المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بعد رمضان .. أي الفريقين أنت؟



ابو وليد البحيرى
2019-06-07, 05:20 PM
بعد رمضان .. أي الفريقين أنت؟


فضيلة الشيخ: أبوإسحاق الحويني


في مرور الأيام مدكر، وفي تصرم الآجال عبر وأي عبر! فإن الأيام تمضي جميعًا، والأعمار تطوى سريعًا، وإنما أنت يا ابن آدم أيام مجموعة، كلما ذهب يوم ذهب بعضك، وأعمالك فيه مرصودة لك، إما في صحيفة حسناتك أو سيئاتك، لقد كنا نعيش رمضان بخيراته وبركاته، ونسعد بقيام ليله وصيام نهاره، ونفرح بتنافس المؤمنين فيه على الخيرات، واجتماعهم على الصلوات، وإمساكهم عن المعاصي والمنكرات، أما اليوم فقد انقضت تلك الأيام، وتم الصيام والقيام، وانطفأت تلك المصابيح، وانقطع اجتماعنا لصلاة التراويح، ورجعنا إلى العادة، وفارقنا شهر الطاعة والعبادة.
وإن لنا فيما مضى من أعمارنا عبرًا، وفيما قدمنا من الأعمال عظة وذكرى، فما منا من أحد إلا وقد فعل خيراً وشراً، وأسلف معروفاً ومنكراً، وخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاًً؛ فلنقارن بين ما كان منا من سيئات وحسنات، ولننظر مقدار الربح في هذا، والخسارة في ذاك، لندرك فضل الطاعة على المعصية، وحسن عواقب الطاعة في الدنيا والآخرة.
الطاعة
أما الطاعة؛ فقد ذهب تعبها ومشقتها، وثبت عند الله أجرها وذخرها، وسيجدها صاحبها أحوج ما يكون إليها: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً}، سيجدها مؤنساً له في قبره، وظلاً له يوم حشره، وسبباً لفوزه برضوان الله -تعالى- وجنته: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}، {كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية}.
هذا جزاء المطيع في الآخرة، أما في الدنيا فإن له الحياة الطيبة، والطمأنينة الكاملة، والعيشة الهنيّة، والسعادة الحقيقية، وسيجد من توفيق الله له وإعانته، وتسديده وهدايته، وحفظه وحراسته، وإعزازه وإكرامه، وتيسير أموره، وتوسيع رزقه، وطرح القبول له في الأرض، والمحبة في قلوب الخلق، ما من أعظم العون له في أمور دينه ودنياه، مع ما يشعر به من لذة الانتصار على النفس والشيطان، وحلاوة القرب من الرحمن، والشعور بأنه لن يغلب والله نصيره، ولن يخذل والله ظهيره، ولن يشقى والله مسعده ومعينه، ولن يضل والله هاديه ودليله، كما قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ}.

وهذه هي المعية الخاصة، والولاية الخاصة، التي تقتضي النصر والتأييد، والهداية والتسديد، والتوفيق والإعانة، وللمؤمن من هذه الولاية الخاصة، والمعية الخاصة بقدر طاعته لربه، وإحسانه في القيام بحقوق الله -تعالى- وحقوق خلقه.
المعصية
أما المعصية؛ فإن فاعلها قد يجد لذة حين اقترافها، ولكنه ينسى أنها لذة موقوتة، وأن لها شؤماً عظيماً، وضرراً كبيراً، يلحقه في دنياه وآخرته، أما في الدنيا؛ فإنه يجد من الآلام والحسرات، ومن ضيق الصدر ونكد العيش، والتنغيص والتكدير، والقلق والاضطراب، وقلة التوفيق، وتعسير أموره عليه، ومن الذلة والمهانة، وانحطاط القدر وسقوط المنزلة، وظلمة القلب وسواد الوجه، وحرمان العلم والرزق، أضعاف أضعاف ما وجده من تلك اللذة، هذا فضلاً عما قد يصيبه في الدنيا من العار والفضيحة، أو الآفات السماوية، أو العقوبة على تلك المعصية بحد أو تعزير.
ولذا قال ربنا -سبحانه- محذرًا وناصحًا عباده: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: فليخش أولئك المحادون لله -تعالى- بالطغيان، والمبارزون له بالعصيان، أن تصيبهم فتنة، أي: زيغ في قلوبهم، وضلال عن الحق، وعماية بعد الهداية؛ لأنهم لم يشكروا نعمة الإيمان، ولم يرعوها حق رعايتها؛ فلا يأمنوا أن تسلب منهم هذه النعمة؛ لأن المعاصي عدو الإيمان، وبريد الكفر، وسبب غضب الرب ومقته، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: في الدنيا بآفة سماوية أو حد أو تعزير، وفي الآخرة بعذاب النار، وبئس القرار.
أما في الآخرة؛ فإن هذه السيئة قد كتبت على صاحبها، وسيجد جزاءها وسوء عاقبتها يوم الجزاء والحساب: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، يوم يقول المجرمون وهم خائفون نادمون: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، لقد وجدوا ما عملته أيديهم، واقترفته جوارحهم، ولا يظلم ربك أحدا، هذا هو حال العاصي مع ذنوبه إلا إذا أسعفه الله -تعالى- بتوبة صادقة نصوح، وقد صدق الشاعر:

