ابو وليد البحيرى
2019-04-22, 04:53 AM
مراتب حديث عطاء بن السائب
عبد اللّه بن عبد الرحمن السعد
عطاء بن السائب من الرواة المشهورين، خرّج له البخاري[1] والأربعة، وهو من صغار التابعين، وقد روى عن بعض الصحابة مِمّن تأخرت وفاتهم كأنس وعبد الله بن أبي أوفى وعمرو بن حريث المخزومي –رضي الله عنهم-، وكان من أهل الصلاح والخير، حتى قال أحمد: "ثقة ثقة رجل صالح".
وقد حصل له تغير واختلاط، ولهذا يكاد يتفق الحفاظ على أن حديثه على قسمين: ما حدث به قديماً، وما حدثه أخيراً.
القديم الذي كان قبل الاختلاط، والأخير الذي كان بعد الاختلاط.
ولكن اختلف الحفاظ في ثلاث مسائل تتعلق بحديثه:
- المسألة الأولى: هل كان عطاء قبل الاختلاط ثقةً ضابطاً، أم في حفظه بعض الشيء.
- المسألة الثانية: الاختلاط الذي حصل له: هل كان شديداً أم دون ذلك وإنما هو مجرد تغير في الحفظ؟
- المسألة الثالثة: من هم الرواة الذين سمعوا منه قبل الاختلاط وبعده؟
وسيأتي أن هؤلاء الرواة على ثلاثة أقسام:
1. من سمع قبل الاختلاط.
2. من سمع قبل الاختلاط وبعده.
3. من سمع بعده.
المسألة الأولى: قال يحيى بن سعيد القطان: "ما سمعت أحداً من الناس يقول في حديثه القديم شيئاً".
وتقدم قول أحمد قريباً: "ثقة ثقة رجل صالح".
وقال الساجي: "صدوق ثقة، لم يتكلم الناس في حديثه القديم".
وقال يعقوب بن سفيان: "عطاء بن السائب ثقة، حديثه حجة، ما روى عنه سفيان وشعبة وحماد بن سلمة، وسماع هؤلاء قديم".
وقال البزار: "ولا نعلم أحداً ترك حديث عطاء بن السائب؛ لأن عطاء ثقة كوفي مشهور".
وخالفهم آخرون فقال شعبة-وهو ممن سمع منه قديماً-: "حدثنا عطاء بن السائب وكان نسياً"، وقال أبو قطن عن شعبة: "ثلاثة بالقلب منهم هاجس: عطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، ورجلٌ آخر".
قلت: شعبة لا يخفى أنه إمام من كبار الأئمة، وهو من تلاميذ عطاء المشهورين، وقد سمع منه قديماً، وجرحه هذا مفسّر، فيقدّم على من وثّقه، فيكون في حفظه بعض الشيء[2].
فعلى هذا أقول: إن عطاء لم يكن بالمتقن الحافظ، وإنما كان دون ذلك، فهو صدوق جيد الحديث، له بعض الأوهام؛ جمعاً بين أقوال من وثّقه ومن تكلم فيه، وهذا في حديثه القديم، ولذا استثنى الحفاظ من حديثه القديم أشياء لم يضبطها، كما سيأتي.
وأما حديثه الأخير فسوف يأتي -إن شاء الله- الكلام عليه.
قلت: ويستثنى من حديثه القديم ما إذا روى عنه أكثر من واحد:
قال ابن عليّة: قال لي شعبة: "ما حدّثك عطاء بن السائب عن رجاله زاذان وميسرة وأبي البختري: فلا تكتبه، وما حدّثك عن رجل بعينه فاكتبه".
وقال الحربي في العلل: بلغني أن شعبة قال: "إذا حدث عن رجل واحد فهو ثقة، وإذا جمع بين اثنين فاتّقه".
فعلى هذا إذا جمع بين أكثر من شيخ يكون في حديثه نظر؛ وذلك لعدم إتقانه لحديث كل شيخ ممن حدثه، فقد يكون بين رواية شيوخه اختلاف، فلعدم إتقانه يسوق هذه الروايات مساقاً واحداً، ويجعلها للجميع.
والراوي عندما يروي الحديث عن أكثر من شيخ، ليس كمن يروي الحديث عن شيخ واحد، فعندما يروي الحديث الواحد عن جمع، يحتاج إلى مزيد إتقان وحفظ، حتى يميز ما بين الروايات فيما إذا كانت متفقة أو مختلفة، ففي بعض الحالات يكون بين رواية الشيوخ اختلاف، إما في الإسناد أو المتن، فمن لم يكن متقناً، قد لا يضبط هذا الاختلاف.
وعطاء فيما يظهر من هذا الصنف، ففي عدة أحاديث يروي عن شيوخه زاذان و...و...، ويسوقها مساقاً واحداً ولا يُبيّن، وهذا إذا كثُر يوجب الشك ممن هذه حاله كمثل عطاء، نعم في حديث أو حديثين أو ثلاثة قد يضبط، وأما إذا كثُر ممن هو ليس بمتقن فهذا يُتوقف فيه أو يرد، والله - تعالى -أعلم.
