المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاغترابُ



ابو وليد البحيرى
2019-05-23, 04:13 PM
الاغترابُ
عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق




إيَّاكَ والسُّكْنى بأرْضِ مذلَّةٍ *** تُعَدُّ فيها مُسِيئاً وإن كنتَ مُحْسنا
تقلباتُ أحوالِ الإنسان في حياته تُلهمه كثيراً من العِبَرِ، وتجعله في ظلِّ تغيراتٍ متنوعة في معيشته، تختلفُ من حالٍ إلى حالٍ؛ لاختلافِ أسبابِ ذلك، وبقاءُ الحالِ مُحالٌ.
حين يكون الإنسانُ في محلٍّ هو ليسَ لهُ، ولا يكون لائقاً بقدرِ ما فيه، ولا يعرفُ أحدٌ ما لديه، فإنه سيكون ضائعاً تائهاً، يتعبُ في مسيرته نحو مراداته؛ لقوة الذاتيةِ عنده والتي تُرهقها غَيْبَةُ بصائر من حَولَهُ، و القوةُ تغلبُ الشجاعة، و الصبرُ على الكَرِّ المُرِّ بلا أثرٍ لبذرٍ عبثٌ ولهوٌ.
يكون الإنسانُ حينَ ذاك ساعياً في تجليةِ كينونته إنساناً كمَّلَه ربُّه إذْ خلقَه بكثيرٍ من مُغذياتِ إنسانيته، فيُطعمُ العقلَ بنورِ الفكرِ والمعرفة، ويُغذيه بأسرارِ الفهمِ، فلا يكون إلا كصارخٍ في أُذُنِ مَيْتٍ، وساكنٍ خرابَ بيتٍ، لا يأتيه مما يُبديه شيءٌ.
ليتَ حالَه يقفُ عند ذا؛ ولكن سيصعُبُ ويَشْتَدُّ حينَ يكون زمانُه رديئاً ناكراً، فلا يرى حُسْنَه إلا سُوءاً، ولا زَيْنَه إلا قُبْحاً، ولا كمالَهُ إلا نقصاً، هنا يُدركُ تكالُبَ الضباءِ على خراشٍ، ولا يلومه حين لا يصيد، توارُدُ السهامِ إيهامٌ وإبهامٌ.
إن الإنسانَ ليسَ ابناً لأرضٍ بقدرِ ما هو ابن لذاتِهِ، وليس منتسباً لأهلٍ كانتسابِهِ لفكرِه، فهو ابنُ نفسِهِ ومنسوبٌ لفكره، فبهما يكون ويُعتبَرُ، وما غَدتِ الأرضُ فخراً ولا الأهلون ظهراً في حالِ إعمالِ الهدمِ فيه، فهو لهما حين يكونان له، وأما حين لا فليسَ إلا السعيُ في سبيلِ إيجادِ ناصرٍ ومعينٍ.
أدرك أهل الفكرِ ضيْقَ زمانهم عنهم، ونُفرة آلهم منهم، فما توانوا عن نَقلِ الرِّجْلِ إلى الأرضِ التي تُبارِكُ البُناةَ، وتمنحهم إلْفاً وقلباً، فيعرفون الشيءَ على وجهِ مجيئه صحيحاً بلا اعتلالٍ، ويُدركونه حَسناً لا قُبحَ يعتريه ويَشُوبُه، فكانت الأرضُ باركتْ وجودهم، فكانوا بُناةً لسماءِ الفكرِ في كوكبِ التقديرِ لذاتِ الصفاتِ الكماليَّةِ الجماليَّة، وندبتْ حظها الأرضُ الأُمُّ إن أدركتْ خطيئتها.
فكانتْ منهم شَكوى الزمانِ، ونقدَ الإنسانِ، وكُرْهَ المكانِ، فقد كانت سِهاماً طائشة وُجِّهَتْ نحوَهم فلم يَسْطيعوا لها ردَّاً ولا دفعاً، وفي أشعارهم توصيفٌ سِيَرِيٌّ ذاتيٌّ لتلك الحالِ، ولا يُلامون.
نَهْجُ الغُرْبَةِ يفعله أربابُ العقولِ الناضجةِ لبناءٍ تكميليٍ لعقولهم، ولبناءِ صرْحٍ تعليميٍ لفكرِهم، ولبناءِ جيلٍ تابعٍ في أرضهم، مَعْ صِدقٍ في توجُّهِ القلبِ نحو فكرِ العقلِ لتركيبِ الكونِ، فالكونُ أجزاءٌ كثيرةٌ، ولكلِّ جُزءٍ وظيفةٌ لبناءِ الكون، وجُزءُ الإنسانِ أشرفها وأسماها، ووظيفته بأيِّ جزءٍ من الكون، فالكونُ كلُّه ميدانُ عملِهِ، فحيثما قَدرَ فليعمل.
إنَّ ناسَ الأزمنةِ يختلفون، فناسٌ يَدٌ معطاءةُ نفعٍ و بناءٍ، وناسٌ يدُ مضرَّةٍ و هدمٍ، وبِمَن التَصَقَ الإنسانُ اقتبَسَ، فيسْحَبُ المرءُ من صاحبِهِ خِصالاً وخِلالاً بِعدوى المُجالَسَةِ.
أشدُّ الناسِ مضاضةً على الإنسانِ قريبُ روحٍ مُنِحَ منه كثيراً فكان عونَ سوءٍ لهادمٍ على هدمٍ، ويَدَ جُرْمٍ في قتلِ رُوحِ فِكْرٍ.
والأرضُ الوالدةُ حين لا ترعى وليدها تتلقَّفُه أراضٍ تتبنَّاهُ فتُغْدِق عليه من رزقها كلَّ آنٍ وحينٍ، والمُعطي يُعْطى، والمانعُ خانعٌ.
ليسَ ألذَّ من اغترابٍ في زمنِ اضطرابٍ، ومن مغادرةٍ لأرْض رَضٍّ، ومن صَحْبِ صَخْبٍ، ومِنْ أمنٍ أتَنٍ، ورُبَّ داءٍ دواءٌ.
عَزلُ الذاتِ في نُزُلِ الصفاتِ، والاستغذاءُ بمطعومِ الفِكرِ، جنةُ عدنِ القلوبِ من جحيمِ الأحوالِ، و "مَنْ فُتِحَ عليه في بشيءٍ فَلْيَلْزمه".