المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة



ابو وليد البحيرى
2019-01-18, 07:52 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (1)

د.وليد خالد الربيع



فالحكمة هي إصابة الحق بالعلم والعقل، وهي العلوم النافعة والعقول المسددة وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال، وهي معرفة الحق والعمل به، قال بعضهم: الحكمة كل كلمة وعظتك أو زجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيحة.
قال الشيخ ابن سعدي: «الحكمة جمال العلم وآلة العمل، وأقرب الوسائل لحصول المقاصد، الحكمة تهون الصعاب، وبها تندفع العوائق، كم ندم عجول طائش وكم أدرك المطلوب متأن رفيق، لا تساس الولايات الكبار ولا الصغار بمثل الحكم، ولا تختل إلا باختلال طريقها.
الحكيم إذا لم يدرك جميع المطلوب تنازل إلى بعضه، وإذا لم يحصل له ما قصده من الخير قنع باندفاع الشر، وإذا لم يندفع كل الشر دفع بعضه وخففه، وإذا لم يكن الصعب الشديد وأمكنه تلطيفه لطفه، يسابر الأمور والأحوال فينتهز فرصها ويأتي الأمور مع كل باب ووسيلة، لا يمل السعي ولا يدركه الضجر والسآمة، قد تلقى الأمور بصدر منشرح وقلب ثابت يقلبها بفكره على كل وجه، ويستعين برأي أهل الخبرة من الناصحين على ما يريده، لا تستفزه البدوات وأوائل الأمور حتى ينفذ فكره إلى باطنها، ولا تغره الظواهر حتى يتغلغل في مطاويها وعواقبها، ومع كثرة تفكيره وتقليبه الأمور من جميع وجوهها ومشاورته عند التوقف والاشتباه لابد أن ينكشف له ما كان خافيا ويتضح له ما كان مشتبها.»اهـ
وقد أثنى الله عز وجل على صاحب الحكمة فقال: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «ضمني النبي [ إلى صدره وقال: «اللهم علمه الحكمة» قال البخاري: «والحكمة الإصابة في غير النبوة».
وتطلق الحكمة في القرآن على معان منها الموعظة كما قال عز وجل:(حكمة بالغة فما تغني النذر} ، وتطلق على السنة كما قال عز وجل: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة}، وتطلق على الفهم كما قال عز وجل: {ولقد آتينا لقمان الحكمة}، وتطلق على النبوة كما قال تعالى: {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب}، وتطلق على اللطف واللين كما قال عز وجل: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}.
وفي الحديث قال [: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» متفق عليه، قال النووي: «معناه: يعمل بها ويعلمها احتسابا، والحكمة: كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح».
وأما حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله [:»الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها « أخرجه الترمذي وابن ماجه فهو حديث لا يصح، قال عنه الشيخ الألباني: ضعيف جدا. وقد ضعفه غير واحد من علماء الحديث.
ونقل عن بعض الصحابة الكرام الحث على التماس الحكم والمواعظ والآداب من حيث خرجت والإفادة منها ما دامت صوابا ولا تقتضي باطلا شرعا ولا عقلا ولا عرفا، ففي (جامع بيان العلم وفضله) لابن عبد البر عن علي رضي الله عنه أنه قال: «العلم ضالة المؤمن فخذوه ولو من أيدي المشركين، ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه»، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «خذوا الحكمة ممن سمعتموها؛ فإنه قد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرمية من غير رام»، وعند البيهقي في المدخل عن عكرمة: «خذ الحكمة ممن سمعت؛ فإن الرجل يتكلم بالحكمة وليس بحكيم فيكون كالرمية خرجت من غير رام «وعنده أيضا عن سعيد بن أبي بردة قال: «كان يقال: الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها حيث وجدها»، وعن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان يقال: «العلم ضالة المؤمن يغدو في طلبها، فإن أصاب منها شيئا حواه حتى يضم إليه غيره».
ومعنى: «الحكمة ضالة المؤمن» قال النووي: «أي لا يزال يتطلبها كما يتطلب الرجل ضالته»، وقال المناوي:» «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن» أي مطلوبه فلا يزال يطلبها كما يتطلب الرجل ضالته «فحيث وجدها فهو أحق بها»؛ أي بالعمل بها واتباعها كما أن صاحب الضالة لا ينظر إلى خسة من وجدها عنده».
وقال بعضهم: الجوهرة النفيسة لا يشينها سخافة غائصها ودناءة بائعها.
وعن الإمام مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال: «يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك؛ فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء».
من هذا المنطلق تأتي هذه المقالات الموجزة في بيان بعض الحكم التي وردت في كلام الله تعالى ورسوله الكريم [ وما نقل عن بعض الحكماء من باب التناصح والتذاكر، وقد قال عبد الرحمن الحبلي: «ليس هدية أفضل من كلمة حكمة تهديها لأخيك»، أسأل الله عز وجل أن ينفع بها، وبالله التوفيق.

ابو وليد البحيرى
2019-01-18, 08:12 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (2)
ومن يتوكل على الله فهو حسبه
د.وليد خالد الربيع


القرآن الكريم كلام الله عز وجل مليء بالحكم والأحكام، والفوائد والمواعظ، والقصص والأخبار، فهو منبع كل خير ومصدر كل فضيلة، وقد تنوعت أساليبه العربية البليغة في بيان تلك النفائس وصياغة أعظم المفاهيم بأسلوب رائع وجيز الألفاظ غزير المعاني، ومن الحكم القرآنية قوله عز وجل: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} الذي يدل على قوة الإيمان بالله تعالى وشدة الثقة به عز وجل.
قال الشيخ ابن السعدي: «{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي: في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ويثق به في تسهيل ذلك {فَهُوَ حَسْبُهُ} أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي العزيز الرحيم، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له ؛ فلهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} أي: لا بد من نفوذ قضائه وقدره، ولكنه {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} أي: وقتًا ومقدارًا، لا يتعداه ولا يقصر عنه. قال الجرجاني: «التوكل هو الثقة بما عند الله، واليأس مما في أيدي الناس»، وقال ابن رجب: «التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار في أمور الدنيا والآخرة، وكِلَة الأمور كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه». والتوكل على الله من أعظم واجبات التوحيد والإيمان، قال الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}، وبحسب قوة توكل العبد على الله يقوى إيمانه، ويتم توحيده، فعن ابْن عَبَّاس أَنَّهُ رَكِبَ خَلْف رَسُول اللَّه [ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه [: « يَا غُلام إِنِّي مُعَلِّمُك كَلِمَات: احْفَظْ اللَّه يَحْفَظْك، احْفَظْ اللَّه تَجِدهُ تُجَاهك وَإِذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّه، وَإِذَا اِسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّة لَوِ اِجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوك لَمْ يَنْفَعُوك إِلَّا بِشَيْءٍ كَتَبَهُ اللَّهُ لَك وَلَوِ اِجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوك لَمْ يَضُرُّوك إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّه عَلَيْك رُفِعَتِ الْأَقْلَام وَجَفَّتِ الصُّحُف». وعَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه [:» مَنْ نَزَلَت بِهِ فاقة - أي حَاجَة شديدة فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ - أي عرضها عليهم وطلب منهم إزالتها - لم تسد فاقته، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاَللَّهِ - أي اعتمد على ربه - فيوشك الله أي يسرع له بِرِزْقٍ عَاجِل أَوْ بِمَوْتٍ آجِلٍ»أخرجه أبو داود والترمذي. وصدق التوكل وحسن الثقة بالله عز وجل لا يمنع من طلب الرزق والحرص على الغنى الحلال الذي يعين الإنسان على طاعة ربه وحفظ كرامته والاستغناء عن الناس؛ فقد قال [:«لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيستغني بها، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه»، وقال أيضا:«ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يديه. قال: وكان داود لا يأكل الا من عمل يديه». وأخرج البيهقي بإسناده عن أبي بكر الصديق قال: «دينك لمعادك، ودرهمك لمعاشك، ولا خير في امرئ بلا درهم». وقال الفضيل بن عياض لابن المبارك: «أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان الى البلد الحرام كيف ذا وأنت بخلاف ذا ؟ فقال ابن المبارك: يا أبا علي أنا أفعل ذا لأصون بها وجهي، وأكرم بها عرضي، وأستعين بها على طاعة ربي، لا أرى لله حقا إلا سارعت إليه حتى أقوم به، فقال له الفضيل: يا بن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا». ولهذا قال الإمام أحمد: «ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله عز وجل، ولكن يعودون أنفسهم بالكسب، فمن قال بخلاف هذا القول، فهو قول إنسان أحمق «، وقال أيضا: «الاستغناء عن الناس بطلب العمل أعجب إلينا من الجلوس وانتظار ما في أيدي الناس».
فما أعظمها من حكمة قرآنية تحمل المسلم على الثقة بالله بقلبه مع كمال السعي ببدنه وفكره ليحقق أعلى مراتب الإيمان والتوحيد، وبالله التوفيق.

ابو وليد البحيرى
2019-01-21, 10:22 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن (3)
إيـاك وكـل أمـر يعتـذر منـه

د.وليد خالد الربيع








السنة النبوية المطهرة مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، فهي كل ما صدر عن رسول الله [ من أقوال وأفعال وتقريرات يستمد منها العقائد والأخلاق وأحكام الأفعال والأقوال، وقد أوتي [ جوامع الكلم واختصرت له المعاني الجليلة في الألفاظ القليلة، فاشتمل كلامه [ على أنوار النبوة الجامعة للمعاني الرفيعة والمفاهيم السديدة والحكم البليغة والفوائد العديدة؛ ولهذا اجتهد العلماء في استنباط تلك الكنوز النفيسة واستخراج تلك الجواهر الثمينة من كلام رسول الله [، وتقريبها لأيدي المحبين الصادقين من علماء وعباد ودعاة وأصناف المتبعين لهديه [ المستنين بسنته المقتفين لأثره.
ومن جملة الحكم الواردة في السنة المطهرة ما رواه أنس رضي الله عنه أن النبي [ قال: «إياك وكل أمر يعتذر منه» أخرجه الحاكم وهو حديث حسن (صحيح الجامع 2671)، وعن ابن عمر أن النبي [ قال: «صلّ صلاة مودع كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، وايأس مما في أيدي الناس تعش غنيا، وإياك وما يعتذر منه» (ص.ج3776).
قال المناوي:» أي احذر أن تتكلم بما يحتاج أن تعتذر عنه، وأنه لا ينبغي الدخول في مواضع التهم، ومن ملك نفسه خاف من مواضع التهم أكثر من خوفه من وجود الألم».
وعن عبد الملك بن عمير قال: أوصى رجل ابنه فقال: « يا بني ! أظهر اليأس مما في أيدي الناس فإنه غني، وإياك وطلب الحاجات فإنه فقر حاضر، وإياك وما يعتذر منه بالقول، وإذا صليت فصل صلاة مودع لا ترى أنك تعود، وإن استطعت أن تكون اليوم خيرا منك أمس وغدا خيرا منك اليوم فافعل».
الاعتذار خلق جميل يدل على تواضع الإنسان وإنصافه من نفسه حيث عرف خطأه وعمل على إصلاح ما أفسده، فهو كما قال المناوي:«أن يتحرى الإنسان ما يمحو أثر ذنبه »، فصاحب الخلق الرفيع يراعي مشاعر الآخرين ويهتم بأحوالهم ومكانتهم، فإذا صدر منه شيء قد يسيء إليهم أو يؤذيهم بادر إلى الاعتذار ممن وقع الخطأ في حقه، وطلب العفو منه أو بين له مقصوده فيما صدر منه حتى لا يساء فهمه أو يعامل بنقيض قصده؛ فبذلك تستدام الأخوة الإيمانية ويغلق باب المشاحنات والخصومات وما يتبع ذلك من إفساد وإضرار وتفرق وعداء.
والأكمل من الاعتذار هو ألا يقع الإنسان فيما يوجب الاعتذار أصلا، فيحفظ لسانه وجوارحه عن الإساءة إلى الناس ابتداء، ويحرص على التزام الاستقامة في القول والعمل، مع الله عز وجل ومع الناس ومع كل من له حق عليه، ويراعي أن يكون دائما متنبها لشعور الآخرين دون مبالغة، متخليا عن الأنانية والفردية التي تحكم سلوك بعض الناس فتجعلهم يعيشون في دنياهم الخاصة بهم متناسين وجود الآخرين الذي لهم حقوق ومشاعر أيضا تحتاج إلى عناية ورعاية واهتمام ومراعاة، فقد نهانا الله عز وجل عن إيذاء المؤمنين فقال عز وجل: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} وقال [: «يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين»، وكما يحب الإنسان أن يهتم الناس بحقوقه ومشاعره فعليه أيضا أن يقوم بذلك, قال [:» لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه «وبالمقابل أن يكره لأخيه ما يكره لنفسه، وبالله التوفيق.

ابو وليد البحيرى
2019-01-21, 10:28 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن (4)
يُعرف العاقل من عمله لا من ثوبه

د.وليد خالد الربيع



من الأمثلة والحكم المنقولة عن بعض الشعوب قولهم: «يُعرف العاقل من عمله لا من ثوبه »، وهذا المعنى صحيح كما دلت عليه النصوص الشرعية.
فالعقل هو ما يكون به التفكير والاستدلال، ويطلق على ما يحصل به إدراك الأشياء على حقيقتها بالجملة، ومن آثار العقل تمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، والحسن والقبح، ونحو ذلك، كما قال ابن القيم: «نور العقل يضيء في ليل الهوى، فتلوح جادة الصواب، فيتلمح البصير في ذلك النور عواقب الأمور».
فإذا كانت أقوال الإنسان وأفعاله وتدبيراته تابعة للحكمة، موافقة للصواب، غير متقدمة على أوانها ولا متأخرة، ولا فيها زيادة على عما ينبغي ولا نقص، فبتحقيق هذا يُعرف كمال عقل الإنسان ورزانته ودرايته كما قرر ذلك الشيخ ابن سعدي. وقد اختل هذا المعيار لدى بعض الناس، فأصبح الحكم على الأشخاص عندهم بناء على مظاهرهم وزينتهم ومرافقهم التي يستعملونها كالمراكب والمساكن والمكاتب ونحو ذلك مما لا يدل على عقل الإنسان ولا على شخصيته في الواقع. فالأدلة الشرعية توجه الأنظار إلى معيار التفاضل الحقيقي، وميزان الكمال الإنساني، وهو ما يقوم في القلوب من عقائد، وما يستقر في النفوس من أخلاق، وما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال وأحوال موافقة للشرع والعقل السليم. قال عز وجل: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} قال ابن كثير: «أي إنما تتفاضلون عند الله تعالى بالتقوى لا بالأحساب»، وقد وردت الأحاديث بذلك، فعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله [ أي الناس أكرم؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم» أخرجه البخاري.
وقال عز وجل: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}، وقال تعالى: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله} وقال عز وجل: {ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب}، فانظر كيف جعل الإيمان بمعناه الشامل، والعمل الصالح بأنواعه المتعددة سبيلا لدخول الجنان والقرب من الرحمن.
وفي المقابل تجد النصوص الشرعية توجه العقول والأبصار إلى عدم الاغترار بالمظاهر الخارجية؛ لأنها ليست ميزانا دقيقا ولا معيارا صادقا لحقيقة الأشياء والأشخاص، قال عز وجل: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} قال ابن سعدي: «لا ينبغي للإنسان أن يغتر بحالة الإنسان الدنيوية، ويظن أن إعطاء الله إياه في الدنيا دليل على محبته له، وأنه على الحق، بل الواجب على العبد أن يعتبر الناس بالحق، وينظر إلى الحقائق الشرعية، ويزن بها الناس، ولا يزن الحق بالناس، كما عليه من لا علم له ولا عقل له».
وقال عز وجل: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} قال ابن سعدي: «أي لا تغتر بما أعطاهم الله في الدنيا من الأموال والأولاد، فليس ذلك لكرامتهم عليه، وإنما ذلك إهانة منه لهم، فيتعبون في تحصيلها، ويخافون من زوالها، ولا يتهنأون بها».

وقال عز وجل عن المنافقين {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم} قال ابن سعدي: «فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدي الصالح شيء ولهذا قال: {كأنهم خشب مسندة} لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض».
وقد قرر رسول الله [ تلك القاعدة الذهبية والمعيار الدقيق بقوله: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» رواه مسلم، قال القرطبي: «أي لا يثيبكم عليها ولا يقربكم بها، ذلك كما قال تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى} ثم قال: {إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون}، ويستفاد من هذا الحديث فوائد:
- إحداها: صرف الهمة إلى الاعتناء بأحوال القلب وصفاته، بتحقيق علومه وتصحيح مقاصده، وتطهيره عن مذموم الصفات.
- الثانية: أن الاعتناء بإصلاح القلب وبصفاته مقدم على الأعمال بالجوارح، فتخصيص القلب بالذكر مقدم على الأعمال إنما كان لأن أعمال القلوب هي المصححة لسائر الأعمال. - الثالثة: لما كانت القلوب هي المصححة للأعمال الظاهرة، وأعمال القلب غيب عنا، فلا يقطع بمغيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله تعالى من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال، ولعل من رأينا منه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه، فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية، ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة، بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة، لا تلك الذات المسيئة، فتدبر هذا فإنه نظر دقيق.
والخلاصة: إن المظهر الحسن والترجل والتطيب من الأمور المشروعة, ومن زينة الحياة, لكنها ليست الأصل, ليست هي المقياس في الحكم على الناس كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي[: «رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره»، قال النووي: «وهذا لعظم منزلته عند الله تعالى، وإن كان حقيرا عند الناس».

ابو وليد البحيرى
2019-01-23, 05:26 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (5) ولا تـمـنن تستـكـثر




د.وليد خالد الربيع






القرآن الكريم زاخر بالحكم الجليلة والمواعظ البليغة التي ترتقي بالعقول وتزكي النفوس وتهذب السلوك ليسمو المسلم إلى أعلى درجات الإنسانية وأرفع منازل العبودية.


ومن الحكم القرآنية قوله عز وجل: {وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}، وقد وقف المفسرون مع هذه الآية طويلا لاستنباط ما فيها من المعاني والآداب، ولابد من بيان معاني ألفاظها أولا:

أما المنّ، ففي اللغة لها معان عدة منها:

الأول: القطع والانقطاع، يقال: مننت الحبل: قطعته، ومنه قوله عز وجل: {لهم أجر غير ممنون} أي غير مقطوع ولا منقوص، ومنه سمي الموت بالمنون لأنه ينقص العدد ويقطع المدد. الثاني: اصطناع الخير، يقال: منّ عليه إذا أحسن إليه وأنعم وصنع صنعا جميلا، وتطلق (المنة) على النعمة الثقيلة، قال الراغب الأصفهاني: «ويقال ذلك على وجهين:

- أحدهما: أن يكون ذلك بالفعل، فيقال: مـنّ فلان على فلان، إذا أثقله بالنعمة، وعلى ذلك قوله عز وجل: {لقد منّ الله على المؤمنين}، {كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم}، {يمنّ على من يشاء}، وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله تعالى.

- الثاني: أن يكون ذلك بالقول، وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة، ولقبح ذلك قيل: «المنـّة تهدم الصنيعة»، ولحسن ذكرها عند الكفران قيل: «إذا كفرت النعمة حسنت المنـّة»، وقوله تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان} فالمنـّة منهم بالقول، ومنة الله عليهم بالفعل، وهو هدايته إياهم»، المن بالقول: تذكير المنعِم المنعَم عليه بإنعامه.

وأما الاستكثار: فهو عدّ الشيء كثيرا، وأيضا يقال: استكثر من الشيء إذا رغب في الكثير منه.

وقد ذكر الطاهر بن عاشور مناسبة عطف {ولا تمنن تستكثر} على الأمر بهجر الرجز أن المن في العطية كثير من خلق أهل الشرك، فلما أمره الله بهجر الرجز نهاه عن أخلاق أهل الرجز نهيا يقتضي الأمر بالصدقة والإكثار منها بطريق الكناية فكأنه قال: تصدق وأكثر من الصدقة ولا تمنن، أي: لا تعد ما أعطيته كثيرا فتمسك عن الازدياد فيه، أو تتطرق إليك ندامة على ما أعطيت.

وللمفسرين في هذه الآية أقوال كثيرة:

منها قول ابن عباس: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، قال الضحاك: هذا حرمه الله على رسول الله [ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق وأباحه لأمته، وهو اختيار القرطبي؛ لأنه يقال: مننت فلانا كذا أي أعطيته، ويقال للعطية المنة، فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها، فإن الانتظار تعلق بالأطماع، وقد قال الله تعالى له: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} وذلك جائز لسائر الخلق لأنه من متاع الدنيا، وطلب الكسب والتكاثر بها.

ومنها قول مجاهد : لا تضعف أن تستكثر من الخير، من قولك حبل منين إذا كان ضعيفا، ودليله قراءة ابن مسعود {ولا تمنن تستكثر من الخير}.

ومنها قول مجاهد والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير، فإنه مما أنعم الله عليك، قال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله عليك إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته، قال الحسن: لا تمنن على الله بعملك فتستكثره، وهو اختيار الطبري ; لِأَنَّ ذَلِكَ فِي سِيَاق آيَات تَقَدَّمَ فِيهِنَّ أَمْر اللَّه نَبِيّه [ بِالْجِدِّ فِي الدُّعَاء إِلَيْهِ , وَالصَّبْر عَلَى مَا يَلْقَى مِنَ الْأَذَى فِيهِ.

والخلاصة أنه ينبغي للمسلم أن ينكر ذاته، ولا يستكثر عمله، ويستقل جهده، فيعلم أن كل خير فمن الله وحده، بالتوفيق إليه ابتداء، والإعانة عليه أثناءه، والمن عليه بالقبول انتهاء، فيحمد الله على اختياره واصطفائه، ويستعين به على القيام بعبوديته، ويدعوه راجيا أن يقبل عمله ولا يضيع سعيه، فهذا باب التوفيق وصراط السعداء.

قال ابن القيم:» طوبى لمن أنصف ربه، فأقر له بالجهل في علمه، والآفات في عمله، والعيوب في نفسه، والتفريط في حقه، والظلم في معاملته، فإن آخذه بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤاخذه بها رأى فضله، وإن عمل حسنة رآها من منته وصدقته عليه، وإن قبلها فمنة وصدقة ثانية، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به، وإن عمل سيئة رآها من تخليه عنه، وخذلانه له، وإمساك عصمته عنه، وذلك من عدله فيه، فيرى في ذلك فقره إلى ربه، وظلمه في نفسه، فإن غفرها له فبمحض إحسانه وجوده وكرمه.


ونكتة المسألة وسرها: أنه لا يرى ربه إلا محسنا، ولا يرى نفسه إلا مسيئا أو مفرطا أو مقصرا، يرى كل ما يسره من فضل ربه عليه وإحسانه إليه، وكل ما يسوؤه من ذنوبه وعدل الله فيه». أهـ

ابو وليد البحيرى
2019-01-23, 05:31 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (6) إنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً أوْ يُلِمُ



د.وليد خالد الربيع





في السُّنة المطهرة من الحكم البليغة والأمثال الحكيمة ما يعد مصدرا لكثير من المعاني النفيسة والمفاهيم الرفيعة، ومن ذلك قوله [: «إنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً أوْ يُلِمُ»، وقد ‏عدّ ابن دريد وهو من علماء اللغة هذه العبارة من كلام النبي [ من الكلام المفرد الوجيز الذي لم يسبق [ إلى معناه، وكل من وقع شيء منه في كلامه فإنما أخذه منه.


وقبل الدخول في معنى الحديث ومقاصده لابد من بيان معاني ألفاظه:

الربيع: هو النهر الصغير، والْحَبَطُ ‏:‏ انتفاخُ البطن، وهو أن تأكل الإبلُ الذُّرَقَ فتنتفخ بطونها إذا أكثرت منه يقال حبطت الدابة تحبط حبطا إذا أصابت مرعى طيبا فأمعنت في الأكل حتى تنتفخ فتموت، وقوله ‏»‏أو يلم‏»‏ والإلمام‏:‏ النزول ُ، والإلمام‏:‏ القرب، والمعنى يقتل أو يَقْرُبُ من القتل.

أما معنى الحديث فقد قال النووي:» ومعناه: أن نبات الربيع وخضره يقتل حبطا بالتخمة لكثرة الأكل، أو يقارب القتل إلا إذا اقتصر منه على اليسير الذي تدعو إليه الحاجة وتحصل به الكفاية المقتصدة فإنه لا يضر، وهكذا المال هو كنبات الربيع مستحسن تطلبه النفوس وتميل إليه، فمنهم من يستكثر منه ويستغرق فيه غير صارف له في وجوهه، فهذا يهلكه أو يقارب إهلاكه، ومنهم من يقتصد فيه فلا يأخذ إلا يسيرا، وإن أخذ كثيرا فرقه في وجوهه كما تثلطه الدابة فهذا لا يضره.

فهذا الحديث قاله [ في صفة الدنيا والحّث على قلة الأخذ منها‏، ولكي يفهم فهما شاملا لابد من الوقوف على سبب وروده، فقد روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري أن النبي [ قال: ‏«‏إني أخَافُ عليكم بعدي ما يُفْتَح عليكم من زَهْرة الدنيا وزينتها ‏»‏ فقال رجل ‏:‏ أوَ يأتِي الخيرُ بالشرِّ يا رسول اللّه‏؟‏ فقال [ ‏: «‏إنَّهُ لا يأتي الخيرُ بالشر، وإن مما يُنْبِتُ الربيعُ ما يقتل حَبَطا أو يلم، إلا آكلة الْخَضِرِ فإنها أكلَتْ حتى إذا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلطَتْ وَبَالَتْ ثم رَتَعَتْ‏»‏.‏

قال‏ العلماء:‏ وفي هذا الحديث مثلان‏:‏ أحدهما: للمُفْرِطِ في جمع الدنيا وفي منعها من حقها، والآخر للمقتصد في أخْذِها والانتفاع بها، فأمّا قولُه: «‏وإن مما ينبت الربيعُ ما يقتل حَبَطاً أو يُلمُّ‏»‏ فهو مثل المُفْرِط الذي يأخذها بغير حق، وذلك أن الربيعَ يُنْبِتُ أحْرَار العُشْب فتستكثر منها الماشية حتى تنتفخَ بطونُها إذا جاوزَتْ حدَّ الاحتمال، فتنشق أمعاؤها وتهلك، كذلك الذي يجمع الدنيا من غير حِلِّها ويمنع ذا الحق حقَّه يهلك في الآخرة بدخوله النار‏.‏

وأما مَثَلُ المقتصد فقوله [: ‏«‏إلا آكلة الْخَضِر‏»‏ بما وصفها به، وذلك أن الْخَضِرَ ليست من أحرار البقول التي يُنْبتها الربيع، ولكنها من الْجَنْبَة التي ترعاها المواشي بعد هَيْج البقول، فضرب [ آكلةَ الخضِر من المواشي مثلاً لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجَمْعها، ولا يَحْمله الحرصُ على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وَبَالها كما نَجَتْ آكلةُ الخضِر، ألا تراه قال [:‏ «فإنها إذا أصابَتْ من الْخَضِرِ استقبلت عينَ الشمس فَثَلَطَتْ وبالت‏»‏ أراد أنها إذا شبعت منها بَرَكَتْ مستقبلةَ الشمس تستمرىء بذلك ما أكَلَتْ وتجترُّ وتَثْلِط، فإذا ثَلَطته فقد زال عنها الْحَبَط، ‏وإنما تَحْبَطُ الماشيةُ لأنها لا تثلِطُ ولا تبول‏، ‏ فهذا المثل يضرب في النهي عن الإفراط‏.‏

قال ابن حجر: «ويؤخذ منه أن الرزق ولو كثر فهو من جملة الخير، إنما يعرض له الشر بعارض البخل به عمن يستحقه، والإسراف في إنفاقه فيما لم يشرع، وأن كل شيء قضى الله أن يكون خيرا فلا يكون شرا وبالعكس، ولكن يخشى على من رزق الخير أن يعرض له في تصرفه فيه ما يجلب له الشر».

وفيه أن المكتسب للمال من غير حله لا يبارك له فيه لتشبيهه بالذي يأكل ولا يشبع، وفيه ذم الإسراف وكثرة الأكل والنهم فيه، وأن اكتساب المال من غير حله، وكذا إمساكه عن إخراج الحق منه سبب لمحقه فيصير غير مبارك كما قال تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}، وقال [:» إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى « متفق عليه.

ابو وليد البحيرى
2019-01-26, 02:52 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (7) الحق كالزيت يطفو دائما



د.وليد خالد الربيع





الناظر في أدبيات الأمم وثقافات الشعوب يجد أقوالا وأمثالا وجيزة الألفاظ عميقة المعاني، تدل على حكمة ورشد، وتوافق المبادئ الإسلامية والمعاني الشرعية التي وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة ولا تخالفها، ومن ذلك المثل القائل: «إن الحق كالزيت يطفو دائما»، أي أن الحق دائما يعلو على ما سواه.

فالحق نقيض الباطل، يقال: حق الأمر أي وجب وثبت وصار حقا، فالحق هو الثابت الواجب والصحيح ، ويقابل الحق (الباطل) وهو ما لا ثبات له عند الفحص والتمييز، يقال بطل الشيء: فسد وسقط حكمه.

والحق له إطلاقات ؛ فالحق من أسماء الله الحسنى قال عز وجل: {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين}، ومعنى هذا الاسم: أن الله عز وجل هو الحق في ذاته وأسمائه وصفاته، فهو واجب الوجود، كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته، ولا وجود لشيء إلا به.

كما أن الإسلام هو دين الحق قال تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} قال ابن سعدي: «فكان ما بعث الله به محمدا [ مشتملا على بيان الحق من الباطل في أسماء الله وأوصافه وأفعاله وفي أحكامه وأخباره والأمر بكل مصلحة نافعة للقلوب والأرواح والأبدان، من إخلاص الدين لله وحده ومحبة الله وحده وعبادته، والأمر بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم والأعمال الصالحة والآداب النافعة، والنهي عن كل ما يضاد ذلك ويناقضه من الأخلاق والأعمال السيئة المضرة للقلوب والأبدان والدنيا والآخرة ».

كما يطلق الحق على القول أو الفعل الموافق للصواب والحكمة كما في قوله تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق}.

وحيث إن الحق والباطل ضدان، والضدان لا يجتمعان، صار التدافع بينهما أمرا لازما وحتميا؛ لأن ثبات أحدهما يقتضي زوال الآخر أو إضعافه، ولهذا تعذر وجودهما معا دون غلبة أحدهما على الآخر.

وقد بين الله عز وجل أن للباطل قوة تحميه وتدافع عنه كما قال تعالى: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون}، وقرر تبارك وتعالى أن قوة الكفر والضلال لا تفتر حتى تزيل الحق وأتباعه من أرض الواقع كما قال عز وجل: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون}، وبشرنا الله تعالى بأنه ينصر الحق وأهله فقال: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} وقال: {ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون}، وقال النبي [: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» رواه البيهقي، وحسنه الشيخ الألباني في الإرواء، فهذا المثل المذكور موافق لما قررته الأدلة الشرعية والقواعد الدينية، وهو كلمة حكيمة تبشر أصحاب الحق بالرفعة والتمكين في الدنيا والآخرة بإذن الله.

ابو وليد البحيرى
2019-01-26, 02:57 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (8) إنما شفاء العيّ السؤال



د.وليد خالد الربيع




من الحكم النبوية النفيسة، والتوجيهات الدينية العميقة ما جاء في حديث أبي داود عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه:هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله[ أخبر بذلك فقال: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده».

قوله: العي بكسر العين هو التحير في الكلام، وأيضا العي: الجهل، فمعنى هذه العبارة الحكيمة كما قال شراح الحديث: «أي لِمَ لَمْ يسألوا حين لم يعلموا؛ لأن شفاء الجهل السؤال»، فهذا الحديث يدل على أمور كثيرة من الفوائد الفقهية والسلوكية منها:

- الأول: خطورة الجهل وعظيم ضرره على المسلمين أفرادا ومجتمعات.

الجهل ـ وهو عدم العلم ـ عموما، والجهل بأحكام الشريعة على وجه الخصوص من الأمور المذمومة التي لها آثار خطيرة على الأفراد والمجتمعات، وقد جاءت نصوص كثيرة في ذم الجهل والتحذير من آثاره، منها قوله تعالى: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} قال ابن القيم: «إن الله تعالى وصف أهل النار بالجهل، وأخبر بأنه سد عليهم طريق العلم، ثم ذكر الآية وقال: «فأخبروا أنهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون، والسمع والعقل هما أصل العلم وبهما ينال».

وقال جل شأنه: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} قال ابن القيم: «فأخبر سبحانه أنهم لم يحصل لهم علم من جهة من جهات العلم الثلاث وهي العقل والسمع والبصر، فقد وصف سبحانه أهل الشقاء بعدم العلم، وشبههم بالأنعام تارة، وتارة بالحمار الذي يحمل الأسفار، وتارة جعلهم أضل من الأنعام، وتارة جعلهم شر الدواب عنده، وتارة جعلهم أمواتا غير أحياء، وتارة أخبر بأنهم في ظلمات الجهل والضلال، وتارة أخبر بأن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا وعلى أبصارهم غشاوة، وهذا كله يدل على قبح الجهل وذم أهله وبغضه لهم، كما أنه يحب أهل العلم ويمدحهم ويثني عليهم ».

ومن النصوص قوله تعالى: «إن بين يدي الساعة أياما يرفع فيها العلم، وينزل فيها الجهل، ويكثر فيها الهرج - الهرج: القتل» متفق عليه، وقال ابن مسعود: «قراؤكم وعلماؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤوسا جهالا يقيسون الأمور برأيهم»، وقال أبوالدرداء: «ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون، تعلموا قبل أن يرفع العلم، فإن رفع العلم ذهاب العلماء».

قال ابن القيم:» الجهل نوعان: جهل علم ومعرفة، وجهل عمل وغي، وكلاهما له ظلمة ووحشة في القلب، وكما أن العلم يوجب نورا وأنسا، فضده يوجب ظلمة ويوقع وحشة، وقد سمى الله تعالى العلم الذي بعث به رسوله نورا وهدى وحياة، وسمى ضده ظلمة وموتا وضلالا، قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}، وقال تعالى: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}.

- الثاني: أهمية السؤال لتحصيل العلم والخروج من الجهل:

مما يستفاد من هذا الحديث ما قاله ابن القيم: «جعل النبي [ الجهل داء، وجعل دواءه سؤال العلماء»، فالجهل من أخطر الأمراض القلبية التي لها آثار خطيرة تظهر في دين الشخص وسلوكه؛ لذا كان العلم سبيلا متعينا لرفع الجهل كما قال الإمام أحمد: «الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه»، وطلب العلم له سبل شتى منها سؤال أهل العلم المؤهلين، وهنا ننبه إلى أمور ضرورية منها:

- أولا: لابد من سؤال المؤهلين علميا للإجابة:

يظن بعض الناس أن كل من انتسب إلى الدين بصفة ما ـ كإطلاق لحيته أو تقصير ثوبه أو محافظته على العبادة ـ أنه أهل للسؤال عن الأمور الشرعية، وهو قادر على الإجابة عنها، وهذا أمر غير صحيح، لأن الأجوبة الدينية هي بيان شرع الله تعالى وإخبار عن أحكامه، فلابد أن يكون الشخص عالما بما يقول، مستندا إلى حجة شرعية في ذلك، فالله تبارك وتعالى يأمر بسؤال أهل الاختصاص فقال: {وما أرْسلْنا مِنْ قبْلِك إِلا رِجالا نُوحِي إِليْهِمْ فاسْألُوا أهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تعْلمُون}.

ومن أجاب بغير علم يخشى عليه الوقوع في الكذب على الله تعالى، وذلك من أخطر الأمور، قال: تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون}، وقال رسول الله[: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» متفق عليه، قال النووي: «معناه: أنه يموت حملته ـ أي العلم ـ ويتخذ الناس جهالا يحكمون بجهالاتهم، فيَضِلون ويُضِلون»، وقال الشاطبي:« ودل هذا الحديث على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل العلماء، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم، فتؤتى الناس من قبله»، قال عمر:«من سوده قومه على فقه كان حياة له ولهم، ومن سوده قومه على غير فقه كان هلاكا له ولهم».

- ثانياً: لابد من حسن السؤال وحسن الإنصات للجواب:

يقوم بعض السائلين بعرض أسئلتهم بطريقة غامضة أو مملة أو منفرة فلا يحصل على الجواب المناسب، كما أن بعض السائلين لا يحسن الاستماع للجواب ولا يفهم ما يجاب به عن سؤاله، فتفوته الفائدة من هاتين الجهتين، قال ابن القيم: «للعلم ست مراتب: أولاها: حسن السؤال، الثانية: حسن الإنصات والاستماع، الثالثة: حسن الفهم، الرابعة: الحفظ، الخامسة: التعليم، السادسة: وهي ثمرته وهي العمل به ومراعاة حدوده، فمن الناس من يحرمه لعدم سؤاله، إما لأنه لا يسأل بحال، أو يسأل عن شيء وغيره أهم منه، كمن يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها، ويدع ما لا غنى له عن معرفته، وهذه حال كثير من جهال المتعلمين، ومن الناس من يحرمه لسوء إنصاته، فيكون الكلام والمماراة آثر عنده وأحب إليه من الإنصات، وهذه آفة كامنة في كثير من النفوس الطالبة للعلم، وهي تمنعهم علما كثيرا ولو كانوا حسني الفهم».

والخلاصة أن قول النبي [: «إنما شفاء العي السؤال» حكمة بالغة ترشد إلى معان جليلة جديرة بالتأمل والعمل، وعلى المسلم أن يتخذها نبراسا له في شؤونه الدينية والدنيوية.