ولذا جُرِح جمعٌ من الرواة بهذا، مثل: ما تُكلّم على حمّاد بن سلمة فيما لو جمع أكثر من شيخ عند رواية الحديث، ومحمد بن إسحاق، ومحمد بن عمر الواقدي.
وإنما يُقبل هذا ممن هو في مثل الزهري في إتقانه وحفظه، ولذا خرّج الشيخان من حديثه الطويل في الإفك، وقد ساقه عن جمع من شيوخه مساقاً واحداً.
وبناءً على ما تقدم يستثنى هذا من حديثه القديم؛ لأن شعبة ممن سمع منه قديماً وهو الذي جرحه بذلك، وهذا الفعل زاد بعدما تغيّر، ولذا قال أحمد عن بعض المحدثين: "وإذا حدّث -يعني عطاء- بأحاديث ميسرة وزاذان والشيوخ لا يكتب"، يعني: حين أنكر عطاء[3].
- المسألة الثانية: هل اختلاطه كان شديداً أم لم يكن كذلك؟
فأقول وبالله التوفيق:
إن المختلطين عموماً على قسمين:
1. منهم من كان اختلاطه شديداً، حتى قد يتغير عقله. والأمثلة على هذا كثيرة لمن تتبعها.
2. من كان اختلاطه عبارة عن تغير في الحفظ مع بقاء العقل والذهن سليمين، وهذا على قسمين[4]:
(أ) أن يكون هذا التغير في الحفظ، ويكون خفيفاً، ولكن بسبب كِبَر السن يحصل بعض التغيّر في الضبط.
والحكم في هذا الصنف أن حديثهم صحيح حتى يتبين الغلط فيه، ولكن القديم يكون أصح، وهذا الذي حصل لأبي إسحاق السبيعي وسفيان بن عيينة.
(ب) أن يكون هذا التغير شديد بحيث ينسى كثيراً من حديثه السابق، أو يقع منه تخليط شديد فيما سمعه عندما يحدث به، ويكون هذا بأسباب شتى ككبر السن كما تقدم، أو احتراق الكتب، أو حصول حادث لهذا الرجل أثر عليه.
قلت: وعطاء بن السائب من القسم الثاني؛ لأنه لم يُوصف بتغير العقل والذهن، ولم يأت ما يدل على ذلك، بل جاء ما يدل على خلاف ذلك، قال يحيى بن سعيد القطان: "عطاء بن السائب تغير حفظه بعدُ، وحماد سمع منه قبل أن يتغيّر".
فلم يذكر أنه تغيّر في عقله، وإنما في حفظه[5].
وهل كان هذا التغير شديداً أم لم يكن كذلك؟
قال ابن حبان: "وكان قد اختلط بآخره، ولم يفحش حتى يستحق أن يُعدَل به عن مسلك العدول بعد تقدم صحة بيانه في الروايات".
وقال ابن عدي: "من سمع منه بعد الاختلاط؛ في أحاديثه بعض النُّكْرة".
وخالفهم آخرون:
قال أحمد: قال وهيب: "لما قَدِم عطاءٌ البصرة قال: كتبت عن عبيد ثلاثين حديثاً ولم يسمع من عبيدة شيئاً وهذا اختلاطٌ شديد".
وقال أحمد -في رواية أبي طالب-: "من سمع منه قديماً كان صحيحاً، ومن سمع منه حديثاً لم يكن بشيء، سمع منه قديماً: شعبة وسفيان، وسمع منه حديثاً: جرير وخالد بن عبد الله وإسماعيل بن علية وعلي بن عاصم فكان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها".
وقال يحيى بن معين: "كل شيء من حديث عطاء بن السائب ضعيف، إلا ما كان من حديث شعبة وسفيان وحماد بن سلمة".
قلت: والأقرب الثاني، أن في حديثه بعد الاختلاط ضعفاً، والدليل على ذلك ما قاله علي بن المديني عن وهيب قال: "قدم علينا عطاء، فقلت: كم حملت عن عبيدة -يعني السلماني- قال: أربعين حديثاً"، قال ابن المديني: "وليس عنده عن عبيدة حرف واحد، فقيل له: علامَ يُحمل ذلك؟ قال: على الاختلاط".
قلت: وهذا يدل على اختلاط كبير بحيث أنه روى عن عبيدة أربعين حديثاً، وهو لم يسمع منه شيئاً، ولذا قال الإمام أحمد عن هذه القصة: "وهذا اختلاط شديد"[6].
دليل آخر: قال الحميدي عن ابن عيينة: "كنت سمعت من عطاء قديماً، ثم قدم علينا قدمة فسمعته يحدّث ببعض ما كنت سمعته، فخلّط فيه فاتقيته واعتزلته"[7].
دليل آخر: روى العقيلي عن ابن علية قال: "قدم علينا عطاء البصرة، وكنا نسأله، فكان يتوهّم، قال: فيقول له: من؟ فيقول: أشياخنا ميسرة، وزاذان، وفلان، وفلان".
وفي رواية لابن علية يقول: "كان عطاء إذا سُئل عن الشيء، قال: كان أصحابنا يقولون، فيقال له: من؟ فيسكت ساعة، ثم يقول: أبو البختري، وزاذان، وميسرة، قال: وكنت أخاف أن يكون يجيء بهذا على التوهم، فلم أحمل منه شيئاً".
