا ) يعني : المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم ( ما أنفقوا ) من المهر ممن تزوجها منكم ( ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم ) قال الزهري : لولا الهدنة والعهد الذي كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء ولم يرد الصداق وكذلك كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد فلما نزلت هذه الآية أقر المؤمنون بحكم الله - عز وجل - وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمروا به من أداء نفقات المسلمين [ على نسائهم ] فأنزل الله - عز وجل - : ( وإن فاتكم ) .
( وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ( 11 ) )
( وإن فاتكم ) أيها المؤمنون ( شيء من أزواجكم إلى الكفار ) فلحقن بهم مرتدات ( فعاقبتم ) قال المفسرون : معناه غنمتم أي غزوتم فأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة وقيل : ظهرتم وكانت العاقبة لكم وقيل : أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم قرأ حميد الأعرج " فعقبتم " بالتشديد وقرأ الزهري : " فعقبتم " خفيفة بغير ألف وقرأ مجاهد " فأعقبتم " أي صنعتم بهم كما صنعوا بكم . وكلها لغات بمعنى واحد يقال : عاقب وعقب وعقب وأعقب وتعقب وتعاقب واعتقب : إذا غنم . وقيل : " التعقيب " : غزوة بعد غزوة ( فآتوا الذين ذهبت أزواجهم ) إلى الكفار منكم ( مثل ما أنفقوا ) عليهن من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار . وقيل : فعاقبتم المرتدة بالقتل .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لحق بالمشركين من نساء المؤمنين والمهاجرين ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان وكانت تحت عياض بن شداد الفهري وفاطمة بنت أبي أمية [ ص: 100 ] بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان وعزة بنت عبد العزيز بن نضلة وزوجها عمرو بن عبد ود وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل وأم كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر بن الخطاب فكلهن رجعن عن الإسلام فأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة .
( واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) واختلف القول في أن رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن كان واجبا أو مندوبا .
وأصله أن الصلح هل كان وقع على رد النساء ، فيه قولان : أحدهما أنه وقع على رد الرجال والنساء جميعا لما روينا : أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ثم صار الحكم في رد النساء منسوخا بقوله : " فلا ترجعوهن إلى الكفار " فعلى هذه كان رد المهر واجبا .
والقول الآخر : أن الصلح لم يقع على رد النساء لأنه روي عن علي : أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وذلك لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت وأكرهت عليها لضعف قلبها وقلة هدايتها إلى المخرج منها بإظهار كلمة الكفر مع التورية وإضمار الإيمان ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته وهدايته إلى التقية فعلى هذا كان رد المهر مندوبا . واختلفوا في أنه هل يجب العمل به اليوم في رد المال إذا شرط في معاقدة الكفار فقال قوم : لا يجب وزعموا أن الآية منسوخة وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة . وقال قوم : هي غير منسوخة ويرد إليهم ما أنفقوا .
( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ( 12 ) )
قوله - عز وجل - : ( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك ) الآية . وذلك يوم فتح مكة لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيعة الرجال وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه وهو يبايع النساء بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبلغهن عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعرفها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبايعكن على أن لا تشركن بالله [ ص: 101 ] شيئا فرفعت هند رأسها وقالت : والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال وبايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " ولا يسرقن " فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات فلا أدري أيحل لي أم لا فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفها فقال لها : وإنك لهند بنت عتبة قالت : نعم ، فاعف عما سلف عفا الله عنك فقال : " ولا يزنين " فقالت هند : أو تزني الحرة فقال : " ولا يقتلن أولادهن " فقالت هند : ربيناهن صغارا وقتلتموهم كبارا فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى وتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن " - وهي أن تقذف ولدا على زوجها ليس منه - قالت هند : والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق فقال : " ولا يعصينك في معروف " قالت هند : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء . فأقر النسوة بما أخذ عليهن
قوله - عز وجل - : ( ولا يقتلن أولادهن ) أراد وأد البنات الذي كان يفعله أهل الجاهلية قوله ( ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ) ليس المراد منه نهيهن عن الزنا لأن النهي عن الزنا قد تقدم ذكره بل المراد منه أن تلتقط مولودا وتقول لزوجها هذا ولدي منك فهو البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن لأن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها . قوله ( ولا يعصينك في معروف ) أي في كل أمر وافق طاعة الله . قال بكر بن عبد الله المزني : في كل أمر فيه رشدهن . وقال مجاهد : لا تخلو المرأة بالرجال . وقال سعيد بن المسيب والكلبي وعبد الرحمن بن زيد : هو النهي عن النوح والدعاء بالويل وتمزيق الثوب وحلق الشعر ونتفه وخمش الوجه ولا تحدث المرأة الرجال إلا ذا محرم ولا تخلو برجل غير ذي محرم ولا تسافر إلا مع ذي محرم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا [ ص: 102 ] محمد بن إسماعيل حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت : بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ علينا " أن لا يشركن بالله شيئا " ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها فقالت : أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها فما قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا فانطلقت ورجعت وبايعها
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق حدثنا أبو يعلى الموصلي حدثنا هدبة بن خالد حدثنا أبان بن يزيد حدثنا يحيى بن أبي كثير أن زيدا حدثه أن أبا سلام حدثه أن أبا مالك الأشعري حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة " . وقال : " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا عمرو بن حفص حدثنا أبي أخبرنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية " قوله : ( فبايعهن ) يعني إذا بايعنك فبايعهن ( واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم )
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثني محمود حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبايع النساء بالكلام بهذه الآية : " لا يشركن بالله شيئا " قالت : وما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة إلا امرأة يملكها
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرنا محمد بن عبد الله بن [ ص: 103 ] حمدون أخبرنا مكي بن عبدان حدثنا عبد الرحمن بن بشر حدثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر سمع أميمة بنت رقية تقول : بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسوة فقال لنا : فيما استطعتن وأطقتن فقلت : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرحم بنا من أنفسنا ، قلت : يا رسول الله بايعنا قال سفيان : يعني صافحنا فقال : " إني لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة " .
( يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ( 13 ) )
قوله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ) وهم اليهود وذلك أن أناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين يتوصلون إليهم بذلك فيصيبون من ثمارهم فنهاهم الله عن ذلك ( قد يئسوا ) يعني هؤلاء اليهود ( من الآخرة ) بأن يكون لهم فيها ثواب وخير ( كما يئس الكفار من أصحاب القبور ) أي : كما يئس الكفار الذين ماتوا وصاروا في القبور من أن يكون لهم حظ وثواب في الآخرة . قال مجاهد : الكفار حين دخلوا قبورهم أيسوا من رحمة الله . قال سعيد بن جبير : يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار الذين ماتوا فعاينوا الآخرة . وقيل : كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم .
سُورَةُ الصَّفِّ
مَدَنِيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ( 2 ) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ( 3 ) )
( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا : لَوْ عَلِمْنَا أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لَعَمِلْنَاهُ وَلِبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا وَأَنْفُسَنَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا " فَابْتُلُوا بِذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى " لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ "
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ : لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثَوَابِ شُهَدَاءِ بَدْرٍ [ قَالَتِ الصَّحَابَةُ ] لَئِنْ لَقِينَا بَعْدَهُ قِتَالًا لِنُفْرِغَنَّ فِيهِ وُسْعَنَا فَفَرُّوا يَوْمَ أُحُدٍ فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ : نَزَلَتْ فِي [ شَأْنِ ] الْقِتَالِ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ : قَاتَلْتُ وَلَمْ يُقَاتِلْ [ ص: 108 ] وَطَعَنْتُ وَلَمْ يَطْعَنْ وَضَرَبْتُ وَلَمْ يَضْرِبْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَعِدُونَ النَّصْرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ كَاذِبُونَ ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ) فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ فَهُوَ كَقَوْلِكَ : بِئْسَ رَجُلًا أَخُوكَ وَمَعْنَى الْآيَةِ : أَيْ عَظُمَ ذَلِكَ فِي الْمَقْتِ وَالْبُغْضِ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ : إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ بُغْضًا شَدِيدًا أَنْ تَقُولُوا ( مَا لَا تَفْعَلُونَ ) أَنْ تَعِدُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ شَيْئًا ثُمَّ لَمْ تُوَّفُوا بِهِ .
( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ( 4 ) وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ( 5 ) )
( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ) أي يصفون أنفسهم عند القتال صفا ولا يزولون عن أماكنهم ( كأنهم بنيان مرصوص ) قد رص بعضه ببعض [ أي ألزق بعضه ببعض ] وأحكم فليس فيه فرجة ولا خلل . وقيل كالرصاص . ( وإذ قال موسى لقومه ) من بني إسرائيل : ( يا قوم لم تؤذونني ) وذلك حين رموه بالأدرة ( وقد تعلمون أني رسول الله إليكم ) والرسول يعظم [ ويكرم ] ويحترم ( فلما زاغوا ) عدلوا عن الحق ( أزاغ الله قلوبهم ) أمالها عن الحق يعني أنهم لما تركوا الحق بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم عن الحق ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) قال الزجاج : يعني لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق .
( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ( 6 ) ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين ( 7 ) يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ( 8 ) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ( 9 ) يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ( 10 ) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ( 11 ) يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم ( 12 ) )
( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) والألف فيه للمبالغة في الحمد وله وجهان : [ ص: 109 ] أحدهما : أنه مبالغة من الفاعل أي الأنبياء كلهم حمادون لله - عز وجل - وهو أكثر حمدا لله من غيره والثاني : أنه مبالغة في المفعول أي الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة وهو [ أكثرهم مبالغة ] وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها . ( فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ) .
( ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ) .
( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) . ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم ) . قرأ ابن عامر " تنجيكم " بالتشديد والآخرون بالتخفيف ( من عذاب أليم ) . نزل هذا حين قالوا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله - عز وجل - لعملناه وجعل ذلك بمنزلة التجارة لأنهم يربحون بها رضا الله ونيل جنته والنجاة من النار . ثم بين تلك التجارة فقال :
( تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم ) .
[ ص: 110 ] ( وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين ( 13 ) يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ( 14 )
( وأخرى تحبونها ) . أي : ولكم خصلة أخرى في العاجل مع ثواب الآخرة تحبونها وتلك الخصلة : ( نصر من الله وفتح قريب ) . قال الكلبي : هو النصر على قريش وفتح مكة . وقال عطاء : يريد فتح فارس والروم . ( وبشر المؤمنين ) . يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة . ثم حضهم على نصر الدين وجهاد المخالفين فقال : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ) . قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو : " أنصارا " بالتنوين " لله " بلام الإضافة وقرأ الآخرون : " أنصار الله " مضافا لقوله : " نحن أنصار الله " .
( كما قال عيسى ابن مريم للحواريين ) . أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى عليه السلام : ( من أنصاري إلى الله ) . أي : من ينصرني مع الله ( قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ) . قال ابن عباس : يعني في زمن عيسى عليه السلام وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق : فرقة قالوا : كان الله فارتفع ، وفرقة قالوا : كان ابن الله فرفعه الله إليه وفرقة قالوا : كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه وهم المؤمنون واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى : ( فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ) . عالين غالبين . وروى مغيرة عن إبراهيم قال : فأصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - أن عيسى كلمة الله وروحه .
ابو وليد البحيرى
2022-12-22, 10:51 PM
الحلقة (404)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْجُمُعَةِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 11
سُورَةُ الْجُمُعَةِ
مَدَنِيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 1 ) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( 2 ) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 3 ) )
( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ ) يَعْنِي الْعَرَبَ كَانَتْ أُمَّةً أُمِّيَّةً لَا تَكْتُبُ وَلَا تَقْرَأُ ( رَسُولًا مِنْهُمْ ) يَعْنِي مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَسَبُهُ نَسَبُهُمْ [ وَلِسَانُهُ لِسَانُهُمْ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ ] ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) أَيْ مَا كَانُوا قَبْلَ بِعْثَةِ الرَّسُولِ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ . ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ) وَفِي " آخَرِينَ " وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ : أَحَدُهُمَا الْخَفْضُ ، عَلَى الرَّدِّ إِلَى الْأُمِّيِّينَ مَجَازُهُ : وَفِي آخَرِينَ . وَالثَّانِي النَّصْبُ ، عَلَى الرَّدِّ إِلَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي قَوْلِهِ " وَيُعَلِّمُهُمُ " أَيْ : وَيُعَّلِمُ آخَرِينَ مِنْهُمْ ، أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَدِينُونَ بِدِينِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا صَارُوا مِنْهُمْ ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمْ ، فَقَالَ قَوْمٌ : هُمُ الْعَجَمُ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَرِوَايَةُ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا : أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُعَلِّمُ الطُّوسِيُّ بِهَا حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ [ ص: 114 ] يَعْقُوبَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو النَّصْرِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ سُفْيَانَ ، وَعَلِيُّ بْنُ طَيْفُورَ ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الثَّقَفِيُّ قَالُوا : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ ، عَنْ ثَوْرٍ ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ نَزَلَتْ سُورَةُ الْجُمُعَةِ ، فَلَمَّا قَرَأَ : " وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ " قَالَ رَجُلٌ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى سَأَلَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَالَ : وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَالَ : فَوَضَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ ، ثُمَّ قَالَ : " لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ "
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ ، أَخْبَرَنَا جَدِّي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّارُ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعُذَافِرِيُّ ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ الدَّبَرِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنْ جَعْفَرٍ الْجَزَرِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَذَهَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ ، أَوْ قَالَ : رِجَالٌ ، مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ حَتَّى يَتَنَاوَلُوهُ " وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ : هُمُ التَّابِعُونَ . وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : هُمْ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ [ ابْنُ ] أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ . قَوْلُهُ ( لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) أَيْ [ لَمْ ] يُدْرِكُوهُمْ وَلَكِنَّهُمْ يَكُونُونَ بَعْدَهُمْ . وَقِيلَ : " لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ " أَيْ فِي الْفَضْلِ وَالسَّابِقَةِ لِأَنَّ التَّابِعِينَ لَا يُدْرِكُونَ شَأْوَ الصَّحَابَةِ . ( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .
( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( 4 ) مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين ( 5 ) )
( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) يعني الإسلام والهداية . ( والله ذو الفضل العظيم ) قوله - عز وجل - : ( مثل الذين حملوا التوراة ) أي كلفوا القيام بها والعمل بما فيها ( ثم لم يحملوها ) لم يعملوا بما فيها ولم يؤدوا حقها ( كمثل الحمار يحمل أسفارا ) أي كتبا من [ ص: 115 ] العلم ، واحدها سفر ، قال الفراء : هي الكتب العظام يعني كما أن الحمار يحملها ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود يقرؤن التوراة ولا ينتفعون بها لأنهم خالفوا ما فيها ( بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين ) الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء عليهم السلام ، يعني من سبق في علمه أنه لا يؤمن لا يهديهم .
( قل ياأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ( 6 ) ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ( 7 ) قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ( 8 ) ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ( 9 ) )
( قل ياأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس ) من دون محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ( فتمنوا الموت ) فادعوا بالموت على أنفسكم ( إن كنتم صادقين ) ، أنكم أبناء الله وأحباؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه . ( ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) قوله - عز وجل - : ( ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ) أي في يوم الجمعة كقوله : " أروني ماذا خلقوا من الأرض أي في الأرض " [ أي في الأرض ] وأراد بهذا النداء الأذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن الزهري عن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الزوراء [ ص: 116 ] قرأ الأعمش : " من يوم الجمعة " بسكون الميم ، وقرأ العامة بضمها .
واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة ، منهم من قال : لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم عليه السلام . وقيل : لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات . وقيل : لاجتماع الجماعات فيه . وقيل : لاجتماع الناس فيها للصلاة .
وقيل : أول من سماها جمعة كعب بن لؤي قال أبو سلمة : أول من قال " أما بعد " كعب بن لؤي وكان أول من سمى الجمعة جمعة ، وكان يقال له يوم العروبة .
وعن ابن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة . وقبل أن ينزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة . وقالوا : لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام ، وللنصارى يوم ، فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه ، فنذكر الله ونصلي فيه ، فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوه يوم العروبة ، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم ركعتين وذكرهم فسموه يوم الجمعة ، ثم أنزل الله - عز وجل - في ذلك بعد .
وروي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب ، أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة ، فقلت له : إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة ؟ قال : لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في بقيع يقال له بقيع الخضمات ، قلت له : كم كنتم يومئذ ؟ قال : أربعون وأول جمعة جمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه على ما ذكر أهل السير : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة مهاجرا نزل قباء على بني عمرو بن عوف ، وذلك يوم الاثنين لثنتي عشرة [ ليلة ] خلت من شهر ربيع الأول حين امتد الضحى ، فأقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ويوم الخميس ، وأسس مسجدهم ، ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة عامدا المدينة ، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ، وقد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجدا ، فجمع هناك وخطب [ ص: 117 ]
قوله - عز وجل - : ( فاسعوا إلى ذكر الله ) أي : فامضوا إليه واعملوا له ، وليس المراد من السعي الإسراع ، إنما المراد منها العمل والفعل ، كما قال : " وإذا تولى سعى في الأرض " ( البقرة - 205 ) وقال : " إن سعيكم لشتى " ( الليل - 4 ) .
وكان عمر بن الخطاب يقرأ : فامضوا إلى ذكر الله ، وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود . وقال الحسن : أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ، ولكن بالقلوب والنية والخشوع
وقال قتادة في هذه الآية : " فاسعوا إلى ذكر الله " قال : فالسعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها وكان يتأول قوله : " فلما بلغ معه السعي " ( الصافات - 102 ) يقول فلما مشى معه .
أخبرنا الإمام أبو [ علي ] الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا محمد بن أحمد بن معقل الميداني ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ، ولكن ائتوها تمشون وعليكم السكينة [ والوقار ] فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموها " قوله ( إلى ذكر الله ) أي إلى الصلاة ، وقال سعيد بن المسيب : " فاسعوا إلى ذكر الله " قال هو موعظة الإمام ( وذروا البيع ) يعني البيع والشراء لأن اسم البيع يتناولهما جميعا . وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني وقال الزهري : عند خروج الإمام . وقال الضحاك : إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء ( ذلكم ) الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع ، ( خير لكم ) من المبايعة ( إن كنتم تعلمون ) مصالح أنفسكم . [ ص: 118 ] واعلم أن صلاة الجمعة من فروض الأعيان ، فتجب على كل من جمع العقل ، والبلوغ ، والحرية والذكورة والإقامة إذا لم يكن له عذر . ومن تركها استحق الوعيد .
وأما الصبي والمجنون فلا جمعة عليهما ، لأنهما ليسا من أهل أن يلزمهما فرض الأبدان لنقصان أبدانهما ، ولا جمعة على النساء بالاتفاق :
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد ، حدثني سلمة بن عبد الله الخطمي عن محمد بن كعب أنه سمع رجلا من بني وائل يقول : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبيا أو مملوكا " وذهب أكثرهم إلى أنه لا جمعة على العبيد . وقال الحسن وقتادة والأوزاعي : تجب على العبد المخارج ، ولا تجب على المسافر عند الأكثرين .
وقال النخعي والزهري : تجب على المسافر إذا سمع النداء ، وكل من له عذر من مرض أو تعهد مريض أو خوف ، جاز له ترك الجمعة ، وكذلك له تركها بعذر المطر والوحل .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل [ حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل ] أخبرني عبد الحميد صاحب الزيادي ، حدثنا عبد الله بن الحارث بن عمر ، حدثنا محمد بن سيرين قال ابن عباس لمؤذنه في يوم مطير : إذا قلت : أشهد أن محمدا رسول الله ، فلا تقل : حي على الصلاة . قل : صلوا في بيوتكم . فكأن الناس استنكروا فقال : فعله من هو خير مني إن الجمعة عزمة ، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض .
وكل من لا يجب عليه حضور الجمعة ، فإذا حضر وصلى مع الإمام [ الجمعة ] سقط عنه فرض الظهر ، ولكن لا يكمل به عدد الجمعة إلا صاحب العذر ، فإنه إذا حضر يكمل به العدد . [ ص: 119 ] أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي في سنة إحدى وثمانين وثلثمائة ، أخبرنا عيسى بن عمر بن العباس السمرقندي ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي ، أخبرنا يحيى بن حسان حدثنا معاوية بن سلام ، أخبرني زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول حدثني الحكم بن مينا أن ابن عمر حدثه وأبا هريرة أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على أعواد منبره : " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين "
أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أخبرنا أبو محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا علي بن خشرم ، أخبرنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن عمرو عن عبيدة بن سفيان ، عن أبي الجعد يعني الضميري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاونا بها طبع الله على قلبه "
واختلف أهل العلم في موضع إقامة الجمعة ، وفي العدد الذي تنعقد به الجمعة ، وفي المسافة التي يجب أن يؤتى منها : أما الموضع : فذهب قوم إلى أن كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلا من أهل الكمال ، بأن يكونوا أحرارا عاقلين [ بالغين ] مقيمين لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفا إلا ظعن حاجة ، تجب عليهم إقامة الجمعة فيها . وهو قول عبيد الله بن عبد الله ، وعمر بن عبد العزيز وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق . وقالوا : لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلا على هذه الصفة ، وشرط عمر بن عبد العزيز مع عدد الأربعين أن يكون فيهم وال ، والوالي غير شرط عند الشافعي . وقال علي : لا جمعة إلا في مصر جامع وهو قول أصحاب الرأي .
ثم عند أبي حنيفة ، رضي الله عنه تنعقد بأربعة ، والوالي شرط وقال الأوزاعي وأبو يوسف : [ ص: 120 ] تنعقد بثلاثة إذا كان فيهم وال . وقال الحسن وأبو ثور : تنعقد باثنين كسائر الصلوات . وقال ربيعة : تنعقد باثني عشر رجلا . والدليل على جواز إقامتها في القرى ما : أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن المثنى ، أخبرنا أبو عامر العقدي ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن أبي حمزة الضبعي عن ابن عباس قال : إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين
وإذا كان الرجل مقيما في قرية لا تقام فيها الجمعة ، أو كان مقيما في برية ، فذهب قوم إلى أنه إن كان يبلغهم النداء من موضع الجمعة يلزمهم حضور الجمعة ، وإن كان لا يبلغهم النداء فلا جمعة عليهم . وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق . والشرط أن يبلغهم نداء مؤذن جهوري الصوت يؤذن في وقت تكون الأصوات فيه هادئة والرياح ساكنة ، وكل قرية تكون في موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة .
وقال سعيد بن المسيب : تجب على كل من آواه المبيت . وقال الزهري : تجب على من كان على ستة أميال . وقال ربيعة : على أربعة أميال . وقال مالك والليث : على ثلاثة أميال . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا جمعة على أهل السواد قريبة كانت القرية أو بعيدة .
وكل من تلزمه صلاة الجمعة لا يجوز له أن يسافر يوم الجمعة بعد الزوال قبل أن يصلي الجمعة ، وجوز أصحاب الرأي أن يسافر بعد الزوال إذا كان يفارق البلد قبل خروج الوقت .
أما إذا سافر قبل الزوال بعد طلوع الفجر فيجوز ، غير أنه يكره إلا أن يكون سفره سفر طاعة من حج أو غزو ، وذهب بعضهم إلى أنه إذا أصبح يوم الجمعة مقيما فلا يسافر حتى يصلي الجمعة ، والدليل على جوازه ما :
أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أخبرنا أبو محمد الجراحي ، أخبرنا أبو العباس المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى ، حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا أبو معاوية عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة ، فغدا أصحابه ، وقال : أتخلف فأصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ألحقهم ، فلما صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه فقال : ما منعك أن تغدو مع أصحابك ؟ قال : أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم ، فقال : " لو أنفقت ما في الأرض جميعا [ ص: 121 ] ما أدركت فضل غدوتهم " وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلا عليه هيئة السفر يقول : لولا أن اليوم يوم الجمعة لخرجت ، فقال عمر : اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر
وقد ورد أخبار في سنن يوم الجمعة وفضله منها : ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد الفقيه ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أنه قال : خرجت إلى [ الطور ] فلقيت كعب الأحبار ، فجلست معه فحدثني عن التوراة ، وحدثته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان فيما حدثته أن قلت له : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم ، وفيه أهبط وفيه تيب عليه ، وفيه مات وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حين تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه " قال كعب : ذلك في كل سنة يوم ، فقلت : بل في كل جمعة ، قال : فقرأ كعب التوراة فقال : صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال أبو هريرة : ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة ، فقال عبد الله بن سلام : قد علمت أية ساعة هي ، هي آخر ساعة في يوم الجمعة ، قال أبو هريرة : وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة ! وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي " وتلك ساعة لا يصلى فيها ؟ فقال عبد الله بن سلام : ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصليها ؟ قال أبو هريرة : بلى ، قال : فهو ذاك . [ ص: 122 ]
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل "
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، أخبرني أبي عن عبد الله بن وديعة عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ، ويدهن من دهنه ، أو يمس من طيب بيته ، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ، ثم يصلي ما كتب له ، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعن أبي أمامة يعني سهل بن حنيف حدثاه عن أبي سعيد وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من اغتسل يوم الجمعة واستن ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد ، فلم يتخط رقاب الناس ثم ركع ما شاء الله أن يركع ، وأنصت إذا خرج الإمام كانت كفارة ما بينها وبين الجمعة التي كانت قبلها " قال أبو هريرة : وزيادة ثلاثة أيام لأن الله تعالى يقول : " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " ( الأنعام - 160 ) .
أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني ، أخبرنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي ، أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر اللؤلؤي ، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، حدثنا محمد بن حاتم الجرجرائي ، حدثنا ابن المبارك عن الأوزاعي ، حدثني حسان بن عطية ، حدثني أبو الأشعث الصنعاني ، حدثني أوس بن أوس الثقفي قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من غسل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر وابتكر ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام واستمع ، ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها " [ ص: 123 ] أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سفيان ، عن الزهري عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم الأول فالأول فإذا خرج الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة والمهجر إلى الصلاة كالمهدي بدنة ، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ، ثم الذي يليه كالمهدي شاة ثم الذي يليه كالمهدي كبشا حتى ذكر الدجاجة والبيضة " .
__________________
ابو وليد البحيرى
2022-12-22, 10:52 PM
الحلقة (405)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْمنافقون
مَدَنِيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 11
( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ( 10 ) وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين ( 11 ) )
قوله - عز وجل - ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ) أي إذا فرغ من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم ( وابتغوا من فضل الله ) يعني الرزق وهذا أمر إباحة ، كقوله : " وإذا حللتم فاصطادوا " ( المائدة - 2 ) قال ابن عباس : إن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد وإن شئت فصل إلى العصر ، وقيل : فانتشروا في الأرض ليس لطلب الدنيا ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله . وقال الحسن وسعيد بن جبير ومكحول : " وابتغوا من فضل الله " هو طلب العلم .
( واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) قوله - عز وجل - ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما ) الآية ، أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا خالد بن عبد الله [ أخبرنا حصين ] عن سالم بن أبي الجعد وعن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال : أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فثار الناس إلا اثني عشر رجلا فأنزل الله : " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " . [ ص: 124 ]
ويحتج بهذا الحديث من يرى [ إقامة ] الجمعة باثني عشر رجلا . وليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة حتى يكون حجة لاشتراط هذا العدد . وقال ابن عباس في رواية الكلبي : لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط .
وقال الحسن وأبو مالك : أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة زيت من الشام والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة ، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه ، فلم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا رهط منهم أبو بكر وعمر فنزلت هذه الآية ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي نارا "
وقال مقاتل : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة ، وكان إذا قدم لم تبق بالمدينة عاتق إلا أتته ، وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وبر وغيره ، فينزل عند أحجار الزيت ، وهو مكان في سوق المدينة ، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليبتاعوا منه فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا وامرأة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كم بقي في المسجد ؟ فقالوا : اثنا عشر رجلا وامرأة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة من السماء " فأنزل الله هذه الآية وأراد باللهو الطبل .
وقيل : كانت العير إذا قدمت المدينة استقبلوها بالطبل والتصفيق . وقوله : " انفضوا إليها " رد الكناية إلى التجارة لأنها أهم . وقال علقمة : سئل عبد الله بن عمر : أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائما أو قاعدا ؟ قال : أما تقرأ " وتركوك قائما " .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد ، أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة خطبتين قائما يفصل بينهما بجلوس . [ ص: 125 ]
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أخبرنا أبو الأحوص ، عن سماك عن جابر بن سمرة قال : كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس
وبهذا الإسناد عن جابر بن سمرة قال : كنت أصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا
والخطبة فريضة في صلاة الجمعة ، ويجب أن يخطب قائما خطبتين ، وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة : أن يحمد الله ، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوصي بتقوى الله ، هذه الثلاثة فرض في الخطبتين جميعا ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن ، ويدعو للمؤمنين في الثانية ، فلو ترك واحدة من هذه الخمس لا تصح جمعته عند الشافعي وذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أنه لو أتى بتسبيحة أو تحميدة أو تكبيرة أجزأه . وهذا القدر لا يقع عليه اسم الخطبة ، وهو مأمور بالخطبة .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا عبد الله بن يوسف بن محمد بن مامويه ، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري بمكة ، حدثنا الحسن بن الصباح الزعفراني ، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع أن مروان استخلف أبا هريرة على المدينة ، فصلى بهم أبو هريرة الجمعة فقرأ سورة الجمعة في الركعة الأولى وفي الثانية : " إذا جاءك المنافقون " ( المنافقون - 1 ) فقال عبيد الله : فلما انصرفنا مشيت إلى جنبه فقلت له : لقد قرأت بسورتين سمعت علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الصلاة ؟ فقال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن ضمرة بن سعيد المازني عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة على إثر سورة الجمعة ؟ [ ص: 126 ] فقال : كان يقرأ ب " هل أتاك حديث الغاشية " .
أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أخبرنا أبو محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى حدثنا قتيبة ، حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين وفي الجمعة ب " سبح اسم ربك الأعلى " و " هل أتاك حديث الغاشية " وربما اجتمع في يوم واحد فيقرأ بهما .
ولجواز الجمعة خمس شرائط : الوقت وهو : وقت الظهر ما بين زوال الشمس إلى دخول وقت العصر ، والعدد والإمام والخطبة ودار الإقامة فإذا فقد شرط من هذه الخمسة يجب أن يصلوها ظهرا . .
ولا يجوز للإمام أن يبتدئ الخطبة قبل اجتماع العدد ، وهو عدد الأربعين عند الشافعي فلو اجتمعوا وخطب بهم ثم انفضوا قبل افتتاح الصلاة أو انتقص واحد من العدد لا يجوز أن يصلي بهم الجمعة ، بل يصلي الظهر ، ولو افتتح بهم الصلاة ثم انفضوا فأصح أقوال الشافعي أن بقاء الأربعين شرط إلى آخر الصلاة ، [ كما أن بقاء الوقت شرط إلى آخر الصلاة ] فلو انتقص واحد منهم قبل أن يسلم الإمام يجب على الباقين أن يصلوها أربعا . وفيه قول آخر : إن بقي معه اثنان أتمها جمعة . وقيل : إن بقي معه واحد أتمها جمعة ، وعند المزني إذا نقصوا بعد ما صلى الإمام بهم ركعة أتمها جمعة ، وإن بقي وحده فإن كان في الركعة الأولى يتمها أربعا وإن انتقص من العدد واحد ، وبه قال أبو حنيفة في العدد الذي شرطه كالمسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة فإذا سلم الإمام أتمها جمعة وإن أدرك أقل من ركعة أتمها أربعا . .
قوله - عز وجل - : ( قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة ) أي ما عند الله من الثواب على الصلاة والثبات مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خير من اللهو ومن التجارة ( والله خير الرازقين ) لأنه موجد الأرزاق فإياه فاسألوا ومنه فاطلبوا .
سورة المنافقون
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ( 1 ) اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ( 2 ) ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ( 3 ) وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ( 4 ) )
( إذا جاءك المنافقون ) يعني عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه ، ( قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا . ( اتخذوا أيمانهم جنة ) سترة ، ( فصدوا عن سبيل الله ) منعوا الناس عن الجهاد والإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
( إنهم ساء ما كانوا يعملون ) ( ذلك بأنهم آمنوا ) أقروا باللسان إذا رأوا المؤمنين ، ( ثم كفروا ) إذا خلوا إلى المشركين ، ( فطبع على قلوبهم ) بالكفر ، ( فهم لا يفقهون ) الإيمان . ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ) يعني أن لهم أجساما ومناظر ، ( وإن يقولوا تسمع لقولهم ) فتحسب أنه صدق ، قال عبد الله بن عباس : كان عبد الله بن أبي جسيما فصيحا ذلق [ ص: 130 ] اللسان ، فإذا قال سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله . ( كأنهم خشب مسندة ) أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام . قرأ أبو عمرو والكسائي : " خشب " بسكون الشين ، وقرأ الباقون بضمها .
( مسندة ) ممالة إلى جدار ، من قولهم : أسندت الشيء ، إذا أملته ، والتثقيل للتكثير ، وأراد أنها ليست بأشجار تثمر ، ولكنها خشب مسندة إلى حائط ، ( يحسبون كل صيحة عليهم ) أي لا يسمعون صوتا في العسكر بأن نادى مناد أو انفلتت دابة وأنشدت ضالة ، إلا ظنوا - من جبنهم وسوء ظنهم - أنهم يرادون بذلك ، وظنوا أنهم قد أتوا ، لما في قلوبهم من الرعب .
وقيل : ذلك لكونهم على وجل من أن ينزل الله فيهم أمرا يهتك أستارهم ويبيح دماءهم ثم قال : ( هم العدو ) وهذا ابتداء وخبره ، ( فاحذرهم ) ولا تأمنهم ، ( قاتلهم الله ) لعنهم الله ( أنى يؤفكون ) يصرفون عن الحق .
( وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون ( 5 ) سواء عليهم أأستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين ( 6 ) )
( وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ) أي عطفوا وأعرضوا بوجوههم رغبة عن الاستغفار . قرأ نافع ويعقوب " لووا " بالتخفيف ، وقرأ الآخرون بالتشديد ، لأنهم فعلوه مرة بعد مرة .
( ورأيتهم يصدون ) يعرضون عما دعوا إليه ، ( وهم مستكبرون ) متكبرون عن استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم . ( سواء عليهم أستغفرت لهم ) يا محمد ، ( أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين ) ذكر محمد بن إسحاق وغيره عن جماعة ، من أصحاب السير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغه : أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو [ جويرة ] زوج النبي [ ص: 131 ] - صلى الله عليه وسلم - ، فلما سمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل ، فتزاحف الناس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق ، وقتل من قتل منهم ، ونقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها [ عليهم ] فبينما الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار ، يقال له جهجاه بن سعيد الغفاري يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان بن وبرة الجهني ، حليف بني عوف بن الخزرج ، على [ ذلك ] الماء فاقتتلا فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار ! وصرخ الغفاري : يا معشر المهاجرين ! وأعان جهجاها الغفاري رجل من المهاجرين يقال له جعال ، وكان فقيرا ، فغضب عبد الله بن أبي ابن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم ، غلام حديث السن ، فقال ابن أبي : أفعلوها ؟ فقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ثم أقبل على من حضره من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ، ولتحولوا إلى غير بلادكم ، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد ، فقال زيد بن أرقم : أنت - والله - الذليل القليل المبغض في قومك ، محمد - صلى الله عليه وسلم - في عز من الرحمن ومودة من المسلمين ، فقال عبد الله بن أبي : اسكت ، فإنما كنت ألعب . قال : فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ وذلك ] بعد فراغه من الغدو ، فأخبره الخبر ، وعنده عمر بن الخطاب ، فقال : دعني أضرب عنقه يا رسول الله قال : كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ؟ ولكن أذن بالرحيل . وذلك في ساعة لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتحل فيها فارتحل الناس .
وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عبد الله بن أبي فأتاه فقال : أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني ؟ فقال عبد الله : والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك ، وإن زيدا لكاذب ، وكان عبد الله في قومه شريفا عظيما ، فقال من حضر من الأنصار من أصحابه : يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قاله . فعذره النبي - صلى الله عليه وسلم - وفشت الملامة في الأنصار لزيد ، وكذبوه ، وقال له عمه [ وكان زيد معه ] ما أردت إلى أن كذبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والناس مقتوك ، وكان زيد يساير النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستحيا بعد ذلك أن يدنو من النبي - صلى الله عليه وسلم - . [ ص: 132 ]
فلما استقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ، ثم قال : يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها .
فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أوما بلغك ما قال صاحبكم عبد الله بن أبي ؟ قال : وما قال ؟ قال : زعم إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل . فقال أسيد : فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت ، هو والله الذليل وأنت العزيز ، ثم قال : يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك ، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا .
وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتلعبد الله بن أبي ، لما بلغك عنه ، فإن كنت فاعلا فمرني به ، فأنا أحمل إليك رأسه ، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني ، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل مؤمنا بكافر ، فأدخل النار .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا .
قالوا : وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومهم ذلك حتى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ، [ ثم نزل بالناس ] فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما . وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي .
ثم راح بالناس حتى نزل [ على ماء ب ] الحجاز فويق النقيع ، يقال له نقعا فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوفوها وضلت ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك ليلا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تخافوا فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار توفي بالمدينة ، قيل : من هو ، قال : رفاعة بن زيد بن التابوت ، فقال رجل من المنافقين : كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته ؟ ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي ! فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق وبمكان الناقة ، وأخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ، وقال : ما أزعم أني أعلم الغيب وما أعلمه ، ولكن الله أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي ، هي في الشعب قد تعلق زمامها بشجرة فخرجوا يسعون قبل الشعب فإذا هي كما قال ، فجاءوا بها وآمن ذلك المنافق .
فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات ذلك اليوم ، وكان من عظماء اليهود وكهفا للمنافقين ، فلما وافى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، قال زيد بن أرقم : جلست في البيت [ ص: 133 ] لما بي من الهم والحياء ، فأنزل الله تعالى سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله . فلما نزلت أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذن زيد وقال : " يا زيد إن الله صدقك وأوفى بأذنك " .
وكان عبد الله بن أبي بقرب المدينة ، فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله بن عبد الله حتى أناخ على مجامع طرق المدينة ، فلما جاء عبد الله بن أبي قال : [ وراءك ، قال : ] مالك ويلك ؟ قال : لا والله لا تدخلها أبدا إلا بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولتعلمن اليوم من الأعز من الأذل ، فشكا عبد الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صنع ابنه ، فأرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن خل عنه حتى يدخل ، فقال : أما إذا جاء أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنعم ، فدخل فلم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات .
قالوا : فلما نزلت الآية وبان كذب عبد الله بن أبي قيل له : يا أبا حباب إنه قد نزل فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لك ، فلوى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أؤمن فآمنت ، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد فأنزل الله تعالى : " وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم " الآية . ونزل : ( هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ) .
( هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون ( 7 ) يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ( 8 ) )
( هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ) يتفرقوا ، ( ولله خزائن السماوات والأرض ) فلا يعطي أحد أحدا شيئا إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته ، ( ولكن المنافقين لا يفقهون ) أن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون . ( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ) من غزوة بني المصطلق ، ( ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) فعزة الله : قهره من دونه ، وعزة رسوله : إظهار دينه على الأديان كلها ، وعزة المؤمنين : نصر الله إياهم على أعدائهم . ( ولكن المنافقين لا يعلمون ) ، ذلك ولو علموا ما قالوا هذه المقالة .
[ ص: 134 ] ( ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ( 9 ) وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ( 10 ) )
قوله - عز وجل - : ( ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم ) ، لا تشغلكم ( أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ) ، قال المفسرون يعني الصلوات الخمس ، نظيره قوله : " لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " ( النور - 37 ( ومن يفعل ذلك ) ، أي من شغله ماله وولده عن ذكر الله ( فأولئك هم الخاسرون ) . ( وأنفقوا من ما رزقناكم ) ، قال ابن عباس : يريد زكاة الأموال ، ( من قبل أن يأتي أحدكم الموت ) ، فيسأل الرجعة ، ( فيقول رب لولا أخرتني ) ، هلا أخرتني أمهلتني . وقيل : " لا " صلة فيكون الكلام بمعنى التمني ، أي : لو أخرتني ، ( إلى أجل قريب فأصدق ) ، فأتصدق وأزكي مالي ، ( وأكن من الصالحين ) ، أي من المؤمنين .
نظيره قوله تعالى : " ومن صلح من آبائهم " ( الرعد - 23 ) ( غافر - 8 ) ، هذا قول مقاتل وجماعة . وقالوا : نزلت الآية في المنافقين . وقيل : [ نزلت ] الآية في المؤمنين .
والمراد بالصلاح هنا : الحج . وروى الضحاك ، وعطية عن ابن عباس قال : ما من أحد يموت وكان له مال لم يؤد زكاته وأطاق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت . وقرأ هذه الآية وقال : " وأكن من الصالحين " قرأ أبو عمرو " وأكون " بالواو ونصب النون على جواب التمني وعلى لفظ فأصدق ، قال : إنما حذفت الواو من المصحف اختصارا .
وقرأ الآخرون : " وأكن " بالجزم عطفا على قوله " فأصدق " لو لم يكن فيه الفاء ، لأنه لو لم يكن فيه فاء كان جزما . يعني : إن أخرتني أصدق وأكن ، ولأنه مكتوب في المصحف بحذف الواو .
ابو وليد البحيرى
2022-12-22, 10:53 PM
الحلقة (406)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْتغابن
مَدَنِيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 18
[ ص: 135 ] ( ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون ( 11 ) )
( ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون ) قرأ أبو بكر : " يعملون " بالياء وقرأ الآخرون بالتاء .
سُورَةُ التَّغَابُنِ
مَدَنِيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 ) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 2 ) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 3 ) )
قَالَ عَطَاءٌ هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ : " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ " إِلَى آخِرِهِنَّ . ( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : [ إِنَّ ] اللَّهَ خَلَقَ بَنِي آدَمَ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا ، ثُمَّ يُعِيدُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا خَلَقَهُمْ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا .
وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طُبِعَ كَافِرًا "
وَقَالَ - جَلَّ ذِكْرُهُ - " وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا " ( نُوحٍ - 27 ) . [ ص: 140 ]
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ [ عَنْ أَنَسٍ ] عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ : يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ؟ فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الْأَجَلُ ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ "
وَقَالَ جَمَاعَةٌ : مَعْنَى الْآيَةِ : إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ ثُمَّ كَفَرُوا وَآمَنُوا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْخَلْقَ ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِفِعْلِهِمْ ، فَقَالَ : " فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ " كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي " ( النُّورِ - 45 ) وَاللَّهُ خَلَقَهُمْ وَالْمَشْيُ فِعْلُهُمْ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا : رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : " فَمِنْكُمْ كَافِرٌ " فِي حَيَاتِهِ " مُؤْمِنٌ " فِي الْعَاقِبَةِ " وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ " فِي حَيَاتِهِ كَافِرٌ فِي الْعَاقِبَةِ .
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ : فَمِنْكُمْ كَافِرٌ بِاللَّهِ مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ كَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ .
وَقِيلَ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الدَّهْرِيَّةِ ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِ : أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْكَافِرَ ، وَكُفْرُهُ فِعْلٌ لَهُ وَكَسْبٌ وَخَلَقَ الْمُؤْمِنَ ، وَإِيمَانُهُ فِعْلٌ لَهُ وَكَسْبٌ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كَسْبٌ وَاخْتِيَارٌ وَكَسْبُهُ وَاخْتِيَارُهُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ فَالْمُؤْمِنُ بَعْدَ خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُ يَخْتَارُ الْإِيمَانَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ ذَلِكَ مِنْهُ وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ وَعَلِمَهُ مِنْهُ ، وَالْكَافِرُ بَعْدَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ يَخْتَارُ الْكُفْرَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ ذَلِكَ مِنْهُ وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ وَعَلِمَهُ مِنْهُ . وَهَذَا طَرِيقُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَنْ سَلَكَهُ أَصَابَ الْحَقَّ وَسَلِمَ مِنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ .
( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .
[ ص: 141 ] ( يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ( 4 ) ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ( 5 ) ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد ( 6 ) زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير ( 7 ) فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير ( 8 ) يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ( 9 ) )
( يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور )
( ألم يأتكم ) يخاطب كفار مكة ( نبأ الذين كفروا من قبل ) يعني : الأمم الخالية ( فذاقوا وبال أمرهم ) يعني ما لحقهم من العذاب في الدنيا ( ولهم عذاب أليم ) في الآخرة . ( ذلك ) العذاب ( بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا ) ولم يقل : يهدينا لأن البشر وإن كان لفظه واحدا فإنه في معنى الجمع ، وهو اسم الجنس لا واحد له من لفظه وواحده إنسان ، ومعناها : ينكرون ويقولون آدمي مثلنا يهدينا ! ( فكفروا وتولوا واستغنى الله ) عن إيمانهم ( والله غني ) عن خلقه ( حميد ) في أفعاله . ثم أخبر عن إنكارهم البعث فقال - جل ذكره - : ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل ) يا محمد ( بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ) وهو القرآن ( والله بما تعملون خبير ( يوم يجمعكم ليوم الجمع ) يعني يوم القيامة يجمع فيه أهل السماوات والأرض ( ذلك يوم التغابن ) وهو تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ ، والمراد بالمغبون من غبن عن أهله ومنازله في الجنة ، فيظهر يومئذ غبن كل كافر بتركه الإيمان ، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان ( ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ) قرأ أهل المدينة [ ص: 142 ] والشام : " نكفر " " وندخله " وفي سورة الطلاق " ندخله " بالنون فيهن ، وقرأ الآخرون بالياء ( خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ) .
( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ( 10 ) ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم ( 11 ) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين ( 12 ) الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( 13 ) ياأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ( 14 ) )
( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير )
( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ) [ بإرادته وقضائه ] ( ومن يؤمن بالله ) فيصدق أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله ( يهد قلبه ) يوفقه لليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه فيسلم [ لقضائه ] ( والله بكل شيء عليم ) .
( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين )
( الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . قوله - عز وجل - : ( ياأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ) قال ابن عباس : هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يهاجروا إلى المدينة ، فمنعهم أزواجهم وأولادهم ، وقالوا : صبرنا على إسلامكم فلا نصبر على فراقكم فأطاعوهم وتركوا الهجرة [ فقال تعالى : ( فاحذروهم ) أن تطيعوهم وتدعوا الهجرة ] . [ ص: 143 ]
( وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ) هذا فيمن أقام على الأهل والولد ولم يهاجر ، فإذا هاجر رأى الذين سبقوه بالهجرة قد فقهوا في الدين هم أن يعاقب زوجه وولده الذين ثبطوا عن الهجرة ، وإن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم ولم يصبهم بخير ، فأمرهم الله تعالى بالعفو عنهم والصفح .
وقال عطاء بن يسار : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي : كان ذا أهل وولد ، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه ، وقالوا : إلى من تدعنا ؟ فيرق لهم ويقيم فأنزل الله : " إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم " بحملهم إياكم على ترك الطاعة ، فاحذروهم أن تقبلوا منهم .
( وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا ) فلا تعاقبوهم على خلافهم إياكم فالله غفور رحيم .
( إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم ( 15 ) )
( إنما أموالكم وأولادكم فتنة ) بلاء واختبار وشغل عن الآخرة يقع بسببها الإنسان في العظائم ومنع الحق وتناول الحرام ( والله عنده أجر عظيم ) قال بعضهم : لما ذكر الله العداوة أدخل فيه " من " للتبعيض ، فقال : " إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم " لأن كلهم ليسوا [ بأعداء ] ولم يذكر " من " في قوله : " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " لأنها لا تخلو عن الفتنة واشتغال القلب .
وكان عبد الله بن مسعود يقول : لا يقولن أحدكم : اللهم إني أعوذ بك من الفتنة ، فإنه ليس منكم أحد يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن ليقل : اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن
أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفري ، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن الفضل الفقيه ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن إسحاق الفقيه ، حدثنا أحمد بن بكر بن يوسف حدثنا علي بن الحسن ، أخبرنا الحسين بن واقد ، عن عبد الله بن بريدة قال سمعت أبي بريدة يقول : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا ، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله [ ص: 144 ] - صلى الله عليه وسلم - من المنبر ، فحملهما فوضعهما بين يديه ، ثم قال : " صدق الله : إنما أموالكم وأولادكم فتنة ، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران ، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما " .
( فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ( 16 ) إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم ( 17 ) عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ( 18 ) )
( فاتقوا الله ما استطعتم ) أطقتم ، هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : " اتقوا الله حق تقاته " ( آل عمران - 102 ( واسمعوا وأطيعوا ) الله ورسوله ( وأنفقوا خيرا لأنفسكم ) أنفقوا من أموالكم خيرا لأنفسكم . ( ومن يوق شح نفسه ) حتى يعطي حق الله من ماله ( فأولئك هم المفلحون ) .
سُورَةُ الطَّلَاقِ
مَدَنِيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ( 1 ) )
( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ) نَادَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ثُمَّ خَاطَبَ أُمَّتَهُ لِأَنَّهُ السَّيِّدُ الْمُقَدَّمُ ، فَخِطَابُ الْجَمِيعِ مَعَهُ .
وَقِيلَ : مَجَازُهُ : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأُمَّتِكَ " إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ " إِذَا أَرَدْتُمْ تَطْلِيقَهُنَّ ، كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : " فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ " ( النَّحْلِ - 98 ) أَيْ : إِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ .
( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) أَيْ لِطُهْرِهِنَّ بِالَّذِي يُحْصِينَهُ مِنْ عِدَّتِهِنَّ . وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ يَقْرَآنِ : " فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عَدَّتِهِنَّ " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللَّهِ [ بْنِ عُمَرَ ] كَانَ قَدْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ ، عَنْ مَالِكٍ [ عَنْ نَافِعٍ ] عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَ ا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ [ ثُمَّ تَطْهُرَ ] ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ . [ ص: 148 ]
وَرَوَاهُ سَالِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَ ا ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا " .
وَرَوَاهُ يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَلَمْ يَقُولَا : ( ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ وَسَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ مَوْلَى عَزَّةَ يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ - فَقَالَ : كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : طَلَّقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَ ا فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ " قَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ أَوْ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ " الشَّافِعِيُّ يَشُكُّ .
وَرَوَاهُ حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، وَقَالَ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَقَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ .
اعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي حَالِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ بِدْعَةٌ ، وَكَذَلِكَ فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ " .
وَالطَّلَاقُ السُّنِّيُّ : أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ . وَهَذَا فِي حَقِّ امْرَأَةٍ تَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ .
فَأَمَّا إِذَا طَلَّقَ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ أَوْ طَلَّقَ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَمْ تَحِضْ قَطُّ أَوِ الْآيِسَةَ بَعْدَ مَا جَامَعَهَا أَوْ طَلَّقَ الْحَامِلَ بَعْدَ مَا جَامَعَهَا أَوْ فِي حَالِ رُؤْيَةِ الدَّمِ لَا يَكُونُ بِدْعِيًا . وَلَا سُنَّةَ وَلَا بِدْعَةَ فِي طَلَاقِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا " .
وَالْخُلْعُ فِي حَالِ الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا [ فِيهِ ] لَا يَكُونُ بِدْعِيًّا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فِي مُخَالَعَةِ زَوَّجْتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ حَالَهَا وَلَوْلَا جَوَازُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لِأُشْبِهَ أَنْ يَتَعَرَّفَ الْحَالَ .
وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ قَصْدًا يَعْصِي اللَّهَ تَعَالَى وَلَكِنْ يَقَعُ [ ص: 149 ] الطَّلَاقُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ ابْنَ عُمَرَ بِالْمُرَاجَعَة ِ فَلَوْلَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ لَكَانَ لَا يَأْمُرُ بِالْمُرَاجَعَة ِ ، وَإِذَا رَاجَعَهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَعْقِبُ تِلْكَ الْحَيْضَةَ قَبْلَ الْمَسِيسِ كَمَا رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ .
وَمَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ : " ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ " فَاسْتِحْبَابٌ .
اسْتَحَبَّ تَأْخِيرَ الطَّلَاقِ إِلَى الطُّهْرِ الثَّانِي حَتَّى لَا يَكُونَ مُرَاجَعَتُهُ إِيَّاهَا لِلطَّلَاقِ كَمَا يَكْرَهُ النِّكَاحُ لِلطَّلَاقِ .
وَلَا بِدْعَةَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ ، عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالِ الطُّهْرِ ثَلَاثًا لَا يَكُونُ بِدْعِيًا ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ . وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) أَيْ عَدَدَ أَقْرَائِهَا احْفَظُوهَا قِيلَ : أَمَرَ بِإِحْصَاءِ الْعِدَّةِ لِتَفْرِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى الْأَقْرَاءِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ ثَلَاثًا . وَقِيلَ : لِلْعِلْمِ بِبَقَاءِ زَمَانِ الرَّجْعَةِ وَمُرَاعَاةِ أَمْرِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى .
( وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ) أَرَادَ بِهِ إِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ لِلزَّوْجِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْهُ ( وَلَا يَخْرُجْنَ ) وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا فَإِنْ خَرَجَتْ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ أَثِمَتْ فَإِنْ وَقَعَتْ ضَرُورَةٌ - وَإِنْ خَافَتْ هَدْمًا أَوْ غَرَقًا - لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ لَهَا حَاجَةٌ مِنْ بَيْعِ غَزْلٍ أَوْ شِرَاءِ قُطْنٍ فَيَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ نَهَارًا وَلَا يَجُوزُ لَيْلًا فَإِنَّ رِجَالًا استُشْهِدوا بِأُحُدٍ فَقَالَتْ نِسَاؤُهُمْ : نَسْتَوْحِشُ فِي بُيُوتِنَا فَأَذِنَ لَهُنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَحَدَّثْنَ عِنْدَ إِحْدَاهُنَّ ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ النَّوْمِ تَأْوِي كُلُّ امْرَأَةٍ إِلَى بَيْتِهَا وَأَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَالَةِ جَابِرٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَنْ تَخْرُجَ لِجِذَاذِ نَخْلِهَا .
وَإِذَا لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ فِي السَّفَرِ تَعْتَدُّ ذَاهِبَةً وَجَائِيَةً وَالْبَدَوِيَّة ُ [ تَتَبَوَّأُ ] حَيْثُ يَتَبَوَّأُ أَهْلُهَا فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ فِي حَقِّهِمْ كَالْإِقَامَةِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ .
قَوْلُهُ : ( إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ " أَنْ تَبْذُوَ عَلَى أَهْلِ [ ص: 150 ] زَوْجِهَا فَيَحِلُّ إِخْرَاجُهَا .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ : أَرَادَ بِالْفَاحِشَةِ : أَنْ تَزْنِيَ فَتُخْرَجُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا ثُمَّ تُرَدُّ إِلَى مَنْزِلِهَا يُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَى نُشُوزِهَا فَلَهَا أَنْ تَتَحَوَّلَ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا وَالْفَاحِشَةُ : النُّشُوزُ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالسُّدِّيُّ : خُرُوجُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَاحِشَةٌ .
( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ) يَعْنِي : مَا ذُكِرَ مِنْ سَنَةَ الطَّلَاقِ وَمَا بَعْدَهَا ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ) يُوقِعُ فِي قَلْبِ الزَّوْجِ مُرَاجَعَتَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ وَالطَّلْقَتَيْ نِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُفَرِّقَ الطَّلَقَاتِ ، وَلَا يُوقِعَ الثَّلَاثَ دُفْعَةً وَاحِدَةً ، حَتَّى إِذَا نَدِمَ أَمْكَنَهُ الْمُرَاجَعَةَ .
__________________
ابو وليد البحيرى
2022-12-22, 10:54 PM
الحلقة (407)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْطلاق
مَدَنِيَّةٌ
الاية 2 إلى الاية 12
( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنّ َ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ( 2 ) )
( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ) أَيْ قَرُبْنَ مِنَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ ( فَأَمْسِكُوهُنّ َ ) أَيْ رَاجِعُوهُنَّ ( بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) أَيِ اتْرُكُوهُنَّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهُنَّ فَتَبِينَ مِنْكُمْ ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْفِرَاقِ . أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَعَلَى الطَّلَاقِ . ( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ ) أَيُّهَا الشُّهُودُ ( لِلَّهِ )
( ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ) قَالَ [ ص: 151 ] عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ : وَمَنْ يَتُقِ اللَّهَ فَيُطَلِّقْ لِلسَّنَةِ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا إِلَى الرَّجْعَةِ .
وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا : نَزَلَتْ فِي عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ ، أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ ابْنًا لَهُ يُسَمَّى مَالِكًا فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْرَ الْعَدُوُّ ابْنِي ، وَشَكَا أَيْضًا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرْ وَأَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ، فَفَعَلَ الرَّجُلُ [ ذَلِكَ ] فَبَيْنَمَا هُوَ فِي بَيْتِهِ إِذْ أَتَاهُ ابْنُهُ وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ الْعَدُوُّ ، فَأَصَابَ إِبِلًا وَجَاءَ بِهَا إِلَى أَبِيهِ .
وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : فَتَغَفَّلَ عَنْهُ الْعَدُوُّ ، فَاسْتَاقَ غَنَمَهَمْ ، فَجَاءَ بِهَا إِلَى أَبِيهِ ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ آلَافِ شَاةٍ . فَنَزَلَتْ : " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا " فِي ابْنِهِ .
( ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا ( 3 ) )
( ويرزقه من حيث لا يحتسب ) ما ساق من الغنم .
وقال مقاتل : أصاب غنما ومتاعا ثم رجع إلى أبيه ، فانطلق أبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره الخبر ، وسأله : أيحل له أن يأكل ما أتى به ابنه ؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : نعم ، وأنزل الله هذه الآية .
قال ابن مسعود : " ومن يتق الله يجعل له مخرجا " هو أن يعلم أنه من قبل الله وأن الله رازقه .
وقال الربيع بن خثيم : " يجعل له مخرجا " من كل شيء ضاق على الناس .
وقال أبو العالية : " مخرجا " من كل شدة .
وقال الحسن : " مخرجا " عما نهاه عنه . ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) يتق الله فيما نابه كفاه ما أهمه .
وروينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير [ ص: 152 ] تغدو خماصا وتروح بطانا " .
( إن الله بالغ أمره ) قرأ طلحة بن مصرف ، وحفص عن عاصم : " بالغ أمره " بالإضافة ، وقرأ الآخرون " بالغ " [ بالتنوين ] " أمره " نصب أي منفذ أمره ممض في خلقه قضاءه . ( قد جعل الله لكل شيء قدرا ) أي جعل لكل شيء من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه .
قال مسروق : في هذه الآية " إن الله بالغ أمره " توكل عليه أو لم يتوكل ، غير أن المتوكل عليه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا .
( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ( 4 ) )
قوله - عز وجل - ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ) فلا ترجون أن يحضن ( إن ارتبتم ) أي شككتم فلم تدروا ما عدتهن ( فعدتهن ثلاثة أشهر )
قال مقاتل : لما نزلت : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " ( البقرة - 228 ) قال خلاد بن النعمان بن قيس الأنصاري : يا رسول الله فما عدة من لا تحيض والتي لم تحض وعدة الحبلى ؟ فأنزل الله : " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم " يعني القواعد اللائي قعدن عن الحيض " إن ارتبتم " شككتم في حكمها " فعدتهن ثلاثة أشهر " .
( واللائي لم يحضن ) يعني الصغار اللائي لم يحضن فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر . أما الشابة التي كانت تحيض فارتفع حيضها قبل بلوغها سن الآيسات : فذهب أكثر أهل العلم إلى أن عدتها لا تنقضي حتى يعاودها الدم فتعتد بثلاثة أقراء أو تبلغ سن الآيسات فتعتد بثلاثة أشهر . وهو [ ص: 153 ] قول عثمان وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي وأصحاب الرأي .
وحكي عن عمر : أنها تتربص تسعة أشهر فإن لم تحض تعتد بثلاثة أشهر [ وهو قول مالك .
وقال الحسن : تتربص سنة فإن لم تحض تعتد بثلاثة أشهر ] . وهذا كله في عدة الطلاق .
أما المتوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشرا سواء كانت ممن تحيض أو لا تحيض .
أما الحامل فعدتها بوضع الحمل سواء طلقها زوجها أو مات عنها لقوله تعالى : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن )
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله [ بن عبد الله ] عن أبيه : أن سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها بليال فمر بها أبو السنابل بن بعكك [ فقال ] قد تصنعت للأزواج إنها أربعة أشهر وعشر فذكرت ذلك سبيعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " كذب أبو السنابل - أو : ليس كما قال أبو السنابل - قد حللت فتزوجي " .
( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ) يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة .
( ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ( 5 ) أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ( 6 ) )
( ذلك ) يعني ما ذكر من الأحكام ( أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ( أسكنوهن ) يعني مطلقات نسائكم ( من حيث سكنتم ) " من " صلة ، أي : أسكنوهن حيث سكنتم ( من وجدكم ) يعني : سعتكم وطاقتكم ، يعني : إن كان موسرا يوسع عليها في المسكن والنفقة ، وإن كان فقيرا فعلى قدر الطاقة ( ولا تضاروهن ) لا تؤذوهن ( لتضيقوا عليهن ) مساكنهن فيخرجن ( وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ) فيخرجن من عدتهن . [ ص: 154 ]
اعلم أن المعتدة الرجعية تستحق على الزوج النفقة والسكنى ما دامت في العدة . ونعني بالسكنى : مؤنة السكنى فإن كانت الدار التي طلقها فيها ملكا للزوج يجب على الزوج أن يخرج ويترك الدار لها مدة عدتها وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة ، وإن كانت عارية فرجع المعير فعليه أن يكتري لها دارا تسكنها .
فأما المعتدة البائنة بالخلع أو الطلقات الثلاث [ أو باللعان فلها السكنى حاملا كانت أو حائلا عند أكثر أهل العلم ] .
روي عن ابن عباس أنه قال : لا سكنى لها إلا أن تكون حاملا وهو قول الحسن وعطاء والشعبي .
واختلفوا في نفقتها : فذهب قوم إلى أنه لا نفقة لها إلا أن تكون حاملا . روي ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن وعطاء والشعبي وبه قال الشافعي وأحمد .
ومنهم من أوجبها بكل حال روي ذلك عن ابن مسعود ، وهو قول إبراهيم النخعي وبه قال الثوري وأصحاب الرأي .
وظاهر القرآن يدل على أنها لا تستحق إلا أن تكون حاملا لأن الله تعالى قال : " وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن " .
والدليل عليه من جهة السنة ما :
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك ، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب بالشام ، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته ، فقال : والله ما لك علينا من شيء . فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له . فقال لها : ليس لك عليه نفقة ، وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك . ثم قال : تلك امرأة يغشاها أصحابي فاعتدي عند ابن أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ، فإذا حللت فآذنيني . قالت : فلما حللت ، ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ، وأما معاوية فصعلوك لا مال له ، انكحي أسامة بن زيد ، قالت : فكرهته ، ثم قال : انكحي أسامة ، فنكحته فجعل [ ص: 155 ] الله فيه خيرا واغتبطت به .
واحتج من لم يجعل لها السكنى بحديث فاطمة بنت قيس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تعتد في بيت عمرو بن أم مكتوم .
ولا حجة فيه ، لما روي عن عائشة أنها قالت : كانت فاطمة في مكان وحش ، فخيف على ناحيتها .
وقال سعيد بن المسيب : إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها وكان للسانها ذرابة .
أما المعتدة عن وطء الشبهة والمفسوخ نكاحها بعيب أو خيار عتق فلا سكنى لها ولا نفقة وإن كانت حاملا .
[ والمعتدة عن وفاة الزوج لا نفقة لها حاملا ] كانت أو حائلا عند أكثر أهل العلم ، وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أن لها النفقة إن كانت حاملا من التركة حتى تضع ، وهو قول شريح والشعبي والنخعي والثوري . .
واختلفوا في سكناها وللشافعي رضي الله عنه فيه قولان : أحدهما لا سكنى لها بل تعتد حيث تشاء ، وهو قول علي وابن عباس وعائشة . وبه قال عطاء والحسن ، وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه .
والثاني : لها السكنى وهو قول عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر ، وبه قال مالك وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق .
واحتج من أوجب لها السكنى بما : [ ص: 156 ]
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك ، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب : أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها : أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم ، فقتلوه فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة ؟ فقالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم ، فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعيت له فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف قلت ؟ قالت : فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي ، فقال : امكثي [ في بيتك ] حتى يبلغ الكتاب أجله . قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا . قالت : فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به .
فمن قال بهذا القول قال : إذنه لفريعة أولا بالرجوع إلى أهلها صار منسوخا بقوله [ آخرا ] " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " .
ومن لم يوجب السكنى قال : أمرها بالمكث في بيتها آخرا استحبابا لا وجوبا .
قوله - عز وجل - ( فإن أرضعن لكم ) أي أرضعن أولادكم ( فآتوهن أجورهن ) على إرضاعهن ( وأتمروا بينكم بمعروف ) [ ليقبل بعضكم من بعض إذا أمره بالمعروف ] قال الكسائي : شاوروا قال مقاتل : بتراضي الأب والأم على أجر مسمى . والخطاب للزوجين جميعا يأمرهم أن يأتوا بالمعروف وبما هو الأحسن ، ولا يقصدوا الضرار . ( وإن تعاسرتم ) في الرضاع والأجرة فأبى الزوج أن يعطي المرأة رضاها وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها على إرضاعه ، ولكنه يستأجر للصبي مرضعا غير أمه وذلك قوله : ( فسترضع له أخرى ) .
[ ص: 157 ] ( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا ( 7 ) وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا ( 8 ) فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا ( 9 ) أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا ( 10 ) رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا ( 11 ) )
( لينفق ذو سعة من سعته ) على قدر غناه ( ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ) من المال ( لا يكلف الله نفسا ) في النفقة ( إلا ما آتاها ) أعطاها من المال ( سيجعل الله بعد عسر يسرا ) بعد ضيق وشدة غنى وسعة .
قوله - عز وجل - : ( وكأين من قرية عتت ) عصت وطغت ( عن أمر ربها ورسله ) أي وأمر رسله ( فحاسبناها حسابا شديدا ) بالمناقشة والاستقصاء ، قال مقاتل : حاسبها بعملها في الدنيا فجازاها بالعذاب ، وهو قوله : ( وعذبناها عذابا نكرا ) منكرا فظيعا ، وهو عذاب النار . لفظهما ماض ومعناهما الاستقبال .
وقيل : في الآية تقديم وتأخير مجازها : فعذبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر البلايا وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا . ( فذاقت وبال أمرها ) جزاء أمرها وقيل : ثقل عاقبة كفرها ( وكان عاقبة أمرها خسرا ) خسرانا في الدنيا والآخرة . ( أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا ) يعني القرآن . ( رسولا ) بدل من الذكر ، وقيل : أنزل إليكم قرآنا وأرسل رسولا . وقيل : مع الرسول ، وقيل : " الذكر " هو الرسول .
وقيل : " ذكرا " أي شرفا . ثم بين ما هو فقال : ( رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا ) يعني الجنة التي لا ينقطع نعيمها .
[ ص: 158 ] ( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ( 12 ) )
( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ) [ في العدد ] ( يتنزل الأمر بينهن ) بالوحي من السماء السابعة إلى الأرض السفلى .
قال أهل المعاني : هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره ، فينزل المطر ويخرج النبات ، ويأتي بالليل والنهار والصيف والشتاء ، ويخلق الحيوان على اختلاف هيئاتها وينقلها من حال إلى حال .
وقال قتادة : في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه .
( لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) فلا يخفى عليه شيء .
سُورَةُ التَّحْرِيمِ
مَدَنِيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( ( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 1 ) )
( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ، عَنْ هُشَامٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ [ وَيُحِبُّ ] الْعَسَلَ وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ جَازَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْهُنَّ ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَاحْتَبَسَ عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي : أَهَدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةَ عَسَلٍ فَسَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا شَرْبَةً ، فَقُلْتُ : أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ ، وَقُلْتُ : إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ فَقُولِي لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ : لَا فَقُولِي لَهُ : مَا هَذِهِ الرِّيحُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ : سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ ، فَقُولِي لَهُ : جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ ، وَسَأَقُولُ ذَلِكَ وَقَوْلِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ ، تَقُولُ سَوْدَةُ : وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أَبَادِيهِ بِالَّذِي قُلْتِ لِي وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَابِ ، فَرَقًا مِنْكِ فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ ؟ قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَمَا بَالُ هَذِهِ الرِّيحِ ! قَالَ : سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ ، قَالَتْ : جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَدَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ [ ص: 162 ] فَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ قَالَتْ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَّا أَسْقِيكَ مِنْهُ قَالَ : لَا حَاجَةَ لِي بِهِ تَقُولُ سَوْدَةُ : سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ ، قَالَتْ : قُلْتُ لَهَا : اسْكُتِي
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّبَّاحُ ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : زَعْمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عَبِيدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ سُمِعَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْتَقُلْ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ : لَا بَأْسَ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ ، فَنَزَلَتْ : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ إِلَى قَوْلِهِ : إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا ) لِقَوْلِهِ : بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ بِإِسْنَادِهِ وَقَالَ : قَالَ : لَا وَلَكِنْ كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَلَنْ أَعُودَ لَهُ ، وَقَدْ حَلَفْتُ ، لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ مَرْضَاةَ أَزْوَاجِهِ .
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ حَفْصَةَ اسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زِيَارَةِ أَبِيهَا فَأَذِنَ لَهَا ، فَلَمَّا خَرَجَتْ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ فَأَدْخَلَهَا بَيْتَ حَفْصَةَ ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَلَمَّا رَجَعَتْ حَفْصَةُ وَجَدَتِ الْبَابَ مُغْلَقًا فَجَلَسَتْ عِنْدَ الْبَابِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَجْهُهُ يَقْطُرُ عَرَقًا ، وَحَفْصَةُ تَبْكِي فَقَالَ : مَا يُبْكِيكِ ؟ فَقَالَتْ : إِنَّمَا أَذِنْتَ لِي مِنْ أَجْلِ هَذَا أَدْخَلْتَ أَمَتَكَ بَيْتِي ، ثُمَّ وَقَعْتَ عَلَيْهَا فِي يَوْمِي وَعَلَى فِرَاشِي ، أَمَا رَأَيْتَ لِي حُرْمَةً وَحَقًّا ؟ مَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا بِامْرَأَةٍ مِنْهُنَّ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَلَيْسَتْ هِيَ جَارِيَتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ لِي ؟ اسْكُتِي فَهِيَ حَرَامٌ عَلَيَّ أَلْتَمِسُ بِذَاكَ رِضَاكِ ، فَلَا تُخْبِرِي بِهَذَا امْرَأَةً مِنْهُنَّ . فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَعَتْ حَفْصَةُ الْجِدَارَ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ : أَلَّا أُبَشِّرُكِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ [ ص: 163 ] حَرَّمَ عَلَيْهِ أَمَتَهُ مَارِيَةَ ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَاحَنَا مِنْهَا وَأَخْبَرَتْ عَائِشَةَ بِمَا رَأَتْ ، وَكَانَتَا مُتَصَافِيَتَيْ نِ مُتَظَاهِرَتَيْ نِ عَلَى سَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَغَضِبَتْ عَائِشَةُ فَلَمْ تَزَلْ بِنَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - " يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ " يَعْنِي الْعَسَلَ وَمَارِيَةَ " تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " وَأَمْرَهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَيُرَاجِعَ أَمَتَهُ ، فَقَالَ :
__________________
ابو وليد البحيرى
2022-12-22, 10:55 PM
الحلقة (408)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْطلاق
مَدَنِيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 12
( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم ( 2 ) وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ( 3 ) )
( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) أي بين وأوجب أن تكفروها إذا حنثتم وهي ما ذكر في سورة المائدة ( والله مولاكم ) وليكم وناصركم ( وهو العليم الحكيم )
واختلف أهل العلم في لفظ التحريم ، فقال قوم : ليس هو بيمين ، فإن قال لزوجته : أنت علي حرام ، أو حرمتك ، فإن نوى به طلاقا فهو طلاق ، وإن نوى به ظهارا فظهار . وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين بنفس اللفظ . وإن قال ذلك لجاريته فإن نوى عتقا عتقت ، وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين ، وإن قال لطعام : حرمته على نفسي فلا شيء عليه ، وهذا قول ابن مسعود وإليه ذهب الشافعي .
وذهب جماعة إلى أنه يمين ، فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب عليه الكفارة ما لم يقربها كما لو حلف أن لا يطأها . وإن حرم طعاما فهو كما لو حلف أن لا يأكله ، فلا كفارة عليه ما لم يأكل ، يروى ذلك عن أبي بكر وعائشة وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة رضي الله عنه :
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا معاذ بن فضالة ، حدثنا هشام عن يحيى ، عن ابن حكيم ، وهو يعلى بن حكيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في الحرام : يكفر . وقال ابن عباس : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " ( الأحزاب - 21 ) . ( وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا ) وهو تحريم فتاته على نفسه ، وقوله لحفصة : لا تخبري بذلك أحدا . [ ص: 164 ]
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : أسر أمر الخلافة بعده فحدثت به حفصة . قال الكلبي : أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي . وقال ميمون بن مهران : أسر أن أبا بكر خليفتي من بعدي .
( فلما نبأت به ) أخبرت به حفصة عائشة ( وأظهره الله عليه ) أي أطلع الله تعالى نبيه على أنها أنبأت به ( عرف بعضه ) قرأ عبد الرحمن السلمي والكسائي : " عرف " بتخفيف الراء ، أي : عرف بعض الفعل الذي فعلته من إفشاء سره ، أي : غضب من ذلك عليها وجازاها به ، من قول القائل لمن أساء إليه : لأعرفن لك ما فعلت ، أي : لأجازينك عليه ، وجازاها به عليه بأن طلقها فلما بلغ ذلك عمر قال : لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فجاء جبريل وأمره بمراجعتها واعتزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه شهرا وقعد في مشربة أم إبراهيم مارية ، حتى نزلت آية التخيير .
وقال مقاتل بن حيان : لم يطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفصة وإنما هم بطلاقها فأتاه جبريل عليه السلام ، وقال : لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة ، فلم يطلقها .
وقرأ الآخرون " عرف " بالتشديد ، أي : عرف حفصة بعد ذلك الحديث ، أي أخبرها ببعض القول الذي كان منها .
( وأعرض عن بعض ) يعني لم يعرفها إياه ، ولم يخبرها به . قال الحسن : ما استقصى كريم قط قال الله تعالى : ( عرف بعضه وأعرض عن بعض ) وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى الكراهية في وجه حفصة أراد أن يتراضاها فأسر إليها شيئين : تحريم الأمة على نفسه ، وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وفي أبيها عمر رضي الله عنها فأخبرت به حفصة عائشة وأطلع الله تعالى نبيه عليه ، عرف [ بعضه ] حفصة وأخبرها ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم الأمة وأعرض عن بعض ، يعني ذكر الخلافة كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينتشر ذلك في الناس ( فلما نبأها به ) أي [ ص: 165 ] أخبر حفصة بما أظهره الله عليه ( قالت ) حفصة ( من أنبأك هذا ) أي : من أخبرك بأني أفشيت السر ؟ ( قال نبأني العليم الخبير ) .
( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير ( 4 ) )
( إن تتوبا إلى الله ) أي من التعاون على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإيذاء . يخاطب عائشة وحفصة ( فقد صغت قلوبكما ) أي زاغت ومالت عن الحق واستوجبتما التوبة . قال ابن زيد : مالت قلوبهما بأن سرهما ما كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اجتناب جاريته .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري ، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن عبد الله بن عباس قال : لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اللتين قال الله تعالى لهما : " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما " حتى حج وحججت معه وعدل وعدلت معه بإداوة ، فتبرز ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضأ فقلت له : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اللتان قال الله تعالى لهما : " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما " ؟ فقال : واعجبا لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة .
ثم استقبل عمر الحديث يسوقه فقال : إني كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ، وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على النبي - صلى الله عليه وسلم - فينزل يوما وأنزل يوما فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك .
وكنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصخبت علي امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني فقالت : ولم تنكر أن أراجعك ! فوالله إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه ، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل . فأفزعني وقلت : خاب من فعل ذلك منهن .
ثم جمعت علي ثيابي [ فنزلت ] فدخلت على حفصة ، فقلت لها : أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي - صلى الله عليه وسلم - اليوم حتى الليل ؟ قالت : نعم ، فقلت : خبت وخسرت ، أفتأمنين أن يغضب الله تعالى لغضب رسوله فتهلكي لا تستكثري للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تراجعيه في شيء ولا تهجريه وسليني [ ص: 166 ] ما بدا لك ، ولا يغرنك أن كانت [ جارتك ] [ أوضأ ] منك وأحب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد عائشة - .
قال عمر : وكنا تحدثنا أن غسان تنعل الخيل لتغزونا فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته فرجع إلينا عشاء فضرب بابي ضربا شديدا وقال : أثم هو ؟
ففزعت فخرجت إليه فقال : قد حدث اليوم أمر عظيم ؟ فقلت : ما هو أجاء غسان ! قال : لا بل أعظم منه وأهول ، طلق النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه . فقلت : قد خابت حفصة وخسرت كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون .
فجمعت علي ثيابي وصليت صلاة الفجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشربة فاعتزل فيها فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي ، فقلت : ما يبكيك ألم أكن حذرتك ؟ أطلقكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
قالت : لا أدري ها هو ذا معتزل في المشربة . فجئت إلى المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم ، فجلست معهم قليلا ثم غلبني ما أجد ، فجئت المشربة التي فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت لغلام له أسود : استأذن لعمر ، فدخل فكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم رجع فقال : كلمت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرتك له فصمت ، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر ، ثم غلبني ما أجد فجئت فقلت إلى الغلام فقلت : استأذن فاستأذن ثم رجع إلي فقال : قد ذكرتك له فصمت [ فرجعت فجلست مع الرهط الذين عند المنبر ، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت : استأذن لعمر ، فاستأذن ثم رجع إلي فقال : قد ذكرتك له فصمت ] .
