ابو وليد البحيرى
2019-03-18, 05:17 PM
قيم النهضة في القرآن الكريم (دراسة وتطبيق)
د. حامد يعقوب يوسف الفريح (
)
ملخص البحث :
هذا البحث يتناول موضوعاً في غاية الأهمية، وهو قيم النهضة في القرآن (دراسة وتطبيق) وذلك من خلال بيان المراد بالقيم من حيث اللغة والاصطلاح، وكذلك بيان المراد بالنهضة لفة واصطلاحا، ثم تحديد مفهوم قيم النهضة كمصطلح، كما يتناول البحث مجموعة من القيم التي وردت في القرآن الكريم وبيان أثرها في نهضة الأمة، وفي الجانب التطبيقي يتناول البحث قصة ذي القرنين كنموذج عملي تحققت على يديه نهضة تمثلت في مجموعة من القيم التي استنبطت من خلال مسيرة ذلك الملك الصالح في رحلاته الثلاث التي ذكرت في سورة الكهف.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهدية وسار على منهجه إلى يوم الدين، وبعد:
لقد تلقى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القرآن، وتلاه حق تلاوته، وتمثله في حياته عقيدة وعبادة وأخلاقاً وسلوكاً، واتخذه دستورا يحتكم إليه في كل شؤونه، ومنهجا يسير عليه في حياته، فاستطاع بذلك هو وأصحابه - رضوان الله عليهم - أن يقيموا دولة ومجتمعا وينشئوا حضارة ونهضة، عاشت الأمة الإسلامية في ظلالها زمنا طويلا، وهي لا ترى أمة أخرى تدانيها في حضارتها ونهضتها وقوتها وعزتها، هذه النهضة استمدت مبادئها وقيمها من هدي القرآن الكريم.
وظلت الأمة الإسلامية تنعم بهذه النهضة، وتتفيأ ظلالها الوارفة قرونا طويلة، على تفاوت في مستوى هذه النهضة قوة وضعفا، بحسب قربها أو بعدها عن منهج القرآن الكريم، إلى أن حلت النكبة بهذه الأمة وذلك بسقوط الخلافة الإسلامية في أخر عهد الدولة العثمانية، وتمزق بلاد المسلمين ووقوعها تحت الغزو الاستعماري العسكري، وما رافقه من غزو فكري وحضاري، وضاعت هوية المسلمين بعد سقوط كيانهم المادي والمعنوي، وانطبق عليهم - إلى حد ما - حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها، قلنا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن، قلنا: وما الوهن؟ قال: حب الحياة» وكراهية الموت" [1]
وهكذا أصبحت هذه الأمة تعيش حالة من الانحطاط والضعف والهوان بكل ما تحمل هذه الكلمات من أبعاد، وبدأت أطروحات النهضة والتغير والإصلاح تشغل أذهان المفكرين والمثقفين من كل الاتجاهات، ومن الواضح: أن التأثير الحضاري والثقافي الذي أحدثه الغزو الفكري والسياسي للعالم الإسلامي كان له أثر كبير في توجيه هذه الأطروحات، ولذلك جاءت- في معظمها- بعيدة كل البعد عن جوهر الإسلام وروح القرآن.
ومن هنا كان لزاماً على المصلحين والدعاة الذين تربوا على مائدة القرآن، ونهلوا من معينه أن يتصدوا لهذه المهمة الخطيرة، ويقودوا زمام المبادرة في تقديم الحلول الناجحة لنهضة هذه الأمة التي تنطلق من دراسة القرآن بتأمل وتدبر والرجوع إلى فهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح، واستنباط القيم التي أقام عليها ذلك الجيل الأول نهضته وحضارته، ولا شك أن المؤسسات التربوية التي تعنى بالقرآن الكريم هي أولى من يتصدى لهذه المهمة العظيمة، ويسعى إلى تطبيقها في أرض الواقع.
ولما كان لي شرف الانتماء إلى إحدى هذه المؤسسات التربوية التي تعنى بالقرآن الكريم تلاوة وحفظاً وتدبراً [2].
وان من أوجه التدبر: استنباط دلالات القرآن وهداياته في جميع مجالات الحياة، خصوصاً فيما يتعلق بنهضة المسلمين ورقيهم، وحيث إني أحببت أن يكون لي إسهام في الكتابة في هذا المجال، كانت هذه الدراسة حول موضوع قيم النهضة في القرآن الكريم (دراسة وتطبيق)، ويهدف هذا البحث إلى الأمور التالة:
تعريف المسلمين وارشادهم إلى الكنوز الثمينة والمنابع الفياضة في القرآن الكريم، والتي تتضمن المبادئ العامة والمنطلقات الأساسية التي من شأنها أن تنهض بالأمة وترتقي بها.
دلالة غير المسلمين على مكانة هذا القرآن العظيم، وما حواه من قيم حضارية كفيلة بنهضة البشرية واخراجها مما هي فيه من التيه والتخبط.
إظهار وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم، وبيان أنه صالح لكل زمان ومكان.
إبراز جانب من جوانب التفسير، وهو التفسير الموضوعي، وذلك من خلال تناول موضوع قيم النهضة في القرآن الكريم.
بيان أن هذه القيم ليست مجرد جوانب نظرية وذهنية، وإنما هي جوانب عملية يمكن تنزيلها على واقع الناس، وذلك من خلال إيراد نموذج تطبيقي وهو قصة ذي القرنين.
وسوف ينتظم هذا البحث بإذن الله في تمهيد ومحورين وخاتمة:
التمهيد: ويتضمن مفهوم قيم النهضة، ويشتمل على عنصرين:
الأول: تعريف القيم لغة واصطلاحا
الثاني: تعريف النهضة لغة واصطلاحا المحور الأول: قيم النهضة في القرآن الكريم.
المحور الثاني: ويتضمن التطبيق العملي لهذه القيم من خلال قصة ذي القرنين في سورة الكهف.
الخاتمة: وتشتمل على أهم نتائج البحث والتوصيات.
هذا وأسأل الله العلي القدير أن يأخذ بيدي ويوفقني للكتابة في هذا الموضوع، وأن يعينني على تدبر القرآن الكريم والوقوف على أسراره وعجائبه؟ لكي استنبط منه هذه القيم، وأشارك ولو بشيء يسير في تقديم ما ينفع هذه الأمة ويسهم في رفعتها وعلو شأنها، والله وحده هو المسؤول وعليه المعتمد ومنه العون والتوفيق والسداد، والحمد لله رب العالمين.
التمهيد
مفهوم قيم النهضة
قبل البدء في الحديث عن قيم النهضة، لابد من بيان معنى القيم، وكذلك بيان المراد بالنهضة من حيث اللغة والاصطلاح، وهل هذه المصطلحات وردت في القرآن بذات اللفظ أو بالمعنى؟ ولذلك سوف يتضمن هذا المحور عنصرين وهما:
الأول- تعريف القيم لغةً واصطلاحا
القيم لفظ مشتق من "قوم" وهو أصل يدل على انتصاب أو عزم، فقولهم: قام قياماً إذا انتصب، ويكون "قام" بمعنى العزيمة، كما يقال: قام بهذا الأمر إذا اعتنقه، ومن الباب: هذا قوام الدين والحق، أي به يقوم [3].
وفي اللسان: قوام الأمر: نظامه وعماده، والرجل قوام أهل بيته وقيام أهل بيته، وهو الذي يقيم شأنهم، ويقال: هذا قوام الأمر وملاكه الذي يقوم به [4].
وفي مفردات الراغب: القيام والقوام: اسم لما يقوم الشيء به، أي: يثبت، كالعماد والسناد: لما يُعمد ويسند به، كقوله تعالى:(لاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ( (النساء: 5، أي: جعلها مما يمسككم، وقوله: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ َ) (المائدة:97 ، أي: قواماً لهم يقوم به معاشهم ومعادهم، وقوله: (دِينًا قِيَمًا) الأنعام 161، أي ثابتا مقوما لأمور معاشهم ومعادهم ([5]).
من خلال المعاني السابقة التي وردت يمكن أن نقول: إن القيم: هي مجموعة الركائز والأسس التي يقوم عليها أمر ما من الأمور، فهي نظامه وعماده الذي يستند إليه ويعتمد عليه.
الثاني- تعريف النهضة لغة واصطلاحا
ليس صحيحاً ما ذكره بعض الباحثين من أن التعريف اللغوي للنهضة جاء بمصطلحات غامضة [6]. فنحن إذا رجعنا إلى المعاجم وكتب اللغة وجدنا أن "النهضة" لفظة عربية مشتقة من الفعل "نهض" بمعنى قام.
قال ابن فارس: النون والهاء والضاد أصل يدل على حركة في علو، ونهض من مكانه: قام، وماله ناهضة، أي قوم ينهضون في أمره ويقومون به، ونهض النبت إذا استوى، والناهض: الطائر الذي وفر جناحاه وتهيأ للنهوض والطيران [7].
وفي اللسان: النهوض: البراح من الموضع والقيام عنه، والنهضة: الطاقة والقوة، وناهضته أي قاومته، وأنهضه بالشيء: قواه على النهوض به [8].
مما سبق يظهر لنا أن الاستعمال اللغوي للفظة "النهضة" يدور حول معاني القوة والطاقة والاستواء والارتفاع إلى الأعلى بعد التغلب على الموانع التي تعيق هذا الصعود والارتقاء.