ابو وليد البحيرى
2019-01-29, 07:46 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (9) السنابلة الفارغـة تشمخ برأسها عالياً


د.وليد خالد الربيع




من الآفات الاجتماعية الخطيرة، والمظاهر السلوكية المقيتة، ما يقوم به بعض الناس من استكبار وتعاظم ؛ فتجده مزهوا بنفسه، يختال في مشيته تيها، يجر أذياله كبرا، قد استطال عجبا، ونأى بجانبه تعاظما، ينظر إلى غيره شزرا، وهي حالة بغيضة تستجلب كراهية الناس ومقتهم، فإذا كان المتكبر خاليا من أسباب الكبر كالغنى والحسب والنسب والعلم ـ مع أن ذلك لا يسوغ الكبرـ كان الاستكبار أقبح وأبشع وأفظع.
وسبب الكبر جهل الإنسان بنفسه وبربه، ولهذا فإن من الأقوال الحكيمة قولهم: (السنابلة الفارغة تشمخ برأسها عاليا)، فالسنابل التي حملت الحب تميل برؤوسها تواضعا لثقل ما تحمل، أما السنابل التي خلت من الحب ولم تنوء بحمل شيء فإنها ترتفع عاليا، وكذلك فإن من عرف حقيقة نفسه في بدايتها ونهايتها ومصيرها، وعرف آفاتها وأمراضها، وعرف ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وفضله وإحسانه، تواضع وتطأطأ، وتجافى عن مقاعد الكبر، ونأى عن مذاهب العجب، أما الجاهل فإنه لخفة عقله ونقص علمه وضعف تمييزه يتعالى ويتعاظم ويتكبر كالسنبلة الخالية.والكبر آفة خطيرة، ومرض عضال، يستجلب كل خلق ذميم، ويفوت كل خلق محمود. قال ابن حجر:«الكبر الحالة لتي يختص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره، وأعظم ذلك أن يتكبر على ربه بأن يمتنع من قبول الحق والإذعان له بالتوحيد والطاعة». ويكفي الكبر والمستكبرين ذما أن الله تعالى وصف في كثير من الآيات المعرضين عن دينه المعارضين لرسله (بالاستكبار) كما قال عز وجل: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه}، وقال سبحانه: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق}، وقال عز وجل: {إنه لا يحب المستكبرين}، وآيات كثيرة في ذم الكبر والمستكبرين. وأما الأحاديث فكثيرة، منها حديث ابن مسعود أن النبي [ قال:« لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة»، قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس» أخرجه مسلم، قال النووي: «غمط الناس: معناه احتقارهم، أما بطر الحق فهو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا» إلى أن قال: «هذا الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف وهو الارتفاع على الناس واحتقارهم ودفع الحق». وعن حارثة بن وهب أنه سمع النبي [ قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة ؟» قالوا: بلى، قال:«كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره»، ثم قال:«ألا أخبركم بأهل النار؟» قالوا:بلى، قال: «كل عتل جواظ مستكبر» متفق عليه قال النووي:« متضعف معناه: متواضع متذلل خامل واضع من نفسه، قال القاضي:وقد يكون الضعف هنا: رقة القلوب ولينها وإخباتها للإيمان، والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء، كما أن معظم أهل النار القسم الآخر، وليس المراد الاستيعاب في الطرفين» ، والعتل: الجافي الفظ الغليظ شديد الخصومة، والجواظ فهو الجموع المنوع وقيل: كثير اللحم المختال في مشيته، والمستكبر: فهو صاحب الكبر. وحديث البخاري أن النبي [ قال: « بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مرجل جمته ـ الجمة هي مجتمع الشعر إذا تدلى من الرأس إلى المنكبين ـ إذ خسف الله به، فهو يتجلجل ـ أي ينزل في الأرض مضطربا متدافعا ـ إلى يوم القيامة». وعن ابن عمرو أن النبي [ قال:«كلوا وتصدقوا وألبسوا في غير إسراف ولا مخيلة» أخرجه النسائي وحسنه الألباني، قال العلماء: « هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة، فإن السرف في كل شيء يضر بالجسد، ويضر بالمعيشة فيؤدي إلى الإتلاف، ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال، والمخيلة تضر بالنفس حيث تكسبها العجب، وتضر بالآخرة حيث تكسبها الإثم، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس». ومما يتناول الصورة التي ذكرت في المقال ما جاء عن أبي هريرة أن رسول الله[ قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر» أخرجه مسلم، وفي رواية النسائي التي صححها الألباني: «أربعة يبغضهم الله عز وجل: البياع الحلاف، والفقير المختال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر»، قال القاضي عياض مبينا سبب الوعيد المذكور في الحديث: «سببه أن كل واحد منهم التزم المعصية المذكورة مع بعدها منه، وعدم ضرورته إليها، وضعف دواعيها عنده، وإن كان لا يعذر أحد بذنب « إلى أن قال:«وكذلك العائل الفقير قد عدم المال، وإنما سبب الفخر والخيلاء والتكبر والارتفاع على القرناء (الثروة في الدنيا ) لكونه ظاهرا فيها، وحاجات أهلها إليه، فإذا لم يكن عنده أسبابها فلماذا يستكبر ويحتقر غيره؟ فلم يبق فعله وفعل الشيخ الزاني والإمام الكاذب إلا لضرب من الاستخفاف بحق الله تعالى والله أعلم». قال بعض العلماء: «التواضع في الخلق كلهم حسن، وفي الأغنياء أحسن، والكبر في الخلق كلهم قبيح، وفي الفقراء أقبح «. قال أبوعلي الجوزجاني:« النفس معجونة بالكبر والحرص والحسد، فمن أراد الله تعالى هلاكه منع منه - أي لم يوفقه -التواضع والنصيحة والقناعة، وإذا أراد الله تعالى به خيرا لطف به في ذلك، فإذا هاجت في نفسه نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى، وإذا هاجت نار الحسد في نفسه أدركتها النصيحة مع توفيق الله عز وجل، وإذا هاجت في نفسه نار الحرص أدركتها القناعة مع عون الله عز وجل».قال مالك بن دينار: «إذا طلب العبد العلم ليعمل به كسره - أي ألزمه التواضع - وإذا طلبه لغير العمل زاده فخرا ». فعلى المسلم أن يكون متواضع النفس، خافض الجناح، دمث الطباع، رضي الأخلاق، لين الجانب، أسلس من الماء، وألين من العهن، يستعين على ذلك بسؤال الله تعالى والاستعانة به وصدق اللجوء إليه، مع أخذ نفسه بالمجاهدة والدربة، والله الموفق لكل خير.

ابو وليد البحيرى
2019-01-29, 07:51 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (10) أليــس الصبـح بقـريب


د.وليد خالد الربيع



ختم الله عز وجل قصة لوط عليه السلام مع قومه في سورة هود بقوله تعالى: {قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}.
قال الطاهر بن عاشور :» وجملة {إن موعدهم الصبح} مستأنفة ابتدائية قطعت عن التي قبلها اهتماما وتهويلا، والموعد: وقت الوعد. والوعد أعم من الوعيد فيطلق على تعيين الشر في المستقبل، والمراد بالموعد هنا موعد العذاب الذي علمه لوط عليه السلام إما بوحي سابق، وإما بقرينة الحال، وإما بإخبار من الملائكة في ذلك المقام طوته الآية هنا إيجازا، وبهذه الاعتبارات صح تعريف الوعد بالإضافة إلى ضميرهم.
وجملة {أليس الصبح بقريب} استئناف بياني صدر من الملائكة جوابا عن سؤال يجيش في نفسه من استبطاء نزول العذاب، والاستفهام تقريري؛ ولذلك يقع في مثله التقرير على النفي إرخاء للعنان مع المخاطب المقرر ليعرف خطأه. وإنما قالوا ذلك في أول الليل»اهـ.
فهاتان الجملتان ختمت بهما القصة الكريمة لتكونا منطلقا لكل من وقع في ضيق أو كرب أو شدة، فطال عليه الليل، وضاقت عليه الأرض برحبها، فضعف احتماله، ونفر صبره، فتراه حائر الطرف، ذاهب القلب، قد تساقطت نفسه حسرة، وكادت تزهق روحه من الهلع، وأوشك أن يقضى عليه من الغم، فتاتي مثل هذه المبشرات من الله عز وجل في كتابه الكريم وسنته نبيه [ لتفرج الهموم، وتهون الكروب، وتنفخ في النفوس الآمال، وتذكر بأن أشدّ ساعات الليل حلكةً هي تلك التي تسبق الفجر.
فمن أعظم البشائر القرآنية قوله عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} قال الشيخ ابن سعدي : «بشارة عظيمة، أنه كلما وجد عسر وصعوبة، فإن اليسر يقارنه ويصاحبه، حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه.
وتعريف «العسر» في الآيتين ما يدل على أنه واحد، وتنكير «اليسر» يدل على تكراره، فلن يغلب عسر يسرين، وفي تعريفه بالألف واللام الدالة على الاستغراق والعموم يدل على أن كل عسر ـ وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ ـ فإنه في آخره التيسير ملازم له.»اهـ.
وفي الموطأ أن أبا عبيدة بن الجراح كتب إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر:» أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجا وإنه لن يغلب عسر يسرين». وروي عن ابن عباس: «يقول الله تعالى:خلقت عسرا واحدا وخلقت يسرين ولن يغلب عسر يسرين».
ومن المبشرات القرآنية قوله عز وجل: {سيجعل الله بعد عسر يسرا}، قال الطاهر بن عاشور : «وهذا الكلام خبر مستعمل في بعث الترجي وطرح اليأس عن المعسر من ذوي العيال، ومعناه: عسى أن يجعل الله بعد عسركم يسرا لكم فإن الله يجعل بعد عسر يسرا. «اهـ.
وفي السنة المطهرة أيضا مبشرات وأسباب لتفريج الكربات منها حسن الظن بالله والتوكل عليه، فعن ابن مسعود قال : قال رسول الله [ : «من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
وقال [ :»جف القلم بما هو كائن، فلو أنّ الخلق كلهم جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا» خرّجه الترمذي.
ومن ذلك الدعاء والتوجه إلى الله وحده، كما قالت أسماء بنت عميس: إن رسول الله [ قال لي: «ألا أعلمك كلمات تقولينها عند الكرب أو في الكرب؟ الله ربي لا أشرك به شيئًا» خرجه أبو داود وصححه الألباني.
وكان رسول الله [ يقول عند الكرب:»لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم» متفق عليه. وقال [: «دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت» خرجه أبو داود وحسنه الألباني.
قال أنس : كان رسول الله [ إذا كربه أمر يقول: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» أخرجه الإمام الترمذي.
ويقول ابن مسعود: إن رسول الله [ قال: «ما أصاب أحدا قطٌ هم ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله به فرحًا، فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ قال: بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها» خرجه الإمام أحمد في مسنده وقال شاكر: «إسناده صحيح».
فقرب الفرج ودنو الأمل سنة من الله تحمل البشرى لكل مسلم، قال مالك بن دينار قبل موته : «ما أقرب النعم من البؤس، يعقبان ويوشكان زوالا « أي لا شيء يدوم، فالنعم والبؤس مؤقتان ومتعاقبان.
وقال ابن رجب: «ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب، واليسر بالعسر، أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى، وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين، تعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أكبر الأسباب التي تطلب بها الحوائج؛ فإن الله تعالى يكفي من توكل عليه، كما قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}» اهـ

ابو وليد البحيرى
2019-01-31, 12:14 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (11)أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك


د.وليد خالد الربيع



أداء الأمانة، والوفاء بالوعد، وحفظ العهد، وصدق الحديث، وخفض الجانب، ونحوها من الشمائل المحمودة، والأخلاق الكريمة، التي جاء الإسلام لترسيخها في النفوس، وتأصيلها في القلوب، لتزكو بها أحوال المؤمنين، ويشيع الود والإخاء في مجتمع المسلمين، في حين أن خلو الإنسان من هذه المكارم يفسح المجال لنقيضها من الخيانة والغدر والكذب والكبر ونحوها من الرذائل والقبائح التي تدنس النفوس، وتفتح باب المعاصي والقطيعة واختلال الأمن في المجتمع .


فمن القيم الإسلامية الأصيلة، التي أمر بها الإسلام، وحث المسلمين على التحلي بها مع الناس جميعا، المسلم منهم وغير المسلم، ونهى عن ضدها، وحذر منه أشد التحذير ( أداء الأمانة )، وهي من أول المبادئ التي دعا إليها النبي [ كما جاء في حديث أبي سفيان قبل إسلامه مع هرقل لما سأله : فماذا يأمركم؟ فقال أبو سفيان: «يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة، والصدقة، والعفاف، والوفاء بالعهد وأداء الأمانة» أخرجه البخاري2941.


- والأمانة معنى واسع، ومفهوم شامل لأنواع عديدة من التكاليف كما ذكر ابن الجوزي وغيره أن الأمانة في القرآن على ثلاثة أوجه:

- أحدها : الفرائض، ومنه قوله عز وجل: {يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم}، والثاني : الوديعة، ومنه قوله عز وجل: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، والثالث : العفة والصيانة، ومنه قوله عز وجل: {إن خير من استأجرت القوي الأمين}، وقال القرطبي: «الأمانة تعم جميع وظائف الدين».

وقد ورد في شأن حفظ الأمانة وأدائها نصوص كثيرة منها:

قوله عز وجل: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، وقد اختلف من المخاطب بها إلا أن القرطبي اختار أنها عامة في جميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات‏.‏ وهذا اختيار الطبري‏.‏ وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه؛ والصلاة والزكاة وسائر العبادات أمانة الله تعالى‏.

وممن قال: إن الآية عامة في الجميع، البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب، قالوا‏:‏ الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع، وقال ابن عباس‏:‏ لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة‏». وقال عز وجل : {فليؤد الذي اؤتمن أمانته}.

وقال [: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفة مطعم» أخرجه أحمد وصححه الألباني.

وقال [: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» أخرجه أحمد وصححه الألباني، وقال عمر رضي الله عنه: «لا يغرنك صلاة امرئ ولا صيامه، من شاء صلى ومن شاء صام، ولكن لا دين لمن لا أمانة له «.

وقال [ : «تقبلوا لي بست أتقبل لكم بالجنة؛ إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا اؤتمن فلا يخن، غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم» أخرجه الحاكم وصححه الألباني .

وجاء في حديث مسلم الطويل قال [: «يجمع الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة»... إلى أن قال :«وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا...» الحديث، قال النووي: «لعظم أمرهما وكثير موقعهما».

والأمانة مكانها قلوب المؤمنين كما قال حذيفة: إن رسول الله [ حدثهم أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة»، وهي أول ما يفقد من صفات المؤمنين كما قال [: «أول ما تفقدون من دينكم الأمانة».

- وللأمانة أحكام عدة في الفقه الإسلامي، منها:

1- أخذ الأمانة مباح لمن قدر على الحفظ والأداء، وقيل: يستحب؛ لقوله عز وجل: {وتعاونوا على البر والتقوى}، وقد يجب الأخذ عند خوف هلاك الوديعة أو ضياعها لأن مال الغير واجب الحفظ لقوله [ في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» متفق عليه.

وقد يحرم الأخذ لمن يعجز عن الحفظ أو لا يثق بأمانة نفسه إذ في ذلك تعريض للمال للهلاك.

2- يجب المحافظة على الأمانة من الودائع وغيرها، قال ابن سعدي: «وقد ذكر الفقهاء على أن من اؤتمن أمانة وجب عليه حفظها في حرز مثلها، قالوا: لأنه لا يمكن أداؤها إلا بحفظها؛ فوجب ذلك».

3- الأمين يضمن بالجحود أو التعدي أو التفريط؛ ولا يضمن إذا تلفت دون تعد أو تفريط، لقوله [: «لا ضمان على مؤتمن» أخرجه البيهقي وحسنه الألباني.

4- وجوب الرد عند الطلب، قال القرطبي: «وهذا إجماع‏، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار؛ قاله ابن المنذر»؛ للآية الكريمة ولقوله [: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك‏».

وهذا الحكم واجب في حق المسلم ولو ظلم، فليس له أن يعاقب غيره بالخيانة لأنها محرمة لحق الله تعالى، ولهذا الحديث الذي قال عنه الترمذي: «وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا وقالوا: إذا كان للرجل على آخر شيء فذهب به أي أخذه بغير حق فوقع له عنده شيء أي صار للمظلوم شيء للظالم فليس له أن يحبس عنه بقدر ما ذهب له عليه»، يؤيده ما ورد َفِي الْمُسْنَدِ عَنْ بَشِيرِ بْنِ الخصاصية أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لَنَا جِيرَانًا لا يَدَعُونَ لَنَا شَاذَّةً وَلا فَاذَّةً إلا أَخَذُوهَا، فَإِذَا قَدَرْنَا لَهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَنَأْخُذُهُ؟ قَالَ: «لا، أَدِّ الأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَك».

والخيانة من أقبح الصفات، وكان النبي [ يستعيذ بالله منها فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة «، ولا يخفى أن الخيانة من خصال النفاق وصفات المنافقين كما قال [: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» متفق عليه.


فحري بالمسلم الحق أن يكون صادق الوعد، كريم العهد، وثيق الذمة، يحفظ الأمانة، ويؤدي الحقوق، ويقوم بالمواثيق، ويرعى الحرمات، قال بعض العلماء: «خلق الله الدنيا كالبستان، وزينها بخمسة أشياء: بعلم العلماء، وعدل الأمراء، وعبادة الصالحين، ونصيحة المستشار، وأداء الأمانة، فقرن إبليس مع العلم الكتمان، ومع العدل الجور، ومع العبادة الرياء، ومع النصيحة الغش، ومع الأمانة الخيانة» فتأمل.

ابو وليد البحيرى
2019-01-31, 12:19 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (12)من يذهب مع الذئاب يتعلم العواء



د.وليد خالد الربيع




هذه الحكمة الموجزة تنبئ عن سمة بشرية، وطبيعة إنسانية، دل عليها الشرع والواقع، وأكدتها الدراسات النفسية والسلوكية المتعددة، وهي أن الطبع يُـعدي، والأخلاق تـُكتسب من البيئة التي يعيش فيها الإنسان؛ لذا جاءت النصوص الشرعية والأقوال التربوية تقرر ضرورة مصاحبة الأخيار، ولزوم اجتناب الأشرار.

فمن الآيات قوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} قال ابن كثير :«أي من شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا، وأعماله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعا له ولا محبا طريقته ولا تغبطه بما هو فيه»اهـ.

وقال تعالى: {فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا}، قال ابن كثير: «أي أعرض عن الذي أعرض عن الحق وهجره، وإنما أكثر همه ومبلغ علمه الدنيا فذاك هو غاية ما لا خير فيه»اهـ.

يعلل الراغب الأصفهاني هذه الحكمة الشرعية والضرورة الاجتماعية بقوله : «حق الإنسان أن يتحرى بغاية جهده مصاحبة الأخيار، فهي قد تجعل الشرير خيّـرا، كما أن مصاحبة الأشرار قد تجعل الخيـّر شريرا، قال بعض الحكماء : من جالس خيـّرا أصابته بركته، فجليس أولياء الله لا يشقى وإن كان كلبا ككلب أصحاب الكهف، حيث قال تعالى: {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد}؛ ولهذا أوصت الحكماء بمنع الأحداث من مجالسة السفهاء، وقال أمير المؤمنين ] :» لا تصحب الفاجر فيزين لك فعله» ، وقيل : جالسوا من تذكركم الله رؤيته، ويزيد في خيركم نطقه، وقالوا: إياك ومجالسة الشرير؛ فإن طبعك يسرق من طبعه وأنت لا تدري»اهـ.

وفي الحديث : عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله [ : «مثل الجليس الصالح والجليس السوء: كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير : إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة» متفق عليه.

قال النووي مبينا فوائد الحديث : «وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر والبدع ومن يغتاب الناس، أو يكثر فجره وبطالته ونحو ذلك من الأنواع المذمومة».

قال ابن سعدي : «اشتمل هذا الحديث على اختيار الأصحاب الصالحين، والتحذير من ضدهم، ومثل النبي [ بهذين المثالين، مبينا أن الجليس الصالح جميع أحوالك وأنت معه في مغنم وخير، كحامل المسك الذي تنتفع بما معه من المسك : إما بهبة أو بعوض، وأقل ذلك مدة جلوسك معه وأنت قرير النفس برائحة المسك.

فالخير الذي يصيبه العبد من جليسه الصالح أبلغ وأفضل من المسك الأذفر؛ فإنه إما أن يعلمك ما ينفعك في دينك ودنياك، أو يهدي لك نصيحة، أو يحذرك من الإقامة على ما يضرك، فيحثك على طاعة الله وبر الوالدين وصلة الأرحام، ويبصرك بعيوب نفسك، ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها بقوله وفعله وحاله؛ فإن الإنسان مجبول على الاقتداء بصاحبه وجليسه، والطباع والأرواح جنود مجندة، يقود بعضها بعضا إلى الخير أو إلى ضده.

وأما مصاحبة الأشرار، فإنها بضد جميع ما ذكرنا، وهم مضرة من جميع الوجوه على من صاحبهم، وشر على من خالطهم، فكم هلك بسببهم أقوام، وكم قادوا أصحابهم إلى المهالك من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون؛ ولهذا كان من أعظم نعم الله على العبد المؤمن أن يوفقه لصحبة الأخيار، ومن عقوبته لعبده أن يبتليه بصحبة الأشرار»اهـ.

ومن الأحاديث قوله [ : «لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي» أخرجه أبو داود والترمذي، قال شراح الحديث : «المراد النهي عن مصاحبة الكفار والمنافقين؛ لأن مصاحبتهم مضرة في الدين، فالمراد بالمؤمن جنس المؤمنين».

وقال تعالى: «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» أخرجه أبو داود والترمذي، قال شراح الحديث: «أي يتأمل ويتدبر من يخالل، فمن رضي دينه وخلقه خالّه، ومن لا، تجنبه؛ فإن الطباع سراقة».

وقد ذهب الراغب الأصفهاني إلى غاية أبعد في بيان خطورة مصاحبة الأشرار موضحا أن التأثر بهم قد يحصل من مجرد النظر، فقال :«وليس إعداء الجليس جليسَهُ خلقه بمقاله وفعاله فقط، بل وبالنظر إليه، فالنظر في الصور يؤثر في النفوس أخلاقا مناسبة إلى خلق المنظور إليه؛ فإن من دام نظره إلى مسرور سر، ومن دام نظره إلى محزون حزن، وذلك ليس في الإنسان فقط، بل في الحيوان وسائر النبات؛ فإن الجمل الصعب قد يصير ذلولا بمقارنة الذلول، والذلول يصير صعبا بمقارنة الصعب، والريحانة الغضة تذبل بمقارنة الذابلة؛ ولهذا يلقط أصحاب الفلاحة الرمم عن الزروع لئلا تفسدها، ومعلوم أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة إذا قربت منهما، وذلك مما لا ينكره ذو تجربة، وإذا كانت هذه الأشياء قد بلغت في قبول التأثير هذا المبلغ، فما الظن بالنفوس البشرية التي موضوعها لقبول صور الأشياء خيرها وشرها، فقد قيل: سمي الإنس إنسا؛ لأنه يأنس بما يراه إن خيرا وإن شرا»اهـ.

ومن أضرار صحبة الأشرار ما قد يلحق المرء من سوء السمعة كما يقول أبو حاتم البستي : «العاقل يلزم صحبة الأخيار، ويفارق صحبة الأشرار ؛ لأن مودة الأخيار سريع اتصالها، بطيء انقطاعها، ومودة الأشرار سريع انقطاعها، بطيء اتصالها، وصحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار، ومن خادن الأشرار لم يسلم من الدخول في جملتهم.

فالواجب على العاقل أن يجتنب أهل الريب؛ لئلا يكون مريبا، فكما أن صحبة الأخيار تورث الخير، كذلك صحبة الأشرار تورث الشر. قال مالك بن دينار : «إنك أن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص ـ نوع من الحلوى ـ مع الفجار».

وقال أبو حاتم : «العاقل لا يدنس عرضه، ولا يعوّد نفسه أسباب الشر بلزوم صحبة الأشرار، ولا يغضي عن صيانة عرضه ورياضة نفسه بصحبة الأخيار». وينقل عن أبي الدرداء أنه قال:» لَصاحب صالح خير من الوحدة، والوحدة خير من صاحب السوء، ومملي الخير خير من الساكت، والساكت خير من مملي الشر».

قال أبو سليمان الداراني : «لا تصحب إلا أحد رجلين : رجلا ترتفق به في أمر دنياك أو رجلا تزيد معه وتنتفع به في أمر آخرتك، والاشتغال بغير هذين حمق كبير». فحري بالمسلم أن ينتقي أصدقاءه فيفر من كل ذميم الأخلاق، منغمس في الآثام، مولع بالسوء، متهافت على المنكر، سريع إلى الشر بطيء عن الخير.

ويحرص على رفقة كل برّ، محمود الجوار، جميل السيرة، حسن المذهب، محمود الطريقة، طيب السريرة، من أهل الخير، وعليه شارة أهل الصلاح، والله الموفق.

ابو وليد البحيرى
2019-02-07, 07:25 AM
الحكمة ضالة المؤمن (13) ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله



د.وليد خالد الربيع



تقرر هذه الآية الكريمة حكمة قرآنية، وسنة ماضية، وحكما عادلا من الله تعالى وهو: «الجزاء من جنس العمل»؛ فمن عمل صالحا مخلصا لله لقي جزاء ذلك في الدنيا والآخرة بإذن الله تعالى، ومن عمل سيئة استحق العقوبة في الدنيا والآخرة إلا أن يعفو الله تعالى عنه.

والمكر بالناس وخديعتهم من جملة الأعمال السيئة التي نهى الله تعالى عنها وبين سوء مآلها وخطورة آثارها، وأكد أن عقوبتها من جنسها.

فالمكر في لغة العرب يدور حول الاحتيال والخداع كما قال ابن فارس، وقال الطبري: «وأما المكر فإنه الخديعة والاحتيال للممكور به بالغدر ليورطه الماكر به مكروها من الأمر» اهـ.

وأما في الاصطلاح فقد فرق كثير من العلماء بين المكر المضاف إلى الله تعالى والمكر الواقع من الخلق، كما قال الجرجاني في التعريفات: «المكر من جانب الحق تعالى: هو إرداف النعم مع المخالفة، وإبقاء الحال مع سوء الأدب، ومن جانب العبد: إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر»اهـ.

وقال الراغب مبينا أقسام المكر: «وذلك ضربان: مكر محمود وذلك أن يتحرى بذلك فعل جميل، وعلى ذلك قال تعالى: {والله خير الماكرين}، ومذموم وهو أن يتحرى به فعلاً قبيحاً، قال تعالى: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}، {وإذ يمكر بك الذين كفروا}، وقال في الأمرين: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا}»اهـ.

وقال مبينا أن الجزاء من جنس العمل: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}.

ويوضح الشيخ ابن سعدي المراد بالمكر في هذه الآية فيقول : «الذي مقصوده مقصود سيئ ومآله وما يرمي إليه سيئ فمكرهم إنما يعود عليهم»، ويؤكد ابن كثير هذا المعنى بقوله: «ومكروا بالناس في صدهم إياهم عن سبيل الله، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، أي وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم».

ويشير الشيخ الطاهر بن عاشور إلى ما اشتملت عليه هذه الآية من مواعظ وآداب فيقول : «فكم انهالت من خلال هذه الآية من آداب عمرانية ومعجزات قرآنية ومعجزات نبوية خفية»، ثم يفصل ذلك مبينا أن إضافة (مكر) إلى (السيئ) من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل: عشاء الآخرة. وأصله: أن يمكروا المكر السيئ بقرينة قوله: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}.

ويوضح أن المكر هو إخفاء الأذى، وهو سيئ؛ لأنه من الغدر، وهو مناف للخلق الكريم، فوصفه بالسيئ وصف كاشف، ولعل التنبيه إلى أنه وصف كاشف هو مقتضى إضافة الموصوف إلى الوصف لإظهار ملازمة الوصف للموصوف فلم يقل: ومكروا سيئا، ويبين سبب كون المكر هنا سيئا، وذلك لأنه مكر بالنذير وأتباعه، وهو مكر ذميم لأنه مقابلة المتسبب في صلاحهم بإضمار ضره، وجملة {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله} تذييل أو موعظة.

ومعنى كلمة يحيق: أي : ينزل بشيء مكروه، يقال : حاق به، أي : نزل وأحاط إحاطة سوء، أي لا يقع أثره إلا على أهله، وفيه حذف مضاف تقديره: ضر المكر السيئ أو سوء المكر السيئ كما دل عليه فعل (يحيق).

فإن كان التعريف في (المكر) للجنس كان المراد بأهله كل ماكر. وهذا هو الأنسب بموقع الجملة ومحملها على التذييل ليعم كل مكر وكل ماكر، فيدخل فيه الماكرون بالمسلمين من المشركين، فيكون القصر الذي في الجملة قصرا إدعائيا مبنيا على عدم الاعتداد بالضر القليل الذي يحيق بالممكور به بالنسبة لما أعده الله للماكر في قدره من ملاقاة جزائه على مكره، فيكون ذلك من النواميس التي قدرها القدر لنظام هذا العالم؛ لأن أمثال هذه المعاملات الضارة تؤول إلى ارتفاع ثقة الناس بعضهم ببعض، والله بنى نظام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض؛ لأن الإنسان مدني بالطبع، فإذا لم يأمن أفراد الإنسان بعضهم بعضا تنكر بعضهم لبعض، وتبادروا الإضرار والإهلاك ليفوز كل واحد بكيد الآخر قبل أن يقع فيه، فيفضي ذلك إلى فساد كبير في العالم والله لا يحب الفساد ولا ضر عبيده إلا حيث تأذن شرائعه بشيء؛ ولهذا قيل في المثل: «وما ظالم إلا سيبلى بظالم»، قال الشاعر:

ولكل شيء آفة من جنـسـه

حتى الحديد سطا عليه المبرد

وكم في هذا العالم من نواميس مغفول عنها، وقد قال الله تعالى: {والله لا يحب الفساد}، وفي كتاب ابن المبارك في الزهد بسنده عن الزهري: بلغنا أن رسول الله [ قال : «لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله يقول {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}»، ومن كلام العرب : «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا»، ومن كلام عامة أهل تونس: يا حافر حفرة السوء ما تحفر إلا قياسك «اهـ.

وأما نتيجة ذلك المكر الباطل فهو العقوبة الشديدة في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور} قال الطبري : «والذين يكسبون السيئات لهم عذاب جهنم»، وقال ابن سعدي: «أي: يهلك ويضمحل ولا يفيدهم شيئا لأنه مكر بالباطل لأجل الباطل».

وقال محمد بن كعب القرظي: «ثلاث من فعلهن لم ينج حتى ينزل به مكر أو بغي أو نكث، وتصديقها في كتاب الله تعالى {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}، {إنما بغيكم على أنفسكم}، {ومن نكث فإنما ينكث على نفسه}».

وقد وردت بعض الأحاديث في التحذير من المكر السيئ، فعن قيس بن سعد بن عبادة قال: «لولا أني سمعت رسول الله تعالى يقول: «المكر والخديعة في النار «لكنت من أمكر الناس» قال الشراح: «أي تدخل أصحابها النار»، وقيل: لا يكون صاحبهما تقيا ولا خائفا لله؛ لأنه إذا مكر غدر، وإذا غدر خدع، وذا لا يكون في تقي، وكل خلة جانبت التقى فهي في النار».

وعن أبي بكر عن النبي [ قال : «لا يدخل الجنة خِـبٌّ، ولا منان، ولا بخيل» أخرجه الترمذي، قال الشراح : «الخب ـ بفتح الخاء وكسرها ـ أي مخادع يفسد بين الناس بالخداع، أي : لا يدخل الجنة مع هذه الصفة حتى يجعل طاهرا منها إما بالتوبة في الدنيا، أو بالعقوبة بقدرها تمحيصا، أو بالعفو تفضلا وإحسانا»اهـ.

وبعد، فينبغي للمسلم أن يكون برّاً، وفياً، وثيق الذمة، صادق الوعد، كريم العهد، ثابت العقد، لا يخون ولا يغدر ولا يخفر، ويتجافى عن كل رذيلة ودنيئة، ولاسيما المكر والخداع وإيذاء الناس وانتهاك حرماتهم وأكل حقوقهم بغير حق، والله الموفق.

ابو وليد البحيرى
2019-02-07, 07:30 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن (14) تعوذوا بالله من جار السوء في دار المقامة


د.وليد خالد الربيع




إكرام الجار خلق كريم أقره الإسلام، وزاد الاهتمام به بأن شرع له أحكاما وآدابا تضفي عليه صبغة العبودية لله تعالى عند القيام به، وذلك بربط الإحسان إلى الجار بالإيمان بالله عز وجل، وترتيب الأجر الجزيل على ذلك، ونفي الإيمان عمن يؤذي جيرانه، وغير ذلك من أحكام تجعل من القيام بحق الجار قربة تقرب المسلم إلى ربه عز وجل.

فمن الآيات التي توصي بالجار قوله عز وجل: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} قال القرطبي: «أما الجار فقد أمر الله عز وجل بحفظه والقيام بحقه والوصاية برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه ، ألا تراه سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والأقربين»، وقال أيضا: «فالوصاة بالجار مأمور بها، مندوب إليها، مسلما كان أم كافرا وهو الصحيح، والإحسان قد يكون بمعنى المواساة وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه».

ومن عظيم حق الجار على جاره أن الوحي تتابع لأجله، والوصاة به تكررت تأكيدا لحقه، وترسيخا لحفظ حرمته وذمته؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله [: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» أخرج البخاري ومسلم.

بل إنه [ جعل من كمال الإيمان إكرام الجار وكف الأذى عنه، فعن أبي شريح العدوي قال: سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم النبي [ فقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»، وفي حديث آخر عن أبي هريرة: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره»، وقال [: «وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا» أخرجه الترمذي.

وقد أكد النبي [ حق الجار بنفي الإيمان عمن لا يكف أذاه عن جاره ، فعن أبي شريح أن النبي [ قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» قيل: من يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» والبوائق جمع بائقة وهي الداهية والشيء المهلك والأمر الشديد الذي يوافي بغتة.

وقال ابن بطال: «في هذا الحديث تأكيد حق الجار لقسمه [ على ذلك، وتكريره اليمين ثلاث مرات، وفيه نفي الإيمان عمن يؤذي جاره بالقول أو الفعل، ومراده الإيمان الكامل، ولا شك أن العاصي غير كامل الإيمان».

ولهذا فإن أذية الجيران سبب لورود النار؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: «هي في النار»، قال: يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها، وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال: «هي في الجنة» أخرجه أحمد وأثوار الأقط: القطع من اللبن المجمد المجفف.

ولما كان التأذي من الجار سببا للشقاء والتعاسة وعدم الاستقرار في العيش والسكن فقد أمر [ بالتعوذ من ذلك بقوله: «تعوذوا بالله من جار السوء في دار المقامة؛ فإن جار البادية يتحول عنك» أخرجه النسائي، وفي لفظ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ سُوءٍ فِي دَارِ إِقَامَةٍ، فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ» أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد، قال: المناوي في التيسير: «اللهم إني أعوذ بك من جار السوء» أي من شرّه «في دار المقامة» بضم الميم أي الوطن فإنه الشرّ الدائم والضرر الملازم (فإن جار البادية يتحوّل) فمدّته قصيرة فلا يعظم الضرر في تحملها.

قال الدكتور محمد لقمان السلفي في شرح الأدب المفرد: «دار المقامة: أي دار الإقامة؛ لأن الجار السيئ في دار الإقامة أحق بالاستغاثة منه لتتابع الأذى منه، ولا يزول عنه ظن الأذى في كل حال، وهي أشد من الأذى».

وقال [: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق، والمركب السوء» أخرجه ابن حبان.

والإحسان إلى الجار معنى كبير ينتظم أمورا كثيرة من المعروف والبر والصلة، قال الشيخ ابن أبي جمرة: «حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة، كالهدية والسلام وطلاقة الوجه عند لقائه وتفقد حاله ومعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك، وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية.

ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح، والذي يشمل الجميع إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى والدعاء له بالهداية وترك الإضرار له.

وقد بين [ أن مجال الإحسان للجار لا حد لأقله، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله [: «يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» أخرجه البخاري، قال ابن حجر: «أي: لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئا ولو أنها تهدي لها ما لا ينتفع به في الظاهر، ويحتمل أن يكون من باب النهي عن الشيء أمر بضده، وهو كناية عن التحابب والتوادد، فكأنه قال: لتوادد الجارة جارتها بهدية ولو حقرت، فيتساوى في ذلك الغني والفقير، وخص النهي النساء لأنهن موارد المودة والبغضاء ، ولأنهن أسرع انفعالا في كل منهما».

وقال [ مبينا حرص الإسلام على مشاركة الجار في أقل القليل تحقيقا للأخوة الإيمانية والتكافل الاجتماعي القائم على الحب في الله: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك» وفي رواية: «ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصب منهم بمعروف» أخرجه مسلم.

وجاء في حديث معاذ قالوا: يا رسول الله ما حق الجار على الجار؟ فقال: «إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بريح قدرك إلا أن تغرف له، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، وإن لم تفعل فأدخلها سرا، ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده» ذكره ابن حجر في فتح الباري 10/446.

وعلى المسلم أن يتحرى بإحسانه وبره أقرب الجيران إليه فالأقرب، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: «إلى أقربهما منك بابا» أخرجه البخاري، وذلك لأن الأٌقرب من الجيران إلى الإنسان يرى ما يدخل بيت جاره من خيرات فيتشوف لها بخلاف الأبعد، وقيل: لأن الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره من المهمات ولا سيما في أوقات الغفلة والراحة فيستحب اختصاصه بالصلة والإحسان.

ولعظيم حق الجار فإن إثم المعصية في حقه والاعتداء عليه مضاعف، فعن أبي ظبية الكلاعي قال: سمعت المقداد بن الأسود يحدث أن النبي [ سألهم عن الزنى فقالوا: حرام حرمه الله ورسوله، فقال: «لأن يزني الرجل بعشرة نسوة خير له من أن يزني بامرأة جاره، قال: وسألهم عن السرقة فقالوا: حرام حرمها الله ورسوله، فقال: «لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره» أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

وقال [ لما سأله ابن مسعود: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قال: قلته له: إن ذلك لعظيم، ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» أخرجه الشيخان، قال النووي: «وذلك يتضمن الزنى وإفسادها على زوجها واستحالة قلبها إلى الزاني، وذلك أفحش وهو مع امرأة الجار أشد قبحا وأعظم جرما؛ لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه ويأمن بوائقه ويطمئن إليه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنى بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن غيره منه كان في غاية القبح».

