أحمد عبد الرحمن الشنواني
2019-04-25, 01:42 PM
قال ابن القيم -رحمه الله- في مفتاح دار السعادة ، دار عالم الفوائد مكة المكرمة ، (ط1: 2 / 575 - 578) :
(ومن آياته: السَّحابُ المسخَّرُ بين السَّماء والأرض، كيف يُنشِئُه سبحانه بالرِّياح، فتُثِيرُه كِسَفًا، ثمَّ يؤلِّفُ بينه ويَضمُّ بعضه إلى بعض، ثمَّ تَلْقَحُه الرِّيحُ- وهي التي سمَّاها سبحانه: لواقح-، ثمَّ يسوقُه على مُتونها إلى الأرض المحتاجة إليه، فإذا علاها واستوى عليها أَهْرَقَ ماءَهُ عليها، فيرسلُ سبحانه عليه الرِّيحَ وهو في الجوِّ فتَذْرُوه وتفرِّقُه؛ لئلَّا يُؤْذِيَ ويَهْدِمَ ما ينزلُ عليه بجملته، حتى إذا رَوِيَت وأخذَت حاجتَها منه أَقلَع عنها وفارقها؛ فهي رَوَايا الأرض محمولةٌ على ظهور الرِّياح.
وفي "التِّرمذي" وغيره أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا رأى السَّحابَ قال: "هذه رَوايا الأرض، يسوقُها الله إلى قومٍ لا يشكرونه ولا يَذْكرونه" -ق/ضعيف- ، فالسَّحابُ حاملُ رِزق العباد وغيرهم التي عليها مِيرتهُم، وكان الحسنُ إذا رأى السَّحابَ قال: "في هذا- والله- رِزقكم، ولكنكم تُحْرَمُونه بخطاياكم وذنوبكم".
وفي "الصَّحيح" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينا رجلٌ بفلاةٍ من الأرض إذ سَمِعَ صوتًا في سحابة: اسقِ حديقةَ فلان، فمرَّ الرَّجلُ مع السَّحابة حتى أتت على حديقة، فلمَّا توسَّطتها أفرغَت فيها ماءها، فإذا برجلٍ معه مِسحاةٌ يَسْحِي الماءَ بها، فقال: ما اسمُك يا عبد الله؟ قال: فلان، للاسم الذي سَمِعهُ في السحابة ...".
وبالجملة؛ فإذا تأمَّلتَ السَّحابَ الكثيفَ المُظلِم، كيف تراهُ يجتمعُ في جوٍّ صافٍ لا كُدُورة فيه، وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء، وهو مع لِينه ورخاوته حاملٌ للماء الثَّقيل بين السَّماء والأرض، إلى أن يأذنَ له ربُّه وخالقُه في إرسال ما معه من الماء، فيرسلُه ويُنْزِلُه منه مقطَّعًا بالقَطَرات، كلُّ قطرةٍ بقَدْرٍ مخصوصٍ اقتضته حكمتُه ورحمتُه، فَيُرشُّ السَّحابُ الماءَ على الأرض رشًّا، ويرْسِلُه قَطَراتٍ مفصَّلةً، لا تختلطُ قطرةٌ منها بأخرى، ولا يتقدَّم متأخِّرُها، ولا يتأخَّر متقدِّمها، ولا تُدْرِكُ القطرةُ صاحبتَها فتمتزجُ بها، بل تنزلُ كلُّ واحدةٍ في الطَّريق الذي رُسِمَ لها لا تَعْدِلُ عنه، حتى تصيبَ الأرض قطرةً قطرةً، قد عُيِّنت كلُّ قطرةٍ منها لجزءٍ من الأرض لا تتعدَّاه إلى غيره، فلو اجتمع الخلقُ كلُّهم على أن يخلقوا منها قطرةً واحدةً أو يحصُوا عدد القَطر في لحظةٍ واحدةٍ لعجزُوا عنه.
فتأمَّل كيف يَسُوقُه سبحانه رزقًا للعباد والدَّوابِّ والطَّير والذَّرِّ والنَّمل، يَسُوقُه رزقًا للحيوان الفُلانيِّ في الأرض الفُلانيَّة بجانب الجبل الفُلانيِّ، فيَصِلُ إليه على شدَّةٍ من الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا.
ثمَّ كيف أودَعه في الأرض، ثمَّ أخرجَ به أنواعَ الأغذية والأدوية والأقوات، فهذا النَّباتُ يُغذِّي، وهذا يُصْلِحُ الغذاء، وهذا يُنْفِذُه، وهذا يُقَوِّي، وهذا يُضْعِفُ، وهذا سُمٌّ قاتل، وهذا شفاءٌ من السمِّ، وهذا يُمْرِض، وهذا دواءٌ من المرض، وهذا يبرِّد، وهذا يسخِّن، وهذا إذا حصَل في المعدة قمَع الصَّفراءَ من أعماق العُروق، وهذا إذا حصَل فيها ولَّدَ الصَّفراءَ واستحال إليها، وهذا يَدْفَعُ البلغمَ والسَّوداء، وهذا يستحيلُ إليهما، وهذا يُهيِّجُ الدَّم، وهذا يُسَكِّنه، وهذا ينوِّمُ، وهذا يمنعُ النَّوم، وهذا يُفْرِحُ، وهذا يجلِبُ الغمَّ، إلى غير ذلك من عجائب النَّبات التي لا تكادُ تخلو ورقةٌ منه ولا عِرقٌ ولا ثمرةٌ من منافع تعجزُ عقولُ البشر عن الإحاطة بها وتفصيلها.