هذا ولم يرد لفظ "النهضة" في القرآن، وانما وردت ألفاظ أخرى تدل على بعض المعاني الموجودة في لفظ "النهضة" وهي:
التمكين: وهو القدرة على التصرف في منافع الأرض والاستظهار بأسباب الدنيا، بأن يكون في منعة من العدو وفي سعة في الرزق وفي حسن حال، قال تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) الكهف: 84، وقال تعالى: (لَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ) الحج:41
2- الاستخلاف: مشتق من الخلافة، وهي النيابة عن غيره إما لغيبة المنوب عنه؛ واما لموته؛ واما لعجزه؛ واما لتشريف المستخلف، وعلى الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض، قال تعالى(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ) الأنعام: 165
3_ الإعمار: يقال: أعمره المكان واستعمره فيه: جعله يعمره، وفي التنزيل (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فيها) (هود: 61؛ أي أذن لكم في عمارتها واستخراج قويكم منها، وجعلكم عمارها ([9]).
4-الإصلاح: وهو نقيض الإفساد، وأصلح الشيء بعد فساده: أقامه، وأصلح الدابة: أحسن إليها فصلحت [10] وفي التنزيل، (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) هود: 88 .
5 - التغيير: ويأتي على وجهين: أحدهما: تغيير صورة الشيء دون ذاته، والثاني: تبديله بغيره [11]، نحو قوله تعالى الرعد:.
والمعاني السابقة ذات صلة وثيقة بمشروع النهضة، فلا يمكن أن تحصل نهضة في الأمة الآمن خلال اعمار الأرض واستخراج مكنوناتها، وتسخير كل ذلك في رقيها وتقدمها العمراني، تم انه لا يتصور أن تحدت نهضة دون تغيير متعامل على مستوى الفرد والمجتمع والأمة، وانما ينطلق ذلك كله من اصلاح جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، فتكون النتيجة الطبيعية لذلك كله أن تتأهل الأمة للاستخلاف والتمكين في الأرض الذي وعد الله عباده المؤمنين بقوله (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَزمنا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَسِقُونَ (النور: 55 .)
أما النهضة كمصطلح يدل على واقع معين، فلم يسبق للعرب أن استخدموه لهذا المعنى الذي أطلقت عليه في العصر الحديث، وعلى الرغم من شيوع هذا المصطلح في الأدبيات الفكرية، فإننا لا نكاد نعثر على تحديد دقيق يقع الاتفاق عليه بين الباحثين والمفكرين [12] حول مصطلح النهضة؛ ولذلك سوف أعرض لبعض التعريفات وأعلق عليها، ثم اذكر التعريف الذي أرتضيه.
جاء في المعجم الفلسفي: "نهضة renaissance المصطلح الإفرنجي سكه ميشيليه، ولكنه لم يصبح مصطلحا تاريخياً إلا بفضل بوركهارت، ويُطلق على القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وهو يدور على إعلاء الفردية واحياء التراث اليوناني، واكتشاف العالم والإنسان على نحو معاير لما حدث في العصر الوسيط، فنشأ المذهب الإنساني، وظهرت فكرة الدين الطبيعي والأخلاق الطبيعية بفضل الاكتشافات، وانفصلت الفلسفة عن الدين [13].
وهذا التعريف خاص بالنهضة الأوروبية التي حصلت في عصر محدد، وهي نهضة لا تنظر في الاعتبار إلا إلى الجانب المادي، وتقوم على مبدأ فصل الدين عن الحياة، وحتمية الصراع بين العلم والدين.
وعرف الدكتور نور الدين حاطوم "النهضة" بقوله: تفتح عجيب للحياة بأشكالها المختلفة، بلغت مظاهره الكبرى بين 1490و 1560 وهو بالمعنى العام الواسع: تدفق من الحيوية أثار البشرية الأوروبية؛ فتبدلت على أثره حضارة أوروبا بكاملها، وهو بالمعنى الضيق نزوة حياتية في أعمال الفكر [14].
وهذا التعريف كسابقه مرتبط بالنهضة الأوروبية، التي تنطلق من منطلق العداء بين الدين والعلم، ولا يعبر عن مفهوم الإسلام للنهضة الذي يعد العلم أساساً من أسس النهضة.
أما الدكتور النيفر: فقد وصف النهضة بأنها: "رفض الواقع والخروج عنه إلى سياق مغاير" [15].
وهنا سؤال يطرح وهو: هل يستلزم أن تتخلى الأمة عن واقعها الذي تعيشه حتى يتسنى لها النهوض؟ ثم ما حقيقة السياق المغاير الذي تخرج إليه؟
نقول: ما كان فاسدا من هذا الواقع يجب تغييره، وأما الصالح فيبنى عليه ليتم الانتقال إلى مستوى يمكن الأمة من أداء رسالتها التي كلفها الله بها في قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) آل عمران: 110 .
وقال الدكتور جاسم سلطان في معنى النهضة: إنها حركة فكرية عامة حية منتشرة، تتقدم باستمرار في فضاء القرن، وتطرح الجديد دون قطيعة الماضي [16].
ويؤخذ على هذا التعريف أنه قصر حركة النهضة على الجانب الفكري دون الجوانب الأخرى، وأيضاً ما هو طبيعة الجديد الذي تطرحه هذه الحركة؟
وبعد استعراض جملة من التعريفات يمكن أن اجتهد- على قدر وسعي- في صياغة تعريف مناسب للنهضة فأقول: هي حركة شاملة تنطلق من واقع أمة أو شعب، مستثمرة كل طاقاتها ومواردها؟ لترتقي بها ماديا ومعنويا، على هدي من عقيدتها وشريعتها وأخلاقها.
يمكن على ضوء هذا التعريف أن نحاد مواصفات هذه الحركة:
أن تكون شاملة لمجالات العلم والسياسية والاقتصاد والاجتماع وغيرها.
أن تنطلق من واقع الأمة ولا تأتي من الخارج، أو تفرض عليها من الأعداء.
أن تستثمر كل الطاقات والموارد البشرية والطبيعية.
أن تكون نهضة مادية ومعنوية؟ أي أنها تجمع بين الأخذ بالأسباب المادية التي تجري وفق السنن الإلهية، وبين العناية بالبناء الإيماني للإنسان.
أن تكون على هدي من عقيدة الإسلام وشريعته وأخلاقه.
وعلى ضوء التعريف السابق لكل من مصطلحي القيم والنهضة، يمكن أن نصوغ تعريفاً لقيم النهضة فنقول هي: مجموعة الأسس والمرتكزات التي تعتمد عليها النهضة، والتي هي عمادها الذي تستند إليه ونظامها الذي لا تقوم إلا به.
المحور الأول
قيم النهضة في القرآن
توطئة:
إن من أهم ما يشغل عقل المسلم اليوم: هو قضية نهضة المسلمين، وكيف يمكن انتشالهم من حال الضعف والانحطاط والتخلف التي وصلوا إليها.
ولسنا في هذه الدراسة بصدد تشخيص هذه المشكلة والبحث في أسبابها، وانما نؤد الإشارة إلى أن كثيرا من المصلحين والباحثين الذين كتبوا في مشكلات النهضة اختلفوا اختلافاً كبيراً فيما بينهم في تحديد الأسباب التي أدت إلى هذه الحال، فبينما يرى بعضهم أن المشكلة سياسية يتمثل حلها بوسائل سياسية، نجد بعضاً آخر يرى أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ، في حين يرى فريق ثالث أن الحل يكمن في إصلاح الجانب الاقتصادي والقضاء على الفقر والجوع [17].
والسبب- والله أعلم- في هذا الاختلاف أنهم ركزوا على أعراض المرض، ولم يعالجوا المرض نفسه والأسباب التي أدت إلى ظهوره، وهذا إنما يتم بالرجوع إلى القرآن الكريم، الذي أنزل على قلب محمد- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فساروا على هديه وارتسموا منهجه، فاستطاعوا خلال زمن قصير- في حساب التاريخ - أن يقيموا نهضة ظلت قرونا طوالاً تحمل للعالم حضارة جديدة، وتقوده إلى الرقي والتقدم.
هذه النهضة التي أوجدها القرآن في الأمة الإسلامية لا شك أنها تقوم على أسس ودعائم راسخة، يمكن استجلاؤها من خلال الاستقراء لكتاب الله، وهي كثيرة، سننكر منها في هذا المحور بإذن الله بعض ما تيسر.
أولاً- التكريم:
وهو من أهم القيم التي بينها القرآن الكريم، فمن الثابت يقيناً: أن الله فضل الإنسان على كثير من المخلوقات،
قال تعالى (وَلَقَدْ كَرَّزمنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الاسراء: 70 ، وأمر الله ملائكته بالسجود لآدم (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ) (البقرة: 34 ، بل على وأي كثير من أهل العلم [18] يفضل صالحو البشر على الملائكة.
ومن آثار هذا التفضيل أنواع كثيرة من التكريم أنعم الله بها على الإنسان، من أهمها وأشرفها أن الله تعالى جعله خليفة في الأرض، وكلفه بالعمل على تطبيق شرعه وتنفيذ أحكامه التي شرعها في حق عباده، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) البقرة: 30 .
ولما كان الإنسان هو العنصر الأول والأساس في عملية النهضة كما يرى مالك بن نبي [19]، وبما أن الله خصه بهذا التكريم وهذا التفضيل، فلا يتصور أن تتحقق نهضة لأمة أو شعب دون أن تعطى للإنسان مكانته، وأن تحفظ له كرامته.
