ابو وليد البحيرى
2019-03-22, 01:03 AM
شرح حديث حبريل
الشيخ د. باسم الجوابرة
عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ»، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: «فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ»، قَالَ: «فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ»، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»، قَالَ: صَدَقْتَ قَالَ: «فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِحْسَانِ»، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، قَالَ: «فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ»، قَالَ: «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ» قَالَ: «فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا» قَالَ: «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ»، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ»، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ». رواه مسلم
والحديث رواه البخاري ومسلم عن ابي هريرة بنحوه
مناسبة الحديث:
عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ فَقُلْنَا لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ فَقُلْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُون َ الْعِلْمَ وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ قَالَ فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نحن....
شرح الحديث:
هذا الحديث عظيم الشأن جدا يشتمل على شرح الدين كله, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخره: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم بعد أن شرح درجه الإسلام ودرجه الإيمان ودرجه الإحسان فجعل ذلك كله ديناً.
الإسلام لغة: الاستسلام والانقياد والمسلم يُطلق على من اظهر الإسلام وان لم يُعلم باطنه.
قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}[ال عمران:19]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[ال عمران:85].
والإسلام فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل وأول ذلك الشهادتين وهو عمل اللسان، ثم الصلاة والزكاة والصيام والحج.
وهي منقسمة إلى عمل بدني: كالصلاة والصوم.
وإلى عمل مالي وهو: الزكاة.
وإلى ما هو مركب منهما كالحج.
وفي هذا تنبيه إلى أن جميع الواجبات الظاهرة داخله في مسمى الإسلام، ومن ترك الشهادتين خرج من الإسلام، وفي خروجه من الإسلام بترك الصلاة خلاف مشهور بين العلماء، وكذلك في تركه بقية مباني الإسلام الخمس كما سيأتي.
ومما يدل على أن جميع الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإسلام: قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده».
وعن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسلام خير؟ قال: «أن ُتطعمَ الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» خ. م.
وكذلك ترك المحرمات داخل في مسمى الإسلام أيضا كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مِنْ حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه» رواه الترمذي وابن ماجه
الإيمان: وأما الإيمان فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة فقال صلى الله عليه وسلم «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله» ...... الخ
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الإيمان بهذه الأصول الخمسة في مواضع كقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]
وقال تعالى {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون} [البقرة:3].
والإيمان بالرسل: يلزم منه الإيمان بجميع ما أخبروا به من الملائكة والأنبياء والكتاب والبعث والقدر وغير ذلك من تفاصيل ما أخبروا, وغيَر ذلك من صفات اليوم الآخر كالصراط والميزان والجنة والنار.
وُسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: يا رسول الله! ما الإسلام؟ فقال: «أن يُسلم قلبك لله عز وجل, وأن يَسلم المسلمون من لسانك ويدك» قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: «الإيمان» قال: وما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت» قال: فأي الأعمال أفضل؟ قال: «الهجرة».
فجعل صلى الله عليه وسلم الإيمان أفضل الإسلام وأدخل فيه الأعمال.
لأن الإيمان: هو تصديق بالقلب وإقراره ومعرفته.
والإسلام: هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده له وذلك يكون بالعمل وهو الدين، كما سمى الله في كتابه الإسلام ديناً، في حديث جبريل سمى النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان والإحسان ديناً.
فيكون حينئذ المراد بالإيمان جنس تصديق القلب وبالإسلام جنس العمل.
ومن هنا قال المحققون: كل مؤمن مسلم، فإن من حقق الإيمان، ورسخ في قلبه قام بإعمال الإسلام، وليس كل مسلم مؤمن، فإنه قد يكون الإيمان ضعيفا، فلا يتحقق القلب به تحقيقاً تاماً مع عمل جوارحه وأعمال الإسلام فيكون مسلما وليس بمؤمن الإيمان التام، كما قال تعالى في حق الأعراب: }قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا}[الحجرات:14].
فلم يكونوا منافقين بالكلية على أصح تفسيرين وهو قول ابن عباس وغيره: بل كان إيماناً ضعيفاً.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في سعد بن أبي وقاص لما قال له: لِمَ لَمْ تعط فلانا وهو مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أو مسلم» يشير إلى أنه لم يتحقق مقام الإيمان فإنما هو في مقام الإسلام الظاهر.