إن أهنا عيشة قضَّيتها


ذهبت لذاتها، والإثم حلّ.
أي الفريقين أنت؟
فانظر أيها المسلم من أي الفريقين أنت؟ واعلم أن الجزاء من جنس العمل، وأنه على قدر عملك في هذه الدار تكون منزلتك في دار القرار: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}.
انقضى رمضان
لقد انقضى رمضان، وتصرمت أيامه، وتم صيامه وقيامه، وطويت صحائفه بما قدمنا فيها من خير أو شر؛ فيا ليت شعري من الفائز منا فنهنيه؟! ومن المحروم منا فنعزيه؟! كم هو محروم من حرم خير رمضان، وكم هو خاسر من فاته المغفرة والرضوان؟!
حال السلف
وقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من رده، وهؤلاء هم الذين مدحهم الله بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله -عز وجل-؟ قال: «لا، يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصلون، ويصومون، ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم» حديث صحيح رواه أحمد والترمذي وابن أبي حاتم.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله -عز وجل- يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، وقال فضالة بن عبيد: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل، أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
أسباب القبول
وإن من أسباب القبول، ودلائل التوفيق: إتْباع الحسنة بالحسنة، والمداومة على فعل الطاعة، والبعد عن المعصية، قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة: السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة: الحسنة بعدها.

عمل المؤمن لا ينقضي
وأخيرًا؛ فإنْ كان رمضان قد انقضى؛ فإن عمل المؤمن لا ينقضي إلا بالموت، قال الله -تعالى-: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، يعني الموت، وقال عن عيسى -عليه السلام-: «وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً»، وبئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، حتى كأنما يعبدون رمضان، لا رب رمضان! والله -تعالى- لا يرضى من عبده أن يكون (ربانياً) في رمضان: يسجد ويركع، ويبتهل ويتضرع، ويخضع ويخشع، ويبذل ويتبرع؛ فإذا انقضى رمضان انقلب من رباني إلى «حيواني» أو «شيطاني»؛ فإن من الناس من يجتهد فيه بأنواع الطاعات؛ فإذا انقضى رمضان، هجروا القرآن، وتكاسلوا عن الطاعة، وتركوا الصلاة مع الجماعة، وودعوا الصيام والقيام، وأقبلوا على المعاصي والآثام؛ فهدموا ما بنوا، ونقضوا ما أبرموا، واستدبروا الطاعات بالمعاصي، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وبدلوا نعمة الله كفراً، وصاروا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، وتلك والله هي النكسة المردية، والخسارة الفادحة؛5 ولذلك كان بعض السلف يقولون: كن ربانياً ولا تكن رمضانيا.