ولم تفرق نصوص الكتاب والسنة الآمرة بالإحسان إلى الجار بين الجار المسلم وغير المسلم، بل أطلقت الأمر بالإحسان لعموم الجيران ليشمل كل من تجاورت بيوتهم على اختلاف دياناتهم، إلا أن الجار المسلم تبقى له الأفضلية في المعاملة والإحسان والصلة لاجتماع حق الإسلام وحق الجوار في جواره للمسلم، قال ابن حجر: «واسم الجار يشمل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصديق والعدو، والغريب والبلدي، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب دارا والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها وهلم جرا إلى الواحد، وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك فيعطي كلا حقه بحسب حاله، وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجح أو يساوي».

وقد فهم الصحابة الكرام هذا المعنى وامتثلوه، فعن مجاهد أن عبد الله بن عمرو ذبحت له شاة في أهله فلما جاء قال: أهديهم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله [ يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» أخرجه الترمذي.


وجاء في الأثر: «الجيران ثلاثة: فجار له حق واحد وهو أدنى الجيران حقا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، فأما الذي له حق واحد فجار مشرك ولا رحم له، له حق الجوار، وأما الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم».

ابو وليد البحيرى
2019-02-09, 11:24 PM
الحكمة ضالة المؤمن (15) إن بعـض الظـن إثـم


د.وليد خالد الربيع








قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}.
قال الطاهر بن عاشور: «وجملة {إن بعض الظن إثم} استئناف بياني لأن قوله: {اجتنبوا كثيرا من الظن}، يستوقف السامع ليتطلب البيان فاعلموا أن بعض الظن جرم، وهذا كناية عن وجوب التأمل في آثار الظنون ليعرضوا ما تفضي إليه الظنون على ما يعلمونه من أحكام الشريعة، أو ليسألوا أهل العلم»اهـ.
ما الظن؟ وما أنواعه؟

الظن مصدر الفعل (ظن الشيء ظنا) أي علمه بغير يقين، ويقال: ظن بفلان أي اتهمه، ويطلق الظن على إدراك الذهن الشيء مع ترجيحه، والظنين: ما لا يوثق به ويطلق على المتهم أيضا.
وقد جاء في القرآن استعمال الظن بمعنى (العلم واليقين) كما في قوله تعالى: {وظن داود أنما فتناه}، وقوله: {إني ظننت أني ملاق حسابيه}، وقوله: {قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله}، وقوله: {وظن أنه الفراق}.
واستعمل الظن بمعنى (الشك) كما في قوله تعالى: {وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين}.
واستعمل في القرآن بمعنى (التهمة) كما في قوله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن}، قال ابن كثير: «يَقُول تَعَالَى نَاهِيًا عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ عَنْ كَثِير مِنْ الظَّنّ وَهُوَ التُّهْمَة وَالتَّخَوُّن لِلْأَهْلِ وَالْأَقَارِب وَالنَّاس فِي غَيْر مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ بَعْض ذَلِكَ يَكُون إِثْمًا مَحْضًا فَلْيُجْتَنَبْ كَثِيرٌ مِنْهُ اِحْتِيَاطًا»اه ـ.
والمراد بـ(الظن) هنا: الظن المتعلق بأحوال الناس وحُذف المتعلق لتذهب نفس السامع إلى كل ظن ممكن هو إثم.
وقد ورد الظن في النصوص الشرعية على أوجه وأنواع، منها:
النوع الأول: الظن المحمود:
ومنه حسن الظن بالله تعالى كما قال[: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى»، قال النووي: هذا تحذير من القنوط، وحث على الرجاء عند الخاتمة، ومعنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه.
وقال الله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيرا فله، وإن ظن شرا فله» أخرجه أحمد.
ومنه حسن الظن بالمسلم كما قال[: «المؤمن غر كريم، والفاجر خبّ لئيم» أخرجه أبو داود، وجعل المؤمن غرا بسبب سلامة صدره وحسن الباطن والظن بالناس فكأنه لم يجرب بواطن الأمور، فترى الناس منه في راحة لا يتعدى إليهم منه شر.
وقال[: «خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق» قيل: ما القلب المخموم؟ قال: «هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد» قيل: فمن على أثره؟ قال: «الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة» قيل: فمن على أثره؟ قال: «مؤمن في خلق حسن».
النوع الثاني: الظن المباح:
وهو الذي يعرض في القلب بسبب يوجب الريبة، قال سفيان الثوري: الظن ظنان، ظن إثم وظن ليس بإثم، فأما الظن الذي هو إثم: فالذي يظن ظنا ويتكلم به، والذي ليس بإثم: فالذي يظن ولا يتكلم به.
وقال القرطبي: «وأكثر العلماء على أَنَّهُ لَا حَرَج فِي الظَّنّ الْقَبِيح بِمَنْ ظَاهِره القبح»اهـ.
وعقد البخاري في صحيحه في كتاب الأدب ترجمة بعنوان (باب ما يجوز من الظن) ثم ذكر حديث عائشة قالت: قال النبي[: «ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا» وفي رواية: «ما أظن فلانا وفلانا يعرفان ديننا الذي نحن عليه». قال الليث: كانا رجلين من المنافقين.
قال ابن حجر: «وحاصل الترجمة أن مثل هذا الذي وقع في الحديث ليس من الظن المنهي عنه؛ لأنه في مقام التحذير من مثل من كان حاله كحال الرجلين، والنهي إنما هو عن ظن السوء بالمسلم السالم في دينه وعرضه».
وأما قول ابن عمر: «إنا كنا إذا فقدنا الرجل في عشاء الآخرة أسأنا به الظن»، فقد قال ابن حجر: معناه أنه لا يغيب إلا لأمر سيئ إما في بدنه وإما في دينه.
وقال ابن قدامة: «فليس لك أن تظن بالمسلم شرا، إلا إذا انكشف لك أمر لا يحتمل التأويل، فإن أخبرك بذلك عدل فمال قلبك إلى تصديقه كنت معذورا؛ لأنك لو كذبته كنت قد أسأت الظن بالمخبر، فلا ينبغي أن تحسن الظن بواحد وتسيئه بآخر.. ومتى خطر لك خاطر سوء على مسلم، فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير؛ فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك.. وإذا تحققت هفوة مسلم فانصحه في السر».
النوع الثالث: الظن المحرم:
ومنه سوء الظن بالله تعالى، وهو من الكبائر؛ لأنه يأس وقنوط، قال تعالى عن الكافرين: {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية}، وقال عن المنافقين: {وَظَنَنْتُمْ ظَنّ السَّوْء وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا}. ومنه سوء الظن بالمسلمين، ومعناه: اعتقاد جانب الشر وترجيحه على جانب الخير فيما يحتمل الأمرين، قال تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا}، وعن عُمَر بْن الْخَطَّاب - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: «وَلَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيك الْمُؤْمِن إِلَّا خَيْرًا وَأَنْتَ تَجِد لَهَا فِي الْخَيْر مَحْمَلًا».
وسوء الظن بالمسلمين من الكبائر، وذلك - كما يقول ابن حجر الهيثمي - بأن من حكم بشرّ على غيره بمجرد الظن، حمله الشيطان على احتقاره، وعدم القيام بحقوقه وإطالة اللسان في عرضه وكلها مهلكات.
قال القرطبي: «وَأَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الظَّنّ الْقَبِيح بِمَنْ ظَاهِره الْخَيْر لا يَجُوز «.
وقال ابن سعدي: «نهى الله تعالى عن كثير من الظن السوء بالمؤمنين، فقال: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، وذلك كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء، الذي يقترن به كثير من الأقوال والأفعال المحرمة؛ فإن بقاء ظن السوء بالقلب لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك أيضًا إساءة الظن بالمسلم وبغضه وعداوته المأمور بخلاف ذلك منه». قال القرطبي: «لَا تَظُنُّوا بِأَهْلِ الْخَيْر سُوءًا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ ظَاهِر أُمُورهمْ الْخَيْر».
كيف يمكن اجتناب الظن كما أمر الله تعالى؟
- أولاً: قال تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن}، قال الطاهر: «ومعنى الأمر باجتناب؛ كثير من الظن: الأمر بتعاطي وسائل اجتنابه فإن الظن يحصل في خاطر الإنسان اضطرارا عن غير اختيار، فلا يعقل التكليف باجتنابه وإنما يراد الأمر بالتثبت فيه وتمحيصه والتشكك في صدقه إلى أن يتبين موجبه بدون تردد أو برجحان أو يتبين كذبه فتكذب نفسك فيما حدثتك».
وقال أيضا: ففي قوله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن} تأديب عظيم يبطل ما كان فاشيا في الجاهلية من الظنون السيئة والتهم الباطلة، وأن الظنون السيئة تنشأ عنها الغيرة المفرطة والمكائد، والاغتيالات، والطعن في الأنساب، والمبادأة بالقتال حذرا من اعتداء مظنون ظنا باطلا، كما قالوا: خذ اللص قبل أن يأخذك، ولما جاء الأمر في هذه الآية باجتناب كثير من الظن علمنا أن الظنون الآثمة غير قليلة؛ فوجب التمحيص والفحص لتمييز الظن الباطل من الظن الصادق.
- ثانياً: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِي[ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنّ فَإِنَّ الظَّنّ أَكْذَب الْحَدِيث، وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا وَلا تَنَاجَشُوا وَلا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَاد اللَّه إِخْوَانًا».
قال النووي: «المراد النهي عن ظن السوء، قال الخطابي: هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس فإن ذلك لا يُملك. وقال أيضا: ومراد الخطابي أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه، ويستقر في قلبه دون ما يعرض في القلب ولا يستقر، فإن هذا لا يكلف به «.
قال القرطبي: «قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَالظَّنّ هُنَا وَفِي الْآيَة هُوَ (التُّهْمَة)، وَمَحَلّ التَّحْذِير وَالنَّهْي إِنَّمَا هُوَ تُهْمَة لا سَبَب لَهَا يُوجِبهَا, كَمَنْ يُتَّهَم بِالْفَاحِشَةِ أَوْ بِشُرْبِ الْخَمْر مَثَلا وَلَمْ يَظْهَر عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَدَلِيل كَوْن الظَّنّ هُنَا بِمَعْنَى التُّهْمَة قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجَسَّسُوا}، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَقَع لَهُ خَاطِر التُّهْمَة اِبْتِدَاء وَيُرِيد أَنْ يَتَجَسَّس خَبَر ذَلِكَ وَيَبْحَث عَنْهُ, وَيَتَبَصَّر وَيَسْتَمِع لِتَحْقِيقِ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ تِلْكَ التُّهْمَة، فَنَهَى النَّبِيّ[ عَنْ ذَلِكَ.

وَإِنْ شِئْت قُلْت: وَاَلَّذِي يُمَيِّز الظُّنُون الَّتِي يَجِب اِجْتِنَابهَا عَمَّا سِوَاهَا: أَنَّ كُلّ مَا لَمْ تُعْرَف لَهُ أَمَارَة صَحِيحَة وَسَبَب ظَاهِر كَانَ حَرَامًا وَاجِب الِاجْتِنَاب، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَظْنُون بِهِ مِمَّنْ شُوهِدَ مِنْهُ السَّتْر وَالصَّلاح, وَأُونِسَتْ مِنْهُ الأَمَانَة فِي الظَّاهِر, فَظَنّ الْفَسَاد بِهِ وَالْخِيَانَة مُحَرَّم, بِخِلَافِ مَنْ اِشْتَهَرَهُ النَّاس بِتَعَاطِي الرَّيب وَالْمُجَاهَرَة بِالْخَبَائِثِ» . اهـ.

ابو وليد البحيرى
2019-02-13, 12:41 PM
الحكمة ضالة المؤمن (16) شجرة الكسل تثمر الجوع



د.وليد خالد الربيع









يحث الإسلام على النشاط والهمة والحرص على كل ما ينفع الإنسان في دينه ودنياه وآخرته، ويحذر من الكسل والتراخي والغفلة والقعود عن السعي في مصالح الدارين، فقال عز وجل: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم} وقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}، وقال سبحانه: {فاستبقوا الخيرات} وقال: {لمثل هذا فليعمل العاملون} وقال: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.

وقال [: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز « أخرجه مسلم، وكان من دعائه [: «وأسألك العزيمة على الرشد»، وكان يقول لأصحابه: «إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها» أخرجه الطبراني وصححه الألباني.

ولا شك أن الكسل من الآفات الاجتماعية الخطيرة، والصفات الشخصية الرذيلة، فما أقبح أن يوصف الإنسان بأنه كسل وكسلان، ساقط الهمة، متخاذل العزم، بليد الحركة، عيال على الناس، خبال على أهله، قد ألف القعود، وأخلد إلى الكسل، واستنام إلى الراحة، وغيرها من الأوصاف التي تدل على الخمول والكسل، فهذا مذموم عند جميع العقلاء وسليمي الطباع.

والكسل في اللغة: هو التثاقل عن الشيء والقعود عن إتمامه، قال المناوي: الكسل: التغافل عما لا ينبغي التغافل عنه؛ ولذلك عدّ مذموما، وضده النشاط .

وقد ذمّ الله تعالى الكسل والتباطؤ وجعلهما من صفات المنافقين فقال عز وجل: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} وقال عنهم: {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}.

وكان من دعائه[: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» أخرجه مسلم، ومن يتأمل حقيقة ما استعاذ منه النبي[ يجد أنها أبواب الرذائل، ومفاتيح الشر، فالعجز والكسل يقعد أن بالإنسان عما ينفعه في دينه ودنياه وآخرته، والجبن يمنع من الإقدام في مواطن الشجاعة، والبخل يمنعه من الإنفاق في مواطن البذل، وغلبة الدين تجعل الرجل يحدث فيكذب، ويعد فيخلف.

ويوضح الراغب الأصفهاني أن الكسل خروج من دائرة الحياة إلى عداد الموتى فيقول: «من تعطل وتبطل انسلخ من الإنسانية، بل من الحيوانية وصار من جنس الموتى، وذلك أنه خص الإنسان بالقوى الثلاث ليسعى في فضيلتها، فإن فضيلة القوة الشهوانية تطالبه بالمكاسب التي تنميه، وفضيلة القوة الغضبية تطالبه بالمجاهدة التي تحميه، وفضيلة القوة الفكرية تطالبه بالعلم الذي يهديه، فحقه أن يتأمل قوته ويسبر قدر ما يطيقه، فيسعى بحسبه لما يفيده السعادة، ويتحقق أن اضطرابه سبب وصوله من الذل إلى العز، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الضعة إلى الرفعة، ومن الخمول إلى النباهة، وإن من تعود الكسل ومال إلى الراحة فقد الراحة، فحب الهوينى يكسب التعب، وقيل: إن أردت ألا تتعب فاتعب لئلا تتعب، وقيل: إياك والكسل والضجر فإنك إن كسلت لم تؤد حقا، وإن ضجرت لم تصبر على حق .

وقال يزيد بن المهلب: ما يسرني أني كفيت أمر الدنيا كله لئلا أتعود العجز .

وإن الفراغ يبطل الهيئة الإنسانية، فكل هيئة بل كل عضو ترك استعماله يبطل، كالعين إذا أغمضت، واليد إذا عطلت، ولذلك وضعت الرياضات في كل شيء، ولما جعل الله تعالى للحيوان قوة التحرك لم يجعل له رزقا إلا بسعي منه .

وتأمل حال مريم عليها السلام وقد جعل لها من الرطب الجني ما كفاها مؤنة الطلب، وفيه أعظم معجزة فإنه لم يخلها من أن أمرها بهزها فقال تعالى: {وهزي إليك بجذع النخلة}، وكما أن البدن يتعود الرفاهية بالكسل، كذلك النفس بترك التفكر والنظر فتتبلد وتتبله وترجع إلى رتبة البهائم، فحق الإنسان ألا يذهب عامة أوقاته إلا في إصلاح أمر دينه ودنياه وموصلاته إلى آخرته، مراعيا لها، قال الحجاج: إن امرأ أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيها ربه ويستغفر من ذنبه أو يتفكر في أمر معاده لجدير أن تطول حسرته يوم القيامة .»اهـ.

ثم ذكر الراغب أن الإنسان محتاج إلى خمسة أمور:

معرفة المعبود المشار إليه بقوله: {ففروا إلى الله}، ومعرفة الطريق المشار إليه بقوله: {قل هذه سبيل أدعو إلى الله على بصيرة}، وتحصيل الزاد المتبلغ به المشار إليه بقوله: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}، والمجاهدة في الوصول كما قال تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده}، فبهذه الأشياء يأمن الغرور الذي خوفه الله تعالى منه في قوله: {ولا يغرنكم بالله الغرور}، وهذه المعالي التي دونها هول العوالي، ولا ضير لمن رامها أن يتذرع الصبر فقد أصاب من قال:

فقل لمرجي معالي الأمور

بغير اجتهاد رجوت المحالا

ويبين ابن الجوزي أن العبرة بالمآل فيقول: « تعب عالي الهمة راحة في المعنى، وراحة قصير الهمة تعب وشين إن كان ثم فهم، والدنيا دار سباق إلى أعالي المعالي، فينبغي لذي الهمة أن لا يقصر في شوطه، فإن سبق فهو المقصود، وإن كبا جواده مع اجتهاده لم يلم» .اهـ.

قال الفراء: « لا أرحم أحدا كرحمتي لرجلين: رجل يطلب العلم ولا فهم له، ورجل يفهم ولا يطلبه، وإني لأعجب ممن في وسعه أن يطلب العلم ولا يتعلم « قال المتنبي:

ولم أر في عيوب الناس عيبا

كنقص القادرين على التمام

وأختم بقول ابن القيم: « وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة، فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا همّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلا، استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله «اهـ.

فنسأل الله تعالى أن يرزقنا الهمة العالية، ويوفقنا لمعالي الأمور، وأن يحفظنا من العجز والكسل وسفاسف الأمور.

ابو وليد البحيرى
2019-03-12, 11:26 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن (17) وإذا قلتــم فاعدلـوا



د.وليد خالد الربيع


الشريعة الإسلامية كلها عدل وقسط ورحمة في أصولها وفروعها وفي كل مجالاتها العامة والخاصة، وتأمر المكلفين بالتزام العدل في كل أمورهم ومع كل الناس الموافق منهم والمخالف، وتحثهم على الإنصاف من غير محاباة للقريب ولا مجافاة للبعيد البغيض، كما قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}، قال الشيخ ابن سعدي :» فالعدل الذي أمر الله به يشمل العدل في حقه وفي حق عباده، فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفورة، بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما في حقه وحق عباده، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى وولاية القضاء ونواب الخليفة ونواب القاضي.

والعدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه وعلى لسان رسوله وأمرهم بسلوكه ...فالعدل واجب والإحسان فضيلة مستحبة وذلك كنفع الناس بالمال والبدن والمال وغير ذلك من أنواع النفع».اهـ.

وقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}.

وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}.

قال الشيخ ابن سعدي :» ومن أعظم أنواع القسط؛ القسط في المقالات والقائلين فلا يحكم لأحد القولين أو أحد المتنازعين لانتسابه أو ميله لأحدهما، بل يجعل وجهته العدل بينهما، ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان حتى على الأحباب بل على النفس.. والقيام بالقسط من أعظم الأمور وأدلها على دين القائم به وورعه».اهـ.

وقال تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} قال الشيخ: «أي بمراعاة الصدق فيمن تحبون ومن تكرهون والإنصاف وعدم كتمان ما يلزم بيانه؛ فإن الميل على من تكره بالكلام فيه أو في مقالته من الظلم المحرم، بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه وأن يبين ما فيها من الحق والباطل ويعتبر قربها من الحق وبعدها منه « .

وعن أنس] أن النبي [ قال: «ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وثلاث مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه». قال المناوي: فلا يحمله الغضب على الجور ولا الرضا على الوقوع في المحظور لأجل رضا المخلوق».

وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله[: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا».

وقال عمار بن ياسر -رضي الله عنه-: «ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار» رواه البخاري تعليقا، قال الشراح: إنما كان من جمع الثلاثة مستكملا للإيمان لأن مداره عليها لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقا واجبا عليه إلا أداه ولم يترك شيئا مما نهاه عنه إلا اجتنبه وهذا يجمع أركان الإيمان .

وبعث رسول الله [ عبد الله بن رواحة إلى خيبر ليخرص لهم الثمار فأرادوا أن يرشوه فقال : يا أعداء الله، تطعمونني السحت، ولقد جئت من عند أحب الناس إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على ألا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.

قال ابن عبد البر: وفيه أن المؤمن إذا أبغض في الله لا يحمله البغض على ظلم من أبغضه.

ولم تمنع الغيرة أزواج النبي [ أن يشهدن بالفضل لبعضهن، قالت عائشة عن زينب بنت جحش :» وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله [، ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق في الحديث وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشدّ ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدّق به وتقرّب به إلى الله تعالى، ما عدا سَورْة من حدّة كانت فيها تسرع منها الفيئة». أخرجه مسلم

وقال محمد بن سيرين : «ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما رأيت وتكتم خيره «.

وقال سفيان الثوري : «عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات والتعصب والشهوات دون أن يعي بفضائلهم، حُرم التوفيق ودخل في الغيبة وحاد عن الطريق».

وقال الشافعي: «ما كلمت أحدا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان وتكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما كلمت أحدا قط إلا ولم أبال بينّ الله الحق على لساني أو لسانه»، وقال أيضا : «والله ما ناظرت أحدا إلا على النصيحة، أو قال: فأحببت أن يخطئ».

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبيّة جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل وأجعله مؤتما بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس حاكما فيما اختلفوا فيه...» إلى أن قال : «وذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه».

ويقول ابن القيم :» أما أهل العدل والإنصاف فهم هؤلاء الذين أعطوا كل ذي حق حقه، ولم يحكموا للصحيح بحكم السقيم ولا للسقيم بحكم الصحيح، ولكن قبلوا ما يقبل وردوا ما يرد « .

ويقول شيخ الإسلام :» فإن الإنسان عليه أولا أن يكون أمره لله وقصده طاعة الله فيما أمره به، وهو يحب صلاح المأمور أو إقامة الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب رئاسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطا، ثم إذا ردّ عليه ذلك وأوذي أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد طلبت نفسه الانتصار وأتاه الشيطان فكان مبدأ عمله لله ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه وربما اعتدى على ذلك المؤذي .

وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه وأنه على السنة؛ فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه، ويرضون على من وافقهم وإن كان جاهلا سيئ القصد ليس له علم ولا حسن قصد فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء نفوسهم لا على دين الله ورسوله.

وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمّه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصل ما يغضب بهواه، ويكون مع ذلك له شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة وهو الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظّم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعا أو لغرض من الدنيا، لم يكن لله ولم يكن مجاهدا في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يدعى الحق والسنة هو كنظيره، معه حق وباطل، وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة ؟! وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وكفّر بعضهم بعضا وفسّق بعضهم بعض».اهـ.

ابو وليد البحيرى
2019-04-02, 04:02 AM
الحكمة ضالة المؤمن (18)إن الديــن يســــر



د.وليد خالد الربيع









عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي [ قال: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ؛ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ» أخرجه البخاري.




فمن خصائص الإسلام ، ومن سمات الشريعة السماحة واليسر ورفع الحرج ، وهذا الحديث فرد من جملة أدلة تدل على ذلك منها قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، وقال تعالى: {يريد الله أن يخفف الله عنكم}، وقال سبحانه: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، وقال [: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة»، وقال لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: «يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا»، وقالت عائشة- رضي الله عنها-: «ما خُيّر رسول الله [ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما»، ونصوص كثيرة حول هذا الأصل.

وللأسف فإن بعض الناس يسيء فهم هذا الحديث وأمثاله، فيظن أن التهاون في بعض الواجبات، والوقوع في بعض المحرمات، والتنازل عن بعض الثوابت، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يظن أن ذلك من باب أن الدين يسر.

إلا أن المفهوم الصحيح لسماحة الدين ويسره يتمثل فيما قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أي دين الإسلام ذو يسر أو سُمِّيَ الدين يسرا مبالغة بالنسبة للأديان قبله؛ لأن الله رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم، ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم» اهـ.

وقال الشيخ ابن سعدي :» ما أعظم هذا الحديث، وأجمعه للخير والوصايا النافعة، والأصول الجامعة. فقد أسّـس[ في أوله هذا الأصل الكبير، فقال: «إن الدين يسر» أي ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتُروكه؛ فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشره: هي العقائد الصحيحة التي تطمئن لها القلوب، وتوصِّل مقتديها إلى أجلِّ غاية وأفضل مطلوب، وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق، وأصلح الأعمال، بها صلاح الدين والدنيا والآخرة. وبفواتها يفوت الصلاح كله. وهي كلها ميسرة مسهلة، كل مكلف يرى نفسه قادراً عليها لا تشق عليه ولا تكلفه، عقائده صحيحة بسيطة. تقبلها العقول السليمة، والفطر المستقيمة. وفرائضه أسهل شيء.

ثم إذا نظر العبد إلى الأعمال الموظفة على العباد في اليوم والليلة المتنوعة من فرض ونفل، وصلاة وصيام وصدقة وغيرها، وأراد أن يقتدي فيها بأكمل الخلق وإمامهم محمد [ رأى ذلك غير شاق عليه، ولا مانع له عن مصالح دنياه، بل يتمكن معه من أداء الحقوق كلها: حقّ الله، وحقّ النفس، وحقّ الأهل والأصحاب، وحقّ كلّ من له حقّ على الإنسان برفق وسهولة، وأما من شدد على نفسه فلم يكتف بما اكتفى به النبي [، ولا بما علَّمه للأمة وأرشدهم إليه، بل غلا، وأوغل في العبادات: فإن الدين يغلبه، وآخر أمره العجز والانقطاع، ولهذا قال: «ولن يَشادَ الدينَ أحد إلا غلبه» فمن قاوم هذا الدين بشدة وغلو، ولم يقتصد: غلبه الدين، واستحسر ورجع القهقرى. ولهذا أمر [ بالقصد، وحثّ عليه. فقال: «والقصدَ القصدَ تبلغوا».

فعلمت بهذا: أنه يؤخذ من هذا الحديث العظيم عدة قواعد:

- القاعدة الأولى: التيسير الشامل للشريعة على وجه العموم.

- القاعدة الثانية: المشقة تجلب التيسير وقت حصولها.

- القاعدة الثالثة: إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم.

- القاعدة الرابعة: تنشيط أهل الأعمال، وتبشيرهم بالخير والثواب المرتب على الأعمال.

- القاعدة الخامسة: الوصية الجامعة في كيفية السير والسلوك إلى الله، التي تغني عن كل شيء ولا يغني عنها شيء، فصلوات الله وسلامه على من أوتي جوامع الكلم ونوافعها»اهـ.

ومن أبلغ الأدلة على سماحة الدين ويسر الإسلام (تشريع الرخص)؛ فالرخصة الشرعية هي حكم استثنائي من حكم كلي شرعت مراعاة لأحوال الناس وحاجاتهم، وقد شرعها الله رحمة بعباده وتخفيفا عنهم كما قال عز وجل: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}، فمن عجز عن الوضوء لفقد الماء أو عدم القدرة على استعماله يتيمم، ومن عجز عن الصلاة قائما صلى قاعدا، ومن عجز عن صيام أيام من رمضان أفطر وقضى أو فدى بشروطه، وغيرها من الرخصة الشرعية التي جاءت بها النصوص الشرعية لتيسر على المكلفين امتثال الأحكام الدينية وترفع عنهم الحرج والضيق، أما اتباع الهوى والبحث عن الحيل لإسقاط التكاليف، وفتح الأبواب إلى المحرمات، فهذه ليست برخص شرعية إنما هي لعب بالأحكام الشرعية، وعبث بالتكاليف الدينية؛ لأن التيسير والتخفيف في حقيقته (حكم شرعي ) ينبغي أن يستند إلى الأدلة الشرعية والقواعد الكلية، أما التيسير المردود فما كان تابعا للهوى بغير دليل شرعي ولا قاعدة كلية .

فلو قال قائل: كيف يتفق هذا المبدأ ـ وهو الدين يسر ـ مع التكاليف الشرعية التي هي إلزام المكلف بما فيه كلفة ومشقة كما يدل عليه أصل الكلمة اللغوي ؟

وقد أجاب عن هذا الإشكال الشاطبي رحمه الله حيث قرر أن المشقة أنواع:

- النوع الأول: مشقة لا يقدر عليها المكلف، كتكليف المقعد بالمشي وتكليف الإنسان بالطيران، فهذا النوع لم يقع التكليف به، ولم يقصده الشارع.

- النوع الثاني: مشقة مقدور عليها إلا أنها خارجة عن المعتاد: مثل إلزام المكلف بالوصال في الصوم، والاستمرار بقيام الليل، أو الصوم حال السفر أو المرض؛ فإن التكليف بهذه الأمور ـ وإن كانت مقدورة للمكلف ـ إلا أنه سيلحقه حرج شديد وضرر كبير مما يخل بنظام حياته ويفوت عليه مصالحه الدينية والدنيوية، فالشارع لا يشرع مثل هذا النوع من التكاليف التي فيها مثل هذا النوع من المشقة ، بل إنه سبحانه شرع الرخص التي تخفف عن الناس وترفع عنهم الحرج.

النوع الثالث: المشقة المقدور عليها إلا أنها زائدة على المعتاد: وهي المشقة الطبيعية التي يستطيع المكلف- تحملها من غير أن يلحقه ضرر في دينه ولا دنياه، مثل التكاليف بسائر الفرائض، وترك المحرمات، فهي في ذاتها ليست بشاقة، ولكن التزامها هو الشاق على النفس؛ لما فيه من الدخول في أعمال زائدة على ما اعتادته النفوس من أعمال الدنيا، فمثل هذه المشقة لا تمنع من التكليف بمقتضاها؛ لأن كل عمل في الحياة لا يخلو من مشقة، غير أن هذه المشقة ليست هي المقصودة للشارع الحكيم ، بل المقصود المصالح المترتبة على التكاليف التي كلفنا بها، كمثل الطبيب الماهر يلزم المريض بتناول الدواء المرّ لا يقصد بذلك إيلامه، وإنما يقصد سلامته من المرض، ولله المثل الأعلى.

ابو وليد البحيرى
2019-06-23, 10:49 AM
الحكمة ضالة المؤمن (19) من يزرع الأكاذيب يحصد الأشواك

د.وليد خالد الربيع



يتهاون بعض الناس ـ للأسف ـ في أمر الكذب، ويقسمونه إلى كبير وصغير، وأبيض وأسود، ونافع وضار، وغير ذلك من تقسيمات تقلل من خطره، وتصغر من عظيم ضرره؛ مما يشجع بعض الناس على اختلاق الكذب، وافتراء الشائعات، وتلفيق الحكايات، وتزوير الحقائق، وتمويه الوقائع، والطامة الكبرى أن يتعود على الكذب الأطفال، وينشأ عليه الصغار، فلا يكترثون بالزور ولا البهتان، ويألفون الأكاذيب والتلفيق، ويستعملونه في الجد والهزل، ويروجونه في المزاح والمرح، وربما جعل الناس للكذب يوما يعتادونه كل سنة يتبادلون الأكاذيب كما يتبادلون الهدايا، غير مبالين بالأحكام الإلهية ، ولا التوجيهات النبوية التي حذرت من الكذب أشد التحذير، وبينت ما فيه من الأضرار والشرر المستطير، قال الإمام أحمد: «الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل»، وقال الذهبي: «يطبع المسلم على الخصال كلها إلا الخيانة والكذب».

وقد جاءت النصوص الشرعية تأمر بالصدق وملازمة الصادقين ، وتنهى عن الكذب وتحذر من خصال الكاذبين، ومن ذلك قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، قال الشيخ ابن سعدي: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، الذين أقوالهم صدق، وأعمالهم؛ وأحوالهم لا تكون إلا صدقا خالية من الكسل والفتور، سالمة من المقاصد السيئة، مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة.»اهـ.

قال[: «آية المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» متفق عليه، وقال[: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» متفق عليه.

وقال[: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» أبو داود وحسنه الألباني.

وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله[: «إن الصدق بر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن العبد ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، وإن الكذب فجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن العبد ليتحرى الكذب حتى يكتب كذابا» متفق عليه.

قال النووي: «قال العلماء: هذا فيه حث على تحري الصدق، وهو قصده والاعتناء به، وعلى التحذير من الكذب والتساهل فيه؛ فإنه إذا تساهل فيه كثر منه فعرف به وكتبه الله لمبالغته صديقا إن اعتاده، أو كذابا إن اعتاده، ومعنى» يكتب «هنا: يحكم له بذلك، ويستحق الوصف بمنزلة الصديقين وثوابهم، أو صفة الكاذبين وعقابهم» اهـ.

ومن آثار الكذب في الآخرة سواد الوجه؛ قال تعالى: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة}، قال ابن القيم: «ولهذا يجعل الله سبحانه شعار الكاذب عليه يوم القيامة وشعار الكاذب على رسوله سواد وجهه، والكذب له تأثير عظيم في سواد الوجه، ويكسوه برقعا من المقت يراه كل صادق، فسيما الكاذب في وجهه تنادي عليه لمن له عينان، والصادق يرزقه الله مهابة وجلالة، فمن رآه هابه وأحبه، والكاذب يرزقه إهانة ومقتا، فمن رآه مقته واحتقره» اهـ.

ومن آثار الكذب محق البركة؛ قال [: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما» متفق عليه، قال النووي: «أي: بيّن كل واحد لصاحبه ما يحتاج إلى بيانه من عيب ونحوه في السلعة والثمن وصدق في ذلك، ومعنى»محقت بركة بيعهما» أي: ذهبت بركته وهي: زيادته ونماؤه» اهـ.

وقد كان الصحابة الكرام يعظمون من شأن الصدق وأهله، ويحذرون من الكذب وآثاره، قال عمر رضي الله عنه: «لأن يضعني الصدق - وقلما يضع - أحب إلي من أن يرفعني الكذب، وقلما يفعل». وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «أعظم الخطايا الكذب، ومن يعف يعف الله عنه»، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ الله [ مِنَ الْكَذِبِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ [ الْكَذِبَةَ، فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً» رواه أحمد.

وبالتأمل في حقيقة الصدق والكذب ومآل كل منهما يجد الناظر ما يقتضي لزوم الصدق وهجر الكذب، يوضح ذلك أبو حاتم البستي بقوله: «إن الله عز وجل فضّـل اللسان على سائر الجوارح، ورفع درجته، وأبان فضيلته، بأن أنطقه من بين سائر الجوارح بتوحيده، فلا يجب على العاقل أن يعوّد آلة خلقها الله للنطق بتوحيده بالكذب، بل يجب عليه المداومة برعايته بلزوم الصدق، وما يعود عليه نفعه في داريه؛ لأن اللسان يقتضي ما عوّد: إن صدقا فصدقا ، وإن كذبا فكذبا» اهـ.

وقال أيضا: «الصدق يرفع المرء في الدارين، كما أن الكذب يهوي به في الحالين، ولو لم يكن للصدق خصلة تحمد إلا أن المرء إذا عرف به قُبل كذبه وصار صادقا عند من يسمعه، لكان الواجب على العاقل أن يبلغ مجهوده في رياضة لسانه حتى يستقيم له على الصدق ومجانبة الكذب، والعيّ في بعض الأوقات خير من النطق، لأن كل كلام أخطأ صاحبه موضعه فالعيّ خير منه.

ولو لم يكن للكذب من الشين إلا إنزاله صاحبه بحيث إن صدق لم يصدّق، لكان الواجب على الخلق كافة لزوم التثبت بالصدق الدائم، وإن من آفة الكذب أن يكون صاحبه نسيا، فإذا كان كذلك كان كالمنادي على نفسه بالخزي في كل لحظة وطرفة» اهـ.

والكذب قد يكون في مجالات عديدة منها الكذب على الله تعالى، والكذب على رسوله [، والكذب على الناس باختلاق الأقاويل، ومنها القذف واتهام الأعراض زورا وبهتانا، ومنها شهادة الزور، واليمين الغموس، وغيرها من أبواب يدخل فيها الكذب فيجلب معه الآفات والشرور والمصائب العقدية والأخلاقية والاجتماعية وغيرها؛ ولهذا قرن الكذب بالفجور لأن الفجور انحراف عن الحق وإقبال عل القبائح والآثام، والكذب بلا شك مفتاح لكل تلك الأبواب المحرمة، فهو بحق وسيلة لهدم المجتمعات البشرية، وتحطيم علاقتها الإنسانية؛ فمن يزرع الأكاذيب يحصد الأشواك والآلام في الدنيا والآخرة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

ابو وليد البحيرى
2019-10-03, 03:22 AM
الحكمة ضالة المؤمن (20) ولا تنسوا الفضل بينكم



د.وليد خالد الربيع



الاعتراف بالفضل وشكر النعم، وحفظ الجميل من معالي الأخلاق التي جاء بها الإسلام الحنيف، ومن محاسن الصفات التي دعا إليها رسول الله [، وذلك أن الاعتراف بالنعم إقرار لصاحبها بإحسانه، وشكر له على آلائه، وإظهار لصنائعه وتحدث بأياديه، في حين أن كفر صنيعته وجحد إحسانه، وإنكار جميله كفر بنعمته، وتضييع لواجب شكره، واستخفاف بحقه وفضله، وهذا لا يقره الشرع المطهر ولا يقبله العقل السديد.


قال أبو حاتم البستي : «الحر لا يكفر النعمة، ولا يتسخط المصيبة، بل عند النعم يشكر، وعند المصائب يصبر، ومن لم يكن لقليل المعروف عنده وقع أوشك أن لا يشكر الكثير منه، والنعم لا تستجلب زيادتها، ولا تدفع الآفات عنها إلا بالشكر»اهـ.

ومن النصوص الشرعية التي تدل على هذا الخلق الكريم قوله تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم} لما له من أثر كبير في ترسيخ الأخوّة الإيمانية ونشر المحبة والود في المجتمع المسلم، قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: «فأمروا في هاته الآية بأن يتعاهدوا الفضل، ولا ينسوه؛ لأن نسيانه يباعد بينهم وبينه، فيضمحل منهم، وموشك أن يحتاج إلى عفو غيره عنه في واقعة أخرى، ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة والانتفاع بهذا الوصف عند حلول التجربة.»اهـ.