دليل آخر:
ما قاله الإمام أحمد -في أثناء كلامٍ له عن عطاء-: "وكان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها"، وهذا يدل على أنه تغيّر؛ لأنه رفع عن سعيد بن جبير أشياء كان في السابق لا يفعل ذلك، ولذا قال أبو حاتم الرازي[8]: "رفع أشياء كان يرويه عن التابعين فرفعه إلى الصحابة"ا. هـ
قلت: وهذه الأدلة تدل على أن في حديثه ضعفاً، وأنه نسي كثيراً، ووقع في أحاديثه تخليط، ولذا قال بعض أهل العلم -بعد أن ذكر من سمع منه بعد الاختلاط-: "سماعهم منه فيه ضعف".
وقال أحمد في رواية عنه: "من سمع منه بالبصرة فسماعه مضطرب".
وقال ابن معين: "كل شيء من حديث عطاء ضعيف، إلا ما كان من حديث شعبة، وسفيان، وحماد بن سلمة".
وقال أبو حاتم: "ثم بآخره تغير حفظه، في حديثه تخاليط كثيرة".
وقد وصفه العجلي بعد ما تغيّر بأنه كان يُلقّن، فقال: "كان بآخره يتلقن إذا لقنوه في الحديث؛ لأنه كَبِر، صالح الكتاب"[9].
وأما حكم حديثه في هذا القسم -وهو الثاني- فهو على ثلاثة أقسام:
1- ما دل الدليل على أنه حفظه ولم يخلط فيه، وذلك عندما يُتابع أو يأتي ما يشهد لهذا الحديث من أحاديث أخرى، فحكم هذا: القبول؛ لما تقدّم.
2- ما دل الدليل على أنه قد أخطأ فيه وخلّط، وذلك عندما يخالف بمن هو أوثق منه وأحفظ، فحكم هذا: الرد.
3- عندما لا يكون من الأول، ولا من الثاني، فحكم هذا: التوقّف فيه، وأن فيه ضعفاً.
تنبيه: يُستثنى من هذا التقسيم ما رواه عن أبيه من أحاديثه المشهورة، فالأصل فيه الاستقامة.
قال أبو داود: سمعت أحمد قال: "كان فلان بعض المحدثين -سماه أحمد- عند عطاء بن السائب فكان إذا حدّث عن أبيه أحاديثه المشهورة كتبها، وإذا حدّث بأحاديث ميسرة وزاذان والشيوخ لا يكتب"، يعني: حين أنكر عطاء[10].
قلت: لأن ضبطه لحديث أبيه أكثر من ضبطه لحديث غيره.
المسألة الثالثة: اختلفوا فيمن سمع من عطاء قبل الاختلاط وبعده:
أولاً: من سمع منه قبل الاختلاط:
اتفقوا على أن سفيان وشعبة سمعا منه قبل الاختلاط، غير أن شعبة سمع منه حديثين فقط بعد الاختلاط، كما تقدم في قول يحيى بن سعيد القطان: "ما حدّث سفيان وشعبة عنه صحيح، إلا حديثين، كان شعبة يقول: سمعتهما منه بآخره عن زاذان".
وقال أبو داود: "قلت لأحمد: يُشاكل أحدٌ سفيان وشعبة في عطاء؟ قال: لا، قلما يختلف عنه سفيان وشعبة"[11].
ومنهم: أيوب، وهو أقدم من شعبة والثوري.
قال الدارقطني: "دخل عطاء البصرة مرتين، فسماع أيوب وحماد بن سلمة في الرحلة الأولى صحيح".
وكذلك: حماد بن زيد.
قال يحيى القطان: "سمع منه حماد بن زيد قبل أن يتغيّر".
وقال النسائي: "ورواية حماد بن زيد وشعبة وسفيان عنه جيدة".
وقال البخاري في (تاريخه) عن علي بن المديني: "سماع خالد عن عطاء بن السائب بآخره، وسماع حماد بن زيد عنه صحيح".
وقال العقيلي: "تغيّر حديثه، وسماع حمّاد بن زيد منه قبل التغير".
ومنهم: سفيان بن عيينة، قال الحميدي عن سفيان بن عيينة: "كنت سمعت من عطاء بن السائب قديماً ثم قَدِم علينا قدمةً فسمعته يُحدّث ببعض ما كنت سمعتُ، فَخَلط فيه فاتقيته واعتزلته"ا. هـ
ولذا قال الإمام أحمد: "سماع ابن عيينة عنه مقارب، سمع بالكوفة"ا.هـ.
وكذلك منهم: إسماعيل بن أبي خالد، وسليمان التيمي، والأعمش، وغيرهم من أهل الكوفة مِمّن هو مثلهم في السنّ والقدم.
وهؤلاء وإن لم يُنصّ عليهم، ولكنهم أقرانٌ لعطاء، ومن أهل الكوفة خاصة والبصرة، فهم من قدماء أصحابه، فالغالب أنهم سمعوا منه قبل الاختلاط.
قال الدارقطني: "ولا يُحتج من حديثه إلا بما رواه الأكابر"؛ وهؤلاء من الأكابر.