وقد قص علينا القرآن أن بني اسرائيل لقا كانوا تحت سلطة فرعون، كيف كان يستذلهم ويستضعفهم (إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ) (القصص: 4، فأنقذهم الله من فرعون، وأخرجهم الى سيناء بقيادة موسى عليه السلام، ومنحهم الكرامة، وأنعم عليهم بالتمكين والنصر، ودخول الأرض المقدسة (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا العلمين (المائدة: 20)
إن تكريم الإنسان حقيقة دينية أصيلة في القرآن الكريم، وهي الخطوة الأولى التي يحس فيها الإنسان بذاته، ويشعر بتأثيره ومكانته في تحريك أمته لينطلق منها إلى بناء النهضة. إن ضياع التكريم من قاموس الأمة انعكس على سلوك الأفراد والجماعات، فأصبح الإنسان غير امن على نفسه وماله وولده، وترتب على ذلك كثير من الاثار النفسية لا سيما في حياة العلماء والمفكرين، وبذلك تلاشى أول عامل من عوامل النهضة وهو الاستقرار النفسي والاطمئنان القلبي.
ثانياً- الحرية:
إن المتأمل في القرآن الكريم يجد أن أقرب مفهوم للحرية هو مبدأ الاختيار والإرادة كشرط جعله الله في تكليف الإنسان، قال تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) (البقرة: 256 ، وفي الآية الأخرى (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف: 29 .
وعلى الرغم من أن لفظة "الحرية" لم ترد في القرآن الكريم [20]، إلا أن آياته تضمنت دلالات معاني الحرية في مجالات مختلفة، منها على سبيل المثال ما ورد من الآيات التي تناولت مفهوم الطاعة وتحرير الإنسان من سلطة الأهواء والشهوات والشيطان والآباء والطاغوت، قال تعالى في مقام ذم طاعة قوم فرعون له(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) (الزخرف: 54، وفي شأن طاعة السادة والكبراء الذين يضلون الناس (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) (الأحزاب:67 ، وغيرها من الآيات القرآنية التي تدل على هذه المعاني [21].
ولقد تمثل المسلمون الأوائل معاني الحرية هذه في حياتهم، فكانت قولة عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- في قصته المشهورة مع عمرو بن العاص: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً [22]
وعلى طريقة القرآن في ضرب الأمثال من واقع الناس لتوضيح المفاهيم الأساسية، ذكر الله مثلا يعنى عن أهميه الحرية في حياة الناس فقال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ زمنا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (النحل: 75. فلا يمكن بحال أن يتساوى العبد المملوك العاجز الذي سلب حريته، فهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً، بل لا يقدر حتى على التعبير عن أفكاره وآرائه، فضلاً عن أن يكون له إسهام في نهضة أمته ومجتمعه، لا يستوي هذا العبد مع السيد المالك المتصرف في كل أموره وشؤونه.
لقد اهتم القرآن ببناء مجتمع حر كريم، وجعل الحريه سمه بارزة من سماته، وأصلاً من أصوله، وهذه الحريه هي التي تخلق في الأمه روح النهضه، وهي التي تمد أفرادها بطاقات خلاقة قادرة بإذن الله على بناء النهضة.
ثالثاً- العدل:
يعد العدل من القيم الأساسية التي حث عليها القرآن وكررها في العديد من الآيات [23]، وقد فرض الله العدل على المسلمين ليشمل كل حياتهم، ابتداء من العدل في الحكم (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة:42 ، وانتهاء بالعدل مع الأعداء والخصوم (لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ( المائدة:8 ، بل إن القرآن جعل العدل هدفاً لجميع الرسالات السماوية (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25)
لقد أمر الله الإنسان بالخلافة العامة وهي عمارة الأرض (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فِيهَا) ( هود:61 ، وعهد إليه بالخلافة الخاصة وهي القيام بالحكم العادل، كما قال الله (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) (ص: 26 ، وهذا يدل على الترابط بينهما، فالعدل هو أساس العمران [24]، وهذا المعنى رسمه علماؤنا السابقون في العبارة الشهيرة (العدل أساس الملك) [25]، فإذا فقد العدل فلا يمكن أن تنتظم الحياة بأي حال من الأحوال؛ لأن الإنسان إذا كان يشعر بالظلم والقهر، واذا كان يعمل وينتج ولا يعطى حقه، وفي المقابل يرى البطالين القاعدين يكافؤون، فسوف يصيبه الإحباط واليأس ويترك العمل، هذا على مستوى الفرد، فكيف إذا كان هذا الظلم على مستوى الشعب والأمة بأكملها، فلا يتصور في أمة يفقد فيها العدل ويسود فيها الظلم، أن تنهض وتتقدم وأن تنتصر على أعدائها، ولهذا يروى (إن الله ينصر الدولة العادلة وان كانت كافرة على الدولة الظالمة وان كانت مؤمنه) [26].
وبهذا يتبين أن العدل قيمة أساس من قيم النهضة، فأساس بقاء الإنسان ورقيه، وأمنه الفكري والنفسي والجسدي، وعطائه وانتاجه، لا يمكن أن يتحقق إلا بالعدل الذي قامت عليه السموات والأرض.
رابعاً- إعلاء شأن العقل وضرورة إعماله:
إن من مظاهر تكريم الله للإنسان: أن وهبه العقل، الذي هو الركيزة الأساس التي جعلت الإنسان مؤهلا لأداء الوظائف التي كلف بها؟ باعتباره خليفة لله في هذا الكون؟ لإعماره وحسن تسخيره، لتحقيق المصالح ودفع المفاسد، كما أنه الركيزة الأساس في التكليف الشرعي بفعل ما أمر به واجتناب ما نهي عنه، ومن هذا المنطلق: جاء اهتمام القرآن بالعقل والإنسان العاقل وتأثيره في إصلاح المجتمع وحراسته وبناء نهضته.
فلو تأملنا في حديث القرآن عن العقل وأهميته [27]، لرأينا أنه يتمثل في جانبين:
توجيه العتاب واللوم والوعيد لكل من لم يحسن استخدام عقله في النظر في آيات الكتاب المسطور وتدبرها؛ ليصل من خلال ذلك الى الايمان بالخالق المدبر لهذا الكون (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ) ( البقرة: 44 .)
توظيف العقل في النظر في الكتاب المنظور- وهو الكون- والوقوف على سنن الله والعمل على توظيفها في اعمار الأرض وتسخيرها من أجل نهضة البشرية وارتقائها، قال تعالى (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان:20 ، وقال تعالى (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ق: 6 - 7 .
وكما أن المسلم مطالب بالنظر في آيات الكتاب المسطور وفهمها والعمل بها، فهو كذلك مأمور في التأمل في آيات الكتاب المنظور، ومعرفة سنن الله في هذا الكون وكيفية التعامل معها، وذلك من خلال ادراك- العلاقات السببية بين الظواهر الكونية واكتشاف العلوم التي يتم بها تسخير هذا الكون لتحقيق مصالح الانسان، وهذه هي وظيفة العقل المسلم التي يمتلك بها مفاتيح النهضة، وسر التقدم والحضارة.
خامساً- إعلاء قيمة العمل المتقن:
الإتقان صفة وصف الله بها هذا الكون وما فيه من المخلوقات، قال تعالى (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل: 88 ، أي: أتي به على وجه الحكمة والصواب [28] وقال تعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (السجدة:7 . وكذلك يريد الله لعباده إتقان العمل حين أمرهم بالإحسان [29] فى أعمالهم، قال تعالى (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195 ، وهذا الإحسان هو الإتقان والإحكام في العمل، وقيمة كل فرد في هذه الحياة من خلال ما يقدم من العمل المتقن الجاد الذي هو من شروط الاستخلاف في الأرض (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105 ، والصالحون لفظ عام يشمل كل المجالات ومنها: أنهم صالحون لعمارة الأرض وبنانها وتسخير ما فيها من الثروات والخيرات لتحقيق النهضة المطلوبة.
لقد ربط الرسول- صلى الله عليه وسلم- بين الإحسان والإتقان [30] كما في الحديث (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، واذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليجد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) [31] والإحسان والإتقان في مفهوم الإسلام لا يراد منهما أن يكونا سلوكاً للأفراد فحسب، بل يجب أن يكونا ظاهرة حضارية تشمل كل مناحي الحياة كي تؤدي إلى نهضة الأمة ورقيها.
إن انتشار الصفات المناقضة للإتقان كالفوضى والتسيب والإهمال والكسل واللامبالاة في أفراد الأمة، لاشك أنه ينعكس بشكل سلبي على المسلمين، فيولد حالاً من اليأس والإحباط تفقدهم الثقة في نهضة أمتهم.
وفى هذا العصر تسعى الأمم بمختلف أديانها وتوجهاتها الفكرية والسياسية والاقتصادية إلى الوصول إلى ما يسمى بمفهوم الجودة [32] ويعدونه شرطاً أساساً من شروط النهضة، وهو من المطالب الشرعية التي جاء الإسلام لتكيدها والحث عليها في كثير من الآيات والأحاديث، منها: قوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ) (التوبة: 105 ، وقال- صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) [33].
سادساً- إعلاء قيمة الوقت:
ليس هناك تعبير للوقت أدق من أنه هو الحياة، إنه كالنهر المتدفق الذي يمر بأمة فيمدها بالطاقة المتدفقة فيحييها، ويمر على أخرى فلا تحس به فتخلد في سباتها، إنه ثروة لا تقدر بثمن، إذ لا يمكن لأمة أن تنهض وتسابق ركب الحضارة، إلا إذا تتحقق في أفرادها الوعي الحقيقي بأهمية الزمن، فوظفوه فيما ينفع أمتهم.