ولا ريب أنه ضعف الإيمان الباطن يلزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهر أيضا، لكن اسم الإيمان ينتفى عمن ترك شيئا من واجباته كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»
فان قيل: فقد فرق النبي في هذا الحديث بين الاسلام والإيمان وجعل الاعمال كلها من الاسلام لا من الإيمان والمشهور أن الإيمان قول وعمل ونيه.
تعريف الإيمان: اعتقاد بالقلب وقول بالسان وعمل بالاركان
وعند المعتزلة: الايمان هو العمل والنطق والاعتقاد وقولهم بالمنزلة من المنزلين
والفارق بينهم وبين أهل السنة أنهم جعلوا الاعمال شرطا في صحته ،والسلف جعلوها شرطا في كماله .
المرجئة فالفاسق مؤمن كامل الإيمان.
والاعمال كلها داخله في مسمى الإيمان، وحكى الشافعي مع ذلك اجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقد دل دخول الاعمال في الإيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الانفال:2].
وفي الصحيحين عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد قيس: «آمركم بأربع الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله وامام الصلاة وإيتاء الزكاء وصوم رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس» .
وفي الصحيحين عن ابي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان».
فما وجه الجمع بين النصوص وبين حديث سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان وتفريق النبي بينهما وإدخال الأعمال في مسمى الإسلام دون مسمى الإيمان؟
يتضح بتقرير أهل العلم وهو أن مِن الأسماء ما يكون شاملا لمسميات متعددة،وعند أفراده وإطلاقه، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالاً على بعض تلك المسمات الاسم المقرون دال مع باقيها.
وهذا كاسم الفقير والمسكين فإذا افرد احدهما دخل منه كل من هو محتاج، فإذا قرن احدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوى الحاجات والآخر على باقيها
فكهذا باسم الإسلام والإيمان: إذا افرد أحدهما دخل منه الآخر ودل بانفراده فإن قرن بينهما دل احدهما على بعض ما بدل عليه بانفراده ودل الآخر على الباقي وبهذا التفضيل يظهر تحقيق القول في مسألة الإسلام والإيمان فيكون حينئذ المراد بالإيمان جنس تصديق العمل وبالإسلام جنس العمل وبهذا التفصيل الذي ذكرناه يزول الاختلاف فيقال: إذا افرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر، فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قرن بين الاسمين, كان بينهما فرق.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه إذا صلى على الميت: « اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِسْلاَمِ ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِيمَانِ». رواه أحمد والأربعة.
لأن العمل بالجوارح إنما يتمكن منه في الحياه فأما عند الموت فلا يبقى غير التصديق بالقلب ومن هنا قال العلماء كل مؤمن مسلم ،وليس كل مسلم مؤمن .
واختلف أهل السنة هل يقال: مؤمناً ناقص الإيمان؟ أو يقال: ليس بمؤمن لكنه مسلم على كلا القولين؟.
واسم الإسلام لا ينتفي بانتفاء بعض واجباته أو انتهاك بعض محرماته وان كان قد ورد إطلاق الكفر على فعل المحرمات وإطلاق النفاق أيضا.
واسم الايمان ينتفي بانتفاءبعض واجباته اوانتهاكه بعض محرماته
وأول اختلاف وقع فيه المسلمون:
وهذه المسائل - أعني مسائل الإسلام والإيمان والكفر والنفاق- مسائل عظيمة جدا
والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة, وهو خلاف الخوارج للصحابة حيث اخرجوا عصاه الموحدين من الإسلام بالكلية, وأدخلوهم في دائرة الكفر وعاملوهم معامله الكفار واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم.
ثم حدث بعد ذلك خلاف المعتزلة وقولهم بالمنزلة بين المنزلتين .
ثم حدث خلاف المرجئة وقولهم أن الفاسق مؤمن كامل الإيمان.