ومنهم: وهيب، قال الدارقطني في (العلل): "اختلط ولم يحتجوا به في الصحيح، ولا يُحتج من حديثه إلا بما رواه الأكابر: شعبة، والثوري، ووهيب، ونظرائهم، وأما ابن علية والمتأخرون ففي حديثهم عنه نظر".
قلت: وقد جاء بأن وهيباً سمع منه أيضاً في الاختلاط، ففي الضعفاء للعقيلي[12]: "عن محمد بن إسماعيل عن الحسن بن علي الحلواني عن علي بن المديني عن ابن عليّة، قال: قدم علينا عطاء بن السائب البصرة، وكنا نسأله، قال: فكان يتوهم، قال: فيقول له: من؟ فيقول: أشياخنا: ميسرة وزاذان وفلان وفلان. قال علي: قال وهيب: قدم علينا عطاء بن السائب فقلت: كم حملت عن عبيدة؟ -يعني السلماني- قال: أربعين حديثاً، قال علي: وليس يروي عن عبيدة حرفاً واحداً، فقلت: فعلى ما يُحمل هذا؟ قال: على الاختلاط، إنه اختلط. قال علي: قلت ليحيى: وكان أبو عوانة حمل عن عطاء بن السائب قبل أن يختلط، فقال: كان لا يفصل هذا من هذا، وكذلك حماد بن سلمة، وكان يحيى لا يروي حديث عطاء بن السائب إلا عن شعبة وسفيان. قال يحيى: قلت لأبي عوانة: فقال: كتبت عن عطاء قبل وبعد فاختلط عليّ".
وهذه القصة تفيد أن وهيباً إنما التقى به بعدما اختلط.
ولذا قال ابن حجر بعد إيراده لهذا القصة: "فاستفدنا من هذه القصة أن رواية وهيب وحمّاد وأبي عوانة عنه في جملة ما يدخل في الاختلاط"[13] ا.هـ
قلت: فإن جاء دليلٌ يدل على أنه التقى به قبلُ كما يُحمل على هذا كلام الدارقطني -السابق- فيكون مثل حماد بن سلمة وغيره، مِمّن حمل عن وهيب قبل الاختلاط وبعده.
على أنه يلاحظ أن وهيباً مُتأخرٌ بعض الشيء، ولعل شعبة وسفيان أكبر منه، وهو بصري، والبصريون في الغالب إنما سمعوا من عطاء بعدما تغيّر إلا القدماء منهم -كأيوب السختياني وقد مرّ- وعطاء كوفي، وقدم البصرة مرتين كما تقدم[14].
قلت: والخلاصة أن الذي يثبت أن وهيباً التقى بعطاء بعد الاختلاط، أما قبله فالله - تعالى -أعلم.
ومنهم: زائدة بن قدامة وزهير، قال الطبراني: "ثقة اختلط في آخر عمره، فما رواه عنه المتقدمون فهو صحيح، مثل: سفيان، وشعبة، وزهير، وزائدة".
قلت: لم أقف على من تابع الطبراني في ذكر زهير وزائدة، وكلاهما من الكوفة وليسا بالقديمين بالنسبة لأصحاب عطاء، وقد تقدم لنا النقل عن ابن معين وأحمد -وهما أجلّ من الطبراني- أنهما لم يستثنيا إلا شعبة والثوري، فالله أعلم.
ثانياً: من سمع منه قبل وبعد الاختلاط:
- حماد بن سلمة:
وقد اختُلِف في سماعه عن عطاء هل كان قبل الاختلاط، أم بعده، أم كان في كلتا الحالتين؟ على ثلاثة أقوال:
- القول الأول: من قال سمع منه بعد الاختلاط:
فهذا ظاهر كلام ابن معين -في رواية أحمد بن أبي نجيح- قال: "جميع من سمع من عطاء سمع منه في الاختلاط إلا شعبة والثوري".
قلت: وظاهر هذا أن حماد سمع منه في أثناء الاختلاط، وهذا أيضاً ظاهر ما جاء عن أحمد -في رواية أبي طالب-، وكذا أبو حاتم الرازي؛ لأنهما لم يذكرا غير سفيان وشعبة فيمن سمع منه قبل الاختلاط.
- القول الثاني: من قال أنه سمع منه قبل الاختلاط:
فقد قال الدارقطني -كما سبق نقله-: "دخل عطاء البصرة مرتين، فسماع أيوب وحماد بن سلمة في الرحلة الأولى صحيح".
وهو قول يعقوب بن سفيان قال: "وما روى عنه سفيان وشعبة وحماد بن سلمة فسماع هؤلاء قديم".
- القول الثالث: من قال أنه سمع منه في كلتا الحالتين:
فهو قول علي بن المديني، فقال: "وكان أبو عوانة حمل عنه قبل أن يختلط، ثم حمل عنه بعدُ، فكان لا يعقل ذا من ذا، وكذا حماد بن سلمة".
قلت: والأقرب القول الثالث أنه سمع منه في كلتا الحالتين.
ومثله: أبو عوانة، كما تقدم من كلام علي بن المديني.
وهو قول يحيى بن معين أيضاً، فقد قال: "وقد سمع منه في الصحيح والاختلاط جميعاً، ولا يحتج بحديثه".
وهو أيضاً قول الإمام أحمد، حيث قال: "أبو عوانة سمع منه بالكوفة والبصرة جميعاً".