وانظر إلى مجاري الماء في تلك العروق الدَّقيقة الضَّئيلة الضعيفة التي لا يكادُ البصرُ يُدْرِكُها إلا بعد تحديقه، كيف يَقْوَى على قَسْرِه وعلى اجتذابه من مقرِّه ومركزه إلى فوق، ثمَّ ينصرفُ في تلك المجاري بحسب قَبُولها وسَعَتها وضِيقِها، ثمَّ تتفرَّقُ وتتشعَّبُ وتَدِقُّ إلى غايةٍ لا ينالها البصر.
ثمَّ انظر إلى تكوُّن حَمْل الشجر ونُقْلَتِه من حالٍ إلى حال، كتنقُّل أحوال الجنين المغيَّب عن الأبصار، ترى العجبَ العُجاب؛ فتبارك الله ربُّ العالمين وأحسنُ الخالقين.
بَيْنا تراها حَطبًا قائمًا عاريًا لا كسوة عليها، إذ كساها ربهُّا وخالقُها من الزَّهْر أحسنَ كسوة، ثمَّ سَلَبَها تلك الكسوةَ وكساها من الوَرَق كسوةً هي أثبتُ من الأولى، ثمَّ أطلَع فيها حَمْلَها ضعيفًا ضئيلًا، بعد أن أخرَج ورقَها صيانةً وثوبًا لتلك الثَّمرة الضعيفة، تستَجِنُّ به من الحرِّ والبرد والآفات، ثمَّ ساق إلى تلك الثِّمار رزقَها، وغذَّاها في تلك العُروق والمجاري، فتغذَّت به كما يتغذَّى الطفلُ بلبان أمِّه، ثمَّ ربَّاها ونمَّاها شيئًا فشيئًا حتى استوت وكَمُلَت وتناهى إدراكُها، فأخرَج ذلك الجَنى اللذيذَ الليِّن من تلك الحطَبة الصَّمَّاء.
هذا، وكم لله من آيةٍ في كلِّ ما يقعُ الحسُّ عليه ويبصرُه العبادُ وما لا يبصرُونه، تفنى الأعمارُ دون الإحاطة بها وبجميع تفاصيلها).
(ومن آياته: السَّحابُ المسخَّرُ بين السَّماء والأرض، كيف يُنشِئُه سبحانه بالرِّياح، فتُثِيرُه كِسَفًا، ثمَّ يؤلِّفُ بينه ويَضمُّ بعضه إلى بعض، ثمَّ تَلْقَحُه الرِّيحُ- وهي التي سمَّاها سبحانه: لواقح-، ثمَّ يسوقُه على مُتونها إلى الأرض المحتاجة إليه، فإذا علاها واستوى عليها أَهْرَقَ ماءَهُ عليها، فيرسلُ سبحانه عليه الرِّيحَ وهو في الجوِّ فتَذْرُوه وتفرِّقُه؛ لئلَّا يُؤْذِيَ ويَهْدِمَ ما ينزلُ عليه بجملته، حتى إذا رَوِيَت وأخذَت حاجتَها منه أَقلَع عنها وفارقها؛ فهي رَوَايا الأرض محمولةٌ على ظهور الرِّياح.
وفي "التِّرمذي" وغيره أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا رأى السَّحابَ قال: "هذه رَوايا الأرض، يسوقُها الله إلى قومٍ لا يشكرونه ولا يَذْكرونه" -ق/ضعيف- ، فالسَّحابُ حاملُ رِزق العباد وغيرهم التي عليها مِيرتهُم، وكان الحسنُ إذا رأى السَّحابَ قال: "في هذا- والله- رِزقكم، ولكنكم تُحْرَمُونه بخطاياكم وذنوبكم".
وفي "الصَّحيح" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينا رجلٌ بفلاةٍ من الأرض إذ سَمِعَ صوتًا في سحابة: اسقِ حديقةَ فلان، فمرَّ الرَّجلُ مع السَّحابة حتى أتت على حديقة، فلمَّا توسَّطتها أفرغَت فيها ماءها، فإذا برجلٍ معه مِسحاةٌ يَسْحِي الماءَ بها، فقال: ما اسمُك يا عبد الله؟ قال: فلان، للاسم الذي سَمِعهُ في السحابة ...".