ويبين الشيخ ابن سعدي أن الفضل أعلى درجات المعاملة فقال:«الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف, وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة؛ لأن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين: إما عدل وإنصاف واجب, وهو: أخذ الواجب, وإعطاء الواجب.

وإما فضل وإحسان, وهو إعطاء ما ليس بواجب والتسامح في الحقوق, والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة, ولو في بعض الأوقات, وخصوصا لمن بينك وبينه معاملة, أو مخالطة, فإن الله مجاز المحسنين بالفضل والكرم»اهـ.

ولهذه الآية الكريمة معان عديدة ذكرها المفسرون منها ما ذكره الطبري: يَقُول تَعَالَى ذِكْره: وَلَا تَغْفِلُوا أَيّهَا النَّاس الأخْذ بِالْفَضْلِ بَعْضكُمْ عَلَى بَعْض فَتَتْرُكُوهُ, وَلَكِنْ لِيَتَفَضَّل الرَّجُل الْمُطَلِّق زَوْجَته قَبْل مَسِيسهَا, فَيُكْمِل لَهَا تَمَام صَدَاقهَا إنْ كَانَ لَمْ يُعْطِهَا جَمِيعه، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَاقَ إلَيْهَا جَمِيع مَا كَانَ فَرَضَ لَهَا, فَلْيَتَفَضَّلْ عَلَيْهَا بِالْعَفْوِ عَمَّا يَجِب لَهُ, وَيَجُوز لَهُ الرُّجُوع بِهِ عَلَيْهَا, وَذَلِكَ نِصْفه؛ فَإِنْ شَحَّ الرَّجُل بِذَلِكَ, وَأَبَى إلَّا الرُّجُوع بِنِصْفِهِ عَلَيْهَا, فَلتتَفَضل الْمَرْأَة الْمُطَلَّقَة عَلَيْهِ بِرَدِّ جَمِيعه عَلَيْهِ إنْ كَانَتْ قَدْ قَبَضَتْهُ مِنْهُ, وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْهُ فَتَعْفُو عَنْ جَمِيعه, فَإِنْ هُمَا لَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ وَشَحَّا وَتَرَكَا مَا نَدَبَهُمَا اللَّه إلَيْهِ مِنْ أَخْذ أَحَدهمَا عَلَى صَاحِبه بِالْفَضْلِ فَلَهَا نِصْف مَا كَانَ فَرَضَ لَهَا فِي عُقَد النِّكَاح, وَلَهُ نِصْفه.

ثم نقل عن بعض مفسري السلف فذكر عَنْ قَتَادَة: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنكُمْ} يُرَغِّبكُمْ اللَّه فِي الْمَعرُوف, وَيَحُثكُمْ عَلَى الْفَضْل، وعَنْ سُفْيَان: {وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْل بَيْنكُمْ } قَالَ: حَثّ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض فِي هَذَا وَفِي غَيْره, حَتَّى فِي عَفْو الْمَرْأَة عَنْ الصَّدَاق وَالزَّوْج بِالْإِتْمَامِ، وعَنْ الضَّحَّاك: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنكُمْ} قَالَ: الْمَعْرُوف، وعَنْ سَعِيد قَالَ: سَمِعْت تَفْسِير هَذِهِ الْآيَة {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنكُمْ} قَالَ: لَا تَنْسَوا الْإِحْسَان.اهـ.

وقد كان النبي [ أولى الناس بهذه الصفة الكريمة، فقد كان [ يحفظ لخديجة - رضي الله عنها- إحسانها، فعن عائشة - رضي الله عنها- قالت: «ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة - ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين - لما كنت أسمعه يذكرها، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وإن كان ليذبح الشاة ثم يهدي في خُلتها - أي أهل صداقتها - منها» أخرجه البخاري.

وفي حديث للحاكم والبيهقي أن النبي [ استقبل عجوزا بحفاوة وترحيب، فلما خرجت سألته فقال [: «يا عائشة إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإنَّ حُسنَ العَهدِ من الإيمان»، قال ابن حجر في شرح قول البخاري: باب حسن العهد من الإيمان، قال أبو عبيد: العهد هنا رعاية الحرمة، وقال عياض: هو الاحتفاظ بالشيء والملازمة له، وقال الراغب: حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال، وعهد الله تارة يكون بما ركزه في العقل وتارة بما جاءت به الرسل، وتارة بما يلتزمه المكلف ابتداء كالنذر ومنه قوله تعالى: {ومنهم من عاهد الله}.

وحفظ لأبي بكر الصديق جهوده وبذله في نصرة الدين فقال [: «إن من أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين باب في المسجد إلا سدّ إلا باب أبي بكر» أخرجه البخاري.

وحفظ رسول الله [ للمطعم بن عدي جميله حين أجاره بعد أن رده أهل الطائف قبل الهجرة، فقال بعد غزوة بدر في شأن أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» أخرجه البخاري.

وأمر [ بحفظ الجميل ومقابلة صاحبه بالشكر والجزاء فقال [: «من صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه» أخرجه أبو داود وصححه الألباني.

قال أبو حاتم البستي: «الواجب على المرء أن يشكر النعمة، ويحمد المعروف على حسب وسعه وطاقته، إن قدر فبالضعف، وإلا فبالمثل، وإلا فبالمعرفة بوقوع النعمة عنده، مع بذل الجزاء له بالشكر، وقوله: «جزاك الله خيرا»اهـ.

فعلى المسلم أن يحرص على الاعتراف بالإحسان وشكر النعم، ولا يترك ذلك بسبب أن الناس تركوا شكره أو قصروا في حقه، فهو إنما يفعل ذلك ليشكر الله عز وجل أولاً على فضله وما حباه من نعم وأمكنه من إيصالها لغيره ثم يثيبه عليها بفضله عز وجل، قال ابن الأثير: «من كان عادته وطبعه كفران نعمة الناس وترك شكرها لهم كان من عادته كفر نعمة الله عز وجل ، وترك الشكر له»، وقال بعض الحكماء: «لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره؛ فإنه يشكرك عليه من لا تصنعه إليه».

ابو وليد البحيرى
2020-02-08, 01:44 PM
الحكمة ضالة المؤمن (21) الأرواح جنـــود مجنـــدة


د.وليد خالد الربيع



يجد الإنسان نفسه - أحياناً - متوافقا مع بعض الناس، منسجما معهم، مرتاحا لهم، أفكارهم متشابهة، وأسلوبهم متماثل. في حين أنه يجد نفسه مع آخرين منقبضا عنهم ، مجانبا لهم، مبغضا للاجتماع معهم، حتى إنه ليؤثر الانفراد على الاختلاط بهم، ويفضل الوحدة على صحبتهم، من غير سبب يذكر، ولا عيب يظهر، وإذا سئل عن سبب اعتزاله لأولئك الرهط، ومفارقته لذلك المجلس أجاب معللا ذلك بقوله: «الأرواح جنود مجندة؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
وأصل هذه المقولة حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه معلقا مجزوما به عَنْ عَائِشَةَ ر ضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَ[ يَقُولُ: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
وأخرجه مسلم مسندا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله[ قال: «الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»، وفي لفظ آخر: «الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
قال ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث: «قال الخطابي: يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد, وأن الخيِّر من الناس يحنّ إلى شكله، والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر, فإذا اتفقت تعارفت, وإذا اختلفت تناكرت.
ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجسام, وكانت تلتقي فتتشاءم, فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول، فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم.
وقال غيره: المراد أن الأرواح أول ما خلقت خلقت على قسمين, ومعنى تقابلها أن الأجساد التي فيها الأرواح إذا التقت في الدنيا ائتلفت أو اختلفت على حسب ما خلقت عليه الأرواح في الدنيا إلى غير ذلك بالتعارف.
قلت -القائل ابن حجر-: ولا يعكر عليه أن بعض المتنافرين ربما ائتلفا؛ لأنه محمول على مبدأ التلاقي, فإنه يتعلق بأصل الخلقة بغير سبب، وأما في ثاني الحال فيكون مكتسبا لتجدد وصف يقتضي الألفة بعد النفرة كإيمان الكافر وإحسان المسيء.
وقوله: «جنود مجندة» أي أجناس مجنسة أو جموع مجمعة, قال ابن الجوزي: «ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم, وكذلك القول في عكسه».

وقال القرطبي: «الأرواح وإن اتفقت في كونها أرواحا لكنها تتمايز بأمور مختلفة تتنوع بها, فتتشاكل أشخاص النوع الواحد وتتناسب بسبب ما اجتمع فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة؛ ولذلك نشاهد أشخاص كل نوع تألف نوعها وتنفر من مخالفها، ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر , وذلك بحسب الأمور التي يحصل الاتفاق والانفراد بسببها .»اهـ كلام ابن حجر .
وقال النووي في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة»: قال العلماء: معناه جموع مجتمعة، أو أنواع مختلفة، وأما تعارفها فهو لأمر جعلها الله عليه، وقيل: إنها موافقة صفاتها التي جعلها الله عليها، وتناسبها في شيمها، وقيل: لأنها خلقت مجتمعة، ثم فرقت في أجسادها؛ فمن وافق بشيمه ألفه، ومن باعده نافره وخالفه.
وقال الخطابي وغيره : تآلفها هو ما خلقها الله عليه من السعادة، أو الشقاوة في المبتدأ، وكانت الأرواح قسمين متقابلين، فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت واختلفت بحسب ما خلقت عليه، فيميل الأخيار إلى الأخيار، والأشرار إلى الأشرار، والله أعلم «اهـ.
ويعلل أبو حاتم البستي في (روضة العقلاء)سبب ائتلاف الناس وافتراقهم بعد القضاء السابق بأنه تعارف الروحين، وتناكر الروحين، فإذا تعارف الروحان وجدت الألفة بين نفسيهما، وإذا تناكر الروحان وجدت الفرقة بين جسميهما.
ونقل عن مجاهد قال: رأى ابن عباس رضي الله عنها رجلا فقال: «إن هذا ليحبني» قالوا: وما علمك؟ قال: «إني لأحبه، والأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
وذكر عن قتادة في قوله عز وجل: {إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}، قال: «للرحمة والطاعة، فأما أهل طاعة الله فقلوبهم وأهواؤهم مجتمعة، وإن تفرقت ديارهم، وأهل معصية الله قلوبهم مختلفة ، وإن اجتمعت ديارهم».

ويبين أبو حاتم خطورة هذا التماثل والتقارب بين المتشابهين من الناس وأثر ذلك على دين الشخص وسلوكه فيقول: «إن من أعظم الدلائل على معرفة ما فيه المرء من تقلبه وسكونه، هو الاعتبار بمن يحادثه ويوده؛ لأن المرء على دين خليله، وطير السماء على أشكالها تقع، وما رأيت شيئا أدل على شيء، ولا الدخان على النار، مثل الصاحب على الصاحب، ونقل عن هبيرة أنه قال: اعتبر الناس بأخدانهم، أي: قس الناس بأصدقائهم، وذكر عن الإمام مالك أنه قال: «الناس أشكال كأجناس الطير؛ الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والبط مع البط، وكل إنسان مع شكله».
قال أبو حاتم: «العاقل يجتنب مماشاة المريب في نفسه، ويفارق صحبة المتهم في دينه؛ لأن من صحب قوما عرف بهم، ومن عاشر امرأ نسب إليه، والرجل لا يصاحب إلا مثله أو شكله، فإذا لم يجد المرء بدا من صحبة الناس تحرّى من زانه إذا صحبه، ولم يشنه إذا عرف به».
ويقرر أبو حاتم أن ما قد يجده المرء في نفسه من اتفاق أو افتراق قد يؤكده الواقع بعد حينٍ حينَ تنجلي الأمور وتتكشف الحقائق فيقول: «إن من الناس من إذا رآه المرء يعجب به، وإذا ازداد به علما ازداد به عجبا، ومنهم من يبغضه حين يراه، ثم لا يزداد به علما إلا ازداد له مقتا ، فاتفاقهما باتفاق الروحين قديما، وافتراقهما يكون بافتراقهما».

وأخيرا، مع تسليمنا بدلالة هذا الحديث إلا أن الشرع يؤكد على ضرورة مصاحبة الأخيار، ولزوم اجتناب الفجار، فكون المرء يميل إلى الأشرار ويبغض الأخيار ليس مبررا لما يتبع ذلك من مخالفات شرعية؛ لأنه مأمور بالصبر على صحبة الأخيار كما قال عز وجل: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}.

ابو وليد البحيرى
2020-09-15, 05:25 AM
الحكمة ضالة المؤمن (22)العطاء شرف والأخذ ألم

د.وليد خالد الربيع




هذه المقولة الموجزة تقرر واقعا ثابتا، وتوضح جانبا اجتماعيا يلاحظه المتأمل في أحوال الناس، فبعض الناس جبل على العطاء، وحبب إليه البذل، فهو كثير الأيادي، جمّ الإفضال؛ لذا فهو محبوب عند الناس، ذو شرف ومنزلة عندهم، كما قال علي ]: «من آتاه الله منكم مالا فليصل به القرابة، وليحسن فيه الضيافة، وليفك فيه العاني والأسير وابن السبيل والمساكين والفقراء وليصبر فيه على النائبة؛ فإنه بهذه الخصال ينال كرم الدنيا وشرف الآخرة»، وقال أبو حاتم البستي: «أجود الجود من جاد بماله، وصان نفسه عن مال غيره، ومن جاد ساد، كما أن من بخل رذل».

ومصداق هذا قوله [: «اليد العليا خير من اليد السفلى»، قال المناوي: «يعني المنفقة أفضل من الآخذة، أي ما لم تشتد حاجته»، وسئل الحسن عن معنى الحديث فقال: «يد المعطي خير من يد المانع».

وفي المقابل يوجد في بعض الناس شره إلى المكاسب، وتشوف إلى ما في أيدي الناس، فتراه واسع الأطماع، كثير المراغب، لم يقنع بما رزقه الله تعالى، ولم يرض بما أعطاه مولاه، تجاوز طموحه حدود قدراته، وأراد الغنى على حساب غيره، فيعمل على الإثراء بالسؤال والاستجداء، دون أن يسعى في حرفة أو يتعاطى صنعة، وهذا مخالف لما تقرره الشريعة الغراء من ضرورة العمل والاكتساب، وحرمة المسألة والتكثر بغير حق.

قال عز وجل: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا}.

قال ابن كثير: أَيْ: لا يُلِحُّونَ فِي الْمَسْأَلَة وَيُكَلِّفُونَ النَّاس مَا لا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغنِيه عَنْ الْمَسْأَلَة فَقَدْ أَلْحَفَ فِي الْمَسْأَلَة ، وفي حديث قبيصة ابن المخارق ] أن النبي [ قال: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل لأحد إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة. فحلت له حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا»، أخرجه مسلم.

وعن أبي كبشة الأنماري ] أنه سمع النبي [ يقول: «ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه» قال: «ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر»، أخرجه الترمذي.

قال المباركفوري: «(ولا فتح) أي على نفسه (باب مسألة) أي سؤال للناس (إلا فتح الله عليه باب فقر) أي: باب احتياج آخر وهلم، أو يكون سلب عنه ما عنده من النعمة فيقع في نهاية من النقمة كما هو مشاهد»، اهـ.

عن حكيم بن حزام ] قال: سألت النبي [ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: «إن هذا المال خضرة حلوة؛ فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى»، أخرجه مسلم.

قال النووي: «قال العلماء: إشراف النفس: تطلعها إليه وتعرضها له وطمعها فيه، وأما طيب النفس فذكر القاضي فيه احتمالين:

أظهرهما: أنه عائد إلى الآخذ، ومعناه: من أخذه بغير سؤال ولا إشراف وتطلع بورك له فيه، والثاني: أنه عائد إلى الدافع، ومعناه: من أخذه ممن يدفع منشرحا بدفعه إليه طيب النفس، لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا تطيب معه نفس الدافع.

وفي هذا الحديث الحث على التعفف والقناعة، والرضا بما تيسر في عفاف وإن كان قليلا، والإجمال في الكسب، وأنه لا يغتر الإنسان بكثرة ما يحصل له بإشراف ونحوه فإنه لا يبارك له فيه»، اهـ.

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي [ قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم» متفق عليه، قال النووي: «المزعة بضم الميم وإسكان الزاي: أي قطعة، قال القاضي: قيل معناه: يأتي يوم القيامة ذليلا ساقطا لا وجه له عند الله، وقيل هو على ظاهره، يحشر ووجهه لا لحم عليه عقوبة له وعلامة بذنبه حين طلب وسأل بوجهه، كما جاءت الأحاديث الأخرى بالعقوبات في الأعضاء التي كانت بها المعاصي، وهذا فيمن سأل لغير ضرورة سؤالا منهيا وأكثر منه، كما في الرواية الأخرى: «من سأل تكثرا».

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» أخرجه مسلم، قال النووي: «قال القاضي: معناه أنه يعاقب بالنار، ويحتمل أن يكون على ظاهره، وأن الذي يأخذه يصير جمرا يكوى به، كما ثبت في مانع الزكاة».

وسمع عمر ] سائلا يسأل بعد المغرب، فقال لواحد من قومه: عشّ الرجل، فعشاه، ثم سمعه ثانيا يسأل، فقال: ألم أقل لك عشّ الرجل؟ قال: قد عشيته. فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزا، فقال: لست سائلا ولكنك تاجر. ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة، وضربه بالدرة وقال: «لا تعد».

وقال أبو حاتم البستي في «روضة العقلاء»: «العاقل لا يسأل الناس شيئا فيردوه، ولا يلحف في المسألة فيحرموه، ويلزم التعفف والتكرم، ولا يطلب الأمر مدبرا، ولا يتركه مقبلا؛ لأن فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها، وإن من يسأل غير المستحق حاجة حطّ لنفسه مرتبتين، ورفع المسؤول فوق قدره».


والخلاصة أن البذل والعطاء شرف ورفعة، وهذا ما دل عليه اللغة والسنة، ففي اللغة الشرف هو المكان العالي، قال ابن فارس: «الشرف: العلو، والشريف: الرجل العالي»، اهـ.


وفي الحديث قال [: «اليد العليا خير من اليد السفلى»، فيفهم منه أن اليد المعطية يد شريفة عالية؛ فحري بالمسلم أن يحرص على هذا الفضل بأن تكون يده عليا بالخير.

ابو وليد البحيرى
2024-04-26, 10:25 AM
الحكمة ضالة المؤمن (23)

ومـا أكـثـر النـــــاس ولــو حرصـت بمؤمنيـن



هذه الآية الكريمة من سورة يوسف عليه السلام تقرر حقيقة شرعية، وسنة إلهية وهي أن أهل الحق أقل من أهل الباطل، وأن الغالب على الناس الجحود والكفر، والقليل منهم من يهتدي للحق ويقوم به، قال الشاطبي: «وهذه سنة الله في الخلق; أن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل؛ لقوله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} ، وقوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور}، ولينجز الله ما وعد به نبيه [ من عود وصف الغربة إليه، فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم، وذلك حين يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا، وتصير السنة بدعة والبدعة سنة، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف، كما كان أولا يقام على أهل البدعة»اهـ.
وقال الشيخ ابن سعدي: «يقول تعالى لنبيه محمد [ {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ} على إيمانهم {بِمُؤْمِنِينَ} فإن مداركهم ومقاصدهم قد أصبحت فاسدة، فلا ينفعهم حرص الناصحين عليهم ولو عدمت الموانع، بأن كانوا يعلمونهم ويدعونهم إلى ما فيه الخير لهم، ودفع الشر عنهم، من غير أجر ولا عوض، ولو أقاموا لهم من الشواهد والآيات الدالات على صدقهم ما أقاموا».اهـ.
ومن الآيات المقررة لهذه الحقيقة قوله تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله}، قال ابن كثير:» يُخْبِر تَعَالَى عَنْ حَال أَكْثَر أَهْل الْأَرْض مِنْ بَنِي آدَم أَنَّهُ الضَّلال كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلهمْ أَكْثَر الْأَوَّلِينَ} وَهُمْ فِي ضَلَالهمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِين مِنْ أَمْرهمْ وَإِنَّمَا هُمْ فِي ظُنُون كَاذِبَة وَحُسْبَان بَاطِل {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} فَإِنَّ الْخَرْص هُوَ الْحَزْر وَمِنْهُ خَرْص النَّخْل وَهُوَ حَزْر مَا عَلَيْهَا مِنْ التَّمْر وَذَلِكَ كُلّه عَنْ قَدَر اللَّه وَمَشِيئَته .
قال الشيخ ابن سعدي:» يقول تعالى لنبيه محمد [، محذرا من طاعة أكثر الناس: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فإن أكثرهم قد انحرفوا في أديانهم وأعمالهم وعلومهم. فأديانهم فاسدة، وأعمالهم تبع لأهوائهم، وعلومهم ليس فيها تحقيق، ولا إيصال لسواء الطريق. بل غايتهم أنهم يتبعون الظن، الذي لا يغني من الحق شيئا، ويتخرصون في القول على الله ما لا يعلمون، ومن كان بهذه المثابة، فحري أن يحذِّر الله منه عبادَه، ويصف لهم أحوالهم؛ لأن هذا – وإن كان خطابا للنبي [ - فإن أمته أسوة له في سائر الأحكام، التي ليست من خصائصه.
ودلت هذه الآية، على أنه لا يستدل على الحق بكثرة أهله، ولا تدل قلة السالكين لأمر من الأمور أن يكون غير حق، بل الواقع بخلاف ذلك؛ فإن أهل الحق هم الأقلون عددا، الأعظمون -عند الله- قدرا وأجرا، بل الواجب أن يستدل على الحق والباطل، بالطرق الموصلة إليه».اهـ.
وقد جاء في الحديث قوله «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء «أخرجه مسلم، قال النووي:»قال القاضي: وظاهر الحديث العموم، وأن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ» اهـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فوائد هذا الحديث: «لا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبا يجوز تركه - والعياذ بالله - بل الأمر كما قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
ولا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبا أن المتمسك به يكون في شر، بل هو أسعد الناس، كما قال في تمام الحديث:»فطوبى للغرباء {وطوبى من الطيب، قال تعالى: «طوبى لهم وحسن مآب}، فإنه سيكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبا، وهو أسعد الناس، أما في الآخرة فهم أعلى الناس درجة بعد الأنبياء عليهم السلام، وأما في الدنيا فقد قال تعالى: {يأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} أي:إن الله حسبك وحسب متبعك».
وقال: «وكما أن الله نهى نبيه أن يصيبه حزن أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلام أول الأمر، فكذلك في آخره، فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم أو يكون في ضيق من مكرهم، وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وكلّ وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر {إن وعد الله حق} وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار».
قال:»وهذا الحديث يفيد المسلم أنه لا يغتم بقلة من يعرف حقيقة الإسلام، ولا يضيق صدره بذلك، ولا يكون في شك من دين الإسلام، كما كان الأمر حين بدأ، قال تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك} إلى غير ذلك من الآيات والبراهين الدالة على صحة الإسلام.»اهـ.
ويوضح الإمام ابن القيم الغربة الممدوحة بأنها: «غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسول الله [ أهلها، وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ «غريبا» وأنه»سيعود غريبا كما بدأ» وأن «أهله يصيرون غرباء «.
وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، ولكن أهل هذه»الغربة»هم أهل الله حقا؛ فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسول الله [، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه.
ومن صفات هؤلاء الغرباء: التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد، وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا، وأكثر الناس - بل كلهم - لائم لهم «اهـ.
ويقسم ابن رجب الغرباء الممدوحين إلى قسمين: أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني: من يصلح ما أفسد الناس من السنة، قال: «وهو أعلى القسمين».


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-04-26, 10:26 AM
الحكمة ضالة المؤمن (24)

الخير عادة والشر لجاجة





من القضايا الفلسفية القديمة البحث في النفس البشرية, وهل الأصل فيها الخير والشر طارئ ؟ أم العكس الذي يقول إن الشر متأصل في نفس الإنسان والخير طارئ؟

والذي تدل عليه النصوص الشرعية أن الإنسان مهيأ لقبول الخير والشر بما خلق الله تعالى فيه من الإرادة والقدرة والاختيار كما قال تعالى:{وهديناه النجدين}، قال الشيخ ابن سعدي: «أي طريقي الخير والشر، بينا له الهدى من الضلال والرشد من الغي»، وقال القاسمي: «أي أودعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر، وأقمنا له من وجدانه وعقله أعلاما تدله عليهما، ثم وهبنا له الاختيار، فإليه أن يختار أي الطريقين شاء»اهـ.

وقال: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} قال القاسمي: «أي سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك، أي: عرّفناه وبينا له ذلك بأدلة العقل والسمع» اهـ.
ومع ذلك فإن الله تعالى من رحمته فطر الإنسان على حب الخير والميل إليه وتفضيله على الشر كما قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
قال ابن سعدي: «يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال وإقامة دينه فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أي: انصبه ووجّهه إلى الدين الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها، وشرائعه الباطنة كالمحبة والخوف والرجاء والإنابة، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد اللّه فيها كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.وهذا الأمر الذي أمرناك به هو {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ووضع في عقولهم حسنها واستقباح غيرها؛ فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه في قلوب الخلق كلهم الميل إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق وهذا حقيقة الفطرة، ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي [: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»اهـ.
وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ[ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: «أَلاَ إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلاَلٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُم ْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا». أخرجه مسلم
قال النووي: قوله تعالى: {وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ} أي مسلمين، وقيل:طاهرين من المعاصي، وقيل: مستقيمين منيبين لقبول الهداية.
وقوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، فَاجْتَالَتْهُم ْ عَنْ دِينِهِمْ» أي: استخفوهم فذهبوا بهم، وأزالوهم عما كانوا عليه، وجالوا معهم في الباطل»اهـ.
وقال الطاهر بن عاشور: «وإذ قد كانت نفوس الشياطين داعية إلى الشر بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير، ولكنه معرض لوسوسة الشياطين، فيقع في شذوذ عن أصل فطرته، وفي هذا ما يكون مفتاحا لمعنى كون الناس يولدون على الفطرة، وكون الإسلام دين الفطرة، وكون الأصل في الناس الخير».
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّه ِ[: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» متفق عليه.
قال النووي: «والأصح أن معناه: أن كل مولود يولد متهيئا للإسلام فمن كان أبواه أو أحدهما مسلما استمر على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا، وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما في أحكام الدنيا، وهذا معنى يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، أي:يحكم له بحكمهما في الدنيا، فإن بلغ استمر عليه حكم الكفر ودينهما، فإن كانت سبقت له السعادة أسلم وإلا مات على كفره» اهـ.
والفطرة في اللغة: من فطر بمعنى شق، وانفطر وتفطر: انشق، وتأتي بمعنى خلق يقال: فطر الله الخلق، أي: خلقهم وأنشأهم، والفطرة: الابتداء والاختراع والخلق، ومنه قوله تعالى: {الحمد لله فاطر السموات والأرض}.
قال القرطبي: «الفطرة هي الخلقة التي خلق الله عليها المولود في المعرفة بربه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة».
ومن هنا يأتي هذا الحديث ليؤكد هذا الأصل، ويحث الناس على الاستكثار من الخير والتعود على فعله حتى يصير سجية في النفس وعادة في الطبع، فعن ‏معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-عن رسول الله [ «‏‏إنه قال ‏ ‏الخير ‏ ‏عادة ‏ ‏والشر ‏ ‏لجاجة، ‏ومن يرد الله به خيرا ‏ ‏يفقهه في الدين» أخرجه ابن ماجه، وفي رواية أن معاوية -رضي الله عنه- قال: «عَوِّدُوا أَنْفُسَكُمُ الْخَيْرَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ[ يَقُولُ: «الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
واللجاجة في اللغة بمعنى التردد وعدم الثبات، قال ابن فارس: «اللام والجيم أصل صحيح يدل على تردد الشيء بعضه على بعض، وترديد الشيء، يقال: لجلج الرجل المضغة في فيه إذا رددها ولم يسغها، ويقولون:في فؤاد فلان لجاجة، وهو أن يخفق لا يسكن من الجوع».
قال السندي في شرحه: «‏أَي الْمُؤْمِن الثَّابِت عَلَى مُقْتَضَى الْإِيمَان وَالتَّقْوَى يَنْشَرِح صَدْره لِلْخَيْرِ فَيَصِير لَهُ عَادَة، وَأَمَّا الشَّرّ فَلَا يَنْشَرِح لَهُ صَدْره فَلَا يَدْخُل فِي قَلْبه إِلَّا بِلَجَاجَةِ الشَّيْطَان وَالنَّفْس الْأَمَارَة،وَه َذَا هُوَ الْمُوَافِق لِحَدِيثِ: «دَعْ مَا يَرِيبك إِلَى مَا لَا يَرِيبك وَالْإِثْم مَا حَاكَ فِي صَدْرك وَإِنْ أَفْتَاك الْـمَفْتُون». وَالْمُرَاد أَنَّ الْخَيْر مُوَافِق لِلْعَقْلِ السَّلِيم، فَهُوَ لا يَقْبَل إِلا إِيَّاهُ وَلا يَمِيل إِلا إِلَيْهِ، بِخِلافِ الشَّرّ فَإِنَّ الْعَقْل السَّلِيم يَنْفِر عَنْهُ وَيُقَبِّحهُ.
وَيَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد بِالْخَيْرِ وَالشَّرّ الْحَقّ وَالْبَاطِل، وَلِلْحَقِّ نُور فِي الْقَلْب يَتَبَيَّن بِهِ أَنَّهُ الْحَقّ، وَلِلْبَاطِلِ ظُلْمَة يَضِيق بِهَا الْقَلْب عَنْ قَبُوله؛ فَلا يَدْخُل فِيهِ إِلا بِتَرَدُّدٍ وَانْقِبَاض لِلْقَلْبِ عَنْ قَبُوله، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِق لِلْمَثَلِ الْمَشْهُور: «الْحَقّ أَبْلَجُ وَالْبَاطِل لجلج» مِنْ غَيْر أَنْ يَنْفُذ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا بَيَان مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُون الْمُؤْمِن عَلَيْهِ، أَيْ اللَّائِق بِحَالِهِ أَنْ يَكُون الْخَيْر عَادَته وَالشَّرّ مَكْرُوهًا لَا يَدْخُل عَلَيْهِ إِلَّا لِلَّجَاجَةِ»اه ـ.
فعلى المسلم أن يتحرى الخيرات ويستكثر منها حتى يعتاد عليها ، ويعرف بها، ويألفها فيموت عليها ويختم له -بإذن الله- بخاتمة السعداء، كما عليه أن ينفر من الشرور والآفات، ويتباعد عنها، حتى يقوى في قلبه إنكارها ويزيد بغضها، ويفر منها ومن أهلها، فيكون كما أراده الله تعالى من عباده المخلِصين المخلـَصين، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-04-26, 10:27 AM
الحكمة ضالة المؤمن (25)

«إذا اشتريت اليوم ما هو كمالي تبيع غدا ما هو ضروري».




هذه الكلمة الحكيمة تتناول سلوكا اجتماعيا منتشرا في مجتمعاتنا - وللأسف - وهو الرغبة في الشراء والتملك دون ضوابط شرعية أو معايير اقتصادية؛ مما يعود بالآثار السلبية على الأفراد والأسر والمجتمعات.

فسوء تنظيم الإنسان لأموره المالية، وعدم كبح جماح طموحاته الاجتماعية يدفعانه إلى التمادي في الاستهلاك والاقتراض، وكثير من الآباء والأمهات لا يرفضون لأولادهم طلبا لكيلا يشعروهم بالنقص مع أقرانهم، في حين أنه من أساسيات التربية تنشئة الأبناء على التفريق بين ما يحتاجون إليه وما يريدونه؛ ليميزوا بين الحاجيات والكماليات، وما يلزم تحقيقه وما يمكن تأجيله، ليغرسوا هذا المبدأ في أبنائهم في المستقبل.
كما أن حب التقليد والمحاكاة للطبقات الغنية، من التفاخر والمباهاة بالمقتنيات، وتقييم الإنسان من خلال لباسه وسيارته وبيته وأثاثه وقيمة مقتنياته، والتركيز على المظاهر الجوفاء دون المعاني والقيم والمبادئ من أسباب تفشي هذه الظاهرة.
وللإعلام دور خطير في غرس هذا النمط الاستهلاكي عند الناس، فمن الأصول التسويقية: إن استطعت إقناع الزبون بشراء سلعتك مع أنها أكثر تكلفة من مثيلاتها فأنت مروج ناجح، أما إذا أقنعته بشرائها مع أنه لا يحتاجها فأنت أكثر نجاحا، أما أكثر المروجين نجاحا فهو الذي يقنع عميلا بشراء سلعة أكثر تكلفة وهو لا يحتاجها ولا يملك ثمنها.
أما آثار هذا السلوك فهي عديدة، منها:
1- الذل والهم : الذي يخيم على نفوس كثير من أرباب الأسر بسبب الديون والأقساط، وقد كان النبي[ يستعيذ بالله من الجبن والبخل ومن غلبة الدين وقهر الرجال؛ لما يترتب على ذلك من آثار نفسية عميقة، ومشكلات صحية وأمراض مزمنة.
2- كثرة السؤال: انتشر بين الناس كثرة السؤال المكروه شرعا كما جاء في الحديث: «وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»، وقال[: «من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمر جهنم فليستقل منه أو ليستكثر» أخرجه مسلم، وقال[: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح» قيل: وما الغنى؟ قال:«خمسون درهما أو قيمتها من الذهب»أخرجه أحمد والأربعة.
3- عدم القناعة بما قسم الله عز وجل للعبد من رزق فيتطلع إلى ما ليس في وسعه ولا استطاعته، ويسعى لمحاكاة الآخرين بالديون والأقساط، وقد حثنا الدين على القناعة فقال [: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» أخرجه مسلم.
4- كثرة المشكلة الأسرية: إما بسبب كثرة مطالبات الزوجة والأبناء لرب الأسرة مع ضعف إمكانياته المادية وما يتبع ذلك من مشاحنات وسوء العلاقات الأسرية، وإما بسبب تورط رب الأسرة في الديون والشيكات بغير رصيد وما يتبع ذلك من سجنه وضياع عمله وتشتت أبنائه وانحرافهم لغياب رقابة الأب عليهم.
5- تربية الأبناء على الإسراف والبذخ والتبذير ، والظهور بمظهر الرفاهية المزيفة، فعن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت: يا رسول الله أقول إن زوجي أعطاني ما لم يعطني؟ فقال[: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» أخرجه مسلم، قال النووي: «معناه المتكثر بما ليس عنده بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده، يتكثر بذلك عند الناس ويتزين بالباطل، فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور».
ويكمن أساس هذا السلوك الاجتماعي السلبي في غياب الوعي الشرعي بأهمية حفظ المال واستثماره وخطورة الديون وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة.
فالشارع يقرر أن المال مال الله، ونحن مؤتمنون عليه ومسؤولون عنه كما قال تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}، وقال: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}، وقال[: «نعم المال الصالح للرجل الصالح»، وقال[ لأبي ذر لما أبصر أحدا: «ما أحب أنه يحول لي ذهباً يمكث عندي مائة دينار فوق ثلاث إلا دينارا أرصده لدين» أخرجه البخاري، وقال[: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» أخرجه الترمذي.
وقد أكد الشارع أهمية الاعتدال والتوسط في الإنفاق دون إسراف ولا بخل، فقال عز وجل: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}، قال الجرجاني: «الإسراف هو إنفاق المال الكثير في العرض الخسيس، وقيل: هو تجاوز الحد في النفقة»، وقال ابن القيم في تفسير الآية: «أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهلهم فيقصرون في حقهم، فلا يكفونهم، بل عدل خيار، وخير الأمور أوسطها».
وقال عز وجل: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا}، قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: «هم الذين ينفقون المال في غير حقه».
وقال ابن سعدي معللا اقتران المبذرين بالشياطين: «لأن الشيطان لا يدعو إلا إلى كل خصلة ذميمة، فيدعو الإنسان على البخل والإمساك، فإذا عصاه دعاه إلى الإسراف والتبذير، والله تعالى إنما يدعو بأعدل الأمور وأقسطها ويمدح عليه كما في قوله عن عباد الرحمن الأبرار: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}، وقال هنا: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك}، كناية عن شدة الإمساك والبخل {ولا تبسطها كل البسط}، فتنفق فيما لا ينبغي، وزيادة على ما ينبغي {فتقعد} إن فعلت ذلك {ملوما} أي: تلام على ما فعلت {محسورا} أي: حاسر اليد فارغها، فلا يبقى ما في يدك من المال ولا خلفه مدح ولا ثناء»اهـ.
وقال رسول الله[: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة» أخرجه أحمد، وقال[: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» أخرجه البخاري.
قال الشيخ ابن سعدي: وقوله: «وإضاعة المال» وذلك إما بترك حفظه حتى يضيع، أو يكون عرضة للسراق والضياع، وإما بإهمال عمارة عقاره، أو الإنفاق على حيوانه، وإما بإنفاق المال في الأمور الضارة، أو غير النافعة، فكل ذلك داخل في إضاعة المال.قال: «وما كرهه الله لعباده، فهو يحب منهم ضدها» وذكر أنه سبحانه يحب من عباده «أن يحفظوا أموالهم ويدبروها، ويتصرفوا فيها التصرفات النافعة، ويصرفوها في المصارف النافعة»اهـ.
ونختم بوصية نفيسة لابن الجوزي حيث يبين حال العاقل في فقره أو غناه فيقول: «العاقل يدبر بعقله معيشته في الدنيا، فإن كان فقيرا اجتهد في كسب وصناعة تكفّه عن الذل للخلق، وقلّل العلائق، واستعمل القناعة، فعاش سليما من منن الناس عزيزا بينهم، وإن كان غنيا فينبغي له أن يدبر في نفقته خوف أن يفتقر فيحتاج إلى الذل للخلق، ومن البلية أن يبذر في النفقة ويباهي بها ليكمد الأعداء، كأنه يتعرض بذلك - إن أكثر - لإصابته بالعين، وينبغي التوسط في الأحوال، وكتمان ما يصلح كتمانه، وإنما التدبير حفظ المال، والتوسط في الإنفاق، وكتمان ما لا يصلح إظهاره».