لقد أشار القرآن إلى أهمية الزمن من خلال الاستعمال المتعدد للألفاظ الدالة عليه [34]، وأيضاً من خلال القسم المتكرر في أيات كثيرة [35]، فهو عمر الإنسان، وميدان جهاده وحياته، وهو مزرعة الأخرة، ومجال الكدح والعمل، وعندما يدرك ذلك لا يفرط فيه ولا يضيعه فيما لا ينفع (يأَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ) (الانشقاق: 6 .
لم يتعامل القرآن مع الوقت من الزاوية الحسابية فحسب، بل جعل منه قيمة حركية حية يتفاعل معها الإنسان في حياته كلها، لقد ربط القرآن بين عمل الإنسان وبين حركة الزمن (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) (الإسراء: 12، هذه الآية فيها إشارة إلى أهمية الوقت في حياة الإنسان، فتعاقب الليل والنهار من أحل العمل والنشاط في الدنيا لابتغاء الفضل من الله: ولكي يقيس الزمن بالسنين، وبذلك يستطيع أن يخطط لمشاريعه النهضوية.
إن تحقيق الزيادة والتقدم والتحكم في التاريخ مرتبط بإدراك قيمة الوقت وامتلاكه بما ينجز فيه من أعمال وابداعات في جميع جوانب المعرفة [36].
سابعاً- إعلاء قيمة العمل الجماعي.
إن العمل على نهضة المسلمين والتمكين لهذا الدين من أهم فروض الكفايات الغائبة في هذا العصر، وهذه الفريضة لا يمكن أن يقوم به الفرد وحده؟ لأن طاقته محدودة وعمره قصير، فلابد - إذا- من تضافر الجهود ومشد الطاقات للقيام بهذه المهمة العظمة، وهذا يتطلب وجوب العمل الجماعي: لأن القاعدة الأصولية تنص على أنه: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب [37]، وقد تظافرت النصوص القرآنية للتدليل على هذا الأمر، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2
وهذه الآية قاعدة عظيمة من قواعد المجتمع البشري بعامة والمسلم بخاصة في التعاون على البر، والبر: كلمة جامعة لكل معاني الخير والصلاح، وأعظم ما يتحقق من الخير ما يكون في مصلحة الأمة ونهضتها، وتمكين المسلمين ورفعة شأنهم قال ابن تيمية (وكل بني أدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الأخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم) [38].
إن نهضة الأمة لا يمكن أن تتحقق إلا بالعمل الجماعي الذي هو القوة الحقيقية التي يعتمد عليها في الاستخدام الأمثل للطاقات، وتنظيم الجهود، والتنسيق بينها، وتوجيهها لخدمة الهدف المقصود.
ثامنا- الأخذ بالأسباب المادية مع التوكل عل الله
إن سنة الآخذ بالأسباب من- من أهم السنن الربانية التي لها علاقة قوية بمسالة النهضة، ولقد وجه الله المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السنة في كل شؤونهم الدنيوية والآخروية، والنصوص في القرآن التى تحث المسلمين على الآخذ بالأسباب كثيرة متضافرة، منها: قوله تعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ) (التوبة: 105 ، وقال تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مناكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الملك: 15 ، بل إن النصوص تشير إلى أن الآمر قد يكون مكتوباً في الصحف، ثم يتغير [39] لسبب من الأسباب: كالدعاء وصلة الرحم [40]، قال تعالى (يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد:39 ، ولقد أوحى الله إلى مريم- عليها السلام- وهي في المخاض- أن تهز بجذع النخلة ليسقط الرطب، ومن المعلوم: أن المرأة أشد ما تكون ضعفا وهي على هذا الحال، ومع هذا أمرها الله بذلك، وهذا يؤكد ضرورة الآخذ بالأسباب في كل الأحوال والظروف بقدر الاستطاعة.
والله سبحانه قادر على أن ينصر المؤمنين في قتالهم للكافرين ويلحق الهزيمة بأعدائهم، ومع هذا أمرهم بأعداد العدة والأخذ بالأسباب، فقال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ) (الأنفال:60 ، وقال تعالى (ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ) محمد:4 ، بل حتى الأنبياء المؤيدون بالوحي من السماء، مأمورون بالأخذ بهذه السنة الربانية، فهذا موسى- عليه السلام- أمره الله أن يضرب بعصاه البحر، وماذا عساها أن تفعل هذه العصا الصغيرة بهذا البحر المتلاطم الأمواج، ولكنها الأسباب، فاذا البحر فرقان، كل فرق كالطود العظيم، ولو شاء الله لجعله كذلك من دون ضرب، ولكنه سبحانه أراد أن يعلم عباده المؤمنين الأخذ بالأسباب (فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) الشعراء: 63.
تاسعاً- قيمة الجزاء من جنس العمل:
إن الله قد أودع هذا الكون سنناً ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، ينسج على منوالها نظام هذه الحياة، فالمسلم العاقل من يساير هذه السنن ولايصادمها، ومن هذه السنن: سنة "الجزاء من جنس العمل" فالعامل إنما يجزى من جنس عمله إن خيرا فخير، وان شرا فشر (جَزَاءً وِفَاقًا) النبأ: 26، وقد وردت أدلة كثيرة في القرآن تدل على هذه القاعدة، قال تعالى (ليْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) النساء:123,وقال تعالي (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (الصف: 5، وقال تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ) (يونس: 26، قال ابن تيمية- رحمه الله- "الثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قدر الله وفي شرعه، فإن هذا من العدل الذي تقوم به السماء والأرض" [41]
هذه قاعدة العدل في دين الله، والتي قامت عليها السموات والأرض، وهي التي تدفع الإنسان إلى العمل والبذل من أجل تحقيق الخير وازالة الشر، وهل هناك خير أعظم من السعي في سبيل نهضة المسلمين والتمكين لهذا الدين، وأي فساد أشد من تخلف المسلمين وذلهم وهوانهم على أعدائهم.
إذا أردنا نهضة الأمة، فلابد من إشاعة هذا المفهوم، مكافأة المحسن مادياً ومعنوياً على إحسانه؛ لكي يستمر في عطائه وبذله (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) الرحمن: 60، وأيضاً معاقبة المقصر على تفريطه وتقصيره من أجل أن يعتبر ولا يقع منه التقصير في المستقبل، ويكون عبرة لغيره (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) الشورى: 40.
عاشراً- الوحدة بين المسلمين:
إن المتأمل في القرآن الكريم يجد أنه يركز على مفهوم الوحدة، من خلال استخدام الخطاب الجماعي في معظم التوجيهات القرآنية، سواء ما يتعلق بموضوعات العقيدة أو العبادات أو المعاملات، وهذا يدل على اهتمام القرآن بشأن الاجتماع والترابط والتآلف بين المسلمين، ونلاحظ أن الخطاب القرآني الموجه للمسلمين يزداد مع زيادة متطلبات حياتهم الاجتماعية ومتطلبات وحدة كيانهم، حيث نرى هذا الخطاب في المدينة أكثر وضوحا ودلالة على الوحدة، إما من خلال:
الحديث المباشر عن هذه الوحدة، كالأمر بها في قوله (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ال عمران:104 ، وهذا أمر من الله بتكوين الأمة، والأمة هي الجماعة التي يتحقق فيها معنى الارتباط والوحدة التي تجعل أفرادها على اختلاف وظائفهم وأعمالهم كأنهم شخص واحد [42]، وهذه الجماعة هي التي تأخذ على عاتقها مهمة التغيير في الأمة والعمل على نهضتها، وقال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا) ال عمران: 103 ، وهو أمر لهم بالاستمساك بعهد الله أو القرآن مجتمعين، وقوله (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) المؤمنون:52 .
أو من خلال النهي عما يضاد الوحدة، وهو التفرق والاختلاف كما في قوله تعالى (ولاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ عمران:105 ، وقوله (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال:46 .
أو أن يكون الخطاب القرآني في الدعوة الى الوحدة بين المسلمين بشكل غير مباشر، مثل قوله تعالى (فَمَا لَكُمْ فِي الْمنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) النساء:88 ، ففيه حث على الوحدة حتي على مستوى النقاش والكلام واتخاذ المواقف، وقال تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ التوبة:107 ، حيث جعل التفريق بين المؤمنين مقابل الكفر والإرصاد اشارة الى أهمية الوحدة وخطورة التفرق والتشتت.
إن الأمة الإسلامية لا يمكن لها أن تنهض من واقعها وتفير من حالها وهي متفرقة متنازعة، ولكن هذه الوحدة لابد أن تقوم على أسس واضحة ومتينة.
وبعد فهذه عشر قيم رئيسة أرى- والله اعلم- أن النهضة لا يمكن أن تقوم بدونها وهي قيم كما نلاحظ جاء القرآن لترسيخها والتأكيد عليها، وهي شاملة لكل مجالات الحياة سواء فيما يتعلق بالجانب الديني أو الدنيوي [43]، وهي ليست قيما نظرية ولكنها قابلة للتطبيق في واقع الحياة، وقد ذكر القرآن نماذج حية تمثلت هذه القيم واقعاً عملياً، وهذا ما سنعرض له في المحور التالي بإذن الله من خلال قصة ذي القرنين في سورة الكهف.