فلما وليت منصرفا قال إذا الغلام يدعوني فقال : قد أذن لك النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش قد أثر الرمال بجنبه متكئا على وسادة من أدم حشوها ليف ، فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم : يا رسول الله أطلقت نساءك ؟ فرفع إلي بصره فقال : لا ، فقلت : الله أكبر . ثم قلت وأنا قائم أستأنس : يا رسول الله لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة إذا قوم تغلبهم نساؤهم ، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قلت : يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لها : لا يغرنك أن كانت جارتك [ أوضأ ] منك وأحب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد عائشة - فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - تبسمة أخرى ، فجلست حين رأيته يبتسم فرفعت بصري في بيته ، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة [ ص: 167 ] ثلاثة ، فقلت يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسع عليهم وأعطوا من الدنيا وهم لا يعبدون الله .
فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان متكئا فقال : " أو في هذا أنت يا ابن الخطاب ؟ إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا " .
فقلت : يا رسول الله استغفر لي .
فاعتزل النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة تسعا وعشرين ليلة ، وكان قال : ما أنا بداخل عليهن شهرا - من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله - عز وجل -
فلما مضت تسع وعشرون ليلة ، دخل على عائشة رضي الله عنها فبدأ بها فقالت له عائشة : يا رسول الله إنك كنت أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة أعدها عدا ! فقال : الشهر تسع وعشرون ، وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين ليلة .
قالت عائشة : ثم أنزل الله التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه ، فاخترته ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل ما قالتعائشة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه فبدأ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني ذاكر لك أمرا فلا عليك [ أن لا تعجلي ] حتى تستأمري أبويك ، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت ثم قال إن الله قال : " يا أيها النبي قل لأزواجك " إلى تمام الآيتين ، فقلت : أو في هذا أستأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني زهير بن حرب ، حدثنا عمر بن يونس [ ص: 168 ] الحنفي ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن سماك [ بن زميل ] حدثنا عبد الله بن عباس ، حدثني عمر بن الخطاب قال : لما اعتزل النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه وذكر الحديث . وقال : دخلت عليه فقلت : يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء ؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك . وقلما تكلمت - وأحمد الله تعالى - بكلام إلا رجوت أن الله يصدق قولي الذي أقول ، ونزلت هذه الآية : " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن " . " وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير " .
قوله : ( وإن تظاهرا عليه ) أي تتظاهرا وتتعاونا على أذى النبي - صلى الله عليه وسلم - . قرأ أهل الكوفة بتخفيف الظاء ، والآخرون بتشديدها .
( فإن الله هو مولاه ) أي وليه وناصره : ( وجبريل وصالح المؤمنين ) روي عن ابن مسعود وأبي بن كعب : ( وصالح المؤمنين ) أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال الكلبي : هم المخلصون الذي ليسوا بمنافقين . ( والملائكة بعد ذلك ظهير ) قال مقاتل : بعد الله وجبريل " وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير " أي : أعوان للنبي - صلى الله عليه وسلم - . وهذا من الواحد الذي يؤدي عن الجمع ، كقوله : " وحسن أولئك رفيقا " ( النساء - 69 ) .
( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا ( 5 ) )
( عسى ربه إن طلقكن ) أي : واجب من الله إن طلقكن رسوله ( أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات ) خاضعات لله بالطاعة ( مؤمنات ) مصدقات بتوحيد الله ( قانتات ) طائعات ، وقيل : داعيات . وقيل : مصليات ( تائبات عابدات سائحات ) صائمات ، وقال زيد بن أسلم : مهاجرات وقيل : يسحن معه حيث ما ساح ( ثيبات وأبكارا ) وهذا في الإخبار عن القدرة لا عن الكون لأنه قال : " إن طلقكن " وقد علم أنه لا يطلقهن وهذا كقوله : [ ص: 169 ] وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ( محمد - 38 ) وهذا في الإخبار عن القدرة لأنه ليس في الوجود أمة خير من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
( ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ( 6 ) ياأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون ( 7 ) ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ( 8 ) )
قوله - عز وجل - ( ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم ) قال عطاء عن ابن عباس : أي بالانتهاء عما نهاكم الله تعالى عنه والعمل بطاعته ( وأهليكم نارا ) يعني : مروهم بالخير وانهوهم عن الشر وعلموهم وأدبوهم تقوهم بذلك نارا ( وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة ) يعني خزنة النار ( غلاظ ) فظاظ على أهل النار ( شداد ) أقوياء يدفع الواحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفا في النار وهم الزبانية ، لم يخلق الله فيهم الرحمة ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ياأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون ( ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا ) قرأ الحسن وأبو بكر عن عاصم : " نصوحا " بضم النون ، وقرأ العامة بفتحها أي : توبة ذات نصح تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب منه .
واختلفوا في معناها قال عمر وأبي ومعاذ : " التوبة النصوح " أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب ، كما لا يعود اللبن إلى الضرع .
قال الحسن : هي أن يكون العبد نادما على ما مضى; مجمعا على ألا يعود فيه .
قال الكلبي : أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن .
قال سعيد بن المسيب : توبة تنصحون بها أنفسكم .
قال القرظي : يجمعها أربعة أشياء : الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود [ ص: 170 ] بالجنان ومهاجرة سيئ الإخوان .
( عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) أي لا يعذبهم الله بدخول النار ( نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ) على الصراط ( يقولون ) إذ طفئ نور المنافقين ( ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ) .
( ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ( 9 ) ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين ( 10 ) )
ثم ضرب الله مثلا للصالحين والصالحات من النساء فقال - جل ذكره - : ( ( ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح ) واسمها واعلة ( وامرأة لوط ) واسمها واهلة . وقال مقاتل : والعة ووالهة .
( كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين ) وهما نوح ولوط عليهما السلام ( فخانتاهما ) قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط وإنما كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما فكانت امرأة نوح تقول للناس : إنه مجنون ، وإذا آمن به أحد أخبرت به الجبابرة وأما امرأة لوط [ فإنها كانت ] تدل قومه على أضيافه إذا نزل به ضيف بالليل أوقدت النار ، وإذا نزل بالنهار دخنت ليعلم قومه أنه نزل به ضيف .
وقال الكلبي : أسرتا النفاق وأظهرتا الإيمان .
( فلم يغنيا عنهما من الله شيئا ) لم يدفعا عنهما مع نبوتهما عذاب الله ( وقيل ادخلا النار مع الداخلين ) [ ص: 171 ] قطع الله بهذه الآية طمع كل من يركب المعصية أن ينفعه صلاح غيره .
( وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ( 11 ) ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ( 12 ) )
ثم أخبر أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعا فقال : ( وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون ) وهي آسية بنت مزاحم .
قال المفسرون : لما غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون ، ولما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس .
قال سلمان : كانت امرأة فرعون تعذب بالشمس فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة .
( إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ) فكشف الله لها عن بيتها في الجنة حتى رأته .
وفي القصة : أن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها فلما أتوها بالصخرة قالت : رب ابن لي عندك بيتا في الجنة فأبصرت بيتها في الجنة من درة بيضاء ، وانتزع روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألما .
ابو وليد البحيرى
2022-12-22, 10:56 PM
الحلقة (409)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْمُلْكِ
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 30
وقال الحسن وابن كيسان : رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة فهي فيها تأكل وتشرب .
( ونجني من فرعون وعمله ) قال مقاتل : وعمله يعني الشرك . وقال أبو صالح عن ابن عباس " وعمله " قال : جماعه . ( ونجني من القوم الظالمين ) الكافرين . ( ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه ) أي في جيب درعها ولذلك ذكر الكناية ( من روحنا وصدقت بكلمات ربها ) يعني الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنزلة ( وكتبه ) قرأ أهل البصرة وحفص : " وكتبه " على الجمع ، وقرأ الآخرون : " وكتابه " على التوحيد . والمراد منه الكثرة أيضا . وأراد بكتبه التي أنزلت على إبراهيم وموسى وداود وعيسى [ ص: 172 ] عليهم السلام . ( وكانت من القانتين ) أي من القوم القانتين المطيعين لربها ولذلك لم يقل من القانتات .
وقال عطاء : " من القانتين " أي من المصلين . ويجوز أن يريد بالقانتين رهطها وعشيرتها فإنهم كانوا أهل صلاح مطيعين لله .
وروينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " حسبك من نساء العالمين : مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون " .
سُورَةُ الْمُلْكِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 ) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ( 2 ) )
( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ) قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : يُرِيدُ الْمَوْتَ فِي الدُّنْيَا وَالْحَيَاةَ فِي الْآخِرَةِ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : أَرَادَ مَوْتَ الْإِنْسَانِ وَحَيَاتَهُ فِي الدُّنْيَا جَعَلَ اللَّهُ الدُّنْيَا دَارَ حَيَاةٍ وَفَنَاءٍ ، وَجَعْلَ الْآخِرَةَ دَارَ جَزَاءٍ وَبَقَاءٍ .
قِيلَ إِنَّمَا قَدَّمَ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ إِلَى الْقَهْرِ أَقْرَبُ : وَقِيلَ : قَدَّمَهُ لِأَنَّهُ أَقْدَمُ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَوْتِ كَالنُّطْفَةِ وَالتُّرَابِ وَنَحْوِهِمَا ثُمَّ اعْتَرَضَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : خَلَقَ الْمَوْتَ عَلَى صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ لَا يَمُرُّ بِشَيْءٍ وَلَا يَجِدُ رِيحَهُ شَيْءٌ إِلَّا مَاتَ وَخَلَقَ الْحَيَاةَ عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ بَلْقَاءَ [ أُنْثَى ] وَهِيَ الَّتِي كَانَ جِبْرِيلُ وَالْأَنْبِيَاء ُ يَرْكَبُونَهَا لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ وَلَا يَجِدُ رِيحَهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ ، وَهِيَ الَّتِي أَخَذَ السَّامِرِيُّ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِهَا فَأَلْقَى عَلَى الْعِجْلِ فَحَيِيَ .
( لِيَبْلُوَكُمْ ) فِيمَا بَيْنَ [ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ ] ( أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ [ ص: 176 ] مَرْفُوعًا : " أَحْسَنُ عَمَلًا " أَحْسَنُ عَقْلًا وَأَوْرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ ، وَأَسْرَعُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ
وَقَالَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ " أَحْسَنُ عَمَلًا " أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ . وَقَالَ : الْعَمَلُ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا ، الْخَالِصُ : إِذَا كَانَ لِلَّهِ ، وَالصَّوَابُ : إِذَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : أَيُّكُمْ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَأَتْرَكُ لَهَا .
وَقَالَ الْفَرَّاءُ : لَمْ يُوقِعِ الْبَلْوَى عَلَى " أَيٍّ " [ إِلَّا ] وَبَيْنَهُمَا إِضْمَارٌ كَمَا تَقُولُ بَلَوْتُكُمْ لِأَنْظُرَ أَيُّكُمْ أَطْوَعُ . وَمِثْلُهُ : " سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ " ( الْقَلَمِ - 40 ) أَيْ : سَلْهُمْ وَانْظُرْ أَيَّهُمْ فَ " أَيُّ " : رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ " وَأَحْسَنُ " خَبَرُهُ ( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ عَصَاهُ ( الْغَفُورُ ) لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ .
( الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ( 3 ) ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ( 4 ) )
( الذي خلق سبع سماوات طباقا ) طبقا على طبق بعضها فوق بعض ( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ) قرأ حمزة والكسائي : " من تفوت " بتشديد الواو بلا ألف ، وقرأ الأخرون بتخفيف الواو وألف قبلها . وهما لغتان كالتحمل والتحامل والتطهر والتطاهر . ومعناه : ما ترى يا ابن آدم في خلق الرحمن من اعوجاج واختلاف وتناقض بل هي مستقيمة مستوية . وأصله من " الفوت " وهو أن يفوت بعضها بعضا لقلة استوائها ( فارجع البصر ) كرر النظر ، معناه : انظر ثم ارجع ( هل ترى من فطور ) شقوق وصدوع .
( ثم ارجع البصر كرتين ) قال ابن عباس : مرة بعد مرة ( ينقلب ) ينصرف ويرجع ( إليك البصر خاسئا ) صاغرا ذليلا مبعدا لم ير ما يهوى ( وهو حسير ) كليل منقطع لم يدرك ما طلب . وروي عن كعب أنه قال : السماء الدنيا موج مكفوف والثانية مرمرة بيضاء والثالثة حديد والرابعة [ صفراء ] وقال : نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراء بين [ السماء ] السابعة إلى الحجب السبعة صحاري من نور .
[ ص: 177 ] ( ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير ( 5 ) وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير ( 6 ) إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور ( 7 ) تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير ( 8 ) قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير ( 9 ) وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ( 10 ) فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير ( 11 ) )
( ولقد زينا السماء الدنيا ) أراد الأدنى من الأرض وهي التي يراها الناس . ( بمصابيح ) [ أي : الكواكب واحدها : مصباح وهو السراج سمي الكوكب مصباحا ] لإضاءته ( وجعلناها رجوما ) مرامي ( للشياطين ) إذا استرقوا السمع ( وأعتدنا لهم ) في الآخرة ( عذاب السعير ) النار الموقدة . ( وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا ) وهو أول نهيق الحمار وذلك أقبح الأصوات ( وهي تفور ) تغلي بهم كغلي المرجل . وقال مجاهد : تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل .
( تكاد تميز ) تنقطع ( من الغيظ ) من تغيظها عليهم ، قال ابن قتيبة : تكاد تنشق غيظا على الكفار ( كلما ألقي فيها فوج ) جماعة منهم ( سألهم خزنتها ) سؤال توبيخ ( ألم يأتكم نذير ) رسول ينذركم .
( قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ) للرسل ( ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير )
( وقالوا لو كنا نسمع ) من الرسل ما جاءونا به ( أو نعقل ) منهم . وقال ابن عباس : لو كنا نسمع الهدى أو نعقله فنعمل به ( ما كنا في أصحاب السعير ) قال الزجاج : لو كنا نسمع سمع من يعي ويتفكر أو نعقل عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار .
( فاعترفوا بذنبهم فسحقا ) بعدا ( لأصحاب السعير ) قرأ أبو جعفر والكسائي " فسحقا " [ ص: 178 ] بضم الحاء ، وقرأ الباقون بسكونها وهما لغتان مثل الرعب والرعب والسحت والسحت .
( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير ( 12 ) وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ( 13 ) ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ( 14 ) هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ( 15 ) أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور ( 16 ) )
( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ) قال ابن عباس : نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيخبره جبريل عليه السلام بما قالوا فقال بعضهم لبعض : أسروا قولكم كي لا يسمع إله محمد .
فقال الله - جل ذكره - : ( ألا يعلم من خلق ) ألا يعلم ما في الصدور من خلقها ( وهو اللطيف الخبير ) لطيف علمه في القلوب الخبير بما فيها من الخير والشر والوسوسة . وقيل " من " يرجع إلى المخلوق ، أي ألا يعلم الله مخلوقه ؟
( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ) سهلا لا يمتنع المشي فيها بالحزونة ( فامشوا في مناكبها ) قال ابن عباس وقتادة : في جبالها . وقال الضحاك : في آكامها . وقال مجاهد : في طرقها وفجاجها . قال الحسن : في سبلها . وقال الكلبي : في أطرافها . وقال مقاتل : في نواحيها . قال الفراء : في جوانبها والأصل في الكلمة الجانب ، ومنه منكب الرجل والريح النكباء وتنكب فلان [ أي جانب ] ( وكلوا من رزقه ) مما خلقه رزقا لكم في الأرض . ( وإليه النشور ) أي : وإليه تبعثون من قبوركم . ثم خوف الكفار فقال : ( أأمنتم من في السماء ) قال ابن عباس : أي : عذاب من في السماء إن عصيتموه ( أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور ) قال الحسن : تتحرك بأهلها . وقيل : تهوي بهم . والمعنى : أن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تلقيهم إلى أسفل ، تعلو عليهم وتمر فوقهم . يقال : مار يمور ، أي : جاء وذهب .
[ ص: 179 ] ( أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ( 17 ) ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير ( 18 ) أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير ( 19 ) بصير أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور ( 20 ) غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور ( 21 ) أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم ( 22 ) )
( أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ) ريحا ذات حجارة كما فعل بقوم لوط . ( فستعلمون ) في الآخرة وعند الموت ( كيف نذير ) أي إنذاري إذا عاينتم العذاب .
( ولقد كذب الذين من قبلهم ) يعني كفار الأمم الماضية ( فكيف كان نكير ) أي إنكاري عليهم بالعذاب .
( أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ) تصف أجنحتها في الهواء ( ويقبضن ) أجنحتها بعد البسط ( ما يمسكهن ) في حال القبض [ والبسط ] أن يسقطن ( إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير )
( أمن هذا الذي هو جند لكم ) استفهام إنكار . قال ابن عباس : أي منعة لكم ( ينصركم من دون الرحمن ) يمنعكم من عذابه ويدفع عنكم ما أراد بكم . ( إن الكافرون إلا في غرور ) أي في غرور من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم .
( أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ) أي من الذي يرزقكم المطر إن أمسك الله [ عنكم ] ( بل لجوا في عتو ) تماد في الضلال ( ونفور ) تباعد من الحق . وقال مجاهد : كفور . ثم ضرب مثلا فقال : ( أفمن يمشي مكبا على وجهه ) راكبا رأسه في الضلالة والجهالة أعمى القلب والعين لا يبصر يمينا ولا شمالا وهو الكافر . قال قتادة : أكب على المعاصي في الدنيا فحشره الله على وجهه [ ص: 180 ] يوم القيامة ( أهدى أمن يمشي سويا ) معتدلا يبصر الطريق وهو ( على صراط مستقيم ) وهو المؤمن . قال قتادة : يمشي يوم القيامة سويا .
( قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ( 23 ) قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ( 24 ) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( 25 ) قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين ( 26 ) فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون ( 27 ) قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ( 28 ) قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين ( 29 ) )
( قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ) قال مقاتل : يعني أنهم لا يشكرون رب هذه النعم . ( قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين فلما رأوه ) يعني : العذاب في الآخرة - على قول أكثر المفسرين - وقال مجاهد : يعني العذاب ببدر ( زلفة ) أي قريبا وهو [ اسم يوصف به المصدر يستوي فيه ] المذكر والمؤنث والواحد والاثنان [ والجميع ] ( سيئت وجوه الذين كفروا ) اسودت وعليها كآبة ، والمعنى قبحت وجوههم بالسواد ، يقال : ساء الشيء يسوء فهو سيئ إذا قبح ، وسيء يساء إذا قبح ( وقيل ) لها أي قال الخزنة ( هذا ) أي هذا العذاب ( الذي كنتم به تدعون ) تفتعلون من الدعاء تدعون وتتمنون أنه يعجل لكم ، وقرأ يعقوب تدعون بالتخفيف ، وهي قراءة قتادة ومعناهما واحد مثل تذكرون وتذكرون .
( قل ) يا محمد لمشركي مكة الذين يتمنون [ هلاكك ] ( أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي ) من المؤمنين ( أو رحمنا ) فأبقانا وأخر آجالنا ( فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ) فإنه واقع بهم لا محالة . وقيل : معناه أرأيتم إن أهلكني الله فعذبني ومن معي أو رحمنا فغفر لنا فنحن - مع إيماننا - خائفون أن يهلكنا بذنوبنا لأن حكمه نافذ فينا فمن يجيركم ويمنعكم من عذابه وأنتم كافرون ؟ وهذا معنى قول ابن عباس . [ ص: 181 ]
( قل هو الرحمن ) الذي نعبده ( آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون ) قرأ الكسائي بالياء ، وقرأ الباقون بالتاء . ( من هو في ضلال مبين ) أي ستعلمون عند معاينة العذاب من الضال منا نحن أم أنتم ؟
( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ( 30 ) )
( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا ) غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الأيدي والدلاء . قال الكلبي ومقاتل : يعني ماء زمزم ( فمن يأتيكم بماء معين ) ظاهر تراه العيون وتناله [ الأيدي ] والدلاء . وقال عطاء عن ابن عباس : معين أي جار .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني أبو الحسن الفارسي ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يزيد ، حدثنا أبو يحيى البزاز ، حدثنا [ محمد بن يحيى ] حدثنا أبو داود ، حدثنا عمران ، عن قتادة ، عن عباس الجشمي ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل فأخرجته من النار يوم القيامة وأدخلته الجنة ، وهي سورة تبارك " .
__________________
ابو وليد البحيرى
2022-12-22, 10:57 PM
الحلقة (410)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْقلم
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 43
سُورَةُ الْقَلَمِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( 1 ) )
( ن ) اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ الْحُوتُ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهِ الْأَرْضُ . وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ وَالسُّدِّيِّ وَالْكَلْبِيِّ .
وَرَوَى أَبُو ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ فَبَسَطَ الْأَرْضَ عَلَى ظَهْرِهِ فَتَحَرَّكَ النُّونُ فَمَادَتِ الْأَرْضُ ، فَأُثْبِتَتْ بِالْجِبَالِ وَإِنَّ الْجِبَالَ لَتَفْخَرُ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) .
وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِهِ ، فَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ : [ اسْمُهُ ] يَهْمُوتُ . وَقَالَ الْوَاقِدَيُّ : لُيُوثَا . وَقَالَ كَعْبٌ : لُوِيثَا . وَعَنْ عَلِيٍّ : اسْمُهُ بَلْهَوثُ . [ ص: 186 ]
وَقَالَتِ الرُّوَاةُ : لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَفَتْقَهَا بَعَثَ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مَلَكًا فَهَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى دَخَلَ تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعَ فَوَضَعَهَا عَلَى عَاتِقِهِ ، إِحْدَى يَدَيْهِ بِالْمُشْرِقِ وَالْأُخْرَى بِالْمَغْرِبِ ، بَاسِطَتَيْنِ قَابِضَتَيْنِ عَلَى الْأَرْضِينَ السَّبْعَ ، حَتَّى ضَبَطَهَا فَلَمْ يَكُنْ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعُ قَرَارٍ ، فَأَهْبَطَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنَ الْفِرْدَوْسِ ثَوْرًا لَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفَ قَرْنٍ وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ قَائِمَةٍ ، وَجُعِلَ قَرَارُ قَدَمَيِ الْمَلِكِ عَلَى سَنَامِهِ ، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ قَدَمَاهُ فَأَخَذَ اللَّهُ يَاقُوتَةً خَضْرَاءَ مِنْ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْفِرْدَوْسِ غِلَظُهَا مَسِيرَةُ خَمْسمِائَةِ عَامٍ فَوَضَعَهَا بَيْنَ سَنَامِ الثَّوْرِ إِلَى أُذُنِهِ فَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهَا قَدَمَاهُ ، وَقُرُونُ ذَلِكَ الثَّوْرِ خَارِجَةُ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ ، وَمَنْخِرَاهُ فِي الْبَحْرِ فَهُوَ يَتَنَفَّسُ كُلَّ يَوْمٍ نَفَسًا فَإِذَا تَنَفَّسَ مَدَّ الْبَحْرُ وَإِذَا [ رَدَّ ] نَفَسَهُ جَزَرَ الْبَحْرُ فَلَمْ يَكُنْ لِقَوَائِمِ الثَّوْرِ مَوْضِعَ قَرَارٍ [ فَخَلَقَ ] اللَّهُ تَعَالَى صَخْرَةً كَغِلَظِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَسَبْعِ أَرْضِينَ فَاسْتَقَرَّتْ قَوَائِمُ الثَّوْرِ عَلَيْهَا وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ " [ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ] فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ " وَلَمْ يَكُنْ لِلصَّخْرَةِ مُسْتَقَرٌّ ، فَخَلَقَ اللَّهُ نُونًا وَهُوَ الْحُوتُ الْعَظِيمُ ، فَوَضْعَ الصَّخْرَةَ عَلَى ظَهْرِهِ وَسَائِرُ جَسَدِهِ خَالٍ وَالْحُوتُ عَلَى الْبَحْرِ ، وَالْبَحْرُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ ، وَالرِّيحُ عَلَى الْقُدْرَةِ . يُقَالُ : فَكُلُّ الدُّنْيَا كُلُّهَا بِمَا عَلَيْهَا حَرْفَانِ قَالَ لَهَا الْجَبَّارُ : [ جَلَّ جَلَالُهُ ] كَوْنِي فَكَانَتْ .
قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ : إِنَّ إِبْلِيسَ تَغَلْغَلَ إِلَى الْحُوتِ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهِ الْأَرْضُ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : أَتَدْرِي مَا عَلَى ظَهْرِكَ يَا لُوِيثَا مِنَ الْأُمَمِ وَالدَّوَابِّ وَالشَّجَرِ وَالْجِبَالِ لَوْ نَفَضْتَهُمْ أَلْقَيْتَهُمْ عَنْ ظَهْرِكَ ، فَهَمَّ لُوِيثَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَبَعَثَ اللَّهُ دَابَّةً فَدَخَلَتْ مَنْخِرِهِ فَوَصَلَتْ إِلَى دِمَاغِهِ فَعَجَّ الْحُوتُ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا فَأَذِنَ لَهَا اللَّهُ فَخَرَجَتْ . قَالَ كَعْبٌ : فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لِيَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ إِنْ هَمَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : نُونٌ آخَرُ حُرُوفِ الرَّحْمَنِ ، وَهِيَ رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ : النُّونُ الدَّوَاةُ . [ ص: 187 ]
وَقِيلَ : هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ . وَقِيلَ : فَاتِحَةُ السُّورَةِ . وَقَالَ عَطَاءٌ : افْتِتَاحُ اسْمِهِ نُورٌ وَنَاصِرٌ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ : أَقْسَمَ اللَّهُ بِنُصْرَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ .
( وَالْقَلَمِ ) [ هُوَ ] الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ بِهِ الذِّكْرَ ، وَهُوَ قَلَمٌ مِنْ نُورٍ طُولُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، وَيُقَالُ : أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهِ الْقَلَمَ وَنَظَرَ إِلَيْهِ فَانْشَقَّ بِنِصْفَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : اجْرِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَجَرَى عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بِذَلِكَ . ( وَمَا يَسْطُرُونَ ) يَكْتُبُونَ أَيْ مَا تَكْتُبُ الْمَلَائِكَةُ الْحَفَظَةُ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ .
( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ( 2 ) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ( 3 ) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( 4 ) )
( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) [ هُوَ ] جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( الْحِجْرِ - 6 ) فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِالنُّونِ وَالْقَلَمِ وَمَا يَكْتُبُ مِنَ الْأَعْمَالِ فَقَالَ : ( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ) بِنُبُوَّةِ رَبّكِ ( بِمَجْنُونٍ ) أَيْ : إِنَّكَ لَا تَكُونُ مَجْنُونًا وَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهَ عَلَيْكَ بِالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ . وَقِيلَ : بِعِصْمَةِ رَبِّكَ . وَقِيلَ : هُوَ كَمَا يُقَالُ : مَا أَنْتَ بِمَجْنُونٍ [ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ] وَقِيلَ : مَعْنَاهُ مَا أَنْتَ بِمَجْنُونٍ وَالنِّعْمَةُ لِرَبِّكَ ، كَقَوْلِهِمْ : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَيْ : وَالْحَمْدُ لَكَ .
( وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ) أَيْ : مَنْقُوصٍ وَلَا مَقْطُوعٍ بِصَبْرِكِ عَلَى افْتِرَائِهِمْ عَلَيْكَ .
( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ : دِينٌ عَظِيمٌ لَا دِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ وَلَا أَرْضَى عِنْدِي مِنْهُ ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ . وَقَالَ الْحَسَنُ : هُوَ آدَابُ الْقُرْآنِ .
سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ : كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ . [ ص: 188 ]
وَقَالَ قَتَادَةُ : هُوَ مَا كَانَ يَأْتَمِرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَيَنْتَهِي عَنْهُ مِنْ نَهْيِ اللَّهِ ، وَالْمَعْنَى إِنَّكَ عَلَى الْخُلُقِ الَّذِي أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ .
وَقِيلَ : سَمَّى اللَّهُ خُلُقَهُ عَظِيمًا لِأَنَّهُ امْتَثَلَ تَأْدِيبَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ : " خُذِ الْعَفْوَ " الْآيَةَ ( الْأَعْرَافِ - 198 ) .
وَرُوِّينَا عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي لِتَمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ، وَتَمَامِ مَحَاسِنِ الْأَفْعَالِ " .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ [ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ : سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِي ُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ الشَّاشِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ [ وَمَا ] قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ : لِمَ صَنَعْتَهُ ؟ وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ : لِمَ تَرَكْتَهُ ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا وَلَا مَسَسْتُ خَزًّا [ قَطُّ ] وَلَا حَرِيرًا وَلَا شَيْئًا [ كَانَ ] أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا شَمَمْتُ مِسْكًا وَلَا عِطْرًا كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . [ ص: 189 ]
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْبَرْنِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : " إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ : " خِيَارُكُمْ أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا " .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ مَلَّاسٍ ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ ، حَدَّثَنَا حُمِيدٌ الطَّوِيلُ ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ : يَا أُمَّ فُلَانٍ اجْلِسِي فِي أَيِّ سِكَكِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ أَجْلِسْ إِلَيْكِ ، قَالَ : فَفَعَلَتْ فَقَعَدَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى [ قَضَى ] حَاجَتَهَا .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ : [ حَدَّثَنَا ] مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، أَخْبَرَنَا حُمِيدٌ الطَّوِيلُ ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : إِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي شُرَيْحٍ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغْوَيُّ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ ، أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ التَّغْلِبِيُّ ، عَنْ زَيْدِ [ ابْنِ الْعَمِّيِّ ] عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا صَافَحَ الرَّجُلَ لَمْ يَنْزِعْ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ [ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَنَزِعُ يَدَهُ ] وَلَا يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ وَجْهِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَصْرِفُ وَجْهَهُ [ عَنْ وَجْهِهِ ] وَلَمْ يُرَ مُقَدِّمًا رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لَهُ . [ ص: 190 ]
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْخُزَاعِيُّ ، أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَا ضَرَبَ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُمَلَّكٍ ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ تُحَدِّثُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِنَّ أَثْقَلَ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُلُقٌ حَسَنٌ ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ " .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ يَزِيدَ [ الْأَوْدِيُّ ] سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا [ ص: 191 ] هُرَيْرَةَ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ : " أَتُدْرُونَ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ الْأَجْوَفَانِ : الْفَرْجُ وَالْفَمُ ، أَتُدْرُونَ مَا أَكْثَرُ مَا يَدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يَدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ : تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ " .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ [ بْنِ عَبْدِ ] الْحَكَمِ ، أَخْبَرَنَا أَبِي وَشُعَيْبٌ قَالَا حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ [ ابْنِ ] الْهَادِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْلِ وَصَائِمِ النَّهَارِ " .
( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ( 2 ) وإن لك لأجرا غير ممنون ( 3 ) وإنك لعلى خلق عظيم ( 4 ) )
( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) [ هو ] جواب لقولهم ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ( الحجر - 6 ) فأقسم الله بالنون والقلم وما يكتب من الأعمال فقال : ( ما أنت بنعمة ربك ) بنبوة ربك ( بمجنون ) أي : إنك لا تكون مجنونا وقد أنعم الله عليك بالنبوة والحكمة . وقيل : بعصمة ربك . وقيل : هو كما يقال : ما أنت بمجنون [ والحمد لله ] وقيل : معناه ما أنت بمجنون والنعمة لربك ، كقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك ، أي : والحمد لك .
( وإن لك لأجرا غير ممنون ) أي : منقوص ولا مقطوع بصبرك على افترائهم عليك .
( وإنك لعلى خلق عظيم ) قال ابن عباس ومجاهد : دين عظيم لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي منه ، وهو دين الإسلام . وقال الحسن : هو آداب القرآن .
سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : كان خلقه القرآن . [ ص: 188 ]
وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله ، والمعنى إنك على الخلق الذي أمرك الله به في القرآن .
وقيل : سمى الله خلقه عظيما لأنه امتثل تأديب الله إياه بقوله : " خذ العفو " الآية ( الأعراف - 198 ) .
وروينا عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق ، وتمام محاسن الأفعال " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف [ حدثنا محمد بن إسماعيل ] حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا إبراهيم بن يوسف ، عن أبيه عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ليس بالطويل البائن ولا بالقصير .
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت عن أنس بن مالك قال : خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لي أف قط [ وما ] قال لشيء صنعته : لم صنعته ؟ ولا لشيء تركته : لم تركته ؟ وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خلقا ولا مسست خزا [ قط ] ولا حريرا ولا شيئا [ كان ] ألين من كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شممت مسكا ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . [ ص: 189 ]
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرني ، حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سفيان الثوري عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن عبد الله بن عمر قال : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فاحشا ولا متفحشا وكان يقول : " خياركم أحسنكم أخلاقا " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، حدثنا محمد بن هشام بن ملاس ، حدثنا مروان الفزاري ، حدثنا حميد الطويل ، عن أنس أن امرأة عرضت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريق من طرق المدينة فقالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال : يا أم فلان اجلسي في أي سكك المدينة شئت أجلس إليك ، قال : ففعلت فقعد إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى [ قضى ] حاجتها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل قال : [ حدثنا ] محمد بن عيسى ، حدثنا هشيم ، أخبرنا حميد الطويل ، حدثنا أنس بن مالك قال : إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق به حيث شاءت .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو محمد بن عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا عمران بن يزيد التغلبي ، عن زيد [ ابن العمي ] عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صافح الرجل لم ينزع يده من يده [ حتى يكون هو الذي ينزع يده ] ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون هو الذي يصرف وجهه [ عن وجهه ] ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس له . [ ص: 190 ]
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد ، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي ، أخبرنا الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، حدثنا عبيدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا ضرب خادما ولا امرأة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثني مالك بن إسحاق عن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس قال كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ، ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ضحك ثم أمر له بعطاء .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا علي بن المديني ، حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن ابن أبي مليكة ، عن يعلى بن مملك ، عن أم الدرداء تحدث عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أثقل شيء يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن ، وإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا داود بن يزيد [ الأودي ] سمعت أبي يقول سمعت أبا [ ص: 191 ] هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : " أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس النار ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإن أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان : الفرج والفم ، أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإن أكثر ما يدخل الناس الجنة : تقوى الله وحسن الخلق " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا محمد بن عبد الله [ بن عبد ] الحكم ، أخبرنا أبي وشعيب قالا حدثنا الليث عن [ ابن ] الهاد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله عن عائشة قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار " .
يتبع
ابو وليد البحيرى
2022-12-22, 10:58 PM
الحلقة (411)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْقلم
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 43
( فستبصر ويبصرون ( 5 ) بأييكم المفتون ( 6 ) )
قوله - عز وجل - ( فستبصر ويبصرون ) فسترى يا محمد ويرون - يعني أهل مكة - إذا نزل بهم العذاب .
( بأييكم المفتون ) قيل معناه : بأيكم المجنون ، ف " المفتون " مفعول بمعنى المصدر ، كما يقال : ما بفلان مجلود ومعقول ، أي جلادة وعقل . وهذا معنى قول الضحاك ورواية العوفي عن ابن عباس .
وقيل الباء بمعنى " في " مجازه : فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون في فريقك أم في فريقهم ؟ .
وقيل : الباء بمعنى " مع " و " المفتون " هو الشيطان . [ والمعنى : مع أيكم الشيطان ] مع المؤمنين أم مع الكافرين ؟ وهذا معنى قول مجاهد .
وقال الآخرون : زائدة ، معناه : أيكم المفتون ؟ أي المجنون الذي فتن بالجنون ، وهذا قول قتادة
يتبع
.
[ ص: 192 ] ( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ( 7 ) فلا تطع المكذبين ( 8 ) ودوا لو تدهن فيدهنون ( 9 ) ولا تطع كل حلاف مهين ( 10 ) هماز مشاء بنميم ( 11 ) مناع للخير معتد أثيم ( 12 ) عتل بعد ذلك زنيم ( 13 ) )
( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين فلا تطع المكذبين ) ، يعني مشركي مكة فإنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فنهاه أن يطيعهم .
( ودوا لو تدهن فيدهنون ) قال : الضحاك لو تكفر فيكفرون . قال الكلبي : لو تلين لهم فيلينون لك . قال الحسن : لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم . قال زيد بن أسلم : لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون . وقال ابن قتيبة : أرادوا أن تعبد آلهتهم مدة ويعبدون الله مدة .
( ولا تطع كل حلاف مهين ) كثير الحلف بالباطل . قال [ مقاتل : يعني ] الوليد بن المغيرة . وقيل : الأسود بن عبد يغوث . وقال عطاء : الأخنس بن شريق ( مهين ) ضعيف حقير . قيل : هو فعيل من المهانة وهي قلة الرأي والتمييز . وقال ابن عباس : كذاب . وهو قريب من الأول لأن الإنسان إنما يكذب لمهانة نفسه عليه .
( هماز ) مغتاب يأكل لحوم الناس بالطعن والغيبة . قال الحسن : هو الذي يغمز بأخيه في المجلس ، كقوله : " همزة " ( مشاء بنميم ) قتات يسعى بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم .
( مناع للخير ) بخيل بالمال . قال ابن عباس : " مناع للخير " أي للإسلام يمنع ولده وعشيرته عن الإسلام يقول : لئن دخل واحد منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا ( معتد ) ظلوم يتعدى الحق ( أثيم ) فاجر . ( عتل ) العتل : الغليظ الجافي . وقال الحسن : هو الفاحش الخلق السيئ الخلق . قال الفراء : هو الشديد الخصومة في الباطل وقال الكلبي : هو الشديد في كفره ، وكل شديد عند العرب عتل ، وأصله من العتل وهو الدفع بالعنف . قال عبيد بن عمير : " العتل " الأكول الشروب القوي الشديد [ في كفره ] لا يزن في الميزان شعيرة ، يدفع الملك من أولئك سبعين ألفا في النار دفعة [ ص: 193 ] واحدة ( بعد ذلك ) أي مع ذلك ، يريد مع ما وصفناه به ( زنيم ) وهو الدعي [ الملصق ] بالقوم وليس منهم . قال عطاء عن ابن عباس : يريد مع [ هذا ] هو دعي في قريش وليس منهم . قال مرة الهمداني : إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة . وقيل : " الزنيم " الذي له زنمة كزنمة الشاة .
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : نعت فلم يعرف حتى قيل زنيم فعرف ، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها .
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها .
قال ابن قتيبة : لا نعلم أن الله وصف أحدا ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان الواعظ ، حدثني أبو محمد بن زنجويه بن محمد ، حدثنا علي بن الحسين الهلالي ، حدثنا عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان ، حدثني معبد بن خالد القيسي ، عن حارثة بن وهب الخزاعي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أخبركم بأهل الجنة ؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ [ مستكبر ] " .
( أن كان ذا مال وبنين ( 14 ) )
( أن كان ذا مال وبنين ) قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة وأبو بكر ويعقوب : " أإن " بالاستفهام . ثم حمزة وأبو بكر يخففان الهمزتين بلا مد ويمد الهمزة الأولى أبو جعفر وابن عامر ويعقوب ويلينون الثانية . وقرأ الآخرون بلا استفهام على الخبر ، فمن قرأ بالاستفهام فمعناه : ألإن كان ذا مال وبنين ؟
[ ص: 194 ] ( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ( 15 )( سنسمه على الخرطوم ( 16 ) إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ( 17 ) )
( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) أي جعل مجازاة النعم التي خولها من البنين والمال الكفر بآياتنا . وقيل : معناه ألإن كان ذا مال وبنين [ تطيعه ] .
ومن قرأ على الخبر فمعناه : لا تطع كل حلاف مهين لأن ( كان ذا مال وبنين ) أي : لا تطعه لماله وبنيه " إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين " .
ثم أوعده فقال : ( سنسمه على الخرطوم ) و " الخرطوم " : الأنف . قال أبو العالية ومجاهد : أي نسود وجهه ، فنجعل له علما في الآخرة يعرف به ، وهو سواد الوجه .
قال الفراء : خص الخرطوم بالسمة فإنه في مذهب الوجه لأن بعض الشيء يعبر به عن كله .
وقال ابن عباس : سنخطمه بالسيف ، وقد فعل ذلك يوم بدر وقال قتادة : سنلحق به شيئا لا يفارقه .
قال القتيبي تقول العرب للرجل سب الرجل سبة قبيحة : قد وسمه ميسم سوء . يريد : ألصق به عارا لا يفارقه ، كما أن السمة لا ينمحي ولا يعفو أثرها وقد ألحق الله بما ذكر من عيوبه عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة ، كالوسم على الخرطوم .
وقال الضحاك والكسائي : سنكويه على وجهه .
( إنا بلوناهم ) يعني : اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع ( كما بلونا ) ابتلينا ( أصحاب الجنة ) روى محمد بن مروان ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : في قوله - عز وجل - : " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة " قال : كان بستان باليمن يقال له الضروان دون صنعاء بفرسخين ، يطؤه أهل الطريق ، كان غرسه قوم من أهل الصلاة ، وكان لرجل فمات فورثه ثلاثة بنين له ، وكان [ ص: 195 ] يكون للمساكين إذا صرموا نخلهم كل شيء تعداه المنجل فلم يجزه وإذا طرح من فوق النخل إلى البساط فكل شيء يسقط على البساط فهو أيضا للمساكين ، وإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعداه المنجل فهو للمساكين وإذا داسوه كان لهم كل شيء ينتثر أيضا فلما مات الأب وورثه هؤلاء الإخوة [ عن أبيهم ] فقالوا : والله إن المال لقليل ، وإن العيال لكثير وإنما كان هذا الأمر يفعل إذ كان المال كثيرا والعيال قليلا فأما إذا قل المال وكثر العيال فإنا لا نستطيع أن نفعل هذا فتحالفوا بينهم يوما ليغدون غدوة قبل خروج الناس فليصرمن نخلهم ولم يستثنوا يقول : لم يقولوا إن شاء الله فغدا القوم بسدفة من الليل إلى جنتهم ليصرموها قبل أن يخرج المساكين ، فرأوها مسودة وقد طاف عليها من الليل طائف من العذاب فأحرقها فأصبحت كالصريم فذلك قوله - عز وجل - : ( إذ أقسموا ) حلفوا ( ليصرمنها مصبحين ) ليجذنها وليقطعن ثمرها إذا أصبحوا قبل أن يعلم المساكين
( ولا يستثنون ( 18 ) فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ( 19 ) فأصبحت كالصريم ( 20 ) فتنادوا مصبحين ( 21 ) أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين ( 22 ) )
( ولا يستثنون ) ولا يقولون إن شاء الله .
( فطاف عليها طائف ) عذاب ( من ربك ) ليلا ولا يكون الطائف إلا بالليل ، وكان ذلك الطائف نارا نزلت من السماء فأحرقتها ( وهم نائمون )
( فأصبحت كالصريم ) كالليل المظلم الأسود . قال الحسن : أي صرم منها الخير فليس فيها شيء .
وقال الأخفش : كالصبح الصريم من الليل وأصل " الصريم " المصروم ، مثل : قتيل ومقتول ، وكل شيء قطع فهو صريم [ فالليل صريم ] والصبح صريم لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه .
وقال ابن عباس : كالرماد الأسود بلغة خزيمة .
( فتنادوا مصبحين ) نادى بعضهم بعضا لما أصبحوا .
( أن اغدوا على حرثكم ) يعني الثمار والزروع والأعناب ( إن كنتم صارمين ) قاطعين للنخل .
[ ص: 196 ] ( فانطلقوا وهم يتخافتون ( 23 ) أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين ( 24 ) وغدوا على حرد قادرين ( 25 ) فلما رأوها قالوا إنا لضالون ( 26 ) بل نحن محرومون ( 27 ) قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون ( 28 ) )
( فانطلقوا ) مشوا إليها ( وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين ) يتسارون ، يقول بعضهم لبعض سرا ( وغدوا على حرد ) " الحرد " في اللغة يكون بمعنى القصد والمنع والغضب ، قال الحسن وقتادة وأبو العالية : على جد وجهد .
وقال القرظي ومجاهد وعكرمة : على أمر مجتمع عليه قد أسسوه بينهم . وهذا على معنى القصد لأن القاصد [ إلى الشيء ] جاد مجمع على الأمر .
وقال أبو عبيدة والقتيبي : غدوا ونيتهم على منع المساكين ، يقال : حاردت السنة ، إذا لم يكن لها مطر وحاردت الناقة إذا لم يكن لها لبن .
وقال الشعبي وسفيان : على حنق وغضب من المساكين .
وعن ابن عباس قال : على قدرة ( قادرين ) عند أنفسهم على جنتهم وثمارها لا يحول بينها وبينهم أحد .
( فلما رأوها قالوا إنا لضالون ) أي لما رأوا الجنة محترقة قالوا : إنا لمخطئون الطريق ، أضللنا مكان جنتنا ليست هذه بجنتنا . فقال بعضهم : ( بل نحن محرومون ) حرمنا خيرها ونفعها بمنعنا المساكين وتركنا الاستثناء .
( قال أوسطهم ) أعدلهم وأعقلهم وأفضلهم : ( ألم أقل لكم لولا تسبحون ) هلا تستثنون أنكر عليهم ترك الاستثناء في قولهم : " ليصرمنها مصبحين " وسمى الاستثناء تسبيحا لأنه تعظيم لله وإقرار بأنه لا يقدر أحد على شيء إلا بمشيئته .
وقال أبو صالح : كان استثناؤهم سبحان الله ، وقيل : هلا تسبحون الله وتقولون : سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم . وقيل : هلا تستغفرونه من فعلكم .
[ ص: 197 ] ( قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين ( 29 ) فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون ( 30 ) قالوا ياويلنا إنا كنا طاغين ( 31 ) عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون ( 32 ) كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ( 33 ) إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم ( 34 ) أفنجعل المسلمين كالمجرمين ( 35 ) ما لكم كيف تحكمون ( 36 ) أم لكم كتاب فيه تدرسون ( 37 ) إن لكم فيه لما تخيرون ( 38 ) )
( قالوا سبحان ربنا ) نزهوه عن أن يكون ظالما فيما فعل وأقروا على أنفسهم بالظلم فقالوا : ( إنا كنا ظالمين ) بمنعنا المساكين .
( فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون ) يلوم بعضهم بعضا في منع المساكين حقوقهم ، ونادوا على أنفسهم بالويل : ( قالوا ياويلنا إنا كنا طاغين ) في منعنا حق الفقراء . وقال ابن كيسان : طغينا نعم الله فلم نشكرها ولم نصنع ما صنع آباؤنا من قبل .
ثم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا : ( عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون ) قال عبد الله بن مسعود : بلغني أن القوم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا واحدا .
قال الله تعالى : ( كذلك العذاب ) أي : كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا وخالف أمرنا ( ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) ثم أخبر بما عنده للمتقين فقال : ( إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم ) فقال المشركون : إنا نعطى في الآخرة أفضل مما تعطون فقال الله تكذيبا لهم : ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب ) نزل من عند الله ( فيه ) في هذا الكتاب ( تدرسون ) تقرءون .
( إن لكم فيه ) في ذلك الكتاب ( لما تخيرون ) تختارون وتشتهون .
[ ص: 198 ] ( أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون ( 39 ) سلهم أيهم بذلك زعيم ( 40 ) أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين ( 41 ) يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ( 42 ) )
( أم لكم أيمان ) عهود ومواثيق ( علينا بالغة ) مؤكدة عاهدناكم عليها فاستوثقتم بها منا فلا ينقطع عهدكم ( إلى يوم القيامة إن لكم ) في ذلك العهد ( لما تحكمون ) لأنفسكم من الخير والكرامة عند الله . وكسر " إن " في الآيتين لدخول اللام في خبرهما . ثم قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - :
( سلهم أيهم بذلك زعيم ) كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين ؟
( أم لهم شركاء ) أي عندهم شركاء لله ، أرباب تفعل هذا . وقيل : شهداء يشهدون لهم بصدق ما يدعونه . ( فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين )
( يوم يكشف عن ساق ) قيل : " يوم " ظرف لقوله فليأتوا بشركائهم ، أي : فليأتوا بها في ذلك اليوم لتنفعهم وتشفع لهم " يوم يكشف عن ساق " قيل : عن أمر فظيع شديد ، قال ابن عباس : هو أشد ساعة في القيامة .
قال سعيد بن جبير : " يوم يكشف عن ساق " عن شدة الأمر .
وقال ابن قتيبة : تقول العرب للرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج فيه إلى الجد ومقاساة الشدة : شمر عن ساقه ويقال : إذا اشتد الأمر في الحرب : كشفت الحرب عن ساق .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن [ سفيان ] حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني سويد بن سعيد ، حدثني جعفر ، حدثني حفص بن ميسرة ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أناسا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نعم هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب ؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : ما تضارون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما ، إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد الله من بر وفاجر ، وغير أهل الكتاب فتدعى اليهود ، فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد [ ص: 199 ] عزير ابن الله فيقال كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، فماذا تبغون ؟ فقالوا : عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم : ألا تردون ؟ فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار . ثم تدعى النصارى فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد المسيح ابن الله ، فيقال لهم : ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، فيقال لهم : ماذا تبغون ؟ فيقولون : عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم : ألا تردون ؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار ، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر ، أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال : فماذا تنتظرون ؟ لتتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم . فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب ، فيقول : هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها فيقولون : نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود فلا يبقى من كان يسجد نفاقا ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رءوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقال : أنا ربكم . فيقولون : أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ، ويقولون : اللهم سلم سلم ، قيل يا رسول الله وما الجسر ؟ قال : دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة يكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان ، فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكردس في نار جهنم ، حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار ، يقولون : ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون ، فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقه وإلى ركبتيه ، ثم يقولون : ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به ، فيقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ، ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا به أحدا ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها أحدا فيه خير ممن أمرتنا به وكان أبو سعيد الخدري يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم : " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما " ( النساء - 40 ) فيقول الله : شفعت الملائكة ، وشفع النبيون وشفع المؤمنون ، ولم يبق إلا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة ، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون منها إلى الشمس أصيفر وأخيضر ، وما يكون [ ص: 200 ] منها إلى الظل يكون أبيض ؟ قال : فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله من النار الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ، ثم يقول : " ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا : أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين ، فيقول : لكم عندي أفضل من هذا فيقولون : يا ربنا أي شيء أفضل من هذا ؟ فيقول : رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا " .
وروى محمد بن إسماعيل هذا الحديث عن يحيى بن بكير عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم بهذا المعنى أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، حدثنا الليث ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا " .
قوله - عز وجل - : ( ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ) يعني : الكفار والمنافقين تصير أصلابهم كصياصي البقر ، فلا يستطيعون السجود .
ابو وليد البحيرى
2022-12-22, 10:59 PM
الحلقة (412)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْحَاقَّةِ
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 32
( خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ( 43 ) )
( خاشعة أبصارهم ) وذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم من السجود ووجوههم أشد بياضا من الثلج وتسود وجوه الكافرين والمنافقين ( ترهقهم ذلة ) يغشاهم ذل الندامة والحسرة ( وقد كانوا يدعون إلى السجود ) قال إبراهيم التيمي : يعني إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة وقال سعيد بن جبير : كانوا يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون ( وهم سالمون ) أصحاء فلا يأتونه قال كعب الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلا عن الذين يتخلفون عن الجماعات .
[ ص: 201 ] ( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ( 44 ) وأملي لهم إن كيدي متين ( 45 ) أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ( 46 ) أم عندهم الغيب فهم يكتبون ( 47 ) فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ( 48 ) لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم ( 49 ) فاجتباه ربه فجعله من الصالحين ( 50 ) )
( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ) أي فدعني والمكذبين بالقرآن وخل بيني وبينهم . قال الزجاج : معناه لا تشغل قلبك بهم [ كلهم ] إلي فإني [ أكفيكهم ] [ قال ومثله : " ذرني ومن خلقت وحيدا " معناه في اللغة : لا تشغل قلبك به وكله إلي فإني أجازيه . ومثله قول الرجل : ذرني وإياه ، ليس أنه منعه منه ولكن تأويله كله ، فإني أكفيك أمره ]
قوله تعالى : ( سنستدرجهم ) سنأخذهم بالعذاب ( من حيث لا يعلمون ) ، فعذبوا يوم بدر . ( وأملي لهم إن كيدي متين أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أم عندهم الغيب فهم يكتبون فاصبر لحكم ربك ) اصبر على أذاهم لقضاء ربك ( ولا تكن ) في الضجر والعجلة ( كصاحب الحوت ) وهو يونس بن متى ( إذ نادى ) ربه [ في ] بطن الحوت ( وهو مكظوم ) مملوء غما .
( لولا أن تداركه ) أدركته ( نعمة من ربه ) حين رحمه وتاب عليه ( لنبذ بالعراء ) لطرح بالفضاء من بطن الحوت ( وهو مذموم ) يذم ويلام بالذنب [ يذنبه ] .
( فاجتباه ربه ) اصطفاه ( فجعله من الصالحين )
( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون ( 51 ) وما هو إلا ذكر للعالمين ( 52 ) )
( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم ) وذلك أن الكفار أرادوا أن يصيبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعين فنظر إليه قوم من قريش وقالوا : ما رأينا مثله ولا مثل حججه .
وقيل : كانت العين في بني أسد حتى كانت الناقة والبقرة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول : يا جارية خذي المكتل والدراهم فأتينا بشيء من لحم هذه فما تبرح حتى تقع [ ص: 202 ] بالموت فتنحر .
وقال الكلبي : كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثا ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول : لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه ، فما تذهب إلا قليلا حتى تسقط منها طائفة وعدة ، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعين ويفعل به مثل ذلك ، فعصم الله نبيه وأنزل : " وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم " أي ويكاد ودخلت اللام في " ليزلقونك " لمكان " إن " وقرأ أهل المدينة : " ليزلقونك " بفتح الياء ، والآخرون بضمها وهما لغتان ، يقال : زلقه يزلقه زلقا وأزلقه يزلقه إزلاقا .
قال ابن عباس : معناه : ينفذونك ، ويقال : زلق السهم : إذا أنفذ .
قال السدي : يصيبونك بعيونهم . قال النضر بن شميل : يعينونك . وقيل : يزيلونك .
وقال الكلبي : يصرعونك . وقيل : يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة .
قال ابن قتيبة : ليس يريد أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه ، وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء ، يكاد يسقطك .
وقال الزجاج : يعني من شدة عداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك . وهذا مستعمل في [ كلام العرب ] يقول القائل : نظر إلي نظرا يكاد يصرعني ، ونظرا يكاد يأكلني . يدل على صحة هذا المعنى : أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن ، وهو قوله : ( لما سمعوا الذكر ) وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهية فيحدون إليه النظر بالبغضاء ( ويقولون إنه لمجنون ) أي ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن . فقال الله تعالى :
( وما هو ) يعني القرآن ( إلا ذكر للعالمين ) قال ابن عباس : موعظة للمؤمنين . قال [ ص: 203 ] الحسن : دواء إصابة العين أن يقرأ الإنسان هذه الآية .
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال حدثنا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " العين حق " ونهى عن الوشم .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، حدثنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي ، أخبرنا أبو نصر بن محمد بن حمدويه بن سهل المروزي ، حدثنا محمود [ بن آدم المروزي ] حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر ، عن عبيد بن رفاعة الزرقي أن أسماء بنت عميس قالت : يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم ؟ قال : " نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين " .
سُورَةُ الْحَاقَّةِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( الْحَاقَّةُ ( 1 ) مَا الْحَاقَّةُ ( 2 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ( 3 ) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ( 4 ) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ( 5 ) )
( الْحَاقَّةُ ) يَعْنِي الْقِيَامَةَ سُمِّيَتْ حَاقَّةً لِأَنَّهَا حَقَّتْ فَلَا كَاذِبَةَ لَهَا . وَقِيلَ لِأَنَّ فِيهَا حَوَاقُّ الْأُمُورِ وَحَقَائِقُهَا وَلِأَنَّ فِيهَا يَحِقُّ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ ، أَيْ يَجِبُ يُقَالُ : حَقَّ عَلَيْهِ الشَّيْءُ إِذَا وَجَبَ يَحِقُّ [ حُقُوقًا ] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ " ( الزُّمَرِ - 71 ) قَالَ الْكِسَائِيُّ : " الْحَاقَّةُ " يَوْمُ الْحَقِّ . ( مَا الْحَاقَّةُ ) هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّفْخِيمُ لِشَأْنِهَا كَمَا يُقَالُ : زَيْدٌ مَا زَيدٌ عَلَى التَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِ . ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ) أَيْ أَنَّكَ لَا تَعْلَمُهَا إِذْ لَمْ تُعَايِنْهَا وَلَمْ تَرَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَهْوَالِ . ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ : بِالْقِيَامَةِ سُمِّيَتْ قَارِعَةً لِأَنَّهَا تَقْرَعُ قُلُوبَ الْعِبَادِ بِالْمَخَافَةِ . وَقِيلَ : كَذَّبَتْ بِالْعَذَابِ الَّذِي أَوْعَدَهُمْ نَبِيُّهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فَقَرَعَ قُلُوبَهُمْ . ( فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) أَيْ بِطُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ . قِيلَ : هِيَ مَصْدَرٌ ، وَقِيلَ : نَعْتٌ أَيْ بِفِعْلِهِمُ الطَّاغِيَةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ ، كَمَا قَالَ : " كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا " ( الشَّمْسِ - 11 ) وَقَالَ قَتَادَةُ : بِالصَّيْحَةِ الطَّاغِيَةِ ، وَهِيَ الَّتِي جَاوَزَتْ مَقَادِيرَ الصِّيَاحِ فَأَهْلَكَتْهُم ْ . وَقِيلَ : طَغَتْ عَلَى الخُزَّانِ [ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَيْهَا سَبِيلٌ وَلَمْ يَعْرِفُوا كَمْ خَرَجَ مِنْهَا ] كَمَا طَغَى الْمَاءُ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ .
[ ص: 208 ] ( وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ( 6 ) سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ( 7 ) فهل ترى لهم من باقية ( 8 ) وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة ( 9 ) فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية ( 10 ) إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ( 11 ) )
( وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ) عتت على خزانها فلم تطعهم ولم يكن لهم عليها سبيل ، وجاوزت المقدار فلم يعرفوا كم خرج منها . ( سخرها عليهم ) أرسلها عليهم . وقال مقاتل : سلطها عليهم ( سبع ليال وثمانية أيام ) قال وهب : هي الأيام التي تسميها العرب أيام العجوز ، ذات برد ورياح شديدة . قيل : سميت عجوزا لأنها في عجز الشتاء . وقيل : سميت بذلك لأن عجوزا من قوم عاد دخلت سربا فتبعتها الريح ، فقتلتها اليوم الثامن من نزول العذاب وانقطع العذاب ( حسوما ) قال مجاهد وقتادة : متتابعة ليس لها فترة ، فعلى هذا فهو من حسم الكي وهو أن يتابع على موضع الداء بالمكواة حتى يبرأ ، ثم قيل لكل شيء توبع : حاسم وجمعه حسوم ، مثل شاهد وشهود ، وقال الكلبي ومقاتل : حسوما دائمة . وقال النضر بن شميل : حسمتهم قطعتهم وأهلكتهم ، والحسم : القطع والمنع ومنه حسم الداء . قال الزجاج : [ الذي توجبه الآية فعلى معنى ] تحسمهم حسوما تفنيهم وتذهبهم . وقال عطية : حسوما كأنها حسمت الخير عن أهلها ( فترى القوم فيها ) أي في تلك الليالي والأيام ( صرعى ) هلكى جمع صريع ( كأنهم أعجاز نخل خاوية ) ساقطة ، وقيل : خالية الأجواف . ( فهل ترى لهم من باقية ) أي من نفس باقية ، يعني : لم يبق منهم أحد . ( وجاء فرعون ومن قبله ) قرأ أهل البصرة والكسائي بكسر القاف وفتح الباء ، أي ومن معه من جنوده وأتباعه ، وقرأ الآخرون بفتح القاف وسكون الباء ، أي ومن قبله من الأمم الكافرة ( والمؤتفكات ) أي : قرى قوم لوط ، يريد : أهل المؤتفكات . وقيل يريد الأمم الذين ائتفكوا بخطيئتهم ، أي أهلكوا بذنوبهم ( بالخاطئة ) أي بالخطيئة والمعصية وهي الشرك . ( فعصوا رسول ربهم ) يعني لوطا وموسى ( فأخذهم أخذة رابية ) نامية . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : شديدة . وقيل : زائدة على عذاب الأمم . ( إنا لما طغى الماء ) أي عتا وجاوز حده حتى علا على كل شيء وارتفع فوقه ، يعني زمن [ ص: 209 ] نوح - عليه السلام - ( حملناكم ) أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم ( في الجارية ) في السفينة التي تجري في الماء .
( لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية ( 12 ) فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ( 13 ) وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ( 14 ) فيومئذ وقعت الواقعة ( 15 ) وانشقت السماء فهي يومئذ واهية ( 16 ) والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ( 17 ) )
( لنجعلها ) أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلنا من إغراق قوم نوح ونجاة من حملنا معه ( لكم تذكرة ) عبرة وموعظة ( وتعيها ) قرأ القواس عن ابن كثير وسليم عن حمزة باختلاس العين ، وقرأ الآخرون بكسرها أي تحفظها ( أذن واعية ) أي : حافظة لما جاء من عند الله . قال قتادة : [ أذن ] سمعت وعقلت ما سمعت . قال الفراء : لتحفظها كل أذن فتكون عبرة وموعظة لمن يأتي بعد . ( فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ) وهي النفخة الأولى . ( وحملت الأرض والجبال ) رفعت من أماكنها ( فدكتا ) كسرتا ( دكة ) كسرة ( واحدة ) فصارتا هباء [ منثورا ] . ( فيومئذ وقعت الواقعة ) قامت القيامة . ( وانشقت السماء فهي يومئذ واهية ) ضعيفة . قال الفراء : وهيها : تشققها . ( والملك ) يعني الملائكة ( على أرجائها ) نواحيها وأقطارها ما لم ينشق منها واحدها : " رجا " مقصور وتثنيته رجوان . قال الضحاك : تكون الملائكة على حافتها حتى يأمرهم الرب فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها ( ويحمل عرش ربك فوقهم ) أي فوق رءوسهم يعني الحملة ( يومئذ ) يوم القيامة ( ثمانية ) أي ثمانية أملاك .
جاء في الحديث : " إنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة أخرى ، فكانوا [ ص: 210 ] ثمانية على صورة الأوعال ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء " .
وجاء في الحديث : " لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر " .
أخبرنا أبو بكر بن الهيثم الترابي ، أخبرنا أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي ، أخبرنا محمد بن يحيى الخالدي ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم [ الحنظلي ] حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا يحيى بن العلاء ، عن عمه شعيب بن خالد ، حدثنا سماك بن حرب ، عن عبد الله بن عميرة ، عن العباس بن عبد المطلب قال : كنا جلوسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبطحاء فمرت سحابة فقال : النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أتدرون ما هذا ؟ قلنا : السحاب . قال : والمزن ؟ قلنا : والمزن ، قال : والعنان ؟ فسكتنا فقال : هل تدرون كم بين السماء والأرض ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : بينهما مسيرة خمسمائة سنة ، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وكذلك غلظ كل سماء خمسمائة سنة ، وفوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض [ ثم بين ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن كما بين السماء والأرض ] ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله تعالى فوق ذلك ، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء " .
ويروى هذا عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس .
وروي عن ابن عباس أنه قال : " فوقهم يومئذ ثمانية " أي : ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم [ ص: 211 ] عدتهم إلا الله .
( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ( 18 ) فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه ( 19 ) إني ظننت أني ملاق حسابيه ( 20 ) فهو في عيشة راضية ( 21 ) في جنة عالية ( 22 ) قطوفها دانية ( 23 ) )
( يومئذ تعرضون ) على الله ( لا تخفى ) قرأ حمزة والكسائي : " لا يخفى " بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء ( منكم خافية ) أي فعلة خافية . قال الكلبي : لا يخفى على الله منكم شيء . قال أبو موسى : يعرض الناس ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما العرضة الثالثة فعندها تطاير الصحف فآخذ بيمينه وآخذ بشماله وذلك قوله - عز وجل - : ( فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه ) تعالوا اقرءوا كتابيه الهاء في " كتابيه " هاء الوقف . ( إني ظننت ) علمت وأيقنت ( أني ملاق حسابيه ) أي : [ أني ] أحاسب في الآخرة . ( فهو في عيشة ) حالة من العيش ( راضية ) مرضية كقوله : " ماء دافق " ( الطارق - 6 ) يريد : يرضاها بأن لقي الثواب وأمن العقاب . ( في جنة عالية ) رفيعة . ( قطوفها دانية ) ثمارها قريبة لمن يتناولها [ في كل أحواله ينالها ] قائما وقاعدا ومضطجعا يقطعون كيف شاءوا . ويقال لهم :
[ ص: 212 ] ( كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية ( 24 ) وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه ( 25 ) ولم أدر ما حسابيه ( 26 ) ياليتها كانت القاضية ( 27 ) ما أغنى عني ماليه ( 28 ) هلك عني سلطانيه ( 29 ) خذوه فغلوه ( 30 ) ثم الجحيم صلوه ( 31 ) ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ( 32 ) )
( كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم ) قدمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحة ( في الأيام الخالية ) الماضية يريد أيام الدنيا . ( وأما من أوتي كتابه بشماله ) قال ابن السائب : تلوى يده اليسرى [ من صدره ] خلف ظهره ثم يعطى كتابه . وقيل : تنزع يده اليسرى من صدره إلى خلف ظهره ثم يعطى كتابه ; ( فيقول ياليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه ) يتمنى أنه لم يؤت كتابه لما يرى فيه من قبائح أعماله . ( ياليتها كانت القاضية ) يقول : يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت القاضية الفارغة من كل ما بعدها والقاطعة للحياة ، فلم أحي بعدها . و " القاضية " موت لا حياة بعده يتمنى أنه لم يبعث للحساب . قال قتادة : يتمنى الموت ولم يكن عنده في الدنيا شيء أكره من الموت . ( ما أغنى عني ماليه ) لم يدفع عني من عذاب الله شيئا . ( هلك عني سلطانيه ) ضلت عني حجتي ، عن أكثر المفسرين . وقال ابن زيد : زال عني ملكي وقوتي . قال مقاتل : يعني حين شهدت عليه الجوارح بالشرك ، يقول الله لخزنة جهنم : ( خذوه فغلوه ) اجمعوا يده إلى عنقه . ( ثم الجحيم صلوه ) أي : أدخلوه الجحيم . ( ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) فأدخلوه فيها . قال ابن عباس : سبعون ذراعا بذراع الملك ، فتدخل في دبره وتخرج من منخره . وقيل : تدخل في فيه وتخرج من [ ص: 213 ] دبره . وقال نوف البكالي : سبعون ذراعا كل ذراع سبعون باعا كل باع أبعد مما بينك وبين مكة ، وكان في رحبة الكوفة وقال سفيان : كل ذراع سبعون ذراعا . قال الحسن : الله أعلم أي ذراع هو .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن سعيد بن يزيد ، عن أبي السمح ، عن عيسى بن هلال الصدفي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو أن [ رضاضة ] مثل هذه - وأشار إلى مثل الجمجمة - أرسلت من السماء إلى الأرض ، وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها " .
وعن كعب قال : لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها .
ابو وليد البحيرى
2022-12-22, 11:00 PM
الحلقة (413)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْمَعَارِجِ
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 21
( إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ( 33 ) ولا يحض على طعام المسكين ( 34 ) فليس له اليوم هاهنا حميم ولا ( 35 ) ولا طعام إلا من غسلين ( 36 ) لا يأكله إلا الخاطئون ( 37 ) فلا أقسم بما تبصرون ( 38 ) وما لا تبصرون ( 39 ) )
( إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين ) لا يطعم المسكين في الدنيا ولا يأمر أهله بذلك . ( فليس له اليوم هاهنا حميم ولا ) قريب ينفعه ويشفع له . ( ولا طعام إلا من غسلين ) وهو صديد أهل النار ، مأخوذ من الغسل ، كأنه غسالة جروحهم وقروحهم . قال الضحاك والربيع : هو شجر يأكله أهل النار . ( لا يأكله إلا الخاطئون ) أي : الكافرون . ( فلا أقسم ) " لا " رد لكلام المشركين ، كأنه قال : ليس كما يقول المشركون أقسم [ ص: 214 ] ( بما تبصرون ) أي بما ترون وبما لا ترون . قال قتادة : أقسم بالأشياء كلها فيدخل فيه جميع [ المخلوقات ] والموجودات . وقال : أقسم بالدنيا والآخرة . وقيل : " ما تبصرون " ما على وجه الأرض ، و " ما لا تبصرون " ما في بطنها . وقيل : " ما تبصرون " من الأجسام و " ما لا تبصرون " من الأرواح . وقيل : " ما تبصرون " الإنس و " ما لا تبصرون " الملائكة والجن . وقيل النعم الظاهرة والباطنة . وقيل : " ما تبصرون " ما أظهر الله للملائكة واللوح والقلم : و " ما لا تبصرون " ما استأثر بعلمه فلم يطلع عليه أحدا .
( إنه لقول رسول كريم ( 40 ) وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ( 41 ) ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ( 42 ) تنزيل من رب العالمين ( 43 ) ولو تقول علينا بعض الأقاويل ( 44 ) لأخذنا منه باليمين ( 45 ) )
( إنه ) يعني القرآن ( لقول رسول كريم ) أي تلاوة رسول كريم ، يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - . ( وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ) قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب : " يؤمنون ويذكرون " بالياء فيهما ، وقرأ الآخرون بالتاء ، وأراد بالقليل نفي إيمانهم أصلا كقولك لمن لا يزورك : قلما تأتينا . وأنت تريد : لا تأتينا أصلا . ( تنزيل من رب العالمين ولو تقول ) تخرص واختلق ( علينا ) محمد ( بعض الأقاويل ) وأتى بشيء من عند نفسه . ( لأخذنا منه باليمين ) قيل " من " صلة ، مجازه : لأخذناه وانتقمنا منه باليمين أي بالحق ، كقوله : " كنتم تأتوننا عن اليمين " ( الصافات - 28 ) أي : من قبل الحق . وقال ابن عباس : لأخذناه بالقوة والقدرة . قال الشماخ في عرابة ملك اليمن :
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة ، عبر عن القوة باليمين لأن قوة كل شيء في ميامنه .
وقيل : معناه لأخذنا بيده اليمنى ، وهو مثل معناه : لأذللناه وأهناه كالسلطان إذا أراد الاستخفاف [ ص: 215 ] ببعض من يريد يقول لبعض أعوانه : خذ بيده فأقمه .
( ثم لقطعنا منه الوتين ( 46 ) فما منكم من أحد عنه حاجزين ( 47 ) وإنه لتذكرة للمتقين ( 48 ) وإنا لنعلم أن منكم مكذبين ( 49 ) وإنه لحسرة على الكافرين ( 50 ) وإنه لحق اليقين ( 51 ) فسبح باسم ربك العظيم ( 52 ) )
( ثم لقطعنا منه الوتين ) قال ابن عباس : أي نياط القلب وهو قول أكثر المفسرين . وقال مجاهد : الحبل الذي في الظهر . وقيل هو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب ، فإذا انقطع مات صاحبه . ( فما منكم من أحد عنه حاجزين ) مانعين يحجزوننا عن عقوبته ، والمعنى : أن محمدا لا يتكلف الكذب لأجلكم مع علمه بأنه لو تكلفه لعاقبناه ولا يقدر أحد على دفع عقوبتنا عنه ، وإنما قال : " حاجزين " بالجمع وهو فعل واحد ردا على معناه كقوله : " لا نفرق بين أحد من رسله " ( البقرة - 285 ) . ( وإنه ) يعني القرآن ( لتذكرة للمتقين ) أي لعظة لمن اتقى عقاب الله . ( وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين ) يوم القيامة يندمون على ترك الإيمان به .
( وإنه لحق اليقين ) أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين .
( فسبح باسم ربك العظيم ) .
سُورَةُ الْمَعَارِجِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) )
( سَأَلَ سَائِلٌ ) قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ : " سَالَ " بِغَيْرِ هَمْزٍ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْهَمْزِ ، فَمَنْ هَمَزَ فَهُوَ مِنَ السُّؤَالِ ، وَمَنْ قَرَأَ بِغَيْرِ هَمْزٍ قِيلَ : هُوَ لُغَةٌ فِي السُّؤَالِ ، يُقَالُ : سَالَ يَسَالُ مَثَلُ خَافَ يَخَافُ [ يَعْنِي ] سَالَ يَسَالُ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ وَجَعَلَهَا أَلِفًا .
وَقِيلَ : هُوَ مِنَ السَّيْلِ ، وَالسَّايِلُ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ جَهَنَّمَ ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ : " بِعَذَابٍ " قِيلَ : هِيَ بِمَعْنَى " عَنْ " كَقَوْلِهِ : " فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا " ( الْفُرْقَانِ - 59 ) [ أَيْ عَنْهُ خَبِيرًا ]
وَمَعْنَى الْآيَةِ : سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ عَذَابٍ ( وَاقِعٍ ) نَازِلٍ كَائِنٍ عَلَى مَنْ يُنَزَّلْ وَلِمَنْ ذَلِكَ الْعَذَابُ فَقَالَ اللَّهُ مُبِينًا مُجِيبًا لِذَلِكَ السَّائِلِ : ( لِلْكَافِرِينَ ) وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَمَّا خَوَّفَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَذَابِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : مَنْ أَهَلُ هَذَا الْعَذَابِ ؟ وَلِمَنْ هُوَ ؟ سَلُوا عَنْهُ مُحَمَّدًا فَسَأَلُوهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ " أَيْ : هُوَ لِلْكَافِرِينَ ، هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ . وَقِيلَ : الْبَاءُ صِلَةٌ وَمَعْنَى الْآيَةِ : دَعَا دَاعٍ وَسَأَلَ سَائِلٌ عَذَابًا وَاقِعًا لِلْكَافِرِينَ ، أَيْ : عَلَى الْكَافِرِينَ ، اللَّامُ بِمَعْنَى " عَلَى " وَهُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حَيْثُ دَعَا [ ص: 220 ] عَلَى نَفْسِهِ وَسَأَلَ الْعَذَابَ ، فَقَالَ : " اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ " الْآيَةَ ( الْأَنْفَالِ - 32 ) فَنَزَلَ بِهِ مَا سَأَلَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقُتِلَ صَبْرًا ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ : ( لَيْسَ لَهُ ) أَيْ لِلْعَذَابِ ( دَافِعٌ ) مَانِعٌ .
( من الله ذي المعارج ( 3 ) تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ( 4 ) )
( من الله ذي المعارج ) قال ابن عباس : أي ذي السماوات ، سماها معارج لأن الملائكة تعرج فيها . وقال سعيد بن جبير : ذي الدرجات . وقال قتادة : ذي الفواضل والنعم [ ومعارج : الملائكة ] . ( تعرج الملائكة ) قرأ الكسائي " يعرج " بالياء ، وهي قراءة ابن مسعود ، وقرأ الآخرون " تعرج " بالتاء ( والروح ) يعني جبريل - عليه السلام - ( إليه ) أي إلى الله - عز وجل - ( في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) من سني الدنيا لو صعد غير الملك وذلك أنها تصعد منتهى أمر الله تعالى من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمر الله تعالى من فوق السماء السابعة .
روى ليث عن مجاهد أن مقدار هذا خمسون ألف سنة .
وقال محمد بن إسحاق : لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش لساروا خمسين ألف سنة من سني الدنيا .
وقال عكرمة وقتادة : هو يوم القيامة . وقال الحسن أيضا : هو يوم القيامة . وأراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا ، ليس يعني به مقدار طوله هذا دون غيره لأن يوم القيامة له أول وليس له آخر لأنه يوم ممدود ، ولو كان له آخر لكان منقطعا .
وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : هو يوم القيامة يكون على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة . [ ص: 221 ]
أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي ، أخبرنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي ، أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ، حدثنا عبد الله بن سعيد ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، عن دراج أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري قال قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة : فما أطول هذا اليوم ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا " .
وقيل : معناه لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله لم يفرغ منه خمسين ألف سنة . وهذا معنى قول عطاء عن ابن عباس ومقاتل . قال عطاء : ويفرغ الله منه في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا .
وروى محمد بن الفضل عن الكلبي قال : يقول لو وليت حساب ذلك اليوم الملائكة والجن والإنس وطوقتهم محاسبتهم لم يفرغوا منه إلا بعد خمسين ألف سنة ، وأنا أفرغ منها في ساعة [ واحدة ] من النهار .
وقال يمان : هو يوم القيامة فيه خمسون موطنا ، كل موطن ألف سنة . وفيه تقديم وتأخير كأنه قال : ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه .
( فاصبر صبرا جميلا ( 5 ) إنهم يرونه بعيدا ( 6 ) ونراه قريبا ( 7 ) يوم تكون السماء كالمهل ( 8 ) وتكون الجبال كالعهن ( 9 ) )
( فاصبر صبرا جميلا ) يا محمد على تكذيبهم وهذا قبل أن يؤمر بالقتال . ( إنهم يرونه بعيدا ) يعني العذاب ( ونراه قريبا ) لأن ما هو آت قريب . ( يوم تكون السماء كالمهل ) كعكر الزيت . وقال الحسن : كالفضة إذا أذيبت . ( وتكون الجبال كالعهن ) كالصوف المصبوغ . ولا يقال : " عهن " إلا للمصبوغ . وقال مقاتل : كالصوف المنفوش . وقال الحسن : كالصوف الأحمر وهو أضعف الصوف وأول ما تتغير [ ص: 222 ] الجبال تصير رملا مهيلا ثم عهنا منفوشا ، ثم تصير هباء منثورا .
( ولا يسأل حميم حميما ( 10 ) يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ( 11 ) وصاحبته وأخيه ( 12 ) وفصيلته التي تؤويه ( 13 ) ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه ( 14 ) كلا إنها لظى ( 15 ) نزاعة للشوى ( 16 ) )
( ولا يسأل حميم حميما ) قرأ البزي عن ابن كثير " لا يسأل " بضم الياء أي : لا يسأل حميم عن حميم ، أي لا يقال له : أين حميمك ؟ وقرأ الآخرون بفتح الياء ، أي : لا يسأل قريب قريبا لشغله بشأن نفسه . ( يبصرونهم ) يرونهم ، وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس ، فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته فلا يسأله ، ويبصر حميمه فلا يكلمه لاشتغاله بنفسه .