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-04-27, 02:51 PM
الحكمة ضالة المؤمن (26)

لا يكلف الله نفساً إلا وسعها





هذه الآية الكريمة دليل على سعة رحمة الله تعالى بعباده، وكريم فضله وإنعامه عليهم؛ إذ إن التكاليف الشرعية والمطلوبات الدينية موضوعة على حسب القدرة والطاقة، لا تخرج عن الوسع الإنساني والجهد البشري، وذلك لرحمة الله تعالى بعباده، وعلمه بضعفهم وعجزهم، ومن هنا ندرك أن مقصود الشارع الحكيم هو التيسير على المكلفين، وأن ما تشتمل عليه التكاليف الشرعية من مشقة ليس المقصود منها المشقة ذاتها، وإنما المقصود المصالح المترتبة على تلك التكاليف، كمثل الطبيب الماهر يلزم المريض بتناول الدواء المر لا يقصد بذلك إيلامه وإنما يقصد سلامته من المرض.



قال ابن كثير:«قَوْله: {لا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا} أَي:لا يُكَلَّف أَحَد فَوْق طَاقَته، وَهَذَا مِنْ لُطْفه تَعَالَى بِخَلْقِهِ وَرَأْفَته بِهِمْ وَإِحْسَانه إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ هِيَ النَّاسِخَة الرَّافِعَة لِمَا كَانَ أَشْفَقَ مِنْهُ الصَّحَابَة فِي قَوْله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه} أَيْ: هُوَ وَإِنْ حَاسَبَ وَسَأَلَ لَكِنْ لَا يُعَذِّب إِلَّا بِمَا يَمْلِك الشَّخْص دَفْعه، فَأَمَّا مَا لَا يَمْلِك دَفْعه مِنْ وَسْوَسَة النَّفْس وَحَدِيثهَا فَهَذَا لَا يُكَلَّف بِهِ الْإِنْسَان »اهـ.

قال الطبري:» يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {لا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إلَّا وُسْعهَا} فَيَتَعَبَّدهَا إلا بِمَا يَسَعهَا , فَلَا يُضَيِّق عَلَيْهَا , وَلَا يُجْهِدهَا، عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله: {لا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إلَّا وُسْعهَا} قَالَ: هُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَسِعَ اللَّه عَلَيْهِمْ أَمْر دِينهمْ , فَقَالَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج}، وَقَالَ: {يُرِيد اللَّه بِكُمْ الْيُسْر وَلَا يُرِيد بِكُمْ الْعُسْر}، وَقَالَ: {اتَّقُوا اللَّه مَا اسْتَطَعْتُمْ}ـ.
قال ابن سعدي: «لما نزل قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به، فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، أي: أمرا تسعه طاقتها، ولا يكلفها ويشق عليها، كما قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، فأصل الأوامر والنواهي أنها ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل، إما بإسقاطه عن المكلف، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم»اهـ.
من المعلوم أن التكليف: هو إلزام مقتضى خطاب الشرع، وشرطه العلم والقدرة، قال شيخ الإسلام: «من استقرأ ما جاء به الكتاب والسنة تبين له أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل؛ فمن كان عاجزا عن أحدهما سقط عنه ما يعجزه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها»، فلابد من أمرين ليتحقق التكليف: الأول: التمكن من العلم، والثاني: القدرة على العمل.
ومن الأدلة على الأمر الأول: قوله عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}، وقال عز وجل: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}، قال شيخ الإسلام: بين سبحانه أنه لا يعاقب أحداً حتى يبلغه ما جاء به الرسول، ومن علم أن محمدا رسول الله فآمن بذلك ولم يعلم كثيرا مما جاء به الرسول، لم يعذبه الله على ما لم يبلغه، فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان بعد البلوغ فأنه لا يعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلوغ أولى وأحرى. وقال: فمن لم يبلغه أمر الرسول في شيء معين لم يثبت حكم وجوبه عليه.
ومن الأدلة على الأمر الثاني: قوله عز وجل: {فاتقوا الله ما استطعتم}، وقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقال عز وجل: {لا نكلف نفسا إلا وسعها}، قال شيخ الإسلام: «تضمن ذلك أن جميع ما كلفهم به أمرا ونهيا فهم مطيقون له قادرون عليه وأنه لم يكلفهم ما لا يطيقون، وتأمل قوله {إلا وسعها} كيف تجد تحته أنهم في سعة ومنحة من تكاليفه، لا في ضيق ولا حرج ومشقة؛ فإن الوسع يقتضي ذلك، فاقتضت الآية أن ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر عليهم ولا ضيق ولا حرج».
فالذي يظهر لنا أن المشقة التي اشتملت عليها التكاليف الشرعية مشقة معتادة محتملة، كتلك التي يحتملها الناس عند القيام بمصالحهم الحياتية كالدراسة والعمل ونحوهما من مشاق مألوفة معتادة، فمشقة التكاليف الدينية ليست مشقة خارجة عن قدرتهم، ولا هي مشقة عظيمة ترهقهم وتثقل عليهم، فالشارع الحكيم يريد التخفيف عن العباد ورحمتهم والرفق بهم، فمشقة التكاليف معتادة محتملة.
ومن هنا نقرر أنه ليس للمكلف أن يقصد إلى المشقة من حيث هي مشقة يريد أن يرهق نفسه يظن أن الأجر على قدر المشقة لأنه بذلك يخالف مقصود الشارع من تشريع الأحكام التكليفية، ولم يفرق بين المشقة العارضة والمشقة المقصودة، فالمشقة من حيث هي مشقة ليست مقصودة، وإنما إذا عرضت المشقة له أثناء امتثاله فصبر عليها فهنا يقال: الأجر على قدر المشقة، كمن صام رمضان في الصيف الحار، أو توضأ بالماء البارد الذي لا يجد ما يسخنه به، فهنا المشقة عارضة وليست لازمة، بدليل أن رمضان قد يأتي بالشتاء، وماء الوضوء يمكن أن يسخن لدفع برده.
ولهذا كان النبي[ يمنع أصحابه من قصد المشقة لذاتها لأن ذلك ليس مقصودا للشارع، فقد قال [: «عليكم من الأعمال ما تطيقون» فإن الله لا يمل حتى تملوا»، وحين قالت له عائشة رضي الله عنها: هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل، فقال [: «لا تنام الليل ! خذوا من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا»، وفي حديث أنس قال: دخل رسول الله [ المسجد وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا؟ قالوا: حبل لزينب، تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال: «حلوه! ليصلّ أحدكم نشاطه, فإذا كسل أو فتر قعد»، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَيْنَا النَّبيُّ [ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: «أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلا يَقْعُدَ، وَلا يَسْتَظِلَّ، وَلا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ ، وَلْيَسْتَظِلَّ ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ».
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنها سأل النبي [ عن أخت له نذرت أن تحج ماشية غير مختمرة، فقال: «مروها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام» وفي رواية: «إن الله غني عن مشي أختك؛ فلتركب ولتهد بدنة»، وفي رواية أخرى:«إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا، لتحج راكبة ثم لتكفر يمينها‏».
وعَنْ أَنَسٍ أن النَّبِيِّ [ رأى شيخا يهادى بين ابنيه فقال‏:‏ «ما بال هذا‏؟»‏ قالوا‏:‏ نذر أن يمشي‏»،‏ قَالَ:» إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ ‏»‏ وأمره أن يركب.


فالخلاصة أن رحمة الله تعالى واسعة تجلت في خلقه وشرعه، فعلى المكلف أن يدرك هذه الرحمة، ويشكر ربه عليها، ويعمل بها وفق المقاصد الشرعية، دون إفراط ولا تفريط، ولا مخالفة لمقاصد الشارع ولا أحكامه، وبالله التوفيق.



اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-04-27, 02:54 PM
الحكمة ضالة المؤمن (27)

رحم الله عبدا قال فغنم أو سكت فسلم




نعمة الكلام والإبانة عن المراد من أجلّ النعم التي امتن الله تعالى بها على عباده وميزهم بها عن البهائم كما قال تعالى: {الرحمن. علم القرآن . خلق الإنسان . علمه البيان}.
قال ابن كثير:» يُخْبِر تَعَالَى عَنْ فَضْله وَرَحْمَته بِخَلْقِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى عِبَاده الْقُرْآن وَيَسَّرَ حِفْظَهُ وَفَهْمَهُ عَلَى مَنْ رَحِمَهُ، ثم نقل عن الْحَسَن تفسير قوله {علمه البيان} قال: يَعْنِي النُّطْق، وَقَالَ الضَّحَّاك وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا: يَعْنِي الْخَيْر وَالشَّرّ وَقَوْل الْحَسَن هَاهُنَا أَحْسَن وَأَقْوَى لِأَنَّ السِّيَاق فِي تَعْلِيمه تَعَالَى الْقُرْآن وَهُوَ أَدَاء تِلَاوَته، وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ بِتَيْسِيرِ النُّطْق عَلَى الْخَلْق وَتَسْهِيل خُرُوج الْحُرُوف مِنْ مَوَاضِعهَا مِنْ الْحَلْق وَاللِّسَان وَالشَّفَتَيْنِ عَلَى اِخْتِلاف مَخَارِجهَا وَأَنْوَاعهَا.».

ويرى الطبري أن البيان أشمل من مجرد النطق فقال: «وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَال: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّه عَلَّمَ الْإِنْسَان مَا بِهِ الْحَاجَة إِلَيْهِ مِنْ أَمْر دِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِنَ الْحَلال وَالْحَرَام, وَالْمَعَايِش وَالْمَنْطِق, وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا بِهِ الْحَاجَة إِلَيْهِ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَخْصُصْ بِخَبَرِهِ ذَلِكَ, أَنَّهُ عَلَّمَهُ مِنَ الْبَيَان بَعْضًا دُون بَعْض , بَلْ عَمَّ .»اهـ.
قال الطاهر بن عاشور: «{علمه البيان} خبر ثالث تضمن الاعتبار بنعمة الإبانة عن المراد والامتنان بها بعد الامتنان بنعمة الإيجاد، أي علم جنس الإنسان أن يبين عما في نفسه ليفيد غيره ويستفيد هو. والبيان: الإعراب عما في الضمير من المقاصد والأغراض وهو النطق، وبه تميز الإنسان عن بقية أنواع الحيوان فهو من أعظم النعم.
ومعنى تعليم الله الإنسان البيان: أنه خلق فيه الاستعداد لعلم ذلك»اهـ.
ومن يتأمل في أحوال الناس يجد أن في كثير منهم حب الكلام والاستكثار منه فيما ينفع وفيما لا ينفع، فيما يعلم وفيما يجهل فيما يهمه وفيما لا يعنيه ، بل إن بعضهم قد اتصف ببعض الصفات المقيتة كما قيل: فلان متشدق، ثرثار، مهذار، غث المنطق، تافه الكلام، يتمنطق بالهراء، ويتنطع بفضول القول، ويتكثر بلغو المقال، إذا تكلم انصرفت عنه الوجوه، وأعرضت عنه القلوب، وانقبضت منه الصدور، وسئمته النفوس.
ولهذا نجد النصوص الشرعية والآداب الدينية تقرر فضيلتين لا غنى للمسلم عنهما، وهما؛ إما النطق بخير أو الصمت وحفظ اللسان، فعن أبي هريرة ] أن رسول الله [ قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت» متفق عليه.
قال النووي: «معناه: أنه إذا أراد أن يتكلم؛ فإن كان ما يتكلم به خيرا محققا يثاب عليه؛ واجبا أو مندوبا، فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام، سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو مباح مستوي الطرفين، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورا بتركه، مندوبا إلى الإمساك عنه مخافة انجراره إلى المحرم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرا أو غالبا، وقد قال الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.
ونقل عن القشيري أنه قال: «الصمت بسلامة هو الأصل ، والسكوت في وقته صفة الرجال، كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال»اهـ.
وقال [ : «رحم الله عبدا قال خيرا فغنم, أو سكت عن سوء فسلم» حسنه الألباني، وهو ظاهر الدلالة في تقرير هذا الأصل الكريم في قول الخير أو السكوت والصمت.
والنصوص الشرعية التي تقرر خطر اللسان كثيرة مما يدل على فضل الصمت وقلة الكلام ، منها قول النبي [ : «إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب». متفق عليه، قال النووي: «معناه: لا يتدبرها ويفكر في قبحها، ولا يخاف ما يترتب عليها، وهذا كله حث على حفظ اللسان».
عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال [ : «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك»، وقال سفيان بن عبد الله:قلت: يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال [ :»قل: ربي الله، ثم استقم»، قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال:»هذا».
وقد تتابع العلماء من الصحابة ومن بعدهم على الحث على حفظ اللسان والصمت عن السوء، قال أبو الدرداء:» أنصف أذنيك من فيك، فإنما جُعل لك أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تتكلم»، وقال ابن مسعود: «والله الذي لا إله إلا هو، ليس شيء أحوج إلى طول حبس من لساني»، وكان يقول: «يا لسان قل خيرا تغنم ، واسكت عن شر تسلم، من قبل أن تندم»، وقال أبو الدرداء: «لا خير في الحياة إلا لأحد رجلين: منصت واع ٍ، أو متكلم عالم»، وقال الأوزاعي: «ما بلي أحد في دينه ببلاء أضر عليه من طلاقة لسانه».
وما أحسن نصيحة أبي حاتم البستي حين قال :«الواجب على العاقل أن يبلغ مجهوده في حفظ اللسان حتى يستقيم له؛ إذ اللسان هو المورد للمرء موارد العطب، والصمت يكسب المحبة والوقار، ومن حفظ لسانه أراح نفسه، والرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام، والصمت منام العقل، والمنطق يقظته»اهـ
ولا يخفى أن الجدل والاعتراض والنقاش العقيم بين الناس سبب لكثير من البغضاء والخصومات ، فبعض الناس هوايته الجدل وإجبار الناس على قبول رأيه ، ومتعته في تسفيه آراء الآخرين، في حين أن الأمر واسع واختلاف وجهات النظر فيما يتسع فيه المجال للتنوع ليس مبررا للخصومة والجدل؛ فاحفظ للجليس كرامته باحترام رأيه وليس من الضرورة أن توافقه، فالصمت في مثل هذه المواضع خير من الجدل العقيم، كما قال البستي:» الواجب على العاقل ألا يغالب الناس على كلامهم ، ولا يعترض عليهم فيه؛ لأن الكلام - وإن كان في وقته - حظوة جليلة فإن الصمت في وقته مرتبة عالية، ومن جهل بالصمت عيّ بالمنطق، والإنسان إنما هو صورة ممثلة أو صالـّة مهملة ، لولا اللسان ، والله جل وعز رفع جارحة اللسان على سائر الجوارح، فليس منها شيء أعظم أجرا منه إذا أطاع ، ولا أعظم ذنبا منه إذا جنى»اهـ.
فما أحوجنا إلى لزوم الصمت والإقلال من الكلام في زمن أصبح فيه الكلام مصدر للرزق، فهناك من يثري من ثرثرة بعضنا، بل ويحثنا على كثرة الكلام ليستنزف أموالنا، واسمع نصيحة البستي حين قال: «الواجب على العاقل أن يلزم الصمت إلى أن يلزمه التكلم، فما أكثر من ندم إذا نطق، وأقل من يندم إذا سكت ، وأطول الناس شقاء، وأعظمهم بلاء من ابتلي بلسان مطلق، وفؤاد مطبق».اهـ.



اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-04-27, 05:55 PM
الحكمة ضالة المؤمن (30)

المسلمون على شروطهم





من الصفات التي رسخها الإسلام، ومدحها القرآن، ورتب عليها الجزاء الجزيل والثواب الوفير، الوفاء بالعهود، وأداء الالتزامات، فقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}، وقال تعالى: {ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما}، وقال تعالى في مدح المؤمنين: {إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق}، وقال تعالى: {وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون}، وغير ذلك من الآيات التي وردت بشأن الوفاء بالعهود والعقود وسائر الالتزامات للخالق سبحانه وللمخلوقين .
والوفاء هو إتمام العهد وإكمال الشرط، وهو ضد الغدر، والعرب تمدح الشخص بهذه الصفة فتقول: فلان برّ، وفيّ، كريم العهد، صادق الوعد، وثيق الذمة، صحيح الموثق، ثابت العقد .
وقد بيـّن الراغب الأصفهاني أن الوفاء من الصفات اللازمة للإنسانية الدال على كمال الشخص ورفعته فيقول: «الوفاء أخو الصدق والعدل، والغدر أخو الكذب والجور، وذلك أن الوفاء صدق باللسان والفعل معا، والغدر كذب بهما، وفيه مع الكذب نقض العهد، والوفاء يختص بالإنسان ، فمن فقده فقد انسلخ من الإنسانية كالصدق، وجعل الله العهد من الإيمان، وصيره قواما لأمور الناس، فالناس مضطرون إلى التعاون، ولا يتم تعاونهم إلا بمراعاة العهد والوفاء، ولولا ذلك لتنافرت القلوب وارتفعت المعايش، ولذلك عظم الله تعالى أمره فقال تعالى: {وأوفوا بعهدي أُوف ِبعهدكم وإياي فارهبون}، وقال تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم}، وقال تعالى: {وثيابك فطهر}أي: نزه نفسك عن الغدر، وقال عز وجل: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} وقال عز وجل: {والذين لأماناتهم وعهدهم راعون} ولقلة وجود ذلك في الناس قال تعالى : {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} اهـ.
ومن الأحاديث الجامعة التي أكدت أهمية الوفاء بالعهود والالتزامات حديث عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه قال: قال النبي [ : «المسلمون على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما» أخرجه أبو داود والترمذي .
ومعنى قوله [ : «المسلمون على شروطهم» أي: ثابتون عليها لا يرجعون عنها، فالمسلم يوفي بما عليه من حقوق وواجبات ولا يتهرب منها، ولا يتحايل لإسقاطها والتملص منها، بل إن دينه وإيمانه يحمله على أداء الحقوق والوفاء بالالتزامات .
فهذا الحديث تناول أحكاماً شرعية عدة؛ منها: وجوب الوفاء بالعهود والالتزامات التي يعقدها الإنسان على نفسه سواء مع الله تعالى بمقتضى إسلامه كالقيام بواجب الإيمان والإخلاص ونبذ الشرك والمعاصي، وكأداء العبادات الواجبة، أو ما يعقده الإنسان مع غيره من المسلمين أو غيرهم من معاملات وتبرعات وغيرها من تصرفات لازمة كما قال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}.
أما الحكم الثاني الذي يستفاد من هذا الحديث فهو أن الأصل في الشروط والعقود هو الحل والإباحة إلا ما قام الدليل على بطلانه كما قال شيخ الإسلام: «الأصل في الشروط الجواز والصحة، والتزامها لمن شرطت عليه، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله» اهـ
وقال أيضا: «فالأصل في العقود كالأصل في الأفعال العادية (عدم التحريم)؛ لأنها ليست من العبادات، وقوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} عام في الأعيان والأفعال ، وإذا لم تكن حراما لم تكن فاسدة؛ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة، وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت تحريمه بعينه ، وانتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم، فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا» اهـ .
أما استدلال بعض العلماء بقوله [ : «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» -متفق عليه- على أن الأصل في الشروط الحظر إلا ما دل عليه الدليل النقلي، فالجواب عنه بما قاله ابن بطال أن: «المراد بـ (كتاب الله) هنا حكمه من كتاب الله أو سنة رسوله [ ، لا أن كل من شرط شرطا لم ينطق به الكتاب يبطل، لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط، ويشترط في الثمن شروطا - من أوصافه ومن نجومه - ونحو ذلك فلا يبطل «اهـ.
وقال ابن القيم في بيان المراد بـ (كتاب الله في الحديث): «ومعلوم أنه ليس المراد به القرآن قطعا، فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن بل علمت من السنة، فعلم أن المراد بـ (كتاب الله) حكمه، كقوله: {كتاب الله عليكم} وقول النبي [ : «كتاب الله القصاص»، فكتابه سبحانه يطلق على كلامه وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله، ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له فيكون باطلا»اهـ.
أما الحكم الثالث الذي دل عليه الحديث فهو أن الشروط نوعان: شروط صحيحة، وشروط فاسدة، فالشروط الصحيحة لازمة، وأما الشروط الفاسدة فهي لاغية.
قال الخطابي في بيان مورد الحديث: «هذا في الشروط الجائزة في حق الدين دون الشروط الفاسدة، وهو من باب ما أمر الله تعالى من الوفاء بالعقود».
وقال الشيخ ابن سعدي: «إن الشروط في جميع العقود نوعان: صحيحة وباطلة:
فأما الصحيحة: فهي كل شرط اشترطه المتعاقدان لهما، أو لأحدهما فيه مصلحة، وليس فيه محذور من الشارع، قال: فإنها شروط لازمة للمتعاقدين، إذا لم يف أحدهما بما عليه منها كان للآخر الفسخ . ثم ذكر أمثلة من الشروط الصحيحة؛ كأن يشترط المشتري أن الثمن أو بعضه مؤجل بأجل مسمى، أو يبيع الشيء ويشترط البائع أن ينتفع به مدة معلومة، ومثل أن يشترط سكنى البيت أو الدكان مدة معلومة أو يستعمل الإناء مدة معلومة وما أشبه ذلك، وكذلك شروط الرهن والضمان والكفالة هي من الشروط الصحيحة اللازمة، ومثل الشروط التي يشترطها المتشاركان في مضاربة أو شركة، ومثل شروط الواقفين والموصين في أوقافهم ووصاياهم من الشروط المقصودة، وكذلك الشروط بين الزوجين، فكلها صحيحة إلا شروطا تحلل الحرام وعكسه كالتي تعود إلى الجهالة والغرر .
وأما الشروط الباطلة : فهي التي تضمنت إما تحليل حرام أو تحريم حلال، ويدخل فيها جميع الشروط الباطلة في البيع والإجارة والرهن والوقف والنكاح؛ فإنها مشتملة على تحريم الحلال أو تحليل الحرام، ومن تأملها وجدها كذلك «أهـ.
فحري بالمسلم أن يفي بالشروط والحقوق، ويحذر من الغدر والخيانة لأنهما من أسباب ورود النار كما قال [ : «المكر والخديعة والخيانة في النار» حديث حسن(ص.ج.6726)، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-04-29, 03:47 PM
الحكمة ضالة المؤمن (31)

إن أردت التنعم بما تستحق هب الآخريـن ما يستحقــون



العدل من أهم القيم الإسلامية ، ومن أعظم الأسس التي يقوم عليها التشريع والمجتمع والأخلاق، والعدل يقتضي القيام بحقوق الله تعالى، والقيام بحقوق العباد تامة غير منقوصة ، فبعض الناس - وهم قلة - يطالبون بحقوقهم وزيادة، لكنهم لا يؤدون واجباتهم تجاه الله تعالى ولا تجاه العباد، وهذا ليس من العدل ولا الإنصاف، فميزان القسط يقتضي التوازن بين الحقوق والواجبات، بحيث يؤدي الإنسان ما عليه من واجبات قبل أن يطالب بما له من حقوق، أما العكس فهي أثرة مقيتة وأنانية كريهة، إذا غرست بذورها في الأفراد والمجتمع أنبتت آثارا وخيمة من الفساد والبغضاء والحقد والفوضى والتذمر من ضياع الحقوق واستئثار البعض بالفرص ، وربما تجاوز الأمر القول إلى الفعل بإلحاق الأذى بالآخرين انتقاما منهم وعقوبة لهم .

ولهذا ذم الشرع الأثرة وحذر من آثارها، وأمر بالصبر والمطالبة بالحقوق وفق السبل المشروعة واجتناب الفوضى أو سلوك الطرق غير المشروعة .
فعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ خَلاَ بِرَسُولِ اللهِ [ فَقَالَ: أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلاَنًا؟ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِيَ أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ»، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ [ : «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللهَ حَقَّكُمْ».
فمن العدل أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملونك، وذلك بأداء الحقوق والتزام الواجبات ومراعاة الآخرين، ولذا قيل: «إن أردت التنعم بما تستحق هب الآخرين ما يستحقون»، وهذا المبدأ هو ما دلت عليه السنة المطهرة ،فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي [ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» متفق عليه.
قال النووي: «معناه لا يؤمن الإيمان التام، وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة، والمراد يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات، ويدل عليه ما جاء في رواية النسائي في هذا الحديث: «حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه».
ومن كمال الإيمان أن يحب المسلم لإخوانه ما يحب لنفسه، وأن يبغض لهم ما يبغضه لنفسه، قال ابن رجب: «والمقصود أن من جملة خصال الإيمان الواجبة أن يحب المرء لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه، فإذا زال ذلك عنه فقد نقص إيمانه، وقد روي أن النبي [ قال لأبي هريرة: «أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا» أخرجه الترمذي وهو حسن‏(ص.ج:7833)
ومن النصوص الشرعية التي تؤكد هذا المعنى قوله [ : «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه» رواه مسلم.
قال النووي: «هذا من جوامع كلمه [ وبديع حكمه، وهذه مهمة، فينبغي الاعتناء بها، وأن الإنسان يلزم أن لا يفعل مع الناس إلا ما يحب أن يفعلوه معه».
فالمؤمن صحيح الإيمان يراعي إخوانه المسلمين، فيقوم لهم بما يستحقونه منه، كما يحب منهم أن يقوموا له بما يستحقه عليهم، سواء ما تعلق بالأمور المالية أومالسلوكية، فإذا كنت تحب أن يحترمك الناس فاحترمهم، وإذا كنت تكره منهم أن يغشوك أو يأكلوا مالك بغير حق فلا تفعل ذلك بهم، وإذا كنت تريد منهم أن يحفظوا غيبتك ويحترموا خصوصيتك فابدأ بنفسك واحفظ غيبتهم واحترم خصوصيتهم، وهكذا في كل الأمور، فلو وضع الإنسان نفسه مكان غيره لعرف التصرف الصحيح في كل موقف، إلا أن بعض الناس يظن أنه يعيش في هذه الدنيا منفردا فيفعل ما يريد دون مراعاة لحقوق الآخرين أو مشاعرهم، أو يتوهم أنه مركز الكون فعلى الناس أن يدوروا حوله مؤدين الحقوق والواجبات له، وليس لهم عليه شيء ولا أن يطالبوه بحق ولا أداء واجب، ولاشك أن هذه أنانية مفرطة ونرجسية بغيضة، فالمؤمن يحب لنفسه ما يحب لإخوانه ويكره لهم ما يكرهه لنفسه .
وقد كان النبي [ يطبق هذا المبدأ عمليا مع أصحابه ، فقد قال لأبي ذر رضي الله عنه : « يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرنّ على اثنين، ولا تولين مال يتيم»، قال ابن رجب:» وإنما نهاه عن ذلك لما رأى من ضعفه، وهو يحب هذا لكل ضعيف، وإنما كان يتولى أمور الناس لأن الله قواه على ذلك وأمره بدعاء الخلق كلهم إلى طاعته، وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم»اهـ.
ويبين ابن رجب أن تحصيل هذه الصفة الطيبة إنما يكون بسلامة الصدر من أمراض القلوب فقال: «وحديث أنس الذي نتكلم الآن فيه يدل على أن المؤمن يسره ما يسر أخاه المؤمن ويريد لأخيه المؤمن ما يريد لنفسه من الخير، وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغش والغل والحسد، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير أو يساويه فيه، لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله وينفرد بها عنهم والإيمان يقتضي خلاف ذلك، وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء «اهـ.
وفي الختام، فإن دعوى الأخوة الإيمانية تحتاج إلى دليل عملي يصدقها، ولا أدل على ذلك من حسن الخلق مع المؤمنين كما قال النبي [ : «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»، ورأس ذلك أن يقيم المسلم أخوانه مقام نفسه، فيحب لهم ما يحب لها، ويكره لهم ما يكره لها، كما وصف الله تعالى عباده المؤمنين بقوله : {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.
كما أن المجتمعات تتقدم وتزدهر بالتعاون والتكامل، وأن يقدم كل فرد أحسن ما عنده لخدمة إخوانه ومجتمعه كما أمر الله تعالى عباده فقال: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، أما الأنانية والأثرة فباب الفساد والشر، وعنوان العداوة والقطيعة ، نسأل الله تعالى العافية والسلامة من كل إثم، وبالله التوفيق .



اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-04-29, 03:48 PM
الحكمة ضالة المؤمن (32)

قل لله العـزة جميعاً




يرسخ الإسلام في أتباعه المؤمنين العقيدة الصحيحة والأخلاق الحميدة والقيم الرفيعة، ليكونوا مثالا حيا وصورة واقعية للمسلم الحق الذي يريده لله تعالى، المسلم الذي يخلص دينه لله تعالى، فيتحرر من قيود الوثنية والعبودية لغير الله التي أذلت رقاب الناس للناس، وجعلتهم أسرى للأفكار البشرية والعقائد الشركية، فأذهانهم عليلة، ونفوسهم ذليلة، وأبدانهم أسيرة .

أما المسلم الحق فإنه حر القلب والعقل والبدن، فهو عالي الهمة، عزيز النفس، شريف الطبع، لا يعنو لقهر، ولا يقيم على مذلة، غرس الإسلام فيه معاني الكرامة، وأصول الأنفة، وقواعد العزة، كما قال عمر:» إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله».
والعزة كما يعرفها الأصفهاني: «حالة مانعة للإنسان من أن يغلب، من قولهم: أرض عزاز أي: صلبة، والعزيز: الذي يقهر ولا يُـقهر قال تعالى :{ إنه هو العزيز الحكيم} وقال تعالى:{سبحان ربك رب العزة}، فقد يمدح بالعز تارة كما ترى، ويذم بها تارة كعزة الكفار قال:{ بل الذين كفروا في عزة وشقاق}، ووجه ذلك أن العزة التي لله ولرسوله وللمؤمنين هي الدائمة الباقية التي هي العزة الحقيقية، والعزة التي هي للكافرين هي التعزز، وهو في الحقيقة ذل كما قال عليه الصلاة والسلام: «كل عز ليس بالله فهو ذلّ»، وعلى هذا قوله:{واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا} أي: ليتمنعوا بهم من العذاب، وقوله :{من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} معناه: من كان يريد أن يعز يحتاج أن يكتسب منه تعالى العزة فإنها به، وقد تستعار العزة للحمية والأنفة المذمومة وذلك في قوله: {أخذته العزة بالإثم}ـ» اهـ.
وأما ورودها في القرآن الكريم فهو على أوجه كما ذكر ذلك ابن الجوزي في الوجوه والنظائر فقال : «العزة في القرآن على ثلاثة أوجه:
- أحدها : العظمة،ومنه قوله تعالى: {وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون}، وقال تعالى:{قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين}.
- والثاني : المنعة، ومنه قوله تعالى :{أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا}.
- والثالث: الحميّـة، ومنه قوله تعالى: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم} وقال تعالى: {بل الذين كفروا في عزة وشقاق}.»اهـ.
وجاءت العزة مضافة لله تعالى في مواضع منها قوله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ }، وقوله تعالى:{سبحان ربك رب العزة عما يصفون}، وقوله تعالى:{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.
وأيضا جاء هذا المعنى في السنة المطهرة فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يقول الله سبحانه: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحدا منهما ألقيته في النار» مسلم.
والعزيز من أسماء الله تعالى الحسنى ومعناه كما قال ابن كثير: «العزيز الذي قد عزّ كل شيء فقهره، وغلب الأشياء فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه».
وهناك فرق دقيق بين العزة والكبر كما بينه الأصفهاني بقوله: «أما العزة فالترفع بالنفس عما يلحقها غضاضة، وأصلها من العزاز وهو الأرض الصلبة، فالمتعزز من حصوله في عزاز لا يلحقه فيه غضاضة، والعزة منزلة شريفة، وهي نتيجة معرفة الإنسان بقدر نفسه، وإكرامها عن الضراعة للأعراض الدنيوية، كما أن الكبر نتيجة جهل الإنسان بقدر نفسه وإنزالها فوق منزلتها، وكثير ما يتصور أحدهما بصورة الآخر، كتصور التواضع والتضرع والتذلل بصورة واحدة، وتصور الإسراف بصورة الجود، والبخل بصورة الحزم؛ ولهذا قال الحسن ] لمن قال له : ما أعظمك من نفسك؟ فقال: لست بعظيم ولكنني عزيز قال الله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، وقال [: «لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه».
وسبيل تحصيل العزة المحمودة بلزوم طاعة الله تعالى وامتثال شرعه كما قال إبراهيم بن شيبان : «الشرف في التواضع، والعز في التقوى، والحرية في القناعة».
وفي المقابل فإن المعصية تورث الذل والمهانة، قال ابن القيم : «المعصية تورث الذل ولابد، فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى، قال تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} أي فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله، كان من دعاء بعض السلف :»اللهم أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك»، وقال الحسن البصري : «إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه»اهـ
كما أن الصفح والعفو من أسباب تحصيل العزة كما قال النبي [: «وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا»أخرجه مسلم، يوضح النووي معناه بأنه فيه وجهان:أحدهما : أنه على ظاهره، وأن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب،وزاد عزه وإكرامه، والثاني : أن المراد أجره في الآخرة وعزه هناك»اهـ.
ويبين الشيخ ابن سعدي المناسبة في الآية الكريمة بين العزة والكلم الطيب والعمل الصالح فيقول : «أي: يا من يريد العزة، اطلبها ممن هي بيده؛ فإن العزة بيد اللّه، ولا تنال إلا بطاعته، وقد ذكرها بقوله: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } من قراءة وتسبيح وتحميد وتهليل وكل كلام حسن طيب، فيرفع إلى اللّه ويعرض عليه ويثني اللّه على صاحبه بين الملأ الأعلى { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ } من أعمال القلوب وأعمال الجوارح {يَرْفَعُهُ } اللّه تعالى إليه أيضا، كالكلم الطيب.»اهـ.
ويؤكد ابن كثير هذا المعنى أيضا فيقول: «وَقَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فَلِلَّهِ الْعِزَّة جَمِيعًا } أَيْ مَنْ كَانَ يُحِبّ أَنْ يَكُون عَزِيزًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَلْيَلْزَمْ طَاعَة اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ يَحْصُل لَهُ مَقْصُوده؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مَالِك الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلَهُ الْعِزَّة جَمِيعًا كَمَا قَالَ تَعَالَى :{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدهمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّة لِلَّهِ جَمِيعًا } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:{وَلَا يَحْزُنك قَوْلهمْ إِنَّ الْعِزَّة لِلَّهِ جَمِيعًا} وَقَالَ جَلَّ جَلَاله : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةَ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} َقَالَ قَتَادَة:{ مَنْ كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فَإِنَّ الْعِزَّة لِلَّهِ جَمِيعًا } أَيْ: فَلْيَتَعَزَّزْ بِطَاعَةِ اللَّه عَزَّ وَجَلّ»اهـ.
فالخلاصة أن العزة من صفات الله تعالى؛ فعلى المسلم أن يسأل ربه من فضله، ويسلك طريق طاعته لتحصل له العزة في الدنيا والآخرة، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-04-29, 03:50 PM
الحكمة ضالة المؤمن (33)

زر غبا تزدد حبا





الأخوة الإيمانية، ورابطة العقيدة الإسلامية من أهم الركائز التي يقوم عليها المجتمع المسلم، كما قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة}، وقال النبي [: «المسلم أخو المسلم»، فالمسلمون إخوة تجمعهم رابطة الإيمان وأخوة العقيدة على اختلاف الزمان وتنوع المكان.