يتبع
د. حامد يعقوب يوسف الفريح (
)
ملخص البحث :
هذا البحث يتناول موضوعاً في غاية الأهمية، وهو قيم النهضة في القرآن (دراسة وتطبيق) وذلك من خلال بيان المراد بالقيم من حيث اللغة والاصطلاح، وكذلك بيان المراد بالنهضة لفة واصطلاحا، ثم تحديد مفهوم قيم النهضة كمصطلح، كما يتناول البحث مجموعة من القيم التي وردت في القرآن الكريم وبيان أثرها في نهضة الأمة، وفي الجانب التطبيقي يتناول البحث قصة ذي القرنين كنموذج عملي تحققت على يديه نهضة تمثلت في مجموعة من القيم التي استنبطت من خلال مسيرة ذلك الملك الصالح في رحلاته الثلاث التي ذكرت في سورة الكهف.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهدية وسار على منهجه إلى يوم الدين، وبعد:
لقد تلقى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القرآن، وتلاه حق تلاوته، وتمثله في حياته عقيدة وعبادة وأخلاقاً وسلوكاً، واتخذه دستورا يحتكم إليه في كل شؤونه، ومنهجا يسير عليه في حياته، فاستطاع بذلك هو وأصحابه - رضوان الله عليهم - أن يقيموا دولة ومجتمعا وينشئوا حضارة ونهضة، عاشت الأمة الإسلامية في ظلالها زمنا طويلا، وهي لا ترى أمة أخرى تدانيها في حضارتها ونهضتها وقوتها وعزتها، هذه النهضة استمدت مبادئها وقيمها من هدي القرآن الكريم.
وظلت الأمة الإسلامية تنعم بهذه النهضة، وتتفيأ ظلالها الوارفة قرونا طويلة، على تفاوت في مستوى هذه النهضة قوة وضعفا، بحسب قربها أو بعدها عن منهج القرآن الكريم، إلى أن حلت النكبة بهذه الأمة وذلك بسقوط الخلافة الإسلامية في أخر عهد الدولة العثمانية، وتمزق بلاد المسلمين ووقوعها تحت الغزو الاستعماري العسكري، وما رافقه من غزو فكري وحضاري، وضاعت هوية المسلمين بعد سقوط كيانهم المادي والمعنوي، وانطبق عليهم - إلى حد ما - حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها، قلنا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن، قلنا: وما الوهن؟ قال: حب الحياة» وكراهية الموت" [1]
وهكذا أصبحت هذه الأمة تعيش حالة من الانحطاط والضعف والهوان بكل ما تحمل هذه الكلمات من أبعاد، وبدأت أطروحات النهضة والتغير والإصلاح تشغل أذهان المفكرين والمثقفين من كل الاتجاهات، ومن الواضح: أن التأثير الحضاري والثقافي الذي أحدثه الغزو الفكري والسياسي للعالم الإسلامي كان له أثر كبير في توجيه هذه الأطروحات، ولذلك جاءت- في معظمها- بعيدة كل البعد عن جوهر الإسلام وروح القرآن.
ومن هنا كان لزاماً على المصلحين والدعاة الذين تربوا على مائدة القرآن، ونهلوا من معينه أن يتصدوا لهذه المهمة الخطيرة، ويقودوا زمام المبادرة في تقديم الحلول الناجحة لنهضة هذه الأمة التي تنطلق من دراسة القرآن بتأمل وتدبر والرجوع إلى فهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح، واستنباط القيم التي أقام عليها ذلك الجيل الأول نهضته وحضارته، ولا شك أن المؤسسات التربوية التي تعنى بالقرآن الكريم هي أولى من يتصدى لهذه المهمة العظيمة، ويسعى إلى تطبيقها في أرض الواقع.
ولما كان لي شرف الانتماء إلى إحدى هذه المؤسسات التربوية التي تعنى بالقرآن الكريم تلاوة وحفظاً وتدبراً [2].
وان من أوجه التدبر: استنباط دلالات القرآن وهداياته في جميع مجالات الحياة، خصوصاً فيما يتعلق بنهضة المسلمين ورقيهم، وحيث إني أحببت أن يكون لي إسهام في الكتابة في هذا المجال، كانت هذه الدراسة حول موضوع قيم النهضة في القرآن الكريم (دراسة وتطبيق)، ويهدف هذا البحث إلى الأمور التالة:
تعريف المسلمين وارشادهم إلى الكنوز الثمينة والمنابع الفياضة في القرآن الكريم، والتي تتضمن المبادئ العامة والمنطلقات الأساسية التي من شأنها أن تنهض بالأمة وترتقي بها.
دلالة غير المسلمين على مكانة هذا القرآن العظيم، وما حواه من قيم حضارية كفيلة بنهضة البشرية واخراجها مما هي فيه من التيه والتخبط.
إظهار وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم، وبيان أنه صالح لكل زمان ومكان.
إبراز جانب من جوانب التفسير، وهو التفسير الموضوعي، وذلك من خلال تناول موضوع قيم النهضة في القرآن الكريم.
بيان أن هذه القيم ليست مجرد جوانب نظرية وذهنية، وإنما هي جوانب عملية يمكن تنزيلها على واقع الناس، وذلك من خلال إيراد نموذج تطبيقي وهو قصة ذي القرنين.
وسوف ينتظم هذا البحث بإذن الله في تمهيد ومحورين وخاتمة:
التمهيد: ويتضمن مفهوم قيم النهضة، ويشتمل على عنصرين:
الأول: تعريف القيم لغة واصطلاحا
الثاني: تعريف النهضة لغة واصطلاحا المحور الأول: قيم النهضة في القرآن الكريم.
المحور الثاني: ويتضمن التطبيق العملي لهذه القيم من خلال قصة ذي القرنين في سورة الكهف.
الخاتمة: وتشتمل على أهم نتائج البحث والتوصيات.
هذا وأسأل الله العلي القدير أن يأخذ بيدي ويوفقني للكتابة في هذا الموضوع، وأن يعينني على تدبر القرآن الكريم والوقوف على أسراره وعجائبه؟ لكي استنبط منه هذه القيم، وأشارك ولو بشيء يسير في تقديم ما ينفع هذه الأمة ويسهم في رفعتها وعلو شأنها، والله وحده هو المسؤول وعليه المعتمد ومنه العون والتوفيق والسداد، والحمد لله رب العالمين.
التمهيد
مفهوم قيم النهضة
قبل البدء في الحديث عن قيم النهضة، لابد من بيان معنى القيم، وكذلك بيان المراد بالنهضة من حيث اللغة والاصطلاح، وهل هذه المصطلحات وردت في القرآن بذات اللفظ أو بالمعنى؟ ولذلك سوف يتضمن هذا المحور عنصرين وهما:
الأول- تعريف القيم لغةً واصطلاحا
القيم لفظ مشتق من "قوم" وهو أصل يدل على انتصاب أو عزم، فقولهم: قام قياماً إذا انتصب، ويكون "قام" بمعنى العزيمة، كما يقال: قام بهذا الأمر إذا اعتنقه، ومن الباب: هذا قوام الدين والحق، أي به يقوم [3].
وفي اللسان: قوام الأمر: نظامه وعماده، والرجل قوام أهل بيته وقيام أهل بيته، وهو الذي يقيم شأنهم، ويقال: هذا قوام الأمر وملاكه الذي يقوم به [4].
وفي مفردات الراغب: القيام والقوام: اسم لما يقوم الشيء به، أي: يثبت، كالعماد والسناد: لما يُعمد ويسند به، كقوله تعالى:(لاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ( (النساء: 5، أي: جعلها مما يمسككم، وقوله: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ َ) (المائدة:97 ، أي: قواماً لهم يقوم به معاشهم ومعادهم، وقوله: (دِينًا قِيَمًا) الأنعام 161، أي ثابتا مقوما لأمور معاشهم ومعادهم ([5]).
من خلال المعاني السابقة التي وردت يمكن أن نقول: إن القيم: هي مجموعة الركائز والأسس التي يقوم عليها أمر ما من الأمور، فهي نظامه وعماده الذي يستند إليه ويعتمد عليه.
الثاني- تعريف النهضة لغة واصطلاحا
ليس صحيحاً ما ذكره بعض الباحثين من أن التعريف اللغوي للنهضة جاء بمصطلحات غامضة [6]. فنحن إذا رجعنا إلى المعاجم وكتب اللغة وجدنا أن "النهضة" لفظة عربية مشتقة من الفعل "نهض" بمعنى قام.
قال ابن فارس: النون والهاء والضاد أصل يدل على حركة في علو، ونهض من مكانه: قام، وماله ناهضة، أي قوم ينهضون في أمره ويقومون به، ونهض النبت إذا استوى، والناهض: الطائر الذي وفر جناحاه وتهيأ للنهوض والطيران [7].
وفي اللسان: النهوض: البراح من الموضع والقيام عنه، والنهضة: الطاقة والقوة، وناهضته أي قاومته، وأنهضه بالشيء: قواه على النهوض به [8].
مما سبق يظهر لنا أن الاستعمال اللغوي للفظة "النهضة" يدور حول معاني القوة والطاقة والاستواء والارتفاع إلى الأعلى بعد التغلب على الموانع التي تعيق هذا الصعود والارتقاء.