قال ابن عباس : يتعارفون ساعة من النهار ثم لا يتعارفون بعده .
وقيل : " يبصرونهم " يعرفونهم ، أي : يعرف الحميم حميمه حتى يعرفه ومع ذلك لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه .
وقال السدي : يعرفونهم أما المؤمن فببياض وجهه وأما الكافر فبسواد وجهه ( يود المجرم ) يتمنى المشرك ( لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ) ( وصاحبته ) زوجته ( وأخيه وفصيلته ) عشيرته التي فصل منهم . وقال مجاهد : قبيلته . وقال غيره : أقرباؤه الأقربون ( التي تؤويه ) أي التي تضمه ويأوي إليها . ( ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه ) ذلك الفداء من عذاب [ ربك ] . ( كلا ) لا ينجيه من عذاب الله شيء ثم ابتدأ فقال : ( إنها لظى ) وهي اسم من أسماء جهنم . قيل : هي الدركة الثانية سميت بذلك لأنها تتلظى أي : تتلهب . ( نزاعة للشوى ) قرأ حفص عن عاصم " نزاعة " نصب على الحال والقطع ، وقرأ الآخرون بالرفع أي هي نزاعة للشوى ، وهي [ الأطراف ] اليدان والرجلان [ وسائر ] الأطراف . قال مجاهد : لجلود الرأس . وروى إبراهيم بن مهاجر عنه : [ تنزع ] اللحم دون العظام . [ ص: 223 ]
قال مقاتل : تنزع النار الأطراف فلا تترك لحما ولا جلدا .
وقال الضحاك : تنزع الجلد واللحم عن العظم .
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : العصب والعقب .
وقال الكلبي : لأم الرأس تأكل الدماغ كله ثم يعود كما كان ، ثم تعود لأكله فذلك دأبها .
وقال قتادة : لمكارم خلقه وأطرافه . قال أبو العالية : لمحاسن وجهه .
وقال ابن [ جرير ] " الشوى " جوارح الإنسان ما لم يكن مقتلا يقال : رمى فأشوى إذا أصاب الأطراف ولم يصب المقتل .
( تدعوا من أدبر وتولى ( 17 ) وجمع فأوعى ( 18 ) إن الإنسان خلق هلوعا ( 19 ) إذا مسه الشر جزوعا ( 20 ) وإذا مسه الخير منوعا ( 21 ) )
( تدعوا ) أي : النار إلى نفسها ( من أدبر ) على الإيمان ( وتولى ) عن الحق فتقول إلي يا مشرك إلي يا منافق إلي إلي . قال ابن عباس : تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب . حكي عن الخليل : أنه قال : تدعو أي تعذب . وقال : قال أعرابي لآخر : دعاك الله أي عذبك الله . ( وجمع ) أي : جمع المال ( فأوعى ) [ أمسكه ] في الوعاء ولم يؤد حق الله منه . ( إن الإنسان خلق هلوعا ) روى السدي عن أبي صالح عن ابن عباس [ قال ] " الهلوع " الحريص على ما لا يحل له . وقال سعيد بن جبير : شحيحا . وقال عكرمة : ضجورا . وقال الضحاك والحسن : بخيلا . وقال قتادة : جزوعا . وقال مقاتل : ضيق القلب . والهلع : شدة الحرص وقلة الصبر . وقال عطية عن ابن عباس : تفسيره ما بعده وهو قوله : ( إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا ) أي : إذا أصابه الفقر لم يصبر ، وإذا أصاب المال لم ينفق . قال ابن كيسان : خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويهرب مما يكره ، ثم تعبده بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره . ثم استثنى فقال :
__________________
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 04:26 AM
الحلقة (414)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ نوح
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 23
[ ص: 224 ] ( إلا المصلين ( 22 ) الذين هم على صلاتهم دائمون ( 23 ) والذين في أموالهم حق معلوم ( 24 ) للسائل والمحروم ( 25 ) والذين يصدقون بيوم الدين ( 26 ) والذين هم من عذاب ربهم مشفقون ( 27 ) إن عذاب ربهم غير مأمون ( 28 ) والذين هم لفروجهم حافظون ( 29 ) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ( 30 ) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ( 31 ) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ( 32 ) والذين هم بشهاداتهم قائمون ( 33 ) )
( إلا المصلين ) استثنى الجمع من الوحدان لأن الإنسان في معنى الجمع [ كقوله : " إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا "
( الذين هم على صلاتهم دائمون ) يقيمونها في أوقاتها يعني الفرائض .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، حدثنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن ابن لهيعة ، حدثني يزيد بن أبي حبيب : أن أبا الخير أخبره قال : سألنا عقبة بن عامر عن قول الله تعالى : " الذين هم على صلاتهم دائمون " أهم الذين يصلون أبدا ؟ قال : لا ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا من خلفه . ( والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون ) قرأ حفص عن عاصم ويعقوب : " بشهاداتهم " على الجمع ، وقرأ الآخرون [ بشهاداتهم ] [ على التوحيد ] ( قائمون ) أي يقومون فيها بالحق أو لا يكتمونها ولا يغيرونها .
[ ص: 225 ] ( والذين هم على صلاتهم يحافظون ( 34 ) أولئك في جنات مكرمون ( 35 ) فمال الذين كفروا قبلك مهطعين ( 36 ) عن اليمين وعن الشمال عزين ( 37 ) أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم ( 38 ) كلا إنا خلقناهم مما يعلمون ( 39 ) )
( والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون ) .
( فمال الذين كفروا ) أي : فما بال الذين كفروا ، كقوله : " فما لهم عن التذكرة معرضين " ( المدثر - 49 ( قبلك مهطعين ) مسرعين مقبلين إليك مادي أعناقهم ومديمي النظر إليك متطلعين نحوك .
نزلت في جماعة من الكفار كانوا يجتمعون حول النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمعون كلامه ويستهزئون به ويكذبونه ، فقال الله تعالى : ما لهم ينظرون إليك ويجلسون عندك وهم لا ينتفعون بما يستمعون . ( عن اليمين وعن الشمال عزين ) حلقا وفرقا ، و " العزين " جماعات في تفرقة ، واحدتها عزة . ( أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم ) قال ابن عباس : معناه أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي كما يدخلها المسلمون ويتنعم فيها وقد كذب نبيي ؟ ( كلا ) لا يدخلونها . ثم ابتدأ فقال : ( إنا خلقناهم مما يعلمون ) أي : من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، نبه الناس على أنهم خلقوا من أصل واحد وإنما يتفاضلون ويستوجبون الجنة بالإيمان والطاعة .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا موسى بن محمد بن علي ، حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا جرير بن عثمان الرحبي ، عن عبد الرحمن بن ميسرة ، عن جبير بن نفير ، عن بسر بن جحاش [ القرشي ] قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وبصق يوما في كفه ووضع عليها إصبعه فقال : يقول الله - عز وجل - : " ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ، حتى إذا سويتك وعدلتك ومشيت بين بردين ، وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي [ ص: 226 ] قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة "
وقيل : معناه إنا خلقناهم [ من أجل ما يعملون وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب .
وقيل : " ما " بمعنى " من " مجازه : إنا ] خلقناهم ممن يعلمون ويعقلون لا كالبهائم .
( فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون ( 40 ) على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين ( 41 ) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ( 42 ) يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ( 43 ) خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون ( 44 ) )
( فلا أقسم برب المشارق والمغارب ) يعني مشرق كل يوم من أيام السنة ومغربه ( إنا لقادرون ) ( على أن نبدل خيرا منهم ) على أن نخلق أمثل منهم وأطوع لله [ ورسوله ] ( وما نحن بمسبوقين ) ( فذرهم يخوضوا ) في باطلهم ( ويلعبوا ) في دنياهم ( حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ) نسختها آية القتال . ( يوم يخرجون من الأجداث ) من القبور ( سراعا ) إلى إجابة الداعي ( كأنهم إلى نصب ) قرأ ابن عامر [ وابن عباس ] وحفص : " نصب " بضم النون والصاد ، وقرأ الآخرون بفتح النون وسكون الصاد يعنون إلى شيء منصوب ، يقال : فلان نصب عيني . وقال الكلبي : إلى علم وراية . ومن قرأ بالضم ، قال مقاتل والكسائي : يعني إلى أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله [ كقوله : " وما ذبح على النصب " ( المائدة - 3 ) قال الحسن : يسرعون إليها أيهم يستلمها أولا ( يوفضون ) يسرعون . ( خاشعة ) ذليلة خاضعة ( أبصارهم ترهقهم ذلة ) يغشاهم هوان ( ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون ) يعني يوم القيامة .
سُورَةُ نُوحٍ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 1 ) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 2 ) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ( 3 ) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 4 ) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ( 5 ) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ( 6 ) )
( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ ) أَيْ : بِأَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الْمَعْنَى : إِنَّا أَرْسَلْنَاهُ لِيُنْذِرَهُمْ بِالْعَذَابِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا . ( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) أُنْذِرُكُمْ وَأُبَيِّنُ لَكُمْ [ رِسَالَةَ اللَّهِ بِلُغَةٍ تَعْرِفُونَهَا ] . ( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) " مِنْ " صِلَةٌ ، أَيْ : يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ . وَقِيلَ : يَعْنِي مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ إِلَى وَقْتِ الْإِيمَانِ ، وَذَلِكَ بَعْضُ ذُنُوبِهِمْ ( وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) أَيْ : يُعَافِيكُمْ إِلَى مُنْتَهَى آجَالِكُمْ فَلَا يُعَاقِبْكُمْ ( إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) يَقُولُ : آمِنُوا قَبْلَ الْمَوْتِ تَسْلَمُوا [ مِنَ الْعَذَابِ ] فَإِنَّ أَجْلَ الْمَوْتِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ وَلَا يُمْكِنُكُمُ الْإِيمَانُ . ( قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ) نِفَارًا وَإِدْبَارًا عَنِ الْإِيمَانِ [ وَالْحَقِّ ] .
[ ص: 230 ] ( وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ( 7 ) ثم إني دعوتهم جهارا ( 8 ) ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ( 9 ) فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا ( 10 ) يرسل السماء عليكم مدرارا ( 11 ) )
( وإني كلما دعوتهم ) إلى الإيمان بك ( لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم ) لئلا يسمعوا دعوتي ( واستغشوا ثيابهم ) غطوا بها وجوههم لئلا يروني ( وأصروا ) على كفرهم ( واستكبروا ) عن الإيمان بك ( استكبارا ) ( ثم إني دعوتهم جهارا ) معلنا بالدعاء . قال ابن عباس : بأعلى صوتي . ( ثم إني أعلنت لهم ) كررت الدعاء معلنا ( وأسررت لهم إسرارا ) قال ابن عباس : يريد الرجل بعد الرجل أكلمه سرا بيني وبينه أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك . ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ) وذلك أن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة ، فهلكت أموالهم ومواشيهم ، فقال لهم نوح : استغفروا ربكم من الشرك ، أي استدعوا المغفرة بالتوحيد ، يرسل السماء عليكم مدرارا .
وروى مطرف عن الشعبي أن عمر رضي الله تعالى عنه خرج يستسقي بالناس ، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع ، فقيل له : ما سمعناك استسقيت ؟ فقال . طلبت الغيث [ بمجاديح ] السماء التي يستنزل بها المطر ، ثم قرأ : " استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا " .
[ ص: 231 ] ( ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ( 12 ) ما لكم لا ترجون لله وقارا ( 13 ) وقد خلقكم أطوارا ( 14 ) ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا ( 15 ) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ( 16 ) والله أنبتكم من الأرض نباتا ( 17 ) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ( 18 ) والله جعل لكم الأرض بساطا ( 19 ) )
( ويمددكم بأموال وبنين ) قال عطاء : يكثر أموالكم وأولادكم ( ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ما لكم لا ترجون لله وقارا ) قال ابن عباس ومجاهد : لا ترون لله عظمة . وقال سعيد بن جبير : ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته . وقال الكلبي : لا تخافون الله حق عظمته .
و " الرجاء " بمعنى الخوف ، و " الوقار " العظمة اسم من التوقير وهو التعظيم .
قال الحسن : لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة .
قال ابن كيسان : ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيرا . ( وقد خلقكم أطوارا ) تارات حالا بعد حال نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى تمام الخلق . ( ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا ) قال الحسن : يعني في السماء الدنيا كما يقال : أتيت بني تميم ، وإنما أتى بعضهم ، وفلان متوار في دور بني فلان وإنما هو في دار واحدة . وقال عبد الله بن عمرو : إن الشمس والقمر وجوههما إلى السماوات ، وضوء الشمس ونور القمر فيهن وأقفيتهما إلى الأرض . ويروى هذا عن ابن عباس .
( وجعل الشمس سراجا ) مصباحا مضيئا . ( والله أنبتكم من الأرض نباتا ) أراد مبدأ خلق آدم خلقه من الأرض والناس ولده ، وقوله : " نباتا " اسم جعل في موضع المصدر أي إنباتا قال الخليل : مجازه : أنبتكم فنبتم نباتا . ( ثم يعيدكم فيها ) بعد الموت ( ويخرجكم ) منها يوم البعث أحياء ( إخراجا ( والله جعل لكم الأرض بساطا ) فرشها وبسطها لكم .
[ ص: 232 ] ( لتسلكوا منها سبلا فجاجا ( 20 ) قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ( 21 ) ومكروا مكرا كبارا ( 22 ) وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ( 23 ) )
( لتسلكوا منها سبلا فجاجا ) طرقا واسعة . ( قال نوح رب إنهم عصوني ) لم يجيبوا دعوتي ( واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ) يعني : اتبع السفلة والفقراء القادة والرؤساء الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا وعقوبة في الآخرة . ( ومكروا مكرا كبارا ) أي كبيرا عظيما يقال : كبير وكبار بالتخفيف كبار بالتشديد ، كلها بمعنى واحد ، كما يقال : أمر عجيب وعجاب وعجاب بالتشديد وهو أشد في المبالغة .
واختلفوا في معنى مكرهم . قال ابن عباس : قالوا قولا عظيما . وقال الضحاك : افتروا على الله وكذبوا رسله وقيل : منع الرؤساء أتباعهم عن الإيمان بنوح [ وحرضوهم ] على قتله . ( وقالوا ) لهم ( لا تذرن آلهتكم ) أي لا تتركوا عبادتها ( ولا تذرن ودا ) قرأ أهل المدينة بضم الواو والباقون بفتحها ( ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ) هذه أسماء آلهتهم .
قال محمد بن كعب : هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا كان لهم أتباع يقتدون بهم ويأخذون بعدهم بأخذهم في العبادة فجاءهم إبليس وقال لهم : لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ، ففعلوا ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس : إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فعبدوهم ، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك .
وسميت تلك الصور بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صور أولئك القوم من المسلمين .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام عن ابن جريج وقال عطاء عن ابن عباس : صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح [ تعبد ] في العرب [ بعده ] أما ود فكانت [ ص: 233 ] لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبإ وأما يعوق فكانت لهمدان ، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع ذكره في تفسيره .
وروى سفيان عن موسى عن محمد بن قيس قوله تعالى : " ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا " قال : كانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا فى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ، ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت .
وروي عن ابن عباس : أن تلك الأوثان دفنها الطوفان وطمها التراب ، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب ، وكانت للعرب أصنام أخر فاللات كانت لثقيف ، والعزى لسليم وغطفان وجشم ومناة لقديد ، وإساف ونائلة وهبل لأهل مكة .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 04:31 AM
الحلقة (415)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الجن
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 23
( وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا ( 24 ) مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا ( 25 ) )
( وقد أضلوا كثيرا ) أي : ضل بسبب الأصنام كثير من الناس كقوله - عز وجل - : " رب إنهن أضللن كثيرا من الناس " ( إبراهيم - 36 ) وقال مقاتل : أضل كبراؤهم كثيرا من الناس ( ولا تزد الظالمين إلا ضلالا ) هذا دعاء عليهم بعدما أعلم الله نوحا أنهم لا يؤمنون ، وهو قوله : " أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " ( هود - 36 ) . ( مما خطيئاتهم ) أي : من خطيئاتهم و " ما " صلة ، وقرأ أبو عمرو : " خطاياهم " وكلاهما جمع خطيئة ( أغرقوا ) بالطوفان ( فأدخلوا نارا ) قال الضحاك : هي في حالة واحدة في الدنيا يغرقون من جانب ويحترقون من جانب ، وقال مقاتل : فأدخلوا نارا في الآخرة ( فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا ) لم يجدوا أحدا يمنعهم من عذاب الله .
[ ص: 234 ] ( وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ( 26 ) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ( 27 ) رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا ( 28 ) )
( وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) أحدا يدور في الأرض فيذهب ويجيء أصله من الدوران وقال [ ابن قتيبة ] إن أصله من الدار ، أي : نازل دار . ( إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ) قال ابن عباس ، والكلبي ومقاتل : كان الرجل ينطلق بابنه إلى نوح فيقول : احذر هذا فإنه كذاب ، وإن أبي حذرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير عليه ( ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) قال محمد بن كعب ، ومقاتل ، والربيع ، وغيرهم : إنما قال نوح هذا حين أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم وأعقم أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة . [ وقيل سبعين سنة ] وأخبر الله نوحا أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنا فحينئذ دعا عليهم نوح فأجاب الله دعاءه ، وأهلكهم كلهم ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب لأن الله تعالى قال : " وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم " ( الفرقان - 37 ) ولم يوجد التكذيب من الأطفال . ( رب اغفر لي ولوالدي ) واسم أبيه : لمك بن متوشلخ ، واسم أمه : سمحاء بنت أنوش ، وكانا مؤمنين [ وقيل اسمها هيجل بنت لاموش بن متوشلخ فكانت بنت عمه ] ( ولمن دخل بيتي ) داري ( مؤمنا ) وقال الضحاك والكلبي : مسجدي . وقيل : سفينتي ( وللمؤمنين والمؤمنات ) هذا عام في كل من آمن بالله وصدق الرسل ( ولا تزد الظالمين إلا تبارا ) هلاكا ودمارا فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم .
سُورَةُ الْجِنِّ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ( 1 ) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ( 2 ) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ( 3 ) )
( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ) وَكَانُوا تِسْعَةً مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ . وَقِيلَ سَبْعَةٌ اسْتَمَعُوا قِرَاءَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرْنَا خَبَرَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ ( فَقَالُوا ) لَمَّا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بَلِيغًا أَيْ : قُرْآنًا ذَا عَجَبٍ يُعْجَبُ مِنْهُ لِبَلَاغَتِهِ . ( يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ) يَدْعُو إِلَى الصَّوَابِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ ( فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ) قَرَأَ أَهْلُ الشَّامِ وَالْكُوفَةِ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ : " وَأَنَّهُ تَعَالَى " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ إِلَى قَوْلِهِ ( وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهِنَّ ، وَفَتَحَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْهَا " وَأَنَّهُ " وَهُوَ مَا كَانَ مَرْدُودًا [ إِلَى ] الْوَحْيِ وَكَسْرِ مَا كَانَ حِكَايَةً عَنِ الْجِنِّ .
وَالِاخْتِيَارُ كَسْرُ الْكُلِّ لِأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ لِقَوْمِهِمْ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ : " فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا " وَقَالُوا : " وَأَنَّهُ تَعَالَى " .
وَمَنْ فَتَحَ رَدَّهُ عَلَى قَوْلِهِ : " فَآمَنَّا بِهِ " وَآمَنَّا بِكُلِّ ذَلِكَ ; فَفَتَحَ " أَنَّ " لِوُقُوعِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ . [ ص: 238 ]
( جَدُّ رَبِّنَا ) [ جَلَالُ ] رَبِّنَا وَعَظَمَتِهِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ . يُقَالُ : جَدَّ الرَّجُلُ أَيْ : عَظُمَ ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَنَسٍ : كَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَدَّ فِينَا أَيْ : عَظُمَ قَدْرُهُ .
وَقَالَ السُّدِّيُّ : " جَدُّ رَبِّنَا " أَيْ أَمْرُ رَبِّنَا . وَقَالَ الْحَسَنُ : غِنَى رَبِّنَا . وَمِنْهُ قِيلَ لِلْجَدِّ : حَظٌّ وَرَجُلٌ مَجْدُودٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قُدْرَةُ رَبِّنَا . قَالَ الضَّحَّاكُ : فِعْلُهُ .
وَقَالَ الْقُرَظِيُّ : آلَاؤُهُ وَنَعْمَاؤُهُ عَلَى خَلْقِهِ .
وَقَالَ الْأَخْفَشُ : عَلَا مُلْكُ رَبِّنَا ( مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ) قِيلَ : تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ وَعَظَمَتُهُ عَنْ أَنْ يَتَّخِذَ صَاحِبَةً [ أَوْ وَلَدًا ] .
( وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا ( 4 ) وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا ( 5 ) وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ( 6 ) )
( وأنه كان يقول سفيهنا ) جاهلنا قال مجاهد وقتادة : هو إبليس ( على الله شططا ) كذبا وعدوانا وهو وصفه بالشريك والولد . ( وأنا ظننا ) حسبنا ( أن لن تقول الإنس والجن ) قرأ يعقوب " تقول " بفتح الواو وتشديدها ( على الله كذبا ) أي : كنا نظنهم صادقين في قولهم إن لله صاحبة وولدا حتى سمعنا القرآن . قال الله تعالى : ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ) وذلك أن الرجل من العرب في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في أرض قفر ، قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك ، حدثنا أبو القاسم [ عبد الرحمن ] بن محمد بن إسحاق المروزي [ ص: 239 ] حدثنا موسى بن سعيد بن النعمان بطرسوس ، حدثنا فروة بن أبي المغراء الكندي ، حدثنا القاسم بن مالك ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبيه ، عن كردم بن أبي سائب الأنصاري قال : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم ، فوثب الراعي [ فقال ] يا عامر الوادي جارك فنادى مناد لا نراه ، يقول : يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة فأنزل الله - عز وجل - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ) يعني زاد الإنس الجن باستعاذتهم بقادتهم رهقا .
قال ابن عباس : إثما . قال مجاهد : طغيانا . قال مقاتل : غيا . قال الحسن : شرا قال إبراهيم : عظمة وذلك أنهم كانوا يزدادون بهذا التعوذ طغيانا يقولون : سدنا الجن والإنس ، و " الرهق " في كلام العرب : الإثم وغشيان المحارم .
( وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ( 7 ) وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا ( 8 ) وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ( 9 ) )
( وأنهم ظنوا ) يقول الله تعالى : إن الجن ظنوا ( كما ظننتم ) يا معشر الكفار من الإنس ( أن لن يبعث الله أحدا ) بعد موته . ( وأنا ) تقول الجن ( لمسنا السماء ) قال الكلبي : السماء الدنيا ( فوجدناها ملئت حرسا شديدا ) من الملائكة ( وشهبا ) من النجوم . ( وأنا كنا نقعد منها ) من السماء ( مقاعد للسمع ) أي : كنا نستمع ( فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ) أرصد له ليرمى به .
قال ابن قتيبة : إن الرجم كان قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن لم يكن مثل ما كان بعد مبعثه [ ص: 240 ] في شدة الحراسة ، وكانوا يسترقون السمع في بعض الأحوال ، فلما بعث [ النبي - صلى الله عليه وسلم - ] منعوا من ذلك أصلا ثم قالوا :
( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ( 10 ) وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا ( 11 ) وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا ( 12 ) وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ( 13 ) وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا ( 14 ) )
( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض ) برمي الشهب ( أم أراد بهم ربهم رشدا وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك ) دون الصالحين ( كنا طرائق قددا ) أي : جماعات متفرقين وأصنافا مختلفة ، والقدة : القطعة من الشيء ، يقال : صار القوم قددا إذا اختلفت حالاتهم ، وأصلها من القد وهو القطع . قال مجاهد : يعنون : مسلمين وكافرين .
وقيل : [ ذوو ] أهواء مختلفة ، وقال الحسن والسدي : الجن أمثالكم فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة .
وقال ابن كيسان : شيعا وفرقا لكل فرقة هوى كأهواء الناس .
وقال سعيد بن جبير : ألوانا شتى ، وقال أبو عبيدة : أصنافا . ( وأنا ظننا ) علمنا وأيقنا ( أن لن نعجز الله في الأرض ) أي : لن نفوته إن أراد بنا أمرا ( ولن نعجزه هربا ) إن طلبنا . ( وأنا لما سمعنا الهدى ) [ القرآن وما أتى به محمد ] ( آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ) نقصانا من عمله وثوابه ( ولا رهقا ) ظلما . وقيل : مكروها يغشاه . ( وأنا منا المسلمون ) وهم الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ( ومنا القاسطون ) الجائرون العادلون [ ص: 241 ] عن الحق . قال ابن عباس : هم الذين جعلوا لله ندا ، يقال : أقسط الرجل إذا عدل فهو مقسط ، وقسط إذا جار فهو قاسط ( فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا ) أي : قصدوا طريق الحق وتوخوه .
( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ( 15 ) وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ( 16 ) لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا ( 17 ) )
( وأما القاسطون ) الذين كفروا ( فكانوا لجهنم حطبا ) كانوا وقود النار يوم القيامة . ثم رجع إلى كفار مكة فقال : ( وأن لو استقاموا على الطريقة ) اختلفوا في تأويلها فقال قوم : لو استقاموا على طريقة الحق والإيمان والهدى فكانوا مؤمنين مطيعين ( لأسقيناهم ماء غدقا ) كثيرا قال مقاتل : وذلك بعدما رفع عنهم المطر سبع سنين . وقالوا معناه لو آمنوا لوسعنا عليهم في الدنيا وأعطيناهم مالا كثيرا وعيشا رغدا وضرب الماء الغدق مثلا لأن الخير والرزق كله في المطر ، كما قال : ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم الآية ( المائدة - 66 ) وقال : " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء " الآية ( الأعراف - 96 ) . وقوله تعالى : ( لنفتنهم فيه ) أي : لنختبرهم كيف شكرهم فيما خولوا . وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة ومقاتل والحسن .
وقال آخرون : معناها وأن لو استقاموا على طريقة الكفر والضلالة لأعطيناهم مالا كثيرا ولوسعنا عليهم لنفتنهم فيه ، عقوبة لهم واستدراجا حتى يفتتنوا بها فنعذبهم ، وهذا قول الربيع بن أنس وزيد بن أسلم والكلبي وابن كيسان ، كما قال الله : " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء " الآية ( الأنعام - 44 ) .
( ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه ) قرأ أهل الكوفة ويعقوب : " يسلكه " بالياء وقرأ الآخرون بالنون ، أي : ندخله ( عذابا صعدا ) قال ابن عباس : شاقا والمعنى ذا صعد أي : ذا مشقة . قال قتادة : لا راحة فيه . وقال مقاتل : لا فرح فيه . قال الحسن : لا يزداد إلا شدة . والأصل فيه أن الصعود يشق على [ الناس ] .
[ ص: 242 ] ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ( 18 ) وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا ( 19 ) )
( وأن المساجد لله ) يعني المواضع التي بنيت للصلاة وذكر الله ( فلا تدعوا مع الله أحدا ) قال قتادة : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله المؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد وأراد بها المساجد كلها .
وقال الحسن : أراد بها البقاع كلها لأن الأرض جعلت كلها مسجدا للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال سعيد بن جبير : قالت الجن للنبي - صلى الله عليه وسلم - كيف لنا أن [ نأتي المسجد وأن ] نشهد معك الصلاة ونحن ناءون ؟ فنزلت : " وأن المساجد لله " .
وروي عن سعيد بن جبير أيضا : أن المراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها الإنسان وهي سبعة : الجبهة واليدان والركبتان والقدمان ؟ يقول : هذه الأعضاء التي يقع عليها السجود مخلوقة لله فلا تسجدوا عليها لغيره .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب ، حدثنا علي بن الحسن الهلالي والسري بن خزيمة قالا حدثنا يعلى بن أسد ، حدثنا وهيب ، عن عبد الله بن طاووس ، عن أبيه ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء : الجبهة - وأشار بيده إليها - واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا أكف الثوب ولا الشعر " .
فإن جعلت المساجد مواضع الصلاة فواحدها مسجد بكسر الجيم ، وإن جعلتها الأعضاء فواحدها مسجد بفتح الجيم . ( وأنه لما قام عبد الله ) قرأ نافع وأبو بكر بكسر الهمزة ، وقرأ الباقون بفتحها " لما قام عبد الله " [ ص: 243 ] يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ( يدعوه ) يعني يعبده ويقرأ القرآن ، ذلك حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن ( كادوا ) يعني الجن ( يكونون عليه لبدا ) أي يركب بعضهم بعضا ويزدحمون حرصا على استماع القرآن . هذا قول الضحاك ورواية عطية عن ابن عباس .
وقال سعيد بن جبير عنه : هذا من قول النفر الذين رجعوا إلى قومهم من الجن أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - واقتدائهم به في الصلاة .
وقال الحسن وقتادة وابن زيد يعني لما قام عبد الله بالدعوة تلبدت الإنس والجن ، وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاءهم به ، ويطفئوا نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره ، ويتم هذا الأمر ، وينصره على من ناوأه .
وقرأ هشام عن ابن عامر : " لبدا " بضم اللام ، وأصل " اللبد " الجماعات بعضها فوق بعض ، ومنه سمي اللبد الذي يفرش لتراكمه ، وتلبد الشعر : إذا تراكم .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 04:36 AM
الحلقة (416)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ المزمل
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 7
( قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا ( 20 ) قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ( 21 ) قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ( 22 ) إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ( 23 ) )
( قل إنما أدعو ربي ) قرأ أبو جعفر وعاصم وحمزة : " قل " على الأمر ، وقرأ الآخرون : " قال " يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنما أدعو ربي " قال مقاتل : وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد جئت بأمر عظيم فارجع عنه فنحن نجيرك ، فقال لهم : إنما أدعو ربي ( ولا أشرك به أحدا ( قل إني لا أملك لكم ضرا ) لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا ( ولا رشدا ) أي لا أسوق إليكم رشدا أي : خيرا يعني أن الله يملكه . ( قل إني لن يجيرني من الله أحد ) لن يمنعني من أحد إن عصيته ( ولن أجد من دونه ملتحدا ) ملجأ أميل إليه . ومعنى " الملتحد " أي : المائل . قال السدي : حرزا . وقال الكلبي : مدخلا في الأرض مثل السرب . ( إلا بلاغا من الله ورسالاته ) ففيه الجوار والأمن والنجاة ، قاله الحسن . قال مقاتل : ذلك الذي يجيرني من عذاب الله ، يعني التبليغ . وقال قتادة : إلا بلاغا من الله فذلك الذي أملكه بعون [ ص: 244 ] الله وتوفيقه . وقيل : لا أملك لكم ضرا ولا رشدا لكن أبلغ بلاغا من الله فإنما أنا مرسل به لا أملك إلا ما ملكت ( ومن يعص الله ورسوله ) ولم يؤمن ( فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا )
( حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا ( 24 ) قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا ( 25 ) عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ( 26 ) إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ( 27 ) ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا ( 28 ) )
( حتى إذا رأوا ما يوعدون ) يعني العذاب يوم القيامة ( فسيعلمون ) عند نزول العذاب ( من أضعف ناصرا وأقل عددا ) أهم أم المؤمنون . ( قل إن أدري ) [ أي ما أدري ] ( أقريب ما توعدون ) يعني العذاب وقيل القيامة ( أم يجعل له ربي أمدا ) أجلا وغاية تطول مدتها يعني : أن علم وقت العذاب غيب لا يعلمه إلا الله . ( عالم الغيب ) رفع على نعت قوله " ربي " وقيل : هو عالم الغيب ( فلا يظهر ) لا يطلع ( على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) إلا من يصطفيه لرسالته فيظهره على ما يشاء من الغيب لأنه يستدل على نبوته بالآية المعجزة بأن يخبر عن الغيب ( فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ) ذكر بعض الجهات دلالة على جميعها رصدا أي : يجعل بين يديه وخلفه حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين أن يسترقوا السمع ، ومن الجن أن يستمعوا الوحي فيلقوا إلى الكهنة .
قال مقاتل وغيره : كان الله إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة ملك يخبره فيبعث الله من بين يديه ومن خلفه رصدا من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين ، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان ، فاحذره وإذا جاءه ملك قالوا له : هذا رسول ربك . [ ص: 245 ] ( ليعلم ) قرأ يعقوب : " ليعلم " بضم الياء أي ليعلم الناس ( أن ) الرسل ( قد أبلغوا ) وقرأ الآخرون بفتح الياء أي : " ليعلم " الرسول ، أن الملائكة قد أبلغوا ( رسالات ربهم وأحاط بما لديهم ) أي : علم الله ما عند الرسل فلم يخف عليه شيء ( وأحصى كل شيء عددا ) قال ابن عباس : أحصى ما خلق وعرف عدد ما خلق فلم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذر والخردل . ونصب " عددا " على الحال ، وإن شئت على المصدر ، أي عد [ عدا ] .
سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ( 1 ) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ( 2 ) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ( 3 ) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ( 4 ) )
( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) أَيِ الْمُلْتَفِفُ بِثَوْبِهِ . وَأَصْلُهُ : الْمُتَزَمِّلُ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّايِ وَمِثْلُهُ الْمُدَّثِّرُ ، أَيِ : الْمُتَدَثِّرُ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ ، يُقَالُ : تَزَمَّلَ وَتَدَثَّرَ بِثَوْبِهِ إِذَا تَغَطَّى بِهِ .
وَقَالَ السُّدِّيُّ : أَرَادَ يَا أَيُّهَا النَّائِمُ قُمْ فَصَلِّ .
قَالَ [ الْعُلَمَاءُ ] كَانَ هَذَا الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ الْوَحْيِ قَبْلَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ ، ثُمَّ خُوطِبَ بَعْدُ بِالنَّبِيِّ وَالرَّسُولِ . ( قُمِ اللَّيْلَ ) أَيْ لِلصَّلَاةِ ( إِلَّا قَلِيلًا ) وَكَانَ قِيَامُ اللَّيْلِ فَرِيضَةً فِي الِابْتِدَاءِ وَبَيَّنَ قَدْرَهُ فَقَالَ : ( نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ) إِلَى الثُّلُثِ . ( أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ) عَلَى النِّصْفِ إِلَى الثُّلُثَيْنِ ، خَيَّرَهُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَنَازِلِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ يَقُومُونَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَادِيرِ ، وَكَانَ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي مَتَى ثُلْثُ اللَّيْلِ وَمَتَى نِصْفُ اللَّيْلِ وَمَتَى الثُّلْثَانِ ، فَكَانَ [ الرَّجُلُ ] يَقُومُ حَتَّى يُصْبِحَ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَحْفَظَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ ، وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَخَفَّفَ عَنْهُمْ وَنَسَخَهَا بِقَوْلِهِ : فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى " الْآيَةَ . فَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا سَنَةٌ . [ ص: 250 ]
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ الْإِسْفِرَايِي نِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بَشِيرٍ ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ - يَعْنِي ابْنَ أَبِي عَرُوبَةَ - حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ : انْطَلَقْتُ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ : [ أَلَسْتَ ] تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قُلْتُ : بَلَى ، قَالَتْ : فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ الْقُرْآنُ ، قُلْتُ : فَقِيَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَتْ : أَلَسْتَ تَقْرَأُ : " يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ " قُلْتُ : بَلَى ، قَالَتْ : فَإِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ الْقِيَامَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ الْفَرِيضَةِ .
قَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ كَيْسَانَ : كَانَ هَذَا بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ .
( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بَيِّنْهُ بَيَانًا . وَقَالَ الْحَسَنُ : اقْرَأْهُ قِرَاءَةً بَيِّنَةً . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : تَرَسَّلْ فِيهِ تُرْسُّلًا . وَقَالَ قَتَادَةُ : تَثَبَّتْ فِيهِ تَثَبُّتًا . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا : اقْرَأْهُ عَلَى هَيْنَتِكَ ثَلَاثَ آيَاتٍ أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ ، حَدَّثَنَا هُمَامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : كَانَتْ مَدًّا مَدًّا ، ثُمَّ قَرَأَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ الرَّحْمَنَ وَيَمُدُّ الرَّحِيمَ
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا آدَمُ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَرَأَتُ الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ ، فَقَالَ : هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ ؟ لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرِنُ بَيْنَهُنَّ ، فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ سُورَتَيْنِ [ مَنْ آلِ حَامِيمَ ] [ ص: 251 ] فِي [ كُلِّ ] رَكْعَةٍ .
أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ مَثْوَيْهِ ، أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِيِّ الْحَرَّانَيُّ فِيمَا كَتَبَهُ إِلَيَّ [ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْآجُرِيُّ ] أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْوَاسِطِيُّ ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ - قَالَ : لَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقْلِ وَلَا تَهْذُّوهُ هَذَّ الشِّعْرِ ، قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ .
أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ مَثْوَيْهِ ، أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْحَرَّانَيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْآجُرِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ ، ح ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ وَهُوَ أَخُوهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ نَقْرَأُ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ كِتَابُ اللَّهِ وَاحِدٌ وَفِيكُمُ الْأَخْيَارُ وَفِيكُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ اقْرَءُوا [ الْقُرْآنَ ] قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَهُ ، يُقِيمُونَ حُرُوفَهُ كَمَا يُقَامُ السَّهْمُ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، يَتَعَجَّلُونَ أَخِرَهُ وَلَا يَتَأَجَّلُونَه ُ " .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ نَافِعٍ الْبَصْرِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيِّ ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَيْلَةً . [ ص: 252 ]
وَرَوَاهُ أَبُو ذَرٍّ ، قَالَ : قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ بِآيَةٍ [ مِنَ الْقُرْآنِ ] وَالْآيَةُ : " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " ( الْمَائِدَةِ - 118 ) .
( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ( 5 ) )
( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : شديدا . قال الحسن : إن الرجل ليهذ السورة ولكن العمل بها ثقيل .
وقال قتادة : ثقيل والله فرائضه وحدوده . وقال مقاتل : ثقيل لما فيه من الأمر والنهي والحدود .
وقال أبو العالية : ثقيل بالوعد والوعيد والحلال والحرام . وقال محمد بن كعب : ثقيل على المنافقين .
وقال الحسين بن الفضل : قولا خفيفا على اللسان ثقيلا في الميزان .
قال الفراء : ثقيل ليس بخفيف السفساف لأنه كلام ربنا .
وقال ابن زيد : هو والله ثقيل مبارك ، كما ثقل في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن هشام بن عروة عن [ أبيه ] عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - [ أن الحارث بن هشام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أحيانا يأتيني [ في ] مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول " . قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه [ ص: 253 ] الوحي في اليوم الشاتي الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا .
( إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا ( 6 ) )
قوله - عز وجل - : ( إن ناشئة الليل ) أي : ساعاته كلها وكل ساعة منه ناشئة ، سميت بذلك لأنها تنشأ أي : تبدو ، ومنه : نشأت السحابة إذا بدت ، فكل ما حدث بالليل وبدا فقد نشأ فهو ناشئ ، والجمع ناشئة .
وقال ابن أبي مليكة : سألت ابن عباس وابن الزبير عنها فقالا الليل كله ناشئة وقال سعيد بن جبير وابن زيد : أي : ساعة قام من الليل فقد نشأ وهو بلسان الحبش [ القيام يقال ] نشأ فلان أي : قام .
وقالت عائشة : الناشئة القيام بعد النوم .
وقال ابن كيسان : هي القيام من آخر الليل .
وقال عكرمة : هي القيام من أول الليل .
روي عن علي بن الحسين أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء ، ويقول : هذه ناشئة الليل . وقال الحسن : كل صلاة بعد العشاء الآخرة فهي ناشئة من الليل .
وقال الأزهري : " ناشئة الليل " قيام الليل ، مصدر جاء على فاعلة كالعافية بمعنى العفو .
( هي أشد وطئا ) قرأ ابن عامر [ وأبو عمرو ] وطاء بكسر الواو ممدودا بمعنى المواطأة والموافقة ، يقال : واطأت فلانا مواطأة ووطئا ، إذا وافقته ، وذلك أن مواطأة القلب والسمع والبصر واللسان بالليل تكون أكثر مما يكون بالنهار .
وقرأ الآخرون : [ وطئا ] بفتح الواو وسكون الطاء ، أي : أشد على المصلي وأثقل من صلاة النهار لأن الليل للنوم والراحة ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم اشدد وطأتك على مضر " . [ ص: 254 ]
وقال ابن عباس : كانت صلاتهم أول الليل هي أشد وطئا يقول هي أجدر أن تحصوا ما فرض الله عليكم من القيام ، وذلك أن الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ .
وقال قتادة : أثبت في الخير وأحفظ للقراءة .
وقال الفراء : أثبت قياما أي : أوطأ للقيام وأسهل للمصلي من ساعات النهار لأن النهار خلق لتصرف العباد ، والليل للخلوة فالعبادة فيه أسهل . وقيل : أشد نشاطا .
وقال ابن زيد : أفرغ له قلبا من النهار لأنه لا تعرض له حوائج .
وقال الحسن : أشد وطئا للخير وأمنع من الشيطان .
( وأقوم قيلا ) وأصوب قراءة وأصح قولا لهدأة الناس وسكون الأصوات .
وقال الكلبي : أبين قولا بالقرآن .
وفي الجملة : عبادة الليل أشد نشاطا وأتم إخلاصا وأكثر بركة وأبلغ في الثواب [ من عبادة النهار ] .
( إن لك في النهار سبحا طويلا ( 7 ) )
( إن لك في النهار سبحا طويلا ) أي : تصرفا وتقلبا وإقبالا وإدبارا في حوائجك وأشغالك ، وأصل " السبح " سرعة الذهاب ، ومنه السباحة في الماء وقيل : " سبحا طويلا " أي : فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك فصل من الليل .
وقرأ يحيى بن يعمر " سبخا " بالخاء المعجمة أي : استراحة وتخفيفا للبدن ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة ، وقد دعت على سارق : " لا تسبخي عنه بدعائك عليه " [ أي : لا تخففي ] .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 04:40 AM
الحلقة (417)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ المدثر
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 12
[ ص: 255 ] ( واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ( 8 ) رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ( 9 ) واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ( 10 ) وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا ( 11 ) إن لدينا أنكالا وجحيما ( 12 ) وطعاما ذا غصة وعذابا أليما ( 13 ) يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا ( 14 ) )
( واذكر اسم ربك ) بالتوحيد والتعظيم ( وتبتل إليه تبتيلا ) قال ابن عباس وغيره : أخلص إليه إخلاصا . وقال الحسن : اجتهد . وقال ابن زيد : تفرغ لعبادته . قال سفيان : توكل عليه توكلا . وقيل : انقطع إليه في العبادة انقطاعا وهو الأصل في الباب ، يقال : تبتلت الشيء أي : قطعته وصدقة بتة : أي : مقطوعة عن صاحبها لا سبيل له عليها والتبتيل : [ التقطيع ] تفعيل منه يقال : بتلته فتبتل ، والمعنى : بتل نفسك إليه ، ولذلك قال : تبتيلا . قال زيد بن أسلم : التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله تعالى . ( رب المشرق والمغرب ) قرأ أهل الحجاز ، وأبو عمرو وحفص : " رب " برفع الباء على الابتداء ، وقرأ الآخرون بالجر على نعت الرب في قوله : " واذكر اسم ربك " ( لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) قيما بأمورك ففوضها إليه . ( واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ) نسختها آية القتال . ( وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا ) نزلت في صناديد قريش المستهزئين . وقال مقاتل بن حيان : نزلت في المطعمين ببدر ولم يكن إلا يسير حتى قتلوا ببدر . ( إن لدينا ) عندنا في الآخرة ( أنكالا ) قيودا عظاما لا تنفك أبدا واحدها نكل . قال الكلبي : أغلالا من حديد ( وجحيما ( وطعاما ذا غصة ) غير سائغة يأخذ بالحلق لا ينزل ولا يخرج وهو الزقوم والضريع . ( وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال ) أي : تتزلزل وتتحرك ( وكانت الجبال كثيبا مهيلا ) [ ص: 256 ] رملا سائلا . قال الكلبي : هو الرمل الذي إذا أخذت منه شيئا تبعك ما بعده ، يقال أهلت الرمل أهيله هيلا إذا حركت أسفله حتى انهال من أعلاه .
( إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ( 15 ) فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا ( 16 ) فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا ( 17 ) السماء منفطر به كان وعده مفعولا ( 18 ) إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ( 19 ) إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ( 20 ) )
( إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ) .
( فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا ) ، شديدا ثقيلا يعني عاقبناه عقوبة غليظة يخوف كفار مكة . ( فكيف تتقون إن كفرتم ) أي : كيف لكم بالتقوى يوم القيامة إذ كفرتم في الدنيا يعني لا سبيل لكم إلى التقوى إذا وافيتم يوم القيامة ؟ وقيل : معناه كيف تتقون العذاب يوم القيامة وبأي شيء تتحصنون منه إذا كفرتم ؟ ( يوما يجعل الولدان شيبا ) شمطا من هوله وشدته ، ذلك حين يقال لآدم قم فابعث بعث النار من ذريتك . ثم وصف هول ذلك اليوم فقال : ( السماء منفطر به ) متشقق لنزول الملائكة به أي : بذلك المكان . وقيل : الهاء ترجع إلى الرب أي : بأمره وهيبته ( كان وعده مفعولا ) كائنا . ( إن هذه ) أي : آيات القرآن ( تذكرة ) تذكير وموعظة ( فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ) بالإيمان والطاعة . ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى ) أقل من ( ثلثي الليل ونصفه وثلثه ) قرأ أهل مكة والكوفة : " نصفه وثلثه " بنصب الفاء والثاء وإشباع الهاءين ضما أي : وتقوم نصفه وثلثه وقرأ الآخرون بجر الفاء والثاء وإشباع الهاءين كسرا عطفا على ثلثي ( وطائفة من الذين معك ) يعني المؤمنين وكانوا يقومون معه ( والله يقدر الليل والنهار ) قال عطاء : يريد لا يفوته علم ما تفعلون ، أي أنه يعلم مقادير الليل والنهار فيعلم القدر الذي تقومون من الليل ( علم أن لن تحصوه ) [ ص: 257 ] قال الحسن : قاموا حتى انتفخت أقدامهم ، فنزل : " علم أن لن تحصوه " لن تطيقوا معرفة ذلك . وقال مقاتل : كان الرجل يصلي الليل كله ، مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام ، فقال : علم أن لن تحصوه لن تطيقوا معرفة ذلك . ( فتاب عليكم ) فعاد عليكم بالعفو والتخفيف ( فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) يعني في الصلاة ، قال الحسن : يعني في صلاة المغرب والعشاء .
قال قيس بن أبي حازم : صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أول ركعة بالحمد وأول آية من البقرة [ ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ] ثم ركع فلما انصرف أقبل علينا فقال : إن الله - عز وجل - يقول : فاقرءوا ما تيسر [ منه ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا عثمان بن أبي صالح ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثني حميد بن مخراق ، عن أنس بن مالك أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من قرأ خمسين آية في يوم أو في ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية لم يحاجه القرآن يوم القيامة ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني القاسم بن زكريا حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان ، عن يحيى [ بن كثير ] عن محمد [ عبد الله ] بن عبد الرحمن مولى بني زهرة عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اقرأ القرآن في كل شهر " قال قلت : إني أجد قوة ، قال : " فاقرأه في [ كل ] عشرين ليلة " قال قلت : إني أجد قوة ، قال : " فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك " . [ ص: 258 ]
قوله - عز وجل - : ( علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ) يعني المسافرين للتجارة يطلبون من رزق الله ( وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) لا يطيقون قيام الليل .
روى إبراهيم عن ابن مسعود قال : أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء ثم قرأ عبد الله : " وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله " [ يعني المسافرين للتجارة يطلبون رزق الله ] " وآخرون يقاتلون في سبيل الله " .
( فاقرءوا ما تيسر منه ) أي [ ما تيسر عليكم ] من القرآن . [ قال أهل التفسير ] كان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بالصلوات الخمس ، وذلك قوله : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا ) قال ابن عباس : يريد ما سوى الزكاة من صلة الرحم ، وقرى الضيف . ( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا ) تجدوا ثوابه في الآخرة أفضل مما أعطيتم ( وأعظم أجرا ) من الذي أخرتم ولم تقدموه ، ونصب " خيرا وأعظم " على المفعول الثاني ، فإن الوجود إذا كان بمعنى الرؤية يتعدى إلى مفعولين ، وهو فصل في قول البصريين وعماد في قول الكوفيين لا محل لها في الإعراب .
أخبرنا أبو القاسم يحيى بن علي الكشميهني ، أخبرنا أبو نصر أحمد بن علي البخاري بالكوفة ، أخبرنا أبو القاسم نصر بن أحمد الفقيه بالموصل ، حدثنا أبو يعلى الموصلي ، حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن الحارث بن سويد قال : قال عبد الله : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه " ؟ قالوا : يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه . قال : " اعلموا ما تقولون " قالوا : ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله ، قال [ : " ما منكم [ ص: 259 ] رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله " قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال ] " إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر " .
( واستغفروا الله ) لذنوبكم ( إن الله غفور رحيم ) .
سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ( 1 ) )
[ ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) ] ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ : سَأَلَتُ أَبَا سَلَمَةَ [ بْنَ ] عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ ؟ قَالَ : " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ " قُلْتُ : يَقُولُونَ : " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ " ( الْعَلَقِ - 1 ) ؟ فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ : سَأَلَتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ ، فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِي قُلْتَ ، فَقَالَ جَابِرٌ : لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، قَالَ : " جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ ، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ عَنْ شَمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ : دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا [ قَالَ ] فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا قَالَ فَنَزَلَتْ : " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ " .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : سَمِعْتُ أَبَا [ ص: 264 ] سَلَمَةَ قَالَ : أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ : " فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصْرِي قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَخَشِيتُ حَتَّى هَوَيْتُ عَلَى الْأَرْضِ ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ : زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي [ فَزَمَّلُونِي ] فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ " إِلَى قَوْلِهِ : " فَاهْجُرْ " قَالَ أَبُو سَلَمَةَ : وَالرِّجْزُ الْأَوْثَانُ ، ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ " .
( قُمْ فَأَنْذِرْ ( 2 ) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ( 3 ) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ( 4 ) )
قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) أَيْ : أَنْذِرْ كُفَّارَ مَكَّةَ . ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) عَظِّمْهُ عَمَّا يَقُولُهُ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ . ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ : نَفْسَكَ فَطَهِّرْ [ عَنِ الذَّنْبِ ] فَكَنَّى عَنِ النَّفْسِ بِالثَّوْبِ ، وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَالضَّحَّاكِ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ : سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ : " وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ " فَقَالَ : لَا تَلْبَسْهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَا عَلَى غَدْرٍ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ غِيلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ :
وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ
وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي وَصْفِ الرَّجُلِ بِالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ : إِنَّهُ طَاهِرُ الثِّيَابِ ، وَتَقُولُ لِمَنْ غَدَرَ : إِنَّهُ لَدَنِسُ الثِّيَابِ . وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ : لَا تَلْبَسْهَا عَلَى غَدْرٍ وَلَا عَلَى ظُلْمٍ وَلَا إِثْمٍ ، الْبَسْهَا وَأَنْتَ بَرٌّ [ جَوَادٌ ] طَاهِرٌ .
وَرَوَى أَبُو رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ مَعْنَاهُ : وَعَمَلَكَ فَأَصْلِحْ .
قَالَ السُّدِّيُّ : يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ صَالِحًا : إِنَّهُ لَطَاهِرُ الثِّيَابِ ، وَإِذَا كَانَ فَاجِرًا إِنَّهُ لَخَبِيثُ الثِّيَابُ . [ ص: 265 ]
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : وَقَلْبَكَ وَنِيَّتَكَ فَطَهِّرْ . وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْقُرَظِيُّ : وَخُلُقَكَ فَحَسِّنْ .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ زَيْدٍ : أَمَرَ بِتَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الَّتِي لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَهَا وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ [ كَانُوا ] لَا يَتَطَهَّرُونَ وَلَا يُطَهِّرُونَ ثِيَابَهُمْ .
وَقَالَ طَاوُوسٌ : وَثِيَابَكَ فَقَصِّرْ لِأَنَّ تَقْصِيرَ الثِّيَابِ طُهْرَةٌ لَهَا .
( والرجز فاهجر ( 5 ) ولا تمنن تستكثر ( 6 ) )
( والرجز فاهجر ) قرأ أبو جعفر وحفص [ عن عاصم ] ويعقوب : " والرجز " بضم الراء ، وقرأ الآخرون بكسرها وهما لغتان ومعناهما واحد . قال مجاهد وعكرمة وقتادة والزهري وابن زيد وأبو سلمة : المراد بالرجز الأوثان ، قال : فاهجرها ولا تقربها .
وقيل : الزاي فيه منقلبة عن السين والعرب تعاقب بين السين والزاي لقرب مخرجهما ودليل هذا التأويل قوله : " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " ( الحج - 30 ) .
وروي عن ابن عباس أن معناه : اترك المآثم .
وقال أبو العالية والربيع : " الرجز " بضم الراء : الصنم ، وبالكسر : النجاسة والمعصية .
وقال الضحاك : يعني الشرك . وقال الكلبي : يعني العذاب .
ومجاز الآية : اهجر ما أوجب لك العذاب من الأعمال . ( ولا تمنن تستكثر ) أي : لا تعط مالك مصانعة لتعطى أكثر منه ، هذا قول أكثر المفسرين قال الضحاك ومجاهد : كان هذا للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة . قال الضحاك : هما رباءان حلال وحرام ، فأما الحلال فالهدايا وأما الحرام فالربا . قال قتادة : لا تعط شيئا طمعا لمجازاة الدنيا يعني أعط لربك وأرد به الله . وقال الحسن : معناه لا تمنن على الله بعملك فتستكثره ، قال الربيع : لا تكثرن عملك في عينك فإنه فيما أنعم الله عليك وأعطاك قليل . وروى خصيف عن مجاهد : ولا تضعف أن تستكثر من الخير ، من قولهم : حبل متين إذا كان ضعيفا دليله : قراءة ابن مسعود : " ولا تمنن أن تستكثر " قال [ ابن ] زيد معناه : لا تمنن بالنبوة على الناس فتأخذ عليها أجرا [ ص: 266 ] أو عرضا من الدنيا .
( ولربك فاصبر ( 7 ) فإذا نقر في الناقور ( 8 ) فذلك يومئذ يوم عسير ( 9 ) على الكافرين غير يسير ( 10 ) ذرني ومن خلقت وحيدا ( 11 ) وجعلت له مالا ممدودا ( 12 ) )
[ ( ولربك فاصبر ) قيل : فاصبر على طاعته وأوامره ونواهيه لأجل ثواب الله . قال مجاهد : فاصبر لله على ما أوذيت . وقال ابن زيد : ] معناه حملت أمرا عظيما محاربة العرب والعجم فاصبر عليه لله - عز وجل - . وقيل : فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله . ( فإذا نقر في الناقور ) أي : نفخ في الصور ، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ، يعني النفخة الثانية . ( فذلك ) يعني النفخ في الصور ( يومئذ ) يعني يوم القيامة ( يوم عسير ) شديد . ( على الكافرين ) يعسر فيه الأمر عليهم ( غير يسير ) غير هين . قوله - عز وجل - : ( ذرني ومن خلقت وحيدا ) أي : خلقته في بطن أمه وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد . نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، كان يسمى الوحيد في قومه . ( وجعلت له مالا ممدودا ) أي : كثيرا . قيل : هو ما يمد بالنماء كالزرع والضرع والتجارة . واختلفوا في مبلغه ، قال مجاهد وسعيد بن جبير : ألف دينار . وقال قتادة : أربعة آلاف دينار . وقال سفيان الثوري : ألف ألف [ دينار ] . وقال ابن عباس : تسعة آلاف مثقال فضة . وقال مقاتل : كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره شتاء ولا صيفا . وقال عطاء عن ابن عباس : كان له بين مكة والطائف إبل وخيل ونعم [ وغنم ] وكان له عير كثيرة وعبيد وجوار . وقيل : مالا ممدودا غلة شهر بشهر .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 04:44 AM
الحلقة (418)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ المدثر
مَكِّيَّةٌ
الاية 13 إلى الاية 48
[ ص: 267 ] ( وبنين شهودا ( 13 ) ومهدت له تمهيدا ( 14 ) ثم يطمع أن أزيد ( 15 ) كلا إنه كان لآياتنا عنيدا ( 16 ) سأرهقه صعودا ( 17 ) )
( وبنين شهودا ) حضورا بمكة لا يغيبون عنه وكانوا عشرة ، قاله مجاهد وقتادة . وقال مقاتل : كانوا سبعة وهم الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس ، أسلم منهم [ ثلاثة ] خالد وهشام و [ عمارة ] . ( ومهدت له تمهيدا ) أي : بسطت له في العيش وطول العمر بسطا . وقال الكلبي : يعني المال بعضه على بعض كما يمهد الفرش . ( ثم يطمع ) يرجو ( أن أزيد ) أي أن أزيده مالا وولدا وتمهيدا . ( كلا ) لا أفعل ولا أزيده ، قالوا : فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك . ( إنه كان لآياتنا عنيدا ) معاندا . ( سأرهقه صعودا ) سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيها .
وروينا عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الصعود جبل من نار يتصعد فيه [ الكافر ] سبعين خريفا ثم يهوي " .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا عمر بن الخطاب ، حدثنا عبد الله بن الفضل ، أخبرنا منجاب بن الحارث ، أخبرنا شريك ، عن عمار الدهني ، عن عطية ، عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : " سأرهقه صعودا " قال : " هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده ذابت [ فإذا رفعها عادت فإذا وضع رجله ذابت [ ص: 268 ] وإذا رفعها عادت ] "
وقال الكلبي : " الصعود " صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها لا يترك أن يتنفس في صعوده ، ويجذب من أمامه بسلاسل من حديد ، ويضرب من خلفه بمقامع من حديد ، فيصعدها في أربعين عاما فإذا بلغ ذروتها أحدر إلى أسفلها ثم يكلف أن يصعدها ويجذب من أمامه ويضرب من خلفه فذلك دأبه أبدا [ أبدا ] .
( إنه فكر وقدر ( 18 ) )
( إنه فكر وقدر ) الآيات ، وذلك أن الله تعالى لما أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم إلى قوله : المصير ( غافر : 1 - 3 ) قام النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته ، فلما فطن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاستماعه لقراءته [ القرآن ] أعاد قراءة الآية ، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم ، فقال : [ والله ] لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه [ لمثمر ] وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى ، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش : [ سحره محمد ] [ صبأ والله الوليد ، والله لتصبون قريش كلهم ، وكان يقال للوليد : ريحانة قريش ] فقال لهم أبو جهل : أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزينا ، فقال له الوليد : مالي أراك حزينا يا ابن أخي ؟ قال : وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك النفقة يعينونك على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد وتدخل على ابن أبي كبشة ، وابن أبي قحافة ، لتنال من فضل طعامهم فغضب الوليد ، فقال : ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالا وولدا ، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون [ ص: 269 ] لهم فضل من الطعام ؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه ، فقال لهم : تزعمون أن محمدا مجنون ، فهل رأيتموه يخنق قط ؟ قالوا : اللهم لا قال : تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه قط تكهن ؟ قالوا : اللهم لا قال : تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط ؟ قالوا : اللهم لا قال : تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب ؟ قالوا : لا - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمى الأمين قبل النبوة ، من صدقه - فقالت قريش للوليد : فما هو ؟ فتفكر في نفسه ثم نظر ثم عبس ، فقال : ما هو إلا ساحر ، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ومواليه وولده ؟ فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر فذلك قوله - عز وجل - : ( إنه فكر ) في محمد والقرآن ( وقدر ) في نفسه ماذا يمكنه أن يقول في محمد والقرآن .
( فقتل كيف قدر ( 19 ) ثم قتل كيف قدر ( 20 ) ثم نظر ( 21 ) ثم عبس وبسر ( 22 ) ثم أدبر واستكبر ( 23 ) فقال إن هذا إلا سحر يؤثر ( 24 ) إن هذا إلا قول البشر ( 25 ) سأصليه سقر ( 26 ) )
( فقتل ) لعن ، وقال الزهري : عذب ، ( كيف قدر ) على طريق التعجب والإنكار والتوبيخ . ( ثم قتل كيف قدر ) كرره للتأكيد ، وقيل : معناه لعن على أي حال قدر من الكلام ، كما يقال لأضربنه كيف صنع أي على أي حال صنع . ( ثم نظر ) في طلب ما يدفع به القرآن ويرده . ( ثم عبس وبسر ) كلح وقطب وجهه ونظر بكراهية شديدة كالمهتم المتفكر في شيء . ( ثم أدبر ) عن الإيمان ( واستكبر ) تكبر حين دعي إليه . ( فقال إن هذا ) ما هذا الذي يقرؤه محمد ( إلا سحر يؤثر ) يروى ويحكى عن السحرة . ( إن هذا إلا قول البشر ) يعني يسارا وجبرا فهو يأثره عنهما . وقيل : يرويه عن مسيلمة صاحب اليمامة . قال الله تعالى ( سأصليه ) سأدخله ( سقر ) وسقر اسم من أسماء جهنم .
[ ص: 270 ] ( وما أدراك ما سقر ( 27 ) لا تبقي ولا تذر ( 28 ) لواحة للبشر ( 29 ) عليها تسعة عشر ( 30 ) )
( وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر ) أي لا تبقي ولا تذر فيها شيئا إلا أكلته وأهلكته . وقال مجاهد : لا تميت ولا تحيي يعني لا تبقي من فيها حيا ولا تذر من فيها ميتا كلما احترقوا جددوا . وقال السدي : لا تبقي لهم لحما ولا تذر لهم عظما . وقال الضحاك : إذا أخذت فيهم لم تبق منهم شيئا وإذا أعيدوا لم تذرهم حتى تفنيهم ولكل شيء ملالة وفترة إلا لجهنم . ( لواحة للبشر ) مغيرة للجلد حتى تجعله أسود ، يقال : لاحه السقم والحزن إذا غيره ، وقال مجاهد : تلفح الجلد حتى تدعه أشد سوادا من الليل . وقال ابن عباس وزيد بن أسلم : محرقة للجلد . وقال الحسن وابن كيسان : تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانا نظيره قوله : " وبرزت الجحيم للغاوين " ( الشعراء - 91 ) و ( لواحة ) رفع على نعت " سقر " في قوله : " وما أدراك ما سقر " و " البشر " جمع بشرة وجمع البشر أبشار . ( عليها تسعة عشر ) [ أي : على ] النار تسعة عشر من الملائكة ، وهم خزنتها : مالك ومعه ثمانية عشر . وجاء في الأثر : أعينهم كالبرق الخاطف ، وأنيابهم كالصياصي ، يخرج لهب النار من أفواههم ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة ، نزعت منهم الرحمة ، يرفع أحدهم سبعين ألفا فيرميهم حيث أراد من جهنم .
قال عمرو بن دينار : إن واحدا منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر .
قال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك : لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يخبر أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ، أي : الشجعان ، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من خزنة جهنم قال أبو [ الأشد ] أسيد بن كلدة بن خلف الجمحي : أنا أكفيكم منهم سبعة عشر ، عشرة على ظهري وسبعة على بطني ، فاكفوني أنتم اثنين .
وروي أنه قال : أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي [ ص: 271 ] الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة . فأنزل الله - عز وجل - ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) .
( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر ( 31 ) كلا والقمر ( 32 ) والليل إذ أدبر ( 33 ) والصبح إذا أسفر ( 34 ) )
( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) لا رجالا آدميين ، فمن ذا يغلب الملائكة ؟ ( وما جعلنا عدتهم ) أي عددهم في القلة ( إلا فتنة للذين كفروا ) أي ضلالة لهم حتى قالوا ما قالوا ( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ) لأنه مكتوب في التوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر ، ( ويزداد الذين آمنوا إيمانا ) يعني من آمن من أهل الكتاب يزدادون تصديقا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إذا وجدوا ما قاله موافقا لما في كتبهم ( ولا يرتاب ) ولا يشك ( الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ) في عددهم ( وليقول الذين في قلوبهم مرض ) شك ونفاق ( والكافرون ) [ مشركو مكة ] ( ماذا أراد الله بهذا مثلا ) أي شيء أراد بهذا الحديث ؟ وأراد بالمثل الحديث نفسه . ( كذلك ) أي كما أضل الله من أنكر عدد الخزنة وهدى من صدق كذلك ( يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو ) قال مقاتل : هذا جواب أبي جهل حين قال : أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر ؟ قال عطاء : ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار ، لا يعلم عدتهم إلا الله ، والمعنى إن تسعة عشر هم خزنة النار ، ولهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلم إلا الله - عز وجل - ، ثم رجع إلى ذكر سقر فقال : ( وما هي ) يعني [ سقر ] ( إلا ذكرى للبشر ) إلا تذكرة وموعظة للناس . ( كلا والقمر ) هذا قسم ، يقول : حقا . ( والقمر والليل إذ أدبر ) قرأ نافع وحمزة وحفص ويعقوب " إذ " بغير ألف ، " أدبر " بالألف ، وقرأ الآخرون " إذا " بالألف " دبر " بلا ألف ، لأنه أشد موافقة لما يليه ، وهو قوله : [ ص: 272 ] ( والصبح إذا أسفر ) ولأنه ليس في القرآن قسم بجانبه إذ وإنما بجانب الإقسام إذا [ ودبر وأدبر ] كلاهما لغة ، يقال : دبر الليل وأدبر إذا ولى ذاهبا . قال أبو عمرو : دبر لغة قريش ، وقال قطرب : دبر أي أقبل ، تقول العرب : دبرني فلان أي جاء خلفي ، فالليل يأتي خلف النهار .
( والصبح إذا أسفر ) أضاء وتبين .
( إنها لإحدى الكبر ( 35 ) نذيرا للبشر ( 36 ) لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ( 37 ) كل نفس بما كسبت رهينة ( 38 ) إلا أصحاب اليمين ( 39 ) )
( إنها لإحدى الكبر ) يعني أن سقر لإحدى الأمور العظام ، وواحد الكبر : كبرى ، قال مقاتل والكلبي : أراد بالكبر : دركات جهنم ، وهي سبعة : جهنم ، ولظى ، والحطمة ، والسعير ، وسقر ، والجحيم ، والهاوية . ( نذيرا للبشر ) يعني النار نذيرا للبشر ، قال الحسن : والله ما أنذر الله بشيء أدهى منها ، وهو نصب على القطع من قوله : " لإحدى الكبر " لأنها معرفة ، و " نذيرا " نكرة ، قال الخليل : النذير مصدر كالنكير ، ولذلك وصف به المؤنث ، وقيل : هو من صفة الله سبحانه وتعالى ، مجازه : وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة نذيرا للبشر أي إنذارا لهم . قال أبو رزين يقول أنا لكم منها نذير ، فاتقوها . وقيل : هو صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - معناه : يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر ، [ فأنذر ] وهذا معنى قول ابن زيد . ( لمن شاء ) بدل من قوله " للبشر " ( منكم أن يتقدم ) في الخير والطاعة ( أو يتأخر ) عنها في الشر والمعصية ، والمعنى : أن الإنذار قد حصل لكل واحد ممن آمن أو كفر . ( كل نفس بما كسبت رهينة ) مرتهنة في النار بكسبها مأخوذة بعملها . ( إلا أصحاب اليمين ) فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم في النار ولكن يغفرها الله لهم . قال قتادة : علق الناس كلهم إلا أصحاب اليمين . واختلفوا فيهم : روي عن علي - رضي الله عنه - أنهم أطفال المسلمين .
وروى أبو ظبيان عن ابن عباس : هم الملائكة . [ ص: 273 ]
وقال مقاتل : هم أصحاب الجنة الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق ، حين قال الله لهم : هؤلاء في الجنة ولا أبالي . وعنه أيضا : هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم ، وعنه أيضا : هم الذين كانوا ميامين على أنفسهم .
وقال الحسن : هم المسلمون المخلصون . وقال [ القاسم ] كل نفس مأخوذة بكسبها من خير أو شر إلا من اعتمد على الفضل ، وكل من اعتمد على الكسب فهو رهين به ، ومن اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ به .
( في جنات يتساءلون ( 40 ) عن المجرمين ( 41 ) ما سلككم في سقر ( 42 ) قالوا لم نك من المصلين ( 43 ) ولم نك نطعم المسكين ( 44 ) وكنا نخوض مع الخائضين ( 45 ) وكنا نكذب بيوم الدين ( 46 ) حتى أتانا اليقين ( 47 ) فما تنفعهم شفاعة الشافعين ( 48 ) )
( في جنات يتساءلون عن المجرمين ) المشركين . ( ما سلككم ) أدخلكم ( في سقر ) فأجابوا ( قالوا لم نك من المصلين ) [ لله ] ( ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض ) في الباطل ( مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين ) وهو الموت . قال الله - عز وجل - ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) قال ابن مسعود : تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين ، فلا يبقى في النار إلا أربعة ، ثم تلا " قالوا لم نك من المصلين " إلى قوله : ( بيوم الدين ) قال عمران بن الحصين : الشفاعة نافعة لكل واحد دون هؤلاء الذين تسمعون .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي ، حدثنا محمد بن حماد ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصف أهل النار فيعذبون قال : " فيمر فيهم الرجل من أهل الجنة فيقول الرجل [ ص: 274 ] منهم يا فلان قال فيقول : ما تريد فيقول : أما تذكر رجلا سقاك شربة يوم كذا وكذا ؟ قال فيقول : وإنك لأنت هو ؟ فيقول : نعم ، فيشفع له فيشفع فيه . قال : ثم يمر بهم الرجل من أهل الجنة فيقول : يا فلان ، فيقول : ما تريد ؟ فيقول : أما تذكر رجلا وهب لك وضوءا يوم كذا وكذا ؟ فيقول : إنك لأنت هو ؟ فيقول : نعم فيشفع له فيشفع فيه " .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 04:48 AM
الحلقة (419)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ القيامة
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 16
( فما لهم عن التذكرة معرضين ( 49 ) كأنهم حمر مستنفرة ( 50 ) فرت من قسورة ( 51 ) بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ( 52 ) )
( فما لهم عن التذكرة معرضين ) مواعظ القرآن ( معرضين ) نصب على الحال ، وقيل صاروا معرضين . ( كأنهم حمر ) جمع حمار ( مستنفرة ) قرأ أهل المدينة والشام بفتح الفاء ، وقرأ الباقون بكسرها ، فمن قرأ بالفتح فمعناها منفرة مذعورة ، ومن قرأ بالكسر فمعناها نافرة ، يقال : نفر واستنفر بمعنى واحد ، كما يقال عجب واستعجب . ( فرت من قسورة ) قال مجاهد وقتادة والضحاك : " القسورة " : الرماة ، لا واحد لها من لفظها ، وهي رواية عطاء عن ابن عباس ، وقال سعيد بن جبير : هم القناص وهي رواية عطية عن ابن عباس .
وقال زيد بن أسلم : [ هم ] رجال أقوياء ، وكل ضخم شديد عند العرب : قسور وقسورة . وعن أبي المتوكل قال : هي لغط القوم وأصواتهم . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : هي حبال الصيادين .
وقال أبو هريرة : هي الأسد ، وهو قول عطاء والكلبي ، وذلك أن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت ، كذلك هؤلاء المشركين إذا سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن هربوا منه .
قال عكرمة : هي ظلمة الليل ، ويقال لسواد أول الليل قسورة . ( بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ) قال المفسرون : إن كفار قريش قالوا [ ص: 275 ] لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك لرسوله نؤمر فيه باتباعك .
قال الكلبي : إن المشركين قالوا : يا محمد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا عند رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك " والصحف " الكتب ، وهي جمع الصحيفة ، و " منشرة " منشورة .
( كلا بل لا يخافون الآخرة ( 53 ) كلا إنه تذكرة ( 54 ) فمن شاء ذكره ( 55 ) وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة ( 56 ) )
فقال الله تعالى : ( كلا ) لا يؤتون الصحف . وقيل : حقا ، وكل ما ورد عليك منه فهذا وجهه ، ( بل لا يخافون الآخرة ) أي لا يخافون عذاب الآخرة ، والمعنى أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا هذه الآيات بعد قيام الأدلة . ( كلا ) حقا ( إنه ) يعني القرآن ( تذكرة ) موعظة . ( فمن شاء ذكره ) اتعظ به . ( وما يذكرون ) قرأ نافع ويعقوب [ تذكرون ] بالتاء والآخرون بالياء ( إلا أن يشاء الله ) قال مقاتل : إلا أن يشاء الله لهم الهدى . ( هو أهل التقوى وأهل المغفرة ) أي أهل أن يتقى محارمه وأهل أن يغفر لمن اتقاه .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا عمر بن الخطاب ، حدثنا عبد الله بن الفضل ، حدثنا هدبة بن خالد ، حدثنا سهيل بن أبي حزم ، عن ثابت ، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في هذه الآية : ( هو أهل التقوى وأهل المغفرة ) قال : قال ربكم - عز وجل - : " أنا أهل أن أتقى ولا يشرك بي غيري ، وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي أن أغفر [ ص: 276 ] له " وسهيل هو ابن عبد الرحمن القطعي ، أخو حزم القطعي .
سورة القيامة
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
( لا أقسم بيوم القيامة ( 1 ) ولا أقسم بالنفس اللوامة ( 2 ) )
( لا أقسم بيوم القيامة ) قرأ القواس عن ابن كثير : " لأقسم " الحرف الأول بلا ألف قبل الهمزة . ( ولا أقسم بالنفس اللوامة ) بالألف ، وكذلك قرأ عبد الرحمن الأعرج ، على معنى أنه أقسم بيوم القيامة ، ولم يقسم بالنفس [ اللوامة ] والصحيح أنه أقسم بهما جميعا و " لا " صلة فيهما أي أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة .
وقال أبو بكر بن عياش : هو تأكيد للقسم كقولك : لا والله .
وقال الفراء : " لا " رد كلام المشركين المنكرين ، ثم ابتدأ فقال : أقسم بيوم القيامة وأقسم بالنفس اللوامة .
وقال المغيرة بن شعبة : يقولون : القيامة ، وقيامة أحدهم موته . وشهد علقمة جنازة فلما دفنت قال : أما هذا فقد قامت قيامته .
( ولا أقسم بالنفس اللوامة ) قال سعيد بن جبير وعكرمة : تلوم على الخير والشر ، ولا تصبر على السراء والضراء .
وقال قتادة : اللوامة : الفاجرة . [ ص: 280 ]
وقال مجاهد : تندم على ما فات وتقول : لو فعلت ، ولو لم أفعل .
قال الفراء : ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها ، إن كانت عملت خيرا قالت : هلا ازددت ، وإن عملت شرا قالت : يا ليتني لم أفعل قال الحسن : هي النفس المؤمنة ، قال : إن المؤمن - والله - ما تراه إلا يلوم نفسه ، ما أردت بكلامي ؟ ما أردت بأكلتي ؟ وإن الفاجر يمضي قدما لا يحاسب نفسه ولا يعاتبها .
وقال مقاتل : هي النفس الكافرة تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر الله في الدنيا .
( أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ( 3 ) بلى قادرين على أن نسوي بنانه ( 4 ) )
( أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ) نزلت في عدي بن ربيعة ، حليف بني زهرة ، ختن الأخنس بن شريق الثقفي ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم اكفني جاري السوء ، يعني : عديا والأخنس . وذلك أن عدي بن ربيعة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا محمد حدثني عن القيامة متى تكون وكيف أمرها وحالها ؟ فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن [ بك ] أويجمع يجمع الله العظام ؟ فأنزل الله - عز وجل - : " أيحسب الإنسان " يعني الكافر ( ألن نجمع عظامه ) بعد التفرق والبلى فنحييه . قيل : ذكر العظام وأراد نفسه لأن العظام قالب النفس لا يستوي الخلق إلا باستوائها . وقيل : هو خارج على قول المنكر أو يجمع الله العظام كقوله : " قال من يحيي العظام وهي رميم " ( يس - 78 ) . ( بلى قادرين ) أي نقدر ، استقبال صرف إلى الحال ، قال الفراء " قادرين " نصب على الخروج من نجمع ، كما تقول في الكلام أتحسب أن لا نقوى عليك ؟ بلى قادرين على أقوى منك ، يريد : بل قادرين على أكثر من ذا
مجاز الآية : بلى نقدر على جمع عظامه وعلى ما هو أعظم من ذلك ، وهو ( على أن نسوي بنانه ) أنامله ، فنجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار ، فلا [ ص: 281 ] يرتفق بها [ بالقبض ] والبسط والأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة وغيرها . هذا قول أكثر المفسرين .
وقال الزجاج وابن قتيبة : معناه : ظن الكافر أنا لا نقدر على جمع عظامه ، بلى نقدر على أن نعيد السلاميات على صغرها ، فنؤلف بينها حتى نسوي البنان ، فمن قدر على جمع صغار العظام فهو على جمع كبارها أقدر
( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ( 5 ) يسأل أيان يوم القيامة ( 6 ) فإذا برق البصر ( 7 ) )
( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ) يقول لا يجهل ابن آدم أن ربه قادر على جمع عظامه لكنه يريد أن يفجر أمامه ، أي : يمضي قدما [ على ] معاصي الله ما عاش راكبا رأسه لا ينزع عنها ولا يتوب ، هذا قول مجاهد ، والحسن ، وعكرمة ، والسدي .
وقال سعيد بن جبير : " ليفجر أمامه " يقدم على الذنب ويؤخر التوبة ، فيقول : سوف أتوب ، سوف أعمل حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله .
وقال الضحاك : هو الأمل ، يقول : أعيش فأصيب من الدنيا كذا وكذا [ ولا يذكر الموت ] .
وقال ابن عباس ، وابن زيد : يكذب بما أمامه من البعث والحساب . وأصل " الفجور " الميل ، وسمي الفاسق والكافر : فاجرا ، لميله عن الحق . ( يسأل أيان يوم القيامة ) أي متى يكون [ ذلك ] تكذيبا به . قال الله تعالى : ( فإذا برق البصر ) قرأ أهل المدينة " برق " بفتح الراء ، وقرأ الآخرون بكسرها ، وهما لغتان .
قال قتادة ومقاتل : شخص البصر فلا يطرف مما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا . قيل : ذلك عند الموت .