ولهذه الأخوة حقوق وواجبات، وآثار ومقتضيات، كما أن لها أسبابا تقويها، وموانع تحول دون تحقق آثارها ونتائجها.
والزيارة بين الإخوان من أسباب ترسيخ المحبة وتأكيد الأخوة، كما أنها من الأعمال الدينية المستحبة كما دلت على ذلك النصوص الشرعية كقوله [: «من عاد مريضا أو زار أخا في الله ناداه مناد: أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا « رواه الترمذي، قال شراح الحديث:»قوله: «من عاد مريضا» أي: محتسبا «أو زار أخا له» في الدين لوجه الله لا للدنيا ناداه مناد» أي ملك «أن طبت» دعاء له بطيب عيشه في الدنيا والآخرة، وطاب ممشاك قال الطيبي: كناية عن سيره وسلوكه طريق الآخرة بالتعري عن رذائل الأخلاق والتحلي بمكارمها، «وتبوأت من الجنة منزلا» أي تهيأت من منازل الجنة العالية منزلة عظيمة ومرتبة جسيمة بما فعلت «اهـ.
وقال النبي [: «أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته - أي: طريقه - ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربّها عليه؟ - أي: تقوم بإصلاحها - قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجلّ، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه» أخرجه مسلم، قال النووي:»في هذا الحديث فضل المحبة في الله تعالى، وأنها سبب لحب الله تعالى العبد، وفيه فضيلة زيارة الصالحين والأصحاب «اهـ
ومما جاء في فضل الزيارة قوله [:» ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة ؟ ثم ذكر منهم :» والرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الله، في الجنة» أخرجه الدارقطني وحسنه الألباني.
وفي الحديث القدسي قال الله عز وجلّ: «حقت محبتي للمتزاورين فيّ» أخرجه أحمد وصححه الألباني.
ونلاحظ من الأحاديث المتقدمة وغيرها اشتراط الإخلاص لله تعالى في الزيارة وابتغاء وجه الله والتماس الأجر والمثوبة منه سبحانه، فلا يقصد الزائر مصلحة دنيوية أو منفعة مادية، حتى ينال ذلك الجزاء والفضل، ومن المقاصد المشروعة طلب العلم، وصلة الرحم، وعيادة المريض، وتفقد الأحوال لقضاء الحاجات، وترويح الأنفس بالمباحات ونحوها من مقاصد حسنة ونيات صالحة.
قال أبو حاتم في روضة العقلاء:»الواجب على العاقل تعاهد الزيارة للإخوان، وتفقد أحوالهم؛ لأن الزائر في قصده الزيارة يشتمل على مصادفة معنيين:
أحدهما : استكمال الذخر في الآجل بفعله ذلك.
والآخر : التلذذ بالمؤانسة بالأخ المزور، مع الانقلاب بغنيمتين معا «.
وللزيارة آداب وأحكام ينبغي للزائر مراعاتها؛ منها أحكام الاستئذان والسلام وآداب المجلس والحديث، ومنها أيضا أن تكون الزيارة سببا لزيادة الود وليست لترسيخ القطيعة وغرس البغضاء بسبب إثقال الزائر على المزور، أو مضايقته ببعض التصرفات الساذجة، كطلب بعض الأطعمة، أو التدخل في الأمور الخاصة، أو انتقاد ما يراه من أثاث أو طعام أو غير ذلك، أو اصطحاب الأطفال المزعجين، ومن ذلك عدم الإطالة في الزيارة أو تكرارها بما يقتضي الملل؛ ولهذا جاء في الحديث:» زر غبا تزدد حبا» أخرجه البزار وغيره وصححه الألباني.
ويبين ابن الأثير معنى الحديث فيقول:»الغِبّ من أوراد الإبل أن ترد الماء يوما وتدعه يوما ثم تعود، فنقله إلى الزيارة وإن جاء بعد أيام، يقال : غبّ الرجل إذا جاء زائرا بعد أيام، وقال الحسن: في كل أسبوع، ومنه الحديث:»أغبوا في عيادة المريض» أي لا تعودوه في كل يوم؛ لما يجد من ثقل العوّاد «اهـ.
فإن قيل إن النبي [ كان يكثر زيارة أبي بكر رضي الله عنه كل يوم بكرة وعشيا، كما ذكرته عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب: هل يزور صاحبه كل يوم بكرة وعشيا؟ فهل هذا يعارض الحديث المذكور؟
فالجواب كما قال ابن حجر :»لا منافاة بين هذا الحديث وحديث الباب - يعني حديث عائشة - لأن عمومه يقبل التخصيص، فيحمل على من ليست له خصوصية ومودة ثابتة، فلا ينقص كثرة زيارته من منزلته. قال ابن بطال: «الصديق الملاطف لا تزيده كثرة الزيارة إلا محبة بخلاف غيره»اهـ.
وقال أبو حاتم :» الناس في الزيارة على ضربين :
فمنهم من صحح الحال بينه وبين أخيه، وتعرى عن وجود الخلل، وورود البغض فيه، فإذا كان بهذا النعت، أحببت له الإكثار من الزيارة، والإفراط في الاجتماع ؛ لأن الإكثار من الزيارة بين من هذا نعته لا يورث الملالة، والإفراط في الاجتماع بين من هذه صفته يزيد في المؤانسة.
والضرب الآخر : لم يستحكم الود بينه وبين من يواخيه، ولا أداهما الحال إلى ارتفاع الحشمة بينهما فيما يبتذلان لمهنتيهما، فإذا كان بهذا النعت أحببت له الإقلال من الزيارة؛ لأن الإكثار منها بينهما يؤدي إلى الملالة، وكل مبذول مملول، وكل ممنوع ملذوذ، وقد روي عن النبي [ أخبار كثيرة تصرح بنفي الإكثار من الزيارة حيث يقول: «زر غبا تزدد حبا»اهـ.
فالمسلم يراعي حقوق الله تعالى بالإخلاص والاتباع، ويراعي حقوق العباد بالأخوة والرحمة والإنصاف، دون أن يضر نفسه أو يؤذي غيره حسيا أو معنويا، فيقدر ظروفهم، ويراعي مشاعرهم، ويثمن أخوتهم، وينمي محبتهم، ويحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه؛ لأنه وإياهم كالجسد الواحد يكمل بعضه بعضا، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-05-05, 01:14 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن (34)

خلـق الإنسـان من عجـل




لا نزال نسمع أن هذا العصر هو (عصر السرعة)؛ لما فيه من سرعة المواصلات، وسرعة التقنيات، وسرعة الإنجازات، وهذا أمر جيد ولا شك؛ لأن فيه تيسير الحياة على الناس وتوفير الأوقات والجهود، إلا أن الأمر اللافت للنظر هو انعكاس هذه المقولة على ثقافة الناس وسلوكهم، فالعجلة والاستعجال، والضجر وقلة الصبر، والرعونة والاستهتار سواء في الطرقات، أم في مواضع الاجتماعات كالوزارات والمجمعات تجد هذه الظاهرة بارزة بشكل واضح ولافت فكم من أرواح أزهقت بسبب العجلة في الشوارع، وكم من أسرة تهدمت بسبب عجلة أحد الزوجين في الحكم على الآخر أو استعجاله في ردة فعله، بل وصلت العجلة إلى المساجد فبعض الأئمة يستعجل في صلاته فلا يدرك المأموم القراءة أو التشهد، وبعض المأمومين يستعجل في صلاته فلا يطمئن في ركوعه أو سجوده، أو يبادر بمغادرة المسجد قبل أن يردد أذكار الصلاة أو يؤدي النافلة.
وكذلك تبرز العجلة في المجتمع في الحكم على الناس والأشياء قبل التثبت سواء في وسائل الإعلام أم في المجالس واللقاءات، وكذلك في سرعة الجواب بين المتحاورين قبل فهم الكلام أو حتى قبل أن يكمل الآخر كلامه، وأمثلة لا تنتهي من مظاهر العجلة المذمومة وآثارها الخطيرة.
وبالتأمل في كتاب الله تعالى نجد أن العجلة - في غير أمور الدين والآخرة - مذمومة، كما قال [: «التؤدة في كل شيء خير، إلا في عمل الآخرة»أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
فقوله تعالى:{خلق الإنسان من عجل} أكبر دلالة على هذه الحقيقة الشرعية، وقد تباينت أقوال العلماء في المراد بهذه الآية:
قال ابن سعدي: «{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أي: خلق عجولا، يبادر الأشياء، ويستعجل بوقوعها، فالمؤمنون يستعجلون عقوبة الله للكافرين، ويتباطئونها، والكافرون يتولون ويستعجلون بالعذاب، تكذيبا وعنادا، ويقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} والله تعالى يمهل ولا يهمل ويحلم، ويجعل لهم أجلا مؤقتا { إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ْ} ولهذا قال: { سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} أي: في انتقامي ممن كفر بي وعصاني {فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ } ذلك، وكذلك الذين كفروا يقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قالوا هذا القول، اغترارا، ولما يحق عليهم العقاب، وينزل بهم العذاب.»اهـ.
وقال القرطبي: «{خلق الإنسان من عجل} أي ركب على العجلة فخلق عجولا ؛ كما قال الله تعالى:{الله الذي خلقكم من ضعف} أي: خلق الإنسان ضعيفا، أي: طبع الإنسان العجلة، فيستعجل كثيرا من الأشياء وإن كانت مضرة.»اهـ.
وقال ابن كثير: «وقوله: {خلق الإنسان من عجل}، كما قال في الآية الأخرى: {وكان الإنسان عجولا} أي: في الأمور. والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت، فقال الله تعالى:{خلق الإنسان من عجل}; لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، يؤجل ثم يعجل، وينظر ثم لا يؤخر; ولهذا قال: {سأوريكم آياتي} أي: نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني، {فلا تستعجلون}.
وقال الطاهر: «والعجل: السرعة، وخلق الإنسان منه استعارة لتمكن هذا الوصف من جبلة الإنسانية، شبهت شدة ملازمة الوصف بكون مادة التكوين موصوفة؛ لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية. فإذا فكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين؛ فلا جرم كان الإنسان عجولا بالطبع فكأنه مخلوق من العجلة، ونحوه قوله تعالى: {وكان الإنسان عجولا}، وقوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا}. ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والفكر، ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه.
وجملة: {سأريكم آياتي} هي المقصود من الاعتراض، وهي مستأنفة، والمعنى: وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين، وذلك بما حصل يوم بدر من النصر وهلاك أئمة الشرك وما حصل بعده من أيام الإسلام التي كان النصر فيها عاقبة المسلمين.
وتفرع على هذا الوعد نهي عن طلب التعجيل، أي عليكم أن تكلوا ذلك إلى ما يوقته الله ويؤجله، ولكل أجل كتاب، فهو نهي عن التوغل في هذه الصفة وعن لوازم ذلك التي تفضي إلى الشك في الوعيد»اهـ.
ومن عجيب أمر العجلة أنها تحمل الإنسان على أن يضر نفسه كما قال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولا }، قال ابن سعدي: «وهذا من جهل الإنسان وعجلته حيث يدعو على نفسه وأولاده وماله بالشر عند الغضب ويبادر بذلك الدعاء كما يبادر بالدعاء في الخير، ولكن الله - بلطفه - يستجيب له في الخير ولا يستجيب له بالشر: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم ْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}»اهـ.
ولخطورة العجلة نسبت إلى الشيطان كما جاء في الحديث: «التأني من الله، والعجلة من الشيطان» أخرجه البيهقي وحسنه الألباني، ومعلوم أن كل ما أضيف إلى الشيطان فهو مذموم كما قال تعالى: {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين}.
ولهذا كثرت أقوال العلماء في بيان فضل الرفق والتؤدة والتحذير من العجلة والطيش، قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: «اعلموا أن الحلم زينة، والوفاء مروءة، والعجلة سفه، والسفر ضعف، ومجالسة أهل الدناءة شين، ومخالطة أهل الفسق ريبة».
قال أبو حاتم في روضة العقلاء: «الرافق لا يكاد يسبق، كما أن العَجِل لا يكاد يلحق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم، كذلك من نطق لا يكاد يسلم، والعجل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعد ما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم، والعجل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تكني العجلة، أم الندامات.
ونقل عن إبراهيم بن عمر بن حبيب قوله: كان يقال:لا يوجد العجول محمودا، ولا الغضوب مسرورا، ولا الحر حريصا، ولا الكريم حسودا، ولا الشره غنيا، ولا الملول ذا إخوان».
وقال أبو حاتم أيضا مبينا سبب العجلة وأثرها: «العجلة تكون من الحدة، وصاحب العجلة إن أصاب فرصته لم يكن محمودا، وإن أخطأها كان مذموما، والعجل لا يسير إلا مناكبا للقصد، منحرفا عن الجادة.
ونقل عن خالد بن برمك أنه قال: من استطاع أن يمنع نفسه من أربعة أشياء فهو خليق ألا ينزل به كبير مكروه؛ العجلة، واللجاجة، والعجب، والتواني، فثمرة العجلة الندامة، وثمرة اللجاجة الحيرة، وثمرة العجب البغضة، وثمرة التواني الذل.»اهـ.
فما أحوجنا في عصر السرعة إلى التأني والروية، والتؤدة والرفق، والصبر والنظر، في أمورنا كلها لنظفر بالمقاصد والغايات ونسلم من الندامة والخسران، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-05-05, 01:15 AM
الحكمة ضالة المؤمن (35 )

حولهـــا ندنــدن




هذه الجملة المختصرة تتكرر على ألسنة كثير من الناس مستشهدين بها عند تقرير بعض الغايات المتفقة، وتأكيد بعض الأهداف المشتركة، فإذا التقت المقاصد واتفقت الوجهات قال أحدهم للآخر : حولها ندندن، أي قد اتفقت مقاصدنا وإن اختلفت عباراتنا أو وسائلنا.

ولا يخفى أن هذه العبارة الوجيزة هي كلام نبوي بليغ، حدد فيه النبي [ بكل وضوح وإيجاز الغاية التي ينبغي للمسلم أن يطلبها، والمقصد الذي ينبغي أن يسعى إليه؛ وذلك لأن تحديد الأهداف يعين على تعيين السبل، وضياع الأهداف يجعل سعي الإنسان عبثا وضلالا؛ لذا كان تحديد الأهداف مهما، كما أن وضوحها لا يقل أهمية؛ لأن الأهداف المبهمة تزيد حيرة الإنسان وتشتته، ولا تعينه على تحديد طريقه؛ لذا نجد أن القرآن الكريم واضح ومحدد ومباشر في تحديد الأهداف العليا للإنسان فقال تعالى:{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وقال سبحانه:{ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز}.
وبين الوسيلة بقوله عز وجلّ: {إياك نعبد وإياك نستعين} وقال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون} فالعبادة والاستعانة والدعاء والتقوى والمجاهدة سبيل لتحقيق أعلى الغايات وأسمى المقاصد.
وهذا الحديث الكريم يؤكد هذا المعنى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ] قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [ لِرَجُلٍ: «مَا تَقُولُ فِي الصَّلاةِ؟» قَالَ: أَتَشَهَّدُ ثُمَّ أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ النَّارِ، أَمَا وَاللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: «حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
قال شراح الحديث: «الدندنة ـ بدالين مفتوحتين ونونين ـ هِيَ أَنْ يَتَكَلَّم الرَّجُل بِالْكَلامِ تُسْمَع نَغْمَته وَلا يُفْهَم، أَيْ: لا أَدْرِي مَا تَدْعُو بِهِ أَنْتَ يَا رَسُول اللَّه وَمَا يَدْعُو بِهِ مُعَاذ إِمَامنَا، وَلا أَعْرِف دُعَاءَك الْخَفِيّ الَّذِي تَدْعُو بِهِ فِي الصَّلاة وَلا صَوْت مُعَاذ، ولا أقدر على نظم ألفاظ المناجاة مثلك ومثل معاذ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرَّجُل الصَّحَابِيّ مُعَاذًا - وَاَللَّه أَعْلَم - لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ قَوْم مُعَاذ أَوْ هُوَ مِمَّنْ كَانَ يُصَلِّي خَلْف مُعَاذ، والحاصل: إني أسمع صوتك وصوت معاذ ولكن لا أفهم.
ومعنى قوله: «حَوْلهَا»: أَيْ حَوْل الْجَنَّة وَالنَّار نُدَنْدِن, وَإِنَّمَا نَسْأَل الْجَنَّة وَنَتَعَوَّذ مِنْ النَّار كَمَا تَفْعَل، كما جاء في الرواية الأخرى : «حول هاتين»، قال المناوي :«أي ما ندندن إلا حول طلب الجنة والتعوذ من النار، فالحقيقة لا مباينة بين ما ندعو به وبين دعائك».
هذا الحديث العظيم اشتمل على فوائد نفيسة وحكم جليلة منها كما تقدم أهمية تحديد المقاصد والغايات ووضوحها حتى يبذل الإنسان لها السعي المناسب فلا يبالغ ولا يقصر كما قال تعالى :{ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا}.
ومن فوائد الحديث أنه على المعلم أن يتفقد تلاميذه، وعلى الشيخ أن يتابع طلابه، وكذلك الداعية عليه أن يوجه المدعوين، فيبحث عن أحوالهم، ويسأل عن أوضاعهم الدينية؛ فمن كان محسنا شجعه وأثنى عليه، ومن كان مخطئا نصحه ووجهه، ومن كان متأولا علمه وبين له وجه الصواب، كما كان النبي [ يفعل مع الصحابة الكرام، تفقدا ومتابعة وتعليما وتوجيها، ولم يكن يكتف فقط بالبلاغ وإنما يزيد عليه التربية والتوجيه والتعليم.
ومن فوائد الحديث استحباب الدعاء في الصلاة ؛ فإن الصلاة مناجاة بين العبد وربه، والله تعالى يحب الدعاء ويحب من عبده أن يسأله ويتضرع إليه، ويستحب الدعاء بعد التشهد والصلاة الإبراهيمية وقبل السلام؛ لحديث ابن مسعود حيث علمه [ التشهد ثم قال: «ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو» متفق عليه، وفي لفظ مسلم:» ثم ليتخير من المسألة ما شاء». ولما قال أبو بكر ] للنبي [ :«علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال [: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم»متفق عليه.
ومن فوائد الحديث تقرير أن سؤال الله تعالى الجنة والاستعاذة به من النار هو طريقة الأنبياء والمرسلين والمؤمنين، وأنه لا ينقص من توحيد العابدين، كما يزعم بعض المتصوفين؛ حيث قرر بعضهم أن العبادة الحقة هي عبادة الله تعالى حبا في ذاته لا خوفا من ناره ولا طمعا في جنته، كما قال الغزالي في الإحياء: «العامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه كالأجير السوء ودرجته درجة البله، وأما عبادة ذوي الألباب فإنها لا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه حبا لجماله وجلاله، وهؤلاء أرفع درجة من الالتفات إلى المنكوح والمطعوم في الجنة فإنهم لم يقصدوها، بل هم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه... ويسخرون ممن يلتفت إلى الحور العين «اهـ. ونقل في «الإحياء» عن رابعة العدوية أنه قالت: «ما عبدته خوفا من ناره ولا حبا في جنته فأكون كالأجير بل عبدته حبا له وشوقا إليه» ونقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال: «إن لله عبادا ليس يشغلهم عن الله خوف نار ولا رجاء جنة»، ونقل عن بعض المتصوفة ولم يذكر اسمه: «من عبد الله لعوض فهو لئيم»، وغيرها من أقوال لبعض المتصوفة تؤكد هذا المعنى.
والقرآن الكريم يؤكد أن الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء، وسؤال الله الجنة والتعوذ به من النار هو طريقة المرسلين، وسنة النبيين، ومنهج المؤمنين، وهو من توحيد رب العالمين، الذي خلق الجنة والنار، وجعلهما دار القرار لمن شاء من عباده الأبرار والفجار كما قال تعالى:{إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين}، مبينا حال النبيين عليهم السلام : وقال تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه }، وقال عزوجل:{ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين}.
ووصف سبحانه عباده المؤمنين فقال:{ إنما يخشى الله من عباده العلماء}،وقال سبحانه: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا}، وقال تعالى: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}، والآيات في الترغيب في الجنة والترهيب من النار كثيرة لا تخفى.
وكان النبي [ أشد الناس خشية لله تعالى كما قال :«إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية»، وكان يسأل الله تعالى الجنة ويستعيذ به من النار كما ورد في الحديث المذكور، وكان يطلب من المسلمين أن يدعوا الله تعالى أن يرزقه (الوسيلة) بعد الأذان لأنها أعلى درجة عند الله فقال [: «الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة «أخرجه أحمد وصححه الألباني وفي لفظ سأله الصحابة: وما الوسيلة ؟ قال: «أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون هو».
وكان يأمر المسلمين بالاستعاذة من النار وسؤال الله الجنة كما قال [: «استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من عذاب جهنم..الحديث، وقال: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه سر الجنة»أخرجه الطبراني يعني أفضل موضع فيها، فإنه أعلا درجات الجنة وأعظم مراتبها كما روى الترمذي وغيره أن رسول الله [ قال: «في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة، ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس». صححه الألباني.
فعلى المسلم أن يحدد أهدافه العليا، ويستحضرها أمامه كل حين، ليستعد لها الاستعداد المناسب، ولا يغفل عنها، فلا تستهويه الغفلات، ولا يبطره الأمل، وإنما هو التشمير والعمل، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-05-05, 01:16 AM
الحكمة ضالة المؤمن (36) ليس كل ما يلمع ذهباً




لا شك أن بعض الأشياء قد تتشابه في الظاهر ، وتتماثل في نظر بعض الناس عند الوهلة الأولى، إلا أنها تختلف في واقع الأمر، ولا تخفى حقائقها على ذوي البصائر والتمييز، فهم يعرفون الفرق بين المتماثلات ظاهرا، ويدركون أن ليس كل ما يلمع ذهبا، في حين أن بسطاء التفكير ومحدودي العلم يغترون بالمظاهر، وينجرفون وراء البريق الزائف والدعاوى العريضة التي لا تستند إلى دليل ولا يؤيدها برهان.

والنصوص الشرعية تؤكد أن العبرة بالحقائق، وتحذر من الاغترار بالمظاهر، فمن ذلك قوله تعالى عن المنافقين :{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ }، قال ابن كثير :«أَيْ وَكَانُوا أَشْكَالا حَسَنَة وَذَوِي فَصَاحَة وَأَلْسِنَة، وَإِذَا سَمِعَهُمْ السَّامِع يُصْغِي إِلَى قَوْلِهِمْ لِبَلاغَتِهِمْ ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي غَايَة الضَّعْف وَالْخَوَر وَالْهَلَع وَالْجَزَع وَالْجُبْن».
وقال الشيخ ابن سعدي:» { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } من روائها ونضارتها، { وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } أي: من حسن منطقهم تستلذ لاستماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدي الصالح شيء، ولهذا قال: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ } لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض، { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} وذلك لجبنهم وفزعهم وضعف قلوبهم، والريب الذي في قلوبهم يخافون أن يطلع عليهم».
ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، فعن سهل ابن سعد قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: «ما رأيك في هذا؟» قال: رجل من أشراف الناس، حَرِيٌّ – والله - إن خَطَبَ أنْ يُنكح، وإنْ شَفَعَ أن يُشَفَّع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال صلى الله عليه وسلم للرجل: «ما رأيك في هذا»؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، حَرِي إنْ خَطَبَ ألا يُنكَح، وإنْ شَفَعَ ألا يُشَفَّع، وإنْ قال ألا يُسمَع لقوله، فقال [: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا» أخرجه البخاري.
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الاغترار بأصحاب الأهواء والبدع مهما كان ظاهرهم حسنا، كما قال صلى الله عليه وسلم عن الخوارج: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» أخرجه البخاري، فالخوارج بالغوا في التدين إلا أن ذلك لم ينفعهم لما كانوا عليه من انحراف منهجي وضلال فكري؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «يمرقون من الدين»، وعن أنس رضي الله عنه قال: ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج فيكم أو يكون فيكم قوم يتعبدون ويتدينون حتى يعجبوكم وتعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية» أخرجه ابن أبي عاصم وقال الألباني: إسناده صحيح.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بما يختم له؛ فإن العامل يعمل زمانا من دهره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات دخل الجنة ثم يتحول فيعمل عملا سيئا ، وإن العبد ليعمل زمانا من دهره بعمل لو مات دخل النار ثم يتحول فيعمل عملا صالحا ، فإذا أراد الله بعبده خيرا استعمله قبل موته فوفقه لعمل صالح» أخرجه ابن أبي عاصم في السنة وقال الألباني :إسناده صحيح.
وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا عليكم ألا تعجبوا بأحد حتى تعلموا بما يختم له» أخرجه ابن أبي عاصم وقال الألباني : إسناده صحيح.
وحذر سلف الأمة من الاغترار بالمظاهر الزائفة والدعاوى المغشوشة، فعن يونس ابن عبد الأعلى الصدفي قال: قلت للشافعي: «كان الليث بن سعد يقول: «إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء: فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة». فقال الشافعي: «قصر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، ويطير في الهواء : فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة».
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: «ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون »، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «إن فيما أخشى عليكم زلة عالم وجدال المنافق بالقرآن ـ والقرآن حق ـ وعلى القرآن منار كأعلام الطريق».
وعن ابن عباس: «ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه فيترك قوله ذلك، ثم تمضي الأتباع»، وقال علي بن أبي طالب: «إياكم والاستنان بالرجال؛ فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء» الجامع لابن عبد البر ، وقال ابن مسعود: «ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن ، وإن كفر كفر؛ فإنه لا أسوة في البشر»، وقال أيضا: «من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة ؛ أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم».
وقال عبد الله بن المبارك: «رب رجل في الإسلام له قدم حسن وآثار صالحة، كانت منه الهفوة والزلة لا يُقتدى به في هفوته وزلته»، وقال الإمام مالك: «ليس كل ما قال رجل قولا – وإن كان له فضل – يتبع عليه؛ لقول الله عز وجل: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}، وقال مجاهد: «ليس من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم»، وقال ابن خزيمة: «ليس لأحد قول مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح الخبر عنه».

وخلاصة القول أن الشرع المطهر قد وضع لنا معايير دقيقة وموازين عادلة للحكم على الاعتقادات والأقوال والأفعال والأشخاص والأشياء، الأخذ بها نجاة، والإعراض عنها أو تعطيلها باب الضلال والهلاك، فالمسلم يستضيء بنور الله الذي أنزله إلينا في كتابه وسنة رسوله [ ويميز بين المظاهر والحقائق، ولا يغتر بكل ناعق، ولا يشتري كل لامع؛ فليس كل ما يلمع ذهبا، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-05-07, 08:23 PM
الحكمة ضالة المؤمن (37)

إنك لا تهدي من أحببت




لو تفحص العاقل نعم الله عليه - ولن يحصيها عدا - فلن يجد أعظم نعمة من نعمة الهداية، قال ابن القيم: «فإن أفضل ما يقدر الله بعبده وأجل ما يقسمه له (الهدى)، وأعظم ما يبتليه به ويقدره عليه (الضلال)، وكل نعمة دون نعمة الهدى، وكل مصيبة دون مصيبة الضلال»، ولهذا قال عز وجل: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}.

ومن عظمة الهداية أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من أنواع النعيم فإن أول ما يقولونه: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}، وأعظم ما يتحسر عليه المفرط حين يرى العذاب أنه لم يكن من المهتدين كما قال تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين}، وقال[: «كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول : لولا أن الله هداني، فيكون له شكرا، وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول: لو أن الله هداني، فيكون عليه حسرة». أخرجه أحمد والحاكم.
وقد ذكر الله عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه أن الهدى والضلال بيده سبحانه وتعالى فقال: {من يهد الله فهو المهتِد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا}، وهذَا من عظمته وكمال تفرده بالخلق والتدبير أنه يصطفي من يشاء من عباده فيوفقه للخير وهذا من فضله كما قال عز وجل في الحديث القدسي: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم».
وقد يشكل على بعض الأفهام آيتان قرآنيتان تثبت إحداهما الهداية لرسول الله[ والأخرى تنفيها عنه، فالآية الأولى قوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}، والأخرى قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت}.
قال الشيخ ابن سعدي: «يخبر تعالى أنك يا محمد - وغيرك من باب أولى- لا تقدر على هداية أحد، ولو كان من أحب الناس إليك، فإن هذا أمر غير مقدور للخلق هداية للتوفيق، وخلق الإيمان في القلب، وإنما ذلك بيد اللّه سبحانه تعالى، يهدي من يشاء، وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه، ممن لا يصلح لها فيبقيه على ضلاله.
وأما إثبات الهداية للرسول في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ فتلك هداية البيان والإرشاد، فالرسول[ يبين الصراط المستقيم، ويرغب فيه، ويبذل جهده في سلوك الخلق له، وأما كونه يخلق في قلوبهم الإيمان، ويوفقهم بالفعل، فحاشا وكلا.
ولهذا، لو كان قادرا عليها، لهدى من وصل إليه إحسانه، ونصره ومنعه من قومه، عمه أبا طالب، ولكنه أوصل إليه من الإحسان بالدعوة للدين والنصح التام، ما هو أعظم مما فعله معه عمه، ولكن الهداية بيد اللّه تعالى.»اهـ.
ومما يزيد الأمر وضوحا ويزيل ما قد يطرأ على الأذهان من تساؤلات، أن نعلم أن الهداية ليست نوعا واحدا بل إنها أقسام عديدة ومراتب متنوعة.
فالمرتبة الأولى: الهداية العامة:
وهي هداية كل نفس إلى مصالح معايشها وما يقيمها وهي أعم المراتب ، وهو ما فطر الله عليه عباده من الأعمال الفطرية التي فيها مصالحهم والبعد عن مضارهم، كما قال عز وجل: {الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى}، وقال على لسان موسى عليه السلام: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}، فإعطاء الخلق هو إيجاده في الخارج الموجود، والهداية هي التعليم والدلالة على سبيل بقائه وما يحفظه وما يقيمه.
المرتبة الثانية: هداية الإرشاد والبيان للمكلفين:
وهي هداية المكلفين ببيان الحق من الباطل وتمييز طريق الرشد من طريق الغواية وبيان الخير من الشر ، وهذه المرتبة أخص من التي قبلها؛ لأنها تختص بالمكلفين فقط وهي حجة الله عز وجل على خلقه التي لا يعذب أحدا إلا بعد إقامتها عليه كما قال عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}، وقال: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
وهذه الهداية هداية بيان وتوجيه وإرشاد وتعليم ولا تستلزم حصول التوفيق واتباع الحق في الأمر نفسه، فلا دخل لها بإدخال الهداية في القلوب وشرح الصدور كما قال عز وجل: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}؛ فقد تمت هدايتهم ببعثة الرسول المبين لهم، وقال عز وجل: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون}، فهداهم الله تعالى هداية البيان والدلالة فلم يهتدوا؛ فأضلهم الله عقوبة لهم بعد أن عرفوا الحق فأعرضوا عنه، وقال عز وجل: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا}، فقد أودع الله في كل نفس حب الخير وكراهية الشر كما قال عز وجل: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}.
المرتبة الثالثة: هداية التوفيق والإلهام:
وهي أخص من التي قبلها، وتتحقق هذه الهداية بأن يوفق الله عز وجل العبد إلى سلوك طريق الحق والاستقامة ويبعده عن طريق الانحراف، كما قال عز وجل: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام}، وقال: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه}، وقال: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان}، وهذه الهداية هي فعل الله عز وجل الذي اختص به وقد نفاه عن رسوله الكريم[ فقال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}، وقال: {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل}، فالرسول[ يهدي هداية البيان والتوجيه، وهي المرتبة الثانية، كما قال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}، لكنه لا يملك هداية التوفيق وشرح الصدور كما تقدم.
وحيث تقرر أن الهداية بيد الله عز وجل وجب على العبد أن يسعى في تحصيلها ويجتهد في اكتسابها، تماما كما يسعى في تحصيل الرزق والبحث عن أسباب الشفاء مع إيمانه التام واعتقاده الجازم بأن الرزق بيد الله والشفاء من عنده وحده عز وجل.
وأول أسباب تحصيل الهداية سؤال الله عز وجل أن يرزق العبد الهداية وأن يوفقه للحق علما وإرادة وقبولا، كما أن الاعتصام بالله ودينه والقيام بالأعمال الصالحة سبيل لتحصيل الهداية كما قال عز وجل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم}، وقال عز وجل: {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}، وأيضا فإن التوبة النصوح سبب للهداية؛ قال عز وجل: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب}.
نسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل، وأن يوفقنا لصالح الأعمال والأخلاق، وأن يتقبل منا اليسير، وأن يتجاوز عن التقصير، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-05-07, 08:23 PM
الحكمة ضالة المؤمن (38)

-الجماعة رحمة والفرقة عذاب




من المعلوم أن اجتماع المسلمين ووحدة صفهم وكلمتهم مقصد شرعي لا يمكن إهماله أو التغافل عنه، وقد دلت على هذا الأصل نصوص كثيرة منها قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، قال ابن مسعود]: «حبل الله الجماعة»، وقال تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}.

والاجتماع على الدين وعدم التفرق فيه وصية الله تعالى للسابقين واللاحقين، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.
قال الشيخ ابن سعدي: «أي أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين، أصوله وفروعه، تقيمونه بأنفسكم، وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتتعاونون على البر والتقوى، ولا تتعاونون على الإثم والعدوان، {ولا تتفرقوا فيه} أي ليحصل منكم اتفاق على أصول الدين وفروعه، واحرصوا على ألا تفرقكم المسائل، وتحزبكم أحزابا وشيعا، يعادي بعضكم بعضا، مع اتفاقكم على أصل دينكم»اهـ.
ونهى سبحانه عن اتباع سبيل المتفرقين الذين تركوا سبب اجتماعهم وهو الدين والبينات واتبعوا أهواءهم فضلوا وتفرقوا واستحقوا العذاب فقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وأولئك لهم عذاب عظيم}.
وقال[ مبينا وحدة المسلمين وأهمية اجتماعهم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
والاجتماع على الحق مما يحبه الله تعالى ويرضاه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ[: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا؛ فَيَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ؛ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ» رواه مسلم، قال النووي: «أمر بلزوم جماعة المسلمين، وتآلف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام».
والتفرق أمر مذموم ليس من هدي المسلمين بل هو من شأن الضالين؛ فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ[: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» رواه ابن ماجه.
وبين النبي [ أن التفرق غاية الشيطان ووسيلته فقال: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم» رواه مسلم، قال النووي: «التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن وغيرها».
وحرص النبي [ على اجتماع المسلمين في كل المناسبات وعدم تفرقهم؛ فعن جابر بن سمرة ] قال: خَرَجَ عَلَيْنَا فَرَآنَا حِلَقًا، فَقَالَ: «مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ» رواه مسلم. قال النووي: «معناه النهي عن التفرق والأمر بالاجتماع».
وفي سنن أبي داود قال أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ]: كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ[: «إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ»، فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلا إِلا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالَ: لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ.
وبين النبي [ أن الجماعة سبيل الجنة فقال: «مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فليلزم الجماعة»رواه الترمذي، وبحبوحتها: أي: وسطها وأفضلها.
والجماعة سبب لنيل تأييد الله ورعايته كما قال [: «يد الله مع الجماعة» رواه الترمذي. والمعنى: أن الله يؤيد بعونه الجماعةَ التي تعتصم بحبله.
وعَنِ النعمان ] عَنِ النَّبِيِّ [ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ».
وقد أمر الله عز وجل بالإصلاح بين الناس فقال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}، ونهى عن كثير من أسباب الفرقة كالغيبة والنميمة والسخرية والبيع على بيع المسلم والخطبة على خطبته ونحو ذلك؛ لأن ذلك سبيل لجمع شمل الأمة وإبعاد سبل التفرق المذموم عنها كما قال عز وجل : {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.
والتآلف والتواد وشيوع المحبة بين المسلمين مطلب شرعي ومن أعظم مقاصد الشريعة، والاختلاف المقبول أمر واقع كما شهد به تاريخ العلماء في السابق والحاضر مع قيامهم بواجب الأخوة الإيمانية والحرص على دوام المحبة والبعد عن أسباب القطيعة والعداوة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين».
وقال أيضا: «وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية».
وقد كان ابن مسعود يناقش عثمان في مسألة قصر الصلاة في منى نقاشا شديدا، فإذا حضرت الصلاة صلى خلفه ويقول: «الخلاف شر»، وكان الشافعي يناظر يونس الصدفي ثم يقول له: «يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة؟!» قال الذهبي: «وهذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون».
وتناظر الإمام أحمد وعلي بن المديني في مسألة حتى علت أصواتهما وخشي أن يقع بينهما جفاء، فلما أراد علي الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه.
فالاجتماع على الحق، ونبذ الفرقة والاختلاف، من مقاصد الدين العظيمة، ومن مقتضيات الأخوة الإيمانية التي أمر الله بها ومدح المؤمنين بها في قوله: {إنما المؤمنون إخوة} وقال[: «وكونوا عباد الله إخوانا» ، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-05-07, 08:25 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (39)

ثرثرة الإنسان مرآة أفكاره



لا شك أن من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان أن جعل له عقلا مفكرا، وقلبا واعيا، ولسانا معبرا، كما قال الله تعالى:{الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان}.
وقد ذكر ابن كثير اختلاف المفسرين في معنى قوله تَعَالَى: {عَلَّمَهُ الْبَيَان}، فنقل عن الْحَسَن أنه قال:«يَعْنِي النُّطْق»، في حين اختار الضَّحَّاك وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا أن المراد:»الْخَير وَالشَّرّ»، وَرجح ابن كثير قَوْل الْحَسَن؛ لأَنَّ السِّيَاق فِي تَعْلِيمه تَعَالَى الْقُرْآن وَهُوَ أَدَاء تِلَاوَته، وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ بِتَيْسِيرِ النُّطْق عَلَى الْخَلْق وَتَسْهِيل خُرُوج الْحُرُوف مِنْ مَوَاضِعهَا مِنْ الْحَلْق وَاللِّسَان وَالشَّفَتَيْنِ عَلَى اِخْتِلَاف مَخَارِجهَا وَأَنْوَاعهَا.» وقال الشيخ ابن سعدي:«{عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أي: التبيين عما في ضميره، وهذا شامل للتعليم النطقي والتعليم الخطي، فالبيان الذي ميز الله به الآدمي على غيره من أجلّ نعمه، وأكبرها عليه.»