هذا ولم يرد لفظ "النهضة" في القرآن، وانما وردت ألفاظ أخرى تدل على بعض المعاني الموجودة في لفظ "النهضة" وهي:
التمكين: وهو القدرة على التصرف في منافع الأرض والاستظهار بأسباب الدنيا، بأن يكون في منعة من العدو وفي سعة في الرزق وفي حسن حال، قال تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) الكهف: 84، وقال تعالى: (لَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ) الحج:41
2- الاستخلاف: مشتق من الخلافة، وهي النيابة عن غيره إما لغيبة المنوب عنه؛ واما لموته؛ واما لعجزه؛ واما لتشريف المستخلف، وعلى الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض، قال تعالى(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ) الأنعام: 165
3_ الإعمار: يقال: أعمره المكان واستعمره فيه: جعله يعمره، وفي التنزيل (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فيها) (هود: 61؛ أي أذن لكم في عمارتها واستخراج قويكم منها، وجعلكم عمارها ([9]).
4-الإصلاح: وهو نقيض الإفساد، وأصلح الشيء بعد فساده: أقامه، وأصلح الدابة: أحسن إليها فصلحت [10] وفي التنزيل، (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) هود: 88 .
5 - التغيير: ويأتي على وجهين: أحدهما: تغيير صورة الشيء دون ذاته، والثاني: تبديله بغيره [11]، نحو قوله تعالى الرعد:.
والمعاني السابقة ذات صلة وثيقة بمشروع النهضة، فلا يمكن أن تحصل نهضة في الأمة الآمن خلال اعمار الأرض واستخراج مكنوناتها، وتسخير كل ذلك في رقيها وتقدمها العمراني، تم انه لا يتصور أن تحدت نهضة دون تغيير متعامل على مستوى الفرد والمجتمع والأمة، وانما ينطلق ذلك كله من اصلاح جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، فتكون النتيجة الطبيعية لذلك كله أن تتأهل الأمة للاستخلاف والتمكين في الأرض الذي وعد الله عباده المؤمنين بقوله (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَزمنا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَسِقُونَ (النور: 55 .)
أما النهضة كمصطلح يدل على واقع معين، فلم يسبق للعرب أن استخدموه لهذا المعنى الذي أطلقت عليه في العصر الحديث، وعلى الرغم من شيوع هذا المصطلح في الأدبيات الفكرية، فإننا لا نكاد نعثر على تحديد دقيق يقع الاتفاق عليه بين الباحثين والمفكرين [12] حول مصطلح النهضة؛ ولذلك سوف أعرض لبعض التعريفات وأعلق عليها، ثم اذكر التعريف الذي أرتضيه.
جاء في المعجم الفلسفي: "نهضة renaissance المصطلح الإفرنجي سكه ميشيليه، ولكنه لم يصبح مصطلحا تاريخياً إلا بفضل بوركهارت، ويُطلق على القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وهو يدور على إعلاء الفردية واحياء التراث اليوناني، واكتشاف العالم والإنسان على نحو معاير لما حدث في العصر الوسيط، فنشأ المذهب الإنساني، وظهرت فكرة الدين الطبيعي والأخلاق الطبيعية بفضل الاكتشافات، وانفصلت الفلسفة عن الدين [13].
وهذا التعريف خاص بالنهضة الأوروبية التي حصلت في عصر محدد، وهي نهضة لا تنظر في الاعتبار إلا إلى الجانب المادي، وتقوم على مبدأ فصل الدين عن الحياة، وحتمية الصراع بين العلم والدين.
وعرف الدكتور نور الدين حاطوم "النهضة" بقوله: تفتح عجيب للحياة بأشكالها المختلفة، بلغت مظاهره الكبرى بين 1490و 1560 وهو بالمعنى العام الواسع: تدفق من الحيوية أثار البشرية الأوروبية؛ فتبدلت على أثره حضارة أوروبا بكاملها، وهو بالمعنى الضيق نزوة حياتية في أعمال الفكر [14].
وهذا التعريف كسابقه مرتبط بالنهضة الأوروبية، التي تنطلق من منطلق العداء بين الدين والعلم، ولا يعبر عن مفهوم الإسلام للنهضة الذي يعد العلم أساساً من أسس النهضة.
أما الدكتور النيفر: فقد وصف النهضة بأنها: "رفض الواقع والخروج عنه إلى سياق مغاير" [15].
وهنا سؤال يطرح وهو: هل يستلزم أن تتخلى الأمة عن واقعها الذي تعيشه حتى يتسنى لها النهوض؟ ثم ما حقيقة السياق المغاير الذي تخرج إليه؟
نقول: ما كان فاسدا من هذا الواقع يجب تغييره، وأما الصالح فيبنى عليه ليتم الانتقال إلى مستوى يمكن الأمة من أداء رسالتها التي كلفها الله بها في قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) آل عمران: 110 .
وقال الدكتور جاسم سلطان في معنى النهضة: إنها حركة فكرية عامة حية منتشرة، تتقدم باستمرار في فضاء القرن، وتطرح الجديد دون قطيعة الماضي [16].
ويؤخذ على هذا التعريف أنه قصر حركة النهضة على الجانب الفكري دون الجوانب الأخرى، وأيضاً ما هو طبيعة الجديد الذي تطرحه هذه الحركة؟
وبعد استعراض جملة من التعريفات يمكن أن اجتهد- على قدر وسعي- في صياغة تعريف مناسب للنهضة فأقول: هي حركة شاملة تنطلق من واقع أمة أو شعب، مستثمرة كل طاقاتها ومواردها؟ لترتقي بها ماديا ومعنويا، على هدي من عقيدتها وشريعتها وأخلاقها.
يمكن على ضوء هذا التعريف أن نحاد مواصفات هذه الحركة:
أن تكون شاملة لمجالات العلم والسياسية والاقتصاد والاجتماع وغيرها.
أن تنطلق من واقع الأمة ولا تأتي من الخارج، أو تفرض عليها من الأعداء.
أن تستثمر كل الطاقات والموارد البشرية والطبيعية.
أن تكون نهضة مادية ومعنوية؟ أي أنها تجمع بين الأخذ بالأسباب المادية التي تجري وفق السنن الإلهية، وبين العناية بالبناء الإيماني للإنسان.
أن تكون على هدي من عقيدة الإسلام وشريعته وأخلاقه.
وعلى ضوء التعريف السابق لكل من مصطلحي القيم والنهضة، يمكن أن نصوغ تعريفاً لقيم النهضة فنقول هي: مجموعة الأسس والمرتكزات التي تعتمد عليها النهضة، والتي هي عمادها الذي تستند إليه ونظامها الذي لا تقوم إلا به.
المحور الأول
قيم النهضة في القرآن
توطئة:
إن من أهم ما يشغل عقل المسلم اليوم: هو قضية نهضة المسلمين، وكيف يمكن انتشالهم من حال الضعف والانحطاط والتخلف التي وصلوا إليها.
ولسنا في هذه الدراسة بصدد تشخيص هذه المشكلة والبحث في أسبابها، وانما نؤد الإشارة إلى أن كثيرا من المصلحين والباحثين الذين كتبوا في مشكلات النهضة اختلفوا اختلافاً كبيراً فيما بينهم في تحديد الأسباب التي أدت إلى هذه الحال، فبينما يرى بعضهم أن المشكلة سياسية يتمثل حلها بوسائل سياسية، نجد بعضاً آخر يرى أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ، في حين يرى فريق ثالث أن الحل يكمن في إصلاح الجانب الاقتصادي والقضاء على الفقر والجوع [17].
والسبب- والله أعلم- في هذا الاختلاف أنهم ركزوا على أعراض المرض، ولم يعالجوا المرض نفسه والأسباب التي أدت إلى ظهوره، وهذا إنما يتم بالرجوع إلى القرآن الكريم، الذي أنزل على قلب محمد- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فساروا على هديه وارتسموا منهجه، فاستطاعوا خلال زمن قصير- في حساب التاريخ - أن يقيموا نهضة ظلت قرونا طوالاً تحمل للعالم حضارة جديدة، وتقوده إلى الرقي والتقدم.
هذه النهضة التي أوجدها القرآن في الأمة الإسلامية لا شك أنها تقوم على أسس ودعائم راسخة، يمكن استجلاؤها من خلال الاستقراء لكتاب الله، وهي كثيرة، سننكر منها في هذا المحور بإذن الله بعض ما تيسر.
أولاً- التكريم:
وهو من أهم القيم التي بينها القرآن الكريم، فمن الثابت يقيناً: أن الله فضل الإنسان على كثير من المخلوقات،
قال تعالى (وَلَقَدْ كَرَّزمنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الاسراء: 70 ، وأمر الله ملائكته بالسجود لآدم (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ) (البقرة: 34 ، بل على وأي كثير من أهل العلم [18] يفضل صالحو البشر على الملائكة.
ومن آثار هذا التفضيل أنواع كثيرة من التكريم أنعم الله بها على الإنسان، من أهمها وأشرفها أن الله تعالى جعله خليفة في الأرض، وكلفه بالعمل على تطبيق شرعه وتنفيذ أحكامه التي شرعها في حق عباده، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) البقرة: 30 .
ولما كان الإنسان هو العنصر الأول والأساس في عملية النهضة كما يرى مالك بن نبي [19]، وبما أن الله خصه بهذا التكريم وهذا التفضيل، فلا يتصور أن تتحقق نهضة لأمة أو شعب دون أن تعطى للإنسان مكانته، وأن تحفظ له كرامته.