يتبع
عبد اللّه بن عبد الرحمن السعد
عطاء بن السائب من الرواة المشهورين، خرّج له البخاري[1] والأربعة، وهو من صغار التابعين، وقد روى عن بعض الصحابة مِمّن تأخرت وفاتهم كأنس وعبد الله بن أبي أوفى وعمرو بن حريث المخزومي –رضي الله عنهم-، وكان من أهل الصلاح والخير، حتى قال أحمد: "ثقة ثقة رجل صالح".
وقد حصل له تغير واختلاط، ولهذا يكاد يتفق الحفاظ على أن حديثه على قسمين: ما حدث به قديماً، وما حدثه أخيراً.
القديم الذي كان قبل الاختلاط، والأخير الذي كان بعد الاختلاط.
ولكن اختلف الحفاظ في ثلاث مسائل تتعلق بحديثه:
- المسألة الأولى: هل كان عطاء قبل الاختلاط ثقةً ضابطاً، أم في حفظه بعض الشيء.
- المسألة الثانية: الاختلاط الذي حصل له: هل كان شديداً أم دون ذلك وإنما هو مجرد تغير في الحفظ؟
- المسألة الثالثة: من هم الرواة الذين سمعوا منه قبل الاختلاط وبعده؟
وسيأتي أن هؤلاء الرواة على ثلاثة أقسام:
1. من سمع قبل الاختلاط.
2. من سمع قبل الاختلاط وبعده.
3. من سمع بعده.
المسألة الأولى: قال يحيى بن سعيد القطان: "ما سمعت أحداً من الناس يقول في حديثه القديم شيئاً".
وتقدم قول أحمد قريباً: "ثقة ثقة رجل صالح".
وقال الساجي: "صدوق ثقة، لم يتكلم الناس في حديثه القديم".
وقال يعقوب بن سفيان: "عطاء بن السائب ثقة، حديثه حجة، ما روى عنه سفيان وشعبة وحماد بن سلمة، وسماع هؤلاء قديم".
وقال البزار: "ولا نعلم أحداً ترك حديث عطاء بن السائب؛ لأن عطاء ثقة كوفي مشهور".
وخالفهم آخرون فقال شعبة-وهو ممن سمع منه قديماً-: "حدثنا عطاء بن السائب وكان نسياً"، وقال أبو قطن عن شعبة: "ثلاثة بالقلب منهم هاجس: عطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، ورجلٌ آخر".
قلت: شعبة لا يخفى أنه إمام من كبار الأئمة، وهو من تلاميذ عطاء المشهورين، وقد سمع منه قديماً، وجرحه هذا مفسّر، فيقدّم على من وثّقه، فيكون في حفظه بعض الشيء[2].
فعلى هذا أقول: إن عطاء لم يكن بالمتقن الحافظ، وإنما كان دون ذلك، فهو صدوق جيد الحديث، له بعض الأوهام؛ جمعاً بين أقوال من وثّقه ومن تكلم فيه، وهذا في حديثه القديم، ولذا استثنى الحفاظ من حديثه القديم أشياء لم يضبطها، كما سيأتي.
وأما حديثه الأخير فسوف يأتي -إن شاء الله- الكلام عليه.
قلت: ويستثنى من حديثه القديم ما إذا روى عنه أكثر من واحد:
قال ابن عليّة: قال لي شعبة: "ما حدّثك عطاء بن السائب عن رجاله زاذان وميسرة وأبي البختري: فلا تكتبه، وما حدّثك عن رجل بعينه فاكتبه".
وقال الحربي في العلل: بلغني أن شعبة قال: "إذا حدث عن رجل واحد فهو ثقة، وإذا جمع بين اثنين فاتّقه".
فعلى هذا إذا جمع بين أكثر من شيخ يكون في حديثه نظر؛ وذلك لعدم إتقانه لحديث كل شيخ ممن حدثه، فقد يكون بين رواية شيوخه اختلاف، فلعدم إتقانه يسوق هذه الروايات مساقاً واحداً، ويجعلها للجميع.
والراوي عندما يروي الحديث عن أكثر من شيخ، ليس كمن يروي الحديث عن شيخ واحد، فعندما يروي الحديث الواحد عن جمع، يحتاج إلى مزيد إتقان وحفظ، حتى يميز ما بين الروايات فيما إذا كانت متفقة أو مختلفة، ففي بعض الحالات يكون بين رواية الشيوخ اختلاف، إما في الإسناد أو المتن، فمن لم يكن متقناً، قد لا يضبط هذا الاختلاف.
وعطاء فيما يظهر من هذا الصنف، ففي عدة أحاديث يروي عن شيوخه زاذان و...و...، ويسوقها مساقاً واحداً ولا يُبيّن، وهذا إذا كثُر يوجب الشك ممن هذه حاله كمثل عطاء، نعم في حديث أو حديثين أو ثلاثة قد يضبط، وأما إذا كثُر ممن هو ليس بمتقن فهذا يُتوقف فيه أو يرد، والله - تعالى -أعلم.
ولذا جُرِح جمعٌ من الرواة بهذا، مثل: ما تُكلّم على حمّاد بن سلمة فيما لو جمع أكثر من شيخ عند رواية الحديث، ومحمد بن إسحاق، ومحمد بن عمر الواقدي.