ولقد تشعبت آراء الطائف في باب المعاصي والذنوب فمنهم من أفرط , ومنهم من فرّط , ومنهم من اعتدل.والمقصود هنا ذكر هذه الآراء باختصار ليتضح حكم مرتكب الذنب على اختلاف أنواعه عند كل طائفة، وسنبين في هذا البحث ثلاثة مذاهب لثلاثة طوائف
المذهب الأول: مذهب الخوارج والمعتزلة.
يرى الخوارج والمعتزلة أن أي كبيرة يرتكبها المسلم ولم يتب منها، تكون مخلدة له في النار، إلا أن الخوارج يطلقون عليه –مع تخليدهم له في النار- الكفر في الدنيا... والمعتزلة لا يطلقون عليه الكفر ولا الإيمان؛ بل اسم الفسق في الدنيا، واستدلت كلتا الطائفتين بنصوص الوعيد الواردة في القرآن والسنة، ولهذا سماهم العلماء بالوعيدية؛ لتغليبهم نصوص الوعيد على نصوص الوعد.
وقوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: 93]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}[الفرقان: 68-69].
ومن السنة حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»، وغيرها من الأحاديث التي ورد فيها الكفر أو النفاق مثل: «أربع منكن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان في خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»رواه البخاري ومسلم.
أو عدم الإيمان مثل «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن» قيل من يارسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» رواه البخاري ومسلم.وغير ذلك من النصوص.
ففي هذه النصوص وما شابهها دلالة عندهم على أن أهل المعاصي كفار في الدنيا عند الخوارج، ومخلدون في النار عندهم وعند المعتزلة.
المذهب الثاني: مذهب المرجئة، والمراد بالمرجئة الفِرَق التي تنفي دخول الأعمال في معنى الإيمان، وسموا بذلك لإرجائهم الأعمال، أي: تأخيرها عن الإيمان فقالوا: الإيمان، هو التصديق بالقلب فقط، ولم يشترط جمهورهم النطق، وجعلوا للعصاة اسم الإيمان على الكمال، وقالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب أصلاً، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ومقالتهم مشهورة في كتب العقيدة. انظر فتح الباري (1/110).
ويزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله ورسله فقط، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما، والخوف منهما والعمل بالجوارح فليس بإيمان، وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به.
وقد فَرَّط هذا المذهب، ناظراً إلى نصوص الوعد وحدها، وفتح أبواب الجنة لجميع العصاة حتى من وقع في الشرك الأكبر إذا كان قد عرف الله مجرد معرفة، أو صدق بقلبه فقط،
ومما احتج به المرجئة على مذهبهم الآيات والأحاديث التي وعد الله فيها عباده الموحدين بدخول الجنة، والنجاة مِنَ النار، مثل: قول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَتَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم} [الزمر:53].
ويدخل في ذلك كل النصوص التي وردت في القرآن أو السنة مما وعد الله فيها عباده بالمغفرة والرحمة والعفو، ومنها حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة» رواه مسلم.
المذهب الثالث:مذهب جماهير أهل السنة الذي يخالف المذهبين السابقين؛ ويُعتبر وسط بينهما حيث جمع أهل السنة بين نصوص الوعد ونصوص الوعيد؛ وأنزلوا كل منها منزلته بدون تعارض أو تناقض، فإذا كان المذهب الأول قد أفرط، ناظراً إلى نصوص الوعيد وحدها، وفتح بناء على ذلك أبوب جهنم لعصاة المسلمين وأغلق عنهم أبواب الجنة.
فإن مذهب أهل السنة قد اعتدل، لجمعه بين نصوص الوعيد ونصوص الوعد معاً، فنزّل كل منهما منزلته، فالذنب الذي يُخَلّد صاحبه في النار ويجعله مرتداً عن الإسلام، هو الكفر والشرك الأكبران اللذان يموت صاحبهما عليهما.
وما عداهما من الكبائر لا يخرج فاعله من الملة، ولا يُخَلّده في النار، بل هو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه بقدر ذنبه، ثم أخرجه من النار وأدخله الجنة، وإن شاء غفر له ابتداء.
وعلى هذا المذهب الحق دلت نصوص الكتاب والسنة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}[النساء: 48].
وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الحجرات: 9-10] فجعل الطائفتين المقتتلتين مِنَ المؤمنين، وجعلهما أخوة لمن أصلح بينهما من المؤمنين.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ مات لا يُشرك بالله شيئاً دخل الجنة» رواه البخاري ومسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «يَخرج مِنْ النار مَنْ كان في قلبه مثقال ذرة مِنْ إيمان» رواه البخاري ومسلم.
وفي هذه النصوص وأشباهها رد على الخوارج والمعتزلة، وهو واضح لا يحتاج لمزيد بيان.
والنصوص في هذا الباب كثيرة، فأهل الحق عملوا بالنصوص كلها، وأهل الباطل أخذت كل طائفة منها نصوصاً تؤيد مذهبها فقط.
إفراط وتفريط ووسطية، قال ابن تيمية: «فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مُقِرّين باطناً وظاهراً بما جاء به الرسول وما تَواتر عنه، أنهم من أهل الوعيد، وأنه يدخل النار منهم من أخبر الله ورسوله بدخوله إليها، ولا يُخَلّد منهم فيها أحد، ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء، ولكن الأقوال المنحرفة قول مَن يقول بتخليدهم في النار كالخوارج والمعتزلة.
وقول غُلاة المرجئة الذين يقولون: ما نعلم أن أحداً منهم يدخل النار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخوارج هم أول مَنْ كَفّر المسلمين، ويُكفرون مَنْ خالفهم في بدعهم ويستحلون دمه وماله.
وقال أيضاً: ولهم خصلتان مشهورتان فارقوا بها جماعة المسلمين وأئمتهم:
أحداهما: خروجهما على السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة، أو ما ليس بحسنة حسنة، وهذا الذي أظهروه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له صلى الله عليه وسلم: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويَضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته. ثانيهما:
يُكفرون بالذنوب والسيئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأجمعت الخوارج على تكفير علي بن أبي طالب ،وعثمان بن عفان رضي الله عنهما.
وقال: قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، وقد خرجها مسلم في صحيحه وخرج البخاري طائفة منها.
ضوابط التكفير وعدم تكفير معين
1- الجهل 2- الاكراه 3- الخطأ(التأويل ) 4- العجز
والكفر ينقسم الى قسمين:
كفر أكبر وكفر أصغر، أو كفر عملي و كفر اعتقادي .
كما أن النفاق ينقسم إلى قسمين:
نفاق أكبر و نفاق أصغر، أو نفاق اعتقادي ونفاق عملي
قال صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».
ويقول صلى الله عليه وسلم: «إذا كفر الرجل آخاه فقد باء بها أحدهما».
وقال صلى الله عليه وسلم: «المراء في القرآن كفر».
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أتى إمرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد»،
ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فقد كفر» .
ويقول صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه غفد كفر بما أنزل على محمد».
ويقول صلى الله عليه وسلم: «اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت».
ويقول صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر».
قال الإمام البخاري في صحيحه كتاب الإيمان: باب كفران العشير وكفر دون كفر، ثم ذكر حديث: «رأيت النار فإذا أكثر أهلها النساء... يكفرن العشير».
وقال البخاري: باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك.
لقوله صلى الله عليه وسلم : إنك امرؤ فيك جاهلية وقال الله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
وقال أيضاً: باب ظلم دون ظلم لما نزلت: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [الأنعام: 82].
قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أينا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان:13].
الإيمان بالقدر:
وقد أدخل في هذا الحديث الإيمان بالقدر خيره وشره وقد روى ابن عمر هذا الحديث محتجاً به على من أنكر القدر وزعم أن الأمر أُنُف يعني: أنه مستأنف لم يسبق به سابق قدر من الله عز وجل.
والقدرية هم فرقة أنكرت القدر،
وقالوا: إن الله لا يعلم قبل الأمر من يطيع ومن يعصي
وقالوا: إن من يعلم ما سيكون لايجوز له أن يأمر وهو يعلم أن المأمور يعصه
وقالوا: اذا علم أنهم يفسدون لا يجوز أن يخلق من يعلم انه يفسد
وقد غلظ ابن عمر عليهم، وتبرأ منهم, وأخبر أنه لا تقبل منهم أعمالهم بدون الإيمان بالقدر.