وقد قص علينا القرآن أن بني اسرائيل لقا كانوا تحت سلطة فرعون، كيف كان يستذلهم ويستضعفهم (إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ) (القصص: 4، فأنقذهم الله من فرعون، وأخرجهم الى سيناء بقيادة موسى عليه السلام، ومنحهم الكرامة، وأنعم عليهم بالتمكين والنصر، ودخول الأرض المقدسة (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا العلمين (المائدة: 20)
إن تكريم الإنسان حقيقة دينية أصيلة في القرآن الكريم، وهي الخطوة الأولى التي يحس فيها الإنسان بذاته، ويشعر بتأثيره ومكانته في تحريك أمته لينطلق منها إلى بناء النهضة. إن ضياع التكريم من قاموس الأمة انعكس على سلوك الأفراد والجماعات، فأصبح الإنسان غير امن على نفسه وماله وولده، وترتب على ذلك كثير من الاثار النفسية لا سيما في حياة العلماء والمفكرين، وبذلك تلاشى أول عامل من عوامل النهضة وهو الاستقرار النفسي والاطمئنان القلبي.
ثانياً- الحرية:
إن المتأمل في القرآن الكريم يجد أن أقرب مفهوم للحرية هو مبدأ الاختيار والإرادة كشرط جعله الله في تكليف الإنسان، قال تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) (البقرة: 256 ، وفي الآية الأخرى (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف: 29 .
وعلى الرغم من أن لفظة "الحرية" لم ترد في القرآن الكريم [20]، إلا أن آياته تضمنت دلالات معاني الحرية في مجالات مختلفة، منها على سبيل المثال ما ورد من الآيات التي تناولت مفهوم الطاعة وتحرير الإنسان من سلطة الأهواء والشهوات والشيطان والآباء والطاغوت، قال تعالى في مقام ذم طاعة قوم فرعون له(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) (الزخرف: 54، وفي شأن طاعة السادة والكبراء الذين يضلون الناس (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) (الأحزاب:67 ، وغيرها من الآيات القرآنية التي تدل على هذه المعاني [21].
ولقد تمثل المسلمون الأوائل معاني الحرية هذه في حياتهم، فكانت قولة عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- في قصته المشهورة مع عمرو بن العاص: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً [22]
وعلى طريقة القرآن في ضرب الأمثال من واقع الناس لتوضيح المفاهيم الأساسية، ذكر الله مثلا يعنى عن أهميه الحرية في حياة الناس فقال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ زمنا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (النحل: 75. فلا يمكن بحال أن يتساوى العبد المملوك العاجز الذي سلب حريته، فهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً، بل لا يقدر حتى على التعبير عن أفكاره وآرائه، فضلاً عن أن يكون له إسهام في نهضة أمته ومجتمعه، لا يستوي هذا العبد مع السيد المالك المتصرف في كل أموره وشؤونه.
لقد اهتم القرآن ببناء مجتمع حر كريم، وجعل الحريه سمه بارزة من سماته، وأصلاً من أصوله، وهذه الحريه هي التي تخلق في الأمه روح النهضه، وهي التي تمد أفرادها بطاقات خلاقة قادرة بإذن الله على بناء النهضة.
ثالثاً- العدل:
يعد العدل من القيم الأساسية التي حث عليها القرآن وكررها في العديد من الآيات [23]، وقد فرض الله العدل على المسلمين ليشمل كل حياتهم، ابتداء من العدل في الحكم (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة:42 ، وانتهاء بالعدل مع الأعداء والخصوم (لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ( المائدة:8 ، بل إن القرآن جعل العدل هدفاً لجميع الرسالات السماوية (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25)
لقد أمر الله الإنسان بالخلافة العامة وهي عمارة الأرض (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فِيهَا) ( هود:61 ، وعهد إليه بالخلافة الخاصة وهي القيام بالحكم العادل، كما قال الله (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) (ص: 26 ، وهذا يدل على الترابط بينهما، فالعدل هو أساس العمران [24]، وهذا المعنى رسمه علماؤنا السابقون في العبارة الشهيرة (العدل أساس الملك) [25]، فإذا فقد العدل فلا يمكن أن تنتظم الحياة بأي حال من الأحوال؛ لأن الإنسان إذا كان يشعر بالظلم والقهر، واذا كان يعمل وينتج ولا يعطى حقه، وفي المقابل يرى البطالين القاعدين يكافؤون، فسوف يصيبه الإحباط واليأس ويترك العمل، هذا على مستوى الفرد، فكيف إذا كان هذا الظلم على مستوى الشعب والأمة بأكملها، فلا يتصور في أمة يفقد فيها العدل ويسود فيها الظلم، أن تنهض وتتقدم وأن تنتصر على أعدائها، ولهذا يروى (إن الله ينصر الدولة العادلة وان كانت كافرة على الدولة الظالمة وان كانت مؤمنه) [26].
وبهذا يتبين أن العدل قيمة أساس من قيم النهضة، فأساس بقاء الإنسان ورقيه، وأمنه الفكري والنفسي والجسدي، وعطائه وانتاجه، لا يمكن أن يتحقق إلا بالعدل الذي قامت عليه السموات والأرض.
رابعاً- إعلاء شأن العقل وضرورة إعماله:
إن من مظاهر تكريم الله للإنسان: أن وهبه العقل، الذي هو الركيزة الأساس التي جعلت الإنسان مؤهلا لأداء الوظائف التي كلف بها؟ باعتباره خليفة لله في هذا الكون؟ لإعماره وحسن تسخيره، لتحقيق المصالح ودفع المفاسد، كما أنه الركيزة الأساس في التكليف الشرعي بفعل ما أمر به واجتناب ما نهي عنه، ومن هذا المنطلق: جاء اهتمام القرآن بالعقل والإنسان العاقل وتأثيره في إصلاح المجتمع وحراسته وبناء نهضته.
فلو تأملنا في حديث القرآن عن العقل وأهميته [27]، لرأينا أنه يتمثل في جانبين:
توجيه العتاب واللوم والوعيد لكل من لم يحسن استخدام عقله في النظر في آيات الكتاب المسطور وتدبرها؛ ليصل من خلال ذلك الى الايمان بالخالق المدبر لهذا الكون (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ) ( البقرة: 44 .)
توظيف العقل في النظر في الكتاب المنظور- وهو الكون- والوقوف على سنن الله والعمل على توظيفها في اعمار الأرض وتسخيرها من أجل نهضة البشرية وارتقائها، قال تعالى (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان:20 ، وقال تعالى (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ق: 6 - 7 .
وكما أن المسلم مطالب بالنظر في آيات الكتاب المسطور وفهمها والعمل بها، فهو كذلك مأمور في التأمل في آيات الكتاب المنظور، ومعرفة سنن الله في هذا الكون وكيفية التعامل معها، وذلك من خلال ادراك- العلاقات السببية بين الظواهر الكونية واكتشاف العلوم التي يتم بها تسخير هذا الكون لتحقيق مصالح الانسان، وهذه هي وظيفة العقل المسلم التي يمتلك بها مفاتيح النهضة، وسر التقدم والحضارة.
خامساً- إعلاء قيمة العمل المتقن:
الإتقان صفة وصف الله بها هذا الكون وما فيه من المخلوقات، قال تعالى (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل: 88 ، أي: أتي به على وجه الحكمة والصواب [28] وقال تعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (السجدة:7 . وكذلك يريد الله لعباده إتقان العمل حين أمرهم بالإحسان [29] فى أعمالهم، قال تعالى (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195 ، وهذا الإحسان هو الإتقان والإحكام في العمل، وقيمة كل فرد في هذه الحياة من خلال ما يقدم من العمل المتقن الجاد الذي هو من شروط الاستخلاف في الأرض (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105 ، والصالحون لفظ عام يشمل كل المجالات ومنها: أنهم صالحون لعمارة الأرض وبنانها وتسخير ما فيها من الثروات والخيرات لتحقيق النهضة المطلوبة.
لقد ربط الرسول- صلى الله عليه وسلم- بين الإحسان والإتقان [30] كما في الحديث (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، واذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليجد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) [31] والإحسان والإتقان في مفهوم الإسلام لا يراد منهما أن يكونا سلوكاً للأفراد فحسب، بل يجب أن يكونا ظاهرة حضارية تشمل كل مناحي الحياة كي تؤدي إلى نهضة الأمة ورقيها.
إن انتشار الصفات المناقضة للإتقان كالفوضى والتسيب والإهمال والكسل واللامبالاة في أفراد الأمة، لاشك أنه ينعكس بشكل سلبي على المسلمين، فيولد حالاً من اليأس والإحباط تفقدهم الثقة في نهضة أمتهم.
وفى هذا العصر تسعى الأمم بمختلف أديانها وتوجهاتها الفكرية والسياسية والاقتصادية إلى الوصول إلى ما يسمى بمفهوم الجودة [32] ويعدونه شرطاً أساساً من شروط النهضة، وهو من المطالب الشرعية التي جاء الإسلام لتكيدها والحث عليها في كثير من الآيات والأحاديث، منها: قوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ) (التوبة: 105 ، وقال- صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) [33].
سادساً- إعلاء قيمة الوقت:
ليس هناك تعبير للوقت أدق من أنه هو الحياة، إنه كالنهر المتدفق الذي يمر بأمة فيمدها بالطاقة المتدفقة فيحييها، ويمر على أخرى فلا تحس به فتخلد في سباتها، إنه ثروة لا تقدر بثمن، إذ لا يمكن لأمة أن تنهض وتسابق ركب الحضارة، إلا إذا تتحقق في أفرادها الوعي الحقيقي بأهمية الزمن، فوظفوه فيما ينفع أمتهم.