وإنما يُقبل هذا ممن هو في مثل الزهري في إتقانه وحفظه، ولذا خرّج الشيخان من حديثه الطويل في الإفك، وقد ساقه عن جمع من شيوخه مساقاً واحداً.
وبناءً على ما تقدم يستثنى هذا من حديثه القديم؛ لأن شعبة ممن سمع منه قديماً وهو الذي جرحه بذلك، وهذا الفعل زاد بعدما تغيّر، ولذا قال أحمد عن بعض المحدثين: "وإذا حدّث -يعني عطاء- بأحاديث ميسرة وزاذان والشيوخ لا يكتب"، يعني: حين أنكر عطاء[3].
- المسألة الثانية: هل اختلاطه كان شديداً أم لم يكن كذلك؟
فأقول وبالله التوفيق:
إن المختلطين عموماً على قسمين:
1. منهم من كان اختلاطه شديداً، حتى قد يتغير عقله. والأمثلة على هذا كثيرة لمن تتبعها.
2. من كان اختلاطه عبارة عن تغير في الحفظ مع بقاء العقل والذهن سليمين، وهذا على قسمين[4]:
(أ) أن يكون هذا التغير في الحفظ، ويكون خفيفاً، ولكن بسبب كِبَر السن يحصل بعض التغيّر في الضبط.
والحكم في هذا الصنف أن حديثهم صحيح حتى يتبين الغلط فيه، ولكن القديم يكون أصح، وهذا الذي حصل لأبي إسحاق السبيعي وسفيان بن عيينة.
(ب) أن يكون هذا التغير شديد بحيث ينسى كثيراً من حديثه السابق، أو يقع منه تخليط شديد فيما سمعه عندما يحدث به، ويكون هذا بأسباب شتى ككبر السن كما تقدم، أو احتراق الكتب، أو حصول حادث لهذا الرجل أثر عليه.
قلت: وعطاء بن السائب من القسم الثاني؛ لأنه لم يُوصف بتغير العقل والذهن، ولم يأت ما يدل على ذلك، بل جاء ما يدل على خلاف ذلك، قال يحيى بن سعيد القطان: "عطاء بن السائب تغير حفظه بعدُ، وحماد سمع منه قبل أن يتغيّر".
فلم يذكر أنه تغيّر في عقله، وإنما في حفظه[5].
وهل كان هذا التغير شديداً أم لم يكن كذلك؟
قال ابن حبان: "وكان قد اختلط بآخره، ولم يفحش حتى يستحق أن يُعدَل به عن مسلك العدول بعد تقدم صحة بيانه في الروايات".
وقال ابن عدي: "من سمع منه بعد الاختلاط؛ في أحاديثه بعض النُّكْرة".
وخالفهم آخرون:
قال أحمد: قال وهيب: "لما قَدِم عطاءٌ البصرة قال: كتبت عن عبيد ثلاثين حديثاً ولم يسمع من عبيدة شيئاً وهذا اختلاطٌ شديد".
وقال أحمد -في رواية أبي طالب-: "من سمع منه قديماً كان صحيحاً، ومن سمع منه حديثاً لم يكن بشيء، سمع منه قديماً: شعبة وسفيان، وسمع منه حديثاً: جرير وخالد بن عبد الله وإسماعيل بن علية وعلي بن عاصم فكان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها".
وقال يحيى بن معين: "كل شيء من حديث عطاء بن السائب ضعيف، إلا ما كان من حديث شعبة وسفيان وحماد بن سلمة".
قلت: والأقرب الثاني، أن في حديثه بعد الاختلاط ضعفاً، والدليل على ذلك ما قاله علي بن المديني عن وهيب قال: "قدم علينا عطاء، فقلت: كم حملت عن عبيدة -يعني السلماني- قال: أربعين حديثاً"، قال ابن المديني: "وليس عنده عن عبيدة حرف واحد، فقيل له: علامَ يُحمل ذلك؟ قال: على الاختلاط".
قلت: وهذا يدل على اختلاط كبير بحيث أنه روى عن عبيدة أربعين حديثاً، وهو لم يسمع منه شيئاً، ولذا قال الإمام أحمد عن هذه القصة: "وهذا اختلاط شديد"[6].
دليل آخر: قال الحميدي عن ابن عيينة: "كنت سمعت من عطاء قديماً، ثم قدم علينا قدمة فسمعته يحدّث ببعض ما كنت سمعته، فخلّط فيه فاتقيته واعتزلته"[7].
دليل آخر: روى العقيلي عن ابن علية قال: "قدم علينا عطاء البصرة، وكنا نسأله، فكان يتوهّم، قال: فيقول له: من؟ فيقول: أشياخنا ميسرة، وزاذان، وفلان، وفلان".
وفي رواية لابن علية يقول: "كان عطاء إذا سُئل عن الشيء، قال: كان أصحابنا يقولون، فيقال له: من؟ فيسكت ساعة، ثم يقول: أبو البختري، وزاذان، وميسرة، قال: وكنت أخاف أن يكون يجيء بهذا على التوهم، فلم أحمل منه شيئاً".