فاللسان معرب عما في الجنان من خير أو شر؛ ولهذا يمكن معرفة دخيلة الإنسان من فلتات لسانه كما قال تعالى عن المنافقين: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أن لن يخرج الله أضغانهم وَلَوْ نَشَاءُ لأرَينَاكهُم فَلَعَرَفَتهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّ هُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}.
قال ابن سعدي: «يقول تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} من شبهة أو شهوة، بحيث تخرج القلب عن حال صحته واعتداله، أن الله لا يخرج ما في قلوبهم من الأضغان والعداوة للإسلام وأهله؟؛ هذا ظن لا يليق بحكمة الله؛ فإنه لا بد أن يميز الصادق من الكاذب، وذلك بالابتلاء بالمحن، التي من ثبت عليها، ودام إيمانه فيها، فهو المؤمن حقيقة، ومن ردته على عقبيه فلم يصبر عليها، وحين أتاه الامتحان، جزع وضعف إيمانه، وخرج ما في قلبه من الضغن، وتبين نفاقه، هذا مقتضى الحكمة الإلهية، مع أنه تعالى قال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُ مْ فَلَعَرَفْتَهُم ْ بِسِيمَاهُمْ} أي: بعلاماتهم التي هي كالوسم في وجوههم {وَلَتَعرفنهم فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي: لا بد أن يظهر ما في قلوبهم، ويتبين بفلتات ألسنتهم؛ فإن الألسن مغارف القلوب، يظهر منها ما في القلوب من الخير والشر {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} فيجازيكم عليها».
وقال ابن كثير: «يَقُول عَزَّ وَجَلَّ: وَلَوْ نَشَاء يَا مُحَمَّد لَأَرَيْنَاك أَشْخَاصهمْ فَعَرَفْتهمْ عِيَانًا وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَل الله تَعَالَى ذَلِكَ فِي جَمِيع الْمُنَافِقِينَ سَترًا مِنْهُ عَلَى خَلْقه وَحَمْلا لِلأمُورِ عَلَى ظَاهِر السَّلَامَة وَرَدًّا لِلسَّرَائِرِ إِلَى عَالِمهَا ،{وَلَتَعرفنهم فِي لَحْن الْقَوْل} أَيْ فِيمَا يَبْدُو مِنْ كَلَامهمْ الدَّالّ عَلَى مَقَاصِدهمْ يُفْهَم الْمُتَكَلِّمُ مِنْ أَيّ الْحِزْبَيْنِ هُوَ بِمَعَانِي كَلَامه وَفَحْوَاهُ، وَهُوَ الْمُرَاد مِنْ لَحْن الْقَوْل كَمَا قَالَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان بْن عَفَّان ]:» مَا أَسَرَّ أَحَد سَرِيرَة إِلَّا أَبْدَاهَا اللَّه عَلَى صَفَحَات وَجْهه وَفَلَتَات لِسَانه» وَفِي الْحَدِيث: «مَا أَسَرَّ أَحَد سَرِيرَة إِلَّا كَسَاهُ اللَّه تَعَالَى جِلْبَابهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْر وَإِنْ شَرًّا فَشَرّ».
فحري بالمسلم أن يكون نقي السريرة، سليم الباطن؛ ولهذا ذكر الله تعالى تعليما لنا وإرشادا، دعاء المؤمنين أنهم يقولون: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} مما يدل على أن طهارة الباطن وسلامة الصدر من الأمور المطلوبة، كما أن خبث الباطن وسوء الدخيلة والغل من الأمور المحظورة التي على المسلم أن يتجنبها ويسأل الله تعالى السلامة منها.
قال ابن سعدي: «ولهذا ذكر الله في الدعاء نفي الغل عن القلب، الشامل لقليل الغل وكثيره، الذي إذا انتفى ثبت ضده، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين.»
وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو قال: قيل لرسول الله [: « أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب ، صدوق اللسان» قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال « هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد «أخرجه ابن ماجه.
فعلى المسلم أن يحذر من فلتات لسانه، وسقطات كلامه؛ فلا يكون مهذارا، ثرثارا، يتكلم بكل ما خطر بباله، ويتلفظ بما جرى على قلبه، بل يتخير ألفاظه ومعانيه، وينتقي مجالسيه ومستمعيه، ويعطي كل مجلس حقه من الحديث المناسب، ويحرص من آثار كلامه لئلا ترتد في نحره.
كما أن الكلام معيار العقل ، ومقياس الثقافة، وقد قيل :«كلام الرجل بيان فضله وترجمان عقله، فاقصره على الجميل واقتصر منه على القليل».
وكانت العرب قديما تقول: «كل إناء بما فيه ينضح»، فقلب المرء إذا امتلأ خيرا وطهارة ظهر على لسانه، وكذلك إذا ملئ خبثا وشرا برز في لفظه ومنطقه ، قال في «صبح الأعشى» : «كل ما يكون في خاطر الإنسان يظهر من الكلام الذي يخرج من فيه، وكل وعاء ما ينضح إلا بما فيه».
وقال الشاعر:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
أي: مهما حاول الإنسان أن يتصنع الخير وهو يضمر الشر فإن الله سوف يظهر ما بباطنه ويكشف عن سريرته يوما ما، فمهما كان للمرء من صفات أو عيوب خفية، أو حاول إخفاءها فسوف تنكشف للناس.
ومن الشعر الحكيم قول نصر بن أحمد:

لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل
وكلّ امرئ ما بين فكَّيه مقتل
وكم فاتحٍ أبواب شرٍّ لنفسه
إذا لم يكن قفلٌ على فيه مقفل
إذا ما لسان المرء أكثر هذره
فذاك لسـانٌ بالبـلاء موكّـل
إذا شئت أن تحيا سعيداً مسلَّماً
فدبّر وميّز ما تقـول وتفعل
وقال صالح بن جناح:

أقلل كلامك واستعذ من شرّه
إنّ البلاء ببعضه مقرون
واحفظ لسانك واحتفظ من غيّه
حتّى يكون كأنَّه مسجون
وكِّل فؤادك باللِّسان وقل له
إنّ الكلام عليكما موزون
فزناه وليكُ محكماً في قلّةٍ

إنّ البلاغة في القليل تكون
- وخلاصة القول: إن ثرثرة المرء مرآة أفكاره، مثل صيني يدل على أن أفكار الإنسان تنعكس في كلامه، فليحذر من لسانه، وليطهر سريرته، وليعمر قلبه ولسانه بذكر الله والعلم النافع والعمل الصالح والذكر الدائم لينال خيري الدنيا والآخرة، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-05-10, 11:48 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن (40)

كونـــوا ربانــيين





دعا النبي صلى الله عليه وسلم بعض أهل الكتاب للإيمان به، ودعاهم إلى طاعته، فكان جوابهم : أتريد يا محمد أن نعبدك مع الله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}، وفيها ذكر بعض مقاصد البعثة ووظائف الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم يأمر أتباعه أن يكونوا ربانيين؛ ولهذا كان من الأهمية أن يتعرف محب الرسول صلى الله عليه وسلم ومتبعه على معنى الربانية وأبعادها حتى يتحقق بهذا الوصف.



فالرباني في لغة العرب منسوب إلى الرب ـ بزيادة ألف ونون للمبالغة ـ وقيل: هو من الرب بمعنى التربية، كانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها.

وقد اختلف المفسرون في المراد بالربانيين؛ فَقَالَ بَعْضهمْ : مَعْنَاهُ : كُونُوا حُكَمَاء عُلَمَاء فقهاء وهو قول اِبْن عَبَّاس وأَبِي رَزِين ومُجَاهِد والسُّدِّيّ، وذهب سَعِيد بْن جُبَيْر إلى أنهم الْحُكَمَاء الأتْقِيَاء، وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ وُلاة النَّاس وَقَادَتهم ، كما قال اِبْن زَيْد: الرَّبَّانِيُّو نَ : الَّذِينَ يَرُبُّونَ النَّاس وُلاة هَذَا الْأَمْر، يَرُبُّونَهُمْ: يَلُونَهُمْ، وَقَرَأَ: {لَوْلَا يَنْهَاهُم الرَّبَّانِيُّو نَ وَالْأَحْبَار} قَالَ: الرَّبَّانِيُّو نَ : الْوُلاة, وَالْأَحْبَار : الْعُلَمَاء.
- وقال ابن سعدي: «أي: علماء حكماء حلماء معلمين للناس ومربيهم، بصغار العلم قبل كباره، عاملين بذلك، فهم يأمرون بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة، وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل»اهـ.
ويمكن هنا أن نلخص أهم سمات الربانيين:
أولاً : التوحيد والإخلاص
توحيد الله تعالى أساس دعوة الرسل كما قال عز وجل: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}، والإخلاص من أهم ما يأمر به الرسل الناس كما قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}، ولا يخفى أن الرباني منسوب إلى الرب وهو الله تعالى، قال الطاهر ابن عاشور: «لأن النسب إلى الشيء إنما يكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه. ومعنى ذلك أن يكونوا مخلصين لله دون غيره» ولهذا قال في الآية التي تليها تأكيدا لهذا المعنى : {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون }.
ثانياً: التعلم والتعليم
من أهم سمات الرباني الاشتغال بالعلم؛ دراسة عميقة وتدريسا رفيقا، وهذا ما تدل عليه نصوص العلماء؛ قال ابن الأعرابي: «الرباني: العالم المعلم، الذي يغذو الناس بصغار العلم قبل كبارها»، وقال محمد بن علي ابن الحنفية لما مات عبد الله بن عباس ]: «اليوم مات رباني هذه الأمة»، وروي عن علي ] أنه قال: «الناس ثلاثة؛ عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق».
وقال ابن سعدي : «والباء في قوله (بما كنتم تعلمون) باء السببية، أي: بسبب تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه، التي بدرسها يرسخ العلم ويبقى، تكونون ربانيين.»
وقال الطاهر: «وقوله {بما كنتم تعلمون الكتاب} أي لأن علمكم الكتاب من شأنه أن يصدكم عن إشراك العبادة، فإن فائدة العلم (العمل)، و(تدرسون) معناه: تقرؤون، أي قراءة بإعادة وتكرير: لأن مادة درس في كلام العرب تحوم حول معاني التأثر من تكرر عمل يعمل في أمثاله، وقالوا: درس الكتاب إذا قرأه بتمهل لحفظه، أو للتدبر، وفي الحديث: « ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة» رواه الترمذي، فعطف التدارس على القراءة، فعلم أن الدراسة أخص من القراءة، ومادة درس تستلزم التمكن من المفعول؛ فلذلك صار درس الكتاب مجازا في فهمه وإتقانه ولذلك عطف في هذه الآية {وبما كنتم تدرسون} على {بما كنتم تعلمون الكتاب}» اهـ.
ثالثاً : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الرباني يقوم بوظيفة الرسل والنبيين، ومنها إرشاد الناس إلى مصالحهم، ودعوتهم إلى خيري الدنيا والآخرة، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كما قال تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} قال ابن سعدي: «هلّا ينهاهم العلماء المتصدون لنفع الناس، الذين منّ الله عليهم بالعلم والحكمة عن المعاصي التي تصدر منهم، ليزول ما عندهم من الجهل، وتقوم حجة الله عليهم، فإن العلماء عليهم أمر الناس ونهيهم، وأن يبينوا لهم الطريق الشرعي، ويرغبوهم في الخير ويرهبوهم من الشر»اهـ.
ولهذا ذهب الطبري إلى أن الرَّبَّانِيّ ْمَنْسُوب إِلَى الرَّبَّان وهو الَّذِي يَرُبّ النَّاس, وَهُوَ الَّذِي يُصْلِح أُمُورهمْ وَيَرُبّهَا, وَيَقُوم بِهَا، قال: «وَكَانَ الْعَالِم بِالْفِقْهِ وَالْحِكْمَة مِنْ الْمُصْلِحِينَ , يَرُبّ أُمُور النَّاس بِتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُمْ الْخَيْر , وَدُعَائِهِمْ إِلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَتهمْ , وَكَانَ كَذَلِكَ الْحَكِيم التَّقِيّ لِلَّهِ, وَالْوَلِيّ الَّذِي يَلِي أُمُور النَّاس عَلَى الْمِنْهَاج الَّذِي وَلِيَهُ الْمُقْسِطُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ أُمُور الْخَلْق بِالْقِيَامِ فِيهِمْ, بِمَا فِيهِ صلاح عَاجِلهم وَآجِلهم, وَعَائِدَة النَّفْع عَلَيْهِمْ فِي دِينهمْ وَدُنْيَاهُمْ; كَانُوا جَمِيعًا مُسْتَحِقِّينَ أَنَّهُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} فَالرَّبَّانِيُ ّونَ إِذًا, هُمْ عِمَاد النَّاس فِي الْفِقْه وَالْعِلْم وَأُمُور الدِّين وَالدُّنْيَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مُجَاهِد: « وَهُمْ فَوْق الْأَحْبَار «, لِأَنَّ الْأَحْبَار هُمْ الْعُلَمَاء؛ وَالرَّبَّانِيّ : الْجَامِع إِلَى الْعِلْم وَالْفِقْه, الْبَصَر بِالسِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِير, وَالْقِيَام بِأُمُورِ الرَّعِيَّة, وَمَا يُصْلِحهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَدِينهمْ .»اهـ.


ولا شك أن هناك صفات أخرى للربانيين، يجمعها الالتزام بكل ما شرعه الله تعالى من العقائد والأخلاق والأعمال، ظاهرا وباطنا ، فعلا وتركا ، مع الإخلاص لله تعالى والاتباع لرسول الله [ والنصح للخلق ورحمتهم، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وبالله التوفيق.




اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-05-10, 11:50 AM
الحكمة ضالة المؤمن (41)

المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبَيْ زور




أدت الوفرة المالية لدى بعض الناس إلى ظهور سلوكيات غريبة في المجتمع، فقد نمت الصبغة الاستهلاكية لديهم فصاروا يشترون كل شيء، ويقتنون ما يحتاجون إليه وما لا يحتاجون، وأصبحوا يتباهون بالأمور الكمالية، ويتنافسون في إبراز مظاهر الغنى والثراء؛ مما حدا ببعضهم الآخر إلى تقليدهم ومحاكاتهم ولو كان ذلك خارجا عن قدرتهم المالية، وقد يوقعهم ذلك في الديون والأعباء المالية المتراكمة وما يتبعها من مطالبات وسجن ونحوها.
إن الشرع المطهر يدعونا إلى القناعة والعفاف، ويحذرنا من الاستكثار المذموم من الدنيا ومظاهرها البراقة، ويوجهنا إلى الاشتغال بمعالي الأمور، والاستعداد ليوم المعاد، وتوظيف ما بأيدينا من الدنيا لخدمة الدين وتعمير الآخرة، من غير إهمال لحظوظنا الدنيوية من التمتع المباح والتنعم بما سخر الله عز وجل لنا من النعم وأخرج لنا من الأرزاق دون إفراط ولا تفريط، كما قال عز وجل: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك}.
فالقناعة والرضا بما رزق الله من أسباب السعادة القلبية والراحة البدنية كما قال صلى الله عليه وسلم: « قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنـّعه الله بما آتاه» أخرجه مسلم.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: « اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير «أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
ومن أسباب القناعة أن يعرف المسلم نعمة الله عليه وما فضله به بأن ينظر إلى من هو أقل منه مالا وأدنى درجة كما قال صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله»متفق عليه.
فحقيقة الغنى فيما يكون في القلب من قناعة ورضا وليس فيما يكون في اليد من أموال ومقتنيات كما قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس»متفق عليه، قال النووي: «العرض: متاع الدنيا، ومعنى الحديث: الغنى المحمود غنى النفس، وشبعها، وقلة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة؛ لأن من كان طالبا للزيادة لم يستغن بما معه، فليس له غنى»اهـ.
قال ابن القيم: «يكمل غنى القلب بغنى آخر هو غنى النفس، وآيته: سلامتها من الحظوظ، وبراءتها من المراءاة»، فالجري وراء المظاهر الجوفاء، والاستكثار من المتاع الزائل لا يزيد الإنسان إلا فقرا في نفسه، وذلا لحاجاته، وتأمل كيف وصف النبي صلى الله عليه وسلم من كان هذا حاله بالعبودية والذل لهذه المطلوبات فقال صلى الله عليه وسلم « تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن مُنع غضب، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش».
- قال أبو حاتم: «من نازعته نفسه إلى القنوع، ثم حسد الناس على ما في أيديهم فليس ذلك لقناعة ولا لسخاوة، بل لعجز وفشل، فمثله كمثل حمار السوء الذي يعرج بخفة حمله، ويحزن إذا رأى العلف يؤثر به ذو القوة والحمل الثقيل، فالقانع الكريم أراح قلبه وبدنه، والشره اللئيم أتعب قلبه وجسمه.»اهـ.
- فقوله صلى الله عليه وسلم: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي ‏ ‏زور» من الحكم النبوية الجليلة التي تعالج سلوكا اجتماعيا مريضا، ابتلي صاحبه بالمظهرية الجوفاء، وظن أن الاستكثار من المظاهر البراقة يرفع صاحبها أو يزيد من غناه في أعين الناس، وسبب ورود الحديث ما روته ‏‏أسماء بنت أبي بكر ‏- رضي الله عنهما - ‏قالت: « ‏جاءت امرأة إلى النبي ‏صلى الله عليه وسلم ‏فقالت: يا رسول الله إن لي ضرة فهل عليّ جناح أن أتشبع من مال زوجي بما لم يعطني؟ وفي رواية عائشة: أقول: إن زوجي أعطاني ما لم يعطني؟ فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم: « ‏المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي ‏ ‏زور».
- قال النووي: «قال العلماء: معناه: المتكثر بما ليس عنده، بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده يتكثر بذلك عند الناس، ويتزين بالباطل فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور.
- قال أبو عبيد وآخرون: هو الذي يلبس ثياب أهل الزهد والعبادة والورع، ومقصوده أن يظهر للناس أنه متصف بتلك الصفة، ويظهر من التخشع والزهد أكثر مما في قلبه فهذه ثياب زور ورياء، وقيل: هو كمن لبس ثوبين لغيره وأوهم أنهما له، وقيل: هو من يلبس قميصاً واحداً ويصل بكميه كمين آخرين فيظهر أن عليه قميصين، وحكى الخطابي قولاً آخر: أن المراد هنا بالثوب الحالة والمذهب، والعرب تكني بالثوب عن حال لابسه، ومعناه: أنه كالكاذب القائل ما لم يكن، وقولاً آخر: أن المراد الرجل الذي تطلب منه شهادة زور فيلبس ثوبين يتجمل بهما فلا ترد شهادته لحسن هيئته. والله أعلم». انتهى.
- وقال ابن حجر في الفتح: “قوله “المتشبع” أي المتزين بما ليس عنده يتكثر بذلك ويتزين بالباطل، كالمرأة تكون عند الرجل ولها ضرة فتدعي من الحظوة عند زوجها أكثر مما عنده تريد بذلك غيظ ضرتها، وكذلك هذا في الرجال».
- وعن سبب تثنية الثوبين: قال ابن حجر: «للإشارة إلى أن كذب المتحلي مثنى؛ لأنه كذب على نفسه بما لم يأخذ وعلى غيره بما لم يعط، وكذلك شاهد الزور يظلم نفسه ويظلم المشهود عليه».
- وقال الداودي: في التثنية إشارة إلى أنه كالذي قال الزور مرتين مبالغة في التحذير من ذلك، وقال ابن التين «هو أن يلبس ثوبي وديعة أو عارية يظن الناس أنهما له ولباسهما لا يدوم ويفتضح بكذبه، وأراد بذلك تنفير المرأة عما ذكرت خوفاً من الفساد بين زوجها وضرتها ويورث بينهما البغضاء فيصير كالسحر الذي يفرق بين المرء وزوجه، ويحتمل أن تكون التثنية إشارة إلى أنه حصل بالتشبع، حالتان مذمومتان: فقدان ما يتشبع به وإظهار الباطل» اهـ.
وخلاصة الأمر أنه على المسلم أن يرضى بما قسم الله عز وجل له، ولا يظهر نفسه بأعلى مما هو فيه، ولا يحمل نفسه من النفقات والديون ما لا يطيق ليظهر بصورة تخالف واقعه وحقيقة أمره، ولا مانع من الطموح المشروع بأن يصل إلى أعلى المراتب، ويكسب أعلى الدخول، ولكن ليس عن طريق المظاهر المزورة، بل بالسعي الجاد والتحصيل المتقن للعلوم النافعة، والخبرات المفيدة، والعمل الدؤوب، فبذلك يرقى بجد في سلم الكمالات، ويعلو في سماء الرفعة، كما قال عز وجل: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-05-10, 11:51 AM
الحكمة ضالة المؤمن (42)

من يظهر عيوب الآخرين ينحط في نظر المستمعين




يتلذذ بعض الناس بذكر عيوب الآخرين والانتقاص منهم، فيشغل فراغه بتتبع أخبارهم، ثم يقضي وقته في مضغ عيوبهم وفضح أسرارهم، وقد يحمله ذلك المرض على الكذب والافتراء ليزيد للخبر نكهة تحمل السامعين على مشاركته في لذة الوقيعة بالآخرين، وعدم استنكار ذلك أو الإعراض عنه.

وهذا السلوك المريض المنحرف سماه الشرع «غيبة» فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكرك أخاك بما يكره» أخرجه مسلم، قال المناوي: «ومن أحسن تعاريفها: ذكر العيب بظهر الغيب».
وهذا المرض وللأسف شائع لدى النساء والرجال على حد السواء إلا من رحم الله وعافاه من أكل لحوم الآخرين والتفكه بأعراضهم في غيبتهم، وقد نهانا الله عز وجل عن هذا الفعل القبيح بأشد التحذير فقال عز وجل: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}، قال ابن سعدي: «وفي هذه الآية دليل على التحذير الشديد من الغيبة، وأن الغيبة من الكبائر؛ لأن الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر».
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس: إِنَّمَا ضَرَبَ اللَّه هَذَا الْمَثَل لِلْغِيبَةِ لِأَنَّ أَكْل لَحْم الْمَيِّت حَرَام مستقذر, وَكَذَا الْغِيبَة حَرَام فِي الدِّين وَقَبِيح فِي النُّفُوس. وَقَالَ قَتَادَة: كَمَا يَمْتَنِع أَحَدكُمْ أَنْ يَأْكُل لَحْم أَخِيهِ مَيِّتًا كَذَلِكَ يَجِب أَنْ يَمْتَنِع مِنْ غِيبَته حَيًّا.
والعلماء متفقون على أَنَّ الْغِيبَة مِنْ الْكَبَائِر, وَأَنَّ مَنْ اِغْتَابَ أَحَدًا عَلَيْهِ أَنْ يَتُوب إِلَى اللَّه عز وجل، قال ابن كثير: «وَالْغِيبَة مُحَرَّمَة بِالْإِجْمَاعِ لَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رُجِّحَتْ مَصْلَحَتُهُ»، والدليل على ذلك: ما أخرجه أَبو دَاوُد عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه [: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْت بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَار مِنْ نُحَاس يَخْمُشُونَ وُجُوههمْ وَصُدُورهمْ فَقُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُوم النَّاس وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضهمْ».
قال الشراح:» لما كان خمش الوجه والصدر من صفات النساء النائحات جعلهما جزاء من يغتاب ويفري في أعراض المسلمين إشعارا بأنهما ليسا من صفات الرجال، بل هما من صفات النساء في أقبح حالة وأشوه صورة «.
وَعَنْ الْمُسْتَوْرِد أَنَّ رَسُول اللَّه [ قَالَ: «مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِم أَكْلَة فَإِنَّ اللَّه يُطْعِمهُ مِثْلهَا مِنْ جَهَنَّم، وَمَنْ كُسِيَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِم فَإِنَّ اللَّه يَكْسُوهُ مِثْله مِنْ جَهَنَّم، وَمَنْ أَقَامَ بِرَجُلٍ مَقَام سُمْعَة وَرِيَاء فَإِنَّ اللَّه يَقُوم بِهِ مَقَام سُمْعَة وَرِيَاء يَوْم الْقِيَامَة».
قال الشراح: «قوله: «مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِم أَكْلَة» أي بسبب اغتيابه والوقيعة فيه أو بتعرضه له بالأذية عند من يعاديه، قال ابن الأثير: معناه الرجل يكون صديقا ثم يذهب إلى عدوه فيتكلم فيه بغير الجميل ليجيزه بجائزة فلا يبارك الله له فيها» اهـ.
وقَوْله [:«يَا مَعْشَر مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُل الْإِيمَان قَلْبه، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ» ، قال الشراح: «فيه تنبيه أن غيبة المسلم من شعار المنافق لا المؤمن».
وعن سعيد بن زيد عن النبي [ قال: «إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق» أخرجه أبو داود، قال الشراح: «أي من أكثر الربا وبالا وأشده تحريما إطالة اللسان في عرض المسلم، أي احتقاره والترفع عليه والوقيعة فيه بنحو قذف أو سب، وإنما يكون أشد تحريما لأن العرض أشد على النفس من المال» «أهـ.
وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رضي الله عنه: «إِيَّاكُمْ وَذِكْر النَّاس فَإِنَّهُ دَاء , وَعَلَيْكُمْ بِذِكْرِ اللَّه فَإِنَّهُ شِفَاء»، وقال الحسن: «والله للغيبة، أسرع في دين الرجل من الأكلة في الجسد».
ما واجب المسلم تجاه الغيبة؟
أولاً: يجب على المسلم أن يتجنب الغيبة ويتوب منها ويقلع عنها؛ لما ورد فيها من الوعيد الشديد والترهيب الرهيب كما تقدم، وقد أخرج أبو داود والترمذي عن عائشة أنها قالت للنبي [: «حسبك من صفية أنها كذا وكذا» تعني قصيرة، فقال [: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته» أي عكرته.
ثانياً: إذا ابتلي المسلم بالغيبة فعليه أن يعالج نفسه منها، وذلك بالعلم والعمل كما قال الغزالي: «إعلم أن مساوئ الأخلاق كلها إنما تعالج بمعجون العلم والعمل، وعلاج كف اللسان عن الغيبة إجمالا: أن يعلم أنه يتعرض لسخط الله تعالى إذا اغتاب لارتكابه ما نهى الله عنه، فمهما آمن العبد بما ورد من الأخبار في الغيبة لم يطلق لسانه بها خوفا من ذلك».
وينفعه أيضا أن يتدبر في نفسه، فإذا وجد فيها عيبا اشتغل بعيب نفسه [، وفي الأثر: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس».
ومهما وجد عيبا فينبغي أن يستحيي من أن يترك ذم نفسه ويذم غيره، بل ينبغي أن يتحقق أن عجز غيره عن نفسه بالتنزه عن ذلك العيب كعجزه، هذا إذا كان ذلك عيبا يتعلق بفعله واختياره، وإن كان أمرا خلقيا، فالذم له ذم للخالق؛ فإن من ذم صنعة فقد ذم الصانع، وإذا لم يجد العبد عيبا في نفسه فليشكر الله تعالى ولا يلوثن نفسه بأعظم العيوب، فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب؛ بل لو أنصف لعلم أن ظنه بنفسه أنه بريء من كل عيب جهل بنفسه، وهو من أعظم الذنوب.
وينفعه أيضا أن يعلم أن تألم غيره بغيبته كتألمه بغيبة غيره له؛ فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يُغتاب، فينبغي ألا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه.
وبالجملة: فمن قوي إيمانه انكف عن الغيبة لسانه. اهـ.
ثالثا: على المسلم إذا سمع غيبة مسلم أن يدافع عنه ما استطاع ويزجر قائلها، فعن أبي الدرداء أن النبي [ قال: «من رد عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة»، وقال رسول الله [: «من ذبّ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار» أخرجه أحمد، وقَالَ رَسُول اللَّه [: «مَا مِنْ امْرِئ يَخْذُل امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِع تُنْتَهَك فِيهِ حُرْمَته وَيُنْتَقَص فِيهِ مِنْ عِرْضه إِلَّا خَذَلَهُ اللَّه تَعَالَى فِي مَوَاطِن يُحِبّ فِيهَا نُصْرَته، وَمَا مِنْ امْرِئ يَنْصُر اِمْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِع يُنْتَقَص فِيهِ مِنْ عِرْضه وَيُنْتَهَك فِيهِ مِنْ حُرْمَته إِلَّا نَصَرَهُ اللَّه عز وجل فِي مَوَاطِن يُحِبّ فِيهَا نُصْرَته» أخرجه أَبُو دَاوُدَ.
فنسأل الله تعالى أن يعافينا جميعا من الغيبة وسائر آفات اللسان، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-05-18, 02:16 AM
الحكمة ضالة المؤمن (43)

وفوق كل ذي علم عليم




من الحكم القرآنية البليغة قوله عز وجل: {وفوق كل ذي علم عليم}، وقد اشتملت هذه العبارة الموجزة على فوائد جليلة، نذكر منها على سبيل الاختصار:

1 - فضل العلم:

يستفاد من هذه الآية الكريمة فضل العلم وشرفه، فقد بيـّن سبحانه أن رفعة يوسف عليه السلام على إخوته إنما كانت بالعلم كما قال عز وجل: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم}، قال القاسمي: «{نرفع درجات من نشاء} أي بالعلم»اهـ، وقال الشيخ ابن سعدي: «{نرفع درجات من نشاء} بالعلم النافع، ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها، كما رفعنا درجات يوسف» اهـ.
ولا شك أن طلب العلم من أهم الواجبات وأفضل المطلوبات بعد أداء الفرائض والقيام بالشعائر، كما قال الثوري: «ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم»، حيث أمر الله تعالى بالعلم الشرعي ومدح العلماء وطلبة العلم، وذم الجهل وأهله، وذلك في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة، ومنها هذه الآية التي جعل فيها سبحانه وتعالى معيار التفاضل بين يوسف وإخوته (العلم) مما يؤكد فضله وشرفه.
2- تفاوت العلم والعلماء:
لا يخفى أن العلم يتفاوت في الشرف والفضل، فالعلم بالله عز وجل وأسمائه وصفاته أفضل العلم وأعلاه درجة؛ لأنه يتعلق بأشرف معلوم وهو الله عز وجل، ثم يليه العلم بالطريق الموصل إليه، وهكذا تتفاوت العلوم بحسب موضوعها وأثرها في دين المكلف ودنياه.
وأيضا فإن العلماء يتفاضلون تبعا لما يحملونه من العلم وما يقومون به من أعمال نافعة لأنفسهم ولأمتهم، قال الطاهر بن عاشور: «وجملة {وفوق كل ذي علم عليم} فيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس».
3- العلم ينتهي إلى الله عز وجل:
مما تفيده الآية الكريمة أن العلم من مواهب الله عز وجل للعلماء، وهو سبحانه العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علما، قال الطبري: « وَقَوْله: {وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} يَقُول تَعَالَى ذِكْره: وَفَوْق كُلّ عَالِم مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ يُوسُف أَعْلَم إِخْوَته، وَأَنَّ فَوْق يُوسُف مَنْ هُوَ أَعْلَم مِنْ يُوسُف، حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى اللَّه تَعَالَى.
وذكر بسنده عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر، قَالَ: حَدَّثَ ابْن عَبَّاس بِحَدِيثٍ، فَقَالَ رَجُل عِنْده: الْحَمْد لِلَّهِ {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} فَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْعَالِم اللَّه، وَهُوَ فَوْق كُلِّ عَالِم.
وعَنْ عِكْرِمَة عَنِ ابْن عَبَّاس: {وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} قَالَ: يَكُون هَذَا أَعْلَمَ مِنْ هَذَا، وَهَذَا أَعْلَمَ مِنْ هَذَا، وَاَللَّه فَوْقَ كُلّ عَالِم.
وعَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب، قَالَ: سَأَلَ رَجُل عَلِيًّا عَنْ مَسْأَلَة، فَقَالَ فِيهَا، فَقَالَ الرَّجُل: لَيْسَ هَكَذَا وَلَكِنْ كَذَا وَكَذَا، قَالَ عَلِيّ: أَصَبْتَ وَأَخْطَأْتُ: {وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم}.
عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر: {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} قَالَ: اللَّه أَعْلَم مِنْ كُلّ أَحَد.
وعَنِ الْحَسَن، فِي قَوْله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْم عَلِيم} قَالَ: لَيْسَ عَالِم إِلَّا فَوْقَهُ عَالِم حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعِلْم إِلَى اللَّه.
وعَنْ بَشِير الْهُجَيْمِيّ، قَالَ: سَمِعْت الْحَسَن قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة يَوْمًا: {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم}، ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّهُ وَاَللَّهِ مَا أَمْسَى عَلَى ظَهْر الْأَرْض عَالِم إِلَّا فَوْقَهُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، حَتَّى يَعُود الْعِلْم إِلَى الَّذِي عَلَّمَهُ»اهـ.
4- تواضع العالم:
إذا اعتقد المكلف أن العلم ينتهي إلى الله، فمنه المبدأ وإليه المنتهى كما قال قَتَادَة في قَوْله: «{وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعِلْم إِلَى اللَّه، مِنْهُ بُدِئَ، وَتَعَلَّمَتِ الْعُلَمَاء، وَإِلَيْهِ يَعُود»اهـ، فإن ذلك يحمل العالم على التواضع لله عز وجل، فلا يعجب بما عنده من العلم، ولا يتكبر على غيره من الناس، فأجمل ما يتحلى به العالم التواضع، وأقبح ما يتصف به الكبر والعجب، قال عمر رضي الله عنه: « تعلموا العلم وعلموه الناس، وتعلموا له الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه، ولمن علمتموه، ولا تكونوا جبابرة العلماء فلا يقوم جهلكم بعلمكم».
وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في «حلية طالب العلم»: «فالزم رحمك الله اللصوق إلى الأرض، والإزراء على نفسك وهضمها، ومراغمتها عند الاستشراف لكبرياء أو غطرسة أو حب ظهور أو عجب ونحو ذلك من آفات العلم القاتلة له، المذهبة لهيبته، المطفئة لنوره، وكلما ازددت علما أو رفعة في ولاية فالزم ذلك تحرز سعادة عظمى، ومقاما يغبطك عليه الناس»اهـ.
وانظر إلى تواضع الأئمة الكبار، فقد سئل أبو حنيفة: بم حصلت العلم العظيم؟ قال: «ما بخلت بالإفادة، ولا استنكفت عن الاستفادة»، وقال الحميدي -وهو تلميذ الشافعي-: «صحبت الشافعي من مكة إلى مصر، فكنت أستفيد منه المسائل، وكان يستفيد مني الحديث»، وعن وكيع وابن عيينة والبخاري قالوا: « لا يكون المحدث كاملا أو الرجل عالما حتى يحدث عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه».
5- الحرص على زيادة العلم:
مما يستفاد من هذه الآية الكريمة الحرص على الاستكثار من العلم، والازدياد منه؛ لأن الآية تدل على تفاوت العلم والعلماء، ولاشك أن هذا التفاوت له أثره في الدنيا والآخرة لذا فإن المسلم عموما، وطالب العلم خصوصا يحرص على الاستكثار من العلم الشرعي، ولو لم يكن في شرف العلم إلا ما جاء من أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالزيادة من العلم لكفى به شرفا وفضلا كما قال عز وجل: {وقل رب زدني علما} قال الشيخ ابن سعدي: «أمره تعالى أن يسأله زيادة العلم، فإن العلم خير، وكثرة الخير مطلوبة، وهي من الله، والطريق إليها: الاجتهاد، والشوق للعلم، وسؤال الله، والاستعانة به، والافتقار إليه في كل وقت»اهـ. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح والقبول.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-05-18, 02:17 AM
الحكمة ضالة المؤمن (44)

لا تــؤذوا المسلمـين




مفهوم التدين عند بعض الناس غير مكتمل الجوانب، وذلك لقلة علمهم وضعف بصيرتهم، فظنوا أن حقيقة التدين تكمن في كثرة الصلاة والصيام والذكر. وهذا لا شك من المطلوبات الدينية، إلا أنهم غفلوا عن جانب مهم في فقه التدين اعتـنت به النصوص الشرعية التي بينت قواعد الدين وركائزه، ألا وهو رعاية حق المسلم بالبر والإحسان وكف الأذى والإساءة، وهذا مجال رحب للتقرب إلى الله عز وجل لو كانوا يعلمون.