ابو وليد البحيرى
2019-06-07, 05:28 PM
ثم ماذا بعد رمضان؟


للعلامة محمد بن صالح العثيمين-رحمه الله




لقد كنا نرتقب مجيء شهر رمضان، نقول: بقي عليه شهر، أو شهران، أو ثلاثة، فجاء الشهر ثم خلفناه وراء ظهورنا، وهكذا كل مستقبل للمرء يرتقبه، جاء ثم يمر به ويخلفه وراءه إلى أن ينتهي به الأجل، وليت شعري ماذا يكون عليه الموت، إن الإنسان ينبغي له: أن يهتم لما يكون عليه موته لا متى يكون موته، وأين يكون موته؟
لقد حل بنا شهر رمضان شهرًا كريمًا فأودعناه ما شاء الله من الأعمال، ثم فارقنا سريعًا شاهدًا لنا أو علينا، إن مِنَ الناس مَنْ فرحوا بفراقه؛ لأنهم تخلصوا منه، تخلصوا من الصيام والعبادات التي كانت ثقيلة عليهم، وإن من الناس من فرح بتمامه؛ لأنهم تخلصوا به من الذنوب والآثام بما قاموا به فيه من الأعمال الصالحة التي استحقوا بها وعد الله بالمغفرة؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا: غفر له ما تقدم من ذنبه»، «ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا: غفر له ما تقدم من ذنبه»، «ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه».
أسباب ثلاثة
فهذه أسباب ثلاثة عظيمة لمغفرة الذنوب في شهر رمضان الذي فارقناه وودعناه، وإن الفرق بين الفرحين عظيم، وإن علامة الفرح بفراقه: أن يعاود الإنسان المعاصي بعده، فيتهاون بالواجبات، ويتجرأ على المحرمات، وتظهر آثار ذلك في المجتمع فيقل المصلون في المساجد، وينقصون نقصًا عظيمًا ملحوظًا، ومن ضيع صلاته فهو لما سواها أضيع؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وإن المعاصي بعد الطاعات ربما تحيط بها وتكون أكثر منها وأعظم فلا يكون للعامل سوى التعب، قال بعض السلف: «ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى؛ كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة على رد الحسنة وعدم قبولها»؛ يقول الله - عز وجل -: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}. ( المائدة: 49).
مواسم الخير
أتظنون أن مواسم الخير إذا انتهت فقد انقضى عمل المؤمن؟ إن هذا الظن ظن لا أساس له من الصحة، إن عمل المؤمن لا ينقضي بانقضاء مواسم العمل، إن عمل المؤمن عمل دائب دائم لا ينقضي إلا بالموت؛ كما قال الله - تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. ( آل عمران: 102 )، وقال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}. ( الحجر: 99 )، أي: حتى يأتيك الموت.
زمن العمل لم ينقطع
لئن انقضى شهر الصيام فإن زمن العمل لم ينقطع، لئن انقضى صيام رمضان فإن الصيام لا يزال مشروعًا - ولله الحمد - «فمن صام رمضان وأتبعه بستة أيام من شوال كان كصيام الدهر»، وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صيام الاثنين والخميس، وقال: «إن الأعمال تعرض فيهما على الله فأحب: أن يعرض عملي وأنا صائم»، وأوصى - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة من أصحابه - ووصيته لواحد من أصحابه وصية لأمته - صلى الله عليه وسلم - كلها -: «أوصى أبا هريرة وأبا ذر وأبا الدرداء - رضي الله عنهم -: أن يصوموا ثلاثة أيام من كل شهر»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله».
عشر ذي الحجة
وحث صلى الله عليه وسلم على العمل الصالح في عشر ذي الحجة ومنه الصيام، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -: «أنه كان لا يدع صيام عشر ذي الحجة»، وقال - صلى الله عليه وسلم - في صوم يوم عرفة: «يكفر سنتين ماضية ومستقبلة»، يعني: لغير الحاج؛ فإن الحاج لا يصوم في عرفة. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم»، وقال في صوم يوم العاشر منه: «يكفر سنة ماضية». وقالت عائشة - رضي الله عنها -: «ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم في شهر تعني تطوعًا ما كان يصوم في شعبان؛ كان يصومه إلا قليلا».
الصيام لم ينقطع
هذه أيام يشرع فيها الصيام، إذًا: فالتعبد لله بالصيام لم ينقطع - ولله الحمد - طول السنة، ولئن انقضى قيام رمضان فإن القيام لا يزال مشروعًا كل ليلة من ليالي السنة، حث عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ورغب فيه، وقال: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل»، وكان - صلى الله عليه وسلم - كما قال عنه ربه - جل وعلا -: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ}. ( المزمل: 20 )، وقال تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}. ( الشعراء: 218 - 219 ). وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أن «الله - عز وجل - ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر؛ فيقول: «من يدعوني؟ فأستجيب له. من يسألني؟ فأعطيه. من يستغفرني؟ فأغفر له»، فتعرضوا - أيها المسلمون - لنفحات الله في هذا الجزء من الليل؛ لعلكم تصيبون رحمة من عنده، لعلكم تدعونه فيستجيب لكم، تسألونه فيعطيكم، تستغفرونه فيغفر لكم، اللهم وفقنا لذلك وأعنا عليه يا رب العالمين.