دليل آخر:
ما قاله الإمام أحمد -في أثناء كلامٍ له عن عطاء-: "وكان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها"، وهذا يدل على أنه تغيّر؛ لأنه رفع عن سعيد بن جبير أشياء كان في السابق لا يفعل ذلك، ولذا قال أبو حاتم الرازي[8]: "رفع أشياء كان يرويه عن التابعين فرفعه إلى الصحابة"ا. هـ
قلت: وهذه الأدلة تدل على أن في حديثه ضعفاً، وأنه نسي كثيراً، ووقع في أحاديثه تخليط، ولذا قال بعض أهل العلم -بعد أن ذكر من سمع منه بعد الاختلاط-: "سماعهم منه فيه ضعف".
وقال أحمد في رواية عنه: "من سمع منه بالبصرة فسماعه مضطرب".
وقال ابن معين: "كل شيء من حديث عطاء ضعيف، إلا ما كان من حديث شعبة، وسفيان، وحماد بن سلمة".
وقال أبو حاتم: "ثم بآخره تغير حفظه، في حديثه تخاليط كثيرة".
وقد وصفه العجلي بعد ما تغيّر بأنه كان يُلقّن، فقال: "كان بآخره يتلقن إذا لقنوه في الحديث؛ لأنه كَبِر، صالح الكتاب"[9].
وأما حكم حديثه في هذا القسم -وهو الثاني- فهو على ثلاثة أقسام:
1- ما دل الدليل على أنه حفظه ولم يخلط فيه، وذلك عندما يُتابع أو يأتي ما يشهد لهذا الحديث من أحاديث أخرى، فحكم هذا: القبول؛ لما تقدّم.
2- ما دل الدليل على أنه قد أخطأ فيه وخلّط، وذلك عندما يخالف بمن هو أوثق منه وأحفظ، فحكم هذا: الرد.
3- عندما لا يكون من الأول، ولا من الثاني، فحكم هذا: التوقّف فيه، وأن فيه ضعفاً.
تنبيه: يُستثنى من هذا التقسيم ما رواه عن أبيه من أحاديثه المشهورة، فالأصل فيه الاستقامة.
قال أبو داود: سمعت أحمد قال: "كان فلان بعض المحدثين -سماه أحمد- عند عطاء بن السائب فكان إذا حدّث عن أبيه أحاديثه المشهورة كتبها، وإذا حدّث بأحاديث ميسرة وزاذان والشيوخ لا يكتب"، يعني: حين أنكر عطاء[10].
قلت: لأن ضبطه لحديث أبيه أكثر من ضبطه لحديث غيره.
المسألة الثالثة: اختلفوا فيمن سمع من عطاء قبل الاختلاط وبعده:
أولاً: من سمع منه قبل الاختلاط:
اتفقوا على أن سفيان وشعبة سمعا منه قبل الاختلاط، غير أن شعبة سمع منه حديثين فقط بعد الاختلاط، كما تقدم في قول يحيى بن سعيد القطان: "ما حدّث سفيان وشعبة عنه صحيح، إلا حديثين، كان شعبة يقول: سمعتهما منه بآخره عن زاذان".
وقال أبو داود: "قلت لأحمد: يُشاكل أحدٌ سفيان وشعبة في عطاء؟ قال: لا، قلما يختلف عنه سفيان وشعبة"[11].
ومنهم: أيوب، وهو أقدم من شعبة والثوري.
قال الدارقطني: "دخل عطاء البصرة مرتين، فسماع أيوب وحماد بن سلمة في الرحلة الأولى صحيح".
وكذلك: حماد بن زيد.
قال يحيى القطان: "سمع منه حماد بن زيد قبل أن يتغيّر".
وقال النسائي: "ورواية حماد بن زيد وشعبة وسفيان عنه جيدة".
وقال البخاري في (تاريخه) عن علي بن المديني: "سماع خالد عن عطاء بن السائب بآخره، وسماع حماد بن زيد عنه صحيح".
وقال العقيلي: "تغيّر حديثه، وسماع حمّاد بن زيد منه قبل التغير".
ومنهم: سفيان بن عيينة، قال الحميدي عن سفيان بن عيينة: "كنت سمعت من عطاء بن السائب قديماً ثم قَدِم علينا قدمةً فسمعته يُحدّث ببعض ما كنت سمعتُ، فَخَلط فيه فاتقيته واعتزلته"ا. هـ
ولذا قال الإمام أحمد: "سماع ابن عيينة عنه مقارب، سمع بالكوفة"ا.هـ.
وكذلك منهم: إسماعيل بن أبي خالد، وسليمان التيمي، والأعمش، وغيرهم من أهل الكوفة مِمّن هو مثلهم في السنّ والقدم.
وهؤلاء وإن لم يُنصّ عليهم، ولكنهم أقرانٌ لعطاء، ومن أهل الكوفة خاصة والبصرة، فهم من قدماء أصحابه، فالغالب أنهم سمعوا منه قبل الاختلاط.
قال الدارقطني: "ولا يُحتج من حديثه إلا بما رواه الأكابر"؛ وهؤلاء من الأكابر.
ومنهم: وهيب، قال الدارقطني في (العلل): "اختلط ولم يحتجوا به في الصحيح، ولا يُحتج من حديثه إلا بما رواه الأكابر: شعبة، والثوري، ووهيب، ونظرائهم، وأما ابن علية والمتأخرون ففي حديثهم عنه نظر".