يتبع
الشيخ د. باسم الجوابرة
عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ»، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: «فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ»، قَالَ: «فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ»، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»، قَالَ: صَدَقْتَ قَالَ: «فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِحْسَانِ»، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، قَالَ: «فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ»، قَالَ: «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ» قَالَ: «فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا» قَالَ: «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ»، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ»، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ». رواه مسلم
والحديث رواه البخاري ومسلم عن ابي هريرة بنحوه
مناسبة الحديث:
عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ فَقُلْنَا لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ فَقُلْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُون َ الْعِلْمَ وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ قَالَ فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نحن....
شرح الحديث:
هذا الحديث عظيم الشأن جدا يشتمل على شرح الدين كله, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخره: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم بعد أن شرح درجه الإسلام ودرجه الإيمان ودرجه الإحسان فجعل ذلك كله ديناً.
الإسلام لغة: الاستسلام والانقياد والمسلم يُطلق على من اظهر الإسلام وان لم يُعلم باطنه.
قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}[ال عمران:19]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[ال عمران:85].
والإسلام فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل وأول ذلك الشهادتين وهو عمل اللسان، ثم الصلاة والزكاة والصيام والحج.
وهي منقسمة إلى عمل بدني: كالصلاة والصوم.
وإلى عمل مالي وهو: الزكاة.
وإلى ما هو مركب منهما كالحج.
وفي هذا تنبيه إلى أن جميع الواجبات الظاهرة داخله في مسمى الإسلام، ومن ترك الشهادتين خرج من الإسلام، وفي خروجه من الإسلام بترك الصلاة خلاف مشهور بين العلماء، وكذلك في تركه بقية مباني الإسلام الخمس كما سيأتي.
ومما يدل على أن جميع الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإسلام: قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده».
وعن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسلام خير؟ قال: «أن ُتطعمَ الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» خ. م.
وكذلك ترك المحرمات داخل في مسمى الإسلام أيضا كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مِنْ حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه» رواه الترمذي وابن ماجه
الإيمان: وأما الإيمان فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة فقال صلى الله عليه وسلم «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله» ...... الخ
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الإيمان بهذه الأصول الخمسة في مواضع كقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]
وقال تعالى {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون} [البقرة:3].
والإيمان بالرسل: يلزم منه الإيمان بجميع ما أخبروا به من الملائكة والأنبياء والكتاب والبعث والقدر وغير ذلك من تفاصيل ما أخبروا, وغيَر ذلك من صفات اليوم الآخر كالصراط والميزان والجنة والنار.
وُسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: يا رسول الله! ما الإسلام؟ فقال: «أن يُسلم قلبك لله عز وجل, وأن يَسلم المسلمون من لسانك ويدك» قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: «الإيمان» قال: وما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت» قال: فأي الأعمال أفضل؟ قال: «الهجرة».
فجعل صلى الله عليه وسلم الإيمان أفضل الإسلام وأدخل فيه الأعمال.
لأن الإيمان: هو تصديق بالقلب وإقراره ومعرفته.
والإسلام: هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده له وذلك يكون بالعمل وهو الدين، كما سمى الله في كتابه الإسلام ديناً، في حديث جبريل سمى النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان والإحسان ديناً.
فيكون حينئذ المراد بالإيمان جنس تصديق القلب وبالإسلام جنس العمل.
ومن هنا قال المحققون: كل مؤمن مسلم، فإن من حقق الإيمان، ورسخ في قلبه قام بإعمال الإسلام، وليس كل مسلم مؤمن، فإنه قد يكون الإيمان ضعيفا، فلا يتحقق القلب به تحقيقاً تاماً مع عمل جوارحه وأعمال الإسلام فيكون مسلما وليس بمؤمن الإيمان التام، كما قال تعالى في حق الأعراب: }قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا}[الحجرات:14].
فلم يكونوا منافقين بالكلية على أصح تفسيرين وهو قول ابن عباس وغيره: بل كان إيماناً ضعيفاً.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في سعد بن أبي وقاص لما قال له: لِمَ لَمْ تعط فلانا وهو مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أو مسلم» يشير إلى أنه لم يتحقق مقام الإيمان فإنما هو في مقام الإسلام الظاهر.