وقال الكلبي : عند رؤية جهنم برق أبصار الكفار . [ ص: 282 ]
وقال الفراء والخليل " برق " - بالكسر - أي : فزع وتحير لما يرى من العجائب و " برق " بالفتح ، أي : شق عينه وفتحها ، من البريق ، وهو التلألؤ
( وخسف القمر ( 8 ) وجمع الشمس والقمر ( 9 ) يقول الإنسان يومئذ أين المفر ( 10 ) كلا لا وزر ( 11 ) إلى ربك يومئذ المستقر ( 12 ) ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ( 13 ) )
( وخسف القمر ) أظلم وذهب نوره وضوءه . ( وجمع الشمس والقمر ) أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران . وقيل : يجمع بينهما في ذهاب الضياء . وقال عطاء بن يسار : يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى . ( يقول الإنسان ) أي الكافر المكذب ( يومئذ أين المفر ) أي : المهرب وهو موضع الفرار . [ وقيل : هو مصدر ، أي : أين الفرار ] قال الله تعالى : ( كلا لا وزر ) لا حصن ولا حرز ولا ملجأ . وقال السدي : لا جبل وكانوا إذا فزعوا لجئوا إلى الجبل فتحصنوا به . [ فقال الله تعالى ] لا جبل يومئذ يمنعهم . ( إلى ربك يومئذ المستقر ) أي مستقر الخلق .
وقال عبد الله بن مسعود : المصير والمرجع ، نظيره : قوله تعالى : إلى ربك الرجعى ( العلق - 8 ) " وإلى الله المصير " ( آل عمران - 28 ) ( النور - 42 ) ( فاطر - 18 ) .
وقال السدي : المنتهى ، نظيره : وأن إلى ربك المنتهى ( النجم - 42 ) . ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ) [ قال ابن مسعود وابن عباس : " بما قدم " قبل موته من عمل صالح وسيئ ، وما أخر : بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها .
وقال عطية عن ابن عباس : " بما قدم " من المعصية " وأخر " من الطاعة .
وقال قتادة : بما قدم من طاعة الله ، وأخر من حق الله فضيعه . [ ص: 283 ]
وقال مجاهد : بأول عمله وآخره . وقال عطاء : بما قدم في أول عمره وما أخر في آخر عمره .
وقال زيد بن أسلم : بما قدم من أمواله لنفسه وما أخر خلفه للورثة
( بل الإنسان على نفسه بصيرة ( 14 ) ولو ألقى معاذيره ( 15 ) لا تحرك به لسانك لتعجل به ( 16 ) )
( بل الإنسان على نفسه بصيرة ) قال عكرمة ، ومقاتل ، والكلبي : معناه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه ويشهدون عليه بعمله ، وهي سمعه وبصره وجوارحه ودخل الهاء في البصيرة لأن المراد بالإنسان هاهنا جوارحه ، ويحتمل أن يكون معناه " بل الإنسان على نفسه بصيرة " يعني : لجوارحه ، فحذف حرف الجر كقوله : " وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم " ( البقرة - 233 ) أي لأولادكم . ويجوز أن يكون نعتا لاسم مؤنث أي بل الإنسان على نفسه عين بصيرة .
وقال أبو العالية ، وعطاء : بل الإنسان على نفسه شاهد ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، والهاء في " بصيرة " للمبالغة ، دليل هذا التأويل . قوله - عز وجل - : " كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " ( الإسراء - 14 ) . ( ولو ألقى معاذيره ) يعني يشهد عليه الشاهد ولو اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه ، كما قال تعالى : " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم " ( غافر - 52 ) وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وعطاء : قال الفراء : ولو اعتذر فعليه من نفسه من يكذب عذره ومعنى الإلقاء : القول ، كما قال : فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ( النحل - 86 ) . وقال الضحاك والسدي : " ولو ألقى معاذيره " يعني : ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب . وأهل اليمن يسمون الستر : معذارا ، وجمعه : معاذير ، ومعناه على هذا القول : وإن أسبل الستر ليخفي ما يعمل ، فإن نفسه شاهدة عليه . قوله - عز وجل - ( لا تحرك به لسانك لتعجل به )
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا جرير ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله - عز وجل - : " لا تحرك به لسانك لتعجل به " قال : كان رسول الله [ ص: 284 ] - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل [ عليه ] جبريل بالوحي كان ربما يحرك لسانه وشفتيه فيشتد عليه ، وكان يعرف منه ، فأنزل الله - عز وجل - الآية التي في لا أقسم بيوم القيامة : " لا تحرك به لسانك لتعجل به "
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 04:53 AM
الحلقة (420)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الانسان
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 8
( إن علينا جمعه وقرآنه ( 17 ) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ( 18 ) ثم إن علينا بيانه ( 19 ) كلا بل تحبون العاجلة ( 20 ) وتذرون الآخرة ( 21 ) وجوه يومئذ ناضرة ( 22 ) إلى ربها ناظرة ( 23 ) )
( إن علينا جمعه وقرآنه ) قال علينا أن نجمعه في صدرك ، وقرآنه . ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) فإذا أنزلناه فاستمع . ( ثم إن علينا بيانه ) علينا أن نبينه بلسانك . قال : فكان إذا أتاه جبريل - عليه السلام - أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله - عز وجل - ، ورواه محمد بن إسماعيل ، عن عبد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن موسى بن أبي عائشة بهذا الإسناد وقال : كان يحرك شفتيه إذا نزل عليه ، يخشى أن ينفلت منه ، فقيل له : " لا تحرك به لسانك " " إن علينا جمعه " أن نجمعه في صدرك " وقرآنه " أن تقرأه . ( كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ) قرأ أهل المدينة والكوفة " تحبون وتذرون " بالتاء فيهما ، وقرأ الآخرون بالياء أي يختارون الدنيا على العقبى ، ويعملون لها ، يعني : كفار مكة ، ومن قرأ بالتاء فعلى تقدير : قل لهم يا محمد : بل تحبون [ وتذرون ] ( وجوه يومئذ ) يعني يوم القيامة ( ناضرة ) قال ابن عباس : حسنة ، وقال مجاهد : مسرورة . وقال ابن زيد : ناعمة . وقال مقاتل : بيض يعلوها النور . وقال السدي : مضيئة . وقال يمان : مسفرة . وقال الفراء : مشرقة بالنعيم يقال : نضر الله وجهه ينضر نضرا ، ونضره الله وأنضره ونضر وجهه ينضر نضرة ونضارة . قال الله تعالى : " تعرف في وجوههم نضرة النعيم " ( المطففين - 24 ( إلى ربها ناظرة ) قال ابن عباس : وأكثر الناس تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب . قال الحسن : تنظر إلى الخالق وحق لها أن [ تنضر ] وهي تنظر إلى الخالق .
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد الحموي ، أخبرنا إبراهيم بن خزيم [ ص: 285 ] الشاشي ، أخبرنا عبد بن حميد ، حدثنا شبابة ، عن إسرائيل ، عن ثوير قال : سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة ، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية " ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة "
( ووجوه يومئذ باسرة ( 24 ) تظن أن يفعل بها فاقرة ( 25 ) كلا إذا بلغت التراقي ( 26 ) وقيل من راق ( 27 ) وظن أنه الفراق ( 28 ) )
( ووجوه يومئذ باسرة ) عابسة كالحة مغبرة مسودة . ( تظن أن يفعل بها فاقرة ) تستيقن أن يعمل بها عظيمة من العذاب ، والفاقرة : الداهية العظيمة ، والأمر الشديد يكسر فقار الظهر . قال سعيد بن المسيب : قاصمة الظهر . قال ابن زيد : هي دخول النار . وقال الكلبي : هي أن تحجب عن رؤية الرب - عز وجل - . ( كلا إذا بلغت ) يعني النفس ، كناية عن غير مذكور ( التراقي ) فحشرج بها عند الموت ، و " التراقي " جمع الترقوة ، وهي العظام بين ثغرة النحر والعاتق ، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشراف على الموت . ( وقيل ) أي قال من حضره [ الموت ] هل " من راق " هل من طبيب يرقيه ويداويه فيشفيه برقيته أو دوائه .
وقال قتادة : التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا .
وقال سليمان التيمي ، ومقاتل بن سليمان : هذا من قول الملائكة ، يقول بعضهم لبعض : من يرقى بروحه ؟ فتصعد بها ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب . ( وظن ) أيقن الذي بلغت روحه التراقي ( أنه الفراق ) من الدنيا .
[ ص: 286 ] ( والتفت الساق بالساق ( 29 ) إلى ربك يومئذ المساق ( 30 ) فلا صدق ولا صلى ( 31 ) ولكن كذب وتولى ( 32 ) ثم ذهب إلى أهله يتمطى ( 33 ) أولى لك فأولى ( 34 ) ثم أولى لك فأولى ( 35 ) )
( والتفت الساق بالساق ) قال قتادة : الشدة بالشدة . وقال عطاء : شدة الموت بشدة الآخرة . وقال سعيد بن جبير : تتابعت عليه الشدائد ، وقال السدي : لا يخرج من كرب إلا جاءه أشد منه .
قال ابن عباس : أمر الدنيا بأمر الآخرة ، فكان في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة .
وقال مجاهد : اجتمع فيه الحياة والموت .
وقال الضحاك : الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه .
وقال الحسن : هما ساقاه إذا التفتا في الكفن . وقال الشعبي : هما ساقاه عند الموت . ( إلى ربك يومئذ المساق ) أي مرجع العباد [ يومئذ ] إلى الله يساقون إليه . ( فلا صدق ولا صلى ) يعني : أبا جهل ، لم يصدق بالقرآن ولا صلى لله . ( ولكن كذب وتولى ) عن الإيمان . ( ثم ذهب إلى أهله ) رجع إليهم ( يتمطى ) يتبختر ويختال في مشيته ، وقيل : أصله : " يتمطط " أي : يتمدد ، والمط هو المد . ( أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ) هذا وعيد على وعيد من الله - عز وجل - لأبي جهل ، وهي كلمة موضوعة للتهديد والوعيد .
وقال بعض العلماء : معناه أنك أجدر بهذا العذاب وأحق وأولى به ، يقال للرجل يصيبه مكروه يستوجبه .
وقيل : هي كلمة تقولها العرب لمن قاربه المكروه وأصلها [ من الولاء ] من المولى وهو [ ص: 287 ] القرب ، قال الله تعالى : " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " ( التوبة - 123 ) .
وقال قتادة : ذكر لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له : " أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى " فقال أبو جهل : أتوعدني يا محمد ؟ والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا ، وإني لأعز من مشى بين جبليها! فلما كان يوم بدر صرعه الله شر مصرع ، وقتله أسوأ قتلة . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن لكل أمة فرعونا [ وإن ] فرعون هذه الأمة أبو جهل .
( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ( 36 ) ألم يك نطفة من مني يمنى ( 37 ) ثم كان علقة فخلق فسوى ( 38 ) فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ( 39 ) أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ( 40 ) )
( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) هملا لا يؤمر ولا ينهى ، وقال السدي : معناه المهمل وإبل سدى إذا كانت ترعى حيث شاءت بلا راع . ( ألم يك نطفة من مني يمنى ) تصب في الرحم ، قرأ حفص عن عاصم " يمنى " بالياء ، وهي قراءة الحسن ، وقرأ الآخرون بالتاء ، لأجل النطفة . ( ثم كان علقة فخلق فسوى ) فجعل فيه الروح فسوى خلقه . ( فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ) خلق من مائه أولادا ذكورا وإناثا . ( أليس ذلك ) الذي فعل هذا ( بقادر على أن يحيي الموتى )
أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني ، أخبرنا أبو عمرو القاسم بن جعفر الهاشمي ، أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر اللؤلئي ، حدثنا أبو داود سليمان بن أشعث ، حدثنا عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان ، حدثني إسماعيل بن أمية قال : سمعت أعرابيا يقول سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها : " أليس الله بأحكم الحاكمين " ( التين - 8 ) فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين ، ومن قرأ : " لا أقسم بيوم القيامة " فانتهى إلى " أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى " فليقل : بلى ، ومن قرأ : " والمرسلات " فبلغ " فبأي حديث بعده يؤمنون " فليقل : " آمنا بالله " . [ ص: 288 ]
أخبرنا عمر بن عبد العزيز ، أخبرنا القاسم بن جعفر ، أخبرنا أبو علي اللؤلئي ، أخبرنا أبو داود ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن موسى بن أبي عائشة قال : كان رجل يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى قال : سبحانك بلى ، فسألوه عن ذلك فقال : سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
سورة الإنسان
قال عطاء : هي مكية وقال مجاهد وقتادة : مدنية . وقال الحسن وعكرمة : هي مدنية إلا آية وهي قوله : " فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا "
بسم الله الرحمن الرحيم
( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ( 1 ) إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ( 2 ) )
( هل أتى على الإنسان ) يعني آدم - عليه السلام - ( حين من الدهر ) أربعون سنة ملقى من طين بين مكة والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح ( لم يكن شيئا مذكورا ) لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به . يريد : كان شيئا ولم يكن مذكورا ، وذلك من حين خلقه من طين إلى أن [ ينفخ ] فيه الروح .
روي أن عمر سمع رجلا يقرأ هذه الآية : " لم يكن شيئا مذكورا " فقال عمر : ليتها تمت ، يريد : ليته بقي على ما كان . قال ابن عباس : ثم خلقه بعد عشرين ومائة سنة . ( إنا خلقنا الإنسان ) يعني ولد آدم ( من نطفة ) يعني : مني الرجل ومني المرأة . [ ص: 292 ] ( أمشاج ) أخلاط ، واحدها : مشج ومشيج ، مثل خدن وخدين .
قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد والربيع : يعني ماء الرجل [ وماء المرأة ] يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد . فماء الرجل أبيض غليظ ، وماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا صاحبه كان الشبه له ، وما كان من عصب وعظم فهو من نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة .
وقال الضحاك : أراد بالأمشاج اختلاف ألوان النطفة ، فنطفة الرجل بيضاء وحمراء وصفراء ، ونطفة المرأة خضراء وحمراء [ وصفراء ] ، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس . وكذلك قال الكلبي : قال : الأمشاج البياض في الحمرة والصفرة . وقال يمان : كل لونين اختلطا فهو أمشاج . وقال ابن مسعود : هي العروق التي تكون في النطفة .
وقال الحسن : نطفة مشجت بدم ، وهو دم الحيضة ، فإذا حبلت ارتفع الحيض .
وقال قتادة : هي أطوار الخلق نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم [ عظما ] ثم يكسوه لحما ثم ينشئه خلقا آخر .
( نبتليه ) نختبره بالأمر والنهي ( فجعلناه سميعا بصيرا ) قال بعض أهل العربية : فيه تقديم وتأخير ، مجازه فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه ؛ لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة .
( إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ( 3 ) إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا ( 4 ) )
( إنا هديناه السبيل ) أي بينا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة ، وعرفناه طريق الخير والشر ( إما شاكرا وإما كفورا ) إما مؤمنا سعيدا وإما كافرا شقيا . وقيل : معنى الكلام الجزاء ، يعني : بينا له الطريق إن شكر أو كفر . ثم بين ما للفريقين فقال : ( إنا أعتدنا للكافرين سلاسل ) يعني : في جهنم قرأ أهل المدينة [ ص: 293 ] والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : " سلاسلا " " وقواريرا " فقوارير بالألف في الوقف ، وبالتنوين في الوصل فيهن جميعا ، وقرأ حمزة ويعقوب بلا ألف في الوقف ، ولا تنوين في الوصل فيهن ، وقرأ ابن كثير " قوارير " الأولى بالألف في الوقف وبالتنوين في الوصل ، و " سلاسل " و " قوارير " الثانية بلا ألف ولا تنوين . وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحفص " سلاسلا " و " قواريرا " الأولى بالألف [ في الوقف ] على الخط وبغير تنوين في الوصل ، و " قوارير " الثانية بغير ألف ولا تنوين . قوله ( وأغلالا ) يعني : في أيديهم ، تغل إلى أعناقهم ( وسعيرا ) وقودا شديدا .
( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ( 5 ) عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا ( 6 ) يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ( 7 ) ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ( 8 ) )
( إن الأبرار ) يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم [ واحدهم ] بار مثل : شاهد وأشهاد ، وناصر وأنصار ، و " بر " أيضا مثل : نهر وأنهار ( يشربون ) في الآخرة ، ( من كأس ) [ فيها ] شراب ( كان مزاجها كافورا ) قال قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك . قال عكرمة : " مزاجها " طعمها . وقال أهل المعاني : أراد كالكافور في بياضه وطيب ريحه وبرده ؛ لأن الكافور لا يشرب ، وهو كقوله : " حتى إذا جعله نارا " ( الكهف - 96 ) أي كنار . وهذا معنى قول [ قتادة ] ومجاهد : يمازجه ريح الكافور . وقال ابن كيسان : طيبت بالكافور والمسك والزنجبيل . وقال عطاء والكلبي : الكافور اسم لعين ماء في الجنة . ( عينا ) نصب تبعا للكافور . وقيل : [ هو ] نصب على المدح . وقيل : أعني عينا . وقال الزجاج : الأجود أن يكون المعنى من عين ( يشرب بها ) [ قيل : يشربها ] والباء صلة ، وقيل بها أي منها ( عباد الله ) قال ابن عباس أولياء الله ( يفجرونها تفجيرا ) أي يقودونها حيث شاءوا من منازلهم وقصورهم ، كمن يكون له نهر يفجره هاهنا وهاهنا إلى حيث يريد . ( يوفون بالنذر ) هذا من صفاتهم في الدنيا أي كانوا في الدنيا كذلك .
قال قتادة : أراد يوفون بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة ، [ ص: 294 ] وغيرها من الواجبات ، ومعنى النذر : الإيجاب .
وقال مجاهد وعكرمة : إذا نذروا في طاعة الله وفوا به .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن طلحة بن عبد الملك الأيلي ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " ( ويخافون يوما كان شره مستطيرا ) فاشيا ممتدا ، يقال : استطار الصبح ، إذا امتد وانتشر .
قال مقاتل : كان شره فاشيا في السماوات فانشقت ، وتناثرت الكواكب ، وكورت الشمس والقمر ، وفزعت الملائكة . وفي الأرض : فنسفت الجبال ، وغارت المياه ، وتكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء . ( ويطعمون الطعام على حبه ) أي على حب الطعام وقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه . وقيل : على حب الله - عز وجل - ( مسكينا ) فقيرا لا مال له ( ويتيما ) صغيرا لا أب له ( وأسيرا ) قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء : هو المسجون من أهل القبلة . وقال قتادة : أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم ، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك . وقيل : الأسير المملوك . وقيل : المرأة ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان " أي أسراء .
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية . قال مقاتل : نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا . [ ص: 295 ]
وروى مجاهد وعطاء عن ابن عباس : أنها نزلت في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وذلك أنه عمل ليهودي بشيء من شعير ، [ فقبض الشعير ] فطحن ثلثه فجعلوا منه شيئا ليأكلوه ، فلما تم إنضاجه أتى مسكين فسأل فأخرجوا إليه الطعام ، ثم عمل الثلث الثاني فلما تم إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه ، ثم عمل الثلث الباقي فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين ، فسأل فأطعموه ، وطووا يومهم ذلك : وهذا قول الحسن وقتادة : أن الأسير كان من أهل الشرك ، وفيه دليل على أن إطعام الأسارى - وإن كانوا من أهل الشرك - حسن يرجى ثوابه .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 04:58 AM
الحلقة (421)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ المرسلات
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 4
( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ( 9 ) إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا ( 10 ) فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا ( 11 ) وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا ( 12 ) )
( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) والشكور مصدر كالعقود والدخول والخروج . قال مجاهد وسعيد بن جبير : إنهم لم يتكلموا به ولكن علم الله ذلك من قلوبهم ، فأثنى عليهم . ( إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا ) تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته ، نسب العبوس إلى اليوم ، كما يقال : يوم صائم وليل قائم . وقيل : وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدة ( قمطريرا ) قال قتادة ، ومجاهد ، ومقاتل : " القمطرير " : الذي يقبض الوجوه والجباه بالتعبيس . قال الكلبي : العبوس الذي لا انبساط فيه ، و " القمطرير " الشديد . قال الأخفش : " القمطرير " أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء . يقال : يوم قمطرير وقماطر إذا كان شديدا كريها ، واقمطر اليوم فهو مقمطر . ( فوقاهم الله شر ذلك اليوم ) الذي يخافون ( ولقاهم نضرة ) حسنا في وجوههم ، ( وسرورا ) في قلوبهم . ( وجزاهم بما صبروا ) على طاعة الله واجتناب معصيته . وقال الضحاك : على الفقر . وقال عطاء : على الجوع . ( جنة وحريرا ) قال الحسن : أدخلهم الله الجنة وألبسهم الحرير .
[ ص: 296 ] ( متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ( 13 ) ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ( 14 ) ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا ( 15 ) قواريرا من فضة قدروها تقديرا ( 16 ) ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا ( 17 ) عينا فيها تسمى سلسبيلا ( 18 ) )
( متكئين ) نصب على الحال ( فيها ) في الجنة ( على الأرائك ) السرر في الحجال ، ولا تكون أريكة إلا إذا اجتمعا ( لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ) أي [ صيفا ] ولا شتاء . قال مقاتل : يعني شمسا يؤذيهم حرها ولا زمهريرا يؤذيهم برده ؛ لأنهما يؤذيان في الدنيا . والزمهرير : البرد الشديد . ( ودانية عليهم ظلالها ) أي قريبة منهم ظلال أشجارها ، ونصب " دانية " بالعطف على قوله " متكئين " وقيل : على موضع قوله : " لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا " ويرون " دانية " وقيل : على المدح ( وذللت ) سخرت وقربت ( قطوفها ) ثمارها ( تذليلا ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا ) يأكلون من ثمارها قياما وقعودا ومضطجعين ويتناولونها كيف شاءوا على أي حال كانوا . ( قواريرا من فضة ) قال المفسرون : أراد بياض الفضة في صفاء القوارير ، فهي من فضة في صفاء الزجاج ، يرى ما في داخلها من خارجها .
قال الكلبي : إن الله جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم ، وإن أرض الجنة من فضة ، فجعل منها قوارير يشربون فيها ( قدروها تقديرا ) قدروا الكأس على قدر ريهم لا يزيد ولا ينقص ، أي قدرها لهم السقاة والخدم الذين يطوفون عليهم يقدرونها ثم يسقون . ( ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا ) يشوق ويطرب ، والزنجبيل : مما كانت العرب تستطيبه جدا ، فوعدهم الله تعالى أنهم يسقون في الجنة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنة . قال مقاتل : لا يشبه زنجبيل الدنيا . قال ابن عباس : كل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له في الدنيا مثل . وقيل : هو عين في الجنة يوجد منها طعم الزنجبيل . قال قتادة : يشربها المقربون صرفا ، ويمزج لسائر أهل الجنة . ( عينا فيها تسمى سلسبيلا ) قال قتادة : سلسة منقادة لهم يصرفونها حيث شاءوا . وقال [ ص: 297 ] مجاهد : حديدة [ شديدة ] الجرية . وقال [ أبو العالية ] ومقاتل بن حيان : سميت سلسبيلا ؛ لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان ، وشراب الجنة على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك . قال الزجاج : سميت سلسبيلا ؛ لأنها في غاية السلاسة تتسلسل في الحلق ، ومعنى قوله : " تسمى " أي توصف ؛ لأن أكثر العلماء على أن سلسبيلا صفة لا اسم .
( ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ( 19 ) وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا ( 20 ) عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا ( 21 ) )
( ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ) قال عطاء : يريد في بياض اللؤلؤ وحسنه ، واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظوما . وقال أهل المعاني : إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة ، فلو كانوا صفا لشبهوا بالمنظوم . ( وإذا رأيت ثم ) أي إذا [ رأيت ] ببصرك ونظرت به ثم يعني في الجنة ( رأيت نعيما ) لا يوصف ( وملكا كبيرا ) وهو أن أدناهم منزلة ينظر إلى ملكه في مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه . وقال مقاتل والكلبي : هو أن رسول رب العزة من الملائكة لا يدخل عليه إلا بإذنه . وقيل : ملكا لا زوال له . ( عاليهم ثياب سندس ) قرأ أهل المدينة وحمزة : " عاليهم " ساكنة الياء مكسورة الهاء ، فيكون في موضع رفع بالابتداء ، وخبره : ثياب سندس . وقرأ الآخرون بنصب الياء وضم الهاء على [ الصفة ، أي فوقهم ، وهو نصب على الظرف ] ( ثياب سندس خضر وإستبرق ) قرأ نافع وحفص " خضر وإستبرق " [ مرفوعا ] عطفا على الثياب ، وقرأهما حمزة والكسائي مجرورين ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر " خضر " بالجر و " إستبرق " بالرفع ، وقرأ أبو جعفر وأهل البصرة والشام على ضده [ فالرفع على ] [ ص: 298 ] نعت الثياب [ والجر ] على نعت السندس [ وإستبرق بالرفع على أنه معطوف على : وثياب إستبرق فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كقوله " واسأل القرية " أي : أهل القرية ، ومثله قوله : خز أي ثوب خز ، وأما جر إستبرق فعلى أنه معطوف على سندس وهو جر بإضافة الثياب إليه ، وهما جنسان أضيفت الثياب إليهما كما تقول : ثوب خز وكتان فتضيفه إلى الجنسين ] .
( وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا ) قيل : طاهرا من الأقذار والأقذاء لم تدنسه الأيدي والأرجل كخمر الدنيا .
وقال أبو قلابة وإبراهيم : إنه لا يصير بولا نجسا ولكنه يصير رشحا في أبدانهم ، [ ريحه كريح المسك ] ، وذلك أنهم يؤتون بالطعام ، فإذا كان آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور ، فيشربون فيطهر بطونهم ويصير ما أكلوا رشحا يخرج من جلودهم [ ريحا ] أطيب من المسك الأذفر ، وتضمر بطونهم وتعود شهوتهم .
وقال مقاتل : هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد .
( إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ( 22 ) إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا ( 23 ) فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا ( 24 ) )
( إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ) أي ما وصف من نعيم الجنة كان لكم جزاء بأعمالكم ، ( وكان سعيكم ) عملكم في الدنيا بطاعة الله مشكورا ، قال عطاء : شكرتكم عليه [ فأثيبكم ] أفضل الثواب . قوله - عز وجل - : ( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا ) قال ابن عباس : متفرقا آية بعد آية ، ولم ينزل جملة واحدة . ( فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم ) يعني من مشركي مكة ( آثما أو كفورا ) يعني وكفورا ، والألف صلة . [ ص: 299 ]
قال قتادة : أراد بالآثم الكفور أبا جهل ؛ وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاه أبو جهل عنها ، وقال : لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه .
وقال مقاتل : أراد ب " الآثم " عتبة بن ربيعة وب " الكفور " الوليد بن المغيرة ، قالا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء والمال فارجع عن هذا الأمر ، قال عتبة : فأنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر ، وقال الوليد : أنا أعطيك من المال حتى ترضى ، فارجع عن هذا الأمر ، فأنزل الله هذه الآية .
( واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ( 25 ) ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا ( 26 ) إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ( 27 ) نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا ( 28 ) )
( واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له ) [ يعني صلاة المغرب والعشاء ] ( وسبحه ليلا طويلا ) يعني التطوع بعد المكتوبة . ( إن هؤلاء ) يعني كفار مكة ( يحبون العاجلة ) أي الدار العاجلة وهي الدنيا . ( ويذرون وراءهم ) يعني أمامهم ( يوما ثقيلا ) شديدا وهو يوم القيامة . أي يتركونه فلا يؤمنون به ولا يعملون له . ( نحن خلقناهم وشددنا ) [ قوينا وأحكمنا ] ( أسرهم ) قال مجاهد وقتادة [ ومقاتل ] " أسرهم " أي : خلقهم ، يقال : رجل حسن الأسر ، أي : الخلق .
وقال الحسن : يعني أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب . [ ص: 300 ]
وروي عن مجاهد في تفسير " الأسر " قال : الشرج ، يعني : موضع مصرفي البول والغائط ، إذا خرج الأذى تقبضا . ( وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا ) أي : إذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم .
( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ( 29 ) وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما ( 30 ) يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما ( 31 ) )
( إن هذه ) يعني هذه السورة ( تذكرة ) تذكير وعظة ( فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ) وسيلة بالطاعة . ( وما تشاءون ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو : " يشاءون " بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء ، ( إلا أن يشاء الله ) أي لستم تشاءون إلا بمشيئة الله - عز وجل - لأن الأمر إليه ( إن الله كان عليما حكيما ) ( يدخل من يشاء في رحمته والظالمين ) أي المشركين ( أعد لهم عذابا أليما )
سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَالْمُرْسَلَات ِ عُرْفًا ( 1 ) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ( 2 ) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ( 3 ) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ( 4 ) )
( وَالْمُرْسَلَات ِ عُرْفًا ) يَعْنِي الرِّيَاحَ أُرْسِلَتْ مُتَتَابِعَةً كَعُرْفِ الْفَرَسِ . وَقِيلَ : عُرْفًا أَيْ كَثِيرًا . تَقُولُ الْعَرَبُ : النَّاسُ إِلَى فُلَانٍ عُرْفٌ وَاحِدٌ ، إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ فَأَكْثَرُوا ، هَذَا [ مَعْنَى ] قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ الَّتِي أُرْسِلَتْ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ ، وَهِيَ رِوَايَةُ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ . ( فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) يَعْنِي الرِّيَاحَ الشَّدِيدَةَ الْهُبُوبِ . ( وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) يَعْنِي الرِّيَاحَ اللَّيِّنَةَ . وَقَالَ الْحَسَنُ : هِيَ الرِّيَاحُ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللَّهُ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ . وَقِيلَ : هِيَ الرِّيَاحُ الَّتِي تَنْشُرُ السَّحَابَ وَتَأْتِي بِالْمَطَرِ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : هُمُ الْمَلَائِكَةُ يَنْشُرُونَ الْكُتُبَ . ( فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ : يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ تَأْتِي بِمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ . وَقَالَ [ قَتَادَةُ ] وَالْحَسَنُ : هِيَ آيُ الْقُرْآنِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ . وَرُوِيَ عَنْ [ ص: 304 ] مُجَاهِدٍ قَالَ : هِيَ الرِّيَاحُ تُفَرِّقُ السَّحَابَ وَتُبَدِّدُهُ .
( فالملقيات ذكرا ( 5 ) عذرا أو نذرا ( 6 ) إنما توعدون لواقع ( 7 ) فإذا النجوم طمست ( 8 ) وإذا السماء فرجت ( 9 ) وإذا الجبال نسفت ( 10 ) )
( فالملقيات ذكرا ) يعني الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء ، نظيرها : " يلقي الروح من أمره " ( غافر - 15 ) . ( عذرا أو نذرا ) أي للإعذار والإنذار . وقرأ الحسن " عذرا " بضم الذال . واختلف فيه عن أبي بكر عن عاصم ، وقراءة العامة بسكونها ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص " [ عذرا أو ] نذرا " ساكنة الذال فيهما ، وقرأ الباقون بضمها ، ومن سكن قال : لأنهما في موضع مصدرين بمعنى الإنذار والإعذار ، وليسا بجمع فينقلا [ وقال ابن كثير ونافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ويعقوب برواية رويس بن حسان : " عذرا " سكون الذال و " نذرا " بضم الذال ، وقرأ روح بالضم في العذر والنذر جميعا ، وهي قراءة الحسن . والوجه فيهما أن العذر والنذر بضمتين كالأذن والعنق هو الأصل ، ويجوز التخفيف فيهما كما يجوز التخفيف في العنق والأذن ، يقال : عذر ونذر ، وعذر ونذر ، كما يقال : عنق وعنق ، وأذن وأذن ، والعذر والنذر مصدران بمعنى الإعذار والإنذار كالنكير والعذير والنذير ، ويجوز أن يكونا جمعين لعذير ونذير ، ويجوز أن يكون العذر جمع عاذر ، كشارف وشرف ، والمعنى في التحريك والتسكين واحد على ما بينا . إلى هاهنا أقسام ] ذكرها على قوله : ( إن ما توعدون ) ( إن ما توعدون ) من أمر الساعة والبعث ( لواقع ) [ لكائن ] ثم ذكر متى يقع . فقال : ( فإذا النجوم طمست ) محي نورها . ( وإذا السماء فرجت ) شقت . ( وإذا الجبال نسفت ) قلعت من أماكنها .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 05:02 AM
الحلقة (422)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ المرسلات
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 23
[ ص: 305 ] ( وإذا الرسل أقتت ( 11 ) لأي يوم أجلت ( 12 ) ليوم الفصل ( 13 ) وما أدراك ما يوم الفصل ( 14 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 15 ) ألم نهلك الأولين ( 16 ) ثم نتبعهم الآخرين ( 17 ) كذلك نفعل بالمجرمين ( 18 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 19 ) ألم نخلقكم من ماء مهين ( 20 ) فجعلناه في قرار مكين ( 21 ) إلى قدر معلوم ( 22 ) فقدرنا فنعم القادرون ( 23 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 24 ) ألم نجعل الأرض كفاتا ( 25 ) )
( وإذا الرسل أقتت ) قرأ أهل البصرة " وقتت " بالواو ، وقرأ أبو جعفر بالواو وتخفيف القاف ، وقرأ الآخرون بالألف وتشديد القاف ، وهما لغتان . والعرب تعاقب بين الواو والهمزة كقولهم : وكدت وأكدت ، وورخت وأرخت ، ومعناهما : جمعت لميقات يوم معلوم ، وهو يوم القيامة ليشهدوا على الأمم . ( لأي يوم أجلت ) أي أخرت ، وضرب الأجل لجمعهم فعجب العباد من ذلك اليوم ، ثم بين فقال ( ليوم الفصل ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يوم يفصل الرحمن - عز وجل - بين الخلائق . ( وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين ألم نهلك الأولين ) يعني الأمم الماضية بالعذاب ، في الدنيا حين كذبوا رسلهم . ( ثم نتبعهم الآخرين ) السالكين سبيلهم في الكفر والتكذيب يعني كفار مكة بتكذيبهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - . ( كذلك نفعل بالمجرمين ويل يومئذ للمكذبين ألم نخلقكم من ماء مهين ) يعني النطفة . ( فجعلناه في قرار مكين ) يعني الرحم . ( إلى قدر معلوم ) وهو وقت الولادة . ( فقدرنا ) قرأ أهل المدينة والكسائي : " فقدرنا " بالتشديد من التقدير ، وقرأ الآخرون بالتخفيف من القدرة ؛ لقوله : " فنعم القادرون " وقيل : معناهما واحد . وقوله : ( فنعم القادرون ) أي المقدرون . ( ويل يومئذ للمكذبين ألم نجعل الأرض كفاتا ) وعاء ، ومعنى الكفت : الضم والجمع ، [ ص: 306 ] يقال : كفت الشيء : إذا ضمه وجمعه . وقال الفراء : يريد تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم ، وتكفتهم أمواتا في بطنها ، أي : تحوزهم .
( أحياء وأمواتا ( 26 ) وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ( 27 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 28 ) انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ( 29 ) انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ( 30 ) لا ظليل ولا يغني من اللهب ( 31 ) إنها ترمي بشرر كالقصر ( 32 ) )
وهو قوله ( أحياء وأمواتا وجعلنا فيها رواسي ) جبالا ( شامخات ) عاليات ، ( وأسقيناكم ماء فراتا ) عذبا . ( ويل يومئذ للمكذبين ) قال مقاتل : وهذا كله أعجب من البعث . ثم أخبر أنه يقال لهم يوم القيامة ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون )
( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ) في الدنيا . ( انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ) يعني دخان جهنم إذا ارتفع انشعب وافترق ثلاث فرق . وقيل : يخرج عنق من النار فيتشعب ثلاث شعب ، أما النور فيقف على رءوس المؤمنين ، والدخان يقف على رءوس المنافقين ، واللهب الصافي يقف على رءوس الكافرين . ثم وصف ذلك الظل فقال - عز وجل - ( لا ظليل ) لا يظل من الحر ( ولا يغني من اللهب ) قال الكلبي : لا يرد لهب جهنم عنكم ، والمعنى أنهم [ إذا ] استظلوا بذلك الظل لم يدفع عنهم حر اللهب . ( إنها ) يعني جهنم ( ترمي بشرر ) وهو ما تطاير من النار ، واحدها شررة ( كالقصر ) وهو البناء العظيم ، قال ابن مسعود : يعني الحصون .
وقال عبد الرحمن بن عياش سألت ابن عباس عن قوله تعالى : " إنها ترمي بشرر كالقصر " قال : هي الخشب العظام المقطعة ، وكنا نعمد إلى الخشب فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه ندخرها للشتاء ، فكنا نسميها القصر .
وقال سعيد بن جبير ، والضحاك : هي أصول النخل والشجر العظام ، واحدتها قصرة ، مثل [ ص: 307 ] تمرة وتمر ، وجمرة وجمر .
وقرأ علي وابن عباس " كالقصر " بفتح الصاد ، أي أعناق النخل ، والقصرة العنق ، وجمعها قصر وقصرات .
( كأنه جمالة صفر ( 33 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 34 ) هذا يوم لا ينطقون ( 35 ) ولا يؤذن لهم فيعتذرون ( 36 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 37 ) هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين ( 38 ) فإن كان لكم كيد فكيدون ( 39 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 40 ) إن المتقين في ظلال وعيون ( 41 ) وفواكه مما يشتهون ( 42 ) )
( كأنه ) رد الكناية إلى اللفظ ( جمالة ) قرأ حمزة والكسائي وحفص : " جمالة " على جمع الجمل ، مثل حجر وحجارة ، وقرأ يعقوب بضم الجيم بلا ألف ، أراد : الأشياء العظام المجموعة ، وقرأ الآخرون : " جمالات " بالألف وكسر الجيم على جمع الجمال ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير : هي حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض ، حتى تكون كأوساط الرجال ، ( صفر ) جمع الأصفر ، يعني لون النار ، وقيل : " الصفر " معناه : السود ؛ لأنه جاء في الحديث : " إن شرر نار جهنم أسود كالقير " . والعرب تسمى سود الإبل صفرا ؛ لأنه يشوب سوادها شيء من صفرة كما يقال لبيض الظباء : أدم ؛ لأن بياضها يعلوه كدرة . ( ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون ) وفي القيامة مواقف ، ففي بعضها يختصمون ويتكلمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون . ( ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) رفع ، عطف على قوله : " يؤذن " قال الجنيد : أي لا عذر لمن أعرض عن منعمه وكفر بأياديه ونعمه . ( ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل ) بين أهل الجنة والنار ( جمعناكم والأولين ) يعني مكذبي هذه الأمة والأولين الذين كذبوا أنبياءهم . ( فإن كان لكم كيد فكيدون ) قال مقاتل : إن كانت لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم . ( ويل يومئذ للمكذبين إن المتقين في ظلال ) جمع ظل أي في ظلال الشجر ( وعيون ) الماء .
( وفواكه مما يشتهون ) .
[ ص: 308 ] ( كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ( 43 ) إنا كذلك نجزي المحسنين ( 44 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 45 ) كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ( 46 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 47 ) وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ( 48 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 49 ) فبأي حديث بعده يؤمنون ( 50 ) )
ويقال لهم ( كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ) في الدنيا بطاعتي .
( إنا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين ) .
ثم قال لكفار مكة : ( كلوا وتمتعوا قليلا ) في الدنيا ( إنكم مجرمون ) مشركون بالله - عز وجل - مستحقون للعذاب . ( إنا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين وإذا قيل لهم اركعوا ) صلوا ( لا يركعون ) لا يصلون . وقال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - : إنما يقال لهم هذا يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون . ( ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده ) بعد القرآن ( يؤمنون ) إذا لم يؤمنوا به .
سُورَةُ النَّبَأِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ( 1 ) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( 2 ) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ( 3 ) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ( 4 ) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ( 5 ) )
( عَمَّ ) أَصْلُهُ : " عَنْ مَا " فَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِي الْمِيمِ وَحُذِفَتْ أَلِفُ " مَا " [ كَقَوْلِهِ ] " فِيمَ " وَ " بِمَ " ؟ ( يَتَسَاءَلُونَ ) أَيْ : عَنْ أَيِّ شَيْءٍ يَتَسَاءَلُونَ ، هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ ؟ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَخْبَرَهُمْ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ جَعَلُوا يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ فَيَقُولُونَ : مَاذَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ؟ قَالَ الزَّجَّاجُ : اللَّفْظُ لَفْظُ اسْتِفْهَامٍ وَمَعْنَاهُ التَّفْخِيمُ ، كَمَا تَقُولُ : أَيُّ شَيْءٍ زَيْدٌ ؟ إِذَا عَظَّمْتَ [ أَمْرَهُ ] وَشَأْنَهُ . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ تَسَاؤُلَهُمْ عَمَّاذَا فَقَالَ : ( عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْأَكْثَرُون َ : هُوَ الْقُرْآنُ ، دَلِيلُهُ : قَوْلُهُ : " قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ " ( ص - 67 ) وَقَالَ قَتَادَةُ : هُوَ الْبَعْثُ . ( الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) فَمُصَدِّقٌ وَمُكَذِّبٌ ( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) " كَلَّا " نَفْيٌ لِقَوْلِهِمْ ، " سَيَعْلَمُونَ " عَاقِبَةَ تَكْذِيبِهِمْ حِينَ تَنْكَشِفُ الْأُمُورُ . ( ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى إِثْرِ وَعِيدٍ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : " كَلَّا سَيَعْلَمُونَ " يَعْنِي الْكَافِرِينَ ، " ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ " يَعْنِي : الْمُؤْمِنِينَ ، ثُمَّ ذَكَرَ صَنَائِعَهُ لِيَعْلَمُوا تَوْحِيدَهُ فَقَالَ : ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا )
( ألم نجعل الأرض مهادا ( 6 ) والجبال أوتادا ( 7 ) وخلقناكم أزواجا ( 8 ) وجعلنا نومكم سباتا ( 9 ) وجعلنا الليل لباسا ( 10 ) وجعلنا النهار معاشا ( 11 ) وبنينا فوقكم سبعا شدادا ( 12 ) وجعلنا سراجا وهاجا ( 13 ) وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ( 14 ) )
( ألم نجعل الأرض مهادا ) فراشا . [ ص: 312 ] ( والجبال أوتادا ) للأرض حتى لا تميد . ( وخلقناكم أزواجا ) أصنافا ذكورا وإناثا . ( وجعلنا نومكم سباتا ) أي راحة لأبدانكم . قال الزجاج : " السبات " أن ينقطع عن الحركة والروح فيه . وقيل : معناه جعلنا نومكم قطعا لأعمالكم ، لأن أصل السبت : القطع . ( وجعلنا الليل لباسا ) غطاء وغشاء يستر كل شيء بظلمته . ( وجعلنا النهار معاشا ) المعاش : العيش ، وكل ما يعاش فيه فهو معاش ، أي جعلنا النهار سببا للمعاش والتصرف في المصالح . قال [ ابن عباس ] يريد : تبتغون فيه من فضل الله ، وما قسم لكم من رزقه . ( وبنينا فوقكم سبعا شدادا ) يريد سبع سماوات . ( وجعلنا سراجا ) [ يعني الشمس ] ( وهاجا ) مضيئا منيرا . قال الزجاج : الوهاج : الوقاد . قال مقاتل : جعل فيه نورا وحرارة ، والوهج يجمع النور والحرارة . ( وأنزلنا من المعصرات ) قال مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، والكلبي : يعني الرياح التي تعصر السحاب ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس .
قال الأزهري : هي الرياح ذوات الأعاصير ، فعلى هذا التأويل تكون " من " بمعنى الباء أي بالمعصرات ، وذلك أن الريح تستدر المطر .
وقال أبو العالية ، والربيع ، والضحاك : المعصرات هي السحاب وهي رواية الوالبي عن ابن عباس . [ ص: 313 ]
قال الفراء : [ المعصرات السحائب ] [ التي ] تتحلب بالمطر ولا تمطر ، كالمرأة المعصر هي التي دنا حيضها ولم تحض .
وقال ابن كيسان : هي المغيثات من قوله فيه يغاث الناس وفيه يعصرون
وقال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وزيد بن أسلم ، ومقاتل بن حيان : من المعصرات أي من السماوات .
( ماء ثجاجا ) أي صبابا ، وقال مجاهد : مدرارا . وقال قتادة : متتابعا يتلو بعضه بعضا . وقال ابن زيد : كثيرا .
( لنخرج به حبا ونباتا ( 15 ) وجنات ألفافا ( 16 ) إن يوم الفصل كان ميقاتا ( 17 ) يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ( 18 ) وفتحت السماء فكانت أبوابا ( 19 ) )
( لنخرج به ) أي بذلك الماء ( حبا ) وهو ما يأكله الناس ( ونباتا ) ما تنبته الأرض مما تأكله الأنعام . ( وجنات ألفافا ) ملتفة بالشجر ، واحدها لف ولفيف ، وقيل : هو جمع الجمع ، يقال : جنة لفا ، وجمعها لف ، بضم اللام ، وجمع الجمع ألفاف . ( إن يوم الفصل ) يوم القضاء بين الخلق ( كان ميقاتا ) لما وعد الله من الثواب والعقاب . ( يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ) زمرا [ زمرا ] من كل مكان للحساب . ( وفتحت السماء ) قرأ أهل الكوفة : " فتحت " بالتخفيف ، وقرأ الآخرون بالتشديد ، أي شقت لنزول الملائكة ( فكانت أبوابا ) أي ذات أبواب . وقيل : تنحل ، وتتناثر حتى تصير فيها أبواب وطرق .
[ ص: 314 ] ( وسيرت الجبال فكانت سرابا ( 20 ) إن جهنم كانت مرصادا ( 21 ) للطاغين مآبا ( 22 ) لابثين فيها أحقابا ( 23 ) )
( وسيرت الجبال ) عن وجه الأرض ( فكانت سرابا ) أي هباء منبثا لعين الناظر كالسراب . ( إن جهنم كانت مرصادا ) طريقا وممرا فلا سبيل لأحد إلى الجنة حتى يقطع النار .
وقيل : " كانت مرصادا " أي : معدة لهم ، يقال : أرصدت له [ الشيء ] إذا أعددته له .
وقيل : هو من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته . " والمرصاد " المكان الذي يرصد الراصد فيه العدو . وقوله : " إن جهنم كانت مرصادا " أي ترصد الكفار .
وروى مقسم عن ابن عباس : أن على جسر جهنم سبعة محابس يسأل العبد عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن [ أجابها ] تامة جاز إلى الثاني ، فيسأل عن الصلاة ، فإن [ أجابها ] تامة جاز إلى الثالث ، فيسأل عن الزكاة ، فإن [ أجابها ] تامة جاز إلى الرابع ، فيسأل عن الصوم فإن جاء به تاما جاز إلى الخامس ، فيسأل عن الحج فإن جاء به تاما جاز إلى السادس ، فيسأل عن العمرة فإن [ أجابها ] تامة جاز إلى السابع ، فيسأل عن المظالم فإن خرج منها وإلا يقال : انظروا فإن كان له تطوع أكمل به أعماله ، فإذا فرغ منه انطلق به إلى الجنة . ( للطاغين ) للكافرين ( مآبا ) مرجعا يرجعون إليه . ( لابثين ) قرأ حمزة ويعقوب : " لبثين " بغير ألف ، وقرأ العامة " لابثين " [ بالألف ] وهما لغتان . ( فيها أحقابا ) جمع حقب ، والحقب الواحد : ثمانون سنة ، كل سنة اثنا عشر شهرا ، كل شهر ثلاثون يوما ، كل يوم ألف سنة . روي ذلك عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - .
وقال مجاهد : " الأحقاب " ثلاثة وأربعون حقبا كل حقب سبعون خريفا ، كل خريف سبعمائة سنة ، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم ألف سنة . [ ص: 315 ]
قال الحسن : إن الله لم يجعل لأهل النار مدة ، بل قال : " لابثين فيها أحقابا " فوالله ما هو إلا [ إذا ] مضى حقب دخل آخر ثم آخر إلى الأبد ، فليس للأحقاب عدة إلا الخلود .
وروى السدي عن مرة عن عبد الله قال : لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا ، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا .
وقال مقاتل بن حيان : الحقب الواحد سبع عشرة ألف سنة . قال : وهذه الآية منسوخة نسختها فلن نزيدكم إلا عذابا يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل .
( لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ( 24 ) إلا حميما وغساقا ( 25 ) جزاء وفاقا ( 26 ) إنهم كانوا لا يرجون حسابا ( 27 ) وكذبوا بآياتنا كذابا ( 28 ) وكل شيء أحصيناه كتابا ( 29 ) )
( لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ) روي عن ابن عباس : أن البرد النوم ، ومثله قال الكسائي و [ قال ] أبو عبيدة ، تقول العرب : منع البرد البرد أي أذهب البرد النوم . وقال الحسن وعطاء : " لا يذوقون فيها بردا " أي : روحا وراحة . وقال مقاتل : " لا يذوقون فيها بردا " ينفعهم من حر ، " ولا شرابا " ينفعهم من عطش . ( إلا حميما وغساقا ) قال ابن عباس : " الغساق " الزمهرير يحرقهم ببرده . وقيل : صديد أهل النار ، وقد ذكرناه في سورة " ص " ( جزاء وفاقا ) أي جزيناهم جزاء وافق أعمالهم . قال مقاتل : وافق العذاب الذنب ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار . ( إنهم كانوا لا يرجون حسابا ) لا يخافون أن يحاسبوا ، والمعنى : أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا بأنهم محاسبون . ( وكذبوا بآياتنا ) أي بما جاءت به الأنبياء ( كذابا ) تكذيبا ، قال الفراء : هي لغة يمانية فصيحة ، يقولون في مصدر التفعيل فعال وقال : قال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني : الحلق أحب [ ص: 316 ] إليك أم القصار ؟ . ( وكل شيء أحصيناه كتابا ) أي وكل شيء من الأعمال بيناه في اللوح المحفوظ ، كقوله : " وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " ( يس - 12 ) .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 05:09 AM
الحلقة (423)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ النازعات
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 12
( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ( 30 ) إن للمتقين مفازا ( 31 ) حدائق وأعنابا ( 32 ) وكواعب أترابا ( 33 ) وكأسا دهاقا ( 34 ) لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا ( 35 ) جزاء من ربك عطاء حسابا ( 36 ) رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا ( 37 ) )
( فذوقوا ) أي يقال لهم : فذوقوا ، ( فلن نزيدكم إلا عذابا ) قوله - عز وجل - : ( إن للمتقين مفازا ) فوزا ونجاة من النار ، وقال الضحاك : متنزها . ( حدائق وأعنابا ) يريد أشجار الجنة وثمارها . ( وكواعب ) جواري نواهد قد تكعبت ثديهن ، واحدتها كاعب ، ( أترابا ) مستويات في السن . ( وكأسا دهاقا ) قال ابن عباس والحسن وقتادة وابن زيد : مترعة مملوءة . وقال سعيد بن جبير ومجاهد : متتابعة . قال عكرمة : صافية . ( لا يسمعون فيها لغوا ) باطلا من الكلام ( ولا كذابا ) تكذيبا ، لا يكذب بعضهم بعضا . وقرأ الكسائي " كذابا " بالتخفيف مصدر [ كاذب ] كالمكاذبة ، وقيل : هو الكذب . وقيل : هو بمعنى التكذيب كالمشدد . ( جزاء من ربك عطاء حسابا ) أي جازاهم جزاء وأعطاهم عطاء " حسابا " أي : كافيا وافيا ، يقال : أحسبت فلانا ، أي أعطيته ما يكفيه حتى قال حسبي . وقال ابن قتيبة : " عطاء حسابا " أي كثيرا وقيل : هو جزاء بقدر أعمالهم . ( رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن ) قرأ أهل الحجاز ، وأبو عمرو : " رب " رفع على الاستئناف و " الرحمن " خبره . وقرأ الآخرون بالجر إتباعا لقوله : " من ربك " وقرأ ابن عامر ، [ ص: 317 ] وعاصم ، ويعقوب : " الرحمن " جرا إتباعا لقوله : " رب السماوات " وقرأ الآخرون بالرفع ، فحمزة والكسائي يقرآن " رب " بالخفض لقربه من قوله : " جزاء من ربك " ويقرآن " الرحمن " بالرفع لبعده منه على الاستئناف ، وقوله : ( لا يملكون ) في موضع رفع ، خبره .
ومعنى ( لا يملكون منه خطابا ) قال مقاتل : لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه . وقال الكلبي : لا يملكون شفاعة إلا بإذنه .
( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ( 38 ) )
( يوم يقوم الروح ) أي في ذلك اليوم ( والملائكة صفا ) واختلفوا في هذا الروح ، قال الشعبي والضحاك : هو جبريل .
وقال عطاء عن ابن عباس : " الروح " ملك من الملائكة ما خلق الله مخلوقا أعظم منه ، فإذا كان يوم القيامة قام وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا واحدا ، فيكون عظم خلقه مثلهم .
وعن ابن مسعود قال : الروح ملك أعظم من السماوات ومن الجبال ، ومن الملائكة وهو في السماء الرابعة ، يسبح كل يوم اثني عشر [ ألف ] تسبيحة ، يخلق من كل تسبيحة ملك يجيء يوم القيامة صفا وحده .
وقال مجاهد ، وقتادة ، وأبو صالح : " الروح " خلق على صورة بني آدم ليسوا بناس يقومون صفا والملائكة صفا ، هؤلاء جند وهؤلاء جند .
وروى مجاهد عن ابن عباس قال : هم خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا معه واحد منهم .
وقال الحسن : هم بنو آدم . ورواه قتادة عن ابن عباس ، وقال : هذا مما كان يكتمه ابن عباس .
[ ص: 318 ] " والملائكة صفا " قال الشعبي : هما سماطا رب العالمين ، يوم يقوم سماط من الروح وسماط من الملائكة .
( لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) في الدنيا ، أي حقا . وقيل : قال : لا إله إلا الله .
( ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ( 39 ) إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ( 40 ) )
( ذلك اليوم الحق ) الكائن الواقع يعني يوم القيامة ( فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ) مرجعا وسبيلا بطاعته ، أي : فمن شاء رجع إلى الله بطاعته . ( إنا أنذرناكم عذابا قريبا ) يعني العذاب في الآخرة ، وكل ما هو آت قريب . ( يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ) أي كل امرئ يرى في ذلك اليوم ما قدم من العمل مثبتا في صحيفته ، ( ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا )
قال عبد الله بن عمرو : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم ، وحشرت الدواب والبهائم والوحوش ، ثم يجعل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء تنطحها ، فإذا فرغ من القصاص قيل لها : كوني ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا ومثله عن مجاهد .
وقال مقاتل : يجمع الله الوحوش والهوام والطير فيقضي بينهم حتى يقتص للجماء من القرناء ، ثم يقول لهم : أنا خلقتكم وسخرتكم لبني آدم وكنتم مطيعين إياهم أيام حياتكم ، فارجعوا إلى الذي [ ص: 319 ] كنتم ، كونوا ترابا ، فإذا التفت الكافر إلى شيء صار ترابا ، يتمنى فيقول : يا ليتني كنت في الدنيا في صورة خنزير ، وكنت اليوم ترابا .
وعن [ أبي الزناد عبد الله بن ذكوان ] قال : إذا قضى الله بين الناس وأمر أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، وقيل لسائر الأمم ولمؤمني الجن عودوا ترابا فيعودون ترابا ، فحينئذ يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا وبه قال ليث بن [ أبي ] سليم ، مؤمنو الجن يعودون ترابا
وقيل : إن الكافر هاهنا إبليس وذلك أنه عاب آدم وأنه خلق من التراب وافتخر بأنه خلق من النار ، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه المؤمنون من الثواب والرحمة ، وما هو فيه من الشدة والعذاب ، قال : يا ليتني كنت ترابا قال أبو هريرة فيقول : التراب لا ولا كرامة لك ، من جعلك مثلي ؟
سُورَةُ النَّازِعَاتِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ( 1 ) )
( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ) يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ تَنْزِعُ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ مِنْ أَجْسَادِهِمْ ، كَمَا يُغْرِقُ النَّازِعُ فِي الْقَوْسِ فَيَبْلُغُ بِهَا غَايَةَ الْمَدِّ بَعْدَ مَا نَزَعَهَا حَتَّى إِذَا كَادَتْ تَخْرُجُ رَدَّهَا فِي جَسَدِهِ فَهَذَا عَمَلُهُ بِالْكُفَّارِ ، وَ " الْغَرْقُ " اسْمٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْإِغْرَاقِ ، أَيْ : وَالنَّازِعَاتِ إِغْرَاقًا ، وَالْمُرَادُ بِالْإِغْرَاقِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَدِّ .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : يَنْزِعُهَا مَلَكُ الْمَوْتِ [ وَأَعْوَانُهُ ] مِنْ تَحْتِ كُلِّ شَعْرَةٍ وَمِنَ الْأَظَافِيرِ وَأُصُولِ الْقَدَمَيْنِ [ وَيُرَدِّدُهَا فِي جَسَدِهِ بَعْدَمَا يَنْزِعُهَا ] حَتَّى إِذَا كَادَتْ تَخْرُجُ رَدَّهَا فِي جَسَدِهِ بَعْدَمَا يَنْزِعُهَا ، فَهَذَا عَمَلُهُ بِالْكُفَّارِ .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ : مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ يَنْزِعُونَ [ أَرْوَاحَ ] الْكُفَّارِ كَمَا يُنْزَعُ السَّفُّودُ الْكَثِيرُ الشُّعَبِ مِنَ الصُّوفِ الْمُبْتَلِّ ، فَتَخْرُجُ نَفْسُهُ كَالْغَرِيقِ فِي الْمَاءِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هُوَ الْمَوْتُ يَنْزِعُ النُّفُوسَ . [ ص: 324 ]
وَقَالَ السُّدِّيُّ : هِيَ النَّفْسُ حِينَ تَغْرَقُ فِي الصَّدْرِ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ كَيْسَانَ : هِيَ النُّجُومُ تُنْزَعُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ تَطْلُعُ ثُمَّ تَغِيبُ . وَقَالَ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ : هِيَ الْقِسِيُّ . وَقِيلَ : الْغُزَاةُ الرُّمَاةُ .
( والناشطات نشطا ( 2 ) والسابحات سبحا ( 3 ) )
( والناشطات نشطا ) [ هي ] الملائكة تنشط نفس المؤمن ، أي تحل حلا رفيقا فتقبضها ، كما ينشط العقال من يد البعير ، أي يحل برفق ، حكى الفراء هذا القول ، ثم قال : والذي سمعت من العرب أن يقولوا : أنشطت العقال ، إذا حللته ، وأنشطته : إذا عقدته بأنشوطة . وفي الحديث : " كأنما أنشط من عقال " .
وعن ابن عباس : هي نفس المؤمن تنشط للخروج عند الموت ، لما يرى من الكرامة لأنه تعرض عليه الجنة قبل أن يموت .
وقال علي بن أبي طالب : هي الملائكة تنشط أرواح الكفار مما بين الجلد والأظفار حتى تخرجها من أفواههم بالكرب والغم ، والنشط : الجذب والنزع ، يقال : نشطت الدلو نشطا إذا نزعتها قال الخليل : النشط والإنشاط مدك الشيء إلى نفسك ، حتى ينحل .
وقال مجاهد : هو الموت ينشط النفوس . وقال السدي : هي النفس تنشط من القدمين أي تجذب . وقال قتادة : هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، أي تذهب ، يقال : نشط من بلد إلى بلد ، إذا خرج في سرعة ، ويقال : حمار ناشط ، ينشط من بلد إلى بلد ، وقال عطاء وعكرمة : هي [ الأوهاق ] . ( والسابحات سبحا ) هم الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها سلا رفيقا ، ثم يدعونها حتى تستريح كالسابح بالشيء في الماء يرفق به . [ ص: 325 ]
وقال مجاهد وأبو صالح : هم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين كالفرس الجواد يقال له سابح إذا أسرع في جريه .
وقيل : هي خيل الغزاة . وقال قتادة : هي النجوم والشمس [ والقمر ] قال الله تعالى : " كل في فلك يسبحون " ( الأنبياء - 33 ) .
وقال عطاء : هي السفن .
( فالسابقات سبقا ( 4 ) فالمدبرات أمرا ( 5 ) )
( فالسابقات سبقا ) قال مجاهد : هي الملائكة [ تسبق ] ابن آدم بالخير والعمل الصالح .
وقال مقاتل : هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة .
وعن ابن مسعود قال : هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها شوقا إلى لقاء الله وكرامته ، وقد عاينت السرور .
وقال قتادة : هي النجوم يسبق بعضها بعضا في السير . وقال عطاء : هي الخيل . ( فالمدبرات أمرا ) قال ابن عباس : هم الملائكة وكلوا بأمور عرفهم الله - عز وجل - العمل بها .
قال [ عبد الرحمن ] بن سابط : يدبر [ الأمور ] في الدنيا أربعة : جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت ، وإسرافيل ، عليهم السلام ، أما جبريل : فموكل بالريح والجنود ، وأما ميكائيل : فموكل بالقطر والنبات ، وأما ملك الموت : فموكل بقبض [ الأرواح ] وأما إسرافيل : فهو ينزل بالأمر عليهم .
وجواب هذه الأقسام محذوف ، على تقدير : لتبعثن ولتحاسبن . [ ص: 326 ]
وقيل : جوابه [ قوله ] " إن في ذلك لعبرة لمن يخشى " .
وقيل : فيه تقديم [ وتأخير ] تقديره : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة والنازعات غرقا .
( يوم ترجف الراجفة ( 6 ) تتبعها الرادفة ( 7 ) )
قوله - عز وجل - : ( يوم ترجف الراجفة ) يعني النفخة الأولى ، يتزلزل ويتحرك لها كل شيء ، ويموت منها جميع [ الخلائق ] . ( تتبعها الرادفة ) وهي النفخة الثانية ردفت الأولى وبينهما أربعون سنة .
قال قتادة : هما صيحتان فالأولى تميت كل شيء ، والأخرى تحيي كل شيء بإذن الله - عز وجل - .
وقال مجاهد : ترجف الراجفة تتزلزل الأرض والجبال ، تتبعها الرادفة حين تنشق السماء ، وتحمل الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة وقال عطاء : " الراجفة " القيامة و " الرادفة " البعث . وأصل الرجفة : الصوت والحركة .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك ، حدثنا محمد بن هارون الحضرمي ، حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا قبيصة بن عقبة ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبي بن كعب قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ربع الليل قام ، وقال : " يا أيها الناس اذكروا الله ، [ اذكروا الله ] جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه ، [ ص: 327 ] [ جاء الموت بما فيه ] " .
( قلوب يومئذ واجفة ( 8 ) أبصارها خاشعة ( 9 ) يقولون أئنا لمردودون في الحافرة ( 10 ) أئذا كنا عظاما نخرة ( 11 ) قالوا تلك إذا كرة خاسرة ( 12 ) )
( قلوب يومئذ واجفة ) خائفة قلقة مضطربة ، وسمي " الوجيف " في السير ، لشدة اضطرابه ، يقال : وجف القلب ووجب وجوفا ووجيفا ووجوبا ووجيبا . وقال مجاهد : وجلة . وقال السدي : زائلة عن أماكنها ، نظيره " إذ القلوب لدى الحناجر " ( غافر - 18 ) . ( أبصارها خاشعة ) ذليلة ، كقوله : " خاشعين من الذل " ( الشورى - 45 ) الآية . ( يقولون ) يعني المنكرين للبعث إذا قيل لهم إنكم مبعوثون من بعد الموت : ( أئنا لمردودون في الحافرة ) أي : إلى أول الحال وابتداء الأمر ، فنصير أحياء بعد الموت كما كنا ؟ تقول العرب : رجع فلان في حافرته ، أي رجع من حيث جاء ، والحافرة عندهم اسم لابتداء الشيء ، [ وأول الشيء ] .
وقال بعضهم : " الحافرة " وجه الأرض التي تحفر فيها قبورهم ، سميت حافرة بمعنى المحفورة ، كقوله : " عيشة راضية " أي مرضية .
وقيل : سميت حافرة لأنها مستقر [ الحوافر ] أي أئنا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقا جديدا نمشي عليها ؟ وقال ابن زيد : " الحافرة " النار . ( أئذا كنا عظاما نخرة ) قرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، ويعقوب : " أئنا " ؟ مستفهما ، " إذا " بتركه ، ضده أبو جعفر ، [ الباقون ] باستفهامهما ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو عمرو : " عظاما ناخرة " ، وقرأ الآخرون " نخرة " وهما لغتان ، مثل الطمع والطامع والحذر والحاذر ، ومعناهما البالية ، وفرق قوم بينهما ، فقالوا : النخرة : البالية ، والناخرة : المجوفة التي تمر فيها الريح فتنخر ، أي : تصوت . ( قالوا ) يعني المنكرين ( تلك إذا كرة خاسرة ) رجعة خائبة ، يعني إن رددنا بعد الموت [ ص: 328 ] لنخسرن بما يصيبنا بعد الموت .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 05:13 AM
الحلقة (424)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ النازعات
مَكِّيَّةٌ
الاية 13 إلى الاية 31
( فإنما هي زجرة واحدة ( 13 ) فإذا هم بالساهرة ( 14 ) هل أتاك حديث موسى ( 15 ) إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى ( 16 ) اذهب إلى فرعون إنه طغى ( 17 ) فقل هل لك إلى أن تزكى ( 18 ) وأهديك إلى ربك فتخشى ( 19 ) فأراه الآية الكبرى ( 20 ) )
قال الله - عز وجل - ( فإنما هي ) يعني النفخة الأخيرة ( زجرة ) صيحة ( واحدة ) يسمعونها . ( فإذا هم بالساهرة ) يعني : وجه الأرض ، أي صاروا على وجه الأرض بعدما كانوا في جوفها والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض : ساهرة . قال بعض أهل اللغة تراهم سموها ساهرة لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم . قال سفيان : هي أرض الشام وقال قتادة : هي جهنم قوله - عز وجل - : ( هل أتاك حديث موسى ) يقول : قد جاءك يا محمد حديث موسى . ( إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى ) فقال يا موسى ( اذهب إلى فرعون إنه طغى ) علا وتكبر وكفر بالله . ( فقل هل لك إلى أن تزكى ) قرأ أهل الحجاز ويعقوب بتشديد الزاي : أي تتزكى وتتطهر من الشرك ، وقرأ الآخرون [ بالتخفيف ] [ وأصله تتزكى فأدغمت التاء الثانية في الزاي في القراءة الأولى وحذفت في الثانية ، ومعناه تتطهر من الشرك ] أي : تسلم وتصلح ، قال ابن عباس : تشهد أن لا إله إلا الله . ( وأهديك إلى ربك فتخشى ) أي : أدعوك إلى عبادة ربك وتوحيده فتخشى عقابه . ( فأراه الآية الكبرى ) وهي العصا واليد البيضاء .
[ ص: 329 ] ( فكذب وعصى ( 21 ) ثم أدبر يسعى ( 22 ) فحشر فنادى ( 23 ) فقال أنا ربكم الأعلى ( 24 ) فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ( 25 ) إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ( 26 ) أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ( 27 ) رفع سمكها فسواها ( 28 ) وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ( 29 ) والأرض بعد ذلك دحاها ( 30 ) )
( فكذب ) بأنهما من الله ( وعصى ) ( ثم أدبر ) تولى وأعرض عن الإيمان ( يسعى ) يعمل بالفساد في الأرض . ( فحشر ) فجمع قومه وجنوده ( فنادى ) لما اجتمعوا . ( فقال أنا ربكم الأعلى ) فلا رب فوقي . وقيل : أراد أن الأصنام أرباب وأنا ربكم وربها . ( فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ) قال الحسن وقتادة : عاقبه الله فجعله نكال الآخرة والأولى ، أي في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالنار .
وقال مجاهد وجماعة من المفسرين : أراد بالآخرة والأولى كلمتي فرعون قوله : " ما علمت لكم من إله غيري " ( القصص - 38 ) وقوله : " أنا ربكم الأعلى " وكان بينهما أربعون سنة . ( إن في ذلك ) الذي فعل بفرعون حين كذب وعصى ( لعبرة ) لعظة ( لمن يخشى ) الله - عز وجل - . ثم خاطب منكري البعث فقال ( أأنتم أشد خلقا أم السماء ) يعني أخلقكم بعد الموت أشد عندكم وفي تقديركم أم السماء ؟ وهما في قدرة الله واحد ، كقوله " لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس " ( غافر - 57 ) ثم وصف خلق السماء فقال : ( بناها ) ( رفع سمكها ) سقفها ( فسواها ) بلا شطور [ ولا شقوق ] ولا فطور . ( وأغطش ) أظلم ( ليلها ) والغطش والغبش الظلمة ( وأخرج ضحاها ) أبرز وأظهر نهارها ونورها ، وأضافهما إلى السماء لأن الظلمة والنور كلاهما ينزل من السماء . ( والأرض بعد ذلك ) بعد خلق السماء ( دحاها ) بسطها ، والدحو البسط . قال ابن عباس : خلق الله الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء ، ثم استوى إلى السماء فسواهن [ ص: 330 ] سبع سماوات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك .
وقيل : معناه : والأرض مع ذلك دحاها ، كقوله - عز وجل - : " عتل بعد ذلك زنيم " ( القلم - 13 ) أي مع ذلك .
( أخرج منها ماءها ومرعاها ( 31 ) والجبال أرساها ( 32 ) متاعا لكم ولأنعامكم ( 33 ) فإذا جاءت الطامة الكبرى ( 34 ) يوم يتذكر الإنسان ما سعى ( 35 ) وبرزت الجحيم لمن يرى ( 36 ) فأما من طغى ( 37 ) وآثر الحياة الدنيا ( 38 ) فإن الجحيم هي المأوى ( 39 ) وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ( 40 ) فإن الجنة هي المأوى ( 41 ) يسألونك عن الساعة أيان مرساها ( 42 ) فيم أنت من ذكراها ( 43 ) إلى ربك منتهاها ( 44 ) )
( أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم فإذا جاءت الطامة الكبرى ) يعني النفخة الثانية التي فيها البعث وقامت القيامة ، وسميت القيامة : " طامة " لأنها تطم على كل هائلة من الأمور ، فتعلو فوقها وتغمر ما سواها ، و " الطامة " عند العرب : الداهية التي لا تستطاع . ( يوم يتذكر الإنسان ما سعى ) ما عمل في الدنيا من خير وشر . ( وبرزت الجحيم لمن يرى ) قال مقاتل يكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق . ( فأما من طغى ) في كفره . ( وآثر الحياة الدنيا ) على الآخرة . ( فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ) عن المحارم التي تشتهيها ، قال مقاتل : هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها . ( فإن الجنة هي المأوى يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) متى ظهورها وثبوتها . ( فيم أنت من ذكراها ) لست في شيء من علمها وذكرها ، أي لا تعلمها . ( إلى ربك منتهاها ) أي منتهى علمها عند الله .
[ ص: 331 ] ( إنما أنت منذر من يخشاها ( 45 ) كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ( 46 ) )
( إنما أنت منذر من يخشاها ) قرأ أبو جعفر : " منذر " بالتنوين أي [ إنما أنت ] مخوف من يخاف قيامها ، أي : إنما ينفع إنذارك من يخافها . ( كأنهم ) يعني كفار قريش ( يوم يرونها ) يعاينون يوم القيامة ( لم يلبثوا ) في الدنيا ، وقيل : في قبورهم ( إلا عشية أو ضحاها ) قال الفراء : ليس للعشية ضحى ، إنما الضحى لصدر النهار ، ولكن هذا ظاهر من كلام العرب أن يقولوا : آتيك العشية أو غداتها ، إنما معناه : آخر يوم أو أوله ، نظيره : قوله " كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار " ( الأحقاف - 35 ) .
سورة عبس
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
( عبس وتولى ( 1 ) أن جاءه الأعمى ( 2 ) )
( عبس ) كلح ( وتولى ) أعرض بوجهه . ( أن جاءه الأعمى ) [ أي : لأن جاءه الأعمى ] وهو ابن أم مكتوم ، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي ، وذلك أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يناجي عتبة بن ربيعة ، وأبا جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأبي بن خلف ، وأخاه أمية ، يدعوهم إلى الله ، يرجو إسلامهم ، فقال ابن أم مكتوم : [ يا رسول الله ] أقرئني وعلمني مما علمك الله ، فجعل يناديه ويكرر النداء ، ولا يدري أنه مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهية في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء الصناديد : إنما أتباعه العميان والعبيد والسفلة ، فعبس وجهه وأعرض عنه ، وأقبل على القوم الذين يكلمهم ، فأنزل الله هذه الآيات ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك يكرمه ، وإذا رآه قال : مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ، ويقول له : هل لك من حاجة ؟ واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما ، قال أنس بن مالك : فرأيته يوم القادسية عليه درع ومعه [ ص: 336 ] راية سوداء .
( وما يدريك لعله يزكى ( 3 ) أو يذكر فتنفعه الذكرى ( 4 ) أما من استغنى ( 5 ) فأنت له تصدى ( 6 ) وما عليك ألا يزكى ( 7 ) وأما من جاءك يسعى ( 8 ) وهو يخشى ( 9 ) فأنت عنه تلهى ( 10 ) كلا إنها تذكرة ( 11 ) فمن شاء ذكره ( 12 ) في صحف مكرمة ( 13 ) )
( وما يدريك لعله يزكى ) يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح وما يتعلمه منك ، وقال ابن زيد : يسلم . ( أو يذكر ) يتعظ ( فتنفعه الذكرى ) الموعظة قرأ عاصم : " فتنفعه " بنصب العين على جواب " لعل " بالفاء ، وقراءة العامة بالرفع نسقا على قوله : " يذكر " . ( أما من استغنى ) قال ابن عباس : عن الله وعن الإيمان بما له من المال . ( فأنت له تصدى ) تتعرض له وتقبل عليه وتصغي إلى كلامه ، وقرأ أهل الحجاز : " تصدى " بتشديد الصاد على الإدغام ، أي : تتصدى ، وقرأ الآخرون بتخفيف الصاد على الحذف . ( وما عليك ألا يزكى ) لا يؤمن ولا يهتدي ، إن عليك إلا البلاغ . ( وأما من جاءك يسعى ) يمشي يعني : ابن أم مكتوم . ( وهو يخشى ) الله - عز وجل - . ( فأنت عنه تلهى ) تتشاغل وتعرض [ عنه ] ( كلا ) زجر ، أي لا تفعل بعدها مثلها ، ( إنها ) يعني هذه الموعظة . وقال مقاتل : آيات القرآن ( تذكرة ) موعظة وتذكير للخلق . ( فمن شاء ) من عباد الله ( ذكره ) أي اتعظ به . وقال مقاتل : فمن شاء الله ، ذكره وفهمه ، واتعظ بمشيئته وتفهيمه ، والهاء في " ذكره " راجعة إلى القرآن والتنزيل والوعظ . ثم أخبر عن جلالته عنده فقال ( في صحف مكرمة ) يعني اللوح المحفوظ . وقيل : كتب الأنبياء عليهم السلام ، دليله قوله [ ص: 337 ] تعالى : " إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى " ( الأعلى 18 - 19 ) .
( مرفوعة مطهرة ( 14 ) بأيدي سفرة ( 15 ) كرام بررة ( 16 ) قتل الإنسان ما أكفره ( 17 ) من أي شيء خلقه ( 18 ) من نطفة خلقه فقدره ( 19 ) ثم السبيل يسره ( 20 ) ثم أماته فأقبره ( 21 ) )
( مرفوعة ) رفيعة القدر عند الله - عز وجل - ، وقيل : مرفوعة يعني في السماء السابعة . ( مطهرة ) لا يمسها إلا المطهرون ، وهم الملائكة . ( بأيدي سفرة ) قال ابن عباس ومجاهد : كتبة ، وهم الملائكة الكرام الكاتبون ، واحدهم سافر ، يقال : سفرت أي كتبت . ومنه قيل [ للكاتب : سافر ، و ] للكتاب : سفر وجمعه : أسفار .
وقال الآخرون : هم الرسل من الملائكة واحدهم سفير ، وهو الرسول ، وسفير القوم الذي يسعى بينهم للصلح ، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم . ثم أثنى عليهم فقال : ( كرام بررة ) أي : كرام على الله ، بررة مطيعين ، جمع بار . قوله - عز وجل - : ( قتل الإنسان ) أي لعن الكافر . قال مقاتل : نزلت في عتبة بن أبي لهب ( ما أكفره ) ما أشد كفره بالله مع كثرة إحسانه إليه وأياديه عنده ، على طريق التعجب ، قال الزجاج : معناه : اعجبوا أنتم من كفره . وقال الكلبي ومقاتل : هو " ما " الاستفهام ، يعني : أي شيء حمله على الكفر ؟ ثم بين من أمره ما كان ينبغي معه أن يعلم أن الله خالقه فقال : ( من أي شيء خلقه ) لفظه استفهام ومعناه التقرير . ثم فسره فقال : ( من نطفة خلقه فقدره ) أطوارا : نطفة ثم علقة إلى آخر خلقه ، قال الكلبي : قدر خلقه ، رأسه وعينيه ويديه ورجليه . ( ثم السبيل يسره ) أي طريق خروجه من بطن أمه . قال السدي ومقاتل ، والحسن ومجاهد : يعني طريق الحق والباطل ، سهل له العلم به ، كما قال : " إنا هديناه السبيل " ( الإنسان - 3 ) " وهديناه النجدين " ( البلد - 10 ) وقيل : يسر على كل أحد ما خلقه له وقدره عليه . ( ثم أماته فأقبره ) جعل له قبرا يوارى فيه . قال الفراء : جعله مقبورا ولم يجعله ممن يلقى كالسباع والطيور . يقال : قبرت الميت إذا دفنته ، وأقبره الله : أي صيره بحيث يقبر ، وجعله ذا قبر ، [ ص: 338 ] كما يقال : طردت فلانا والله أطرده أي صيره طريدا .