سبل الخيرات
لقد يسر الله لكم سبل الخيرات، وفتح أبوابها، ودعاكم لدخولها، وبين لكم ثوابها، فهذه الصلوات الخمس آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين: «هي خمس في الفعل وخمسون في الميزان»، من أقامها كانت كفارة له ونجاة يوم القيامة، شرعها الله لكم وأكملها بالرواتب التابعة لها، وهي: «اثنتا عشرة ركعة: أربع قبل الظهر بسلامين، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، من صلاهن بنى الله له بيتًا في الجنة»، وتختص راتبة الفجر بخصائص منها: «أنها خير من الدنيا وما فيها»، كما صح ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنها: المحافظة عليها في الحضر والسفر، ومنها: «أنها تخفف»، ومنها: أنه يقرأ فيها بآيات معينة أو سور معينة. يقرأ فيها في الركعة الأولى: قل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: بسورة الإخلاص بعد الفاتحة، أو يقرأ فيها: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}. (البقرة: 36) إلى آخر الآية في سورة البقرة {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}. (آل عمران: 64). في آل عمران الأولى في الركعة الأولى والثانية في الركعة الثانية.
الوتر
وهذا الوتر سنة مؤكدة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله، أما فعله: فكان - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يجعل آخر صلاته بالليل وترا، وأما قوله؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من خاف: ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع: أن يقوم من آخر الليل فليوتر آخر الليل؛ فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل»، فالوتر سنة مؤكدة لا ينبغي للإنسان تركه، حتى أن أهل العلم اختلفوا في وجوبه فمنهم من أوجبه ومنهم من أكده، وقال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: «من ترك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة».
الأذكار
وهذه الأذكار خلف الصلوات المكتوبة كان النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: «إذا سلم من صلاته المكتوبة استغفر ثلاثة وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام»، «ومن سبح الله دبر كل صلاة ثلاث وثلاثين، وحمد الله ثلاث وثلاثين، وكبر الله ثلاث وثلاثين، فتلك تسع وتسعون، وقال: تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر».
الوضوء
وهذا الوضوء! «من توضأ فأسبغ الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء».
الإنفاق
أما النفقات المالية فإنها لا تزال مشروعة إلى الموت على مدار السنة: الزكوات، والصدقات، والمصروفات على الأهل والأولاد، بل المصروفات على الإنسان نفسه صدقة، «ما من مؤمن ينفق نفقة يبتغي بها وجه الله إلا أثيب عليها»، «وإن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها»، «إذا أكلت فسمِّ الله في أول الأكل»، واحمد الله في آخره، وإذا شربت فسمِّ الله في أول الشرب واحمد الله في آخره، «وإن الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالصائم لا يفطر والقائم لا يفتر»، والساعي على الأرملة: هو الذي يسعى برزقهم ويقوم بحاجتهم، وعائلة الإنسان الصغار والضعفاء الذين لا يستطيعون القيام بأنفسهم هم من المساكين، فالسعي على عائلته كالجهاد في سبيل الله، أو كالصيام الدائم والقيام المستمر، يا لها من نعمة وفضل أنعم الله بها على عباده، فنسأل الله - تعالى - أن يرزقنا شكرها، وأن يزيدنا منها بمنه وكرمه.
إن طرق الخيرات كثيرة فأين السالكون؟ وإن أبوابها لمفتوحة فأين الداخلون؟ وإن الحق لواضح لا يزيغ عنه إلا الهالكون! فخذوا - عباد الله - من كل طاعة بنصيب، فقد قال الله - عزوجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. ( الحج: 77 )، واعلموا أنكم مفتقرون لعبادة الله أشد من افتقاركم إلى الطعام والشراب والهواء والنوم، إنكم مفتقرون لذلك في كل وقت، وليست العبادة فقط في رمضان؛ لأنكم تعبدون الله والله حي لا يموت.