قلت: وقد جاء بأن وهيباً سمع منه أيضاً في الاختلاط، ففي الضعفاء للعقيلي[12]: "عن محمد بن إسماعيل عن الحسن بن علي الحلواني عن علي بن المديني عن ابن عليّة، قال: قدم علينا عطاء بن السائب البصرة، وكنا نسأله، قال: فكان يتوهم، قال: فيقول له: من؟ فيقول: أشياخنا: ميسرة وزاذان وفلان وفلان. قال علي: قال وهيب: قدم علينا عطاء بن السائب فقلت: كم حملت عن عبيدة؟ -يعني السلماني- قال: أربعين حديثاً، قال علي: وليس يروي عن عبيدة حرفاً واحداً، فقلت: فعلى ما يُحمل هذا؟ قال: على الاختلاط، إنه اختلط. قال علي: قلت ليحيى: وكان أبو عوانة حمل عن عطاء بن السائب قبل أن يختلط، فقال: كان لا يفصل هذا من هذا، وكذلك حماد بن سلمة، وكان يحيى لا يروي حديث عطاء بن السائب إلا عن شعبة وسفيان. قال يحيى: قلت لأبي عوانة: فقال: كتبت عن عطاء قبل وبعد فاختلط عليّ".
وهذه القصة تفيد أن وهيباً إنما التقى به بعدما اختلط.
ولذا قال ابن حجر بعد إيراده لهذا القصة: "فاستفدنا من هذه القصة أن رواية وهيب وحمّاد وأبي عوانة عنه في جملة ما يدخل في الاختلاط"[13] ا.هـ
قلت: فإن جاء دليلٌ يدل على أنه التقى به قبلُ كما يُحمل على هذا كلام الدارقطني -السابق- فيكون مثل حماد بن سلمة وغيره، مِمّن حمل عن وهيب قبل الاختلاط وبعده.
على أنه يلاحظ أن وهيباً مُتأخرٌ بعض الشيء، ولعل شعبة وسفيان أكبر منه، وهو بصري، والبصريون في الغالب إنما سمعوا من عطاء بعدما تغيّر إلا القدماء منهم -كأيوب السختياني وقد مرّ- وعطاء كوفي، وقدم البصرة مرتين كما تقدم[14].
قلت: والخلاصة أن الذي يثبت أن وهيباً التقى بعطاء بعد الاختلاط، أما قبله فالله - تعالى -أعلم.
ومنهم: زائدة بن قدامة وزهير، قال الطبراني: "ثقة اختلط في آخر عمره، فما رواه عنه المتقدمون فهو صحيح، مثل: سفيان، وشعبة، وزهير، وزائدة".
قلت: لم أقف على من تابع الطبراني في ذكر زهير وزائدة، وكلاهما من الكوفة وليسا بالقديمين بالنسبة لأصحاب عطاء، وقد تقدم لنا النقل عن ابن معين وأحمد -وهما أجلّ من الطبراني- أنهما لم يستثنيا إلا شعبة والثوري، فالله أعلم.
ثانياً: من سمع منه قبل وبعد الاختلاط:
- حماد بن سلمة:
وقد اختُلِف في سماعه عن عطاء هل كان قبل الاختلاط، أم بعده، أم كان في كلتا الحالتين؟ على ثلاثة أقوال:
- القول الأول: من قال سمع منه بعد الاختلاط:
فهذا ظاهر كلام ابن معين -في رواية أحمد بن أبي نجيح- قال: "جميع من سمع من عطاء سمع منه في الاختلاط إلا شعبة والثوري".
قلت: وظاهر هذا أن حماد سمع منه في أثناء الاختلاط، وهذا أيضاً ظاهر ما جاء عن أحمد -في رواية أبي طالب-، وكذا أبو حاتم الرازي؛ لأنهما لم يذكرا غير سفيان وشعبة فيمن سمع منه قبل الاختلاط.
- القول الثاني: من قال أنه سمع منه قبل الاختلاط:
فقد قال الدارقطني -كما سبق نقله-: "دخل عطاء البصرة مرتين، فسماع أيوب وحماد بن سلمة في الرحلة الأولى صحيح".
وهو قول يعقوب بن سفيان قال: "وما روى عنه سفيان وشعبة وحماد بن سلمة فسماع هؤلاء قديم".
- القول الثالث: من قال أنه سمع منه في كلتا الحالتين:
فهو قول علي بن المديني، فقال: "وكان أبو عوانة حمل عنه قبل أن يختلط، ثم حمل عنه بعدُ، فكان لا يعقل ذا من ذا، وكذا حماد بن سلمة".
قلت: والأقرب القول الثالث أنه سمع منه في كلتا الحالتين.
ومثله: أبو عوانة، كما تقدم من كلام علي بن المديني.
وهو قول يحيى بن معين أيضاً، فقد قال: "وقد سمع منه في الصحيح والاختلاط جميعاً، ولا يحتج بحديثه".
وهو أيضاً قول الإمام أحمد، حيث قال: "أبو عوانة سمع منه بالكوفة والبصرة جميعاً".
يتبع