( ثم إذا شاء أنشره ( 22 ) كلا لما يقض ما أمره ( 23 ) فلينظر الإنسان إلى طعامه ( 24 ) أنا صببنا الماء صبا ( 25 ) ثم شققنا الأرض شقا ( 26 ) فأنبتنا فيها حبا ( 27 ) وعنبا وقضبا ( 28 ) وزيتونا ونخلا ( 29 ) وحدائق غلبا ( 30 ) وفاكهة وأبا ( 31 ) )
( ثم إذا شاء أنشره ) أحياه بعد موته . ( كلا ) ردا عليه ، أي : ليس كما يقول ويظن هذا الكافر ، وقال الحسن : حقا . ( لما يقض ما أمره ) أي لم يفعل ما أمره [ الله به ] ولم يؤد ما فرض عليه ، ولما ذكر خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر فقال : ( فلينظر الإنسان إلى طعامه ( كيف قدره ربه ودبره له وجعله سببا لحياته . وقال مجاهد : إلى مدخله ومخرجه . ثم بين فقال : ( أنا ) قرأ أهل [ الكوفة ] " أنا " [ بالفتح ] على تكرير الخافض ، مجازه : فلينظر إلى أنا وقرأ الآخرون بالكسر على الاستئناف . ( صببنا الماء صبا ) يعني المطر . ( ثم شققنا الأرض شقا ) بالنبات . ( فأنبتنا فيها حبا ) يعني الحبوب التي يتغذى بها . ( وعنبا وقضبا ) وهو القت الرطب ، سمي بذلك لأنه يقضب في كل الأيام أي يقطع . وقال الحسن : القضب : العلف للدواب . ( وزيتونا ) وهو ما يعصر منه الزيت ( ونخلا ) جمع نخلة . ( وحدائق غلبا ) غلاظ الأشجار ، واحدها أغلب ، ومنه قيل لغليظ الرقبة : أغلب . وقال مجاهد ومقاتل : الغلب : الملتفة الشجر بعضه في بعض ، قال ابن عباس : طوالا . ( وفاكهة ) يريد ألوان الفواكه ( وأبا ) يعني الكلأ والمرعى الذي لم يزرعه الناس ، مما يأكله الأنعام والدواب . [ ص: 339 ]
قال عكرمة : " الفاكهة " ما يأكله الناس ، و " الأب " ما يأكله الدواب . ومثله عن قتادة قال : الفاكهة لكم والأب لأنعامكم .
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ما أنبتت [ الأرض ] مما يأكل الناس والأنعام .
وروي عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر سئل عن قوله : " وفاكهة وأبا " فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم .
وروى ابن شهاب عن أنس أنه سمع عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية ثم قال : كل هذا قد عرفنا فما الأب ؟ ثم رفض عصا كانت بيده وقال : هذا [ والله ] لعمر الله التكلف ، وما عليك يا ابن [ أم ] عمر أن لا تدري ما الأب ، ثم قال : اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب ، وما لا [ تبين ] فدعوه .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 05:18 AM
الحلقة (425)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ التكوير
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 19
( متاعا لكم ولأنعامكم ( 32 ) فإذا جاءت الصاخة ( 33 ) يوم يفر المرء من أخيه ( 34 ) وأمه وأبيه ( 35 ) وصاحبته وبنيه ( 36 ) )
( متاعا لكم ) منفعة لكم يعني الفاكهة ( ولأنعامكم ) يعني العشب . ثم ذكر القيامة فقال : ( فإذا جاءت الصاخة ) يعني صيحة القيامة سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع ، أي تبالغ في الأسماع حتى تكاد تصمها . ( يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ) لا يلتفت إلى واحد منهم لشغله بنفسه . [ ص: 340 ]
حكي عن قتادة قال في هذه الآية يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه قال : يفر هابيل من قابيل ، ويفر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمه ، وإبراهيم - عليه السلام - من أبيه ، ولوط - عليه السلام - من صاحبته ، ونوح - عليه السلام - من ابنه .
( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ( 37 ) وجوه يومئذ مسفرة ( 38 ) ضاحكة مستبشرة ( 39 ) ووجوه يومئذ عليها غبرة ( 40 ) ترهقها قترة ( 41 ) )
( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) يشغله عن شأن غيره .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن ، حدثنا محمد بن عبد العزيز ، حدثنا ابن أبي أويس ، حدثنا أبي ، عن محمد بن أبي عياش ، عن عطاء بن يسار ، عن سودة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يبعث الناس حفاة عراة غرلا قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان ، فقلت : يا رسول الله ، واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض ؟ فقال : قد شغل الناس ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " . ( وجوه يومئذ مسفرة ) مشرقة مضيئة . ( ضاحكة ) بالسرور ( مستبشرة ) فرحة بما نالت من كرامة الله - عز وجل - . ( ووجوه يومئذ عليها غبرة ) سواد وكآبة الهم [ والحزن ] ( ترهقها قترة ) تعلوها وتغشاها ظلمة وكسوف . قال ابن عباس : تغشاها ذلة . قال ابن زيد : الفرق بين الغبرة والقترة : أن القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء ، والغبرة ما كان أسفل في الأرض .
[ ص: 341 ] ( أولئك هم الكفرة الفجرة ( 42 ) )
( أولئك ) الذين يصنع بهم هذا ، ( أولئك هم الكفرة الفجرة ) جمع الكافر والفاجر .
سورة التكوير
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
( إذا الشمس كورت ( 1 ) )
( إذا الشمس كورت ) أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن سهل السرخسي إملاء أخبرنا أبو الوفاء المؤمل بن الحسن بن عيسى الماسرجسي ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا إبراهيم بن خالد ، حدثنا عبد الله بن بحير القاضي قال سمعت عبد الرحمن بن زيد الصنعاني قال سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أحب أن ينظر في أحوال القيامة فليقرأ : ( إذا الشمس كورت )
قوله - عز وجل - ( إذا الشمس كورت ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أظلمت ، وقال قتادة ومقاتل والكلبي : ذهب ضوءها . وقال سعيد بن جبير : غورت . وقال مجاهد : اضمحلت . وقال الزجاج : لفت كما تلف العمامة ، يقال : كورت العمامة على رأسي ، أكورها كورا وكورتها تكويرا ، إذا لففتها وأصل التكوير جمع بعض الشيء إلى بعض ، فمعناه : أن الشمس يجمع بعضها إلى بعض ثم تلف ، فإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها . [ ص: 346 ]
قال ابن عباس : يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم [ القيامة ] في البحر ، ثم يبعث عليها ريحا دبورا فتضربها فتصير نارا .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا عبد العزيز بن المختار ، حدثنا عبد الله الداناج ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الشمس والقمر يكوران يوم القيامة " .
( وإذا النجوم انكدرت ( 2 ) وإذا الجبال سيرت ( 3 ) وإذا العشار عطلت ( 4 ) وإذا الوحوش حشرت ( 5 ) وإذا البحار سجرت ( 6 ) )
( وإذا النجوم انكدرت ) أي تناثرت من السماء وتساقطت على الأرض ، يقال : انكدر الطائر أي سقط عن عشه ، قال الكلبي وعطاء : تمطر السماء يومئذ نجوما فلا يبقى نجم إلا وقع . ( وإذا الجبال سيرت ) [ قلعت ] على وجه الأرض فصارت هباء [ منثورا ] . ( وإذا العشار عطلت ) وهي النوق الحوامل التي أتى على حملها عشرة أشهر ، واحدتها عشراء ، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام سنة ، وهي أنفس مال عند العرب ، " عطلت " تركت [ مهملة ] بلا راع أهملها أهلها ، وكانوا لازمين لأذنابها ، ولم يكن لهم مال أعجب إليهم منها ، لما جاءهم من أهوال يوم القيامة . ( وإذا الوحوش ) يعني دواب البر ( حشرت ) جمعت بعد البعث ليقتص لبعضها من بعض وروى عكرمة عن ابن عباس قال : حشرها : موتها . وقال : حشر كل شيء الموت ، غير الجن والإنس ، فإنهما يوقفان يوم القيامة . وقال أبي بن كعب : اختلطت . ( وإذا البحار سجرت ) قرأ أهل مكة والبصرة بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد ، قال ابن عباس : أوقدت فصارت نارا تضطرم ، وقال مجاهد ومقاتل : يعني فجر بعضها في بعض ، العذب [ ص: 347 ] والملح ، فصارت البحور كلها بحرا واحدا . وقال الكلبي : ملئت ، وهذا أيضا معناه : " والبحر المسجور " ( الطور - 6 ) والمسجور : المملوء ، وقيل : صارت مياهها بحرا واحدا من الحميم لأهل النار . وقال الحسن : يبست ، وهو قول قتادة ، قال : ذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة .
وروى أبو العالية عن أبي بن كعب ، قال ست آيات قبل يوم القيامة : بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس ، [ فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم ] فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت ، وفزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن ، واختلطت الدواب والطير والوحش ، وماج بعضهم في بعض ، فذلك قوله : ( وإذا الوحوش حشرت ) [ اختلطت ] ( وإذا العشار عطلت وإذا البحار سجرت ) قال : قالت الجن للإنس نحن نأتيكم بالخبر : فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج ، قال : فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى [ وانشقت السماء إنشقاقة واحدة وإلى السماء السابعة العليا ، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم .
( وإذا النفوس زوجت ( 7 ) )
وعن ابن عباس أيضا قال : هي اثنتا عشرة خصلة ، ستة في الدنيا وستة في الآخرة ، وهي ما ذكره بقوله - عز وجل - : ( وإذا النفوس زوجت ) وروى النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن هذه الآية ؟ فقال : يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة ، ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار وهذا [ معنى ] قول عكرمة .
وقال الحسن وقتادة : ألحق كل امرئ بشيعته ، اليهودي باليهودي والنصراني بالنصراني .
قال الربيع بن خثيم : يحشر الرجل مع صاحب عمله . وقيل : زوجت النفوس بأعمالها .
وقال عطاء ومقاتل : زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين ، وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين . [ ص: 348 ]
وروي عن عكرمة قال : وإذا النفوس زوجت ردت الأرواح في الأجساد .
( وإذا الموءودة سئلت ( 8 ) بأي ذنب قتلت ( 9 ) وإذا الصحف نشرت ( 10 ) وإذا السماء كشطت ( 11 ) )
( وإذا الموءودة سئلت ) وهي الجارية المدفونة حية ، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب فيئدها ، أي يثقلها حتى تموت ، وكانت العرب تدفن البنات حية مخافة العار والحاجة ، يقال : [ أود هذا ليس بصحيح من حيث البناء لأن الموءودة من الوأد لا من الأود يقال ] وأد يئد وأدا ، فهو وائد ، والمفعول موءود .
روى عكرمة عن ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت وكان أوان ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة ، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت غلاما حبسته . ( بأي ذنب قتلت ) قرأ العامة على الفعل المجهول فيهما ، وأبو جعفر يقرأ : " قتلت " بالتشديد ومعناه تسأل الموءودة ، فيقال لها : بأي ذنب قتلت ؟ ومعنى سؤالها توبيخ قاتلها ، لأنها تقول : قتلت بغير ذنب .
وروي أن جابر بن زيد كان يقرأ : وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ومثله قرأ أبو الضحى . ( وإذا الصحف نشرت ) قرأ أهل المدينة والشام وعاصم ويعقوب : " نشرت " بالتخفيف ، وقرأ الآخرون بالتشديد ، كقوله : " يؤتى صحفا منشرة " ( المدثر - 52 ) يعني صحائف الأعمال تنتشر للحساب . ( وإذا السماء كشطت ) قال الفراء : نزعت فطويت . وقال الزجاج : قلعت كما يقلع السقف . وقال مقاتل : تكشف عمن فيها . ومعنى " الكشط " رفعك شيئا عن شيء قد غطاه ، كما يكشط الجلد عن السنام .
[ ص: 349 ] ( وإذا الجحيم سعرت ( 12 ) وإذا الجنة أزلفت ( 13 ) علمت نفس ما أحضرت ( 14 ) فلا أقسم بالخنس ( 15 ) الجوار الكنس ( 16 ) والليل إذا عسعس ( 17 ) والصبح إذا تنفس ( 18 ) إنه لقول رسول كريم ( 19 ) )
( وإذا الجحيم سعرت ) قرأ أهل المدينة والشام ، وحفص عن عاصم : " سعرت " بالتشديد ، وقرأ الباقون بالتخفيف أي : أوقدت لأعداء الله . ( وإذا الجنة أزلفت ) قربت لأولياء الله . ( علمت ) عند ذلك ( نفس ) أي : كل نفس ( ما أحضرت ) من خير أو شر ، وهذا جواب لقوله : " إذا الشمس كورت " وما بعدها . قوله - عز وجل - : ( فلا أقسم بالخنس ) " لا " زائدة ، معناه : أقسم بالخنس ( الجوار الكنس ) قال قتادة : هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار ، فتخفى فلا ترى .
وعن علي أيضا : أنها الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى ، وتكنس تأوي إلى مجاريها .
وقال قوم : هي النجوم الخمسة : زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والزهرة ، وعطارد ، تخنس في مجراها ، أي : ترجع وراءها وتكنس : تستتر وقت اختفائها وغروبها ، كما تكنس الظباء في مغارها .
وقال ابن زيد : معنى " الخنس " أنها تخنس أي : تتأخر عن مطالعها في كل عام تأخرا تتأخره عن تعجيل ذلك الطلوع ، تخنس عنه . و " الكنس " أي تكنس بالنهار فلا ترى . وروى الأعمش عن إبراهيم ، عن عبد الله أنها هي الوحش .
وقال سعيد بن جبير : هي الظباء . وهي رواية العوفي عن ابن عباس .
وأصل الخنوس : الرجوع إلى وراء ، والكنوس : أن تأوي إلى مكانسها ، وهي المواضع التي تأوي إليها الوحوش . ( والليل إذا عسعس ) قال الحسن : أقبل بظلامه . وقال الآخرون : أدبر . تقول العرب : عسعس الليل وسعسع : إذا أدبر ولم يبق منه إلا اليسير . (والصبح إذا تنفس ) أقبل وبدا أوله ، وقيل : امتد ضوءه وارتفع . ( إنه ) يعني القرآن ( لقول رسول كريم ) يعني جبريل أي : نزل به جبريل عن الله تعالى .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 05:23 AM
الحلقة (426)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الانفطار
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 19
[ ص: 350 ] ( ذي قوة عند ذي العرش مكين ( 20 ) مطاع ثم أمين ( 21 ) وما صاحبكم بمجنون ( 22 ) ولقد رآه بالأفق المبين ( 23 ) )
( ذي قوة ) وكان من قوته أنه اقتلع قريات قوم لوط من الماء الأسود وحملها على جناحه فرفعها إلى السماء ثم قلبها ، وأنه أبصر إبليس يكلم عيسى على بعض عقاب الأرض المقدسة فنفخه بجناحه نفخة ألقاه إلى [ أقصى ] جبل بالهند ، وأنه صاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين ، وأنه يهبط من السماء إلى الأرض ويصعد في أسرع من [ الطير ] ( عند ذي العرش مكين ) في المنزلة . ( مطاع ثم ) أي في [ السماوات ] تطيعه الملائكة ، ومن طاعة الملائكة إياه أنهم فتحوا أبواب السماوات ليلة المعراج بقوله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفتح خزنة الجنة أبوابها بقوله ، ( أمين ) على وحي الله ورسالته إلى أنبيائه . ( وما صاحبكم بمجنون ) يقول لأهل مكة : وما صاحبكم يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - بمجنون . وهذا أيضا من جواب القسم ، أقسم على أن القرآن نزل به جبريل ، وأن محمدا ليس كما يقوله أهل مكة ، وذلك أنهم قالوا إنه مجنون ، وما يقول يقوله من عند نفسه . ( ولقد رآه ) يعني رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - على صورته ( بالأفق المبين ) وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق ، قاله مجاهد وقتادة .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا الحسن بن عليوة ، حدثنا إسماعيل بن عيسى ، حدثنا إسحاق بن بشر ، أخبرنا ابن جريج ، عن عكرمة [ ومقاتل ] عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل : " إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السماء " قال لن تقوى على ذلك ، قال : بلى ، قال : فأين تشاء أن أتخيل لك ؟ قال : بالأبطح ، قال : لا يسعني ، قال فهاهنا ، قال : لا يسعني ، قال : فبعرفات ، قال : ذلك بالحرى أن يسعني فواعده ، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوقت فإذا هو بجبريل قد أقبل من جبال عرفات بخشخشة وكلكلة ، قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ، ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض ، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر وخر مغشيا عليه . قال : فتحول جبريل في صورته فضمه إلى [ ص: 351 ] صدره ، وقال : يا محمد لا تخف فكيف لك لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة ، وإن العرش لعلى كاهله ، وإنه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله - عز وجل - حتى يصير مثل [ الصعو ] يعني العصفور ، حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته .
( وما هو على الغيب بضنين ( 24 ) وما هو بقول شيطان رجيم ( 25 ) فأين تذهبون ( 26 ) إن هو إلا ذكر للعالمين ( 27 ) لمن شاء منكم أن يستقيم ( 28 ) وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ( 29 ) )
( وما هو ) يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - ( على الغيب ) أي الوحي ، وخبر السماء وما اطلع عليه مما كان غائبا عنه من الأنباء والقصص ، ( بضنين ) قرأ أهل مكة والبصرة والكسائي بالظاء أي بمتهم ، يقال : فلان يظن بمال ويزن أي يتهم به : والظنة : التهمة ، وقرأ الآخرون بالضاد أي يبخل ، يقول إنه يأتيه علم الغيب فلا يبخل به عليكم بل يعلمكم ويخبركم به ، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلوانا ، تقول العرب : ضننت بالشيء بكسر النون أضن به ضنا وضنانة فأنا به ضنين أي بخيل . ( وما هو ) يعني القرآن ( بقول شيطان رجيم ) قال الكلبي : يقول إن القرآن ليس بشعر ولا كهانة كما قالت قريش . ( فأين تذهبون ) أي أين تعدلون عن هذا القرآن ، وفيه الشفاء والبيان ؟ قال الزجاج : أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم . ثم بين فقال : ( إن هو ) أي ما القرآن ( إلا ذكر للعالمين ) موعظة للخلق أجمعين . ( لمن شاء منكم أن يستقيم ) أي يتبع الحق ويقيم عليه . ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) أي أعلمهم أن المشيئة في التوفيق إليه وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله ، وفيه إعلام أن أحدا لا يعمل خيرا إلا بتوفيق الله ولا شرا إلا بخذلانه .
سُورَةُ الِانْفِطَارِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ( 1 ) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ( 2 ) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ( 3 ) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ( 4 ) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ( 5 ) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ( 6 ) )
( إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ) انْشَقَّتْ . ( وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ) تَسَاقَطَتْ . ( وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ) فُجِّرَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَاخْتَلَطَ الْعَذْبُ بِالْمِلْحُ فَصَارَتْ بَحْرًا وَاحِدًا وَقَالَ الرَّبِيعُ : " فُجِّرَتْ " فَاضَتْ . ( وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ) بُحِثَتْ وَقُلِبَ تُرَابُهَا وَبُعِثَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى أَحْيَاءً يُقَالُ : بَعْثَرْتُ الْحَوْضَ وَبَحْثَرْتُهُ إِذَا قَلَبْتُهُ فَجَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ . ( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) قِيلَ : " مَا قَدَّمَتْ " مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ أَوْ سَيِّئٍ وَ " أَخَّرَتْ " مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ . وَقِيلَ : " مَا قَدَّمَتْ " مِنَ الصَّدَقَاتِ وَ " أَخَّرَتْ " مِنَ التَّرِكَاتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ : " يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ " ( الْقِيَامَةِ - 13 ) . ( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) مَا خَدَعَكَ وَسَوَّلَ لَكَ الْبَاطِلَ حَتَّى أَضَعْتَ مَا وَجَبَ عَلَيْكَ . وَالْمَعْنَى : مَاذَا أَمَّنَكَ مِنْ [ عَذَابِهِ ] قَالَ عَطَاءٌ : نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ . [ ص: 356 ]
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ : نَزَلَتْ فِي الْأَسْوَدِ بْنِ شُرَيْقٍ ضَرَبَ النَّبِيَّ فَلَمْ يُعَاقِبْهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ : مَا الَّذِي غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الْمُتَجَاوِزِ عَنْكَ إِذْ لَمْ يُعَاقِبْكَ عَاجِلًا بِكُفْرِكَ ؟ قَالَ قَتَادَةُ : غَرَّهُ عَدُوُّهُ الْمُسَلَّطُ عَلَيْهِ يَعْنِي الشَّيْطَانَ قَالَ مُقَاتِلٌ : غَرَّهُ عَفْوُ اللَّهِ حِينَ لَمْ يُعَاقِبْهُ فِي أَوَّلِ [ مَرَّةٍ ] . وَقَالَ السُّدِّيُّ : غَرَّهُ رِفْقُ اللَّهِ بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيَخْلُو اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . فَيَقُولُ : يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّكَ بِي ؟ يَا ابْنَ آدَمَ مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا [ عَلِمْتَ ] ؟ يَا ابْنَ آدَمَ مَاذَا أَجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ ؟ .
وَقِيلَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ : لَوْ أَقَامَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ : مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ مَاذَا كُنْتَ تَقُولُ ؟ قَالَ : أَقُولُ غَرَّنِي سُتُورُكَ الْمُرَخَّاةُ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ : لَوْ أَقَامَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ مَا غَرَّكَ بِي ؟ [ فَأَقُولُ ] غَرَّنِي بِكَ بِرُّكَ بِي سَالِفًا وَآنِفًا .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ : لَوْ قَالَ لِي : مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ لَقُلْتُ : غَرَّنِي كَرَمُ الْكَرِيمِ .
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَةِ : إِنَّمَا قَالَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ دُونَ سَائِرِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ كَأَنَّهُ لَقَّنَهُ الْإِجَابَةَ حَتَّى يَقُولَ : غَرَّنِي كَرَمُ الْكَرِيمِ .
( الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ( 7 ) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ( 8 ) )
( الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ) قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ " فَعَدَلَكَ " بِالتَّخْفِيفِ أَيْ صَرَفَكَ وَأَمَالَكَ إِلَى أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ حَسَنًا وَقَبِيحًا وَطَوِيلًا وَقَصِيرًا . وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ قَوَّمَكَ وَجَعَلَكَ مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ وَالْأَعْضَاءِ . ( فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ : فِي أَيِّ شَبَهٍ مِنْ أَبٍ أَوْ أَمٍّ أَوْ خَالٍ أَوْ عَمٍّ .
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ : أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أُحْضِرَ كُلُّ عِرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ ثُمَّ قَرَأَ " فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ " . [ ص: 357 ] وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ قَوْلًا آخَرَ : " فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ " إِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ وَإِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ دَابَّةٍ أَوْ حَيَوَانٍ آخَرَ .
( كلا بل تكذبون بالدين ( 9 ) وإن عليكم لحافظين ( 10 ) كراما كاتبين ( 11 ) يعلمون ما تفعلون ( 12 ) إن الأبرار لفي نعيم ( 13 ) وإن الفجار لفي جحيم ( 14 ) يصلونها يوم الدين ( 15 ) وما هم عنها بغائبين ( 16 ) وما أدراك ما يوم الدين ( 17 ) ثم ما أدراك ما يوم الدين ( 18 ) )
( كلا بل تكذبون ) قرأ أبو جعفر بالياء وقرأ الآخرون بالتاء لقوله : " وإن عليكم لحافظين " ( بالدين ) بالجزاء والحساب . ( وإن عليكم لحافظين ) رقباء من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم . ( كراما ) على الله ( كاتبين ) يكتبون أقوالكم وأعمالكم . ( يعلمون ما تفعلون ) من خير أو شر . قوله - عز وجل - : ( إن الأبرار لفي نعيم ) الأبرار الذين بروا وصدقوا في إيمانهم بأداء فرائض الله - عز وجل - واجتناب معاصيه . ( وإن الفجار لفي جحيم ) روي أن سليمان بن عبد الملك قال لأبي حازم المدني : ليت شعري ما لنا عند الله ؟ قال : اعرض عملك على كتاب الله فإنك تعلم ما لك عند الله . قال : فأين أجد في كتاب الله ؟ قال عند قوله : " إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم " قال سليمان : فأين رحمة الله ؟ قال : " قريب من المحسنين " ( الأعراف - 56 ) . قوله - عز وجل - : ( يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين ) يدخلونها يوم القيامة ثم عظم ذلك اليوم فقال : ( وما أدراك ما يوم الدين ) ثم كرر تعجبا لشأنه فقال ( ثم ما أدراك ما يوم الدين )
( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ( 19 ) )
( يوم لا تملك ) قرأ أهل الكوفة والبصرة : " يوم " [ ص: 358 ] برفع الميم ردا على اليوم الأول وقرأ الآخرون بنصبها أي : في يوم يعني : هذه الأشياء في يوم لا تملك ( نفس لنفس شيئا ) قال مقاتل : يعني لنفس كافرة شيئا من المنفعة ( والأمر يومئذ لله ) أي لم يملك الله في ذلك اليوم أحدا شيئا كما ملكهم في الدنيا .
سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ
مَدَنِيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين َ ( 1 ) )
( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين َ ) يَعْنِي الَّذِينَ يَنْقُصُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وَيَبْخَسُونَ حُقُوقَ النَّاسِ . قَالَ الزَّجَّاجُ : إِنَّمَا قِيلَ لِلَّذِي يَنْقُصُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ : مُطَفِّفٌ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَسْرِقُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إِلَّا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ الطَّفِيفَ .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ يَعْقُوبُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلِيِّ الصَّيْرَفِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي يَزِيدُ النَّحْوِيُّ أَنَّ عِكْرِمَةَ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين َ " فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ .
وَقَالَ السُّدِّيُّ : قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَبِهَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ : أَبُو جُهَيْنَةَ وَمَعَهُ صَاعَانِ يَكِيلُ بِأَحَدِهِمَا وَيَكْتَالُ بِالْآخَرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ .
[ ص: 362 ] فَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْوَيْلَ لِلْمُطَفِّفِين َ . ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُطَفِّفِينَ مَنْ هُمْ فَقَالَ :
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 05:27 AM
الحلقة (427)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ
مَدَنِيَّةٌ
الاية 2 إلى الاية 26
( الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ( 2 ) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ( 3 ) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ( 4 ) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ( 5 ) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 6 ) )
( الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ) وَأَرَادَ إِذَا اكْتَالُوا مِنَ النَّاسِ أَيْ أَخَذُوا مِنْهُمُ وَ " مِنْ " وَ " عَلَى " مُتَعَاقِبَانِ .
قَالَ الزَّجَّاجُ : الْمَعْنَى إِذَا اكْتَالُوا مِنَ النَّاسِ اسْتَوْفَوْا عَلَيْهِمُ الْكَيْلَ [ الْوَزْنَ ] [ وَأَرَادَ : الَّذِينَ إِذَا اشْتَرَوْا لِأَنْفُسِهِمُ اسْتَوْفَوْا فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ ] .
( وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) أَيْ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ أَيْ لِلنَّاسُ يُقَالُ : وَزَنْتُكَ حَقَّكَ وَكِلْتُكَ طَعَامَكَ أَيْ وَزَنْتُ لَكَ وَكِلْتُ لَكَ كَمَا يُقَالُ : نَصَحْتُكَ وَنَصَحْتُ لَكَ وَكَسَبْتُكَ وَكَسَبْتُ لَكَ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : وَكَانَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ يَجْعَلُهُمَا حَرْفَيْنِ يَقِفُ عَلَى " كَالُوا وَوَزَنُوا " وَيَبْتَدِئُ " هُمْ يُخْسِرُونَ " وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : وَالِاخْتِيَارُ الْأَوَّلُ يَعْنِي : أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُمْ كَتَبُوهَا بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَوْ كَانَتَا مَقْطُوعَتَيْنِ لَكَانَتْ : " كَالُوا [ وَ ] وَزَنُوا " بِالْأَلِفِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ مِثْلُ جَاءُوا وَقَالُوا : وَاتَّفَقَتِ الْمَصَاحِفُ عَلَى إِسْقَاطِ الْأَلِفِ وَلِأَنَّهُ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ : كِلْتُكَ وَوَزَنْتُكَ كَمَا يُقَالُ : كِلْتُ لَكَ وَوَزَنْتُ لَكَ . " يُخْسِرُونَ " أَيْ يُنْقِصُونُ قَالَ نَافِعٌ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِالْبَائِعِ فَيَقُولُ : اتَّقِ اللَّهَ وَأَوْفِ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ فَإِنَّ الْمُطَفِّفِينَ يُوقَفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى إِنَّ الْعَرَقَ لَيُلْجِمُهُمْ إِلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ .
( أَلَا يَظُنُّ ) يَسْتَيْقِنُ ( أُولَئِكَ ) الَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ( أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ ) [ مِنْ قُبُورِهِمْ ] ( لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) أَيْ لِأَمْرِهِ وَلِجَزَائِهِ وَلِحِسَابِهِ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَخْبَرَنَا مَعْنٌ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ [ ص: 363 ] أُذُنَيْهِ " .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ الْكُشْمِيهَنِي ُّ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ : [ حَدَّثَنِي سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ ] حَدَّثَنِي الْمِقْدَادُ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ [ قَدْرَ ] مِيلٍ أَوِ اثْنَيْنِ " - قَالَ سُلَيْمٌ : لَا أَدْرِي أَيُّ الْمِيلَيْنِ يَعْنِي مَسَافَةَ الْأَرْضِ أَوِ الْمِيلَ الَّذِي تُكَحَّلُ بِهِ الْعَيْنُ ؟ - قَالَ : " فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ فَيَكُونُ فِي الْعَرَقِ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حِقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا " فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ يَقُولُ : " أَلْجَمَهُ إِلْجَامًا " .
( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ( 7 ) )
قوله - عز وجل - : ( كلا ) ردع ، أي ليس الأمر على ما هم عليه فليرتدعوا ، وتمام الكلام هاهنا ، وقال الحسن : " كلا " ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقا ( إن كتاب الفجار ) الذي كتبت فيه أعمالهم ( لفي سجين ) قال عبد الله بن عمر ، وقتادة ومجاهد ، والضحاك : ( سجين ) هي الأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفار .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا موسى بن محمد ، حدثنا الحسن بن علويه ، أخبرنا إسماعيل بن عيسى ، حدثنا المسيب ، حدثنا الأعمش ، عن المنهال ، عن زاذان ، عن البراء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " سجين " أسفل سبع أرضين ، و " عليون " في السماء السابعة تحت العرش .
[ ص: 364 ] وقال شمر بن عطية : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : أخبرني عن قول الله - عز وجل - : " إن كتاب الفجار لفي سجين " قال : إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها ثم يهبط بها إلى الأرض ، فتأبى الأرض أن تقبلها فتدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهى بها إلى سجين ، وهو موضع جند إبليس ، فيخرج لها من سجين رق ، فيرقم ويختم ، ويوضع تحت جند إبليس ، لمعرفتها الهلاك بحساب يوم القيامة وإليه ذهب سعيد بن جبير ، قال : سجين تحت جند إبليس .
وقال عطاء الخراساني : هي الأرض السفلى ، وفيها إبليس وذريته .
وقال الكلبي : هي صخرة تحت الأرض السابعة السفلى خضراء ، خضرة السماوات منها يجعل كتاب الفجار فيها .
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا قال : " سجين " صخرة تحت الأرض السفلى ، تقلب ، فيجعل كتاب الفجار فيها . وقال وهب : هي آخر سلطان إبليس .
وجاء في الحديث : " الفلق جب ، في جهنم مغطى ، وسجين جب في جهنم مفتوح " .
وقال عكرمة : " لفي سجين " أي : لفي خسار وضلال . وقال الأخفش : هو فعيل من السجن ، كما يقال : فسيق وشريب ، معناه : لفي حبس وضيق شديد .
( وما أدراك ما سجين ( 8 ) كتاب مرقوم ( 9 ) )
( وما أدراك ما سجين ) [ قال الزجاج ] أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك .
( كتاب مرقوم ) ليس هذا تفسير السجين ، بل هو بيان الكتاب المذكور في قوله : " إن كتاب الفجار " أي هو كتاب مرقوم ، أي مكتوب فيه أعمالهم مثبتة عليهم كالرقم في الثوب ، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به . وقال قتادة ومقاتل : رقم عليه بشركائه كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه [ ص: 365 ] كافر . وقيل : مختوم ، بلغة حمير .
( ويل يومئذ للمكذبين ( 10 ) الذين يكذبون بيوم الدين ( 11 ) وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ( 12 ) إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ( 13 ) كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( 14 ) كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ( 15 ) )
( ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين كلا ) قال مقاتل : أي لا يؤمنون ، ثم استأنف فقال : ( بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، أخبرنا إبراهيم بن حزيم الشاشي ، أخبرنا أبو محمد عبد بن حميد الكشي ، حدثنا صفوان بن عيسى ، عن ابن عجلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها ، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه " فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه : " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " .
وأصل " الرين " الغلبة ، يقال : رانت الخمر ، على عقله ترين ، رينا وريونا إذا غلبت عليه فسكر . ومعنى الآية ، غلبت على قلوبهم المعاصي وأحاطت بها . قال الحسن : هو الذنب على الذنب حتى يموت القلب . قال ابن عباس : " ران على قلوبهم " طبع عليها .
( كلا إنهم عن ربهم يومئذ ) يوم القيامة ( لمحجوبون ) [ قال ابن عباس : " كلا " يريد : لا يصدقون ، ثم استأنف فقال : " إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون "
قال بعضهم : عن كرامته ورحمته [ ممنوعون ] وقال قتادة : هو ألا ينظر إليهم ولا يزكيهم . وقال أكثر المفسرين : عن رؤيته [ ص: 366 ] قال الحسن : لو علم الزاهدون العابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا .
قال الحسين بن الفضل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته .
وسئل مالك عن هذه الآية فقال : لما حجب [ الله ] أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه .
وقال الشافعي - رضي الله عنه - : في قوله : " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " دلالة على أن أولياء الله يرون الله .
( ثم إنهم لصالو الجحيم ( 16 ) ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ( 17 ) كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ( 18 ) )
ثم أخبر أن الكفار مع كونهم محجوبين عن الله يدخلون النار فقال : ( ثم إنهم لصالو الجحيم ) لداخلو النار .
( ثم يقال ) أي تقول لهم الخزنة ( هذا ) أي هذا العذاب ( الذي كنتم به تكذبون )
( كلا ) قال مقاتل : لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه . ثم بين محل كتاب الأبرار فقال : ( إن كتاب الأبرار لفي عليين ) روينا عن البراء مرفوعا : " إن عليين في السماء السابعة تحت العرش " .
وقال ابن عباس : هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيه .
وقال كعب وقتادة : هو قائمة العرش اليمنى .
وقال عطاء عن ابن عباس : هو الجنة . وقال الضحاك : سدرة المنتهى .
وقال بعض أهل المعاني : علو بعد علو وشرف بعد شرف ، ولذلك جمعت بالياء والنون .
وقال الفراء : هو اسم موضوع على صيغة الجمع ، لا واحد له من لفظه ، مثل عشرين وثلاثين .
[ ص: 367 ] ( وما أدراك ما عليون ( 19 ) كتاب مرقوم ( 20 ) يشهده المقربون ( 21 ) إن الأبرار لفي نعيم ( 22 ) على الأرائك ينظرون ( 23 ) تعرف في وجوههم نضرة النعيم ( 24 ) يسقون من رحيق مختوم ( 25 ) ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ( 26 ) )
( وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم ) ليس بتفسير عليين ، أي مكتوب أعمالهم ، كما ذكرنا في كتاب الفجار . وقيل : كتب هناك ما أعد الله لهم من الكرامة ، وهو معنى قول مقاتل : وقولهم : رقم لهم يخبر . وتقدير الآية [ على ] التقديم والتأخير ، مجازها : إن كتاب الأبرار [ كتاب ] مرقوم في عليين ، وهو محل الملائكة ، ومثله إن كتاب الفجار كتاب مرقوم في سجين ، وهو محل إبليس وجنده .
( يشهده المقربون ) يعني الملائكة الذين هم في عليين ، يشهدون ويحضرون ذلك المكتوب أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين . ( إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون ) إلى ما أعطاهم الله من الكرامة والنعمة ، وقال مقاتل : ينظرون إلى عدوهم كيف يعذبون .
( تعرف في وجوههم نضرة النعيم ) إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة مما ترى في وجوههم من النور والحسن والبياض ، قال الحسن : النضرة في الوجه والسرور في القلب ، وقرأ أبو جعفر ويعقوب : " تعرف " بضم التاء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل " نضرة " رفع ، وقرأ الباقون بفتح التاء وكسر الراء " نضرة " نصب .
( يسقون من رحيق ) خمر صافية طيبة . قال مقاتل : الخمر البيضاء . ( مختوم ) ختم ومنع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه الأبرار ، وقال مجاهد : " مختوم " أي مطين .
( ختامه ) أي طينه ( مسك ) كأنه ذهب إلى هذا المعنى ، قال ابن زيد : ختامه عند الله مسك ، وختام [ خمر ] الدنيا طين . وقال ابن مسعود : " مختوم " أي ممزوج ختامه أي : آخر طعمه [ ص: 368 ] وعاقبته مسك ، فالمختوم الذي له ختام ، أي آخر ، وختم كل شيء الفراغ منه . وقال قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك .
وقراءة العامة " ختامه مسك " بتقديم التاء ، وقرأ الكسائي " خاتمه " وهي قراءة علي وعلقمة ، ومعناهما واحد ، كما يقال : فلان كريم [ الطابع والطباع ] والختام والخاتم ، آخر كل شيء .
( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله - عز وجل - . وقال مجاهد : فليعمل العاملون ، [ نظيره قوله تعالى : " لمثل هذا فليعمل العاملون " ( الصافات - 61 ) ] وقال مقاتل بن سليمان : فليتنازع المتنازعون وقال عطاء : فليستبق المستبقون ، وأصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ، ويريده كل أحد لنفسه وينفس به على غيره ، أي يضن .
( ومزاجه من تسنيم ( 27 ) عينا يشرب بها المقربون ( 28 ) إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ( 29 ) )
( ومزاجه من تسنيم ) شرب ينصب عليهم من علو في غرفهم ومنازلهم ، وقيل : يجري [ في الهواء متسنما فينصب ] في أواني أهل الجنة على قدر ملئها ، فإذا امتلأت أمسك . وهذا معنى قول قتادة .
وأصل الكلمة من العلو ، يقال للشيء المرتفع : سنام ، ومنه : سنام البعير . قال الضحاك : هو شراب اسمه تسنيم ، وهو أشرف الشراب .
قال ابن مسعود وابن عباس : هو خالص [ للمؤمنين ] المقربين يشربونها صرفا ويمزج لسائر أهل الجنة . وهو قوله : " ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون " .
وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله : " من تسنيم " ؟ قال : هذا مما قال الله تعالى : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " ( السجدة - 17 ) .
( عينا ) نصب على الحال ( يشرب بها ) أي منها وقيل : يشرب بها المقربون صرفا . قوله - عز وجل - : ( إن الذين أجرموا ) أشركوا ، يعني كفار قريش : أبا جهل ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وأصحابهم من مترفي مكة ( كانوا من الذين آمنوا ) عمار ، وخباب ، [ ص: 369 ] وصهيب ، وبلال ، وأصحابهم من فقراء المؤمنين . ( يضحكون ) وبهم يستهزءون .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 05:32 AM
الحلقة (428)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الانشقاق
مكية
الاية 1 إلى الاية 19
( وإذا مروا بهم يتغامزون ( 30 ) وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ( 31 ) وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ( 32 ) وما أرسلوا عليهم حافظين ( 33 ) فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ( 34 ) على الأرائك ينظرون ( 35 ) )
( وإذا مروا بهم ) يعني من فقراء المؤمنين بالكفار ( يتغامزون ) والغمز الإشارة بالجفن والحاجب ، أي* يشيرون إليهم بالأعين استهزاء .
( وإذا انقلبوا ) يعني الكفار ( إلى أهلهم انقلبوا فكهين ) معجبين بما هم فيه يتفكهون بذكرهم .
( وإذا رأوهم ) رأوا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ( قالوا إن هؤلاء لضالون ) يأتون محمدا - صلى الله عليه وسلم - يرون أنهم على شيء .
( وما أرسلوا ) يعني المشركين ( عليهم ) يعني على المؤمنين ( حافظين ) أعمالهم ، أي لم يوكلوا بحفظ أعمالهم .
( فاليوم ) يعني في الآخرة ( الذين آمنوا من الكفار يضحكون ) قال أبو صالح : وذلك أنه يفتح للكفار في النار أبوابها ، ويقال لهم : اخرجوا ، فإذا رأوها مفتوحة أقبلوا إليها ليخرجوا ، والمؤمنون ينظرون إليهم فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم ، يفعل ذلك بهم مرارا والمؤمنون يضحكون .
وقال كعب : بين الجنة والنار كوى ، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو له ، كان في الدنيا ، اطلع عليه من تلك الكوى ، كما قال : " فاطلع فرآه في سواء الجحيم " ( الصافات - 55 ) فإذا اطلعوا من الجنة إلى أعدائهم وهم يعذبون في النار ضحكوا ، فذلك قوله - عز وجل - : " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون " ( على الأرائك ) [ من الدر والياقوت ] ( ينظرون ) إليهم في النار .
[ ص: 370 ] ( هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ( 36 ) )
قال الله تعالى : ( هل ثوب ) هل جوزي ( الكفار ما كانوا يفعلون ) أي جزاء استهزائهم بالمؤمنين . ومعنى الاستفهام هاهنا : التقرير . وثوب [ وأثيب ] وأثاب بمعنى واحد .
سُورَةُ الِانْشِقَاقِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ( 1 ) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ( 2 ) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ( 3 ) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ( 4 ) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ( 5 ) )
( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ) انْشِقَاقُهَا مِنْ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ .
( وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا ) أَيْ سَمِعَتْ أَمْرَ رَبِّهَا بِالِانْشِقَاقِ وَأَطَاعَتْهُ ، مِنَ الْأُذُنِ وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ ، ( وَحُقَّتْ ) أَيْ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ رَبَّهَا .
( وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ) مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ ، وَزِيدَ فِي سِعَتِهَا . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : سُوِّيَتْ كَمَدِّ الْأَدِيمِ ، فَلَا يَبْقَى فِيهَا بِنَاءٌ وَلَا جَبَلٌ .
( وَأَلْقَتْ ) أَخْرَجَتْ ( مَا فِيهَا ) مِنَ الْمَوْتَى وَالْكُنُوزِ ( وَتَخَلَّتْ ) [ خَلَتْ ] مِنْهَا .
( وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ) وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ " إِذَا " قِيلَ : جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ : إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ يَرَى الْإِنْسَانُ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ .
وَقِيلَ جَوَابُهُ : " يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ " وَمَجَازُهُ : إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ لَقِيَ كُلُّ كَادِحٍ [ مَا ] عَمِلَهُ .
وَقِيلَ : جَوَابُهُ : " وَأَذِنَتْ " وَحِينَئِذٍ تَكُونُ " الْوَاوُ " زَائِدَةٌ .
[ ص: 374 ] ( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ( 6 ) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ( 7 ) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ( 8 ) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ( 9 ) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ( 10 ) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ( 11 ) وَيَصْلَى سَعِيرًا ( 12 ) )
وَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا ) أَيْ سَاعٍ إِلَيْهِ فِي عَمَلِكَ ، وَالْكَدْحُ : عَمَلُ الْإِنْسَانِ وَجُهْدُهُ فِي الْأَمْرِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ حَتَّى يَكْدَحَ ذَلِكَ فِيهِ ، أَيْ يُؤَثِّرَ . وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ : عَامِلٌ لِرَبِّكَ عَمَلًا ( فَمُلَاقِيهِ ) أَيْ مُلَاقِي جَزَاءَ عَمَلِكَ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا .
( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ ) دِيوَانَ [ أَعْمَالِهِ ] ( بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ ، قَالَتْ : قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ " قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا " ؟ قَالَتْ : فَقَالَ : " إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ [ فِي الْحِسَابِ هَلَكَ ] .
( وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ ) يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَالْآدَمِيَّات ِ ( مَسْرُورًا ) بِمَا أُوتِيَ مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ .
( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ) فَتُغَلُّ يَدُهُ الْيُمْنَى إِلَى عُنُقِهِ وَتُجْعَلُ يَدُهُ الشِّمَالُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، فَيُؤْتَى كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : تُخْلَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ .
( فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ) يُنَادِي بِالْوَيْلِ وَالْهَلَاكِ إِذَا قَرَأَ كِتَابَهُ يَقُولُ : يَا وَيْلَاهُ يَا ثُبُورَاهُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا " ( الْفُرْقَانِ - 13 ) .
( وَيَصْلَى سَعِيرًا ) قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ ، وَعَاصِمٌ ، وَحَمْزَةُ : وَ " يَصْلَى " بِفَتْحِ الْيَاءِ [ ص: 375 ] خَفِيفًا كَقَوْلِهِ : " يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى " ( الْأَعْلَى - 12 ) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ [ وَفَتْحِ الصَّادِ ] وَتَشْدِيدِ اللَّامِ كَقَوْلِهِ : " وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ " ( الْوَاقِعَةِ - 94 ) " ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ " ( الْحَاقَّةِ - 31 ) .
( إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ( 13 ) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ( 14 ) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ( 15 ) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ( 16 ) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ( 17 ) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ( 18 ) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ( 19 ) )
( إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ) يَعْنِي فِي الدُّنْيَا ، بِاتِّبَاعِ هَوَاهُ وَرُكُوبِ شَهْوَتِهِ .
( إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ) أَنْ لَنْ يَرْجِعَ إِلَيْنَا وَلَنْ يُبْعَثَ ثُمَّ قَالَ : ( بَلَى ) ( بَلَى ) أَيْ : لَيْسَ كَمَا ظَنَّ ، بَلْ يَحُورُ إِلَيْنَا وَيُبْعَثُ ( إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ) مِنْ يَوْمِ خَلَقَهُ إِلَى أَنْ بَعْثَهُ .
قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ) قَالَ مُجَاهِدٌ : هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ : مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : هُوَ الْحُمْرَةُ الَّتِي تَبْقَى فِي الْأُفُقِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ . وَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي يَعْقُبُ تِلْكَ الْحُمْرَةَ .
( وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ) أَيْ جَمَعَ وَضَمَّ ، يُقَالُ : وَسَقْتُهُ أَسِقُهُ وَسْقَا ، أَيْ : جَمَعْتُهُ ، وَاسْتَوْسَقَتِ الْإِبِلُ : إِذَا اجْتَمَعَتْ وَانْضَمَّتْ . وَالْمَعْنَى : وَاللَّيْلِ وَمَا جَمَعَ وَضَمَّ مَا كَانَ بِالنَّهَارِ مُنْتَشِرًا مِنَ الدَّوَابِّ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّيْلَ إِذَا أَقْبَلَ أَوَى كُلُّ شَيْءٍ إِلَى مَأْوَاهُ . رَوَى مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : مَا لَفَّ وَأَظْلَمَ عَلَيْهِ . وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ : أَقْبَلَ مِنْ ظُلْمَةٍ أَوْ كَوْكَبٍ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ . وَمَا عُمِلَ فِيهِ . ( وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ) اجْتَمَعَ وَاسْتَوَى وَتَمَّ نُورُهُ وَهُوَ فِي الْأَيْامِ الْبِيضِ . وَقَالَ قَتَادَةُ : اسْتَدَارَ ، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنَ الْوَسْقِ الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ .
( لَتَرْكَبُنَّ ) قَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ : " لَتَرْكَبَنَّ " بِفَتْحِ الْبَاءِ يَعْنِي لَتَرْكَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ ( طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ : سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ . قَالَ الْكَلْبِيُّ : يَعْنِي تُصْعَدُ فِيهَا . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ وَرُتْبَةً بَعْدَ رُتْبَةٍ فِي الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالرِّفْعَةِ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ النَّضْرِ ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : [ ص: 376 ] " لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ " حَالًا بَعْدَ حَالٍ ، قَالَ هَذَا نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَقِيلَ : أَرَادَ بِهِ السَّمَاءَ تَتَغَيَّرُ لَوْنًا بَعْدَ لَوْنٍ ، فَتَصِيرُ تَارَةً كَالدِّهَانِ وَتَارَةً كَالْمُهْلِ ، وَتَنْشَقُّ بِالْغَمَامِ مَرَّةً وَتُطْوَى أُخْرَى . وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْبَاءِ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى بِالنَّاسِ أَشْبَهُ ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ : " فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ " " وَشَمَالِهِ " وَذَكَرَ مِنْ بَعْدُ : " فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ " وَأَرَادَ : لَتَرْكَبُنَّ حَالًا بَعْدَ حَالٍ ، وَأَمْرًا بَعْدَ أَمْرٍ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ ، يَعْنِي : الْأَحْوَالَ تَنْقَلِبُ بِهِمْ ، فَيَصِيرُونَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى غَيْرِ الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا . وَ " عَنْ " بِمَعْنَى بَعْدَ .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ : يَعْنِي الْمَوْتَ ثُمَّ الْحَيَاةَ [ ثُمَّ الْمَوْتَ ثُمَّ الْحَيَاةَ ] .
وَقَالَ عَطَاءٌ : مَرَّةً فَقِيرًا وَمُرَّةً غَنِيًا . وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : يَعْنِي الشَّدَائِدَ وَأَهْوَالَ الْمَوْتِ ، ثُمَّ الْبَعْثَ ثُمَّ الْعَرْضَ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ : حَالًا بَعْدَ حَالٍ ، رَضِيعٌ ثُمَّ فَطِيمٌ ثُمَّ غُلَامٌ ثُمَّ شَابٌ ثُمَّ شَيْخٌ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : لَتَرْكَبْنَ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَأَحْوَالَهُمْ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو الصَّنْعَانِيُّ مِنَ الْيَمَنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مِنْ [ كَانَ ] قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا ذِرَاعًا ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍ لَتَبِعْتُمُوهُ مْ " قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : فَمَنْ ؟ .
( فما لهم لا يؤمنون ( 20 ) وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ( 21 ) )
قوله - عز وجل - ( فما لهم لا يؤمنون ) استفهام إنكار .
( وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ) قال الكلبي ومقاتل : لا يصلون .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا قتيبة حدثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن عطاء بن مينا عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 377 ] في " اقرأ باسم ربك " " وإذا السماء انشقت " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، أخبرنا معمر قال : سمعت أبي قال حدثني بكر ، عن أبي رافع قال : صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ إذا السماء انشقت ، فسجد فقلت : ما هذا ؟ قال : سجدت بها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه .
( بل الذين كفروا يكذبون ( 22 ) والله أعلم بما يوعون ( 23 ) فبشرهم بعذاب أليم ( 24 ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ( 25 ) )
( بل الذين كفروا يكذبون ) بالقرآن والبعث .
( والله أعلم بما يوعون ) في صدورهم من التكذيب . قال مجاهد : يكتمون . ( فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ) غير مقطوع ولا منقوص .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 05:35 AM
الحلقة (429)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ البروج
مكية
الاية 1 إلى الاية 17
سُورَةُ الْبُرُوجِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ( 1 ) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ( 2 ) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ( 3 ) )
( ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ) هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ . ( وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ) أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ ، عَنْ أَيْوبَ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ ، أَوْ يَسْتَعِيذُ [ بِهِ ] مِنْ شَرٍّ إِلَّا أَعَاذَهُ مِنْهُ " ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالْأَكْثَرُون َ : أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ النَّحْرِ . [ ص: 382 ]
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ : " الشَّاهِدُ " يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، " وَالْمَشْهُودُ " يَوْمُ [ النَّحْرِ ]
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ : " الشَّاهِدُ " يَوْمُ التَّرْوِيَةِ ، " وَالْمَشْهُودُ " يَوْمُ عَرَفَةَ .
وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " الشَّاهِدُ " مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَ " الْمَشْهُودُ " : يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، ثُمَّ تَلَا " فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا " ( النِّسَاءِ - 41 ) ، وَقَالَ : ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى : " الشَّاهِدُ " : مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَ " الْمَشْهُودُ " : اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - ، بَيَانُهُ : قَوْلُهُ " وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا " .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : " الشَّاهِدُ " آدَمُ ، وَ " الْمَشْهُودُ " يَوْمُ الْقِيَامَةِ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ " الشَّاهِدُ " الْإِنْسَانُ وَ " الْمَشْهُودُ " يَوْمُ الْقِيَامَةِ . وَعَنْهُ أَيْضًا : الشَّاهِدُ الْمَلَكُ يَشْهَدُ عَلَى ابْنِ آدَمَ ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ . وَتَلَا " وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ " ( ق - 21 ) و " وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ " ( هُودٍ - 103 ) وَقِيلَ : الشَّاهِدُ [ الْحَفَظَةُ وَالْمَشْهُودُ بَنُو آدَمَ . وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ : الشَّاهِدُ ] آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ .
وَرَوَى الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : الشَّاهِدُ هُوَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ .
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ : الشَّاهِدُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَالْمَشْهُودُ سَائِرُ الْأُمَمِ . بَيَانُهُ : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " ( الْبَقَرَةِ - 143 ) .
وَقَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : سَأَلَتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ : " وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ " فَقَالَ : الشَّاهِدُ هُوَ اللَّهُ وَالْمَشْهُودُ : نَحْنُ ، بَيَانُهُ : " وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا " ( النِّسَاءِ - 79 ) وَقِيلَ : الشَّاهِدُ أَعْضَاءُ بَنِي آدَمَ ، وَالْمَشْهُودُ ابْنُ آدَمَ ، بَيَانُهُ : " يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ " الْآيَةَ ( النُّورِ - 24 ) وَقِيلَ : [ ص: 383 ] الشَّاهِدُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَشْهُودُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، بَيَانُهُ : قَوْلُهُ : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ إِلَى قَوْلِهِ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ( آلِ عِمْرَانَ - 81 ) .
( قتل أصحاب الأخدود ( 4 ) )
( قتل أصحاب الأخدود ) أي : لعن ، و " الأخدود " الشق المستطيل في الأرض كالنهر ، وجمعه : أخاديد واختلفوا فيهم :
أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الله بن سعدان الخطيب ، أخبرني أبو أحمد محمد بن أحمد بن محمد بن قريش بن نوح بن رستم ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي ، حدثنا هدبة بن خالد ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر ، فلما كبر قال للملك : إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاما ، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب ، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه ، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب ، وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه ، وإذا رجع من عند الساحر قعد إلى الراهب وسمع كلامه فإذا أتى أهله ضربوه ، فشكا [ ذلك ] إلى الراهب ، فقال : إذا [ جئت ] الساحر فقل : حبسني أهلي ، وإذا [ جئت ] أهلك فقل : حبسني الساحر ، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس ، فقال : اليوم أعلم الراهب أفضل أم الساحر ؟ فأخذ حجرا ثم قال اللهم : إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس ، فرماها فقتلها ، فمضى الناس ، فأتى الراهب فأخبره ، فقال له الراهب : أي بني أنت اليوم أفضل مني ، قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستبتلى فإن ابتليت [ فاصبر ] فلا تدل علي ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء ، فسمع جليس للملك وكان قد عمي ، فأتاه بهدايا كثيرة ، فقال : ما هنا لك أجمع إن أنت شفيتني ، قال : إني لا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله ، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك ، فآمن بالله فشفاه الله ، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك : من رد عليك بصرك ؟ قال : ربي - عز وجل - ، قال أولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، فجيء بالغلام ، فقال له الملك : أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ به الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل ، قال : إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب ، فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى [ فدعا [ ص: 384 ] بالمنشار ] فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع [ شقاه ] ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه ، [ فذهبوا به ] فصعدوا به الجبل ، فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فسقطوا ، فجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقور [ إلى لجة بحر كذا ] فإن رجع عن دينه وإلا [ فاطرحوه في البحر ] فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا فجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله ، فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك ، قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس وقل : بسم [ الله ] رب الغلام ، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني . فجمع الناس في صعيد واحد ، وصلبه على جذع ، ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع [ السهم ] في كبد قوسه ، ثم قال : بسم [ الله ] رب الغلام ، ثم رماه فوقع السهم في صدغه ، فوضع يده على صدغه في موضع السهم ، فمات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ثلاثا فأتي الملك ، فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك ، قد آمن الناس ، فأمر بالأخدود بأفواه السكك ، فخدت وأضرم بها النيران ، وقال : من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها أو قيل له اقتحم ، قال : ففعلوا حتى جاءت امرأة معها صبي لها ، فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : يا أماه اصبري فإنك على الحق " .
هذا حديث صحيح أخرجه مسلم بن الحجاج عن [ هدبة بن خالد عن ] حماد بن سلمة .
وذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه : أن رجلا كان قد بقي على دين عيسى فوقع إلى أهل نجران [ فدعاهم ] فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنوده من حمير وخيرهم بين النار واليهودية ، فأبوا عليه فخد الأخاديد وأحرق اثني عشر ألفا ، ثم [ لما ] غلب أرياط على اليمن فخرج [ ص: 385 ] ذو نواس هاربا فاقتحم البحر بفرسه فغرق قال الكلبي : وذو نواس قتل عبد الله بن التامر .
وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر : أن خربة احتفرت في زمن عمر بن الخطاب فوجدوا عبد الله بن التامر واضعا يده على ضربة في رأسه إذا أميطت يده عنها انبعثت دما وإذا تركت ارتدت مكانها ، وفي يده خاتم من حديد فيه : ربي الله ، فبلغ ذلك عمر فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه
وروى عطاء عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال : كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له : يوسف ذو نواس بن شرحبيل بن شرحيل في الفترة قبل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - [ بسبعين سنة ] وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر ، وكان أبوه قد سلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام ولم يجد بدا من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم [ وكان ] في طريقه راهب حسن القراءة حسن الصوت ، فأعجبه ذلك ، وذكر قريبا من معنى حديث صهيب إلى أن قال الغلام للملك : إنك لا تقدر على قتلي إلا أن تفعل ما أقول لك ، قال : فكيف أقتلك ؟ قال : تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم باسم إلهي ، ففعل الملك [ ذلك ] فقتله ، فقال الناس : لا إله إلا الله ، عبد الله بن تامر لا دين إلا دينه ، فغضب الملك وأغلق باب المدينة وأخذ أفواه السكك وخد أخدودا وملأه نارا ثم عرضهم رجلا رجلا فمن رجع عن الإسلام تركه ، ومن قال : ديني دين عبد الله بن تامر ألقاه في الأخدود فأحرقه ، وكان في مملكته امرأة أسلمت فيمن أسلم ولها أولاد ثلاثة أحدهم رضيع ، *فقال لها الملك : ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار ، فأبت فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ، ثم قال لها : ارجعي عن دينك ، فأبت فألقى الثاني في النار ، ثم قال لها : ارجعي ، فأبت فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع ، فقال الصبي : يا أماه لا ترجعي [ عن الإسلام ] فإنك على الحق ، ولا بأس عليك ، فألقي الصبي في النار ، وألقيت أمه على أثره .
وقال سعيد بن جبير وابن أبزى : لما انهزم أهل اسفندهار قال عمر بن الخطاب : أي شيء يجري على المجوس من الأحكام فإنهم ليسوا بأهل كتاب ؟ فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : بلى قد كان لهم كتاب ، وكانت الخمر أحلت لهم فتناولها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله ، فتناول أخته فوقع عليها فلما ذهب عنه السكر ندم ، وقال لها : ويحك ما هذا الذي أتيت ، وما المخرج منه [ ص: 386 ] قالت : المخرج منه أن تخطب الناس ، وتقول : إن الله قد أحل نكاح الأخوات فإذا ذهب في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته ، فقام خطيبا فقال : إن الله قد أحل لكم نكاح الأخوات ، فقال الناس بأجمعهم : معاذ الله أن نؤمن بهذا ، أو نقر به ، ما جاءنا به نبي ولا أنزل علينا فيه كتاب ، فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا فجرد فيهم السيف . فأبوا أن يقروا [ فخد لهم أخدودا ] وأوقد فيه النيران وعرضهم عليها فمن أبى ولم يطعه قذفه في النار ومن أجاب خلى سبيله .
وقال الضحاك : أصحاب الأخدود من بني إسرائيل ، أخذوا رجالا ونساء فخدوا لهم أخدودا ثم أوقدوا فيه النيران فأقاموا المؤمنين عليها ، فقالوا : أتكفرون أم نقذفكم في النار ؟ ويزعمون أنه دانيال وأصحابه . وهذه رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وقال أبو الطفيل عن علي - رضي الله عنه - : كان أصحاب الأخدود نبيهم حبشي ، بعث [ نبي ] من الحبشة إلى قومه ، ثم قرأ علي - رضي الله عنه - : ( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ) الآية ( غافر - 78 ) فدعاهم فتابعه أناس فقاتلهم فقتل أصحابه وأخذوا وأوثق ما أفلت منهم فخدوا أخدودا فملئوها نارا فمن تبع النبي رمي فيها ، ومن تابعهم تركوه ، فجاءوا بامرأة ومعها صبي رضيع فجزعت ، فقال الصبي : يا أماه مري ولا تنافقي .
وقال عكرمة : كانوا من النبط [ أحرقوا بالنار ] وقال مقاتل : كانت الأخدود ثلاثة : واحدة بنجران باليمن ، وواحدة بالشام ، والأخرى بفارس ، حرقوا [ بالنار ] أما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي ، وأما التي بفارس فبختنصر ، وأما التي بأرض العرب فهو ذو نواس يوسف ، فأما التي بالشام وفارس فلم ينزل الله فيهما قرآنا وأنزل في التي كانت بنجران ، وذلك أن رجلا مسلما ممن يقرأ الإنجيل آجر نفسه في عمل ، وجعل يقرأ الإنجيل فرأت بنت المستأجر النور يضيء من قراءة الإنجيل ، فذكرت ذلك لأبيها فرمقه حتى رآه [ فسأله فلم يخبره ] فلم يزل به حتى أخبره بالدين والإسلام ، فتابعه هو وسبعة وثمانون إنسانا من بين رجل وامرأة وهذا بعدما رفع عيسى - عليه السلام - إلى السماء ، فسمع ذلك يوسف ذو نواس فخد لهم في الأرض وأوقد فيها نارا فعرضهم على الكفر ، فمن أبى [ ص: 387 ] أن يكفر قذفه في النار ومن رجع عن دين عيسى لم يقذفه ، وإن امرأة جاءت ومعها ولد صغير لا يتكلم ، فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار ، فضربت حتى تقدمت فلم تزل كذلك ثلاث مرات ، فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع فقال لها ابنها : يا أماه إني أرى أمامك نارا لا تطفأ ، فلما سمعت ذلك قذفا جميعا أنفسهما في النار ، فجعلها الله وابنها في الجنة ، فقذف في النار في يوم واحد سبعة وسبعون إنسانا ، فذلك قوله - عز وجل - : " قتل أصحاب الأخدود " .
( النار ذات الوقود ( 5 ) إذ هم عليها قعود ( 6 ) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ( 7 ) وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ( 8 ) الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد ( 9 ) )
( النار ذات الوقود ) بدل من الأخدود ، قال الربيع بن أنس : نجى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار بقبض أرواحهم قبل أن تمسهم النار ، وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم . ( إذ هم عليها قعود ) أي : عند النار جلوس [ لتعذيب ] المؤمنين . قال مجاهد : كانوا قعودا على الكراسي [ عند الأخدود ] . ( وهم ) يعني الملك وأصحابه الذين خدوا [ الأخدود ] ( على ما يفعلون بالمؤمنين ) من عرضهم على النار وإرادتهم أن يرجعوا إلى دينهم ( شهود ) حضور ، وقال مقاتل : يعني يشهدون أن المؤمنين في ضلال حين تركوا عبادة الصنم . ( وما نقموا منهم ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما كرهوا منهم ( إلا أن يؤمنوا بالله ) قال مقاتل ما عابوا منهم . وقيل : ما علموا فيهم عيبا . قال الزجاج : ما أنكروا عليهم ذنبا إلا إيمانهم بالله ( العزيز الحميد ) ( الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء ) من أفعالهم ( شهيد )
[ ص: 388 ] ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ( 10 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير ( 11 ) إن بطش ربك لشديد ( 12 ) إنه هو يبدئ ويعيد ( 13 ) وهو الغفور الودود ( 14 ) ذو العرش المجيد ( 15 ) فعال لما يريد ( 16 ) هل أتاك حديث الجنود ( 17 ) )
( إن الذين فتنوا ) عذبوا وأحرقوا ( المؤمنين والمؤمنات ) يقال : فتنت الشيء إذا أحرقته ، نظيره " يوم هم على النار يفتنون " ( الذاريات - 13 ( ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ) بكفرهم ( ولهم عذاب الحريق ) بما أحرقوا المؤمنين . وقيل : ولهم عذاب الحريق [ في الدنيا ، وذلك أن الله أحرقهم بالنار التي ] أحرقوا بها المؤمنين ، ارتفعت إليهم من الأخدود ، قاله الربيع بن أنس والكلبي . ثم ذكر ما أعد للمؤمنين فقال : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير ) واختلفوا في جواب القسم : فقال بعضهم : جوابه : " قتل أصحاب الأخدود " يعني لقد قتل .
وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج . وقال قتادة : جوابه : ( إن بطش ربك لشديد ) قال ابن عباس : إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظلمة لشديد ، كقوله : " إن أخذه أليم شديد " ( هود - 102 ) . ( إنه هو يبدئ ويعيد ) أي يخلقهم أولا في الدنيا ثم يعيدهم أحياء بعد الموت . ( وهو الغفور ) لذنوب المؤمنين ( الودود ) المحب لهم ، وقيل : معناه المودود ، كالحلوب والركوب ، بمعنى المحلوب والمركوب . وقيل : يغفر ويود أن يغفر ، وقيل : المتودد إلى أوليائه بالمغفرة . ( ذو العرش المجيد ) قرأ حمزة والكسائي : " المجيد " بالجر ، على صفة العرش أي السرير العظيم . وقيل : أراد حسنه فوصفه بالمجد كما وصفه بالكرم ، فقال : " رب العرش الكريم " ( المؤمنون - 116 ) ومعناه الكمال ، والعرش : أحسن الأشياء وأكملها ، وقرأ الآخرون بالرفع على صفة ذو العرش . ( فعال لما يريد ) لا يعجزه شيء يريده ولا يمتنع منه شيء طلبه . قوله - عز وجل - ( هل أتاك حديث الجنود ) قد أتاك خبر الجموع الكافرة الذين تجندوا [ ص: 389 ] على الأنبياء
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 05:41 AM
الحلقة (430)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الاعلى
مكية
الاية 1 إلى الاية 15
( فرعون وثمود ( 18 ) بل الذين كفروا في تكذيب ( 19 ) والله من ورائهم محيط ( 20 ) بل هو قرآن مجيد ( 21 ) في لوح محفوظ ( 22 ) )
ثم بين من هم فقال : ( فرعون وثمود بل الذين كفروا ) من قومك يا محمد ( في تكذيب والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) لك وللقرآن كدأب [ آل فرعون ] من قبلهم ، ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار . ( والله من ورائهم محيط ) ، عالم بهم لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، يقدر أن ينزل بهم ما أنزل بمن كان قبلهم . ( بل هو قرآن مجيد ) ، كريم شريف كثير الخير ، ليس كما زعم المشركون أنه شعر وكهانة . ( في لوح محفوظ ) ، قرأ نافع : " محفوظ " بالرفع على نعت القرآن ، فإن القرآن محفوظ من التبديل والتغيير والتحريف ، قال الله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وهو أم الكتاب ، ومنه نسخ الكتب ، محفوظ من الشياطين ، ومن الزيادة فيه والنقصان . أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، أخبرنا مخلد بن جعفر ، حدثنا الحسن بن علويه ، أخبرنا إسماعيل بن عيسى ، حدثنا إسحاق بن بشر ، أخبرني مقاتل وابن جريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : إن في صدر اللوح : لا إله إلا الله وحده ، دينه الإسلام ، ومحمد عبده ورسوله ، فمن آمن بالله - عز وجل - وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة ، قال : واللوح لوح من درة بيضاء ، طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق إلى المغرب ، وحافتاه الدر والياقوت ، ودفتاه ياقوتة حمراء ، وقلمه نور ، وكلامه معقود بالعرش ، وأصله في حجر ملك .
قال مقاتل : اللوح المحفوظ عن يمين العرش .
سُورَةُ الطَّارِقِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ( 1 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ( 2 ) النَّجْمُ الثَّاقِبُ ( 3 ) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ( 4 ) )
( وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ) قَالَ الْكَلْبِيُّ : نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتْحَفَهُ بِخُبْزٍ وَلَبَنٍ ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالَسٌ يَأْكُلُ إِذِ انْحَطَّ نَجْمٌ فَامْتَلَأَ مَاءً ثُمَّ نَارًا ، فَفَزِعَ أَبُو طَالِبٍ وَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ هَذَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هَذَا نَجْمٌ رُمِيَ بِهِ ، وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَعَجِبَ أَبُو طَالِبٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ " وَهَذَا قَسَمٌ ، وَ " الطَّارِقُ " النَّجْمُ يَظْهَرُ بِاللَّيْلِ ، وَمَا أَتَاكَ لَيْلًا فَهُوَ طَارِقٌ .
( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ) ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ ( النَّجْمُ الثَّاقِبُ ) أَيِ الْمُضِيءُ الْمُنِيرُ ، قَالَ مُجَاهِدٌ : الْمُتَوَهِّجُ ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : أَرَادَ بِهِ الثُّرَيَّا ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ النَّجْمُ . وَقِيلَ : هُوَ زُحَلُ ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِارْتِفَاعِهِ ، تَقُولُ الْعَرَبُ لِلطَّائِرِ إِذَا لَحِقَ بِبَطْنِ السَّمَاءِ ارْتِفَاعًا : قَدْ ثَقَبَ .
( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ ) جَوَابُ الْقَسَمِ ( لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ) قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ ، وَابْنُ عَامِرٍ ، وَعَاصِمٌ ، وَحَمْزَةُ : " لَمَّا " بِالتَّشْدِيدِ ، يَعْنُونَ : مَا كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ يَجْعَلُونَ " لَمَّا " بِمَعْنَى " إِلَّا " يَقُولُونَ : نَشَدْتُكَ اللَّهَ لَمَّا قُمْتَ ، أَيْ إِلَّا قُمْتَ .
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ ، جَعَلُوا " مَا " صِلَةً ، مَجَازُهُ : إِنَّ كُلَّ نَفْسٍ لَعَلَيْهَا حَافِظٌ [ مِنْ رَبِّهَا ] [ ص: 394 ] [ وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ : كُلُّ نَفْسٍ عَلَيْهَا حَافِظٌ مِنْ رَبِّهَا ] يَحْفَظُ عَمَلَهَا وَيُحْصِي عَلَيْهَا مَا تَكْتَسِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُمُ الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ . قَالَ الْكَلْبِيُّ : حَافِظٌ مِنَ اللَّهِ يَحْفَظُهَا وَيَحْفَظُ قَوْلَهَا وَفِعْلَهَا حَتَّى يَدْفَعَهَا وَيُسَلِّمَهَا إِلَى الْمَقَادِيرِ ، ثُمَّ يُخَلِّي عَنْهَا .
( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ( 5 ) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ( 6 ) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ( 7 ) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ( 8 ) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ( 9 ) )
( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ) أَيْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ رَبُّهُ ، أَيْ فَلْيَنْظُرْ نَظَرَ الْمُتَفَكِّرِ .
ثُمَّ بَيَّنَ فَقَالَ : ( خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ) مَدْفُوقٍ أَيْ مَصْبُوبٍ فِي الرَّحِمِ ، وَهُوَ الْمَنِيُّ ، فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَوْلِهِ : " عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ " ( الْحَاقَّةِ - 21 ) أَيْ مَرَضِيَّةٍ ، وَالدَّفْقُ : الصَّبُّ ، وَأَرَادَ مَاءَ الرَّجُلِ وَمَاءَ الْمَرْأَةِ ، لِأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْهُمَا ، وَجَعَلَهُ وَاحِدًا لِامْتِزَاجِهِم َا .
( يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ) يَعْنِي صُلْبَ الرَّجُلِ وَتَرَائِبَ الْمَرْأَةِ ، وَ " التَّرَائِبُ " جُمَعُ التَّرِيبَةِ ، وَهِيَ عِظَامُ الصَّدْرِ وَالنَّحْرِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هِيَ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنَ الصَّدْرِ . وَرَوَى الْوَالِبِيُّ عَنْهُ : بَيْنَ ثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ . وَقَالَ قَتَادَةُ : النَّحْرُ . وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : الصَّدْرُ .
( إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ) قَالَ مُجَاهِدٌ : عَلَى رَدِّ النُّطْفَةِ فِي الْإِحْلِيلِ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ : عَلَى رَدِّ الْمَاءِ فِي الصُّلْبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : إِنَّهُ عَلَى رَدِّ الْإِنْسَانِ مَاءً كَمَا كَانَ مِنْ قَبْلُ لِقَادِرٌ . وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ : [ إِنْ شَاءَ رَدَّهُ ] مِنَ الْكِبَرِ إِلَى الشَّبَابِ ، وَمِنَ الشَّبَابِ إِلَى الصِّبَا ، وَمِنَ الصِّبَا إِلَى النُّطْفَةِ ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : إِنَّهُ عَلَى حَبْسِ ذَلِكَ الْمَاءِ لِقَادِرٌ حَتَّى لَا يَخْرُجَ وَقَالَ قَتَادَةُ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى بَعْثِ الْإِنْسَانِ وَإِعَادَتِهِ قَادِرٌ وَهَذَا أَوْلَى الْأَقَاوِيلِ لِقَوْلِهِ : ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ )
( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ) وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْلَى السَّرَائِرُ ، تُظْهَرُ الْخَفَايَا قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ : تُخْتَبَرُ [ الْأَعْمَالُ ] قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ : السَّرَائِرُ فَرَائِضُ الْأَعْمَالِ ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ [ وَالْوُضُوءِ ] وَالِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ ، فَإِنَّهَا سَرَائِرُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْعَبْدِ ، فَلَوْ شَاءَ الْعَبْدُ لَقَالَ : صُمْتُ وَلَمْ يَصُمْ ، وَصَلَّيْتُ ، وَلَمْ يُصَلِّ ، وَاغْتَسَلْتُ وَلَمْ يَغْتَسِلْ ، فَيُخْتَبَرُ حَتَّى يَظْهَرَ مَنْ أَدَّاهَا مِمَّنْ ضَيَّعَهَا .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : بِيَدَيِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلُّ سِرٍّ ، فَيَكُونُ زَيْنًا فِي وُجُوهٍ وَشَيْنًا فِي وُجُوهٍ ، [ ص: 395 ] يَعْنِي : مَنْ أَدَّاهَا كَانَ وَجْهُهُ مُشْرِقًا ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ وَجْهُهُ أَغْبَرَ .
( فما له من قوة ولا ناصر ( 10 ) والسماء ذات الرجع ( 11 ) والأرض ذات الصدع ( 12 ) إنه لقول فصل ( 13 ) وما هو بالهزل ( 14 ) إنهم يكيدون كيدا ( 15 ) وأكيد كيدا ( 16 ) فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ( 17 ) )
( فما له من قوة ولا ناصر ) أي ما لهذا الإنسان المنكر للبعث من قوة يمتنع بها من عذاب الله ولا ناصر ينصره من الله .
ثم ذكر قسما آخر فقال : ( والسماء ذات الرجع ) أي ذات المطر لأنه يرجع كل عام ويتكرر . وقال ابن عباس : هو السحاب يرجع بالمطر .
( والأرض ذات الصدع ) أي تتصدع وتنشق عن النبات والأشجار والأنهار .
وجواب القسم قوله : ( إنه ) يعني القرآن ( لقول فصل ) حق وجد يفصل بين الحق والباطل .
( وما هو بالهزل ) باللعب والباطل .
ثم أخبر عن مشركي مكة فقال : ( إنهم يكيدون كيدا ) يخافون النبي - صلى الله عليه وسلم - ويظهرون ما هم على خلافه .
( وأكيد كيدا ) وكيد الله استدراجه إياهم من حيث لا يعلمون .
( فمهل الكافرين ) قال ابن عباس : هذا وعيد من الله - عز وجل - لهم ( أمهلهم رويدا ) قليلا ومعنى مهل وأمهل : أنظر ولا تعجل ، فأخذهم الله يوم بدر ، ونسخ الإمهال بآية السيف .
سُورَةُ الْأَعْلَى
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ( 1 ) )
( ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) [ يَعْنِي ] قُلْ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانَ ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ إِسْرَائِيلَ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ الْبَطِينِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى " فَقَالَ : " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى " .
وَقَالَ قَوْمٌ : مَعْنَاهُ نَزِّهْ رَبَّكَ الْأَعْلَى عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُلْحِدُونَ ، وَجَعَلُوا الِاسْمَ صِلَةً . وَيَحْتَجُّ بِهَذَا مَنْ يَجْعَلُ الِاسْمَ وَالْمُسَمَّى وَاحِدًا ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ : سُبْحَانَ اسْمِ اللَّهِ ، وَسُبْحَانَ اسْمِ رَبِّنَا ، إِنَّمَا يَقُولُ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَسُبْحَانَ رَبِّنَا ، فَكَانَ مَعْنَى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى : سَبِّحْ رَبَّكَ . [ ص: 400 ]
وَقَالَ آخَرُونَ : نَزِّهْ تَسْمِيَةَ رَبِّكَ ، بِأَنْ تَذْكُرَهُ وَأَنْتَ لَهُ مُعَظِّمٌ ، وَلِذِكْرِهِ مُحْتَرِمٌ [ وَلِأَوَامِرِهِ مُطَاوِعٌ ] وَجَعَلُوا الِاسْمَ بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : سَبِّحِ [ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ] أَيْ : صَلِّ بِأَمْرِ رَبِّكَ الْأَعْلَى .
( الذي خلق فسوى ( 2 ) والذي قدر فهدى ( 3 ) والذي أخرج المرعى ( 4 ) فجعله غثاء أحوى ( 5 ) )
( الذي خلق فسوى ) قال الكلبي : خلق كل ذي روح ، فسوى اليدين والرجلين والعينين . وقال الزجاج : خلق الإنسان مستويا ، ومعنى " سوى " عدل قامته .
( والذي قدر فهدى ) قرأ الكسائي : " قدر " بتخفيف الدال ، وشددها الآخرون ، وهما بمعنى واحد .
وقال مجاهد : هدى الإنسان لسبيل الخير والشر ، والسعادة والشقاوة ، وهدى الأنعام لمراتعها .
وقال مقاتل والكلبي : قدر لكل شيء مسلكه ، " فهدى " عرفها كيف يأتي الذكر الأنثى .
وقيل : قدر الأرزاق وهدى لاكتساب الأرزاق والمعاش .
وقيل : خلق المنافع في الأشياء ، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها .
وقال السدي : قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج من الرحم .
قال الواسطي : قدر السعادة والشقاوة عليهم ، ثم يسر لكل واحد من الطائفتين سلوك [ سبيل ] ما قدر عليه .
( والذي أخرج المرعى ) أنبت العشب وما ترعاه [ النعم ] من بين أخضر وأصفر وأحمر وأبيض .
( فجعله ) بعد الخضرة ( غثاء ) هشيما باليا ، كالغثاء الذي تراه فوق السيل . ( أحوى ) أسود بعد الخضرة ، وذلك أن الكلأ إذا جف ويبس اسود . [ ص: 401 ]
( ( سنقرئك فلا تنسى ( 6 ) إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ( 7 ) ونيسرك لليسرى ( 8 ) فذكر إن نفعت الذكرى ( 9 ) سيذكر من يخشى ( 10 ) ويتجنبها الأشقى ( 11 ) الذي يصلى النار الكبرى ( 12 ) )
( سنقرئك ) سنعلمك بقراءة جبريل [ عليك ] ( فلا تنسى إلا ما شاء الله ) أن تنساه ، وما نسخ الله تلاوته من القرآن ، كما قال : " ما ننسخ من آية أو ننسها " ( البقرة - 106 ) والإنساء نوع من النسخ .