ولا ريب أنه ضعف الإيمان الباطن يلزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهر أيضا، لكن اسم الإيمان ينتفى عمن ترك شيئا من واجباته كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»
فان قيل: فقد فرق النبي في هذا الحديث بين الاسلام والإيمان وجعل الاعمال كلها من الاسلام لا من الإيمان والمشهور أن الإيمان قول وعمل ونيه.
تعريف الإيمان: اعتقاد بالقلب وقول بالسان وعمل بالاركان
وعند المعتزلة: الايمان هو العمل والنطق والاعتقاد وقولهم بالمنزلة من المنزلين
والفارق بينهم وبين أهل السنة أنهم جعلوا الاعمال شرطا في صحته ،والسلف جعلوها شرطا في كماله .
المرجئة فالفاسق مؤمن كامل الإيمان.
والاعمال كلها داخله في مسمى الإيمان، وحكى الشافعي مع ذلك اجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقد دل دخول الاعمال في الإيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الانفال:2].
وفي الصحيحين عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد قيس: «آمركم بأربع الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله وامام الصلاة وإيتاء الزكاء وصوم رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس» .
وفي الصحيحين عن ابي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان».
فما وجه الجمع بين النصوص وبين حديث سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان وتفريق النبي بينهما وإدخال الأعمال في مسمى الإسلام دون مسمى الإيمان؟
يتضح بتقرير أهل العلم وهو أن مِن الأسماء ما يكون شاملا لمسميات متعددة،وعند أفراده وإطلاقه، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالاً على بعض تلك المسمات الاسم المقرون دال مع باقيها.
وهذا كاسم الفقير والمسكين فإذا افرد احدهما دخل منه كل من هو محتاج، فإذا قرن احدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوى الحاجات والآخر على باقيها
فكهذا باسم الإسلام والإيمان: إذا افرد أحدهما دخل منه الآخر ودل بانفراده فإن قرن بينهما دل احدهما على بعض ما بدل عليه بانفراده ودل الآخر على الباقي وبهذا التفضيل يظهر تحقيق القول في مسألة الإسلام والإيمان فيكون حينئذ المراد بالإيمان جنس تصديق العمل وبالإسلام جنس العمل وبهذا التفصيل الذي ذكرناه يزول الاختلاف فيقال: إذا افرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر، فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قرن بين الاسمين, كان بينهما فرق.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه إذا صلى على الميت: « اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِسْلاَمِ ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِيمَانِ». رواه أحمد والأربعة.
لأن العمل بالجوارح إنما يتمكن منه في الحياه فأما عند الموت فلا يبقى غير التصديق بالقلب ومن هنا قال العلماء كل مؤمن مسلم ،وليس كل مسلم مؤمن .
واختلف أهل السنة هل يقال: مؤمناً ناقص الإيمان؟ أو يقال: ليس بمؤمن لكنه مسلم على كلا القولين؟.
واسم الإسلام لا ينتفي بانتفاء بعض واجباته أو انتهاك بعض محرماته وان كان قد ورد إطلاق الكفر على فعل المحرمات وإطلاق النفاق أيضا.
واسم الايمان ينتفي بانتفاءبعض واجباته اوانتهاكه بعض محرماته
وأول اختلاف وقع فيه المسلمون:
وهذه المسائل - أعني مسائل الإسلام والإيمان والكفر والنفاق- مسائل عظيمة جدا
والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة, وهو خلاف الخوارج للصحابة حيث اخرجوا عصاه الموحدين من الإسلام بالكلية, وأدخلوهم في دائرة الكفر وعاملوهم معامله الكفار واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم.
ثم حدث بعد ذلك خلاف المعتزلة وقولهم بالمنزلة بين المنزلتين .
ثم حدث خلاف المرجئة وقولهم أن الفاسق مؤمن كامل الإيمان.