وبالجملة؛ فإذا تأمَّلتَ السَّحابَ الكثيفَ المُظلِم، كيف تراهُ يجتمعُ في جوٍّ صافٍ لا كُدُورة فيه، وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء، وهو مع لِينه ورخاوته حاملٌ للماء الثَّقيل بين السَّماء والأرض، إلى أن يأذنَ له ربُّه وخالقُه في إرسال ما معه من الماء، فيرسلُه ويُنْزِلُه منه مقطَّعًا بالقَطَرات، كلُّ قطرةٍ بقَدْرٍ مخصوصٍ اقتضته حكمتُه ورحمتُه، فَيُرشُّ السَّحابُ الماءَ على الأرض رشًّا، ويرْسِلُه قَطَراتٍ مفصَّلةً، لا تختلطُ قطرةٌ منها بأخرى، ولا يتقدَّم متأخِّرُها، ولا يتأخَّر متقدِّمها، ولا تُدْرِكُ القطرةُ صاحبتَها فتمتزجُ بها، بل تنزلُ كلُّ واحدةٍ في الطَّريق الذي رُسِمَ لها لا تَعْدِلُ عنه، حتى تصيبَ الأرض قطرةً قطرةً، قد عُيِّنت كلُّ قطرةٍ منها لجزءٍ من الأرض لا تتعدَّاه إلى غيره، فلو اجتمع الخلقُ كلُّهم على أن يخلقوا منها قطرةً واحدةً أو يحصُوا عدد القَطر في لحظةٍ واحدةٍ لعجزُوا عنه.
فتأمَّل كيف يَسُوقُه سبحانه رزقًا للعباد والدَّوابِّ والطَّير والذَّرِّ والنَّمل، يَسُوقُه رزقًا للحيوان الفُلانيِّ في الأرض الفُلانيَّة بجانب الجبل الفُلانيِّ، فيَصِلُ إليه على شدَّةٍ من الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا.
ثمَّ كيف أودَعه في الأرض، ثمَّ أخرجَ به أنواعَ الأغذية والأدوية والأقوات، فهذا النَّباتُ يُغذِّي، وهذا يُصْلِحُ الغذاء، وهذا يُنْفِذُه، وهذا يُقَوِّي، وهذا يُضْعِفُ، وهذا سُمٌّ قاتل، وهذا شفاءٌ من السمِّ، وهذا يُمْرِض، وهذا دواءٌ من المرض، وهذا يبرِّد، وهذا يسخِّن، وهذا إذا حصَل في المعدة قمَع الصَّفراءَ من أعماق العُروق، وهذا إذا حصَل فيها ولَّدَ الصَّفراءَ واستحال إليها، وهذا يَدْفَعُ البلغمَ والسَّوداء، وهذا يستحيلُ إليهما، وهذا يُهيِّجُ الدَّم، وهذا يُسَكِّنه، وهذا ينوِّمُ، وهذا يمنعُ النَّوم، وهذا يُفْرِحُ، وهذا يجلِبُ الغمَّ، إلى غير ذلك من عجائب النَّبات التي لا تكادُ تخلو ورقةٌ منه ولا عِرقٌ ولا ثمرةٌ من منافع تعجزُ عقولُ البشر عن الإحاطة بها وتفصيلها.
وانظر إلى مجاري الماء في تلك العروق الدَّقيقة الضَّئيلة الضعيفة التي لا يكادُ البصرُ يُدْرِكُها إلا بعد تحديقه، كيف يَقْوَى على قَسْرِه وعلى اجتذابه من مقرِّه ومركزه إلى فوق، ثمَّ ينصرفُ في تلك المجاري بحسب قَبُولها وسَعَتها وضِيقِها، ثمَّ تتفرَّقُ وتتشعَّبُ وتَدِقُّ إلى غايةٍ لا ينالها البصر.
ثمَّ انظر إلى تكوُّن حَمْل الشجر ونُقْلَتِه من حالٍ إلى حال، كتنقُّل أحوال الجنين المغيَّب عن الأبصار، ترى العجبَ العُجاب؛ فتبارك الله ربُّ العالمين وأحسنُ الخالقين.
بَيْنا تراها حَطبًا قائمًا عاريًا لا كسوة عليها، إذ كساها ربهُّا وخالقُها من الزَّهْر أحسنَ كسوة، ثمَّ سَلَبَها تلك الكسوةَ وكساها من الوَرَق كسوةً هي أثبتُ من الأولى، ثمَّ أطلَع فيها حَمْلَها ضعيفًا ضئيلًا، بعد أن أخرَج ورقَها صيانةً وثوبًا لتلك الثَّمرة الضعيفة، تستَجِنُّ به من الحرِّ والبرد والآفات، ثمَّ ساق إلى تلك الثِّمار رزقَها، وغذَّاها في تلك العُروق والمجاري، فتغذَّت به كما يتغذَّى الطفلُ بلبان أمِّه، ثمَّ ربَّاها ونمَّاها شيئًا فشيئًا حتى استوت وكَمُلَت وتناهى إدراكُها، فأخرَج ذلك الجَنى اللذيذَ الليِّن من تلك الحطَبة الصَّمَّاء.
هذا، وكم لله من آيةٍ في كلِّ ما يقعُ الحسُّ عليه ويبصرُه العبادُ وما لا يبصرُونه، تفنى الأعمارُ دون الإحاطة بها وبجميع تفاصيلها).