وقال مجاهد ، والكلبي : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه جبريل - عليه السلام - ، لم يفرغ من آخر الآية حتى يتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأولها ، مخافة أن ينساها ، فأنزل الله تعالى : " سنقرئك فلا تنسى " [ فلم ينس بعد ] ذلك شيئا . ( إنه يعلم الجهر ) من القول والفعل ( وما يخفى ) منهما ، والمعنى : أنه يعلم السر والعلانية .
( ونيسرك لليسرى ) قال مقاتل : نهون عليك عمل أهل الجنة - وهو معنى قول ابن عباس - ونيسرك لأن تعمل خيرا . و " اليسرى " عمل الخير .
وقيل : نوفقك للشريعة اليسرى وهي الحنيفية السمحة .
وقيل : هو متصل بالكلام الأول معناه : إنه يعلم الجهر مما تقرؤه على جبريل إذا فرغ من التلاوة ، " وما يخفى " ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان ، ثم وعده فقال : ( ونيسرك لليسرى ) أي نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعلمه .
( فذكر ) عظ بالقرآن ( إن نفعت الذكرى ) الموعظة والتذكير . والمعنى : نفعت أو لم تنفع ، وإنما لم يذكر الحالة الثانية ، كقوله : " سرابيل تقيكم الحر " وأراد : الحر والبرد جميعا .
( سيذكر ) يتعظ ( من يخشى ) الله - عز وجل - .
( ويتجنبها ) أي يتجنب الذكرى ويتباعد عنها ( الأشقى ) الشقي في علم الله .
( الذي يصلى النار الكبرى ) العظيمة والفظيعة ، لأنها أعظم وأشد حرا من نار الدنيا .
[ ص: 402 ] ( ثم لا يموت فيها ولا يحيا ( 13 ) قد أفلح من تزكى ( 14 ) وذكر اسم ربه فصلى ( 15 ) )
( ثم لا يموت فيها ) فيستريح ( ولا يحيا ) حياة تنفعه .
( ( قد أفلح من تزكى ) تطهر من الشرك وقال : لا إله إلا الله . هذا قول عطاء وعكرمة ، ورواية الوالبي وسعيد بن جبير عن ابن عباس وقال الحسن : من كان عمله زاكيا .
وقال آخرون : هو صدقة الفطر ، روي عن أبي سعيد الخدري في قوله : " قد أفلح من تزكى " قال : أعطى صدقة الفطر .
( وذكر اسم ربه فصلى ) قال خرج إلى العيد فصلى ، فكان ابن مسعود يقول : رحم الله امرءا تصدق ثم صلى ، ثم يقرأ هذه الآية . وروى نافع : كان ابن عمر إذا صلى الغداة - يعني من يوم العيد - قال : يا نافع أخرجت الصدقة ؟ فإن قلت : نعم ، مضى إلى المصلى ، وإن قلت : لا قال : فالآن فأخرج ، فإنما نزلت هذه الآية في هذا قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى وهو قول أبي العالية وابن سيرين .
وقال بعضهم : لا أدري ما وجه هذا التأويل ؟ لأن هذه السورة مكية ، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر .
[ قال الشيخ الإمام محيي السنة رحمه الله ] يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم كما قال : " وأنت حل بهذا البلد " فالسورة مكية ، وظهر أثر الحل يوم الفتح حتى قال عليه الصلاة والسلام : " أحلت لي ساعة من نهار " وكذلك نزل بمكة : " سيهزم الجمع ويولون الدبر " ( القمر - 45 ) قال عمر بن الخطاب : كنت لا أدري أي جمع يهزم ، فلما كان يوم بدر رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 403 ] يثب ، في الدرع ويقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر "
وذكر اسم ربه فصلى " أي : وذكر ربه فصلى ، قيل : الذكر : تكبيرات العيد ، والصلاة : صلاة العيد ، وقيل : الصلاة هاهنا الدعاء .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 05:45 AM
الحلقة (431)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الغاشية
مكية
الاية 1 إلى الاية 26
( ( بل تؤثرون الحياة الدنيا ( 16 ) والآخرة خير وأبقى ( 17 ) إن هذا لفي الصحف الأولى ( 18 ) صحف إبراهيم وموسى ( 19 ) )
( بل تؤثرون ) قرأ أبوعمرو ، ويعقوب : [ يؤثرون ] بالياء ، يعني : الأشقين الذين ذكروا ، وقرأ الآخرون بالتاء ، دليله : قراءة أبي بن كعب " بل أنتم تؤثرون الحياة الدنيا " [ والمراد ب " الأشقى " الجمع ، وإن كان على لفظ الواحد ، لأن الشيء إذا دخله الألف واللام للجنس صار مستغرقا ، فكأنه قال : ويتجنبه الأشقون ، ثم قال : " بل تؤثرون الحياة الدنيا "
( والآخرة خير وأبقى ) قال عرفجة الأشجعي : كنا عند ابن مسعود فقرأ هذه الآية ، فقال لنا : أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة ؟ قلنا : لا قال : لأن الدنيا أحضرت ، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها ، وأن الآخرة نعتت لنا ، وزويت عنا فأحببنا العاجل وتركنا الآجل .
( إن هذا ) يعني ما ذكر من قوله : " قد أفلح من تزكى " [ إلى تمام ] أربع آيات ، ( لفي الصحف الأولى ) أي في الكتب الأولى التي أنزلت قبل القرآن ، ذكر فيها فلاح المتزكي والمصلي ، وإيثار الخلق الحياة الدنيا على الآخرة ، وأن الآخرة خير وأبقى .
ثم بين الصحف فقال : ( صحف إبراهيم وموسى ) قال عكرمة والسدي : هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى .
أخبرنا الإمام أبوعلي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا [ ص: 404 ] محمد بن أحمد بن معقل الميداني ، حدثنا محمد بن يحيى [ بن أيوب حدثنا سعيد بن كثير حدثنا ] يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما ب " سبح اسم ربك الأعلى " و " قل يا أيها الكافرون " وفي الوتر ب " قل هو الله أحد " و " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " .
سُورَةُ الْغَاشِيَةِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ( 1 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ( 2 ) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ( 3 ) )
( ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ) يَعْنِي : قَدْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْقِيَامَةِ ، تَغْشَى كُلَّ شَيْءٍ بِالْأَهْوَالِ .
( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ) يَعْنِي : يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( خَاشِعَةٌ ) ذَلِيلَةٌ .
( عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ) قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : يَعْنِي الَّذِينَ عَمِلُوا وَنَصَبُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، مِثْلَ الرُّهْبَانِ وَغَيْرِهِمْ ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمُ اجْتِهَادًا فِي ضَلَالَةٍ ، يَدْخُلُونَ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ . وَمَعْنَى النَّصَبِ : الدَّأْبُ فِي الْعَمَلِ بِالتَّعَبِ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ : عَامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا بِالْمَعَاصِي ، نَاصِبَةٌ فِي الْآخِرَةِ فِي النَّارِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : عَامِلَةٌ فِي النَّارِ نَاصِبَةٌ فِيهَا . قَالَ الْحَسَنُ : لَمْ تَعْمَلْ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا ، فَأَعْمَلَهَا وَأَنْصَبَهَا فِي النَّارِ بِمُعَالَجَةِ السَّلَاسِلِ ، وَالْأَغْلَالِ . وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : تَخُوضُ فِي النَّارِ كَمَا تَخُوضُ الْإِبِلُ فِي الْوَحْلِ .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ : يَجْرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ . [ ص: 408 ]
[ وَقَالَ الضَّحَّاكُ : يُكَلَّفُونَ ارْتِقَاءَ جَبَلٍ مِنْ حَدِيدٍ فِي النَّارِ ] وَالْكَلَامُ خَرَجَ عَلَى " الْوُجُوهِ " وَالْمُرَادُ مِنْهَا أَصْحَابُهَا .
( ( تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ( 4 ) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ( 5 ) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ( 6 ) )
( تَصْلَى نَارًا ) قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَأَبُو بَكْرٍ : " تُصْلَى " بِضَمِّ التَّاءِ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ : " تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ " [ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ ( نَارًا حَامِيَةً ) قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ : قَدْ حَمِيَتْ فَهِيَ تَتَلَظَّى عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ .
( تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) مُتَنَاهِيَةٍ فِي الْحَرَارَةِ قَدْ أُوقِدَتْ عَلَيْهَا جَهَنَّمُ مُنْذُ خُلِقَتْ ، فَدُفِعُوا إِلَيْهَا [ وِرْدًا ] عِطَاشًا . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : لَوْ وَقَعَتْ مِنْهَا قَطْرَةٌ عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا لَذَابَتْ . هَذَا شَرَابُهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ طَعَامَهُمْ فَقَالَ : ( لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ) قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ : هُوَ نَبْتٌ ذُو شَوْكٍ لَاطِئٍ بِالْأَرْضِ ، تُسَمِّيهِ قُرَيْشٌ الشَّبْرَقَ فَإِذَا هَاجَ سُمَّوْهَا الضَّرِيعَ ، وَهُوَ أَخْبَثُ طَعَامٍ وَأَبْشَعُهُ . وَهُوَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ الْكَلْبِيُّ : لَا تَقْرَبُهُ دَابَّةٌ إِذَا يَبِسَ .
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ " الضَّرِيعَ " الشَّوْكُ الْيَابِسُ الَّذِي يَبِسَ لَهُ وَرَقٌ ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ شَوْكٌ مِنْ نَارٍ وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " الضَّرِيعُ : شَيْءٌ فِي النَّارِ [ شِبْهُ ] الشَّوْكِ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ* ، وَأَنْتُنُّ مِنَ الْجِيفَةِ ، وَأَشَدُّ حَرًّا مِنَ النَّارِ " .
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ ، وَالْحَسَنُ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرْسِلُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ الْجُوعَ حَتَّى يَعْدِلَ عِنْدَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ ، فَيَسْتَغِيثُون َ فَيُغَاثُونَ بِالضَّرِيعِ ، ثُمَّ يَسْتَغِيثُونَ فَيُغَاثُونَ بِطَعَامٍ ذِي غُصَّةٍ ، فَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُجِيزُونَ الْغُصَصَ فِي الدُّنْيَا بِالْمَاءِ ، فَيَسْتَسْقُونَ ، فَيُعْطِشُهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ ، ثُمَّ يُسْقُونَ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ شَرْبَةً لَا هَنِيئَةَ وَلَا مَرِيئَةَ ، فَلَمَّا أَدْنَوْهُ مِنْ وُجُوهِهِمْ ، سَلَخَ جُلُودَ وُجُوهِهِمْ وَشَوَاهَا ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى بُطُونِهِمْ قَطَعَهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ جَلَّ : " وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ " ( مُحَمَّدٍ - 15 ) .
[ ص: 409 ] ( لا يسمن ولا يغني من جوع ( 7 ) وجوه يومئذ ناعمة ( 8 ) لسعيها راضية ( 9 ) في جنة عالية ( 10 ) لا تسمع فيها لاغية ( 11 ) فيها عين جارية ( 12 ) فيها سرر مرفوعة ( 13 ) وأكواب موضوعة ( 14 ) ونمارق مصفوفة ( 15 ) وزرابي مبثوثة ( 16 ) أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ( 17 ) )
قال المفسرون : فلما نزلت هذه الآية قال المشركون : إن إبلنا لتسمن على الضريع ، وكذبوا في ذلك ، فإن الإبل إنما ترعاه ما دام رطبا ، وتسمى " شبرقا " فإذا يبس لا يأكله شيء . فأنزل الله : ( لا يسمن ولا يغني من جوع )
ثم وصف أهل الجنة فقال : ( وجوه يومئذ ناعمة ) قال مقاتل : في نعمة وكرامة .
( لسعيها ) في الدنيا ( راضية ) في الآخرة حين أعطيت الجنة بعملها . ( في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية ) لغو وباطل ، قرأ أهل مكة والبصرة : " لا يسمع " بالياء وضمها ، " لاغية " رفع . وقرأ نافع " لا تسمع " بالتاء وضمها ، " لاغية " رفع ، وقرأ الآخرون بالتاء وفتحها " لاغية " [ بالنصب ] على الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - . ( فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة ) قال ابن عباس : ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت ، مرتفعة ما لم يجيء أهلها ، فإذا أراد أن يجلس عليها تواضعت له حتى يجلس عليها ، ثم ترتفع إلى مواضعها .
( وأكواب موضوعة ) عندهم ، جمع كوب ، وهو الإبريق الذي لا عروة له .
( ونمارق ) وسائد ومرافق ( مصفوفة ) بعضها بجنب بعض ، واحدتها " نمرقة " بضم النون .
( وزرابي ) يعني البسط العريضة . قال ابن عباس : هي الطنافس التي لها خمل واحدتها زربية ، ( مبثوثة ) مبسوطة ، وقيل متفرقة في المجالس .
( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) قال أهل التفسير : لما نعت الله تعالى في هذه السورة ما في الجنة عجب من ذلك أهل الكفر وكذبوه ، فذكرهم الله تعالى صنعه فقال : ( أفلا ينظرون إلى الإبل ) [ من بين سائر الحيوانات ] ( كيف خلقت ) وكانت الإبل من عيش العرب [ ص: 410 ] لهم فيها منافع كثيرة ، فلما صنع لهم ذلك في الدنيا صنع لأهل الجنة فيها ما صنع .
وتكلمت الحكماء في وجه تخصيص الإبل من بين سائر الحيوانات; فقال مقاتل : لأنهم لم يروا بهيمة قط أعظم منها ، ولم [ يشاهد ] الفيل إلا الشاذ منهم .
وقال الكلبي : لأنها تنهض بحملها وهي باركة .
وقال قتادة : ذكر الله تعالى ارتفاع سرر الجنة وفرشها ، فقالوا : كيف نصعدها فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وسئل الحسن عن هذه الآية ، وقيل له : الفيل أعظم في الأعجوبة ، فقال : أما الفيل فالعرب بعيدة العهد بها . ثم هو [ لا خير فيه ] لا يركب ظهرها ولا يؤكل لحمها ولا يحلب درها ، والإبل أعز مال للعرب وأنفسها تأكل النوى والقت وتخرج اللبن .
وقيل : [ إنها ] مع عظمها تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف ، حتى إن الصبي الصغير يأخذ بزمامها فيذهب بها حيث شاء ، وكان شريح القاضي يقول : اخرجوا بنا إلى [ كناسة اصطبل ] حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت .
( وإلى السماء كيف رفعت ( 18 ) وإلى الجبال كيف نصبت ( 19 ) وإلى الأرض كيف سطحت ( 20 ) )
( ( وإلى السماء كيف رفعت ) عن الأرض حتى لا ينالها شيء بغير عمد .
( وإلى الجبال كيف نصبت ) على وجه الأرض [ مرساة ] لا تزول .
( وإلى الأرض كيف سطحت ) [ بسطت ] قال عطاء عن ابن عباس : هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل ، أو يرفع مثل السماء ، أو ينصب مثل الجبال ، أو يسطح مثل الأرض غيري ؟ .
[ ص: 411 ] ( ( فذكر إنما أنت مذكر ( 21 ) لست عليهم بمسيطر ( 22 ) إلا من تولى وكفر ( 23 ) فيعذبه الله العذاب الأكبر ( 24 ) إن إلينا إيابهم ( 25 ) ثم إن علينا حسابهم ( 26 ) )
( فذكر ) [ أي : عظ يا محمد ] ( إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ) بمسلط فتقتلهم وتكرههم على الإيمان . نسختها آية القتال .
( إلا من تولى وكفر ) استثناء منقطع عما قبله ، معناه : لكن من تولى وكفر بعد التذكير .
( فيعذبه الله العذاب الأكبر ) وهو أن يدخله النار وإنما قال " الأكبر " لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر .
( ( إن إلينا إيابهم ) رجوعهم بعد الموت ، يقال آب يئوب أوبا وإيابا ، وقرأ أبوجعفر : " إيابهم " بتشديد الياء ، وهو شاذ لم يجزه أحد غير الزجاج فإنه قال يقال : أيب إيابا ، على : فعل فيعالا .
( ثم إن علينا حسابهم ) يعني جزاءهم بعد المرجع إلى الله - عز وجل - .
سورة الفجر
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
( والفجر ( 1 ) وليال عشر ( 2 ) والشفع والوتر ( 3 ) )
( والفجر ) أقسم الله - عز وجل - بالفجر ، روى أبو صالح عن ابن عباس قال : هو انفجار الصبح كل يوم وهو قول عكرمة ، وقال عطية عنه : صلاة الفجر . وقال قتادة : هو فجر أول يوم من المحرم ، تنفجر منه السنة . وقال الضحاك : فجر ذي الحجة لأنه [ قرنت ] به الليالي العشر .
( ( وليال عشر ) روي عن ابن عباس : أنها العشر الأول من ذي الحجة . وهو قول مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، والكلبي .
وقال أبوروق عن الضحاك : هي العشر [ الأواخر ] من شهر رمضان .
وروى أبوظبيان عن ابن عباس قال : هي العشر [ الأوائل ] من شهر رمضان .
وقال يمان بن رباب : هي العشر الأول من المحرم التي عاشرها يوم عاشوراء .
( والشفع والوتر ) قرأ حمزة ، والكسائي : " الوتر " بكسر الواو ، وقرأ الآخرون بفتحها ، [ ص: 416 ] واختلفوا في الشفع والوتر . قيل : " الشفع : الخلق ، قال الله تعالى : " وخلقناكم أزواجا " و " الوتر " هو الله - عز وجل - . روي ذلك عن [ ابن مسعود وعن ] أبي سعيد الخدري ، وهو قول عطية العوفي .
وقال مجاهد ومسروق : " الشفع " الخلق كله ، كما قال الله تعالى : " ومن كل شيء خلقنا زوجين " ( الذاريات - 49 ) الكفر والإيمان ، والهدى والضلالة ، والسعادة والشقاوة ، والليل والنهار ، والسماء والأرض ، والبر والبحر ، والشمس والقمر ، والجن والإنس ، والوتر هو الله - عز وجل - ، قال الله تعالى : " قل هو الله أحد " ( الإخلاص - 1 ) .
قال الحسن وابن زيد : " الشفع والوتر " الخلق كله ، منه شفع ، ومنه وتر .
وروى قتادة عن الحسن قال : هو العدد منه شفع ومنه وتر . وقال قتادة : هما الصلوات منها شفع ومنها وتر . وروى ذلك عن عمران بن حصين مرفوعا ، وروى عطية عن ابن عباس : الشفع صلاة الغداة ، والوتر صلاة المغرب .
وعن عبد اللهبن الزبير قال : " الشفع " يوم النفر الأول ، و " الوتر " يوم النفر الأخير . روي أن رجلا سأله عن الشفع والوتر والليالي العشر ؟ فقال : أما الشفع والوتر : فقول الله - عز وجل - : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " ( البقرة - 203 ) فهما الشفع والوتر ، وأما الليالي العشر : فالثمان وعرفة والنحر .
وقال مقاتل بن حيان : " الشفع " الأيام والليالي ، و " الوتر " اليوم الذي لا ليلة بعده وهو يوم القيامة .
وقال الحسين بن الفضل : " الشفع " درجات الجنة لأنها ثمان ، و " الوتر " دركات النار لأنها سبع ، كأنه أقسم بالجنة والنار .
وسئل أبوبكر الوراق عن الشفع والوتر فقال : " الشفع " تضاد [ أخلاق ] المخلوقين من العز والذل ، والقدرة والعجز ، والقوة والضعف ، والعلم والجهل ، والبصر والعمى ، و " الوتر " انفراد صفات الله عز بلا ذل ، وقدرة بلا عجز ، وقوة بلا ضعف ، وعلم بلا جهل ، وحياة بلا ممات .
[ ص: 417 ] ( والليل إذا يسر ( 4 ) هل في ذلك قسم لذي حجر ( 5 ) ألم تر كيف فعل ربك بعاد ( 6 ) إرم ذات العماد ( 7 ) )
( ( والليل إذا يسر ) أي إذا سار وذهب كما قال تعالى " والليل إذ أدبر " ( المدثر - 33 ) وقال قتادة : إذا جاء وأقبل ، وأراد كل ليلة .
وقال مجاهد وعكرمة والكلبي : هي ليلة المزدلفة .
قرأ أهل الحجاز ، والبصرة : " يسري " بالياء في الوصل ، ويقف ابن كثير ويعقوب بالياء أيضا ، والباقون يحذفونها في الحالين ، فمن حذف فلوفاق رءوس الآي ، ومن أثبت فلأنها لام الفعل ، والفعل لا يحذف منه في الوقف ، نحو قوله : هو يقضي وأنا أقضي . وسئل الأخفش عن العلة في سقوط الياء ؟ فقال : الليل لا يسري ، ولكن يسرى فيه ، فهو مصروف ، فلما صرفه بخسه حقه من الإعراب ، كقوله : " وما كانت أمك بغيا " ولم يقل : " بغية " لأنها صرفت من باغية .
( هل في ذلك ) أي فيما ذكرت ( قسم ) أي : مقنع ومكتفى في القسم ( لذي حجر ) لذي عقل سمي بذلك لأنه يحجر صاحبه عما لا يحل ولا ينبغي ، [ كما يسمى عقلا لأنه يعقله عن القبائح ، ونهى لأنه ينهى عما لا ينبغي ] وأصل " الحجر " المنع : وجواب القسم قوله : " إن ربك لبالمرصاد " واعترض بين القسم وجوابه قوله - عز وجل - : ( ألم تر ) قال الفراء : ألم تخبر ؟ وقال الزجاج : ألم تعلم ؟ ومعناه التعجب . ( كيف فعل ربك بعاد إرم ) يخوف أهل مكة ، يعني : كيف أهلكهم ، وهم كانوا أطول أعمارا وأشد قوة من هؤلاء . واختلفوا في إرم ذات العماد ، فقال سعيد بن المسيب : " إرم ذات العماد " دمشق ، وبه قال عكرمة .
وقال القرظي هي الإسكندرية ، وقال مجاهد : هي أمة . وقيل : معناها : القديمة .
وقال قتادة ، ومقاتل : هم قبيلة من عاد قال مقاتل : كان فيهم الملك ، وكانوا [ بمهرة ] وكان عاد أباهم ، فنسبهم إليه ، وهو إرم بن عاد بن إرم بن سام بن نوح . [ ص: 418 ]
وقال محمد بن إسحاق : هو جد عاد ، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح .
وقال الكلبي : " إرم " هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود وأهل الجزيرة ، كان يقال : عاد إرم ، وثمود إرم ، فأهلك الله عادا ثم ثمود ، وبقي أهل السواد والجزيرة ، وكانوا أهل عمد وخيام وماشية سيارة في الربيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم ، وكانوا أهل جنان وزروع ، ومنازلهم بوادي القرى ، وهي التي يقول الله فيها :
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 05:50 AM
الحلقة (432)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ البلد
مكية
الاية 1 إلى الاية 2
( التي لم يخلق مثلها في البلاد ( 8 ) وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ( 9 ) وفرعون ذي الأوتاد ( 10 ) )
( التي لم يخلق مثلها في البلاد ) وسموا ذات العماد [ لهذا ] لأنهم كانوا أهل عمد سيارة ، وهو قول قتادة ومجاهد والكلبي ، ورواية عطاء عن ابن عباس ، وقال بعضهم : سموا ذات العماد لطول قامتهم . قال ابن عباس : يعني طولهم مثل العماد . وقال مقاتل : كان طول أحدهم اثني عشر ذراعا . وقوله ( لم يخلق مثلها في البلاد ) أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوة ، وهم الذين قالوا : " من أشد منا قوة " .
وقيل : سموا ذات العماد لبناء بناه بعضهم فشيد [ عنده ] ورفع بناءه ، يقال : بناه شداد بن عاد على صفة لم يخلق في الدنيا مثله ، وسار إليه في قومه ، فلما كان منه على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى من معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا .
( وثمود ) أي : وبثمود ، ( الذين جابوا الصخر ) قطعوا الحجر ، واحدتها : صخرة ، ( بالواد ) يعني [ وادي القرى ] كانوا يقطعون الجبال فيجعلون فيها بيوتا . وأثبت ابن كثير ويعقوب الياء في الوادي وصلا ووقفا على الأصل ، وأثبتها ورش وصلا والآخرون بحذفها في الحالين على وفق رءوس الآي .
( وفرعون ذي الأوتاد ) سمي بذلك لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد ، وقد [ ص: 419 ] ذكرناه في سورة ( ص ) .
أخبرنا أبوسعيد الشريحي ، أخبرنا أبوإسحاق الثعلبي ، أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا مخلد بن جعفر ، حدثنا الحسين بن علويه ، حدثنا إسماعيل بن عيسى ، حدثنا إسحاق بن بشر عن ابن سمعان عن عطاء عن ابن عباس : أن فرعون إنما سمي " ذي الأوتاد " لأنه كانت امرأة ، وهي امرأة خازن فرعون حزبيل وكان مؤمنا كتم إيمانه مائة سنة ، وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون ، فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها ، فقالت : تعس من كفر بالله ، فقالت بنت فرعون : وهل لك من إله غير أبي ؟ فقالت : إلهي وإله أبيك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له ، فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ قالت : الماشطة امرأة خازنك تزعم أن إلهك وإلهها وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له . فأرسل إليها فسألها عن ذلك ، فقالت : صدقت ، فقال لها : ويحك اكفري بإلهك وأقري بأني إلهك ، قالت : لا أفعل فمدها بين أربعة أوتاد ، ثم أرسل عليها الحيات والعقارب ، وقال لها : اكفري بإلهك وإلا عذبتك بهذا العذاب شهرين ، فقالت له : ولو عذبتني سبعين شهرا ما كفرت بالله . وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على قرب منها . وقال لها : اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على قلبك ، وكانت رضيعا ، فقالت : لو ذبحت من على وجه الأرض على في ما كفرت بالله - عز وجل - ، فأتى بابنتها الصغرى فلما أضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة ، فأطلق الله لسان ابنتها فتكلمت ، وهي من الأربعة الذين تكلموا أطفالا وقالت : يا أماه لا تجزعي فإن الله قد بنى لك بيتا في الجنة . اصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله وكرامته ، فذبحت فلم تلبث أن ماتت فأسكنها الله الجنة ، قال : وبعث في طلب زوجها حزبيل فلم يقدروا عليه ، فقيل لفرعون : إنه قد رئي في موضع كذا وكذا في جبل كذا ، فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلي ويليه صفوف من الوحوش خلفه يصلون ، فلما رأيا ذلك انصرفا ، فقال حزبيل : اللهم إنك تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة ، ولم يظهر علي أحد ، فأيما هذين الرجلين كتم علي فاهده إلى دينك وأعطه من الدنيا سؤله ، وأيما هذين الرجلين أظهر علي فعجل عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة إلى النار ، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن ، وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رءوس الملأ فقال له فرعون : وهل كان معك غيرك ؟ قال : نعم فلان ، فدعا به فقال : أحق ما يقول هذا ؟ قال : لا ما رأيت مما قال شيئا فأعطاه فرعون وأجزل ، وأما الآخر فقتله ، ثم صلبه . [ ص: 420 ]
قال : وكان فرعون قد تزوج امرأة من نساء بني إسرائيل يقال لها " آسية بنت مزاحم " فرأت ما صنع فرعون بالماشطة ، فقالت : وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي به فرعون ، وأنا مسلمة وهو كافر ؟ فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريبا منها ، فقالت : يا فرعون أنت شر الخلق وأخبثهم عمدت إلى الماشطة فقتلتها ، قال : فلعل بك الجنون الذي كان بها قالت : ما بي من جنون ، وإن إلهي وإلهها وإلهك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له ، فمزق عليها ثيابها وضربها وأرسل إلى أبويها فدعاهما ، فقال لهما : ألا تريان أن الجنون الذي كان بالماشطة أصابها ؟ قالت : أعوذ بالله من ذلك ، إني أشهد أن ربي وربك ورب السماوات والأرض واحد لا شريك له ، فقال لها أبوها : يا آسية ألست من خير نساء [ العماليق ] وزوجك إله العماليق ؟ قالت أعوذ بالله من ذلك ، إن كان ما يقول حقا فقولا له أن يتوجني تاجا تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله ، فقال لهما فرعون : اخرجا عني ، فمدها بين أربعة أوتاد يعذبها ، ففتح الله لها بابا إلى الجنة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون ، فعند ذلك قالت : " رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين " ( التحريم - 11 ) فقبض الله روحها وأسكنها الجنة .
( الذين طغوا في البلاد ( 11 ) فأكثروا فيها الفساد ( 12 ) فصب عليهم ربك سوط عذاب ( 13 ) إن ربك لبالمرصاد ( 14 ) )
( الذين طغوا في البلاد ) يعني عادا وثمود وفرعون ، عملوا في الأرض بالمعاصي وتجبروا . ( فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب ) قال قتادة : يعني لونا من العذاب صبه عليهم ، قال أهل المعاني : هذا على الاستعارة ، لأن السوط عندهم غاية العذاب ، فجرى ذلك لكل نوع من العذاب . وقال الزجاج : جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب .
( ( إن ربك لبالمرصاد ) قال ابن عباس : يعني بحيث يرى ويسمع ويبصر .
قال الكلبي : عليه طريق العباد لا يفوته أحد . قال مقاتل : ممر الناس عليه ، والمرصاد ، والمرصد : الطريق .
وقيل : مرجع الخلق إلى حكمه وأمره وإليه مصيرهم .
وقال الحسن وعكرمة : يرصد أعمال بني آدم . [ ص: 421 ]
والمعنى : أنه لا يفوته شيء من أعمال العباد ، كما لا يفوت من هو بالمرصاد .
وقال السدي : أرصد الله النار على طريقهم حتى يهلكهم .
( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن ( 15 ) وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ( 16 ) كلا بل لا تكرمون اليتيم ( 17 ) ولا تحاضون على طعام المسكين ( 18 ) )
( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ) امتحنه ( ربه ) بالنعمة ( فأكرمه ) بالمال ( ونعمه ) بما وسع عليه ( فيقول ربي أكرمن ) بما أعطاني .
( وأما إذا ما ابتلاه ) بالفقر ( ( فقدر عليه رزقه ) قرأ أبوجعفر وابن عامر " فقدر " بتشديد الدال ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، وهما لغتان ، أي ضيق عليه رزقه . وقيل : " قدر " بمعنى قتر وأعطاه قدر ما يكفيه . ( فيقول ربي أهانن ) أذلني بالفقر . وهذا يعني به الكافر ، تكون الكرامة والهوان عنده بكثرة المال والحظ في الدنيا وقلته . قال الكلبي ومقاتل : نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر ، فرد الله على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة ، فقال ( كلا ) لم أبتله بالغنى لكرامته ، ولم أبتله بالفقر لهوانه ، فأخبر أن الإكرام والإهانة لا تدور على المال وسعة الرزق ، ولكن الفقر والغنى بتقديره ، فيوسع على الكافر لا لكرامته ، ويقدر على المؤمن لا لهوانه ، إنما يكرم المرء بطاعته ويهينه بمعصيته .
قرأ أهل الحجاز والبصرة " أكرمني وأهانني " بإثبات الياء في الوصل ، ويقف ابن كثير ويعقوب بالياء أيضا ، والآخرون يحذفونها وصلا ووقفا .
( بل لا تكرمون اليتيم ) قرأ أهل البصرة : " يكرمون ، ويحضون ، ويأكلون ، ويحبون " بالياء فيهن ، وقرأ الآخرون بالتاء ، " لا تكرمون اليتيم " لا تحسنون إليه . وقيل : لا تعطونه حقه .
قال مقاتل : كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر أمية بن خلف وكان يدفعه عن حقه .
( ولا تحاضون على طعام المسكين ) أي لا تأمرون بإطعامه ، وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة : " تحاضون " بفتح الحاء وألف بعدها ، أي لا يحض بعضكم بعضا عليه .
[ ص: 422 ] ( وتأكلون التراث أكلا لما ( 19 ) وتحبون المال حبا جما ( 20 ) كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ( 21 ) وجاء ربك والملك صفا صفا ( 22 ) وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ( 23 ) )
( ( وتأكلون التراث ) أي الميراث ( أكلا لما ) شديدا وهو أن يأكل نصيبه ونصيب غيره ، وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان ، ويأكلون نصيبهم .
قال ابن زيد : الأكل اللم : الذي يأكل كل شيء يجده ، لا يسأل عنه أحلال هو أم حرام ؟ ويأكل الذي له ولغيره ، يقال : لممت ما على الخوان إذا أتيت ما عليه فأكلته .
( وتحبون المال حبا جما ) أي كثيرا ، يعني : تحبون جمع المال وتولعون به ، يقال : جم الماء في الحوض ، إذا كثر واجتمع .
( كلا ) ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر . وقال مقاتل : أي لا يفعلون ما أمروا به في اليتيم ، وإطعام المسكين ، ثم أخبر عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم ، فقال عز من قائل : ( إذا دكت الأرض دكا دكا ) مرة بعد مرة ، وكسر كل شيء على ظهرها من جبل وبناء وشجر ، فلم يبق على ظهرها شيء .
( وجاء ربك ) قال الحسن : جاء أمره وقضاؤه وقال الكلبي : ينزل ( والملك صفا صفا ) قال عطاء : يريد صفوف الملائكة ، وأهل كل سماء صف على حدة . قال الضحاك : أهل كل سماء إذا نزلوا يوم القيامة كانوا صفا مختلطين بالأرض ومن فيها فيكون سبع صفوف .
( وجيء يومئذ بجهنم ) قال عبد اللهبن مسعود ، ومقاتل في هذه الآية : [ جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يقودونها ] لها تغيظ وزفير حتى تنصب على يسار العرش ( يومئذ ) يعني يوم يجاء بجهنم ( يتذكر الإنسان ) يتعظ ويتوب الكافر ( وأنى له الذكرى ) قال الزجاج : يظهر التوبة ومن أين له التوبة ؟
[ ص: 423 ] ( يقول يا ليتني قدمت لحياتي ( 24 ) فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ( 25 ) ولا يوثق وثاقه أحد ( 26 ) يا أيتها النفس المطمئنة ( 27 ) ارجعي إلى ربك راضية مرضية ( 28 ) )
( يقول يا ليتني قدمت لحياتي ) أي قدمت الخير والعمل الصالح لحياتي في الآخرة ، أي لآخرتي التي لا موت فيها .
( ( فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ) قرأ الكسائي ويعقوب " لا يعذب " " ولا يوثق " بفتح الذال والثاء على معنى لا يعذب أحد [ في الدنيا ] كعذاب الله يومئذ ، ولا يوثق كوثاقه [ أحد ] يومئذ .
وقيل : هو رجل بعينه ، وهو أمية بن خلف ، يعني لا يعذب كعذاب هذا الكافر أحد ، ولا يوثق كوثاقه أحد .
وقرأ الآخرون بكسر الذال والثاء ، أي : لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ ، ولا يوثق كوثاقه أحد ، يعني لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب ، والوثاق : هو الإسار في السلاسل والأغلال .
قوله - عز وجل - : ( يا أيتها النفس المطمئنة ) إلى ما وعد الله - عز وجل - المصدقة بما قال الله . وقال مجاهد : " المطمئنة " التي أيقنت أن الله تعالى ربها وصبرت جأشا لأمره وطاعته .
وقال الحسن : المؤمنة الموقنة ، وقال عطية : الراضية بقضاء الله تعالى . وقال الكلبي : الآمنة من عذاب الله .
وقيل : المطمئنة بذكر الله ، بيانه : " قوله " وتطمئن قلوبهم بذكر الله " .
واختلفوا في وقت هذه المقالة ، فقال قوم : يقال لها ذلك عند الموت فيقال لها : ( ارجعي إلى ربك ) إلى الله ( راضية ) بالثواب ( مرضية ) عنك .
وقال الحسن : إذا أراد الله قبضها اطمأنت إلى الله ورضيت عن الله ورضي الله عنها . [ ص: 424 ]
قال عبد اللهبن عمرو : إذا توفي العبد المؤمن أرسل الله - عز وجل - ملكين إليه وأرسل إليه بتحفة من الجنة ، فيقال لها : اخرجي يا أيتها النفس المطمئنة ، اخرجي إلى روح وريحان وربك عنك راض ، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه ، والملائكة على أرجاء السماء يقولون : قد جاء من الأرض روح طيبة ونسمة طيبة . فلا تمر بباب إلا فتح لها ولا بملك إلا صلى عليها ، حتى يؤتى بها الرحمن فتسجد ، ثم يقال لميكائيل : اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين ، ثم يؤمر فيوسع عليه قبره ، سبعون ذراعا عرضه ، وسبعون ذراعا طوله ، وينبذ له فيه الريحان فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره .
وإن لم يكن جعل له نوره مثل الشمس في قبره ، ويكون مثله مثل العروس ، ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه . وإذا توفي الكافر أرسل الله إليه ملكين وأرسل قطعة من بجاد أنتن من كل نتن وأخشن من كل خشن ، فيقال : يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى جهنم وعذاب أليم وربك عليك غضبان .
وقال أبو صالح في قوله : " ارجعي إلى ربك راضية مرضية " قال : هذا عند خروجها من الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قيل : فادخلي في عبادي وادخلي جنتي .
وقال آخرون : إنما يقال لها ذلك عند البعث يقال : ارجعي [ إلى ربك ] أي إلى صاحبك وجسدك ، فيأمر الله الأرواح أن ترجع إلى الأجساد ، وهذا قول عكرمة ، وعطاء ، والضحاك ، ورواية العوفي عن ابن عباس .
وقال الحسن : معناه : ارجعي إلى ثواب ربك وكرامته ، راضية عن الله بما أعد لك ، مرضية ، رضي عنك ربك .
( فادخلي في عبادي ( 29 ) )
( فادخلي في عبادي ) أي مع عبادي في جنتي . وقيل : في جملة عبادي الصالحين المطيعين المصطفين ، نظيره : " وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " .
[ ص: 425 ] ( وادخلي جنتي ( 30 ) )
( ( وادخلي جنتي ) وقال بعض أهل الإشارة : يا أيتها النفس المطمئنة إلى الدنيا ارجعي إلى الله بتركها ، والرجوع إلى الله هو سلوك سبيل الآخرة .
وقال سعيد بن جبير : مات ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف فشهدت جنازته ، فجاء طائر لم [ نر ] على صورة خلقه فدخل نعشه ، ثم لم [ نر ] خارجا منه ، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر ، ولم ندر من قرأها : " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " .
سُورَةُ الْبَلَدِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 1 ) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 2 ) )
( لَا أُقْسِمُ ) يَعْنِي ، أُقْسِمُ ( بِهَذَا الْبَلَدِ ) يَعْنِي مَكَّةَ ( وَأَنْتَ حِلٌّ ) أَيْ حَلَالٌ ، ( بِهَذَا الْبَلَدِ ) تَصْنَعُ فِيهِ مَا تُرِيدُ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ لَيْسَ عَلَيْكَ مَا عَلَى النَّاسِ فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ . أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ ، حَتَّى قَاتَلَ وَقَتَلَ وَأَمَرَ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، ومِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ وَغَيْرِهِمَا ، فَأَحَلَّ دِمَاءَ قَوْمٍ وَحَرَّمَ دِمَاءَ قَوْمٍ فَقَالَ : مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبَلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَالْمَعْنَى : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَقْسَمَ بِمَكَّةَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهَا مَعَ حُرْمَتِهَا ، فَوَعَدَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَحِلُّهَا لَهُ حَتَّى يُقَاتِلَ فِيهَا ، وَأَنْ يَفْتَحَهَا عَلَى يَدِهِ ، فَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِأَنْ يُحِلَّهَا لَهُ .
قَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ : وَمَعْنَى قَوْلِهِ : " وَأَنْتَ حَلُّ بِهَذَا الْبَلَدِ " قَالَ : يُحَرِّمُونَ أَنْ يَقْتُلُوا بِهَا صَيْدًا وَيَسْتَحِلُّون َ إِخْرَاجَكَ وَقَتْلَكَ ؟
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 06:07 AM
الحلقة (433)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الشمس
مكية
الاية 1 إلى الاية 2
[ ص: 430 ] ( ووالد وما ولد ( 3 ) لقد خلقنا الإنسان في كبد ( 4 ) أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ( 5 ) يقول أهلكت مالا لبدا ( 6 ) )
( ووالد وما ولد ) يعني آدم - عليه السلام - وذريته . ( ( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) روى الوالبي عن ابن عباس : في نصب . قال الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة . وقال قتادة : في مشقة فلا تلقاه إلا يكابد أمر الدنيا والآخرة .
وقال سعيد بن جبير : [ في شدة . وقال عطاء عن ابن عباس ] : في شدة خلق حمله وولادته ورضاعه ، وفطامه وفصاله ومعاشه وحياته وموته .
وقال عمرو بن دينار : عند نبات أسنانه . قال يمان : لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم ، وهو مع ذلك أضعف الخلق . وأصل الكبد : الشدة .
وقال مجاهد ، وعكرمة ، وعطية ، والضحاك : يعني منتصبا معتدل القامة ، وكل شيء خلق فإنه يمشي مكبا ، وهي رواية مقسم عن ابن عباس ، [ وأصل ] الكبد : الاستواء والاستقامة .
وقال ابن كيسان : منتصبا رأسه في بطن أمه فإذا أذن الله له في خروجه انقلب رأسه إلى رجلي أمه .
وقال مقاتل : " في كبد " أي في قوة .
نزلت في أبي الأشدين واسمه أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديدا قويا يضع الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول : من أزالني عنه فله كذا وكذا ، فلا يطاق أن ينزع من تحت قدميه إلا قطعا ويبقى موضع قدميه . ( أيحسب ) يعني أبا الأشدين من قوته ، ( أن لن يقدر عليه أحد ) أي : يظن من شدته أن لن يقدر عليه الله تعالى . وقيل : هو الوليد بن المغيرة . ( يقول أهلكت ) يعني أنفقت ، ( مالا لبدا ) أي كثيرا بعضه على بعض ، من التلبيد ، في عداوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، قرأ أبو جعفر لبدا بتشديد الباء على جمع لابد ، مثل راكع وركع ، وقرأ الآخرون بالتخفيف على جمع " لبدة " ، وقيل على الواحد مثل قثم وحطم .
[ ص: 431 ] ( أيحسب أن لم يره أحد ( 7 ) ألم نجعل له عينين ( 8 ) ولسانا وشفتين ( 9 ) وهديناه النجدين ( 10 ) فلا اقتحم العقبة ( 11 ) )
( أيحسب أن لم يره أحد ) قال سعيد بن جبير [ وقتادة : أيظن ] أن الله لم يره ، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه ، وأين أنفقه ؟
وقال الكلبي : إنه كان كاذبا في قوله أنفقت كذا وكذا ، ولم يكن أنفق جميع ما قال ، يقول أيظن أن الله - عز وجل - لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته ، ثم ذكره نعمه ليعتبر ، فقال : ( ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين ) قال قتادة : نعم الله متظاهرة يقررك بها كيما تشكر ، وجاء في الحديث : أن الله - عز وجل - يقول : ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق ، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك ، فقد أعنتك عليه بطبقتين ، فأطبق ، وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق . ( ( وهديناه النجدين ) قال أكثر المفسرين : طريق الخير والشر ، والحق والباطل ، والهدى والضلالة ، كقوله : " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " وقال محمد بن كعب عن ابن عباس : " وهديناه النجدين " قال : الثديين ، وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك ، والنجد : طريق في ارتفاع . ( فلا اقتحم العقبة ) يقول : فهلا أنفق ماله فيما يجوز به من فك الرقاب وإطعام السغبان ، فيكون خيرا له من إنفاقه على عداوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، هذا قول ابن زيد وجماعة .
وقيل : " فلا اقتحم العقبة " أي لم يقتحمها ولا جاوزها . والاقتحام : الدخول في الأمر الشديد ، وذكر العقبة هاهنا مثل ضربه الله لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر ، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة ، يقول : لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة ولا طعام ، وهذا معنى قول قتادة .
وقيل : إنه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها بعقبة ، فإذا أعتق رقبة وأطعم كان كمن اقتحم العقبة وجاوزها .
وروي عن ابن عمر : أن هذه العقبة جبل في جهنم . [ ص: 432 ]
وقال الحسن وقتادة : عقبة شديدة في النار دون الجسر ، فاقتحموها بطاعة الله تعالى .
وقال مجاهد ، والضحاك ، والكلبي : هي صراط يضرب على جهنم كحد السيف ، مسيرة ثلاثة آلاف سنة سهلا وصعودا وهبوطا ، وإن بجنبتيه كلاليب وخطاطيف كأنها شوك السعدان ، فناج مسلم ، وناج مخدوش ، ومكردس في النار منكوس ، فمن الناس من يمر كالبرق الخاطف ، ومنهم من يمر كالريح العاصف ، ومنهم من يمر كالفارس ، ومنهم من يمر عليه كالرجل يعدو ، ومنهم من يمر كالرجل يسير ، ومنهم من يزحف زحفا ، ومنهم الزالون ، ومنهم من يكردس في النار .
قال ابن زيد : يقول فهلا سلك الطريق التي فيها النجاة .
( وما أدراك ما العقبة ( 12 ) فك رقبة ( 13 ) أو إطعام في يوم ذي مسغبة ( 14 ) )
ثم بين ما هي فقال : ( وما أدراك ما العقبة ) ما اقتحام العقبة . قال سفيان بن عيينة : كل شيء قال : " وما أدراك " فإنه أخبر به ، وما قال : " وما يدريك " فإنه لم يخبر به . ( ( فك رقبة أو إطعام ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي : " فك " بفتح الكاف ، " رقبة " نصب ، " أو أطعم " بفتح الهمزة والميم على الماضي . وقرأ الآخرون " فك " برفع الكاف ، " رقبة " جرا ، " أو إطعام " [ بكسر الهمزة ، فألف بعد العين ، ورفع الميم منونة ] على المصدر .
وأراد بفك الرقبة إعتاقها وإطلاقها ، ومن أعتق رقبة كانت فداءه من النار .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، حدثنا أبو جعفر بن محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث بن سعد ، حدثني ابن الهاد ، عن عمر بن علي بن حسين ، عن سعيد بن مرجانة قال : سمعته يحدث عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار ، حتى يعتق فرجه بفرجه " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا محمد بن كثير العبدي ، حدثنا عيسى بن عبد الرحمن السلمي ، عن طلحة [ ص: 433 ] بن مصرف اليامي ، عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال : جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة ، قال : " لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة ، أعتق النسمة وفك الرقبة " ، قال : قلت : أوليسا واحدا ؟ قال : " لا عتق النسمة : أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة : أن تعين في ثمنها ، والمنحة الوكوف وأنفق على ذي الرحم الظالم ، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن ، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير " .
وقال عكرمة قوله : " فك رقبة " ، يعني فك رقبة من الذنوب بالتوبة " أو إطعام في يوم ذي مسغبة " ، مجاعة ، يقال : سغب يسغب سغبا إذا جاع .
( يتيما ذا مقربة ( 15 ) أو مسكينا ذا متربة ( 16 ) ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ( 17 ) أولئك أصحاب الميمنة ( 18 ) والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة ( 19 ) عليهم نار مؤصدة ( 20 ) )
( ( يتيما ذا مقربة ) أي ذا قرابة ، يريد يتيما بينك وبينه قرابة . ( أو مسكينا ذا متربة ) قد لصق بالتراب من فقره وضره . وقال مجاهد عن ابن عباس : هو المطروح في التراب لا يقيه شيء . و " المتربة " مصدر ترب يترب تربا ومتربة إذا افتقر . ( ثم كان من الذين آمنوا ) بين أن هذه القرب إنما تنفع مع الإيمان . وقيل : " ثم " بمعنى الواو ، ( وتواصوا ) أوصى بعضهم بعضا ، ( بالصبر ) على فرائض الله وأوامره ، ( وتواصوا بالمرحمة ) برحمة الناس . ( أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة ) مطبقة عليهم أبوابها ، لا يدخل فيها روح ولا يخرج منها غم . [ ص: 434 ]
قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، وحفص : بالهمزة هاهنا ، وفي الهمزة ، وقرأ الآخرون بلا همز ، وهما لغتان ، يقال : آصدت الباب وأوصدته ، إذا أغلقته وأطبقته ، وقيل : معنى الهمز المطبقة وغير الهمز المغلقة .
سُورَةُ الشَّمْسِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( 1 ) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ( 2 ) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ( 3 ) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ( 4 ) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ( 5 ) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ( 6 ) )
( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ) قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ : ضَوْءُهَا ، وَالضُّحَى : حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ ، فَيَصْفُو ضَوْءُهَا ، قَالَ قَتَادَةُ : هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : حَرُّهَا ، كَقَوْلِهِ فِي طَهَ " وَلَا تَضْحَى " ، يَعْنِي لَا يُؤْذِيكَ الْحَرُّ . ( وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ) تَبِعَهَا ، وَذَلِكَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ ، إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ تَلَاهَا الْقَمَرُ فِي الْإِضَاءَةِ وَخَلَفَهَا فِي النُّورِ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : وَذَلِكَ حِينَ اسْتَدَارَ ، يَعْنِي كَمُلَ ضَوْءُهُ تَابِعًا لِلشَّمْسِ فِي الْإِنَارَةِ وَذَلِكَ فِي اللَّيَالِي الْبِيضِ . ( وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ) يَعْنِي إِذَا جَلَّى الظُّلْمَةَ ، كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ لِكَوْنِهِ مَعْرُوفًا . ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ) يَعْنِي يَغْشَى الشَّمْسَ حِينَ تَغِيبُ فَتُظْلِمُ الْآفَاقُ . ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ) قَالَ [ الْكَلْبِيُّ ] . : وَمَنْ بَنَاهَا ، وَخَلَقَهَا كَقَوْلِهِ : " فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ " . ( النِّسَاءِ - 3 ) أَيْ مَنْ طَابَ .
قَالَ عَطَاءٌ : وَالَّذِي بَنَاهَا . وَقَالَ الفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ : " مَا " بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ ، أَيْ وَبِنَائِهَا كَقَوْلِهِ : " بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي " ( يس - 27 ) . ( وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ) بَسَطَهَا .
[ ص: 438 ] ( ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( 7 ) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( 8 ) )
( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ) عَدَلَ خَلْقَهَا وَسَوَّى أَعْضَاءَهَا . قَالَ عَطَاءٌ : يُرِيدُ جَمِيعَ مَا خَلَقَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ . ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ : بَيَّنَ لَهَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ : عَلَّمَهَا الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ ، وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ : عَرَّفَهَا مَا تَأْتِي مِنَ الْخَيْرِ وَمَا تَتَّقِي [ مِنَ الشَّرِّ ] .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : أَلْزَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : جَعَلَ فِيهَا ذَلِكَ ، يَعْنِي بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهَا لِلتَّقْوَى ، وَخِذْلَانِهِ إِيَّاهَا لِلْفُجُورِ . وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ هَذَا ، وَحَمَلَ الْإِلْهَامَ عَلَى التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - خَلَقَ فِي الْمُؤْمِنِ التَّقْوَى وَفِي الْكَافِرِ الْفُجُورَ .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ ، أَنَا [ أَحْمَدُ بْنُ ] مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، أَخْبَرَنَا عُرْوَةُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُقَيْلٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ ، عَنِ الْأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ قَالَ : قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ : أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ [ وَيَتَكَادَحُون َ ] فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ سَبَقَ ؟ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا آتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَأُكِّدَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ ؟ قُلْتُ : بَلْ شَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ ، قَالَ : فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا ؟ قَالَ : فَفَزِعْتُ مِنْهُ فَزَعًا شَدِيدًا ، وَقُلْتُ : إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ خَلْقُهُ وَمِلْكُ يَدِهِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ، فَقَالَ لِي : سَدَّدَكَ اللَّهُ ، إِنَّمَا سَأَلْتُكَ لِأَخْتَبِرَ عَقْلَكَ [ إِنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَوْ مُزَيْنَةَ ] أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ وَيَتَكَادَحُون َ فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ سُبِقَ ؟ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ نَبِيُّهُمْ وَأُكِّدَتْ بِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ ؟ فَقَالَ : " لَا بَلْ شَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ " ، قَالَ قُلْتُ : فَفِيمَ الْعَمَلُ إذًا ؟ قَالَ : " مَنْ كَانَ اللَّهُ خَلَقَهُ لِإِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْ نِ يُهَيِّئْهُ اللَّهُ لَهَا ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا " [ ص: 439 ]
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الْآنَ ، أَرَأَيْتَ عُمْرَتَنَا هَذِهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ قَالَ : بَلْ لِلْأَبَدِ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّنَا خُلِقْنَا الْآنَ فِيمَ الْعَمَلُ الْيَوْمَ ، فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ ؟ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ ؟ قَالَ : " لَا بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ " ، قَالَ : فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟ فَقَالَزُهَيْرُ : فَقَالَ كَلِمَةً خَفِيَتْ عَلَيَّ ، فَسَأَلَتُ عَنْهَا نِسْبَتِي بَعْدُ ، فَذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَهَا ، فَقَالَ : " اعْمَلُوا فَإِنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " .
( قد أفلح من زكاها ( 9 ) وقد خاب من دساها ( 10 ) كذبت ثمود بطغواها ( 11 ) )
( قد أفلح من زكاها ) وهذا موضع القسم ، أي فازت وسعدت نفس زكاها الله ، أي أصلحها وطهرها من الذنوب ووفقها للطاعة . ( وقد خاب من دساها ) أي خابت وخسرت نفس أضلها الله فأفسدها .
وقال الحسن : معناه قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله - عز وجل - ، " وقد خاب من دساها " أهلكها وأضلها وحملها على المعصية ، فجعل الفعل للنفس .
و " دساها " أصله : دسسها من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء ، فأبدلت السين الثانية ياء .
والمعنى هاهنا : أخملها وأخفى محلها بالكفر والمعصية .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجوربذي ، حدثنا أحمد بن حرب ، حدثنا أبو معاوية عن عاصم ، عن أبي عثمان وعبد الله بن الحارث ، عن زيد بن أرقم قال : لا أقول لكم إلا ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنا : " اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والبخل والجبن والهم وعذاب القبر ، اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن دعوة لا يستجاب لها " . قوله - عز وجل - ( كذبت ثمود بطغواها ) بطغيانها وعدوانها ، أي الطغيان حملهم على التكذيب .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 06:10 AM
الحلقة (434)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الضحى
مكية
الاية 1 إلى الاية 3
[ ص: 440 ] ( إذ انبعث أشقاها ( 12 ) فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ( 13 ) فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ( 14 ) ولا يخاف عقباها ( 15 ) )
( إذ انبعث أشقاها ) أي قام ، والانبعاث : هو الإسراع في الطاعة للباعث ، أي : كذبوا بالعذاب ، وكذبوا صالحا لما انبعث أشقاها وهو : قدار بن سالف ، وكان أشقر أزرق [ العينين ] قصيرا قام لعقر الناقة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل [ أخبرنا موسى بن إسماعيل ] ، حدثنا وهيب ، حدثنا هشام عن أبيه أنه أخبره عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب وذكر الناقة والذي عقرها فقال [ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] : " إذ انبعث أشقاها " ، انبعث لها رجل عزيز [ عارم ] منيع في أهله مثل أبي زمعة " . ( فقال لهم رسول الله ) صالح - عليه السلام - ، ( ناقة الله ) أي احذروا عقر ناقة الله . وقال الزجاج : منصوب على معنى : ذروا ناقة الله ، ( وسقياها ) شربها ، أي : ذروا ناقة الله وذروا شربها من الماء ، [ فلا تعرضوا ] للماء يوم شربها . ( فكذبوه ) يعني صالحا ، ( فعقروها ) يعني الناقة .
( فدمدم عليهم ربهم ) قال عطاء ومقاتل : فدمر عليهم ربهم فأهلكهم . قال المؤرج : الدمدمة إهلاك باستئصال . ( بذنبهم ) بتكذيبهم الرسول وعقرهم الناقة ، ( فسواها ) فسوى الدمدمة عليهم جميعا ، وعمهم بها فلم يفلت منهم أحد . وقال الفراء : سوى الأمة وأنزل العذاب بصغيرها وكبيرها ، يعني سوى بينهم . ( ولا يخاف عقباها ) قرأ أهل المدينة والشام : " فلا " بالفاء وكذلك هو في مصاحفهم ، وقرأ الباقون بالواو ، وهكذا في مصاحفهم ( عقباها ) عاقبتها . [ ص: 441 ]
قال الحسن : معناه : لا يخاف الله من أحد تبعة في إهلاكهم . وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
وقال الضحاك ، والسدي ، والكلبي : هو راجع إلى العاقر ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره : إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها .
سورة الليل
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
( والليل إذا يغشى ( 1 ) والنهار إذا تجلى ( 2 ) وما خلق الذكر والأنثى ( 3 ) إن سعيكم لشتى ( 4 ) فأما من أعطى واتقى ( 5 ) وصدق بالحسنى ( 6 ) )
( والليل إذا يغشى ) أي يغشى النهار بظلمة فيذهب بضوئه . ( والنهار إذا تجلى ) بان وظهر من بين الظلمة . ( وما خلق الذكر والأنثى ) يعني : ومن خلق ، قيل هي " ما " المصدرية أي : وخلق الذكر والأنثى ، قال مقاتل والكلبي : يعني آدم وحواء . وفي قراءة ابن مسعود ، وأبي الدرداء : والذكر والأنثى . جواب القسم قوله : ( إن سعيكم لشتى ) إن أعمالكم لمختلفة ، فساع في فكاك نفسه ، وساع في عطبها .
روى أبو مالك الأشعري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كل ، الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " . ( فأما من أعطى ) ماله في سبيل الله ، ( واتقى ) ربه . ( وصدق بالحسنى ) قال أبو عبد الرحمن السلمي والضحاك : وصدق بلا إله إلا* الله ، وهي رواية عطية عن ابن عباس .
وقال مجاهد : بالجنة دليله : قوله تعالى " للذين أحسنوا الحسنى " يعني الجنة . [ ص: 446 ]
وقيل : وصدق بالحسنى أي بالخلف ، أي أيقن أن الله تعالى سيخلفه . وهي رواية عكرمة عن ابن عباس .
وقال قتادة ومقاتل والكلبي : بموعود الله - عز وجل - الذي وعده أن يثيبه .
( فسنيسره لليسرى ( 7 ) وأما من بخل واستغنى ( 8 ) وكذب بالحسنى ( 9 ) فسنيسره للعسرى ( 10 ) )
( فسنيسره ) فسنهيئه في الدنيا ، ( لليسرى ) أي للخلة اليسرى ، وهي العمل بما يرضاه الله - عز وجل - . ( وأما من بخل ) بالنفقة في الخير ، ( واستغنى ) عن ثواب الله فلم يرغب فيه ( وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) سنهيئه للشر بأن نجريه على يديه حتى يعمل بما لا يرضي الله ، فيستوجب به النار . قال مقاتل : نعسر عليه أن يأتي خيرا .
وروينا عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من نفس منفوسة إلا [ كتب الله ] مكانها من الجنة أو النار " فقال رجل : أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ؟ قال : " لا ولكن اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء ، وأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة " ، ثم تلا " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى " .
قيل : نزلت في أبي بكر الصديق اشترى بلالا من أمية بن خلف ببردة وعشرة أواق ، فأعتقه فأنزل الله تعالى : " والليل إذا يغشى " إلى قوله : " إن سعيكم لشتى " يعني : سعي أبي بكر وأمية .
وروى علي بن حجر عن إسحاق عن أبي نجيح عن عطاء ، قال : كان لرجل من الأنصار نخلة وكان له جار يسقط من بلحها في دار جاره ، وكان صبيانه يتناولون منه ، فشكا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " بعنيها بنخلة في الجنة " فأبى ، فخرج فلقيه أبو الدحداح ، فقال له : هل لك أن تبيعها بحش [ البستان ] ، يعني حائطا له ، فقال له : هي لك ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله أتشتريها مني بنخلة في الجنة ؟ قال : " نعم " قال : هي لك ، فدعا *النبي - صلى الله عليه وسلم - جار الأنصاري [ ص: 447 ] فقال : " خذها " . فأنزل الله تعالى : " والليل إذا يغشى " إلى قوله : " إن سعيكم لشتى " [ سعي أبي ] الدحداح والأنصاري صاحب النخلة .
( فأما من أعطى واتقى ) [ يعني أبا ] الدحداح ، ( وصدق بالحسنى ) [ الثواب ] ( فسنيسره لليسرى ) يعني الجنة ، ( وأما من بخل واستغنى ) يعني الأنصاري ، ( وكذب بالحسنى ) يعني الثواب ، ( فسنيسره للعسرى ) يعني النار .
( وما يغني عنه ماله إذا تردى ( 11 ) إن علينا للهدى ( 12 ) وإن لنا للآخرة والأولى ( 13 ) فأنذرتكم نارا تلظى ( 14 ) لا يصلاها إلا الأشقى ( 15 ) الذي كذب وتولى ( 16 ) وسيجنبها الأتقى ( 17 ) )
( وما يغني عنه ماله ) الذي بخل به ، ( إذا تردى ) قال مجاهد : إذا مات . وقال قتادة وأبو صالح : هوى في جهنم . ( إن علينا للهدى ) يعني البيان . قال الزجاج : علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال ، وهو قول قتادة ، قال : على الله بيان حلاله وحرامه .
قال الفراء : يعني من سلك الهدى فعلى الله سبيله كقوله تعالى : " وعلى الله قصد السبيل " ( النحل - 9 ) يقول : من أراد الله فهو على السبيل القاصد .
وقيل معناه : إن علينا للهدى والإضلال كقوله : " بيدك الخير " ( آل عمران - 26 ) [ فاقتصر على الهدى لدلالة الكلام عليه كقوله : " سرابيل تقيكم الحر " ( النحل - 81 ) فاقتصر على ذكر الحر ولم يذكر البرد لأنه يدل عليه ] . ( وإن لنا للآخرة والأولى ) فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق . ( فأنذرتكم ) يا أهل مكة ، ( نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى ) أي : تتلظى ، يعني تتوقد وتتوهج . ( الذي كذب ) الرسول ، ( وتولى ) عن الإيمان . ( وسيجنبها الأتقى ) يريد بالأشقى الشقي ، وبالأتقى التقي .
[ ص: 448 ] ( الذي يؤتي ماله يتزكى ( 18 ) )
( الذي يؤتي ماله ) يعطي ماله ( يتزكى ) يطلب أن يكون عند الله زاكيا لا رياء ولا سمعة ، يعني أبا بكر الصديق ، في قول الجميع .
قال ابن الزبير : كان أبو بكر يبتاع الضعفة فيعتقهم ، فقال أبوه : أي بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك ؟ قال : منع ظهري أريد ، فنزل : " وسيجنبها الأتقى " ، إلى آخر السورة .
وذكر محمد بن إسحاق قال : كان بلال لبعض بني جمح وهو بلال بن رباح واسم أمه حمامة ، وكان صادق الإسلام طاهر القلب ، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول له : لا تزال هكذا حتى تموت ، أو تكفر بمحمد ، فيقول وهو في ذلك البلاء : أحد أحد .
وقال محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه قال : مر به أبو بكر يوما وهم يصنعون به ذلك ، وكانت دار أبي بكر في بني جمح ، فقال لأمية ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين ؟ قال : أنت أفسدته فأنقذه مما ترى ، قال أبو بكر : أفعل! عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى ، على دينك ، أعطيك ؟ قال : قد فعلت فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذه فأعتقه ، ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر ست [ رقاب ] ، بلال سابعهم ، عامر بن فهيرة شهد بدرا وأحدا ، وقتل يوم بئر معونة شهيدا ، وأم عميس ، وزنيرة فأصيب بصرها حين أعتقها ، فقالت قريش : ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى [ فقالت : كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى ] ، وما تنفعان فرد الله إليها بصرها ، وأعتق النهدية وابنتها ، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما تحطبان لها وهي تقول والله لا أعتقكما أبدا . فقال أبو بكر : خلا يا أم فلان ، فقالت : خلا أنت أفسدتهما فأعتقهما ، قال [ أبو بكر - رضي الله عنه - ] فبكم ؟ قالت : بكذا وكذا ، قال : قد أخذتهما وهما حرتان ، ومر بجارية بني المؤمل وهي تعذب فابتاعها فأعتقها . [ ص: 449 ]
وقال سعيد بن المسيب : بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر في بلال حين قال : أتبيعه ؟ قال : نعم أبيعه بنسطاس عبد لأبي بكر ، صاحب عشرة آلاف دينار ، وغلمان وجوار ومواش ، وكان مشركا حمله أبو بكر على الإسلام على أن يكون ماله له ، فأبى فأبغضه أبو بكر ، فلما قال له أمية أبيعه بغلامك نسطاس اغتنمه وباعه منه ، فقال المشركون : ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده فأنزل الله :
( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ( 19 ) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ( 20 ) ولسوف يرضى ( 21 ) )
( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) أي يجازيه ويكافئه عليها . ( إلا ) لكن ( ابتغاء وجه ربه الأعلى ) يعني : لا يفعل ذلك مجازاة لأحد بيد له عنده ، ولكنه يفعله ابتغاء وجه ربه الأعلى وطلب رضاه . ( ولسوف يرضى ) بما يعطيه الله - عز وجل - في الآخرة من الجنة والكرامة جزاء على ما فعل .
سُورَةُ الضُّحَى
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَالضُّحَى ( 1 ) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ( 2 ) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ( 3 ) )
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ : سَمِعْتُ جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ قَالَ : اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ ، لَمْ أَرَهُ قَرَبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .
وَقِيلَ : إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَالَتْ ذَلِكَ أُمُّ جَمِيلٍ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ .
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ سَأَلَتِ الْيَهُودُ ، رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ وَعَنِ الرُّوحِ ؟ فَقَالَ : سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا ، وَلَمْ يَقِلْ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَاحْتَبَسَ عَنْهُ الْوَحْيُ .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : كَانَ سَبَبُ احْتِبَاسِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْهُ كَوْنُ جَرْوٍ فِي بَيْتِهِ ، فَلَمَّا نَزَلَ عَاتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إِبْطَائِهِ ، فَقَالَ : إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ [ أَوْ ] صُورَةٌ .
وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ احْتِبَاسِ الْوَحْيِ عَنْهُ ، فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا . وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ : خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : أَرْبَعُونَ يَوْمًا . [ ص: 454 ]
قَالُوا : فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : إِنَّ مُحَمَّدًا وَدَعَهُ رَبُّهُ وَقَلَاهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " يَا جِبْرِيلُ مَا جِئْتَ حَتَّى اشْتَقْتُ إِلَيْكَ " ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : " إِنِّي كُنْتُ أَشَدُّ شَوْقًا [ إِلَيْكَ ] ، وَلَكِنِّي عَبْدٌ مَأْمُورٌ " ، فَأَنْزَلَ : وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ( مَرْيَمَ - 64 ) .
قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( وَالضُّحَى ) أَقْسَمَ بِالضُّحَى وَأَرَادَ بِهِ النَّهَارَ كُلَّهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَابَلَهُ بِاللَّيْلِ [ فَقَالَ وَاللَّيْلِ ] إِذَا سَجَى ، نَظِيرُهُ : قَوْلُهُ : " أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى " ( الْأَعْرَافِ - 98 ) أَيْ نَهَارًا .
وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ : يَعْنِي وَقْتَ الضُّحَى ، وَهِيَ السَّاعَةُ الَّتِي فِيهَا ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ ، وَاعْتِدَالُ النَّهَارِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ . ( وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) قَالَ الْحَسَنُ : أَقْبَلَ بِظَلَامِهِ ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَالَ الْوَالِبِيُّ عَنْهُ : إِذَا ذَهَبَ ، قَالَ عَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ : غَطَّى كُلَّ شَيْءٍ بِالظُّلْمَةِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : اسْتَوَى . وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ : سَكَنَ وَاسْتَقَرَّ ظَلَامُهُ فَلَا يَزْدَادُ بَعْدَ ذَلِكَ . يُقَالُ : لَيْلٌ سَاجٍ وَبَحْرٌ سَاجٍ [ إِذَا كَانَ سَاكِنًا ] . قَوْلُهُ تَعَالَى : ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ ، أَيْ مَا تَرَكَكَ مُنْذُ اخْتَارَكَ وَلَا أَبْغَضَكَ مُنْذُ أَحَبَّكَ .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 06:14 AM
الحلقة (435)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الشرح
مكية
الاية 1 إلى الاية 3
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ( 4 )
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى حَدَّثَنَا الْمُطَهَّرُ بْنُ عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ [ الصَّالِحَانِيّ ُ ] ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا " .
[ ص: 455 ] ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ( 5 ) ألم يجدك يتيما فآوى ( 6 ) )
( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) قال عطاء عن ابن عباس : هو الشفاعة في أمته حتى يرضى ، وهو قول علي والحسن .
وروينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " اللهم أمتي أمتي وبكى ، فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ، ولا نسوءك فيهم " .
وقال حرب بن شريح سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول : إنكم يا معشر أهل العراق تقولون : أرجى آية في القرآن : " قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " ، وإنا أهل البيت نقول : أرجى آية في كتاب الله " ولسوف يعطيك ربك فترضى " من الثواب . وقيل : من النصر والتمكين وكثرة المؤمنين ، ( فترضى )
ثم أخبره الله - عز وجل - عن حالته التي كان عليها قبل الوحي ، وذكره نعمه فقال جل ذكره : ( ألم يجدك يتيما فآوى ) أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي فقال : أنبأني عبد الله بن حامد الأصفهاني ، أخبرنا محمد بن عبد الله النيسابوري ، حدثنا محمد بن عيسى أنا أبو عمرو الجويني وأبو الربيع الزهراني قالا حدثنا حماد بن زيد عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته ، قلت : يا رب إنك آتيت سليمان بن داود ملكا عظيما ، وآتيت فلانا كذا وآتيت فلانا كذا ؟ قال : يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك ؟ قلت : بلى ، أي رب [ قال : ألم أجدك ضالا فهديتك ؟ قلت : بلى أي رب ، قال : ألم أجدك عائلا فأغنيتك ؟ قلت : بلى أي رب " ، وزاد غيره عن حماد قال : ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك ؟ قلت : [ ص: 456 ] بلى أي رب ] .
ومعنى الآية : ألم يجدك يتيما صغيرا فقيرا حين مات أبواك ولم يخلفا لك مالا ولا مأوى ، فجعلت لك مأوى تأوي إليه ، وضممتك إلى عمك أبي طالب حتى أحسن تربيتك وكفاك المؤنة .
( ووجدك ضالا فهدى ( 7 ) ووجدك عائلا فأغنى ( 8 ) )
( ووجدك ضالا ) يعني ضالا عما أنت عليه ( فهدى ) أي : فهداك للتوحيد والنبوة .
قال الحسن والضحاك وابن كيسان : " ووجدك ضالا " عن معالم النبوة وأحكام الشريعة غافلا عنها ، فهداك إليها ، [ كما قال ] " وإن كنت من قبله لمن الغافلين " ( يوسف - 3 ) وقال : " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان " ( الشورى - 52 ) .
وقيل : ضالا في شعاب مكة فهداك إلى جدك عبد المطلب وروى أبو الضحى عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ضل في شعاب مكة وهو صبي صغير ، فرآه أبو جهل منصرفا عن أغنامه فرده إلى عبد المطلب .
وقال سعيد بن المسيب : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء ناقة إذ جاء إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق ، فجاء جبريل فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الحبشة ، ورده إلى القافلة فمن الله عليه بذلك . وقيل : وجدك ضالا [ ضال ] نفسك لا تدري من أنت ، فعرفك نفسك وحالك . ( ووجدك عائلا فأغنى ) أي فقيرا فأغناك بمال خديجة ثم بالغنائم .
وقال مقاتل : [ فأرضاك ] بما أعطاك من الرزق . واختاره الفراء . وقال : لم يكن غنيا عن كثرة المال ولكن الله [ أرضاه ] بما آتاه وذلك حقيقة الغنى . [ ص: 457 ]
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي ، حدثنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنه قال أخبرنا أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسين الزغرتاني . أخبرنا أحمد بن سعيد أخبرنا أبو يحيى محمد بن عبد الله ، حدثنا أبي ، حدثني شرحبيل بن شريك عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه " .
ثم أوصاه باليتامى والفقراء فقال :
( فأما اليتيم فلا تقهر ( 9 ) )
( فأما اليتيم فلا تقهر ) قال مجاهد : لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيما . وقال الفراء والزجاج : لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه ، وكذا كانت العرب تفعل في أمر اليتامى ، تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم .
أخبرنا أبو بكر محمد عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا [ عبد الله ] بن محمود ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن أبي أيوب عن يحيى [ بن ] سليمان عن يزيد بن أبي عتاب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه " ، ثم قال بأصبعيه : " أنا وكافل اليتيم [ في الجنة ] [ ص: 458 ] هكذا [ وهو يشير ] بأصبعيه [ السبابة والوسطى ] " .
( وأما السائل فلا تنهر ( 10 ) وأما بنعمة ربك فحدث ( 11 ) )
( وأما السائل فلا تنهر ) قال المفسرون : يريد السائل على الباب ، يقول : لا تنهره لا تزجره إذا سألك ، فقد كنت فقيرا فإما أن تطعمه وإما أن ترده ردا لينا ، يقال : نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره .
وقال قتادة : رد السائل برحمة ولين . قال إبراهيم بن أدهم : نعم القوم السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة .
وقال إبراهيم : السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول : هل توجهون إلى أهليكم بشيء ؟
وروي عن الحسن في قوله : " أما السائل فلا تنهر " ، قال : طالب العلم . ( وأما بنعمة ربك فحدث ) قال مجاهد يعني النبوة ، روى عنه أبو بشر واختاره الزجاج وقال : أي بلغ ما أرسلت به ، وحدث بالنبوة التي آتاك [ الله ] .
وقال الليث عن مجاهد : يعني القرآن وهو قول الكلبي ، أمره أن [ يقرأ به ] .
وقال مقاتل : اشكر لما ذكر من النعمة عليك في هذه السورة من جبر اليتيم والهدى بعد الضلالة والإغناء بعد العيلة ، والتحدث بنعمة الله شكرا .
أخبرنا أبو سعيد بكر بن محمد بن محمد بن محمي البسطامي ، حدثنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى بن سختويه ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن الحسين النصر أبادي ، [ حدثنا [ ص: 459 ] علي بن سعيد النسوي ] أخبرنا سعيد بن عفير ، حدثنا يحيى بن أيوب عن عمارة بن غزية عن شرحبيل مولى الأنصاري ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من صنع إليه معروف فليجز به ، فإن لم يجد ما يجزي به فليثن عليه فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره ، وإن كتمه فقد كفره ، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبين من زور " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين ، حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق ، حدثنا أبو القاسم بن منيع ، حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا وكيع عن أبي عبد الرحمن يعني القاسم بن الوليد ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر : " من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله تعالى ، التحدث بنعمة الله شكر ، وتركه كفر ، والجماعة رحمة والفرقة عذاب " .
والسنة - في قراءة أهل مكة - أن يكبر من أول سورة " والضحى " على رأس كل سورة حتى يختم القرآن ; فيقول : الله أكبر .
قال الشيخ الإمام الأجل محيي السنة ناصر الحديث قدوة الأئمة ناشر الدين ركن الإسلام إمام الأئمة مفتي الشرق أبو محمد الحسين بن مسعود رحمه الله : كذلك قرأته على الإمام المقرئ أبي نصر محمد بن أحمد بن علي الحامدي بمرو ، قال : قرأت على أبي القاسم طاهر بن علي الصيرفي ، قال : قرأت على أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران ، قال : قرأت على أبي علي محمد بن أحمد بن حامد الصفار المقرئ ، قال : قرأت على أبي بكر محمد بن موسى الهاشمي ، قال : قرأت على أبي ربيعة والحسين بن محمد الحداد ، وهما قرآ على أبي الحسين بن أبي بزة وأخبرهما [ ص: 460 ] [ ابن أبي بزة ] أنه قرأ على عكرمة بن سليمان بن كثير المكي ، وأخبره عكرمة أنه قرأ على شبل بن عباد وإسماعيل بن قسطنطين ، وأخبراه أنهما قرآ على عبد الله بن كثير ، وأخبرهما عبد الله [ بن كثير - رضي الله عنهم أجمعين ] أنه قرأ على مجاهد ، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس ، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب .
وأخبرنا الإمام المقرئ أبو نصر محمد بن أحمد بن علي وقرأت عليه بمرو ، وقال : أنا الشريف أبو القاسم علي بن محمد الزيدي بالتكبير ، وقرأت عليه بثغر حران ، قال : حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن زياد الموصلي المعروف بالنقاش ، وقرأت عليه بمدينة السلام ، حدثنا أبو ربيعة محمد بن إسحاق الربعي ، وقرأت عليه بمكة قال : حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي [ بزة ] ، وقرأت عليه قال لي : قرأته على عكرمة بن سليمان ، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد قال فلما بلغت " والضحى " قالا لي : كبر حتى تختم ، مع خاتمة كل سورة ، فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك ، وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك ، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس [ فأمره بذلك ] ، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك وأخبره أبي أنه قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره بذلك .
وكان سبب التكبير أن الوحي لما احتبس قال المشركون هجره شيطانه ، وودعه ، فاغتم النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك ، فلما نزل " والضحى " كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرحا بنزول الوحي ، فاتخذوه سنة .
سُورَةُ الشَّرْحِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ( 1 ) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ( 2 ) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ( 3 ) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ( 4 ) )
( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) أَلَمْ نَفْتَحْ وَنُوَسِّعْ وَنُلَيِّنْ لَكَ قَلْبَكَ بِالْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ . ( وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ) قَالَ الْحَسَنُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَالضَّحَّاكُ : وَحَطَطْنَا عَنْكَ الَّذِي سَلَفَ مِنْكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ : " لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ " ( الْفَتْحِ - 2 ) .