ولقد تشعبت آراء الطائف في باب المعاصي والذنوب فمنهم من أفرط , ومنهم من فرّط , ومنهم من اعتدل.والمقصود هنا ذكر هذه الآراء باختصار ليتضح حكم مرتكب الذنب على اختلاف أنواعه عند كل طائفة، وسنبين في هذا البحث ثلاثة مذاهب لثلاثة طوائف
المذهب الأول: مذهب الخوارج والمعتزلة.
يرى الخوارج والمعتزلة أن أي كبيرة يرتكبها المسلم ولم يتب منها، تكون مخلدة له في النار، إلا أن الخوارج يطلقون عليه –مع تخليدهم له في النار- الكفر في الدنيا... والمعتزلة لا يطلقون عليه الكفر ولا الإيمان؛ بل اسم الفسق في الدنيا، واستدلت كلتا الطائفتين بنصوص الوعيد الواردة في القرآن والسنة، ولهذا سماهم العلماء بالوعيدية؛ لتغليبهم نصوص الوعيد على نصوص الوعد.
وقوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: 93]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}[الفرقان: 68-69].
ومن السنة حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»، وغيرها من الأحاديث التي ورد فيها الكفر أو النفاق مثل: «أربع منكن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان في خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»رواه البخاري ومسلم.
أو عدم الإيمان مثل «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن» قيل من يارسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» رواه البخاري ومسلم.وغير ذلك من النصوص.
ففي هذه النصوص وما شابهها دلالة عندهم على أن أهل المعاصي كفار في الدنيا عند الخوارج، ومخلدون في النار عندهم وعند المعتزلة.
المذهب الثاني: مذهب المرجئة، والمراد بالمرجئة الفِرَق التي تنفي دخول الأعمال في معنى الإيمان، وسموا بذلك لإرجائهم الأعمال، أي: تأخيرها عن الإيمان فقالوا: الإيمان، هو التصديق بالقلب فقط، ولم يشترط جمهورهم النطق، وجعلوا للعصاة اسم الإيمان على الكمال، وقالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب أصلاً، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ومقالتهم مشهورة في كتب العقيدة. انظر فتح الباري (1/110).
ويزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله ورسله فقط، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما، والخوف منهما والعمل بالجوارح فليس بإيمان، وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به.
وقد فَرَّط هذا المذهب، ناظراً إلى نصوص الوعد وحدها، وفتح أبواب الجنة لجميع العصاة حتى من وقع في الشرك الأكبر إذا كان قد عرف الله مجرد معرفة، أو صدق بقلبه فقط،
ومما احتج به المرجئة على مذهبهم الآيات والأحاديث التي وعد الله فيها عباده الموحدين بدخول الجنة، والنجاة مِنَ النار، مثل: قول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَتَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم} [الزمر:53].
ويدخل في ذلك كل النصوص التي وردت في القرآن أو السنة مما وعد الله فيها عباده بالمغفرة والرحمة والعفو، ومنها حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة» رواه مسلم.
المذهب الثالث:مذهب جماهير أهل السنة الذي يخالف المذهبين السابقين؛ ويُعتبر وسط بينهما حيث جمع أهل السنة بين نصوص الوعد ونصوص الوعيد؛ وأنزلوا كل منها منزلته بدون تعارض أو تناقض، فإذا كان المذهب الأول قد أفرط، ناظراً إلى نصوص الوعيد وحدها، وفتح بناء على ذلك أبوب جهنم لعصاة المسلمين وأغلق عنهم أبواب الجنة.
فإن مذهب أهل السنة قد اعتدل، لجمعه بين نصوص الوعيد ونصوص الوعد معاً، فنزّل كل منهما منزلته، فالذنب الذي يُخَلّد صاحبه في النار ويجعله مرتداً عن الإسلام، هو الكفر والشرك الأكبران اللذان يموت صاحبهما عليهما.
وما عداهما من الكبائر لا يخرج فاعله من الملة، ولا يُخَلّده في النار، بل هو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه بقدر ذنبه، ثم أخرجه من النار وأدخله الجنة، وإن شاء غفر له ابتداء.
وعلى هذا المذهب الحق دلت نصوص الكتاب والسنة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}[النساء: 48].
وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الحجرات: 9-10] فجعل الطائفتين المقتتلتين مِنَ المؤمنين، وجعلهما أخوة لمن أصلح بينهما من المؤمنين.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ مات لا يُشرك بالله شيئاً دخل الجنة» رواه البخاري ومسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «يَخرج مِنْ النار مَنْ كان في قلبه مثقال ذرة مِنْ إيمان» رواه البخاري ومسلم.
وفي هذه النصوص وأشباهها رد على الخوارج والمعتزلة، وهو واضح لا يحتاج لمزيد بيان.
والنصوص في هذا الباب كثيرة، فأهل الحق عملوا بالنصوص كلها، وأهل الباطل أخذت كل طائفة منها نصوصاً تؤيد مذهبها فقط.
إفراط وتفريط ووسطية، قال ابن تيمية: «فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مُقِرّين باطناً وظاهراً بما جاء به الرسول وما تَواتر عنه، أنهم من أهل الوعيد، وأنه يدخل النار منهم من أخبر الله ورسوله بدخوله إليها، ولا يُخَلّد منهم فيها أحد، ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء، ولكن الأقوال المنحرفة قول مَن يقول بتخليدهم في النار كالخوارج والمعتزلة.
وقول غُلاة المرجئة الذين يقولون: ما نعلم أن أحداً منهم يدخل النار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخوارج هم أول مَنْ كَفّر المسلمين، ويُكفرون مَنْ خالفهم في بدعهم ويستحلون دمه وماله.
وقال أيضاً: ولهم خصلتان مشهورتان فارقوا بها جماعة المسلمين وأئمتهم:
أحداهما: خروجهما على السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة، أو ما ليس بحسنة حسنة، وهذا الذي أظهروه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له صلى الله عليه وسلم: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويَضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته. ثانيهما:
يُكفرون بالذنوب والسيئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأجمعت الخوارج على تكفير علي بن أبي طالب ،وعثمان بن عفان رضي الله عنهما.
وقال: قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، وقد خرجها مسلم في صحيحه وخرج البخاري طائفة منها.
ضوابط التكفير وعدم تكفير معين
1- الجهل 2- الاكراه 3- الخطأ(التأويل ) 4- العجز
والكفر ينقسم الى قسمين:
كفر أكبر وكفر أصغر، أو كفر عملي و كفر اعتقادي .
كما أن النفاق ينقسم إلى قسمين:
نفاق أكبر و نفاق أصغر، أو نفاق اعتقادي ونفاق عملي
قال صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».
ويقول صلى الله عليه وسلم: «إذا كفر الرجل آخاه فقد باء بها أحدهما».
وقال صلى الله عليه وسلم: «المراء في القرآن كفر».
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أتى إمرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد»،
ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فقد كفر» .
ويقول صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه غفد كفر بما أنزل على محمد».
ويقول صلى الله عليه وسلم: «اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت».
ويقول صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر».
قال الإمام البخاري في صحيحه كتاب الإيمان: باب كفران العشير وكفر دون كفر، ثم ذكر حديث: «رأيت النار فإذا أكثر أهلها النساء... يكفرن العشير».
وقال البخاري: باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك.
لقوله صلى الله عليه وسلم : إنك امرؤ فيك جاهلية وقال الله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
وقال أيضاً: باب ظلم دون ظلم لما نزلت: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [الأنعام: 82].
قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أينا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان:13].
الإيمان بالقدر:
وقد أدخل في هذا الحديث الإيمان بالقدر خيره وشره وقد روى ابن عمر هذا الحديث محتجاً به على من أنكر القدر وزعم أن الأمر أُنُف يعني: أنه مستأنف لم يسبق به سابق قدر من الله عز وجل.
والقدرية هم فرقة أنكرت القدر،
وقالوا: إن الله لا يعلم قبل الأمر من يطيع ومن يعصي
وقالوا: إن من يعلم ما سيكون لايجوز له أن يأمر وهو يعلم أن المأمور يعصه
وقالوا: اذا علم أنهم يفسدون لا يجوز أن يخلق من يعلم انه يفسد
وقد غلظ ابن عمر عليهم، وتبرأ منهم, وأخبر أنه لا تقبل منهم أعمالهم بدون الإيمان بالقدر.
يتبع