لقد أشار القرآن إلى أهمية الزمن من خلال الاستعمال المتعدد للألفاظ الدالة عليه [34]، وأيضاً من خلال القسم المتكرر في أيات كثيرة [35]، فهو عمر الإنسان، وميدان جهاده وحياته، وهو مزرعة الأخرة، ومجال الكدح والعمل، وعندما يدرك ذلك لا يفرط فيه ولا يضيعه فيما لا ينفع (يأَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ) (الانشقاق: 6 .
لم يتعامل القرآن مع الوقت من الزاوية الحسابية فحسب، بل جعل منه قيمة حركية حية يتفاعل معها الإنسان في حياته كلها، لقد ربط القرآن بين عمل الإنسان وبين حركة الزمن (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) (الإسراء: 12، هذه الآية فيها إشارة إلى أهمية الوقت في حياة الإنسان، فتعاقب الليل والنهار من أحل العمل والنشاط في الدنيا لابتغاء الفضل من الله: ولكي يقيس الزمن بالسنين، وبذلك يستطيع أن يخطط لمشاريعه النهضوية.
إن تحقيق الزيادة والتقدم والتحكم في التاريخ مرتبط بإدراك قيمة الوقت وامتلاكه بما ينجز فيه من أعمال وابداعات في جميع جوانب المعرفة [36].
سابعاً- إعلاء قيمة العمل الجماعي.
إن العمل على نهضة المسلمين والتمكين لهذا الدين من أهم فروض الكفايات الغائبة في هذا العصر، وهذه الفريضة لا يمكن أن يقوم به الفرد وحده؟ لأن طاقته محدودة وعمره قصير، فلابد - إذا- من تضافر الجهود ومشد الطاقات للقيام بهذه المهمة العظمة، وهذا يتطلب وجوب العمل الجماعي: لأن القاعدة الأصولية تنص على أنه: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب [37]، وقد تظافرت النصوص القرآنية للتدليل على هذا الأمر، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2
وهذه الآية قاعدة عظيمة من قواعد المجتمع البشري بعامة والمسلم بخاصة في التعاون على البر، والبر: كلمة جامعة لكل معاني الخير والصلاح، وأعظم ما يتحقق من الخير ما يكون في مصلحة الأمة ونهضتها، وتمكين المسلمين ورفعة شأنهم قال ابن تيمية (وكل بني أدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الأخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم) [38].
إن نهضة الأمة لا يمكن أن تتحقق إلا بالعمل الجماعي الذي هو القوة الحقيقية التي يعتمد عليها في الاستخدام الأمثل للطاقات، وتنظيم الجهود، والتنسيق بينها، وتوجيهها لخدمة الهدف المقصود.
ثامنا- الأخذ بالأسباب المادية مع التوكل عل الله
إن سنة الآخذ بالأسباب من- من أهم السنن الربانية التي لها علاقة قوية بمسالة النهضة، ولقد وجه الله المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السنة في كل شؤونهم الدنيوية والآخروية، والنصوص في القرآن التى تحث المسلمين على الآخذ بالأسباب كثيرة متضافرة، منها: قوله تعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ) (التوبة: 105 ، وقال تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مناكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الملك: 15 ، بل إن النصوص تشير إلى أن الآمر قد يكون مكتوباً في الصحف، ثم يتغير [39] لسبب من الأسباب: كالدعاء وصلة الرحم [40]، قال تعالى (يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد:39 ، ولقد أوحى الله إلى مريم- عليها السلام- وهي في المخاض- أن تهز بجذع النخلة ليسقط الرطب، ومن المعلوم: أن المرأة أشد ما تكون ضعفا وهي على هذا الحال، ومع هذا أمرها الله بذلك، وهذا يؤكد ضرورة الآخذ بالأسباب في كل الأحوال والظروف بقدر الاستطاعة.
والله سبحانه قادر على أن ينصر المؤمنين في قتالهم للكافرين ويلحق الهزيمة بأعدائهم، ومع هذا أمرهم بأعداد العدة والأخذ بالأسباب، فقال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ) (الأنفال:60 ، وقال تعالى (ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ) محمد:4 ، بل حتى الأنبياء المؤيدون بالوحي من السماء، مأمورون بالأخذ بهذه السنة الربانية، فهذا موسى- عليه السلام- أمره الله أن يضرب بعصاه البحر، وماذا عساها أن تفعل هذه العصا الصغيرة بهذا البحر المتلاطم الأمواج، ولكنها الأسباب، فاذا البحر فرقان، كل فرق كالطود العظيم، ولو شاء الله لجعله كذلك من دون ضرب، ولكنه سبحانه أراد أن يعلم عباده المؤمنين الأخذ بالأسباب (فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) الشعراء: 63.
تاسعاً- قيمة الجزاء من جنس العمل:
إن الله قد أودع هذا الكون سنناً ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، ينسج على منوالها نظام هذه الحياة، فالمسلم العاقل من يساير هذه السنن ولايصادمها، ومن هذه السنن: سنة "الجزاء من جنس العمل" فالعامل إنما يجزى من جنس عمله إن خيرا فخير، وان شرا فشر (جَزَاءً وِفَاقًا) النبأ: 26، وقد وردت أدلة كثيرة في القرآن تدل على هذه القاعدة، قال تعالى (ليْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) النساء:123,وقال تعالي (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (الصف: 5، وقال تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ) (يونس: 26، قال ابن تيمية- رحمه الله- "الثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قدر الله وفي شرعه، فإن هذا من العدل الذي تقوم به السماء والأرض" [41]
هذه قاعدة العدل في دين الله، والتي قامت عليها السموات والأرض، وهي التي تدفع الإنسان إلى العمل والبذل من أجل تحقيق الخير وازالة الشر، وهل هناك خير أعظم من السعي في سبيل نهضة المسلمين والتمكين لهذا الدين، وأي فساد أشد من تخلف المسلمين وذلهم وهوانهم على أعدائهم.
إذا أردنا نهضة الأمة، فلابد من إشاعة هذا المفهوم، مكافأة المحسن مادياً ومعنوياً على إحسانه؛ لكي يستمر في عطائه وبذله (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) الرحمن: 60، وأيضاً معاقبة المقصر على تفريطه وتقصيره من أجل أن يعتبر ولا يقع منه التقصير في المستقبل، ويكون عبرة لغيره (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) الشورى: 40.
عاشراً- الوحدة بين المسلمين:
إن المتأمل في القرآن الكريم يجد أنه يركز على مفهوم الوحدة، من خلال استخدام الخطاب الجماعي في معظم التوجيهات القرآنية، سواء ما يتعلق بموضوعات العقيدة أو العبادات أو المعاملات، وهذا يدل على اهتمام القرآن بشأن الاجتماع والترابط والتآلف بين المسلمين، ونلاحظ أن الخطاب القرآني الموجه للمسلمين يزداد مع زيادة متطلبات حياتهم الاجتماعية ومتطلبات وحدة كيانهم، حيث نرى هذا الخطاب في المدينة أكثر وضوحا ودلالة على الوحدة، إما من خلال:
الحديث المباشر عن هذه الوحدة، كالأمر بها في قوله (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ال عمران:104 ، وهذا أمر من الله بتكوين الأمة، والأمة هي الجماعة التي يتحقق فيها معنى الارتباط والوحدة التي تجعل أفرادها على اختلاف وظائفهم وأعمالهم كأنهم شخص واحد [42]، وهذه الجماعة هي التي تأخذ على عاتقها مهمة التغيير في الأمة والعمل على نهضتها، وقال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا) ال عمران: 103 ، وهو أمر لهم بالاستمساك بعهد الله أو القرآن مجتمعين، وقوله (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) المؤمنون:52 .
أو من خلال النهي عما يضاد الوحدة، وهو التفرق والاختلاف كما في قوله تعالى (ولاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ عمران:105 ، وقوله (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال:46 .
أو أن يكون الخطاب القرآني في الدعوة الى الوحدة بين المسلمين بشكل غير مباشر، مثل قوله تعالى (فَمَا لَكُمْ فِي الْمنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) النساء:88 ، ففيه حث على الوحدة حتي على مستوى النقاش والكلام واتخاذ المواقف، وقال تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ التوبة:107 ، حيث جعل التفريق بين المؤمنين مقابل الكفر والإرصاد اشارة الى أهمية الوحدة وخطورة التفرق والتشتت.
إن الأمة الإسلامية لا يمكن لها أن تنهض من واقعها وتفير من حالها وهي متفرقة متنازعة، ولكن هذه الوحدة لابد أن تقوم على أسس واضحة ومتينة.
وبعد فهذه عشر قيم رئيسة أرى- والله اعلم- أن النهضة لا يمكن أن تقوم بدونها وهي قيم كما نلاحظ جاء القرآن لترسيخها والتأكيد عليها، وهي شاملة لكل مجالات الحياة سواء فيما يتعلق بالجانب الديني أو الدنيوي [43]، وهي ليست قيما نظرية ولكنها قابلة للتطبيق في واقع الحياة، وقد ذكر القرآن نماذج حية تمثلت هذه القيم واقعاً عملياً، وهذا ما سنعرض له في المحور التالي بإذن الله من خلال قصة ذي القرنين في سورة الكهف.
يتبع