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ : يَعْنِي الْخَطَأَ وَالسَّهْوَ . وَقِيلَ : ذُنُوبُ أُمَّتِكَ [ فَأَضَافَهُ ] إِلَيْهِ لِاشْتِغَالِ قَلْبِهِ بِهِمْ ، وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى وَأَبُو عُبَيْدَةَ : يَعْنِي خَفَّفْنَا عَنْكَ أَعْبَاءَ النُّبُوَّةِ وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهَا . ( الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ) أَثْقَلَ ظَهْرَكَ فَأَوْهَنَهُ حَتَّى سُمِعَ لَهُ نَقِيضٌ ، أَيْ صَوْتٌ . ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْخَالِقِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُؤَذِّنُ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ يَعْنِي ابْنَ صَالِحٍ عَبْدَ الْمَلِكِ ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَأَلَ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ " وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ " ؟ قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي " . [ ص: 464 ]
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ : " وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ " إِذَا ذُكِرْتُ ، ذُكِرْتَ [ مَعِي ] وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : يُرِيدُ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَالتَّشَهُّدَ وَالْخُطْبَةَ عَلَى الْمَنَابِرِ ، وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا عَبَدَ اللَّهَ وَصَدَّقَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَمْ يَشْهَدْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْءٍ ، وَكَانَ كَافِرًا .
وَقَالَ قَتَادَةُ : رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَلَيْسَ خَطِيبٌ وَلَا مُتَشَهِّدٌ وَلَا صَاحِبُ صَلَاةٍ إِلَّا يُنَادِي : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ : لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ [ إِلَّا بِهِ ] وَلَا تَجُوزُ خُطْبَةٌ إِلَّا بِهِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : [ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ] يَعْنِي بِالتَّأْذِينِ .
وَفِيهِ يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ عَبْدَهُ بِبُرْهَانِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَى وَأَمْجَدُ أَغَرُّ عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّةِ خَاتَمٌ مِنَ اللَّهِ مَشْهُودٌ يَلوُحُ وَيَشْهَدُ وَضَمَّ الْإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ مَعَ اسْمِهِ إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ : أَشْهَدُ
وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ .
وَقِيلَ : رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ بِأَخْذِ مِيثَاقِهِ عَلَى النَّبِيِّينَ وَإِلْزَامِهِمُ الْإِيمَانَ بِهِ وَالْإِقْرَارَ بِفَضْلِهِ .
ثُمَّ وَعَدَهُ الْيُسْرَ وَالرَّخَاءَ بَعْدَ الشِّدَّةِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ فِي شِدَّةٍ ، فَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - :
( فإن مع العسر يسرا ( 5 ) إن مع العسر يسرا ( 6 ) )
( فإن مع العسر يسرا ) أي مع الشدة التي أنت فيها من جهاد المشركين يسر ورخاء بأن يظهرك عليهم حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به ، " إن مع العسر يسرا " كرره لتأكيد الوعد وتعظيم الرجاء .
وقال الحسن لما نزلت هذه الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبشروا ، قد جاءكم اليسر ، لن يغلب [ ص: 465 ] عسر يسرين " .
قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل ، إنه لن يغلب عسر يسرين .
قال المفسرون : ومعنى قوله : " لن يغلب عسر يسرين " أن الله تعالى كرر العسر بلفظ المعرفة واليسر بلفظ النكرة ، ومن عادة العرب إذا ذكرت اسما معرفا ، ثم أعادته كان الثاني هو الأول ، وإذا ذكرت نكرة ثم أعادته مثله صار اثنين ، وإذا أعادته معرفة فالثاني هو الأول ، كقولك : إذا كسبت ، درهما أنفقت درهما ، فالثاني غير الأول ، وإذا قلت : إذا كسبت درهما فأنفق الدرهم ، فالثاني هو الأول ، فالعسر في الآية مكرر بلفظ التعريف ، فكان عسرا واحدا ، واليسر مكرر بلفظ [ التنكير ] ، فكانا يسرين ، فكأنه قال : فإن مع العسر يسرا ، إن مع ذلك العسر يسرا آخر .
وقال أبو علي [ الحسن ] بن يحيى بن نصر الجرجاني صاحب " النظم " تكلم الناس في قوله : " لن يغلب عسر يسرين " ، فلم يحصل منه غير قولهم : إن العسر معرفة واليسر نكرة ، فوجب أن يكون عسر واحد ويسران ، وهذا قول مدخول ، إذا قال الرجل : إن مع الفارس سيفا [ إن مع الفارس سيفا ] ، فهذا لا يوجب أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنين ، فمجاز قوله : " لن يغلب عسر يسرين " أن الله بعث نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو مقل مخف ، فكانت قريش تعيره بذلك ، حتى قالوا : إن كان بك طلب الغنى جمعنا لك مالا حتى تكون كأيسر أهل مكة ، فاغتم النبي لذلك ، فظن أن قومه إنما يكذبونه لفقره ، فعدد الله نعمه عليه في هذه السورة ، ووعده الغنى ، ليسليه بذلك عما خامره من الغم ، فقال : " فإن مع العسر يسرا " ، مجازه : لا يحزنك ما يقولون فإن مع العسر يسرا في الدنيا عاجلا ثم أنجزه ما وعده ، وفتح عليه القرى العربية ووسع عليه ذات يده ، حتى كان يعطي المئين من الإبل ، ويهب الهبات السنية ، ثم ابتدأ فضلا آخر من أمر الآخرة ، فقال : إن مع العسر يسرا ، والدليل على ابتدائه : تعريه من الفاء والواو ، وهذا وعد لجميع المؤمنين ، ومجازه : إن مع العسر [ ص: 466 ] يسرا ، أي : إن مع العسر في الدنيا للمؤمن يسرا في الآخرة ، فربما اجتمع له اليسران يسر الدنيا وهو ما ذكره في الآية الأولى ويسر الآخرة وهو ما ذكره في الآية الثانية ، فقوله - عليه السلام - : " لن يغلب عسر يسرين " أي : لن يغلب عسر ، الدنيا اليسر الذي وعده للمؤمنين في الدنيا واليسر الذي وعدهم في الآخرة ، وإنما يغلب أحدهما ، هو يسر الدنيا ، وأما يسر الآخرة فدائم غير زائل ، أي لا يجمعهما في الغلبة ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " شهرا عيد لا ينقصان " أي لا يجتمعان في النقصان .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 06:19 AM
الحلقة (436)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ التين
مكية
الاية 1 إلى الاية 6
( فإذا فرغت فانصب ( 7 ) )
( فإذا فرغت فانصب ) أي فاتعب ، والنصب : التعب ، قال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل ، والكلبي : فإذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء وارغب إليه في المسألة يعطك .
[ وروى عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه قال : إذا صليت فاجتهد في الدعاء والمسألة ] .
وقال ابن مسعود : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل .
وقال الشعبي : إذا فرغت من التشهد فادع ، لدنياك وآخرتك .
وقال الحسن وزيد بن أسلم : إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب في عبادة ربك .
وقال منصور عن مجاهد : إذا فرغت من أمر الدنيا فانصب في عبادة ربك وصل .
وقال حيان عن الكلبي : إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب ، أي : استغفر لذنبك وللمؤمنين .
[ ص: 467 ] ( ( وإلى ربك فارغب ( 8 ) )
( وإلى ربك فارغب ) قال عطاء : تضرع إليه راهبا من النار راغبا في الجنة . وقيل : فارغب إليه في جميع أحوالك . قال الزجاج : أي اجعل رغبتك إلى الله وحده .
سُورَةُ التِّينِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ( 1 ) وَطُورِ سِينِينَ ( 2 ) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ( 3 ) .
( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَمُقَاتِلٌ ، وَالْكَلْبِيُّ : هُوَ تِينُكُمْ [ هَذَا ] الَّذِي تَأْكُلُونَهُ ، وَزَيْتُونُكُمْ هَذَا الَّذِي تَعْصِرُونَ مِنْهُ الزَّيْتَ .
قِيلَ : خَصَّ التِّينَ بِالْقَسَمِ لِأَنَّهَا فَاكِهَةٌ مُخَلَّصَةٌ لَا عَجَمَ لَهَا ، شَبِيهَةٌ بِفَوَاكِهِ الْجَنَّةِ . وَخَصَّ الزَّيْتُونَ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ ، وَلِأَنَّهُ شَجَرَةٌ مُبَارَكَةٌ جَاءَ بِهَا الْحَدِيثُ ، وَهُوَ ثَمَرٌ وَدُهْنٌ يَصْلُحُ لِلِاصْطِبَاغِ وَالِاصْطِبَاحِ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : هُمَا جَبَلَانِ . قَالَ قَتَادَةُ : " التِّينُ " : الْجَبَلُ الَّذِي عَلَيْهِ دِمَشْقُ ، وَ " الزَّيْتُونُ " : الْجَبَلُ الَّذِي عَلَيْهِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ ، لِأَنَّهُمَا يُنْبِتَانِ التِّينَ وَالزَّيْتُونَ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ : هُمَا مَسْجِدَانِ بِالشَّامِ . قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : " التِّينُ " : مَسْجِدُ دِمَشْقَ ، وَ " الزَّيْتُونُ " : مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ : " التِّينُ " مَسْجِدُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ، وَ " الزَّيْتُونُ " : مَسْجِدُ إِيلِيَا . ( وَطُورِ سِينِينَ ) يَعْنِي الْجَبَلَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ، وَذَكَرْنَا مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ : " وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ " ( الْمُؤْمِنُونَ - 20 ) . ( وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) أَيِ الْآمَنِ ، يَعْنِي : مَكَّةَ ، يَأْمَنُ فِيهِ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ، هَذِهِ كُلُّهَا أَقْسَامٌ ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ :
[ ص: 472 ] ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( 4 ) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ( 5 ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ( 6 ) )
( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) أَيْ : أَعْدَلِ قَامَةٍ وَأَحْسَنِ صُورَةٍ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ حَيَوَانٍ مُنْكَبًّا عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا الْإِنْسَانَ خَلَقَهُ مَدِيدَ الْقَامَةِ ، يَتَنَاوَلُ مَأْكُولَهُ بِيَدِهِ ، مُزَيَّنًا بِالْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ . ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) يُرِيدُ إِلَى الْهَرَمِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ ، فَيَنْقُصُ عَقْلُهُ وَيَضْعُفُ بَدَنُهُ ، وَالسَّافِلُونَ : هُمُ الضُّعَفَاءُ وَالزَّمْنَى وَالْأَطْفَالُ ، فَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ [ أَسْفَلُ ] مِنْ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا ، [ " وَأَسْفَلَ سَافِلِينَ " نَكِرَةٌ تَعُمُّ الْجِنْسَ ، كَمَا تَقُولُ : فَلَانٌ أَكْرَمُ قَائِمٍ فَإِذَا عَرَّفْتَ قُلْتَ : أَكْرَمُ الْقَائِمِينَ . وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ " أَسْفَلَ السَّافِلِينَ "
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُجَاهِدٌ : يَعْنِي ثُمَّ رَدَدْنَاهُ إِلَى النَّارِ ، يَعْنِي إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ ، لِأَنَّ جَهَنَّمَ بَعْضُهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ .
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : يَعْنِي إِلَى النَّارِ فِي شَرِّ صُورَةٍ ، فِي صُورَةِ خِنْزِيرٍ . ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ : ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ) [ فَإِنَّهُمْ لَا يُرَدُّونَ إِلَى النَّارِ . وَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ : رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ، فَزَالَتْ عُقُولُهُمْ وَانْقَطَعَتْ أَعْمَالُهُمْ ، فَلَا يُكْتَبُ لَهُمْ حَسَنَةٌ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ] . ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُمْ بَعْدَ الْهَرَمِ ، وَالْخَرَفِ ، مِثْلَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي حَالِ الشَّبَابِ وَالصِّحَّةِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُمْ نَفَرٌ رُدُّوا إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عُذْرَهُمْ . وَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ أَجْرَهُمُ الَّذِي عَمِلُوا قَبْلَ أَنْ تَذْهَبَ عُقُولُهُمْ .
قَالَ عِكْرِمَةُ : لَمْ يَضُرَّ هَذَا الشَّيْخَ [ كَبِرُهُ ] إِذْ خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِأَحْسَنِ مَا كَانَ يَعْمَلُ .
وَرَوَى عَاصِمُ الْأَحْوَلُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " [ ص: 473 ] قَالَ : " إِلَّا الَّذِينَ [ آمَنُوا ] " قَرَءُوا الْقُرْآنَ ، وَقَالَ : مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ( فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) غَيْرُ مَقْطُوعٍ ، لِأَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ كَصَالِحِ مَا كَانَ يَعْمَلُ . قَالَ الضَّحَّاكُ : أَجْرٌ بِغَيْرِ عَمَلٍ ، ثُمَّ قَالَ : إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ :
( فما يكذبك بعد ، بالدين ( 7 ) أليس الله بأحكم الحاكمين ( 8 ) )
( فما يكذبك ) [ أي : أمن يكذبك . وقيل : أي شيء يكذبك ؟ أي يحملك على الكذب ، وقيل على التكذيب ] أيها الإنسان ، ( بعد ) أي بعد هذه الحجة والبرهان ، ( بالدين ) بالحساب والجزاء ، والمعنى : ألا تتفكر في صورتك وشبابك وهرمك فتعتبر ، وتقول : إن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني ، فما الذي يكذبك بالمجازاة بعد هذه الحجج ؟ ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) بأقضى القاضين ، قال مقاتل : [ أليس الله ] يحكم بينك وبين أهل التكذيب [ بك ] يا محمد .
وروينا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قرأ والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها : " أليس الله بأحكم الحاكمين " فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت الأنصاري قال : سمعت البراء بن عازب قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بالتين والزيتون .
سُورَةُ الْعَلَقِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ( 1 ) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ( 2 ) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ( 3 ) )
( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ خَمْسُ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ : " مَا لَمْ يَعْلَمْ " .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ ، وَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ : اقْرَأْ فَقَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، قَالَ : فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، [ قَالَ : فَأَخَذَنِي ] فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فغطَّني الثَّالِثَةَ [ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ] ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ ، فَقَالَ : زمِّلُونِي زمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ : مَا لِي ؟ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ ، وَقَالَ : لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لِتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتُقِرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ [ ص: 478 ] فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى - ابْنِ عَمِّ خَدِيجَةَ - وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ ، فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّة ِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : يَا ابْنَ عَمِّ ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ مَا يَقُولُ ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ مَا رَأَى ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا ، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَوَمُخْرِجِيَّ [ هُمْ ] ؟ قَالَ : نَعَمْ لَمْ يَأْتِ [ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا ] جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرَا ، ثُمَّ لَمْ يَمْكُثْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ ، وَقَالَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ ، فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، قَالَ : " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ " حَتَّى بَلَغَ " مَا لَمْ يَعْلَمْ " وَزَادَ فِي آخِرِهِ فَقَالَ : وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا حَتَّى يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنْهُ ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا ، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ ، وَتَقَرُّ نَفْسُهُ ، فَيَرْجِعُ ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ " .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَانَ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ الْوَرَّاقُ أَخْبَرَنَا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ " .
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : مَجَازُهُ : اقْرَأِ اسْمَ رَبِّكَ ، يَعْنِي أَنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ ، وَالْمَعْنَى : اذْكُرِ اسْمَهُ ، أُمِرَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْقِرَاءَةَ بِاسْمِ اللَّهِ [ تَأْدِيبًا ] . [ ص: 479 ]
( الَّذِي خَلَقَ ) قَالَ الْكَلْبِيُّ : يَعْنِي الْخَلَائِقَ ، ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ : ( خَلَقَ الْإِنْسَانَ ) يَعْنِي [ خَلَقَ ] ابْنَ آدَمَ ، ( مِنْ عَلَقٍ ) جَمْعُ عَلَقَةٍ . ( اقْرَأْ ) كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ : ( وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) فَقَالَ الْكَلْبِيُّ : الْحَلِيمُ عَنْ جَهْلِ الْعِبَادِ لَا يَعْجَلُ عَلَيْهِمْ بِالْعُقُوبَةِ .
( الذي علم بالقلم ( 4 ) علم الإنسان ما لم يعلم ( 5 ) كلا إن الإنسان ليطغى ( 6 ) أن رآه استغنى ( 7 ) إن إلى ربك الرجعى ( 8 ) أرأيت الذي ينهى ( 9 ) عبدا إذا صلى ( 10 ) )
( الذي علم بالقلم ) يعني الخط والكتابة . ( علم الإنسان ما لم يعلم ) من أنواع الهدى والبيان . وقيل : علم آدم الأسماء كلها . وقيل : الإنسان هاهنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بيانه : " وعلمك ما لم تكن تعلم " ( النساء - 113 ) . ( كلا ) حقا ( إن الإنسان ليطغى ) ليتجاوز حده ويستكبر على ربه . ( أن ) لأن ( رآه استغنى ) أن رأى نفسه غنيا . قال الكلبي : يرتفع عن منزلة إلى منزلة في اللباس والطعام وغيرهما .
وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، كان إذا أصاب مالا زاد في ثيابه ومركبه وطعامه ، فذلك طغيانه . ( إن إلى ربك الرجعى ) أي المرجع في الآخرة ، [ " الرجعى " : مصدر على وزن فعلى ] . ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) نزلت في أبي جهل ، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبد الله بن معاذ ومحمد بن عبد الأعلى القيسي ، قالا حدثنا المعتمر عن أبيه ، حدثني نعيم بن أبي هند ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ فقيل : نعم ، فقال : [ واللات ] [ ص: 480 ] والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته ، ولأعفرن وجهه في التراب ، قال : فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ، [ عزم ] ليطأ على رقبته ، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص ، على عقبيه ، ويتقي بيديه ، قال فقيل له : ما لك يا أبا الحكم ؟ قال : إن بيني وبينه لخندقا من نار ، وهولا وأجنحة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ، قال : فأنزل الله - لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه - : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى الآيات .
ومعنى " أرأيت " هاهنا تعجيب للمخاطب . وكرر هذه اللفظة للتأكيد :
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 06:22 AM
الحلقة (437)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ القدر
مكية
الاية 1 إلى الاية 5
( أرأيت إن كان على الهدى ( 11 ) أو أمر بالتقوى ( 12 ) أرأيت إن كذب وتولى ( 13 ) ألم يعلم بأن الله يرى ( 14 ) كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية ( 15 ) ناصية كاذبة خاطئة ( 16 ) )
أرأيت إن كان إلى الهدى يعني العبد المنهي وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - . ( أو أمر بالتقوى ) يعني بالإخلاص والتوحيد . ( أرأيت إن كذب ) يعني أبا جهل ، ( وتولى ) عن الإيمان .
وتقدير نظم الآية : أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى [ والمنهي ] على الهدى ، آمر بالتقوى ، والناهي مكذب متول عن الإيمان ، فما أعجب من هذا ! ( ألم يعلم ) يعني أبا جهل ، ( بأن الله يرى ) ذلك فيجازيه به . ( كلا ) لا يعلم ذلك ، ( لئن لم ينته ) عن إيذاء [ نبيه ] - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبه ، ( لنسفعن بالناصية ) لنأخذن بناصيته فلنجرنه إلى النار ، كما قال " فيؤخذ بالنواصي والأقدام " ( الرحمن - 41 ) يقال : سفعت بالشيء ، إذا أخذته وجذبته جذبا شديدا ، و " الناصية " : شعر مقدم الرأس . ثم قال على البدل : ( ناصية كاذبة خاطئة ) أي صاحبها كاذب خاطئ ، قال ابن عباس : لما نهى أبو جهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة انتهره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال أبو جهل أتنهرني [ يا محمد لقد علمت ما بها أكثر ناديا مني ؟ ثم قال ] : فوالله لأملأن عليك هذا الوادي إن شئت خيلا جردا ورجالا مردا .
[ ص: 481 ] ( ( فليدع ناديه ( 17 ) سندع الزبانية ( 18 ) كلا لا تطعه واسجد واقترب ( 19 ) )
قال الله - عز وجل - : ( فليدع ناديه ) أي قومه وعشيرته ، أي فليستنصر بهم . ( سندع الزبانية ) جمع زبني مأخوذ من الزبن وهو الدفع ، قال ابن عباس : يريد زبانية جهنم سموا بها لأنهم يدفعون أهل النار إليها ، قال الزجاج : هم الملائكة الغلاظ الشداد ، قال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله ثم قال : ( كلا ) ليس الأمر على ما عليه أبو جهل ، ( لا تطعه ) في ترك الصلاة ، ( واسجد ) صل لله ( واقترب ) من الله .
أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني ، أخبرنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي ، حدثنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلئي ، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث ، حدثنا أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو بن السراج ومحمد بن سلمة قالوا : أخبرنا وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن عمارة بن غزية عن سمي مولى أبي بكر أنه سمع أبا صالح ذكوان يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فأكثروا الدعاء [ فيها ] " .
سُورَةُ الْقَدْرِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( 1 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ( 2 ) )
( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) يَعْنِي الْقُرْآنَ ، كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ ، أَنْزَلَهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ ، ثُمَّ كَانَ يَنْزِلُ بِهِ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نُجُومًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً . ثُمَّ عَجَّبَ نَبِيَّهُ فَقَالَ : ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِأَنَّهَا لَيْلَةُ تَقْدِيرِ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامُ ، يُقَدِّرُ اللَّهُ فِيهَا أَمْرَ السَّنَةِ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ إِلَى السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ " ( الدُّخَانِ - 4 ) وَهُوَ مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ : قَدَرَ اللَّهُ الشَّيْءَ بِالتَّخْفِيفِ ، قَدْرًا وَقَدَرًا ، كَالنَّهَرِ وَالنَّهْرِ وَالشَّعْرِ وَالشَّعَرِ ، وَقَدَّرَهُ - بِالتَّشْدِيدِ - تَقْدِيرًا [ وَقَدَرَ بِالتَّخْفِيفِ قَدْرًا ] بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
قِيلَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ : أَلَيْسَ قَدْ قَدَرَ اللَّهُ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ؟ قَالَ : [ بَلَى ] ، قِيلَ : فَمَا مَعْنَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ ؟ قَالَ : سَوْقُ الْمَقَادِيرِ إِلَى الْمَوَاقِيتِ ، وَتَنْفِيذُ الْقَضَاءِ الْمُقَدَّرِ . وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ : " لَيْلَةُ الْقَدْرِ " : أَيْ لَيْلَةُ الْعَظَمَةِ وَالشَّرَفِ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ : لِفُلَانٍ عِنْدَ الْأَمِيرِ قَدْرٌ ، أَيْ جَاهٌ وَمَنْزِلَةٌ ، وَيُقَالُ : قَدَرْتُ ، فُلَانًا أَيْ عَظَّمْتُهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ " ( الْأَنْعَامِ - 91 ) ( الزُّمَرِ - 67 ) أَيْ مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ .
وَقِيلَ : لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَكُونُ فِيهَا ذَا قَدْرٍ عِنْدَ اللَّهِ لِكَوْنِهِ مَقْبُولًا . [ ص: 486 ] وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِهَا; فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّهَا كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ رُفِعَتْ ، وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُكَانِسٍ مَوْلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ : زَعَمُوا أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَدْ رُفِعَتْ ؟ قَالَ : كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ ، قُلْتُ : هِيَ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَسْتَقْبِلُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ لَيْلَةٌ مِنْ لَيَالِي السَّنَةِ حَتَّى لَوْ عَلَّقَ رَجُلٌ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ وَعِتْقَ عَبْدِهِ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ ، لَا يَقَعُ مَا لَمْ تَمْضِ سَنَةٌ مِنْ حِينِ حَلَفَ . يُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْهَا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ : يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا إِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ .
وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ .
وَاخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ ; قَالَ أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ : هِيَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ . وَقَالَ الْحَسَنُ : لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي كَانَتْ صَبِيحَتُهَا وَقْعَةُ بَدْرٍ .
وَالصَّحِيحُ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ : أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبَدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، وَيَقُولُ : " تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ " .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنِ الْأَسْوَدِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ [ مَا ] لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا . [ ص: 487 ]
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ ، عَنْ أَبِي الضُّحَى ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ [ الْأَوَاخِرُ ] مِنْ رَمَضَانَ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا فِي أَيِّ لَيْلَةٍ مِنَ الْعَشْرِ ؟
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو سَهْلِ بْنُ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوَتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ " .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ الْوَازِنُ ، أَخْبَرَنَا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ [ هَاشِمِ ] بْنِ حَيَّانَ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ، حَدَّثَنَا عُيَيْنَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : ذَكَرْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ أَبِي بَكْرَةَ ، فَقَالَ : مَا أَنَا بِطَالِبِهَا بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ تِسْعٍ بَقَيْنَ أَوْ سَبْعٍ بَقَيْنَ أَوْ خَمْسٍ بَقَيْنَ أَوْ ثَلَاثٍ بَقَيْنَ أَوْ آخِرَ لَيْلَةٍ " ، فَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ يُصَلِّي كَمَا يُصَلِّي فِي سَائِرِ السَّنَةِ ، فَإِذَا دَخَلَ الْعُشْرُ [ الْأَخِيرُ ] اجْتَهَدَ .
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ : " خَرَجْتُ ، [ ص: 488 ] لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ " .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [ أُرُوا ] لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنِّي أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَ ا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ " . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّهَا لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْوُسْطَى مِنْ رَمَضَانَ ، وَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ صُبْحَهَا مِنَ اعْتِكَافِهِ ، قَالَ : مَنْ [ كَانَ سَيَعْتَكِفُ ] مَعِي فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ ، وَقَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وَتْرٍ .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ : فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْصَرَفَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرَ ، الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صَبِيحَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ . [ ص: 489 ]
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْحِمْصِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنِّي أَكُونُ بِبَادِيَةٍ يُقَالُ لَهَا الْوَطْأَةُ وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ أُصَلِّي بِهِمْ ، فَمُرْنِي بِلَيْلَةٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ أَنْزِلُهَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَأُصَلِّيهَا فِيهِ ، فَقَالَ : " انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فَصَلِّهَا فِيهِ ، وَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَسْتَتِمَّ آخِرَ الشَّهْرِ فَافْعَلْ ، وَإِنْ أَحْبَبْتَ فَكُفَّ " . قَالَ : فَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ ، فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ كَانَتْ دَابَّتُهُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ .
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ ، حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : كَمْ مَضَى مِنَ الشَّهْرِ ؟ فَقُلْنَا : ثِنْتَانِ [ وَعِشْرُونَ ] وَبَقِيَ سَبْعٌ ، [ فَقَالَ : " مَضَى اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ وَبَقِيَ سَبْعٌ ] اُطْلُبُوهَا اللَّيْلَةَ ، الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ " .
وَقَالَ قَوْمٌ : هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَأُبَيٍّ وَعَائِشَةَ :
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ ، حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ : قُلْتُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَخْبِرْنَا عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، فَإِنَّ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ يَقُولُ : مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْهَا ، فَقَالَ : [ ص: 490 ] رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ ، وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُخْبِرَكُمْ فَتَتَّكِلُوا هِيَ - وَالَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ ، سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، فَقُلْنَا : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَنَّى عَلِمْتَ هَذَا ؟ قَالَ : بِالْآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَفِظْنَا [ وَوَعَيْنَا ] ، هِيَ وَاللَّهِ [ لَا تُنْسَى ] ، قَالَ قُلْنَا لِزِرٍّ : وَمَا الْآيَةُ ؟ قَالَ : تَطْلُعُ الشَّمْسُ كَأَنَّهَا طَاسٌ لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ .
وَمِنْ عَلَامَاتِهَا : مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ رَفَعَهُ : أَنَّهَا لَيْلَةٌ [ بَلْجَةٌ ] سَمْحَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ ، تَطَلُعُ الشَّمْسُ صَبِيحَتَهَا لَا شُعَاعَ لَهَا .
وَفِي الْجُمْلَةِ : أَبْهَمَ اللَّهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ لِيَجْتَهِدُوا فِي الْعِبَادَةِ لَيَالِيَ رَمَضَانَ طَمَعًا فِي إِدْرَاكِهَا ، كَمَا أَخْفَى سَاعَةَ الْإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةَ ، وَأَخْفَى الصَّلَاةَ الْوُسْطَى فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَاسْمَهُ الْأَعْظَمَ فِي الْأَسْمَاءِ ، وَرِضَاهُ فِي الطَّاعَاتِ لِيَرْغَبُوا فِي جَمِيعِهَا ، وَسُخْطَهُ فِي الْمَعَاصِي لِيَنْتَهُوا عَنْ جَمِيعِهَا ، وَأَخْفَى قِيَامَ السَّاعَةِ لِيَجْتَهِدُوا فِي الطَّاعَاتِ حَذَرًا مِنْ قِيَامِهَا .
( ليلة القدر خير من ألف شهر ( 3 ) )
قوله - عز وجل - : ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) قال عطاء عن ابن عباس : ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر ، فعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك وتمنى ذلك لأمته ، فقال : يا رب جعلت أمتي أقصر الأمم أعمارا وأقلها أعمالا ؟ فأعطاه الله ليلة القدر ، فقال : ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) التي حمل فيها الإسرائيلي السلاح في سبيل الله ، لك ولأمتك إلى يوم القيامة . [ ص: 491 ]
قال المفسرون : " ليلة القدر خير من ألف شهر " معناه : عمل صالح في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر .
حدثنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، إملاء ، حدثنا أبو نعيم الإسفراييني ، أخبرنا أبو عوانة ، حدثنا أبو إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا الزهري ، أخبرني أبو سلمة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " .
قال سعيد بن المسيب : من شهد المغرب والعشاء في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو بكر بن عبدوس المزكي ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا الحسن بن مكرم ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا كهمس عن عبد الله بن بريدة أن عائشة قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن وافيت ليلة القدر فما أقول ؟ قال : " قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني " .
( ( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ( 4 ) سلام هي حتى مطلع الفجر ( 5 ) )
قوله - عز وجل - : ( تنزل الملائكة والروح ) يعني جبريل - عليه السلام - معهم ، ( فيها ) أي في ليلة القدر ، ( بإذن ربهم من كل أمر ) أي بكل أمر من الخير والبركة ، كقوله : " يحفظونه من أمر الله " ( الرعد - 11 ) أي بأمر الله . ( سلام ) قال عطاء : يريد : سلام على أولياء الله وأهل طاعته . وقال الشعبي : هو تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد من حيث تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر .
وقال الكلبي : الملائكة ينزلون فيه كلما لقوا مؤمنا أو مؤمنة سلموا عليه من ربه حتى يطلع الفجر . [ ص: 492 ]
وقيل : تم الكلام عند قوله : " بإذن ربهم من كل أمر " ثم ابتدأ فقال : " سلام هي " ، أي : ليلة القدر سلام وخير كلها ، ليس فيها شر .
قال الضحاك : لا يقدر الله في تلك الليلة ولا يقضي إلا السلامة .
وقال مجاهد : يعني أن ليلة القدر [ سالمة ] لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أن يحدث فيها أذى .
( حتى مطلع الفجر ) أي : إلى مطلع الفجر ، قرأ الكسائي " مطلع " بكسر اللام ، والآخرون بفتحها ، وهو الاختيار ، بمعنى الطلوع ، على المصدر ، يقال : طلع الفجر طلوعا ومطلعا ، والكسر موضع الطلوع .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 06:27 AM
الحلقة (438)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ البينة
مكية
الاية 1 إلى الاية 8
سُورَةُ الْبَيِّنَةِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ( 1 ) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ( 2 ) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ( 3 ) )
( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) وَهْمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، ( وَالْمُشْرِكِين َ ) وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ ، ( مُنْفَكِّينَ ) [ مُنْتَهِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ ] : زَائِلِينَ مُنْفَصِلِينَ ، يُقَالُ : فَكَكْتُ الشَّيْءَ فَانْفَكَّ ، أَيِ : انْفَصَلَ ، ( حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ) لَفْظُهُ مُسْتَقْبَلٌ وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي ، أَيْ : حَتَّى أَتَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ، الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ ، يَعْنِي : مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَتَاهُمْ بِالْقُرْآنِ فَبَيَّنَ لَهُمْ [ ضَلَالَاتِهِمْ ] وَجَهَالَتَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ . فَهَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ آمَنَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ، أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنِ الْكُفْرِ حَتَّى أَتَاهُمُ الرَّسُولُ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَآمَنُوا فَأَنْقَذَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ . ثُمَّ فَسَّرَ الْبَيِّنَةَ فَقَالَ : ( رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو ) يَقْرَأُ ( صُحُفًا ) كُتُبًا ، يُرِيدُ مَا يَتَضَمَّنُهُ الصُّحُفُ مِنَ الْمَكْتُوبِ فِيهَا ، وَهُوَ الْقُرْآنُ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَتْلُو عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ لَا عَنِ [ الْكِتَابِ ] ، قَوْلُهُ : ( مُطَهَّرَةً ) مِنَ الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ وَالزُّورِ . ( فِيهَا ) أَيْ فِي الصُّحُفِ ، ( كُتُبٌ ) يَعْنِي الْآيَاتِ وَالْأَحْكَامِ الْمَكْتُوبَةِ فِيهَا ، ( قَيِّمَةٌ ) عَادِلَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ غَيْرُ ذَاتِ عِوَجٍ .
( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ( 4 ) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ( 5 ) )
ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب فقال : [ ص: 496 ] ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب ) في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ( إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) أي البيان في كتبهم أنه نبي مرسل .
قال المفسرون : لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى بعثه الله ، فلما بعث تفرقوا في أمره واختلفوا ، فآمن به بعضهم ، وكفر آخرون .
وقال بعض أئمة اللغة : معنى قوله " منفكين " : هالكين ، من قولهم : انفك [ صلا ] المرأة عند الولادة ، وهو أن ينفصل فلا يلتئم فتهلك .
ومعنى الآية : لم يكونوا هالكين معذبين إلا من بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسول وإنزال الكتاب ، والأول أصح . ثم ذكر ما أمروا به في كتبهم فقال : ( وما أمروا ) يعني هؤلاء الكفار ، ( إلا ليعبدوا الله ) يعني إلا أن يعبدوا الله ، ( مخلصين له الدين ) قال ابن عباس : ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا [ بالإخلاص في ] العبادة لله موحدين ، ( حنفاء ) مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ، ( ويقيموا الصلاة ) المكتوبة في أوقاتها ، ( ويؤتوا الزكاة ) عند محلها ، ( وذلك ) الذي أمروا به ، ( دين القيمة ) أي الملة والشريعة المستقيمة . أضاف الدين إلى القيمة وهي نعته ، لاختلاف اللفظين ، وأنث " القيمة " ردا بها إلى الملة .
وقيل : الهاء فيه للمبالغة ، وقيل : " القيمة " هي الكتب التي جرى ذكرها ، أي وذلك دين الكتب القيمة فيما تدعو إليه وتأمر به ، كما قال : وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ( البقرة 213 ) .
قال النضر بن شميل : سألت الخليل بن أحمد عن قوله : " وذلك دين القيمة " ؟ فقال : " القيمة " : [ ص: 497 ] جمع القيم ، والقيم والقائم واحد ، ومجاز الآية : وذلك دين القائمين لله بالتوحيد .
( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ( 6 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ( 7 ) جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ( 8 ) )
ثم ذكر ما للفريقين فقال : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ) قرأ نافع وابن عامر " البريئة " بالهمزة في الحرفين لأنه من قولهم : برأ الله الخلق وقرأ الآخرون مشددا بغير همز كالذرية ترك همزها في الاستعمال .
( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ) وتناهى عن المعاصي .
وقيل : الرضا ينقسم إلى قسمين : رضا به ورضا عنه ، فالرضا به : ربا ومدبرا ، والرضا عنه : فيما يقضي ويقدر .
قال السدي رحمه الله : إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تسأله الرضا عنك ؟
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة قال : سمعت قتادة عن أنس بن مالك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي : " إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك : " لم يكن الذين كفروا " قال : وسماني ؟ قال : " نعم " فبكى .
وقال همام عن قتادة : " أمرني أن أقرأ عليك القرآن " .
] سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ( 1 ) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ( 2 ) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ( 3 ) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ( 4 ) )
( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ ) حُرِّكَتِ [ الْأَرْضُ ] حَرَكَةً شَدِيدَةً لِقِيَامِ السَّاعَةِ ، ( زِلْزَالَهَا ) تَحْرِيكَهَا . ( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ) مَوْتَاهَا وَكُنُوزَهَا فَتُلْقِيهَا عَلَى ظَهْرِهَا .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " تَقِيءُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ [ الْأُسْطُوَانِ ] مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ : فِي هَذَا قَتَلْتُ ، وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ : فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي ، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ : فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي ، ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا " . ( وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ) ؟ قِيلَ : فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ : ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ) فَيَقُولُ الْإِنْسَانُ : " مَا لَهَا " ، أَيْ تُخْبَرُ الْأَرْضُ بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا . [ ص: 502 ]
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيْوبَ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ) قَالَ : " أَتُدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا " ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : " فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا ، أَنْ تَقُولَ : عَمِلَ عَلَيَّ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا قَالَ : فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا " .
( بأن ربك أوحى لها ( 5 ) يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم ( 6 ) فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ( 7 ) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ( 8 ) )
( بأن ربك أوحى لها ) أي : أمرها بالكلام وأذن لها بأن تخبر بما عمل عليها . قال ابن عباس والقرظي : أوحى إليها .
ومجاز الآية : يوحي الله إليها ، يقال : أوحى لها ، وأوحى إليها ووحى لها ، ووحى إليها ، واحد . قوله تعالى : ( يومئذ يصدر الناس ) يرجع الناس عن موقف الحساب بعد العرض ، ( أشتاتا ) متفرقين فآخذ ذات اليمين إلى الجنة وآخذ ذات الشمال إلى النار ، كقوله : يومئذ يتفرقون ( الروم - 14 ) ، يومئذ يصدعون ( الروم - 43 ) . ( ليروا أعمالهم ) قال ابن عباس : ليروا جزاء أعمالهم ، والمعنى : أنهم يرجعون عن الموقف فرقا لينزلوا منازلهم من الجنة والنار . ( فمن يعمل مثقال ذرة ) وزن نملة صغيرة أصغر ما يكون من النمل . ( خيرا يره ) ( ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) قال ابن عباس : ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرا أو شرا في الدنيا إلا أراه الله إياه يوم القيامة ، فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته فيغفر الله سيئاته [ ص: 503 ] ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر فترد حسناته ويعذبه بسيئاته .
قال محمد بن كعب في هذه الآية " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " : من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير ، " ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر .
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في رجلين ، وذلك أنه لما نزل ويطعمون الطعام على حبه كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ونحوها ، يقول : ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه ، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة وأشباه ذلك ، ويقول : إنما وعد الله النار على الكبائر ، وليس في هذا إثم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية يرغبهم في القليل من الخير أن يعطوه ، فإنه يوشك أن يكثر ، ويحذرهم اليسير من الذنب ، فإنه يوشك أن يكثر ، فالإثم الصغير في عين صاحبه أعظم من الجبال يوم القيامة ، وجميع محاسنه [ في عينه ] أقل من كل شيء .
قال ابن مسعود : أحكم آية في القرآن " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسميها الجامعة الفاذة حين سئل عن زكاة الحمر فقال : " ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " .
وتصدق عمر بن الخطاب ، وعائشة بحبة عنب ، وقالا فيها مثاقيل كثيرة .
وقال الربيع بن خثيم : مر رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السورة فلما بلغ آخرها قال : حسبي قد انتهت الموعظة . [ ص: 504 ]
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا محمد بن القاسم ، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله ، حدثنا الحسن بن سفيان ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا اليمان بن المغيرة ، حدثنا عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا زلزلت الأرض " تعدل نصف القرآن ، " قل هو الله أحد " ، تعدل ثلث القرآن ، " قل يا أيها الكافرون " تعدل ربع القرآن " .
سُورَةُ الْعَادِيَاتِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ( 1 ) )
( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالْحَسَنُ ، وَالْكَلْبِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَالْمُقَاتِلَا نِ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمْ : هِيَ الْخَيْلُ الْعَادِيَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - تَضْبَحُ ، وَالضَّبْحُ : صَوْتُ أَجْوَافِهَا إِذَا عَدَتْ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ تَضْبَحُ غَيْرُ الْفَرَسِ وَالْكَلْبِ وَالثَّعْلَبِ ، وَإِنَّمَا تَضْبَحُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ إِذَا تَغَيَّرَ حَالُهَا مِنْ تَعَبٍ أَوْ فَزَعٍ ، وَهُوَ مِنْ [ قَوْلِهِمْ ] ضَبَحَتْهُ النَّارُ ، إِذَا غَيَّرَتْ لَوْنَهُ .
[ وَقَوْلُهُ : " ضَبْحًا " نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ ، مَجَازُهُ : وَالْعَادِيَّات ُ تَضْبَحُ ضَبْحًا ] .
وَقَالَ عَلِيٌّ : هِيَ الْإِبِلُ فِي الْحَجِّ ، تَعْدُو مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ ، وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى ، وَقَالَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ ، [ كَانَتْ أَوَّلُ غَزْوَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بَدْرًا ] وَمَا كَانَ مَعَنَا إِلَّا فَرَسَانِ ، فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ فَكَيْفَ تَكُونُ الْخَيْلُ الْعَادِيَاتُ ؟ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ ، وَالسُّدَّيُّ .
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ : هِيَ الْإِبِلُ : قَوْلُهُ " ضَبْحًا " يَعْنِي ضِبَاحًا تَمُدُّ أَعْنَاقَهَا فِي السَّيْرِ .
[ ص: 508 ] ( فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ( 2 ) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ( 3 ) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ( 4 ) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ( 5 ) )
( فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ) قَالَ عِكْرِمَةُ ، وَعَطَاءٌ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَمُقَاتِلٌ ، وَالْكَلْبِيُّ ، : هِيَ الْخَيْلُ تُورِي النَّارَ بِحَوَافِرِهَا إِذَا سَارَتْ فِي الْحِجَارَةِ . يَعْنِي : وَالْقَادِحَاتِ قَدْحًا يَقْدَحْنَ بِحَوَافِرِهِنّ َ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : هِيَ الْخَيْلُ تُهَيِّجُ الْحَرْبَ وَنَارَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ فُرْسَانِهَا .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : هِيَ الْخَيْلُ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ تَأْوِي بِاللَّيْلِ [ إِلَى مَأْوَاهَا ] فَيُوَرُّونَ نَارَهُمْ ، وَيَصْنَعُونَ طَعَامَهُمْ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : هِيَ مَكْرُ الرِّجَالِ ، يَعْنِي رِجَالَ الْحَرْبِ ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَمْكُرَ بِصَاحِبِهِ : أَمَا وَاللَّهِ لِأَقْدَحَنَّ لَكَ ثُمَّ لْأُوَرِّيَنَّ لَكَ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ : هِيَ النِّيرَانُ تَجْتَمِعُ . ( فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) هِيَ الْخَيْلُ تُغِيرُ بِفُرْسَانِهَا ، عَلَى الْعَدُوِّ عِنْدَ الصَّبَاحِ ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ . وَقَالَ الْقُرَظِيُّ : هِيَ الْإِبِلُ تَدْفَعُ بِرُكْبَانِهَا يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ جَمْعٍ إِلَى مِنًى ، وَالسُّنَّةُ أَنْ لَا تَدْفَعُ [ بَرُكْبَانِهَا يَوْمَ النَّحْرِ ] حَتَّى تُصْبِحَ وَالْإِغَارَةُ سُرْعَةُ السَّيْرِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : أَشْرَقَ ثَبِيرٌ كَيْمَا نُغِيرُ . ( فَأَثَرْنَ بِهِ ) أَيْ هَيَّجْنَ بِمَكَانِ [ سَيْرِهِنَّ ] كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ ، ( نَقْعًا ) غُبَارًا ، وَالنَّقْعُ : الْغُبَارُ . ( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ) أَيْ دَخَلْنَ بِهِ وَسَطَ جَمْعِ الْعَدُوِّ ، وَهُمُ الْكَتِيبَةُ يُقَالُ : وَسَطْتُ ، الْقَوْمَ بِالتَّخْفِيفِ ، وَوَسَّطْتُهُمْ ، بِالتَّشْدِيدِ ، وَتَوَسَّطُّهُم ْ بِالتَّشْدِيدِ ، كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ . قَالَ الْقُرَظِيُّ : [ هِيَ الْإِبِلُ تَوَسَّطُ بِالْقَوْمِ ] يَعْنِي جَمْعَ مِنًى ، [ هَذَا مَوْضِعُ الْقَسَمِ ] ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 06:31 AM
الحلقة (439)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ القارعة
مكية
الاية 1 إلى الاية 7
[ ص: 509 ] ( إن الإنسان لربه لكنود ( 6 ) وإنه على ذلك لشهيد ( 7 ) وإنه لحب الخير لشديد ( 8 ) أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور ( 9 ) وحصل ما في الصدور ( 10 ) )
( إن الإنسان لربه لكنود ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : " لكنود " : لكفور جحود لنعم الله تعالى . قال الكلبي : هو بلسان مضر وربيعة الكفور ، وبلسان كندة وحضرموت العاصي .
وقال الحسن : هو الذي يعد المصائب وينسى النعم . وقال عطاء : هو الذي لا يعطي في النائبة مع قومه .
وقال أبو عبيدة : هو قليل الخير ، والأرض الكنود : التي لا تنبت شيئا .
وقال الفضيل بن عياض : " الكنود " الذي أنسته الخصلة ، الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان ، و " الشكور " : الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة . ( وإنه على ذلك لشهيد ) قال [ أكثر المفسرين ] : وإن الله على كونه كنودا لشاهد . وقال ابن كيسان : الهاء راجعة إلى الإنسان أي : إنه شاهد على نفسه بما يصنع . ( وإنه ) يعني الإنسان ، ( لحب الخير ) أي لحب المال ، ( لشديد ) أي : لبخيل ، أي إنه من أجل حب المال لبخيل . يقال للبخيل : شديد ومتشدد .
وقيل : معناه وإنه لحب الخير لقوي ، أي شديد الحب للخير أي المال . ( أفلا يعلم ) أي : أفلا يعلم هذا الإنسان ، ( إذا بعثر ) أي : أثير وأخرج ، ( ما في القبور ) [ من الموتى ] . ( وحصل ما في الصدور ) أي : ميز وأبرز ما فيها من خير أو شر .
[ ص: 510 ] ( إن ربهم بهم يومئذ لخبير ( 11 ) )
( إن ربهم بهم ) ، [ جمع ] الكناية لأن الإنسان اسم لجنس ، ( يومئذ لخبير ) عالم ، قال الزجاج : إن الله خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره ، ولكن المعنى أنه يجازيهم على كفرهم في ذلك [ اليوم ] .
سُورَةُ الْقَارِعَةِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( الْقَارِعَةُ ( 1 ) مَا الْقَارِعَةُ ( 2 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ( 3 ) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ( 4 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ( 5 ) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ( 6 ) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ( 7 ) )
( الْقَارِعَةُ ) [ اسْمٌ ] مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ ، لِأَنَّهَا تَقْرَعُ الْقُلُوبَ بِالْفَزَعِ . ( مَا الْقَارِعَةُ ) تَهْوِيلٌ وَتَعْظِيمٌ . ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ) هَذَا الْفَرَاشُ : الطَّيْرُ [ الصِّغَارُ الْبَقُّ ، وَاحِدُهَا فَرَاشَةٌ ، أَيْ : كَالطَّيْرِ ] الَّتِي تَرَاهَا تَتَهَافَتُ فِي النَّارِ ، وَالْمَبْثُوثُ : الْمُتَفَرِّقُ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ : كَغَوْغَاءِ الْجَرَادِ ، شَبَّهَ النَّاسَ عِنْدَ الْبَعْثِ بِهَا [ لِأَنَّ الْخَلْقَ ] يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَيَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْهَوْلِ كَمَا قَالَ : " كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ " ( الْقَمَرِ - 7 ) . ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) كَالصُّوفِ الْمَنْدُوفِ . ( فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ [ عَلَى سَيِّئَاتِهِ ] . ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ) مَرْضِيَّةٍ فِي الْجَنَّةِ . قَالَ الزَّجَّاجُ ذَاتِ رِضًا يَرْضَاهَا صَاحِبُهَا .
[ ص: 514 ] ( وأما من خفت موازينه ( 8 ) فأمه هاوية ( 9 ) وما أدراك ما هيه ( 10 ) نار حامية ( 11 ) )
( وأما من خفت موازينه ) رجحت سيئاته على حسناته . ( فأمه هاوية ) مسكنه النار ، سمي المسكن أما لأن الأصل في السكون إلى الأمهات ، والهاوية اسم من أسماء جهنم ، وهو المهواة لا يدرك قعرها ، وقال قتادة : وهي كلمة عربية تقولها العرب للرجل إذا وقع في أمر شديد ، يقال : هوت أمه . وقيل : [ " فأمه هاوية "
أراد أم رأسه [ " منحدرة منكوسة " يعني أنهم يهوون في النار على رءوسهم ، وإلى هذا التأويل ذهب قتادة وأبو صالح . ( وما أدراك ما هيه ) يعني الهاوية ، وأصلها : ما هي ، أدخل الهاء فيها للوقف والاستراحة ثم فسرها فقال : ( نار حامية ) أي حارة قد انتهى حرها .
سُورَةُ التَّكَاثُرِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ( 1 ) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ( 2 ) )
( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ) شَغَلَتْكُمُ الْمُبَاهَاةُ وَالْمُفَاخَرَة ُ وَالْمُكَاثَرَة ُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْعَدَدِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّكُمْ وَمَا يُنْجِيكُمْ مِنْ سُخْطِهِ . ( حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ) حَتَّى [ مُتُّمْ ] وَدُفِنْتُمْ فِي الْمَقَابِرِ .
قَالَ قَتَادَةُ : نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ ، قَالُوا : نَحْنُ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ ، وَبَنُو فُلَانٍ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ ، شَغَلَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتُوا ضُلَّالًا .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ : نَزَلَتْ فِي حَيَّيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ ; بَنِي عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ ، وَبَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو ، كَانَ بَيْنَهُمْ تَفَاخُرٌ ، [ فَتَعَادَّ ] السَّادَةُ وَالْأَشْرَافُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا ؟ فَقَالَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ : نَحْنُ أَكْثَرُ سَيِّدًا وَأَعَزُّ عَزِيزًا وَأَعْظَمُ نَفَرًا وَأَكْثَرُ عَدَدًا ، وَقَالَ بَنُو سَهْمٍ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَكَثَرَهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ ، ثُمَّ قَالُوا : نَعُدُّ مَوْتَانَا ، حَتَّى زَارُوا الْقُبُورَ فَعَدُّوهُمْ ، فَقَالُوا : هَذَا قَبْرُ فُلَانٍ وَهَذَا قَبْرُ فُلَانٍ فَكَثَرَهُمْ بَنُو سَهْمٍ بِثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَكْثَرَ عَدَدًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . [ ص: 518 ]
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِيُّ ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الشَّخِيرِ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ : " أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ " ، قَالَ : " يَقُولُ ابْنُ آدَمَ : مَالِي مَالِي ، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ ، إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ " .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " يَتْبَعُ ، الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ " .
ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ :
( كلا سوف تعلمون ( 3 ) ثم كلا سوف تعلمون ( 4 ) كلا لو تعلمون علم اليقين ( 5 ) لترون الجحيم ( 6 ) )
( كلا ) ليس الأمر بالتكاثر ، ( سوف تعلمون ) وعيد لهم ، ثم كرره تأكيدا فقال : ( ثم كلا سوف تعلمون ) قال الحسن ، ومقاتل : هو وعيد بعد وعيد ، والمعنى : سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم إذا نزل بكم الموت .
وقال الضحاك : " كلا سوف تعلمون " ، يعني الكفار ، " ثم كلا سوف تعلمون " يعني المؤمنين ، وكان يقرأ الأولى بالياء والثانية بالتاء . ( كلا لو تعلمون علم اليقين ) أي : علما يقينا ، فأضاف العلم إلى اليقين كقوله : " لهو حق اليقين " ، وجواب " لو " محذوف ، أي : لو تعلمون علما يقينا لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتفاخر .
قال قتادة : كنا نتحدث أن علم اليقين أن يعلم أن الله باعثه بعد الموت . ( لترون الجحيم ) قرأ ابن عامر والكسائي : " لترون " بضم التاء من أريته الشيء ، وقرأ الآخرون بفتح التاء ، أي : ترونها بأبصاركم من بعيد .
[ ص: 519 ] ( ثم لترونها عين اليقين ( 7 ) ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ( 8 ) )
( ثم لترونها ) مشاهدة ، ( عين اليقين ) ( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) قال مقاتل : يعني كفار مكة ، كانوا في الدنيا في الخير والنعمة ، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه ، ولم يشكروا رب النعيم حيث عبدوا غيره ، ثم يعذبون على ترك الشكر ، هذا قول الحسن .
وعن ابن مسعود رفعه قال : " لتسألن يومئذ عن النعيم " قال : " الأمن والصحة " .
وقال قتادة : إن الله يسأل كل ذي نعمة عما أنعم عليه
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، حدثنا إبراهيم بن خزيم الشاشي ، حدثنا عبد ، بن حميد ، حدثنا شبابة عن عبد الله بن العلاء عن الضحاك بن عزرم الأشعري قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أول ما يسأل العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له : ألم نصح جسمك ؟ ونروك من الماء البارد " .
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شيبان أبو معاوية ، حدثنا عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد ، فأتاه أبو بكر فقال : ما جاء بك يا أبا بكر ؟ فقال : خرجت لألقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنظر إلى وجهه وللتسليم عليه ، فلم يلبث أن جاء عمر ، فقال : ما جاء بك يا عمر ؟ قال : الجوع [ ص: 520 ] يا رسول الله ، قال [ النبي - صلى الله عليه وسلم - ] : " وأنا قد وجدت ، بعض ذلك " ، فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري ، وكان رجلا كثير النخل والشاء ، ولم يكن له خدم ، فلم يجدوه ، فقالوا لامرأته : أين صاحبك ؟ فقالت : انطلق ليستعذب لنا الماء ، فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها ماء فوضعها ، ثم جاء يلتزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويفديه بأبيه وأمه ، ثم انطلق بهم إلى حديقته فبسط لهم بساطا ، ثم انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فوضعه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أفلا تنقيت لنا من رطبه وبسره " ، فقال : يا رسول الله إني أردت أن تخيروا [ أو قال : أن تختاروا ] من رطبه وبسره ، فأكلوا وشربوا من ذلك الماء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة ، ظل بارد ، ورطب طيب ، وماء بارد " ، فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاما فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تذبحن ذات در " ، فذبح لهم عناقا أو جديا فأتاهم بها ، فأكلوا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هل لك خادم ؟ قال : لا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فإذا أتانا سبي فأتنا " ، فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برأسين ليس معهما ثالث ، فأتاه أبو الهيثم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اختر منهما " ، فقال : يا نبي الله اختر لي ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، " إن المستشار مؤتمن ، خذ هذا ، فإني رأيته يصلي ، واستوص به معروفا " فانطلق به أبو الهيثم إلى امرأته فأخبرها بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت امرأته : ما أنت ببالغ فيه ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن تعتقه ، قال : فهو عتيق ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، " إن الله تبارك وتعالى لم يبعث نبيا ولا خليفة إلا وله بطانتان ، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر ، وبطانة لا تألوه خبالا ومن يوق بطانة السوء فقد وقي " .
وروي عن ابن عباس قال : النعيم : صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأل الله العبيد فيم استعملوها ؟ وهو أعلم بذلك منهم ، وذلك قوله : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ( الإسراء - 36 ) .
وقال عكرمة : عن الصحة والفراغ .
وقال سعيد بن جبير : عن الصحة والفراغ والمال . [ ص: 521 ]
أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، حدثنا الحسين بن الحسن بمكة ، حدثنا عبد الله بن المبارك والفضل بن موسى ، قالا حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ " .
قال محمد بن كعب : يعني عما أنعم عليكم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقال أبو العالية : عن الإسلام والسنن . وقال الحسين بن الفضل : تخفيف الشرائع وتيسير القرآن .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 06:34 AM
الحلقة (440)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ العصر
مكية
الاية 1 إلى الاية 3
سُورَةُ الْعَصْرِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَالْعَصْرِ ( 1 ) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ( 2 ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( 3 ) )
( وَالْعَصْرِ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَالدَّهْرِ . قِيلَ : أَقْسَمَ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ عِبْرَةً لِلنَّاظِرِ . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ وَرَبِّ الْعَصْرِ ، وَكَذَلِكَ فِي أَمْثَالِهِ . وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ : أَرَادَ بِالْعَصْرِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، يُقَالُ لَهُمَا الْعَصْرَانِ . وَقَالَ الْحَسَنُ : مِنْ بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا . وَقَالَ قَتَادَةُ : آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : أَقْسَمَ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ وَهِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى . ( إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) أَيْ خُسْرَانٍ وَنُقْصَانٍ ، قِيلَ : أَرَادَ بِهِ [ الْكَافِرَ ] بِدَلِيلِ أَنَّهُ اسْتَثْنَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَ " الْخُسْرَانُ " : ذَهَابُ رَأْسِ مَالِ الْإِنْسَانِ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ وَعُمُرِهِ [ بِالْمَعَاصِي ] ، وَهُمَا أَكْبَرُ رَأْسِ مَالِهِ . ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا فِي خُسْرٍ ، ( وَتَوَاصَوْا ) أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، ( بِالْحَقِّ ) بِالْقُرْآنِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ : بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ . ( وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَإِقَامَةِ أَمْرِ اللَّهِ . وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : أَرَادَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عُمِّرَ فِي [ ص: 526 ] الدُّنْيَا وَهَرِمَ ، لَفِي نَقْصٍ وَتَرَاجُعٍ إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِنَّهُمْ يُكْتَبُ لَهُمْ أُجُورُهُمْ وَمَحَاسِنُ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا فِي شَبَابِهِمْ وَصِحَّتِهِمْ ، وَهِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سُورَةُ الْهُمَزَةِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ( 1 )
( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَيْبَ ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَيَّابُ .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ : " الْهُمَزَةُ " : الَّذِي يَعِيبُكَ فِي الْغَيْبِ ، وَ " اللُّمَزَةُ " : الَّذِي يَعِيبُكَ فِي الْوَجْهِ . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ بِضِدِّهِ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَقَتَادَةُ : " الْهَمْزَةُ " الَّذِي يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ وَيَغْتَابُهُمْ ، وَ " اللُّمَزَةُ " : الطَّعَّانُ عَلَيْهِمْ .
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : " الْهُمَزَةُ " الَّذِي يَهْمِزُ النَّاسَ بِيَدِهِ وَيَضْرِبُهُمْ ، وَ " اللُّمَزَةُ " : الَّذِي يَلْمِزُهُمْ بِلِسَانِهِ وَيَعِيبُهُمْ .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : وَيَهْمِزُ بِلِسَانِهِ وَيَلْمِزُ بِعَيْنِهِ . وَمِثْلُهُ قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ : " الْهُمَزَةُ " الَّذِي يُؤْذِي جَلِيسَهُ بِسُوءِ اللَّفْظِ وَ " اللُّمَزَةُ " الَّذِي يُومِضُ بِعَيْنِهِ وَيُشِيرُ بِرَأْسِهِ ، وَيَرْمُزُ بِحَاجِبِهِ وَهُمَا نَعْتَانِ لِلْفَاعِلِ ، نَحْوُ سُخَرَةٍ وَضُحَكَةٍ : لِلَّذِي يَسْخَرُ وَيَضْحَكُ مِنَ النَّاسِ [ وَالْهُمْزَةُ وَاللُّمْزَةُ ، سَاكِنَةُ الْمِيمِ ، الَّذِي يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ ] . [ ص: 530 ]
وَأَصْلُ الْهَمْزِ : الْكَسْرُ وَالْعَضُّ عَلَى الشَّيْءِ بِالْعُنْفِ .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ؟ قَالَ الْكَلْبِيُّ : نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقِ بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ كَانَ يَقَعُ فِي النَّاسِ وَيَغْتَابُهُمْ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : مَا زِلْنَا نَسْمَعُ أَنَّ سُورَةَ الْهُمَزَةِ [ نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ ] .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ : نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، كَانَ يَغْتَابُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَرَائِهِ وَيَطْعَنُ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ .
( الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ( 2 ) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ( 3 ) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ( 4 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ( 5 ) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ( 6 ) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ( 7 ) )
ثُمَّ وَصَفَهُ فَقَالَ : ( الَّذِي جَمَعَ مَالًا ) قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ ، وَابْنُ عَامِرٍ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ : " جَمَّعَ " بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى التَّكْثِيرِ ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ . ( وَعَدَّدَهُ ) أَحْصَاهُ ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ : اسْتَعَدَّهُ وَادَّخَرَهُ وَجَعَلَهُ عَتَادًا لَهُ ، يُقَالُ : أَعْدَدْتُ [ الشَّيْءَ ] وَعَدَّدْتُهُ إِذَا أَمْسَكْتُهُ . ( يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ) فِي الدُّنْيَا ، يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ مَعَ يَسَارِهِ . ( كَلَّا ) رَدًّا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُخَلِّدَهُ مَالُهُ ، ( لَيُنْبَذَنَّ ) لَيُطْرَحَنَّ ، ( فِي الْحُطَمَةِ ) فِي جَهَنَّمَ ، وَالْحَطْمَةُ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ ، مِثْلُ : سَقَرَ ، وَلَظَى سُمِّيَتْ " حُطَمَةَ " لِأَنَّهَا تَحْطِمُ الْعِظَامَ وَتَكْسِرُهَا . ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) أَيِ الَّتِي يَبْلُغُ أَلَمُهَا وَوَجَعُهَا إِلَى الْقُلُوبِ ، وَالِاطِّلَاعُ وَالْبُلُوغُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، يُحْكَى عَنِ الْعَرَبِ : مَتَى طَلَعْتَ أَرْضَنَا ؟ أَيْ بَلَغْتَ .
وَمَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّهَا تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى فُؤَادِهِ قَالَهُ الْقُرَظِيُّ وَالْكَلْبِيُّ .
[ ص: 531 ] ( إنها عليهم مؤصدة ( 8 ) في عمد ممددة ( 9 ) )
( إنها عليهم مؤصدة ) مطبقة مغلقة . ( في عمد ممددة ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : ( في عمد ) بضم العين والميم ، وقرأ الآخرون بفتحهما ، كقوله تعالى : رفع السماوات بغير عمد ترونها ( الرعد - 2 ) وهما جميعا جمع عمود ، مثل : أديم وأدم [ وأدم ] ، قاله الفراء .
وقال أبو عبيدة : جمع عماد ، مثل : إهاب وأهب وأهب .
قال ابن عباس : أدخلهم في عمد فمدت عليهم بعماد .
[ وقيل : " في عمد ممددة ] : في أعناقهم الأغلال السلاسل .
[ وقيل : " هي عمد ممددة " : على باب جهنم ] ، سدت عليهم بها الأبواب [ لا يمكنهم الخروج ] .
وقال قتادة : بلغنا أنها عمد يعذبون بها في النار .
وقيل : هي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار ، أي أنها مطبقة عليهم بأوتاد ممددة ، وهي في قراءة عبد الله " بعمد " بالباء .
قال مقاتل : أطبقت الأبواب عليهم ثم سدت بأوتاد من حديد من نار حتى يرجع عليهم غمها وحرها ، فلا يفتح عليهم باب ولا يدخل عليهم روح ، والممددة من صفة العمد ، أي مطولة فتكون أرسخ من القصيرة .
سُورَةُ الْفِيلِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ( 1 ) )
( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ) ؟ وَكَانَتْ قِصَّةُ أَصْحَابِ الْفِيلِ - عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ - :
أَنَّ النَّجَاشِيَّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ كَانَ قَدْ بَعَثَ " أَرْيَاطَ " إِلَى أَرْضِ الْيَمَنِ فَغَلَبَ عَلَيْهَا ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ ، يُقَالُ لَهُ : " أَبْرَهَةُ بْنُ الصَّبَاحِ " [ أَبُو يَكْسُومَ ] ، ، فَسَاخَطَ " أَرْيَاطَ " فِي أَمْرِ الْحَبَشَةِ ، حَتَّى انْصَدَعُوا صَدْعَيْنِ ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مَعَ أَرْيَاطَ ، وَطَائِفَةٌ مَعَ أَبْرَهَةَ ، فَتَزَاحَفَا فَقَتَلَ أَبْرَهَةُ ، أَرْيَاطَ ، وَاجْتَمَعَتِ الْحَبَشَةُ لِأَبْرَهَةَ ، وَغَلَبَ عَلَى الْيَمَنِ وَأَقَرَّهُ النَّجَاشِيُّ ، عَلَى عَمَلِهِ .
ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ رَأَى النَّاسَ يَتَجَهَّزُونَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ إِلَى مَكَّةَ لِحَجِّ بَيْتِ اللَّهِ ، فَبَنَى كَنِيسَةً بِصَنْعَاءَ وَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ : إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ بِصَنْعَاءَ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ لِمَلِكٍ مَثَلُهَا ، وَلَسْتُ مُنْتَهِيًا حَتَّى أَصْرِفَ إِلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ ، فَسَمِعَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ [ فَخَرَجَ إِلَيْهَا مُسْتَخْفِيًا ] فَدَخَلَهَا لَيْلًا فَقَعَدَ فِيهَا وَتَغَوَّطَ بِهَا ، وَلَطَّخَ بِالْعُذْرَةِ قِبْلَتَهَا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبْرَهَةَ فَقَالَ : مَنِ اجْتَرَأَ عَلَيَّ وَلَطَّخَ كَنِيسَتِي بِالْعُذْرَةِ ؟ فَقِيلَ لَهُ : صَنَعَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ سَمِعَ بِالَّذِي قُلْتَ ، فَحَلَفَ أَبْرَهَةُ عِنْدَ ذَلِكَ : لِيَسِيرَنَّ إِلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى يَهْدِمَهَا ، فَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ وَسَأَلَهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ بِفِيلِهِ ، وَكَانَ لَهُ فِيلٌ يُقَالُ لَهُ مَحْمُودٌ ، وَكَانَ فِيلًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ عِظَمًا وَجِسْمًا وَقُوَّةً ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ ، فَخَرَجَ [ ص: 536 ] أَبْرَهَةُ مِنَ الْحَبَشَةِ سَائِرًا إِلَى مَكَّةَ ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْفِيلُ ، فَسَمِعَتِ الْعَرَبُ بِذَلِكَ فَأَعْظَمُوهُ وَرَأَوْا جِهَادَهُ حَقًا عَلَيْهِمْ ، فَخَرَجَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ ، يُقَالُ لَهُ : ذُو نَفَرٍ ، بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ قَوْمِهِ ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أَبْرَهَةُ وَأَخَذَ ذَا نَفَرٍ ، فَقَالَ : أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَقْتُلَنِي فَإِنَّ اسْتِبْقَائِيَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ قَتْلِي ، فَاسْتَحْيَاهُ وَأَوْثَقَهُ . وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَجُلًا حَلِيمًا .
ثُمَّ سَارَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ بِلَادِ خَثْعَمَ ، خَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ فِي خَثْعَمَ وَمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ ، فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمَهُمْ وَأَخَذَ نُفَيْلًا فَقَالَ نُفَيْلٌ : أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنِّي دَلِيلٌ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ، وَهَاتَانِ يَدَايَ عَلَى قَوْمِي بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، فَاسْتَبْقَاهُ ، وَخَرَجَ مَعَهُ يَدُلُّهُ حَتَّى إِذَا مَرَّ بِالطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ مَسْعُودُ بْنُ مُعَتِّبٍ فِي رِجَالٍ مِنْ ثَقِيفٍ فَقَالَ : أَيُّهَا الْمَلِكُ نَحْنُ عَبِيدُكَ ، لَيْسَ لَكَ عِنْدَنَا خِلَافٌ ، وَإِنَّمَا تُرِيدُ الْبَيْتَ الَّذِي بِمَكَّةَ ، نَحْنُ نَبْعَثُ مَعَكَ مَنْ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ ، فَبَعَثُوا مَعَهُ أَبَا رِغَالٍ ، مَوْلًى لَهُمْ ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ [ بِالْمُغَمَّسِ ] مَاتَ أَبُو رِغَالٍ وَهُوَ الَّذِي يُرْجَمُ قَبْرُهُ ، وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ مِنَ الْمُغَمَّسِ رَجُلًا مِنَ الْحَبَشَةِ ، يُقَالُ لَهُ : الْأَسْوَدُ بْنُ مَسْعُودٍ ، عَلَى مُقَدِّمَةِ خَيْلِهِ ، وَأَمْرَهُ بِالْغَارَةِ عَلَى نَعَمِ النَّاسِ ، فَجَمَعَ الْأَسْوَدُ إِلَيْهِ أَمْوَالَ الْحَرَمِ ، وَأَصَابَ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِائَتَيْ بَعِيرٍ .
ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ بَعَثَ حَبَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ ، وَقَالَ : سَلْ عَنْ شَرِيفِهَا ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَا أُرْسِلُكَ بِهِ إِلَيْهِ ، أَخْبِرْهُ أَنِّي لَمْ آتِ لِقِتَالٍ ، إِنَّمَا جِئْتُ لِأَهْدِمَ هَذَا الْبَيْتَ . فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ فِلَقِيَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ هَاشِمٍ ، فَقَالَ : إِنَّ الْمَلِكَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ لِأُخْبِرَكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ إِلَّا أَنْ تُقَاتِلُوهُ ، إِنَّمَا جَاءَ لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ ثُمَّ الِانْصِرَافِ عَنْكُمْ .
فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : مَا لَهُ عِنْدَنَا قِتَالٌ وَلَا لَنَا بِهِ يَدٌ إِلَّا أَنْ نُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَ لَهُ ، فَإِنَّ هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ، فَإِنْ يَمْنَعْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ ، وَإِنْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ فَوَاللَّهِ مَا لَنَا بِهِ قُوَّةٌ .
قَالَ : فَانْطَلِقْ مَعِي إِلَى الْمَلِكِ ، فَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَرْدَفَهُ عَلَى بَغْلَةٍ كَانَ عَلَيْهَا وَرَكِبَ مَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ حَتَّى قَدِمَ الْمُعَسْكَرَ ، وَكَانَ ذُو نَفَرٍ صَدِيقًا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَأَتَاهُ فَقَالَ : يَا ذَا نَفَرٍ ، هَلْ عِنْدَكَ مِنْ [ غَنَاءٍ ] فِيمَا نَزَلَ بِنَا ؟ فَقَالَ : مَا غَنَاءُ رَجُلٍ أَسِيرٍ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُقْتَلَ بُكْرَةً أَوْ عَشِيًّا ، وَلَكِنْ سَأَبْعَثُ إِلَى أُنَيْسٍ ، سَائِسِ الْفِيلِ ، فَإِنَّهُ لِي صَدِيقٌ فَأَسْأَلُهُ أَنْ يَصْنَعَ لَكَ عِنْدَ الْمَلِكِ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ خَيْرٍ وَيُعَظِّمُ خَطَرَكَ وَمَنْزِلَتَكَ عِنْدَهُ ، قَالَ : فَأَرْسَلَ إِلَى أُنَيْسٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ : إِنَّ هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ صَاحِبُ [ ص: 537 ] عِيرِ مَكَّةَ الَّذِي يُطْعِمُ النَّاسَ فِي السَّهْلِ وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ ، وَقَدْ أَصَابَ لَهُ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَنْفَعَهُ عِنْدَهُ فَانْفَعْهُ فَإِنَّهُ صَدِيقٌ لِي ، أُحِبُّ ، مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ ، فَدَخَلَ أُنَيْسٌ عَلَى أَبْرَهَةَ فَقَالَ : أَيُّهَا الْمَلِكُ هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ وَصَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ الَّذِي يُطْعِمُ النَّاسَ فِي السَّهْلِ وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ ، يَسْتَأْذِنُ إِلَيْكَ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ فَيُكَلِّمَكَ ، وَقَدْ جَاءَ غَيْرَ نَاصِبٍ لَكَ وَلَا مُخَالِفٍ عَلَيْكَ ، فَأَذِنَ لَهُ ، وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَجُلًا جَسِيمًا وَسِيمًا ، فَلَمَّا رَآهُ أَبْرَهَةُ أَعْظَمَهُ وَأَكْرَمَهُ ، وَكَرِهَ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ وَأَنْ يَجْلِسَ تَحْتَهُ ، فَهَبَطَ إِلَى الْبِسَاطِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ دَعَاهُ فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ ، ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ : مَا حَاجَتُكَ إِلَى الْمَلِكِ ؟ فَقَالَ لَهُ التُّرْجُمَانُ ذَلِكَ ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : حَاجَتِي إِلَى الْمَلِكِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي ، فَقَالَ أَبْرَهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ : لَقَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ ، وَقَدْ زَهِدْتُ فِيكَ ، قَالَ [ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ] : لِمَ ؟ قَالَ : جِئْتُ إِلَى بَيْتٍ هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ وَهُوَ شَرَفُكُمْ وَعِصْمَتُكُمْ لِأَهْدِمَهُ لَمْ تُكَلِّمْنِي فِيهِ وَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا ؟ قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : أَنَا رَبُّ هَذِهِ الْإِبِلِ وَإِنَّ لِهَذَا الْبَيْتِ رِبًّا سَيَمْنَعُهُ ، قَالَ مَا كَانَ لِيَمْنَعَهُ مِنِّي ، قَالَ فَأَنْتَ وَذَاكَ ، فَأَمَرَ بِإِبِلِهِ فَرُدَّتْ عَلَيْهِ .
فَلَمَّا رُدَّتِ الْإِبِلُ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ خَرَجَ فَأَخْبَرَ قُرَيْشًا الْخَبَرَ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَيَتَحَرَّزُوا فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ ، تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ ، فَفَعَلُوا ، وَأَتَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْكَعْبَةَ ، وَأَخَذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ وَجَعَلَ يَقُولُ :
يَا رَبِّ لَا أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمْ حِمَاكَا إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا
امْنَعْهُمْ أَنْ يُخَرِّبُوا قُرَاكَا
وَقَالَ أَيْضًا :
لَا هُمَّ إِنَّ العَبْدَ يَمْنَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكَ
لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا مِحَالُكْ
جَرُّوا جُمُوعَ بِلَادِهِمْ وَالْفِيلَ كَيْ يَسْبُوا عِيَالَكْ
عَمَدُوا حِمَاكَ بِكَيْدِهِمْ جَهْلًا وَمَا رَقَبُوا جَلَالَكَ
[ ص: 538 ] إِنْ كُنْتَ تَارِكَهُمْ وَكَعْبَتَنَا فَأْمُرْ مَا بَدَا لَكَ
فَلَمْ أَسْمَعْ بِأَرْجَسَ مِنْ رِجَالٍ أَرَادُوا الْغَزْوَ يَنْتَهِكُوا حَرَامَكَ
ثُمَّ تَرَكَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْحَلْقَةَ وَتَوَجَّهَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْوُجُوهِ مَعَ قَوْمِهِ ، وَأَصْبَحَ أَبْرَهَةُ بِالْمُغَمَّسِ قَدْ تَهَيَّأَ لِلدُّخُولِ وَعَبَّأَ جَيْشَهُ وَهَيَّأَ فِيلَهُ ، وَكَانَ فِيلًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ فِي الْعِظَمِ وَالْقُوَّةِ وَيُقَالُ كَانَ مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ فِيلًا .
فَأَقْبَلَ نُفَيْلٌ إِلَى الْفِيلِ الْأَعْظَمِ ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ فَقَالَ : اُبْرُكْ مَحْمُودُ وَارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْتَ [ فَإِنَّكَ ] فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، فَبَرَكَ الْفِيلُ فَبَعَثُوهُ فَأَبَى ، فَضَرَبُوهُ بِالْمِعْوَلِ فِي رَأْسِهِ فَأَبَى ، فَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَهُمْ تَحْتَ مِرَاقِهِ وَمَرَافِقِهِ فَنَزَعُوهُ لِيَقُومَ فَأَبَى ، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَامَ يُهَرْوِلُ ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَصَرَفُوهُ إِلَى الْحَرَمِ فَبَرَكَ وَأَبَى أَنْ يَقُومَ .
وَخَرَجَ نُفَيْلٌ يَشْتَدُّ حَتَّى [ صَعِدَ ] فِي الْجَبَلِ ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ مَعَ كُلِّ [ طَائِرٍ ] مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ : حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ ، وَحَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ ، أَمْثَالُ الْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ ، فَلَمَّا غَشَيْنَ الْقَوْمَ أَرْسَلْنَهَا عَلَيْهِمْ فَلَمْ تُصِبْ تِلْكَ الْحِجَارَةُ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ ، وَلَيْسَ كُلُّ الْقَوْمِ أَصَابَتْ وَخَرَجُوا هَارِبِينَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى الطَّرِيقِ الَّذِي جَاءُوا مِنْهُ ، يَتَسَاءَلُونَ عَنْ نُفَيْلِ بْنِ حَبِيبٍ لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى الْيَمَنِ ، وَنُفَيْلٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْجِبَالِ ، فَصَرَخَ الْقَوْمُ وَمَاجَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَيَهْلِكُونَ عَلَى كُلِّ [ مَهْلِكٍ ] .
وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَى أَبْرَهَةَ دَاءً فِي جَسَدِهِ فَجَعَلَ يَتَسَاقَطُ أَنَامِلُهُ كُلَّمَا سَقَطَتْ أُنْمُلَةٌ اتَّبَعَتْهَا [ مِدَّةٌ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ ] ، فَانْتَهَى إِلَى صَنْعَاءَ وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّيْرِ فِيمَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ ثُمَّ هَلَكَ .
قَالَ الْوَاقِدِيُّ : وَأَمَّا مَحْمُودٌ ، فِيلُ النَّجَاشِيِّ ، فَرَبَضَ وَلَمْ [ يَسِرْ ] عَلَى الْحَرَمِ فَنَجَا ، وَالْفِيلُ [ ص: 539 ] الْآخَرُ شَجَّعَ فَحُصِبَ .
وَزَعَمَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي جَرَّأَ أَصْحَابَ الْفِيلِ : أَنَّ فِتْيَةً مِنْ قُرَيْشٍ خَرَجُوا تُجَّارًا إِلَى أَرْضِ النَّجَاشِيِّ فَدَنَوْا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ وَثَمَّ بَيْعَةٌ لِلنَّصَارَى تُسَمِّيهَا قُرَيْشٌ " الْهَيْكَلَ " ، فَنَزَلُوا فَأَجَّجُوا نَارًا وَاشْتَوُوا فَلَمَّا ارْتَحَلُوا تَرَكُوا النَّارَ كَمَا هِيَ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فَعَجَّتِ الرِّيحُ فَاضْطَرَمَ الْهَيْكَلُ نَارًا فَانْطَلَقَ الصَّرِيخُ إِلَى النَّجَاشِيِّ فَأَسِفَ غَضَبًا لِلْبَيْعَةِ ، فَبَعَثَ أَبْرَهَةَ لِهَدْمِ الْكَعْبَةِ .
وَقَالَ فِيهِ : إِنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَبُو مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ وَكَانَ مَكْفُوفَ الْبَصَرِ يُصَيِّفُ بِالطَّائِفِ وَيَشْتُو بِمَكَّةَ ; وَكَانَ رَجُلًا نَبِيهًا نَبِيلًا تَسْتَقِيمُ الْأُمُورُ بِرَأْيهِ ، وَكَانَ خَلِيلًا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : مَاذَا عِنْدَكَ هَذَا يَوْمٌ لَا يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ رَأْيِكَ ؟ فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ : اصْعَدْ بِنَا إِلَى حِرَاءَ فَصَعِدَ الْجَبَلَ ، فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ : اعْمَدْ إِلَى مِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ فَاجْعَلْهَا لِلَّهِ وَقَلِّدْهَا نَعْلًا ثُمَّ أَرْسِلْهَا فِي الْحَرَمِ لَعَلَّ بَعْضَ هَذِهِ السُّودَانِ يَعْقِرُ مِنْهَا شَيْئًا ، فَيَغْضَبَ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ فَيَأْخُذَهُمْ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَعَمَدَ الْقَوْمُ إِلَى تِلْكَ الْإِبِلِ فَحَمَلُوا عَلَيْهَا وَعَقَرُوا بَعْضَهَا وَجَعَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو ، فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ : إِنْ لِهَذَا الْبَيْتِ رَبًّا يَمْنَعُهُ ، فَقَدْ نَزَلَ تُبَّعُ ، مَلِكُ الْيَمَنِ صَحْنَ هَذَا الْبَيْتِ وَأَرَادَ هَدْمَهُ فَمَنَعَهُ اللَّهُ وَابْتَلَاهُ ، وَأَظْلَمَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَلَمَّا رَأَى تُبَّعُ ذَلِكَ كَسَاهُ الْقَبَاطِيَّ الْبِيضَ ، وَعَظَّمَهُ وَنَحَرَ لَهُ جَزُورًا .
[ ثُمَّ قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ ] فَانْظُرْ نَحْوَ الْبَحْرِ ، فَنَظَرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ : أَرَى طَيْرًا بَيْضَاءَ نَشَأَتْ مِنْ شَاطِئِ الْبَحْرِ ، فَقَالَ : اُرْمُقْهَا بِبَصَرِكَ أَيْنَ قَرَارُهَا ؟ قَالَ أَرَاهَا قَدْ دَارَتْ عَلَى رُءُوسِنَا ، قَالَ : فَهَلْ تَعْرِفُهَا ؟ قَالَ : فَوَاللَّهِ مَا أَعْرِفُهَا مَا هِيَ بِنَجْدِيَّةٍ وَلَا تِهَامِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ وَلَا شَامِيَّةٍ ، قَالَ : مَا قَدُّهَا ؟ قَالَ : أَشْبَاهُ [ الْيَعَاسِيبِ ] ، فِي مِنْقَارِهَا حَصًى كَأَنَّهَا حَصَى الْحَذْفِ ، قَدْ أَقْبَلَتْ كَاللَّيْلِ يَكْسَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، أَمَامَ كُلِّ رُفْقَةٍ طَيْرٌ يَقُودُهَا أَحْمَرُ الْمِنْقَارِ أَسْوَدُ الرَّأْسِ طَوِيلُ الْعُنُقِ ، فَجَاءَتْ حَتَّى إِذَا حَاذَتْ بِعَسْكَرِ الْقَوْمِ [ وَكَدَتْ ] فَوْقَ رُءُوسِهِمْ ، فَلَمَّا تَوَافَتِ الرِّجَالُ كُلُّهَا أَهَالَتِ الطَّيْرُ مَا فِي مَنَاقِيرِهِا عَلَى مَنْ تَحْتَهَا ، مَكْتُوبٌ فِي كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ صَاحِبِهِ ، ثُمَّ إِنَّهَا انْصَاعَتْ رَاجِعَةً مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ ، فَلَمَّا أَصْبَحَا انْحَطَّا مِنْ ذُرْوَةِ الْجَبَلِ فَمَشَيَا رَبْوَةً فَلَمْ يُؤْنِسَا أَحَدًا ثُمَّ دَنَوْا رَبْوَةً فَلَمْ يَسْمَعَا حِسًّا فَقَالَا بَاتَ الْقَوْمُ [ سَاهِرِينَ ] ، فَأَصْبَحُوا نِيَامًا ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ عَسْكَرِ الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ، وَكَانَ يَقَعُ [ ص: 540 ] الْحَجَرُ عَلَى بَيْضَةِ أَحَدِهِمْ فَيَخْرِقَهَا حَتَّى يَقَعَ فِي دِمَاغِهِ وَيَخْرِقَ الْفِيلَ وَالدَّابَّةَ وَيَغِيبَ الْحَجَرُ فِي الْأَرْضِ مِنْ شِدَّةِ وَقْعِهِ ، فَعَمَدَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَأَخَذَ فَأْسًا مِنْ فُؤُوسِهِمْ فَحَفَرَ حَتَّى أَعْمَقَ فِي الْأَرْضِ فَمَلَأَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، مِنَ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ وَالْجَوْهَرِ ، وَحَفَرَ لِصَاحِبِهِ حُفْرَةً فَمَلَأَهَا كَذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ لِأَبِي مَسْعُودٍ : هَاتِ فَاخْتَرْ إِنْ شِئْتَ حُفْرَتِي وَإِنْ شِئْتَ حُفْرَتَكَ ، وَإِنْ شِئْتَ فَهُمَا لَكَ مَعًا ، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ : اخْتَرْ لِي عَلَى نَفْسِكَ ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِنِّي لَمْ آلُ أَنْ أَجْعَلَ أَجْوَدَ الْمَتَاعِ فِي حُفْرَتِي فَهُوَ لَكَ ، وَجَلَسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حُفْرَتِهِ ، وَنَادَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي النَّاسِ ، فَتَرَاجَعُوا وَأَصَابُوا مِنْ فَضْلِهِمَا حَتَّى ضَاقُوا بِهِ ذَرْعًا ، وَسَادَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِذَلِكَ قُرَيْشًا وَأَعْطَتْهُ الْمُقَادَةَ ، فَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَأَبُو مَسْعُودٍ فِي أَهْلِيهِمَا فِي غِنًى مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ ، وَدَفَعَ اللَّهُ عَنْ كَعْبَتِهِ وَبَيْتِهِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَارِيخِ عَامِ الْفِيلِ ; فَقَالَ مُقَاتِلٌ : كَانَ قَبْلَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْبَعِينَ سَنَةً .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ : بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً .
وَالْأَكْثَرُون َ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْعَامِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ) ؟ قَالَ مُقَاتِلٌ : كَانَ مَعَهُمْ فِيلٌ وَاحِدٌ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : كَانَتِ الْفِيَلَةُ ثَمَانِيَةٌ . وَقِيلَ اثْنَا عَشَرَ ، سِوَى الْفِيلِ الْأَعْظَمِ ، وَإِنَّمَا وُحِّدَ لِأَنَّهُ نَسَبَهُمْ إِلَى الْفِيلِ الْأَعْظَمِ . وَقِيلَ : لِوِفَاقِ رُءُوسِ الْآيِ .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 06:40 AM
الحلقة (441)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ قريش
مكية
الاية 1 إلى الاية 4
( أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ( 2 ) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ( 3 ) )
( أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ) " كَيْدَهُمْ " يَعْنِي مَكْرَهُمْ وَسَعْيَهُمْ فِي تَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ . وَقَوْلُهُ : " فِي تَضْلِيلٍ " عَمَّا أَرَادُوا ، وَأَضَلَّ كَيْدَهُمْ حَتَّى لَمْ يَصِلُوا إِلَى الْكَعْبَةِ ، وَإِلَى مَا أَرَادُوهُ بِكَيْدِهِمْ . قَالَ مُقَاتِلٌ : فِي خَسَارَةٍ ، وَقِيلَ : فِي بُطْلَانٍ . ( وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ) كَثِيرَةً مُتَفَرِّقَةً يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا . وَقِيلَ : أَقَاطِيعَ كَالْإِبِلِ الْمُؤَبَّلَةِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ . أَبَابِيلُ جَمَاعَاتٌ فِي تَفْرِقَةٍ ، يُقَالُ : جَاءَتِ الْخَيْلُ أَبَابِيلُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا .
قَالَ الْفَرَّاءُ : لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا . وَقِيلَ : وَاحِدُهَا إِبَالَةٌ . وَقَالَ الْكِسَائِيُّ : إِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ [ ص: 541 ] النَّحْوِيِّينَ يَقُولُونَ : وَاحِدُهَا أَبُولُ ، مِثْلُ عَجُولٌ وَعَجَاجِيلُ .
وَقِيلَ : وَاحِدُهَا مِنْ [ لَفْظِهَا ] إِبِّيلٌ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَتْ طَيْرًا لَهَا خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الطَّيْرِ ، وَأَكُفٌّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : لَهَا رُؤُوسٌ كَرُؤُوسِ السِّبَاعِ . قَالَ الرَّبِيعُ : لَهَا أَنْيَابٌ كَأَنْيَابِ السِّبَاعِ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : خُضْرٌ لَهَا مَنَاقِيرُ صُفْرٌ . وَقَالَ قَتَادَةُ : طَيْرٌ سُودٌ جَاءَتْ مِنْ قَبْلِ الْبَحْرِ فَوْجًا فَوْجًا مَعَ كُلِّ طَائِرٍ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ ; حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ ، وَحَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ ، لَا تُصِيبُ شَيْئًا إِلَّا هَشَمَتْهُ .
( ترميهم بحجارة من سجيل ( 4 ) فجعلهم كعصف مأكول ( 5 ) )
( ترميهم بحجارة من سجيل ) قال [ ابن عباس ] وابن مسعود : صاحت الطير ورمتهم بالحجارة ، فبعث الله ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدة فما وقع منها حجر على رجل إلا خرج من الجانب الآخر ، وإن وقع على رأسه خرج من دبره . ( فجعلهم كعصف مأكول ) كزرع وتبن أكلته الدواب فراثته فيبس وتفرقت أجزاؤه . شبه تقطع ، أوصالهم بتفرق أجزاء الروث . قال مجاهد : " العصف " ورق الحنطة . وقال قتادة : هو التبن . وقال عكرمة : كالحب إذا أكل فصار أجوف . وقال ابن عباس : هو القشر الخارج الذي يكون على حب الحنطة كهيئة الغلاف له .
سُورَةُ قُرَيْشٍ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ( 1 ) )
( لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ) قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ : " لِيلَافِ " بِغَيْرِ هَمْزٍ " إِلَافِهِمْ " طَلَبًا لِلْخِفَّةِ ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ " لِئِلَافِ " بِهَمْزَةٍ مُخْتَلَسَةٍ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ بَعْدَهَا [ عَلَى وَزْنِ لِغِلَافِ ] وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِهَمْزَةٍ مُشْبَعَةٍ وَيَاءٍ بَعْدَهَا ، وَاتَّفَقُوا - غَيْرَ أَبِي جَعْفَرٍ - فِي " إِيلَافِهِمْ " أَنَّهَا بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ ، إِلَّا عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ فُلَيْحٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ فَإِنَّهُ قَرَأَ : " إِلْفِهِمْ " سَاكِنَةَ اللَّامِ بِغَيْرِ يَاءٍ .
وَعَدَّ بَعْضُهُمْ سُورَةَ الْفِيلِ وَهَذِهِ السُّورَةَ وَاحِدَةً ; مِنْهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ لَا فَصْلَ بَيْنَهُمَا فِي مُصْحَفِهِ ، وَقَالُوا : اللَّامُ فِي " لِإِيلَافِ " تَتَعَلَّقُ بِالسُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَّرَ أَهْلَ مَكَّةَ عَظِيمَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا صَنَعَ بِالْحَبَشَةِ ، وَقَالَ : ( لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ) .
وَقَالَ الزَّجَّاجُ : الْمَعْنَى : جَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ، أَيْ [ يُرِيدُ إِهْلَاكَ أَهْلِ ] الْفِيلِ لِتَبْقَى قُرَيْشٌ [ وَمَا أَلِفُوا مِنْ ] رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : أَلِفُوا ذَلِكَ فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ .
وَالْعَامَّةُ عَلَى أَنَّهُمَا سُورَتَانِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ الْجَالِبَةِ لِلَّامِ فِي قَوْلِهِ " لِإِيلَافِ " ، قَالَ الْكِسَائِيُّ [ ص: 546 ] وَالْأَخْفَشُ : هِيَ لَامُ التَّعَجُّبِ ، يَقُولُ : اعْجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ، وَتَرَكِهِمْ عِبَادَةَ رَبِّ هَذَا الْبَيْتِ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ لِزَيْدٍ وَإِكْرَامِنَا إِيَّاهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ : اعْجَبُوا لِذَلِكَ : وَالْعَرَبُ إِذَا جَاءَتْ بِهَذِهِ اللَّامِ اكْتَفَوْا بِهَا دَلِيلًا عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْ إِظْهَارِ الْفِعْلِ مِنْهُ .
وَقَالَ الزَّجَّاجُ : هِيَ مَرْدُودَةٌ إِلَى مَا بَعْدَهَا تَقْدِيرُهُ : فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ لِإِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ .
وَقَالَ [ ابْنُ عُيَيْنَةَ ] : لِنِعْمَتِي عَلَى قُرَيْشٍ .
وَقُرَيْشٌ هُمْ وَلَدُ النَّضِرِ بْنِ كِنَانَةَ ، وَكُلُّ مَنْ وَلَدَهُ النَّضْرُ فَهُوَ قُرَشِيٌّ ، وَمَنْ لَمْ يَلِدْهُ النَّضْرُ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَرِيكٍ الشَّافِعِيُّ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو بَكْرٍ الْجَوْرَبَذِيّ ُ ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ ، حَدَّثَنِي شَدَّادٌ أَبُو عَمَّارٍ ، حَدَّثَنَا وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ " .
وَسُمُوا قُرَيْشًا مِنَ الْقَرْشِ ، وَالتَّقَرُّشِ وَهُوَ التَّكَسُّبُ وَالْجَمْعُ ، يُقَالُ : فَلَانٌ يَقْرِشُ لِعِيَالِهِ وَيَقْتَرِشُ أَيْ يَكْتَسِبُ ، وَهُمْ كَانُوا تُجَّارًا حُرَّاصًا عَلَى جَمْعِ الْمَالِ وَالْإِفْضَالِ .
وَقَالَ أَبُو رَيْحَانَةَ : سَأَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ : لِمَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا ؟ قَالَ : لِدَابَّةٍ تَكُونُ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَعْظَمِ دَوَابِّهِ يُقَالُ لَهَا الْقِرْشُ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنَ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ إِلَّا أَكَلَتْهُ ، وَهِيَ تَأْكُلُ وَلَا تُؤْكَلُ ، وَتَعْلُو وَلَا تُعْلَى ، قَالَ : وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَأَنْشَدَهُ شِعْرَ الْجُمَحِيِّ :
وقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا سُلِّطَتْ بالعُلُوِّ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ عَلَى سَائِرِ الْبُحُورِ جُيُوشَا تَأْكُلُ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ وَلَا تَتْرُكْ
فِيهِ لِذِي الْجَنَاحَيْنِ رِيشَا [ ص: 547 ] هَكَذَا فِي الْكِتَابِ حَيُّ قُرَيْشٍ يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا [ كَمِيشَا ] وَلَهُمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَبِيٌّ
يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا
( إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ( 2 ) فليعبدوا رب هذا البيت ( 3 ) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ( 4 ) )
قوله تعالى : ( إيلافهم ) بدل من الإيلاف الأول ( رحلة الشتاء والصيف ) " رحلة " نصب على المصدر ، أي ارتحالهم رحلة الشتاء والصيف .
روى عكرمة ، وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف ، فأمرهم الله تعالى أن يقيموا بالحرم ويعبدوا رب هذا البيت .
وقال الآخرون : كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة ، إحداهما في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ والأخرى في الصيف إلى الشام .
وكان الحرم واديا جدبا لا زرع فيه ولا ضرع ، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم ، وكان لا يتعرض لهم أحد بسوء ، كانوا يقولون : قريش سكان حرم الله وولاة بيته فلولا الرحلتان لم يكن لهم بمكة مقام ، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف ، وشق عليهم الاختلاف إلى اليمن والشام فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمن ، فحملوا الطعام إلى مكة ، أهل الساحل من البحر على السفن وأهل البر على الإبل والحمير فألقى أهل الساحل بجدة ، وأهل البر بالمحصب ، وأخصب الشام فحملوا الطعام إلى مكة فألقوا بالأبطح ، فامتاروا من قريب وكفاهم الله مؤنة الرحلتين ، وأمرهم بعبادة رب البيت فقال : ( فليعبدوا رب هذا البيت ) أي الكعبة . ( الذي أطعمهم من جوع ) أي من بعد جوع بحمل الميرة إلى مكة ( وآمنهم من خوف ) بالحرم وكونهم من أهل [ مكة ] حتى لم يتعرض لهم [ في رحلتهم ] [ ص: 548 ]
وقال عطاء عن ابن عباس : إنهم كانوا في ضر ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرحلتين ، وكانوا يقسمون ربحهم بين الفقير والغني حتى كان فقيرهم كغنيهم .
قال الكلبي : وكان أول من حمل [ السمراء ] من الشام ورحل إليها الإبل : هاشم بن عبد مناف وفيه يقول الشاعر .
قل للذي طلب السماحة والندى هلا مررت بآل عبد مناف هلا مررت بهم تريد قراهم
منعوك من ضر ومن إكفاف الرائشين وليس يوجد رائش
والقائلين هلم للأضياف والخالطين فقيرهم بغنيهم
حتى يكون فقيرهم كالكافي والقائمين بكل وعد صادق
والراحلين برحلة الإيلاف عمرو [ العلا ] هشم الثريد لقومه
ورجال مكة [ مسنتون ] عجاف سفرين سنهما له ولقومه
سفر الشتاء ورحلة الأصياف
وقال الضحاك والربيع وسفيان : " وآمنهم من خوف " من خوف الجذام ، فلا يصيبهم ببلدهم الجذام .
سُورَةُ الْمَاعُونِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ( 1 ) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ( 2 ) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 3 ) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ( 4 ) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ( 5 ) )
( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ) قَالَ مُقَاتِلٌ : نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَابْنُ كَيْسَانَ : فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ . قَالَ الضَّحَّاكُ : فِي [ عَمْرِو ] بْنِ عَائِذٍ الْمَخْزُومِيِّ . وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ .
وَمَعْنَى " يُكَذِّبُ بِالدِّينِ " أَيْ بِالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ . ( فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ) يَقْهَرُهُ وَيَدْفَعُهُ عَنْ حَقِّهِ وَالدَّعُّ : الدَّفْعُ بِالْعُنْفِ وَالْجَفْوَةِ . ( وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) لَا يَطْعَمُهُ وَلَا يَأْمُرُ بِإِطْعَامِهِ لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ بِالْجَزَاءِ . ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ) [ أَيْ : عَنْ مَوَاقِيتِهَا غَافِلُونَ ] .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ [ ص: 552 ] مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ تَمَّامٍ الضَّبِّيُّ ، حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ حَفْصٍ [ القَسْمَلِيُّ ] حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَزْدِيُّ ، حَدَّثَنَا [ عَبْدُ الْمَلِكِ ] بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ [ سَعْدٍ ] عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ " الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ " ، قَالَ : " إِضَاعَةُ الْوَقْتِ " .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُمُ الْمُنَافِقُونَ يَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ إِذَا غَابُوا عَنِ النَّاسِ ، وَيُصَلُّونَهَا فِي الْعَلَانِيَةِ إِذَا حَضَرُوا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ )( الذين هم يراءون ( 6 ) ويمنعون الماعون ( 7 ) )
( الذين هم يراءون ) وقال في وصف المنافقين : " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس " ( النساء - 142 ) .
وقال قتادة : ساه عنها لا يبالي صلى أم لم يصل .
وقيل : لا يرجون لها ثوابا إن صلوا ولا يخافون عقابا إن تركوا .
وقال مجاهد : غافلون عنها يتهاونون بها .
وقال الحسن : هو الذي إن صلاها صلاها رياء ، وإن فاتته لم يندم .
وقال أبو العالية : لا يصلونها لمواقيتها ولا يتمون ركوعها وسجودها . ( ويمنعون الماعون ) روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : هي الزكاة ، وهو قول ابن عمر والحسن وقتادة والضحاك .
وقال عبد الله بن مسعود : " الماعون " : الفأس والدلو والقدر وأشباه ذلك وهي رواية [ ص: 553 ] سعيد بن جبير عن ابن عباس .
قال مجاهد : " الماعون " [ العارية . وقال عكرمة ] أعلاها الزكاة المعروفة [ وأدناها عارية المتاع .
وقال محمد بن كعب والكلبي : " الماعون " : المعروف الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم .
قال قطرب : أصل الماعون من القلة ، تقول العرب : ما له : سعة ولا منعة ، أي شيء قليل فسمى الزكاة والصدقة والمعروف ماعونا لأنه قليل من كثير .
وقيل : " الماعون " : ما لا يحل منعه مثل : الماء والملح والنار ] . سُورَةُ الْكَوْثَرِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ( 1 ) )
( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنِ الْمُخْتَارِ - يَعْنِي ابْنَ فُلْفُلٍ - عَنْ أَنَسٍ قَالَ : بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُبْتَسِمًا فَقُلْنَا : مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ ، فَقَرَأَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : " إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ " ، ثُمَّ قَالَ : " أَتُدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ " ؟ قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " فَإِنَّهُ نَهَرَ وَعَدَنِيهِ رَبِّي - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ : رَبِّ إِنَّهُ مِنِّي ، فَيَقُولُ : مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ " .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " الْكَوْثَرُ " : الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ . قَالَ أَبُو بِشْرٍ قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ : النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ . [ ص: 558 ]
قَالَ الْحَسَنُ : هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ .
قَالَ عِكْرِمَةُ : النُّبُوَّةُ وَالْكِتَابُ .
وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : الْكَوْثَرُ : فَوْعَلٌ [ مِنَ الْكَثْرَةِ ، كَنَوْفَلٍ : فَوْعَلٌ ] مِنَ النَّفْلِ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ [ كَثِيرٍ فِي الْعَدَدِ أَوْ ] كَثِيرٍ فِي الْقَدْرِ وَالْخَطَرِ : كَوْثَرًا . وَالْمَعْرُوفُ : أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ أَعْطَاهُ اللَّهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ :
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخِرَقِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِي ُّ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ [ عَلِيٍّ ] الْكُشْمِيهَنِي ُّ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرَ ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِنَهْرٍ يَجْرِي بَيَاضُهُ [ بَيَاضُ ] اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَحَافَّتَاهُ خِيَامُ اللُّؤْلُؤِ فَضَرَبْتُ بِيَدِي فَإِذَا الثَّرَى مِسْكٌ أَذْفَرُ فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ : مَا هَذَا ؟ قَالَ الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّاوُدِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الصَّلْتُ ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ ، حَافَّتَاهُ الذَّهَبُ مَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ وَأَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ " . . [ ص: 559 ]
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ ، حَدَّثَنَا نَافِعُ [ بْنُ عُمَرَ ، عَنِ ] ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ ، مَنْ يَشْرَبْ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا " .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ ، أَخْبَرَنَا جَدِّي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّازُ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعَذَافِرِيُّ ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ ، عَنْ مُعَدَّانِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " [ أَنَا عِنْدَ عُقْرِ حَوْضِي ] أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ لِأَهْلِ الْيَمَنِ " إِنِّي لَأَضْرِبُهُمْ بِعَصَايَ حَتَّى يَرْفَضُّوا عَنْهُ " وَإِنَّهُ [ لَيَغُتُّ ] فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ ، أَحَدُهُمَا مِنْ وَرِقٍ وَالْآخَرُ مِنْ ذَهَبَ طُولُهُ مَا بَيْنَ بُصْرَى وَصَنْعَاءَ ، أَوْ مَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَمَكَّةَ أَوْ مِنْ مَقَامِي هَذَا إِلَى عُمَانَ " .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 07:07 AM
الحلقة (442)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الكافرون
مكية
الاية 1 إلى الاية 6
( فصل لربك وانحر ( 2 ) )
قوله - عز وجل - : ( فصل لربك وانحر ) قال محمد بن كعب : إن أناسا كانوا يصلون لغير الله وينحرون لغير الله فأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي وينحر لله - عز وجل - .
وقال عكرمة وعطاء وقتادة : فصل لربك صلاة العيد يوم النحر وانحر نسكك .
وقال سعيد بن جبير ومجاهد : فصل الصلوات المفروضة بجمع وانحر البدن بمنى .
وروي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : " فصل لربك وانحر " قال : وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر .
[ ص: 560 ] ( إن شانئك هو الأبتر ( 3 ) )
قوله تعالى : ( إن شانئك ) عدوك ومبغضك ( هو الأبتر ) هو الأقل الأذل المنقطع دابره .
نزلت في العاص بن وائل السهمي ; وذلك أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج من [ باب ] المسجد وهو يدخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدثا وأناس من صناديد قريش جلوس في المساجد فلما دخل العاص قالوا له : من الذي كنت تتحدث معه ؟ قال : ذلك الأبتر يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان قد توفي ابن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خديجة رضي الله عنها .
وذكر محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان قال : كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له فإذا هلك انقطع ذكره ، فأنزل الله تعالى هذه السورة .
وقال عكرمة عن ابن عباس : نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من قريش ، وذلك أنه لما قدم كعب مكة قالت له قريش : نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيد أهل المدينة ، فنحن خير أم هذا [ الصنبور ] المنبتر من قومه ؟ فقال : بل أنتم خير منه ، فنزلت : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت " ( النساء - 51 ) . الآية ، ونزل في الذين قالوا إنه أبتر : " إن شانئك هو الأبتر " أي المنقطع من كل خير .
سُورَةُ الْكَافِرُونَ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( 1 ) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( 2 ) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( 3 ) )
( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) إِلَى آخَرِ السُّورَةِ .
نَزَلَتْ فِي رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْهُمُ : الْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ السَّهْمِيُّ ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، [ وَالْأَسْوَدُ ] بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمَطْلَبِ بْنِ أَسَدٍ ، وَأُمِّيَّةُ بْنُ خَلَفٍ ، قَالُوا : يَا مُحَمَّدُ [ هَلُمَّ فَاتَّبِعْ ] دِينَنَا وَنَتَّبِعُ دِينَكَ وَنُشْرِكُكَ فِي أَمْرِنَا كُلِّهِ ، تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي جِئْتَ بِهِ خَيْرًا كُنَّا قَدْ شَرَكْنَاكَ فِيهِ وَأَخَذْنَا حَظَّنَا مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي بِأَيْدِينَا خَيْرًا كُنْتَ قَدْ شَرَكْتَنَا فِي أَمْرِنَا وَأَخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ ، فَقَالَ : مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أُشْرِكَ بِهِ غَيْرَهُ ، قَالُوا : فَاسْتَلِمْ بَعْضَ آلِهَتِنَا نُصَدِّقُكَ وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ ، فَقَالَ : حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأْتِي مِنْ عِنْدِ رَبِّي ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " إِلَى آخَرِ السُّورَةِ ، فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَفِيهِ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَامَ عَلَى رُءُوسِهِمْ ثُمَّ قَرَأَهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَغَ مِنَ السُّورَةِ ، فَأَيِسُوا مِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ وَآذَوْهُ وَأَصْحَابَهُ . وَمَعْنَى الْآيَةِ : ( لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) فِي الْحَالِ ( وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) فِي الْحَالِ .
[ ص: 564 ] ( ولا أنا عابد ما عبدتم ( 4 ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( 5 ) لكم دينكم ولي دين ( 6 ) )
( ولا أنا عابد ما عبدتم ) في الاستقبال ، ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) في الاستقبال .
وهذا خطاب لمن سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون .
وقوله : [ ما ] أعبد " أي : من أعبد ، لكنه ذكره لمقابلة : " ما تعبدون " .
ووجه التكرار : قال أكثر أهل المعاني : هو أن القرآن نزل بلسان العرب ، وعلى مجاز خطابهم ، ومن مذاهبهم التكرار ، إرادة التوكيد والإفهام كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز .
وقال القتيبي : تكرار الكلام لتكرار الوقت ، وذلك أنهم قالوا : إن سرك أن ندخل في دينك عاما فادخل في ديننا عاما ، فنزلت هذه السورة . ( لكم دينكم ) الشرك ( ولي دين ) الإسلام ، قرأ ابن كثير ، ونافع ، وحفص : " ولي " بفتح الياء ، قرأ الآخرون بإسكانها . [ وهذه الآية منسوخة بآية السيف ] .
سُورَةُ النَّصْرِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ( 1 ) )
( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) أَرَادَ فَتْحَ مَكَّةَ .
وَكَانَتْ قِصَّتُهُ - عَلَى مَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَأَصْحَابُ الْأَخْبَارِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَالَحَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَاصْطَلَحُوا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَ النَّاسِ عَشْرَ سِنِينَ ، يَأْمَنُ فِيهِنَّ النَّاسُ ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ، وَأَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ ، فَدَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ ، وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَرٌّ قَدِيمٌ .
ثُمَّ إِنَّ بَنِي بَكْرٍ عَدَتْ عَلَى خُزَاعَةَ ، وَهُمْ عَلَى مَاءٍ لَهُمْ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ ، يُقَالُ لَهُ " الوَتِيرُ " ، فَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدُّؤَلِيُّ فِي بَنِي الدُّئَلِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ حَتَّى بَيَّتَ خُزَاعَةَ ، وَلَيْسَ كُلُّ بَكْرٍ تَابَعَهُ ، فَأَصَابُوا مِنْهُمْ رَجُلًا وَتَحَارَبُوا وَاقْتَتَلُوا ، وَرَفَدَتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلَاحِ ، وَقَاتَلَ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ مَنْ قَاتَلَ مُسْتَخْفِيًا بِاللَّيْلِ ، حَتَّى حَازُوا خُزَاعَةَ إِلَى الْحَرَمِ ، وَكَانَ مِمَّنْ أَعَانَ بَنِي بَكْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى خُزَاعَةَ لَيْلَتَئِذٍ بِأَنْفُسِهِمْ مُتَنَكِّرِينَ : صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ، مَعَ عَبِيدِهِمْ فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْحَرَمِ قَالَتْ بَنُو بَكْرٍ : يَا نَوْفَلُ إِنَّا دَخَلْنَا الْحَرَمَ ، إِلَهَكَ إِلَهَكَ ، فَقَالَ كَلِمَةً عَظِيمَةً : إِنَّهُ لَا إِلَهَ لِيَ الْيَوْمَ ، [ يَا بَنِي بَكْرٍ ] أَصِيبُوا ثَأْرَكُمْ فِيهِ . [ ص: 568 ]
فَلَمَّا تَظَاهَرَتْ قُرَيْشٌ عَلَى خُزَاعَةَ وَأَصَابُوا مِنْهُمْ وَنَقَضُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْعَهْدِ بِمَا اسْتَحَلُّوا مِنْ خُزَاعَةَ - وَكَانُوا فِي عَقْدِهِ - خَرَجَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ ، حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا هَاجَ فَتْحَ مَكَّةَ ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ ، فَقَالَ :
لَا هُمَّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا
الْأَبْيَاتُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " قَدْ نُصِرْتَ يَا عَمْرُو بْنَ سَالِمٍ " ، ثُمَّ عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنَانٌ مِنَ السَّمَاءِ ، فَقَالَ : " إِنَّ هَذِهِ السَّحَابَةُ لَتَسْتَهِلُّ ، بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ " ، وَهُمْ رَهْطُ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ .
ثُمَّ خَرَجَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرُوهُ بِمَا أُصِيبَ مِنْهُمْ [ وَبِمُظَاهَرَةِ ] قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إِلَى مَكَّةَ ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلنَّاسِ : كَأَنَّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَ لِيَشُدَّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدَّةِ .
وَمَضَى بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فَلَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بِعَسَفَانَ ، قَدْ بَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَشُدَّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدَّةِ ، وَقَدْ رَهِبُوا الَّذِي صَنَعُوا ، فَلَمَّا لَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بُدَيْلًا قَالَ : مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يَا بُدَيْلُ ؟ وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، قَالَ : سِرْتُ فِي خُزَاعَةَ فِي هَذَا السَّاحِلِ وَفِي بَطْنِ هَذَا الْوَادِي ، قَالَ : أَوَمَا أَتَيْتَ مُحَمَّدًا ؟ قَالَ : لَا فَلَمَّا رَاحَ بُدَيْلٌ إِلَى مَكَّةَ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : لَئِنْ كَانَ جَاءَ الْمَدِينَةَ لَقَدْ عَلَفَ نَاقَتَهُ بِهَا النَّوَى ، فَعَمَدَ إِلَى مَبْرَكِ نَاقَتِهِ فَأَخَذَ مِنْ بَعْرِهَا فَفَتَّهُ فَرَأَى فِيهِ النَّوَى ، فَقَالَ : أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ بُدَيْلٌ مُحَمَّدًا .
ثُمَّ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ ، فِلْمَّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَوَتْهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : يَا بُنَيَّةُ أَرَغِبْتِ بِي عَنْ هَذَا الْفِرَاشِ أَمْ أَرَغِبْتِ بِهِ عَنِّي ؟ قَالَتْ : بَلَى هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَأَنْتَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ نَجِسٌ ، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ تَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَكِ يَا بُنَيَّةُ بَعْدِي [ شَيْءٌ ] [ ص: 569 ] ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَلَّمَهُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا [ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ : نَقَضَ أَهْلُ مَكَّةَ الْعَهْدَ ] .
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَكَلَّمَهُ أَنْ يُكَلِّمَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ : مَا أَنَا بِفَاعِلٍ ، ثُمَّ أَتَى عُمْرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَكَلَّمَهُ فَقَالَ : أَنَا أَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ ! فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا الذَّرَّ لَجَاهَدْتُكُمْ بِهِ ، ثُمَّ خَرَجَ فَدَخَلَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، غُلَامٌ يَدِبُّ ، بَيْنَ يَدَيْهَا ، فَقَالَ : يَا عَلِيُّ إِنَّكَ أَمَسُّ الْقَوْمَ بِي رَحِمًا وَأَقْرَبُهُمْ مِنِّي قَرَابَةً ، وَقَدْ جِئْتُ فِي حَاجَةٍ فَلَا أَرْجِعَنَّ كَمَا جِئْتُ خَائِبًا ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ : وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ لَقَدْ عَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَمْرٍ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلِّمَهُ فِيهِ ، فَالْتَفَتَ إِلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ : يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ ، هَلْ لَكِ أَنْ تَأْمُرِي بُنَيَّكِ هَذَا فَيُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ فَيَكُونَ سَيِّدَ الْعَرَبِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ ؟ قَالَتْ : وَاللَّهِ مَا بَلَغَ بُنَيَّ أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ ، وَمَا يُجِيرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ ، فَقَالَ : يَا أَبَا الْحَسَنِ - إِنِّي أَرَى الْأُمُورَ قَدِ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ فَانْصَحْنِي ، قَالَ : وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُغْنِي عَنْكَ ، وَلَكِنَّكَ سَيِّدُ بَنِي كِنَانَةَ ، فَقُمْ فَأَجِرْ بَيْنَ النَّاسِ ، ثُمَّ الْحَقْ بِأَرْضِكَ ، قَالَ أَوَتُرَى ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنِّي شَيْئًا ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ ، مَا أَظُنُّ ، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ لَكَ غَيْرَ ذَلِكَ .
فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ ، ثُمَّ رَكِبَ بَعِيرَهُ فَانْطَلَقَ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا : مَا وَرَاءَكَ ؟ قَالَ : جِئْتُ مُحَمَّدًا فَكَلَّمْتُهُ وَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ شَيْئًا ثُمَّ جِئْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ ، فَلَمْ أَجِدْ عِنْدَهُ خَيْرًا ، فَجِئْتُ ابْنَ الْخَطَّابِ فَوَجَدْتُهُ أَعْدَى الْقَوْمِ ، ثُمَّ أَتَيْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَوَجَدْتُهُ أَلْيَنَ الْقَوْمِ ، وَقَدْ أَشَارَ عَلَيَّ بِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي هَلْ [ يُغْنِينِي ] شَيْئًا أَمْ لَا ؟ قَالُوا : وَمَاذَا أَمَرَكَ ؟ قَالَ : أَمَرَنِي أَنْ أُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ فَفَعَلْتُ ، قَالُوا : فَهَلْ أَجَازَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ قَالَ : لَا قَالُوا : وَاللَّهِ إِنْ زَادَ عَلِيٌّ عَلَى أَنْ لَعِبَ بِكَ ، فَلَا يُغْنِي عَنَّا مَا قُلْتَ ، قَالَ : لَا وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ غَيْرَ ذَلِكَ .
قَالَ : وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ بِالْجَهَازِ ، وَأَمْرَ أَهْلَهُ أَنْ يُجَهِّزُوهُ ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ابْنَتِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ تُصْلِحُ بَعْضَ جِهَازِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ : أَيْ بُنَيَّةُ أَمَرَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ تُجَهِّزُوهُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ فَتَجَهَّزْ ، قَالَ : فَأَيْنَ تَرَيْنَهُ يُرِيدُ ؟ قَالَتْ : مَا أَدْرِي . ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمُ النَّاسَ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلَى مَكَّةَ ، وَأَمَرَهُمْ بِالْجِدِّ وَالتَّهَيُّؤِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالْأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى [ نَبْغَتَهَا ] فِي بِلَادِهَا ، فَتَجَهَّزَ النَّاسُ . [ ص: 570 ]
وَكَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا إِلَى قُرَيْشٍ [ - وَفِيهِ قِصَّةٌ ] ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ - .
ثُمَّ اسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا رِهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ حُصَيْنِ بْنِ خَلَفٍ الْغِفَارِيُّ ، وَخَرَجَ عَامِدًا إِلَى مَكَّةَ لِعَشَرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ ، فَصَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْكَدِيدِ - مَاءٌ بَيْنَ عَسَفَانَ وَأَمَجَّ - أَفْطَرَ .
ثُمَّ مَضَى حَتَّى نَزَلَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَنْهُ أَحَدٌ ، فَلَمَّا نَزَلَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ ، وَقَدْ عَمِيَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ قُرَيْشٍ ، فَلَا يَأْتِيهِمْ خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَدْرُونَ مَا هُوَ فَاعِلٌ ، فَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ : أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ ، يَتَحَسَّسُونَ الْأَخْبَارَ هَلْ يَجِدُونَ خَبَرًا ؟ وَقَدْ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَيْلَتَئِذٍ : وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ ، وَاللَّهِ لَئِنْ [ بَغَتَهَا ] رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بِلَادِهَا فَدَخَلَ مَكَّةَ عَنْوَةً إِنَّهَا لَهَلَاكُ قُرَيْشٍ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ .
فَخَرَجَ الْعَبَّاسُ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ وَقَالَ : أَخْرُجُ إِلَى الْأَرَاكِ لَعَلِّي أَرَى حَطَّابًا أَوْ صَاحِبَ لَبَنٍ أَوْ دَاخِلًا يَدْخُلُ مَكَّةَ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَأْتُونَهُ فَيَسْتَأْمِنُو نَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً .
قَالَ الْعَبَّاسُ فَخَرَجْتُ وَإِنِّي - وَاللَّهِ - لَأُطَوِّفُ فِي الْأَرَاكِ أَلْتَمِسُ مَا خَرَجْتُ لَهُ إِذْ سَمِعْتُ صَوْتَ أَبِي سُفْيَانَ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَبَدِيلِ بْنِ وَرْقَاءَ ، وَقَدْ خَرَجُوا يَتَحَسَّسُونَ الْخَبَرَ ، فَسَمِعْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَقُولُ : وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ قَطُّ نِيرَانًا ، وَقَالَ بَدِيلٌ : هَذِهِ وَاللَّهِ نِيرَانُ خُزَاعَةَ [ حَمَشَتْهَا ] الْحَرْبُ ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : خُزَاعَةُ أَلْأَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَذَلُّ فَعَرَفْتُ صَوْتَهُ فَقُلْتُ : يَا أَبَا حَنْظَلَةَ ، فَعَرَفَ صَوْتِي فَقَالَ : يَا أَبَا الْفَضْلِ ، فَقُلْتُ : نَعَمْ ، فَقَالَ : مَالَكَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ؟ قُلْتُ : وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ هَذَا ، وَاللَّهِ ، رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جَاءَ بِمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ ، بِعَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، قَالَ : وَمَا الْحِيلَةُ ؟ قُلْتُ : وَاللَّهِ لَئِنْ ظَفِرَ بِكَ لِيَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ ، فَارْكَبْ فِي عَجُزِ هَذِهِ الْبَغْلَةِ حَتَّى آتِيَ بِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْتَأْمِنُه ُ فَرَدَفَنِي ، وَرَجَعَ صَاحِبَاهُ فَخَرَجْتُ أَرْكُضُ بِهِ بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، كُلَّمَا مَرَرْتُ بِنَارٍ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ فَنَظَرُوا إِلَيَّ قَالُوا : هَذَا عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، حَتَّى مَرَرْتُ بِنَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ وَقَامَ إِلَيَّ فَلَمَّا رَأَى أَبَا سُفْيَانَ عَلَى عَجُزِ الدَّابَّةِ ، قَالَ : أَبُو سُفْيَانَ عَدُوُّ اللَّهِ! [ ص: 571 ] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمْكَنَ مِنْكَ بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ ، ثُمَّ اشْتَدَّ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَكَضْتُ الْبَغْلَةَ وَسَبَقْتُهُ بِمَا تَسْبِقُ الدَّابَّةُ الْبَطِيئَةُ الرَّجُلَ الْبَطِيءَ ، فَاقْتَحَمْتُ عَنِ الْبَغْلَةِ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمْرُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَبُو سُفْيَانَ عَدُوُّ اللَّهِ قَدْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ ، فَدَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ ، ثُمَّ جَلَسْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَأَخَذْتُ بِرَأْسِهِ وَقُلْتُ : وَاللَّهِ لَا يُنَاجِيهِ اللَّيْلَةَ أَحَدٌ دُونِي ، فَلَمَّا أَكْثَرَ فِيهِ عُمْرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قُلْتُ : مَهْلًا يَا عُمَرُ ، فَوَاللَّهِ مَا تَصْنَعُ هَذَا إِلَّا أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ مَا قُلْتَ هَذَا . قَالَ : مَهْلًا يَا عَبَّاسُ ، فَوَاللَّهِ لَإِسْلَامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ ، [ وَذَلِكَ لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ إِسْلَامَكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ ] ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " اذْهَبْ بِهِ يَا عَبَّاسُ إِلَى رَحْلِكَ ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَأْتِنِي بِهِ " ، قَالَ : فَذَهَبْتُ إِلَى رَحْلِي فَبَاتَ عِنْدِي ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَوْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ : " وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ [ أَلَمْ يَأْنِ ] لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ " قَالَ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ ! وَاللَّهِ لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ إِلَهٌ غَيْرُهُ فَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا بَعْدُ ، قَالَ : وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَمَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ! أَمَّا هَذِهِ فَإِنَّ فِي النَّفْسِ مِنْهَا [ حَتَّى الْآنَ ] شَيْئًا ، قَالَ الْعَبَّاسُ : قُلْتُ لَهُ : وَيَحَكَ ! أَسْلِمْ وَاشْهَدْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقُكَ ، قَالَ : فَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ وَأَسْلَمَ ، قَالَ الْعَبَّاسُ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هَذَا الْفَخْرَ ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا ، قَالَ : نَعَمْ ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمِنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَنْصَرِفَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : يَا عَبَّاسُ احْبِسْهُ ، بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ حَتَّى تَمُرَّ بِهِ جُنُودُ اللَّهِ فَيَرَاهَا ، قَالَ : فَخَرَجْتُ بِهِ حَتَّى حَبَسْتُهُ حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 07:08 AM
الحلقة (443)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ المسد
مكية
الاية 1 إلى الاية 5
قَالَ : وَمَرَّتْ بِهِ الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا ، كُلَّمَا مَرَّتْ قَبِيلَةٌ قَالَ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا عَبَّاسُ ؟ قَالَ : أَقُولُ : سُلَيْمٌ ، قَالَ يَقُولُ : مَالِي وَلِسُلَيْمٍ ، ثُمَّ تَمُرُّ الْقَبِيلَةُ فَيَقُولُ : مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ فَأَقُولُ : مُزَيْنَةُ ، فَيَقُولُ : مَالِي وَلِمُزَيَّنَةَ ، حَتَّى نَفِذَتِ الْقَبَائِلُ لَا تَمُرُّ قَبِيلَةٌ إِلَّا سَأَلَنِي عَنْهَا ، فَإِذَا أَخْبَرْتُهُ يَقُولُ : مَالِي وَلِبَنِي فُلَانٍ حَتَّى مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَضْرَاءِ ، كَتِيبَةِ رَسُولِ اللَّهِ ، فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ ، لَا يُرَى مِنْهُمْ إِلَّا الْحَدَقُ مِنَ الْحَدِيدِ ، قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا عَبَّاسُ ؟ قُلْتُ : هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، [ ص: 572 ] فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا لِأَحَدٍ بِهَؤُلَاءِ مِنْ قِبَلٍ وَلَا طَاقَةٍ ، وَاللَّهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ عَظِيمًا ، فَقَالَ : وَيْحَكَ! إِنَّهَا النُّبُوَّةُ ، قَالَ : نَعَمْ إِذًا .
فَقُلْتُ : الْحَقِ الْآنَ بِقَوْمِكَ فَحَذِّرْهُمْ ، فَخَرَجَ سَرِيعًا حَتَّى أَتَى مَكَّةَ فَصَرَخَ فِي الْمَسْجِدِ بِأَعْلَى صَوْتِهِ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ فِيمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ ، قَالُوا : فَمَهْ ؟ قَالَ : مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، قَالُوا : وَيْحَكَ وَمَا تُغْنِي عَنَّا دَارُكَ ؟ قَالَ : وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلَى دُورِهِمْ وَإِلَى الْمَسْجِدِ .
قَالَ : وَجَاءَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَأَسْلَمَا وَبَايَعَاهُ ، فَلَمَّا بَايَعَاهُ بَعَثَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى قُرَيْشٍ يَدْعُوَانِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ .
وَلَمَّا خَرَجَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَبَدِيلُ بْنُ وَرْقَاءَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامِدِينَ إِلَى مَكَّةَ بَعَثَ فِي إِثْرِهِمَا الزُّبَيْرَ وَأَعْطَاهُ رَايَتَهُ وَأَمَّرَهُ عَلَى خَيْلِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكِزَ رَايَتَهُ بِأَعْلَى مَكَّةَ بِالْحُجُونِ ، وَقَالَ : لَا تَبْرَحْ حَيْثُ أَمَرْتُكَ أَنْ تَرْكِزَ رَايَتِي حَتَّى آتِيَكَ ، وَمِنْ ثَمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ وَضُرِبَتْ هُنَاكَ قُبَّتُهُ ، وَأَمَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُضَاعَةَ وَبَنِي سُلَيْمٍ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَسْفَلَ مَكَّةَ وَبِهَا بَنُو بَكْرٍ قَدِ اسْتَنْفَرَتْهُ مْ قُرَيْشٌ وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَمَنْ كَانَ مِنَ الْأَحَابِيشِ ، أَمَرَتْهُمْ قُرَيْشٌ أَنْ يَكُونُوا بِأَسْفَلَ مَكَّةَ ، وَإِنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو ، وَكَانُوا قَدْ جَمَعُوا أُنَاسًا بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَالِدٍ وَالزُّبَيْرِ حِينَ بَعَثَهُمَا : لَا تُقَاتِلَا إِلَّا مَنْ قَاتَلَكُمْ ، وَأَمَرَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنْ كُدًي ، فَقَالَ سَعْدٌ حِينَ تَوَجَّهَ دَاخِلًا الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ ، فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اسْمَعْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَمَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : أَدْرِكْهُ فَخُذِ الرَّايَةَ مِنْهُ ، فَكُنْ أَنْتَ الَّذِي تَدْخُلُ بِهَا ، فَلَمْ يَكُنْ بِأَعْلَى مَكَّةَ مِنْ قِبَلِ الزُّبَيْرِ قِتَالٌ ، وَأَمَّا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ وَبَنِي بَكْرٍ وَالْأَحَابِيشِ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ ، فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ ، وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ قِتَالٌ غَيْرُ ذَلِكَ .
وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَرِيبٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ يُقَالُ لَهُ : سَلَمَةُ بْنُ الْمَيْلَاءِ ، مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، وَرَجُلَانِ يُقَالُ لَهُمَا : كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ [ وَخُنَيْسُ ] بْنُ خَالِدٍ ، كَانَا فِي خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، فَشَذَّا عَنْهُ وَسَلَكَا طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِهِ ، فَقُتِلَا جَمِيعًا . [ ص: 573 ]
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَهِدَ إِلَى أُمَرَائِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا أَحَدًا إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ ، إِلَّا [ أَنَّهُ قَدْ عَهِدَ ] فِي نَفَرٍ سَمَّاهُمْ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ ، وَإِنْ وُجِدُوا تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ . مِنْهُمْ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ فَارْتَدَّ مُشْرِكًا ، فَفَرَّ إِلَى عُثْمَانَ ، وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ ، فَغَيَّبَهُ حَتَّى أَتَى بِهِ [ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنِ اطْمَأَنَّ أَهْلُ مَكَّةَ ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ .
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ ، كَانَ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمِ بْنِ غَالِبٍ ] ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُصَدِّقًا ، وَكَانَ لَهُ مَوْلًى يَخْدِمُهُ وَكَانَ مُسْلِمًا ، فَنَزَلَ مَنْزِلًا وَأَمَرَ الْمَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ لَهُ تَيْسًا وَيَصْنَعَ لَهُ طَعَامًا وَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَلَمْ يَصْنَعْ لَهُ شَيْئًا فَعَدَا عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ ، ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا ، وَكَانَتْ لَهُ قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا مَعَهُ .
وَالْحُوَيْرثُ ، بْنُ [ نُقَيْذِ ] بْنِ وَهْبٍ ، كَانَ مِمَّنْ يُؤْذِيهِ بِمَكَّةَ .
ومِقْيَسُ بْنُ صَبَابَةَ ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ ، لِقَتْلِهِ الْأَنْصَارِيَّ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ خَطَئًا وَرُجُوعِهِ إِلَى قُرَيْشٍ مُرْتَدًّا .
وَسَارَّةُ ; مَوْلَاةٌ كَانَتْ لِبَعْضِ بَنِي الْمُطَّلِبِ كَانَتْ مِمَّنْ يُؤْذِيهِ بِمَكَّةَ .
وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ، فَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَهَرَبَ إِلَى الْيَمَنِ ، وَأَسْلَمَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، فَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّنَهُ ، فَخَرَجَتْ فِي طَلَبِهِ حَتَّى أَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ .
وَأُمًّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ ، فَقَتَلَهُ سَعْدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ ، اشْتَرَكَا فِي دَمِهِ ، وَأَمَّا مِقْيَسُ بْنُ صَبَابَةَ ، فَقَتَلَهُ تُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ ، وَأَمَّا قَيْنَتَا ابْنِ خَطَلٍ ; فَقُتِلَتْ إِحْدَاهُمَا وَهَرَبَتِ الْأُخْرَى حَتَّى اُسْتُؤْمِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَأَمَّنَهَا ، وَأَمَّا سَارَّةُ فَتَغَيَّبَتْ حَتَّى اُسْتُؤْمِنَ لَهَا فَأَمَّنَهَا ، فَعَاشَتْ حَتَّى أَوَطَأَهَا رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ فَرَسًا لَهُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالْأَبْطَحِ فَقَتَلَهَا ، وَأَمَّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ ، فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ .
فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ وَقَفَ قَائِمًا عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ، صَدَقَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ، أَلَا إِنَّ كُلَّ مَأْثَرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ [ ص: 574 ] يُدْعَى فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ ، إِلَّا سَدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمَهَا بِالْآبَاءِ ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ ، ثُمَّ تَلَا " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى " ( الْحُجُرَاتِ - 13 ) الْآيَةَ ، يَا أَهْلَ مَكَّةَ ، مَاذَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ ؟ قَالُوا : خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ ، قَالَ : اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَمْكَنَهُ مِنْ رِقَابِهِمْ عَنْوَةً ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَهْلُ مَكَّةَ الطُّلَقَاءَ .
ثُمَّ اجْتَمَعَ النَّاسُ لِلْبَيْعَةِ ; فَجَلَسَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصَّفَا ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَسْفَلَ مِنْهُ يَأْخُذُ عَلَى النَّاسِ ، فَبَايَعُوهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِيمَا اسْتَطَاعُوا ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيْعَةِ الرِّجَالِ بَايَعَ النِّسَاءَ .
قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ : خَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ يُرِيدُ جَدَّةَ لِيَرْكَبَ مِنْهَا إِلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ سَيِّدُ قَوْمِي ، وَقَدْ خَرَجَ هَارِبًا مِنْكَ لِيَقْذِفَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ ، فَأَمِّنْهُ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هُوَ آمِنٌ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي شَيْئًا يُعْرَفُ بِهِ أَمَانُكَ ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِمَامَتَهُ الَّتِي دَخَلَ بِهَا مَكَّةَ ، فَخَرَجَ بِهَا عُمَيْرٌ حَتَّى أَدْرَكَهُ بِجَدَّةَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ الْبَحْرَ فَقَالَ : يَا صَفْوَانُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي أُذَكِّرُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ أَنْ تُهْلِكَهَا ، فَهَذَا أَمَانُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جِئْتُكَ بِهِ ، فَقَالَ : وَيْلَكَ اُغْرُبْ عَنِّي فَلَا تُكَلِّمْنِي ، قَالَ : أَيْ صَفْوَانُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ، أَفْضَلُ النَّاسِ وَأَبَرُّ النَّاسِ ، وَأَحْلَمُ النَّاسِ ، وَخَيْرُ النَّاسِ ، ابْنُ عَمِّكَ عِزُّهُ عِزُّكَ وَشَرَفُهُ شَرَفُكَ وَمُلْكُهُ مُلْكُكَ . قَالَ : إِنِّي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي ، قَالَ : هُوَ أَحْلَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْرَمُ ، فَرَجَعَ بِهِ مَعَهُ حَتَّى وَقَفَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ صَفْوَانُ : إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّكَ أَمَّنْتَنِي ؟ قَالَ : صَدَقَ ، قَالَ فَاجْعَلْنِي فِي أَمْرِي بِالْخِيَارِ شَهْرَيْنِ ، قَالَ : أَنْتَ فِيهِ بِالْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ فَتْحَ مَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةَ آلَافٍ ، وَكَانَ فَتْحُ مَكَّةَ لِعَشْرِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ ، وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً [ يَقْصُرُ ] الصَّلَاةَ .
ثُمَّ خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ ، قَدْ نَزَلُوا حُنَيْنًا .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، [ ص: 575 ] أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا . . . " وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ : حَدَّثَنَا حَرْبٌ عَنْ يَحْيَى ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ " حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِين َ . أَلَا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبَلِي ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ، أَلَا وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ ، حَرَامٌ لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا ، وَلَا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَهَا إِلَّا مُنْشِدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرِ إِمَّا يُؤَدَّى وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شَاهٍ فَقَالَ : اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِلَّا الْإِذْخِرَ " .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِي النَّضِرِ - مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبِيدِ اللَّهِ - أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ تَقُولُ : ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ ، قَالَتْ : فَسَلَّمْتُ ، فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟ فَقُلْتُ : أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ : مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقُلْتُ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّي ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا أَجَرْتُهُ ، فُلَانُ بْنُ هُبَيْرَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ ، وَذَلِكَ ضُحًى .
قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ ) إِذَا جَاءَكَ نَصْرُ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ عَلَى مَنْ عَادَاكَ وَهُمْ قُرَيْشٌ ، ( وَالْفَتْحُ ) فَتْحُ مَكَّةَ .
( ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ( 2 ) )
( ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ) زمرا وأرسالا القبيلة بأسرها ، والقوم بأجمعهم من غير قتال . [ ص: 576 ]
قال الحسن : لما فتح الله - عز وجل - مكة على رسوله قالت العرب بعضها لبعض : إذا ظفر محمد بأهل الحرم - وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل - فليس لكم به يدان ، فكانوا يدخلون في دين الله أفواجا بعد أن كانوا يدخلون واحدا واحدا ، واثنين اثنين .
وقال عكرمة ومقاتل : أراد بالناس أهل اليمن :
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري حدثنا أحمد بن الكشميهني حدثنا علي بن حجر حدثنا إسماعيل بن جعفر حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا وأرق أفئدة الإيمان والحكمة يمانية " .
( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ( 3 ) )
( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) فإنك حينئذ لاحق به .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو النعمان ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر قال بعضهم : لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال : إنه ممن قد علمتم ، قال : فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم ، قال : وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني ، فقال : ما تقولون في قوله : " إذا جاء نصر الله والفتح " حتى ختم السورة ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا جاء نصرنا وفتح علينا ، وقال بعضهم : لا ندري ، ولم يقل بعضهم شيئا ، فقال لي : يا ابن عباس أكذلك تقول ؟ قلت : لا قال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه به ، " إذا جاء نصر الله والفتح " فتح مكة ، فذلك علامة أجلك " فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " يتأول القرآن . [ ص: 577 ]
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثني عبد الأعلى ، حدثنا داود عن عامر ، عن مسروق ، عن عائشة ; قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قول : " سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه " ، [ قالت : فقلت : يا رسول الله ، أراك تكثر من قول : " سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه ؟ فقال : أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي ، فإذا رأيتها أكثر من قول : سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه ، فقد رأيتها : " إذا جاء نصر الله والفتح " . فالفتح : فتح مكة ، " ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " . " ]
قال ابن عباس : لما نزلت هذه السورة علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نعيت إليه نفسه .
قال الحسن : أعلم أنه قد اقترب أجله فأمر بالتسبيح والتوبة ، ليختم له بالزيادة في العمل الصالح .
قال قتادة ومقاتل : عاش النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه السورة سنتين .
سُورَةُ الْمَسَدِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ( 1 ) )
( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الصَّفَا فَقَالَ : يَا صَبَاحَاهُ ، قَالَ : فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ ، فَقَالُوا لَهُ : مَالَكَ ؟ قَالَ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ مُصَبِّحَكُمْ أَوْ مُمَسِّيَكُمْ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي ؟ قَالُوا : بَلَى ، قَالَ : فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ : تَبًّا لَكَ ، أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا جَمِيعًا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ " إِلَى آخِرِهَا .
قَوْلُهُ : ( تَبَّتْ ) أَيْ : خَابَتْ وَخَسِرَتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ، [ أَيْ هُوَ ] ، أَخْبَرَ عَنْ يَدَيْهِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْسُهُ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي التَّعْبِيرِ بِبَعْضِ الشَّيْءِ عَنْ كُلِّهِ .
وَقِيلَ : " الْيَدُ " صِلَةٌ ، كَمَا يُقَالُ : يَدُ الدَّهْرِ وَيَدُ الرَّزَايَا وَالْبَلَايَا .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهَا مَالُهُ وَمُلْكُهُ ، يُقَالُ : فَلَانٌ قَلِيلُ ذَاتِ الْيَدِ ، يَعْنُونَ بِهِ الْمَالَ ، وَ " التَّبَابُ " : الْخَسَارُ وَالْهَلَاكُ .
وَأَبُو لَهَبٍ : هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى . قَالَ مُقَاتِلٌ : كُنِّيَ بِأَبِي لَهَبٍ لِحُسْنِهِ وَإِشْرَاقِ وَجْهِهِ . [ ص: 582 ]
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ " أَبِي لَهْبٍ " سَاكِنَةَ الْهَاءِ ، وَهِيَ مِثْلُ : نَهْرٍ وَنَهَرٍ . وَاتَّفَقُوا فِي " ذَاتَ لَهَبٍ " أَنَّهَا مَفْتُوحَةُ الْهَاءِ لِوِفَاقِ الْفَوَاصِلِ .
( وَتَبَّ ) أَبُو لَهَبٍ ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ : وَقَدْ تَبَّ . قَالَ الْفَرَّاءُ : الْأَوَّلُ دُعَاءٌ ، وَالثَّانِي خَبَرٌ ، كَمَا يُقَالُ : أَهْلَكَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ فَعَلَ .
( ما أغنى عنه ماله وما كسب ( 2 ) سيصلى نارا ذات لهب ( 3 ) وامرأته حمالة الحطب ( 4 ) )
( ما أغنى عنه ماله وما كسب ) قال ابن مسعود : لما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرباءه إلى الله - عز وجل - قال أبو لهب : إن كان ما يقول ابن أخي حقا فإني أفتدي نفسي ومالي وولدي ، فأنزل الله تعالى :
( ما أغنى عنه ماله ) أي ما يغني ، وقيل : أي شيء يغني عنه ماله ، أي : ما يدفع عنه عذاب الله ما جمع من المال ، وكان صاحب مواش ( وما كسب ) قيل : يعني ولده ، لأن ولد الإنسان من كسبه كما جاء في الحديث : " أطيب ما يأكل أحدكم من كسبه ، وإن ولده من كسبه " . ثم أوعده بالنار فقال : ( سيصلى نارا ذات لهب ) أي نارا تلتهب عليه . ( وامرأته ) أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان ( حمالة الحطب ) قال ابن زيد والضحاك : كانت تحمل الشوك والعضاة فتطرحه في طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأصحابه لتعقرهم ، وهي رواية عطية عن ابن عباس .
وقال قتادة ، ومجاهد ، والسدي : كانت تمشي بالنميمة وتنقل الحديث فتلقي العداوة بين الناس ، [ ص: 583 ] وتوقد نارها كما توقد النار [ بالحطب ] . يقال : فلان يحطب على فلان ، إذا كان يغري به .
وقال سعيد بن جبير : حمالة الخطايا ، دليله : قوله : " وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم " ( الأنعام - 31 ) .
قرأ عاصم " حمالة " بالنصب على الذم ، كقوله : " ملعونين " .
وقرأ . الآخرون بالرفع ، وله وجهان : أحدهما سيصلى نارا هو وامرأته حمالة الحطب . والثاني : وامرأته حمالة الحطب في النار أيضا .
( في جيدها حبل من مسد ( 5 ) )
( في جيدها ) في عنقها ، وجمعه أجياد ، ( حبل من مسد ) واختلفوا فيه ، قال ابن عباس ، وعروة بن الزبير : سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا ، تدخل في فيها وتخرج من دبرها ، ويكون سائرها في عنقها ، وأصله من " المسد " وهو الفتل ، و " المسد " ما فتل وأحكم من أي شيء كان ، يعني : السلسلة التي في عنقها ففتلت من الحديد فتلا محكما .
وروى الأعمش عن مجاهد : " من مسد " أي من حديد ، والمسد : الحديدة التي تكون في البكرة ، يقال لها المحور .
وقال الشعبي ومقاتل : من ليف . قال الضحاك وغيره : في الدنيا من ليف ، وفي الآخرة من نار . وذلك الليف هو الحبل الذي كانت تحتطب به ، فبينما هي ذات يوم حاملة حزمة فأعيت فقعدت على حجر تستريح فأتاها ملك فجذبها من خلفها فأهلكها .
قال ابن زيد : حبل من شجر ينبت باليمن يقال له مسد .
قال قتادة : قلادة من ودع وقال الحسن : كانت خرزات في عنقها [ فاخرة ] وقال سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة في عنقها فاخرة ، فقالت : لأنفقنها في عداوة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 07:09 AM
الحلقة (444)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ الْإِخْلَاصِ
مَكِّيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية 4
سُورَةُ الْإِخْلَاصِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( 1 ) اللَّهُ الصَّمَدُ ( 2 ) )
( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) رَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ .
وَرَوَى أَبُو ظَبْيَانِ ، وَأَبُو صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنَ رَبِيعَةَ أَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عَامِرٌ : إِلَامَ تَدْعُونَا يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ : إِلَى اللَّهِ ، قَالَ : صِفْهُ لَنَا أَمِنْ ذَهَبٍ هُوَ ؟ أَمْ مِنْ فِضَّةٍ ؟ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ ؟ أَمْ مِنْ خَشَبٍ ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فَأَهْلَكَ اللَّهُ أَرْبَدَ بِالصَّاعِقَةِ وَعَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ بِالطَّاعُونِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ : جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا : صِفْ لَنَا رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَعَلَّنَا نُؤْمِنُ بِكَ ، فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ نَعْتَهُ فِي التَّوْرَاةِ ، فَأَخْبِرْنَا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ ؟ وَهَلْ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ ؟ وَمَنْ يَرِثُ مِنْهُ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ . [ ص: 588 ]
( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) أَيْ وَاحِدٌ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْأَحَدِ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ : قُلْ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ . ( اللَّهُ الصَّمَدُ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : " الصَّمَدُ " الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ .
قَالَ الشَّعْبِيُّ : الَّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ .
وَقِيلَ : تَفْسِيرُهُ مَا بَعْدَهُ ، رَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : " الصَّمَدُ " الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ; لِأَنَّ مَنْ يُولَدُ سَيَمُوتُ ، وَمَنْ يَرِثُ يُورَثُ مِنْهُ .
قَالَ أَبُو وَائِلٍ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ : هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدِ انْتَهَى سُؤْدُدُهُ ، وَهُوَ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ السُّؤْدُدِ . وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا : هُوَ الْكَامِلُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ . وَقِيلَ : هُوَ السَّيِّدُ الْمَقْصُودُ فِي [ الْحَوَائِجِ . وَقَالَ السُّدِّيُّ ] هُوَ الْمَقْصُودُ إِلَيْهِ فِي الرَّغَائِبِ الْمُسْتَغَاثُ بِهِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ . تَقُولُ الْعَرَبُ : صَمَدْتُ فُلَانًا أَصْمُدُهُ صَمْدًا - بِسُكُونِ الْمِيمِ - إِذَا قَصَدْتُهُ [ وَالْمَقْصُودُ ] : صَمَدٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : " الصَّمَدُ " الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ : " الصَّمَدُ " الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ . وَقَالَ الرَّبِيعُ : الَّذِي لَا تَعْتَرِيهِ الْآفَاتُ . قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ : الَّذِي لَا عَيْبَ فِيهِ .
( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ( 3 ) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ( 4 ) )
( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) قَرَأَ حَمْزَةُ وَإِسْمَاعِيلُ : " كُفْؤًا " سَاكِنَةُ الْفَاءِ مَهْمُوزًا ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الْفَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْفَاءِ مَهْمُوزًا ، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ صَحِيحَةٌ ، [ وَمَعْنَاهُ ] الْمِثْلُ ، أَيْ : هُوَ أَحَدٌ .
وَقِيلَ : هُوَ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ ، مَجَازُهُ : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ كُفُوًا أَيْ مِثْلًا . [ ص: 589 ]
قَالَ مُقَاتِلٌ : قَالَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ : الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ : عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ، وَقَالَتِ النَّصَارَى : الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ وَنَفَى عَنْ ذَاتِهِ الْوِلَادَةَ وَالْمِثْلَ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلهُ : لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي ، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ . وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ : اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ " .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " وَيُرَدِّدُهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْأَصْفَهَانِي ُّ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فَارِسٍ ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ : سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ يُحَدِّثُ عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ " ؟ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : اقْرَأُوا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : أَقْبَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَسَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " وَجَبَتْ " فَسَأَلْتُهُ : مَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ [ ص: 590 ] فَقَالَ : " الْجَنَّةُ " . فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَأَرَدْتُ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى الرَّجُلِ فَأُبَشِّرُهُ ، ثُمَّ فَرَقْتُ أَنْ يَفُوتَنِي الْغَدَاءُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَآثَرْتُ الْغَدَاءَ ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى الرَّجُلِ فَوَجَدْتُهُ قَدْ ذَهَبَ .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنِّي أُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " : قَالَ : " حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ " .
سُورَةُ الْفَلَقِ
مَدَنِيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ( 1 ) )
( قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِ الْفَلَقِ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - : كَانَ غُلَامٌ مِنَ الْيَهُودِ يَخْدِمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [ فَدَبَّتْ ] إِلَيْهِ الْيَهُودُ ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَخَذَ مُشَاطَةَ رَأْسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِدَّةَ أَسْنَانٍ مِنْ مُشْطِهِ ، فَأَعْطَاهَا الْيَهُودَ فَسَحَرُوهُ فِيهَا ، وَتَوَلَّى ذَلِكَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ ، رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ ، فَنَزَلَتِ السُّورَتَانِ فِيهِ
أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ [ عَبْدِ الْحَكَمِ ] أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ [ هِشَامٍ ] عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : طُبَّ حَتَّى أَنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ صَنَعَ شَيْئًا وَمَا صَنَعَهُ ، وَأَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ ، ثُمَّ قَالَ : أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : جَاءَنِي رَجُلَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ . فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : مَا وَجَعُ الرَّجُلِ ؟ قَالَ الْآخَرُ : هُوَ مَطْبُوبٌ . قَالَ : مَنْ طَبَّهُ ؟ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ قَالَ : فِي مَاذَا ؟ قَالَ : فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ . قَالَ : فَأَيْنَ هُوَ ؟ قَالَ : فِي ذَرْوَانَ - وَذَرْوَانُ بِئْرٌ فِي بَنِي زُرَيْقٍ - قَالَتْ عَائِشَةُ : فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا [ ص: 594 ] نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ ، وَلَكَأَنَّ نَخْلُهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ . قَالَتْ : فَقُلْتُ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَّا أَخْرَجْتَهُ ؟ قَالَ : " أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ بِهِ شَرًّا " .
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ تَحْتَ صَخْرَةٍ فِي الْبِئْرِ ، فَرَفَعُوا الصَّخْرَةَ وَأَخْرَجُوا جُفَّ الطَّلْعَةِ ، فَإِذَا فِيهِ مُشَاطَةُ رَأْسِهِ ، وَأَسْنَانُ مُشْطِهِ
أَخْبَرَنَا الْمُطَهَّرُ بْنُ عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصَّالِحَانِيّ ُ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ : سَحَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ ، قَالَ : فَاشْتَكَى لِذَلِكَ أَيَّامًا . قَالَ : فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ ، فَقَالَ : إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ سَحَرَكَ وَعَقَدَ لَكَ عُقَدًا ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا فَاسْتَخْرَجَهَ ا فَجَاءَ بِهَا ، فَجَعَلَ كُلَّمَا حَلَّ عُقْدَةً وَجَدَ لِذَلِكَ خِفَّةً ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ كَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ ، فَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِ وَلَا رَأَوْهُ فِي وَجْهِهِ قَطُّ .
قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ : كَانَ فِي وَتَرٍ عُقِدَ عَلَيْهِ إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً . وَقِيلَ : كَانَتِ الْعُقَدُ مَغْرُوزَةٌ بِالْإِبْرَةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ وَهُمَا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً . سُورَةُ الْفَلَقِ خَمْسُ آيَاتٍ ، وَسُورَةُ النَّاسِ سِتُّ آيَاتٍ ، كُلَّمَا قُرِئَتْ آيَةٌ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ، حَتَّى انْحَلَّتِ الْعُقَدُ كُلُّهَا ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ .
وَرُوِيَ : أَنَّهُ لَبِثَ فِيهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ ، فَنَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَا نِ .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ هِلَالٍ الصَّوَّافُ ، حَدَّثَنَا [ عَبْدُ الْوَارِثِ ] حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ : أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : " بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ ، بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ وَاللَّهُ يَشْفِيكَ " . [ ص: 595 ]
قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) أَرَادَ بِالْفَلَقِ : الصُّبْحُ ، وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ " فَالِقُ الْإِصْبَاحِ " .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : إِنَّهُ سِجْنٌ فِي جَهَنَّمَ . وَقَالَ الْكَلْبِيُّ : وَادٍ فِي جَهَنَّمَ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ : يَعْنِي الْخَلْقَ ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ .
( مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ( 2 ) وَمِنْ شَرِ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ( 3 ) )
( مِنْ شَرِ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُغَلِّسُ ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ [ خَالِهِ ] الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : أَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِي فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ فَقَالَ : " يَا عَائِشَةُ ، اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ . هَذَا غَاسِقٌ إِذَا وَقَبَ " .
فَعَلَى هَذَا : الْمُرَادُ بِهِ : الْقَمَرُ إِذَا خَسَفَ وَاسْوَدَّ " وَقَبَ " ، أَيْ : دَخَلَ فِي الْخُسُوفِ وَأَخَذَ فِي الْغَيْبُوبَةِ [ وَأَظْلَمَ ] .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " الْغَاسِقُ " : اللَّيْلُ إِذَا أَقْبَلَ بِظُلْمَتِهِ مِنَ الْمَشْرِقِ وَدَخَلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَظْلَمَ ، وَ " الْغَسَقُ " : الظُّلْمَةُ ، يُقَالُ غَسَقَ اللَّيْلُ [ وَأَغْسَقَ ] إِذَا أَظْلَمَ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ . يَعْنِي اللَّيْلَ إِذَا أَقْبَلَ وَدَخَلَ وَ " الْوُقُوبُ " : الدُّخُولُ ، وَهُوَ دُخُولُ اللَّيْلِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ .
قَالَ مُقَاتِلٌ : يَعْنِي ظُلْمَةَ اللَّيْلِ إِذَا دَخَلَ سَوَادُهُ فِي ضَوْءِ النَّهَارِ .
وَقِيلَ : سُمِّيَ اللَّيْلُ غَاسِقًا ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنَ النَّهَارِ ، وَالْغَسَقُ : الْبَرْدُ . [ ص: 596 ]
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : [ يَعْنِي ] الثُّرَيَّا إِذَا سَقَطَتْ . وَيُقَالُ : إِنَّ الْأَسْقَامَ تَكْثُرُ عِنْدَ وُقُوعِهَا وَتَرْتَفِعُ عِنْدَ طُلُوعِهَا .
( وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ( 4 ) وَمِنْ شَرٍ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ( 5 ) )
( وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) يَعْنِي السَّوَاحِرَ اللَّاتِي يَنْفُثْنَ فِي عُقَدِ الْخَيْطِ حِينَ يَرْقَيْنَ عَلَيْهَا . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : هُنَّ بَنَاتُ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ سَحَرْنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . ( وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) يَعْنِي [ الْيَهُودَ ] فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَحْسُدُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
ابو وليد البحيرى
2022-12-23, 07:10 AM
الحلقة (445)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ النَّاسِ
مَدَنِيَّةٌ
الاية 1 إلى الاية6
سُورَةُ النَّاسِ
مَدَنِيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ النَّاسِ ( 1 ) مَلِكِ النَّاسِ ( 2 ) إِلَهِ النَّاسِ ( 3 ) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ( 4 ) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ( 5 ) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ( 6 ) )
( قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ) يَعْنِي الشَّيْطَانَ ، يَكُونُ مَصْدَرًا وَاسْمًا .
قَالَ الزَّجَّاجُ : يَعْنِي : الشَّيْطَانَ ذَا الْوَسْوَاسِ " الْخَنَّاسِ " الرَّجَّاعِ ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ الْإِنْسَانِ ، فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ وَإِذَا غُفِلَ وَسْوَسَ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : الْخَنَّاسُ لَهُ خُرْطُومٌ كَخُرْطُومِ الْكَلْبِ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ خَنَسَ . وَيُقَالُ : رَأْسُهُ كَرَأْسِ الْحَيَّةِ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى ثَمَرَةِ الْقَلْبِ يُمَنِّيهِ وَيُحَدِّثُهُ ، فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ وَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ رَجَعَ فَوَضَعَ رَأْسَهُ ، فَذَلِكَ : ( الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) بِالْكَلَامِ الْخَفِيِّ الَّذِي يَصِلُ مَفْهُومُهُ إِلَى الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ . ( مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ) يَعْنِي يَدْخُلُ فِي الْجِنِّيِّ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِنْسِيِّ ، وَيُوَسْوِسُ لِلْجِنِّيِّ كَمَا يُوَسْوِسُ لِلْإِنْسِيِّ ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ . [ ص: 600 ]
وَقَوْلُهُ : " فِي صُدُورِ النَّاسِ " أَرَادَ بِالنَّاسِ : مَا ذَكَرَ مِنْ بَعْدُ . وَهُوَ الْجِنَّةُ وَالنَّاسُ ، فَسَمَّى الْجِنَّ نَاسًا ، كَمَا سَمَّاهُمْ رِجَالًا فَقَالَ : " وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ " ( الْجِنِّ - 6 ) .
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ جَاءَ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ فَوَقَعُوا ، فَقِيلَ : مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : أُنَاسٌ مِنَ الْجِنِّ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : أَثْبَتَ أَنَّ الْوَسْوَاسَ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْإِنْسَانِ كَالْوَسْوَسَةِ لِلشَّيْطَانِ ، فَجَعَلَ " الْوَسْوَاسَ " مِنْ فِعْلِ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ جَمِيعًا ، كَمَا قَالَ : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ " ( الْأَنْعَامِ - 112 ) كَأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْ شَرِّ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ جَمِيعًا .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ [ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ ] بْنُ مُحَمَّدٍ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ بَيَانٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ : " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " وَ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْعَدْلُ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَرْثَدٍ ، أَخْبَرَنِي أَبِي ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ : " أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ مَا تَعَوَّذَ الْمُتَعَوِّذُو نَ " ؟ قُلْتُ : بَلَى ، قَالَ : " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " وَ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " .
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِي ُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ الشَّاشِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ عُقَيْلٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ فَنَفَثَ فِيهِمَا ، فَقَرَأَ فِيهِمَا : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " وَ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " وَ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ . يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . [ ص: 601 ]
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَا تِ وَيَنْفُثُ ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ عَنْهُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهِمَا .
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي وَأَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَعْقِلٍ الْمَيْدَانِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ " .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ يَزِيدَ - يَعْنِي - ابْنَ الْهَادِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ " . تَمَّ .
تم بفضل الله الانتهاء من النقل فى يوم الجمعة
29/جمادى الاولى /1444 هــــــ
23/ديسمبر/2022 مــــ
Powered by vBulletin® Version 4.2.2 Copyright © 2025 vBulletin Solutions، Inc. All rights reserved.