فمن الآيات الكريمة في هذا الشأن قوله عز وجل: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}.
قال ابن كثير: «أَيْ يَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ مَا هُمْ بُرَآء مِنْهُ لَمْ يَعْمَلُوهُ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ، وقوله: {فَقَدْ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} وَهَذَا هُوَ الْبَهْت الْكَبِير أَنْ يُحْكَى أَوْ يُنْقَل عَنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ عَلَى سَبِيل الْعَيْب وَالتَّنَقُّص لَهُمْ، ثم ذكر عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها أنها قَالَتْ: قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأصْحَابِهِ أَيّ الرِّبَا أَرْبَى عِنْد اللَّه؟ قَالُوا: اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم، قَالَ: «أَرْبَى الرِّبَا عِنْد اللَّه اِسْتِحْلال عِرْض اِمْرِئٍ مُسْلِم» ثُمَّ قَرَأَ: {وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدْ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.
ويعلل الشيخ ابن سعدي سبب استحقاق من يؤذي المؤمنين للإثم المبين بأنهم: «تعدوا عليهم، وانتهكوا حرمة أمر اللّه باحترامها».
وأما الشيخ الطاهر بن عاشور فقد بـيّـن مناسبة هذه الآية لما قبلها وهي قوله عز وجل: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة} فقال: «ألحقت حرمة المؤمنين بحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم تنويها بشأنهم، وذكروا على حدة للإشارة إلى نزول رتبتهم عن رتبة الرسول عليه الصلاة والسلام. وعطف (المؤمنات) على (المؤمنين) للتصريح بمساواة الحكم وان كان ذلك معلوما من الشريعة، لوزع المؤذين عن أذى المؤمنات لأنهن جانب ضعيف بخلاف الرجال فقد يزعهم عنهم اتقاء غضبهم وثأرهم لأنفسهم.
والمراد بالأذى: أذى القول بقرينة قوله {فقد احتملوا بهتانا}؛ لأن البهتان من أنواع الأقوال، وذلك تحقير لأقوالهم، وأتبع ذلك التحقير بأنه إثم مبين، والمراد بالمبين العظيم القوي، أي أنه جرم من أشد الجرم، وهو وعيد بالعقاب عليه».
ويوضح الشيخ ابن عثيمين حقيقة الأذى ومجالاته فيقول: «والأذية: هي أن تحاول أن تؤذي الشخص بما يتألم منه قلبيا، أو بما يتألم منه بدنيا، سواء كان ذلك بالسب أم بالشتم أم باختلاق الأشياء عليه أم بمحاولة حسده أم غير ذلك من الأشياء التي يتأذى بها المسلم.
وهذا كله حرام؛ لأن الله تعالى بيـّن أن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا.
قال أهل العلم: وأنواع الأذى كثيرة، منها أن يؤذي جاره، ومنها أن يؤذي صاحبه، ومنها أن يؤذي من كان في عمل من الأعمال، وإن لم تكن بينهم صداقة، بالمضايقة وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام، والواجب على المسلم الحذر منه».
وجاء في السنة المطهرة من الأحاديث الكثيرة ما يحذر من إيذاء المسلمين كقوله [: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» أخرجه مسلم.
قال ابن رجب:» قوله: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» يعني يكفيه من الشر احتقاره أخاه المسلم، فإنه إنما يحقر أخاه المسلم لتكبره عليه، والكبر من أعظم خصال الشر».
وعن ابن عمر قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله»، أخرجه الترمذي في باب ما جاء في تعظيم المؤمن.
فهذا نهي صريح من النبي صلى الله عليه وسلم عن إيذاء المسلمين، والفعل في سياق النهي يعم سائر أوجه الإيذاء البدني والمعنوي كما تقدم.
ومما يؤكد حرمة إيذاء المسلم ما ورد من الأحاديث التي تدل على أن الله تعالى يكره إيذاء المؤمن، فقد أخرج الترمذي والطبراني أن النبي [ قال: «لا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يؤذي المؤمن، والله يكره أذى المؤمن».
فكيف يجرؤ مسلم أن يفعل ما يكره الله عز وجل، ومن ذلك إيذاء المسلم، ولهذا قال الفضيل: «لا يحلّ لك أن تؤذيَ كلباً أو خنزيراً بغير حقّ، فكيف بمن هو أكرم مخلوق»؟ وقال قتادة: «إيّاكم وأذى المؤمن فإنّ الله يحوطه، ويغضب له».
ومن عجيب ما ورد في النصوص الشرعية النهي عن إيذاء المسلم ولو بسب قريبه الكافر، فلما شكا عكرمة بن أبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقال له: ابن عدو الله، قام خطيبا فقال صلى الله عليه وسلم : «لا تؤذوا مسلما بشتم كافر» أخرجه الحاكم والبيهقي.
وقال صلى الله عليه وسلم : «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء» أخرجه الترمذي، قال المناوي: «لا تسبوا أموات المسلمين فتؤذوا الأحياء من أقاربهم».
والخلاصة كما يقول ابن رجب: «تضمنت النصوص أن المسلم لا يحل إيصال الأذى إليه بوجه من الوجوه من قول أو فعل بغير حق».
وانظر إلى هذا الخلق الرفيع الذي تصوره أقوال السلف، فعن يحيى بن معاذ قال: «ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة، إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه»، وقال الربيع بن خثيم: «الناس رجلان؛ مؤمن فلا تؤذه، وجاهل فلا تجاهله»، وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: أجعل كبير المسلمين عندك أبا، وصغيرهم ابنا، وأوسطهم أخا، فأي أولئك تحب أن تسيء إليه».
فما أجدر المسلم أن يوسع أفقه ويزيد علمه فيعلم أن التدين ليس عبادة فحسب، وإنما هو قيام بحق الله عز وجل، وهو كذلك قيام بحقوق العباد، فكف الأذى عن الغير صدقة يتصدق بها العبد على نفسه، وهو قربة يتقرب بها إلى الله تعالى، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-05-18, 02:19 AM
الحكمة ضالة المؤمن (46)




يقوم بعض الناس بالتهاون في أداء الواجبات أو التقصير في الالتزام بالقوانين أو احترام الأعراف العامة، فيكسر القانون، ويتمرد على العرف العام، ويقصر في أداء مسؤولياته الفردية تجاه المجتمع والآخرين، ويجعل لنفسه مسوغاً يتكئ عليه ألا وهو: كل الناس يفعلون ذلك، أو أن الدنيا كلها بهذه الصورة، وإذا أدى غيري واجبه قمت بأداء واجبي، أو يقوم بإلقاء اللوم والعتب على المسؤولين لأنهم مقصرون في أداء أعمالهم، ويتخذ من ذلك مسوّغاً لإهماله وتقصيره ومخالفاته.
ونصوص الشريعة وقواعدها تؤكد مبدأ المسؤولية الفردية، وهي كون الشخص مكلفاً بأداء ما كلف به تجاه ربه ونفسه والآخرين بحسب وسعه وطاقته، وأن قيامه بتلك التكاليف إنما يكون بالإخلاص لله عز وجل، والإحسان في العمل؛ لأنه سيسأل عن أعماله وسيجازى عليها إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، إلا أن يعفو الله ويتجاوز.
فقيام الفرد بمسؤولياته الدينية والدنيوية عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى، فهي ليست مصالح متبادلة يقوم بها الشخص رداً على إحسان الدولة إليه أو مقابلة لجميل أسداه غيره إليه، والمسؤولية ليست فضلاً يمتن به المرء على أسرته أو مجتمعه أو دولته، فمسؤولية الفرد تجاه ربه وتجاه الآخرين أساسها إيمان الشخص بالله واليوم الآخر، وأداؤه لتلك المسؤوليات هو أثر لإيمانه، وانعكاس لدينه، وهذا ما يفرق بين المسؤولية في الإسلام والمسؤولية في النظم الغربية؛ حيث يكون أداء الإنسان لواجباته مناطاً برقابة القانون وحضوره، أما عند غيبة الرقيب فإن الشخص يتهرب من مسؤولياته والتزاماته.
فمن الآيات الكريمة التي تؤكد مبدأ المسؤولية الفردية قوله عز وجل: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} قال الشيخ ابن سعدي: أي: لا أولاد، ولا مال، ولا أنصار، ليس معه إلا عمله، فيجازيه الله ويوفيه حسابه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وقال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، قال الشيخ ابن سعدي: وهذا إخبار عن كمال عدله أن كل إنسان يلزمه طائره في عنقه، أي: ما عمل من خير وشر يجعله الله ملازماً له لا يتعداه إلى غيره، فلا يحاسب بعمل غيره ولا يحاسب غيره بعمله، وقوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} فيه ما عمله من الخير والشر حاضراً صغيره وكبيره ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}، وهذا من أعظم العدل والإنصاف أن يقال للعبد: حاسب نفسك ليعرف بما عليه من الحق الموجب للعقاب.
وقال تعالى: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، قال الشيخ ابن سعدي: أي: هداية كل أحد وضلاله لنفسه لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يدفع عنه مثقال ذرة من الشر، والله تعالى أعدل العادلين لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة، وأما من انقاد للحجة أو لم تبلغه حجة الله تعالى فإن الله تعالى لا يعذبه.
وأما ما جاء في السنة المطهرة مما يؤكد مبدأ المسؤولية الفردية فما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته» متفق عليه.
قال النووي: «قال العلماء: الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه، وما هو تحت نظره، ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء، فهو مطالب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته».اهـ
قال الطيبي: «في هذا الحديث أن الراعي ليس مطلوباً لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك فينبغي ألا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه».
قال ابن حجر: وقال غيره:«دخل في هذا العموم المنفرد الذي لا زوج له ولا خادم ولا ولد، فإنه يصدق عليه أنه راع على جوارحه حتى يعمل بالمأمورات ويجتنب المنهيات فعلاً ونطقاً واعتقاداً، فجوارحه وقواه وحواسه رعيته».
فالأمر خطير؛ إذ إن كل إنسان سيسأل بمفرده عن أعماله ويجازى عليه، ولن ينفعه أو يدفع عنه أفعال الآخرين أو أعذارهم، وعليه أن يعد لكل تصرف جواباً يجيب به ربه، كما جاء في حديث أنس مثل حديث ابن عمر وزاد في آخره: «فأعدوا للمسألة جوابا» قالوا: وما جوابها؟ قال: «أعمال البر» قال ابن حجر: «أخرجه ابن عدي والطبراني في الأوسط وسنده حسن».اهـ
فهذه المقولة: «إذا نظف كل منا أمام بيته صار الشارع نظيفاً» هي مثل بريطاني يصور حقيقة المسؤولية الفردية بصورة تقريبية واضحة وسهلة الفهم؛ حيث إن قيام كل فرد بما كلف به وحده دون انتظار للآخرين سيؤدي في النهاية إلى شيوع النظام واستقامة الأمور، وتقلص الفوضى وانحسار الفساد، أما أن ينتظر كل فرد من غيره أن يقوم بواجباته وواجبات غيره، فهنا تتعطل مصالح المجتمع، ويشيع الفساد، وينمو التواكل والأنانية، وتبرز صفة اللامبالاة وقلة الاهتمام، وهذا يتنافى مع ما قرره الدين من الأخوة الإيمانية في قوله عز وجل: {إنما المؤمنون إخوة}، وما أكده من تلاحم المجتمع وأخذه على أيدي المقصرين والمهملين حتى لا ينهار المجتمع بسبب سوء تصرفهم وقلة فهمهم كما قال صلىالله عليه وسلم :«‏مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» أخرجه البخاري، فالحديث يؤكد أهمية تعاون الجميع لحفظ بقاء المجتمع وسلامته، وأن إهمال البعض أو تقصيره وحتى سلبيته قد يكون سبباً لهلاك المجتمع وفوات مصالحه، فأهم الأمور أن يقوم الفرد بما كلف به تجاه ربه ونفسه والآخرين، إخلاصاً لله تعالى وإحسانا للغير، وإتقاناً للعمل، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-05-24, 11:19 PM
الحكمة ضالة المؤمن (46)

إن خير من استأجرت القوي الأمين




قال عز وجل: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}. ذكر الشيخ ابن سعدي أن الله -عز وجل- يبين في هذه الآية الكريمة عظم شأن الأمانة التي ائتمن عليها المكلفون؛ حيث عرضها- سبحانه- على المخلوقات العظيمة السموات والأرض والجبال، عرض تخيير لا تحتيم، فأبين أن يحملنها خوفاً ألا يقمن بحقها، وعرضها عز وجل على الإنسان بذلك الشرط، وهو إن قام بها أجر وإن لم يؤدها عوقب فقبلها وحملها مع ظلمه وجهله، فانقسم الناس- بحسب قيامهم بها وعدمه - إلى ثلاثة أقسام: منافقون، أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرًا لا باطنًا، ومشركون، تركوها ظاهرًا وباطنًا، ومؤمنون، قائمون بها ظاهرًا وباطنًا، فذكر اللّه تعالى أعمال هؤلاء الأقسام الثلاثة، وما لهم من الثواب والعقاب فقال: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَا تِ وَالْمُشْرِكِين َ وَالْمُشْرِكَات ِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.
والأمانة مفهوم واسع يشمل أمورا كثيرة يغفل عنها بعض الناس، فالأمانة تطلق على الوفاء فهي ضد الخيانة، كما تطلق على الوديعة، والمراد بها هنا كل ما ائتمن عليه الإنسان وأمر بالقيام به، فأمر الله عباده بأدائها كاملة موفرة، لا منقوصة ولا مبخوسة، ولا ممطولاً بها، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله.
وفي القرآن الكريم توجيه بديع إلى أمانة اختيار الأكفاء لتولي مصالح المسلمين، وبيان أسس الولاية وقوامها، وذلك فيما قصه الله عز وجل من قصة موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وسقى للمرأتين فقالت إحداهما لأبيها: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين}.
قال الشيخ ابن سعدي في تفسير الآية الكريمة: «أي: اجعله أجيراً عندك، يرعى الغنم ويسقيها، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} أي: إن موسى أولى من استؤجر، فإنه جمع القوة والأمانة، وخير أجير استؤجر من جمعهما، أي: القوة والقدرة على ما استؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم الخيانة، وهذان الوصفان، ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملاً، بإجارة أو غيرها، فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما، وأما باجتماعهما، فإن العمل يتم ويكمل، وإنما قالت ذلك؛ لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما ونشاطه، ما عرفت به قوته، وشاهدت من أمانته وديانته، وأنه رحمهما في حالة لا يرجى نفعهما، وإنما قصده بذلك وجه اللّه تعالى».
ويبين الشيخ الطاهر بن عاشور أن هذه الكلمة من تلك المرأة صارت مثلاً سائراً، وقاعدة قرآنية يرجع إليها عند تولي المناصب العامة فيقول: «وجملة {إن خير من استأجرت القوي الأمين} علة للإشارة عليه باستئجاره؛ أي لأن مثله من يستأجر. وجاءت بكلمة جامعة مرسلة مثلاً لما فيها من العموم ومطابقة الحقيقة دون تخلف، فالتعريف باللام في: {القوي الأمين} للجنس مراد به العموم، والخطاب في: {من استأجرت} موجه إلى شعيب، وصالح لأن يعم كل من يصلح للخطاب لتتم صلاحية هذا الكلام لأن يرسل مثلاً».
ويوضح شيخ الإسلام أن الأمانة والقوة أمران نسبيان يختلفان بحسب موضوع الولاية وخطرها، وأنه لا يلزم من صلاحية شخص لمكان أن يصلح لكل مكان، بل لابد من النظر إلى طبيعة الولاية وقدرة الشخص على تحقيق مقاصدها، فيقول رحمه الله في السياسة الشرعية: والقوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها، والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.
والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألاّ يشترى بآياته ثمناً قليلاً، وترك خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل حكم على الناس في قوله تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، ولهذا قال النبي [: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، فرجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة» رواه أهل السنن.
اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:«اللهم أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة».
فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور فيها، على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً وإن كان الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قدم الأمين مثل حفظ الأموال ونحوها».
وهنا لابد من الإخلاص لله تعالى في اختيار من يلي أمور المسلمين، والتجرد عن اتباع الهوى على اختلاف صوره، والنظر إلى كفاءة الإنسان وقدرته على تحقيق مقاصد الولاية التي سيتولاها، فليس كل صالح في نفسه يكون صالحاً في ولايته، كما سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو؛ أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزى؟ فقال: «أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
فالاختيار للقرابة أو للصداقة أو للرشوة أو لغيرها من المعايير غير الموضوعية يوقع الإنسان تحت مظلة الخيانة لله تعالى ولرسوله وللمسلمين كما جاء في الأثر: «من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله» وفي رواية: «من قلـد رجلاً عملاً على عصابة أي: جماعة من الناس وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين» رواه الحاكم، وقال عمر رضي الله عنه : «من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين».



اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-05-24, 11:21 PM
الحكمة ضالة المؤمن «47»الدال على الخير كفاعله




من رحمة الله عز وجل بعباده أن شرع لهم من العبادات ما يناسب قدراتهم، فلم يكلفهم فوق طاقتهم، ولم يحملهم إلا وسعهم كما قال عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، ومن رحمته أيضا أنه فتح لهم أبوابا عديدة لكسب الحسنات وتحصيل الدرجات تتناسب مع عجزهم وضعفهم وقصر أعمارهم واختلاف أحوالهم، فأبواب الخيرات متنوعة، ودرجات القرب متعددة، تناسب كل شخص بحسب عمره وعلمه ونوعه وصحته وفراغه كما قال عز وجل: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً}.
ومن هذه الأبواب العديدة لكسب الحسنات ورفع الدرجات «باب الأجور المتراكبة، والحسنات المتضاعفة»، فقد دلت النصوص الشرعية على أن المسلم قد يبذل جهداً محدوداً إلا أنه يعود عليه بحسنات مضاعفة، وأجور غير متناهية، وهذا من عظمة الإسلام، ورحمة الله تعالى بعباده.
فمن هذه الأدلة ما أخرجه مسلم عن زيد بن خالد الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من جهـّز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا»، قال النووي: «أي حصل له أجر بسبب الغزو، وهذا الأجر يحصل بكل جهاد وسواء قليله وكثيره، ولكل خالف له في أهله بخير من قضاء حاجة لهم وإنفاق عليهم أو مساعدتهم في أمرهم، ويختلف قدر الثواب بقلة ذلك وكثرته، وفي هذا الحديث الحث على الإحسان إلى من فعل مصلحة للمسلمين أو قام بأمر من مهماتهم».
وعنْ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ؛ زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ» رواهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ وأخرجه ابن ماجه بلفظ: «زيادة لكم في أعمالكم». فالوصية بالخيرات من أبواب الخير المستمر الذي يجري ثوابه على المسلم ولو بعد موته وانقطاع عمله، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده وإنعامه عليهم.
وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «مَن فطَّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء» رواه الترمذي، فالمسلم الذي يتبرع بإطعام الصائم حين فطره يحصل له مثل أجر الصائم الذي أتعب نفسه وأظمأ جوارحه.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، أَوْ وَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَكْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ» أخرجه ابن ماجه، وهذه الأمور المذكورة في الحديث مما يبقى أثرها بعد موت فاعلها، ولهذا يظل قلم الحسنات جارياً للفاعل ما دام ذلك الأثر باقياً لأنه تسبب في وجودها وبقاء أثرها النافع لمدد طويلة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وغيرها من نصوص تؤكد هذا المبدأ الشرعي، وتقرر هذا الباب العظيم من أبواب كسب الثواب وتحصيل الأجور والحسنات.
ومن هذا الباب ما جاء من أحاديث تدل على أن الدال على الخير له مثل أجر فاعله، فقد أخرج الترمذي عن أنس بن مالك قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يستحمله، فلم يجد عنده ما يتحمله، فدله على آخر فحمله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم : «إن الدال على الخير كفاعله»، ومعنى قوله: «يستحمله» أي: يطلب منه المركب، وقوله «فحمله» أي: أعطاه المركب.
وأخرج مسلم عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله»، ومعنى قوله: «من دل» أي بالقول أو الفعل أو الإشارة أو الكتابة «على خير» أي علم أو عمل مما فيه أجر وثواب «فله» أي فللدال «مثل أجر فاعله» أي من غير أن ينقص من أجره شيء.
قال الإمام النووي في شرحه على هذا الحديث: «فيه فضيلة الدلالة على الخير، والتنبيه عليه، والمساعدة لفاعله، وفيه فضيلة تعليم العلم، ووظائف العبادات ولاسيما لمن يعمل بها من المتعبدين وغيرهم، والمراد بـ«مثل أجر فاعله» أن له ثواباً بذلك الفعل كما أن لفاعله ثواباً، ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء».
وأخرج مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ فَعَلَيْهِ مِن الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ اتَّبَعَ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»، رواه مسلم.
قال الشيخ ابن سعدي: «هذا الحديث وما أشبهه من الأحاديث فيه الحث على الدعوة إلى الهدى والخير، وفضل الداعي، والتحذير من الدعاء إلى الضلالة والغي، وعظم جرم الداعي وعقوبته، والهدى هو العلم النافع والعمل الصالح، فكل من علم علما أو وجـّه المتعلمين إلى سلوك طريق يحصل لهم فيها علم فهو داع إلى الهدى، كل من دعا إلى عمل صالح يتعلق بحق الله، أو بحقوق الخلق العامة والخاصة فهو داع إلى الهدى.
وكل من أبدى نصيحة دينية أو دنيوية يتوسل بها على الدين فهو داع إلى الهدى، وكل من اهتدى في علمه أو عمله، فاقتدى به غيره فهو داع إلى الهدى.
وكل من تقدم غيره بعمل خيري، أو مشروع عام النفع، فهو داخل في هذا النص، وعكس ذلك كله الداعي إلى الضلالة.
فالداعون إلى الهدى هم أئمة المتقين، وخيار المؤمنين، والداعون إلى الضلالة هم الأئمة الذين يدعون إلى النار.
وكل من عاون غيره على البر والتقوى، فهو من الداعين إلى الهدى، وكل من أعان غيره على الإثم والعدوان فهو من الداعين إلى الضلالة».
ولا يخفى أن الله عز وجل قد أمرنا بالتعاون على البر والتقوى فقال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، فالدلالة على الخير، والإرشاد إلى المعروف، مندرج تحت التعاون على البر، والقائم بذلك مع امتثاله لأمر الله تعالى فهو ساع في باب الأجور المضاعفة والحسنات المركبة، وفقنا الله وإياكم للفقه في الدين، والعمل بما فيه من الهدي القويم.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-05-24, 11:22 PM
الحكمة ضالة المؤمن (48)

عند الصباح يحمد القوم السُّرَى







من الأمثال العربية المشهورة قولهم: «عند الصباح يحمد القوم السُّرَى»، والسُّرَى هو سَيْر الليل خاصة، ومعنى المثل: أن الذي يمشي بالليل يَفرَح بمسِيرِه إذا طَلَع النهار، بِخلاف الذي ينام ليله، فإنه يَندم إذا طَلَع النهار، فهو مثل كما يقول الميداني في (مجمع الأمثال) يضرب للرجل يحتمل المشقة رجاء الراحة.
والنصوص الشرعية قد دلت على هذا المعنى أكمل دلالة، وأرشدت إليه بأوضح عبارة، تحث المؤمنين على المبادرة إلى الطاعات، والمسارعة في الخيرات، واغتنام الأوقات؛ لتحصل لهم البركات والحسنات، ولينجوا من الندم والحسرات .
قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}، قال الشيخ ابن سعدي: «أمرهم بالمسارعة إلى مغفرته، وإدراك جنته، التي أعدها للمتقين».
وقال سبحانه: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض}، قال الشيخ ابن سعدي: «أمر بالمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته، وذلك بالسعي في أسباب المغفرة، من التوبة النصوح، والاستغفار النافع، والبعد عن الذنوب ومظانها، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح، والحرص على ما يرضي الله على الدوام، من الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع؛ ولهذا ذكر الله الأعمال الموجبة لذلك فقال: {وجنة عرضها كعرض السماء الأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} والإيمان بالله ورسله يدخل فيه أصول الدين وفروعه».
ومن النصوص القرآنية في هذا المعنى قوله عز وجل: {فاستبقوا الخيرات} قال الشيخ ابن سعدي: «الأمر بالاستباق إلى الخيرات، قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات؛ فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل».
ولا تزال الآيات القرآنية تتوالى في الحض على فعل الخيرات والمبادرة إلى الصالحات فقال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}، قال الشيخ ابن سعدي: «أي: فليتسابقوا في المبادرة إليه بالأعمال الموصلة إليه، فهذا أولى ما بذلت فيه نفائس الأنفاس، وأحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحول الرجال».
وقال سبحانه: {لمثل هذا فليعمل العاملون}، قال الشيخ ابن سعدي: «فهو أحق ما أنفقت فيه نفائس الأنفاس، وأولى ما شمر إليه العارفون الأكياس، والحسرة كل الحسرة، أن يمضي على الحازم وقت من أوقاته وهو غير مشتغل بالعمل، الذي يقرب لهذه الدار، فكيف إذا كان يسير بخطاياه إلى دار البوار؟!».
ومدح الله تعالى المؤمنين بأنهم: {يسارعون في الخيرات} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: في ميدان التسارع في أفعال الخير، همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه، فكل خير سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة انتهزوه وبادروه، قد نظروا إلى أولياء الله وأصفيائه أمامهم ويمنة ويسرة، يسارعون في كل خير، وينافسون الزلفى عند ربهم، فنافسوهم، ولما كان المسابق لغيره المسارع قد يسبق لجده وتشميره، وقد لا يسبق لتقصيره، أخبر تعالى أن هؤلاء من القسم السابقين فقال: {وهم لها سابقون}».
ومن الآيات القرآنية التي تطمئن المؤمن على حسن عاقبته وطيب مآله قوله تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا}، قال القاسمي: «ومن أراد الآخرة، ولها طلب، ولها عمل عملها الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه، فأولئك كان عملهم مشكورا بحسن الجزاء».
ويصور النبي صلى الله عليه وسلم حال المسلم في سعيه إلى الله والدار الآخرة كالمسافر الذي يقطع المراحل ويرغب في الوصول سالما، ويخشى من الانقطاع أو التأخر فقال صلى الله عليه وسلم : «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» أخرجه الترمذي، قال الطيبي في شرح الحديث:» هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لسالك الآخرة؛ فإن الشيطان على طريقه، والنفس وأمانيه الكاذبة أعوانه، فإن تيقظ في مسيره، وأخلص النية في عمله أمن من الشيطان وكيده، ومن قطع الطريق بأعوانه، ثم أرشد إلى أن سلوك طريق الآخرة صعب، وتحصيل الآخرة متعسر لا يحصل بأدنى سعي فقال: «ألا» بالتخفيف للتنبيه «إن سلعة الله» أي من متاعه من نعيم الجنة «غالية» أي رفيعة القدر «ألا إن سلعة الله الجنة» يعني ثمنها الأعمال الباقية المشار إليها بقوله سبحانه: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا}.
وعلى المسلم في سعيه إلى الآخرة ألا يعتمد على نفسه، ولا يركن إلى جهده، بل يتوكل على الله تعالى، ويعلق قلبه ورجاءه به كما قال صلى الله عليه وسلم : «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز» أخرجه مسلم، قال النووي: «معناه: احرص على طاعة الله تعالى، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك، ولا تعجز، ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة».
ويحثنا عمر رضي الله عنه على علو الهمة وصدق العزيمة في السعي للآخرة فقال: «لا تصغرن هممكم؛ فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم».
وضرب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أروع الأمثلة في الاجتهاد ولاسيما مع التقدم في العمر، فكان يصوم حتى يعود كالخلال (العود الذي يخلل به الأسنان) من النحول فقيل له: «لو أجممت نفسك؟ أي: تركتها تستريح فقال: هيهات! إنما يسبق من الخيل المضمرة»، وقد قيل: من طلب الراحة، ترك الراحة.
قال ابن القيم: «وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأنه بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لاشقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده ذلك لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله».
فلا شك أنه عند الصباح يحمد القوم السُّرَى، فيحمد المسلم ربه على توفيقه حين يرى ما أعده له مما لا يخطر له على بال ولا فكر؛ ولهذا يقول أهل الجنة إذا رأوا ما منّ الله عليهم وأكرمهم به: {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}، جعلنا الله وإياكم منهم، وبالله التوفيق .


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-06-12, 09:40 PM
الحكمة ضالة المؤمن (49) هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!




هذه الآية الكريمة من القواعد القرآنية، ومن الحكم الربانية، التي ترغب المؤمن فيما عند ربه، وتبين جزيل كرم الله تعالى، وواسع رحمته، وتحث العبد على بذل وسعه لنيل فضله، والاستكثار من بره وإحسانه.
قال الطبري في تفسيرها: «يقول تَعَالَى ذِكرُهُ: هَلْ ثَوَاب خَوْف مَقَام اللَّه تعالى لِمَنْ خَافهُ فَأَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا عَمَلَهُ، وَأَطَاعَ رَبَّهُ، إِلا أَنْ يُحْسِن إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة رَبُّهُ، بِأَنْ يُجَازِيَهُ عَلَى إِحْسَانه ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا».
ونقل عَنْ قَتَادَة أنه قَال: «عَمِلُوا خَيْرًا فَجُوزُوا خَيْرًا»، وعن مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر أنه قَال في تفسيرها: «هَلْ جَزَاء مَنْ أَنْعَمْت عَلَيْهِ بِالإسْلامِ إِلا الْجَنَّة».
وقَالَ ابْن زَيْد فِي بيان مناسبة الآية لما قبلها: «أَلا تَرَاهُ ذَكَرَهُمْ وَمَنَازِلَهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ ، وَالْأَنْهَارَ الَّتِي أَعَدَّهَا لَهُمْ، وَقَالَ:{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَان إِلَّا الْإِحْسَان} حِين أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَحْسَنَّا إِلَيْهِمْ فأَدْخَلْنَاهُم ُ الْجَنَّةَ».
قال ابن كثير موضحا هذه القاعدة الربانية: «أَي: لِمَنْ أَحْسَنَ الْعَمَل فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْإِحْسَان إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة كَمَا قَالَ تَعَالَى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة}».
ومن الآيات الدالة على هذا الفضل الكبير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا}، قال ابن كثير: «لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَال الأشْقِيَاء ثنَى بِذِكْرِ السُّعَدَاء الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ فِيمَا جَاؤوا بِهِ، وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ، مِنْ الْأَعْمَال الصَّالِحَة فَلَهُمْ جَنَّات عَدْن».
وقال الطبري: «يَقُول تَعَالَى ذِكْره: إِنَّ الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّه وَرَسُوله، وَعَمِلُوا بِطَاعَةِ اللَّه، وَانْتَهَوْا إِلَى أَمْره وَنَهْيه، إِنَّا لَا نُضِيع ثَوَاب مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، فَأَطَاعَ اللَّه، وَاتَّبَعَ أَمْره وَنَهْيه، بَلْ نُجَازِيه بِطَاعَتِهِ وَعَمَله الْحَسَن جَنَّات عَدْن تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار».
وقال سبحانه وتعالى: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}، قال الطبري: «يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ:{وَأَ حْسِنُوا}أحسنوا أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي أَدَاء مَا أَلْزَمتكم مِنْ فَرَائِضِي، وَتَجَنُّب مَا أَمَرْتكمْ بِتَجَنُّبِهِ مِنْ مَعَاصِيَّ، وَمِنْ الإنْفَاق فِي سَبِيلِي، وَعَوْد الْقَوِيّ مِنْكُمْ عَلَى الضَّعِيف ذِي الْخُلَّة، فَإِنِّي أُحِبّ الْمُحْسِنِينَ فِي ذَلِكَ».
ولابد من فهم حقيقة الإحسان وأنواعه ليعرف المسلم مجالاته التي يسعى فيها ليكون من المحسنين الذين يحبهم الله تعالى ويثيبهم على إحسانهم.
وقد وضح الراغب الأصفهاني نوعي الإحسان بقوله: والإحسان يقال على وجهين:
أحدهما: الإنعام على الآخر، يقال: أحسن إلى فلان.
والثاني: إحسان في فعله، وذلك إذا علم علما حسنا، أو عمل عملا حسنا، ومنه قوله تعالى: {الذي أحسن كل شيء خلقه}.
وقال الشيخ ابن سعدي: «الإحسان نوعان: إحسان في عبادة الخالق، بأن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وهو الجد في القيام بحقوق الله على وجه النصح والتكميل لها، وإحسان في حقوق الخلق».
قال: «واعلم أن الإحسان المأمور به نوعان:أحدهما: واجب، وهو الإنصاف، والقيام بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجه عليك من الحقوق».
والثاني: إحسان مستحب، وهو ما زاد على ذلك من بذل نفع بدني، أو مالي، أو توجيه لخير ديني، أو مصلحة دنيوية، فكل معروف صدقة، وكل ما أدخل السرور على الخلق صدقة وإحسان، وكل ما أزال عنهم ما يكرهون، ودفع عنهم ما لا يرتضون من قليل أو كثير، فهو صدقة وإحسان.
فالإحسان: هو بذل جميع المنافع من أي نوع كان، لأي مخلوق يكون، ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسن إليهم، وحقهم ومقامهم، وبحسب الإحسان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحسن وإخلاصه، والسبب الداعي له إلى ذلك.
ومن أجلّ أنواع الإحسان: الإحسان إلى من أساء إليك بقول أو فعل، قال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}.
ومن كانت طريقته الإحسان أحسن الله جزاءه {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}.
وقد وعد الله تعالى عباده المحسنين بالثواب الجزيل فقال سبحانه: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ أَحَادِيث كَثِيرَة عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم تبين أن الحسنى في الآية هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى، منها ما أخرجه مسلم عَنْ صُهَيْب أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم تَلا هَذِهِ الْآيَة: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة} وَقَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة وَأَهْل النَّار النَّار، نَادَى مُنَادٍ: يَأَهْل الْجَنَّة إِنَّ لَكُمْ عِنْد اللَّه مَوْعِدًا يُرِيد أَنْ يُنْجِزكُمُوهُ، فَيَقُولُونَ: وَمَا هُوَ أَلَمْ يُثْقِّل مَوَازِيننَا؟ أَلَمْ يُبَيِّض وُجُوهنَا وَيُدْخِلنَا الْجَنَّة وَيُجِرْنَا مِنْ النَّار؟ قَالَ: فَيَكْشِف لَهُمْ الْحِجَاب فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَاَللَّهِ مَا أَعْطَاهُمْ اللَّه شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَر إِلَيْهِ وَلا أَقَرَّ لأعْيُنِهِمْ».
وأخبر سبحانه أنه لا يضيع أجر المحسنين فقال تعالى: {إنا لا نضيع أجر المحسنين}، قال الطبري: «يَقُول: إِنَّ اللَّه لا يَدَع مُحْسِنًا مِنْ خَلْقه أَحْسَنَ فِي عَمَله فَأَطَاعَهُ فِيمَا أَمَرَهُ وَانْتَهَى عَمَّا نَهَاهُ عَنْهُ، أَنْ يُجَازِيه عَلَى إِحْسَانه وَيثيبهُ عَلَى صَالِح عَمَله».
وثواب الإحسان في الآخرة ما يشتهيه المحسنون، قال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} قال الطبري: «يَقُول تَعَالَى ذِكْره: لَهُمْ عِنْد رَبّهمْ يَوْم الْقِيَامَة، مَا تَشْتَهِيه أَنْفُسهمْ، وَتَلَذّهُ أَعْيُنهمْ {ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ} يَقُول تَعَالَى ذِكْره: هَذَا الَّذِي لَهُمْ عِنْد رَبّهمْ، جَزَاء مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا فَأَطَاعَ اللَّه فِيهَا، وَائْتَمَرَ لِأَمْرِهِ، وَانْتَهَى عَمَّا نَهَاهُ فِيهَا عَنْهُ».
ومن أعظم ثواب الإحسان أن الله تعالى يكون مع المحسنين كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّه مَعَ الَّذِينَ اِتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} قال ابن كثير: «أَي: مَعَهُمْ بِتَأْيِيدِهِ وَنَصْره وَمَعُونَته وَهَدْيه وَسَعْيه، وَهَذِهِ مَعِيَّة خَاصَّة كَقَوْلِهِ: {إِذ يُوحِي رَبّك إِلَى الْمَلَائِكَة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وَقَوْله لِمُوسَى وَهَارُون: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَع وَأَرىَ}.
وختاما، فالمسلم حين يقرأ قوله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} لا يزيده ذلك إلا همة وعزيمة على بلوغ تلك الدرجة لينال ذلك الفضل، مستعينا بالله تعالى مخلصا له، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-06-12, 09:44 PM
الحكمة ضالة المؤمن (50)

بئس مطية الرجل: زعموا



فرضت طبيعة العصر المتسارعة، وغلبة التقنيات الحديثة على وسائل الاتصال المتنوعة نمطاً جديداً من الحياة، وصبغت حياة الناس بأساليب جديدة من التفكير والتواصل، فالهواتف الذكية وما فيها من نظم مدهشة ساعدت في سرعة انتشار الأخبار، وسهولة متابعة الأحداث - الشخصية والمحلية والعالمية - وإمكانية التعبير عن الرأي في كل جليل وتافه من الأمور، جعلت كثيرا من مقتنيها أسرى لتلك الأجهزة لا يملكون فكاكاً منها ، ولا خلاصا لعقولهم ولا قلوبهم من سحرها.
ومن الآفات التي نتجت عن بعض تلك الممارسات، العجلة في نشر الأخبار، والتسرع في التعليق على الأحداث دون تثبت ولا روية، وأحيانا بنشر الشائعات، وتلفيق الوقائع وتزوير الحقائق، ولاسيما بدء الكلام بـ: يقولون، وقالوا، وسمعنا، وغيرها من كلمات تدل على نقل غير موثق ، وخبر غير دقيق.
والشرع المطهر يذم النقل بلا روية، ونشر الأخبار بغير تثبت ، لما يترتب على ذلك مفاسد وأضرار عاجلة وآجلة، وقد دل على هذا المعنى أدلة كثيرة منها:
1- قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، قال القرطبي: نادمين على العجلة وترك التأني».
وقال الشيخ ابن سعدي: «الواجب عند خبر الفاسق التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه عمل به وصدق، وإن دلت على كذبه كذب، ولم يعمل به، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه».
2- قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} الآية، أخرج الترمذي عن ابن عباس قال: مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلومعه غنم فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم، فقاموا فقتلوه، وأخذوا غنمه ، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال الشيخ ابن سعدي: «يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة، فإن الأمور قسمان: واضحة وغير واضحة. فالواضحة البيِّنة لا تحتاج إلى تثبت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل.
وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين، ليعرف هل يقدم عليها أم لا؟ فإن التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف لشرور عظيمة، ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها قبل أن يتبين له حكمها، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي، كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية لمـَّا لم يتثبتوا وقتلوا من سلم عليهم».
3- وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلا} .
قال الشيخ ابن سعدي: «هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي: والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك. وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا،فيحجم عنه؟»
4- وقال صلى الله عليه وسلم : «التأني من الله، والعجلة من الشيطان»، قال ابن القيم: «إنما كانت العجلة من الشيطان لأنها خفة وطيش ، وحدّة العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم وتوجب وضع الشيء في غير محله وتجلب الشرور».
5- وقال حذيفة لأبي مسعود: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في «زعموا»؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :» بئس مطية الرجل زعموا»، فالمقصود أن جعل المتحدث كلمة (زعموا) مقدمة لكلامه، ووسيلة لأغراضه أمر مستقبح، لأنه قد يجر إلى الكذب أو الخطأ وكلاهما مذموم.
قال ابن الأثير في النهاية: «ومعناه:أن الرجل إذا أراد المسير إلى بلد والظعن في حاجة ركب مطيته، وسار حتى يقضي إربه، فشبه ما يقدمه المتكلم أمام كلامه، ويتوصل به إلى غرضه من قوله: زعموا كذا وكذا بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة، وإنما يقال: زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه، وإنما يحكى على الألسن على سبيل البلاغ، فذم من الحديث ما كان هذا سبيله، والزعم - بالضم والفتح - قريب من الظن».
وفي الآداب الشرعية لابن مفلح: قال ابن الجوزي في تفسيره: كان ابن عمر يقول: زعموا: كنية الكذب، وكان مجاهد يكره أن يقول الرجل: زعم فلان.
وجاء في شرح الأدب المفرد :»فقه الحديث: إن الإخبار بخبر مبناه على الشك والتخمين دون الجزم واليقين قبيح، بل ينبغي أن يكون لخبره سند وثبوت، ويكون القائل على ثقة من ذلك، لا مجرد حكاية على ظن وحسبان، وفي المثل: «زعموا مطية الكذب».
وقال ابن بدران: «ومعناه: ذم الإنسان الذي يحكي ما لم يعلم صدقه، فيقول: قال فلان كذا ، ولا حجة له على صدقه، والمقصود: الأمر بأن يتثبت الإنسان فيما يحكيه، ويحتاط فيما يرويه، قال ابن بطال: إن من أكثر الحديث لما لم يعلم صدقه، لم يؤمن عليه الوقوع في الكذب، فبئست هذه اللفظة مطية لما لا يعلم، فإنها تؤدي إلى الكذب».
فواجب المسلم - عموما - ومستعملي الهواتف الذكية على وجه الخصوص التثبت في نقل الأخبار والروية قبل نشر الآراء والأقوال، والله المستعان.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-06-18, 10:42 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (51)

من أضاع ساعة من الزمن أضاع سنة




يعجب المتأمل من تفنن بعض الناس في هدر الأوقات، وتضييع الساعات في أمور هامشية، لا تعود عليهم بصلاح دينهم ولا دنياهم.

فتجد كثيرا منهم يجوبون الأسواق بلا حاجة يشترونها ولا مصلحة يقضونها، أو يجلسون ساعات طويلة في المقاهي أو أمام التلفاز أو أجهزة الحاسب الآلي أو أجهزة الاتصال الذكية في غير منفعة دينية ولا دنيوية، إن لم يكن في ذلك تحصيل الآثام أو اكتساب السيئات.
ولعل من أسباب هذه الظاهرة (الوفرة المادية) -ولله الحمد- التي أنعم الله تعالى بها علينا في مجتمعنا، بحيث أصبح الإنسان مكفيا في رزقه، حتى من لا يعمل كالطلبة أو العجزة ونحوهم قد تكفلت الدولة مشكورة بالإنفاق عليهم؛ ولهذا فإن وقت الفراغ متوافر جدا لدى كثير من الناس، فضلاً عن الأمن والشعور بالحرية مما يجعل بال الإنسان هادئا فارغا من الهموم والشواغل؛ لذا فكثير من الناس لا يعرف ما يفعل بوقته فيبادر إلى قتله بسفاسف الأمور.
والسنة المطهرة تؤكد أن تضييع الأوقات من الخسارة الفادحة التي سيندم عليه صاحبها، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ» أخرجه البخاري، قال شراح الحديث: أي: الصحة وفراغ الخاطر بحصول الأمن. والمعنى لا يعرف قدر هاتين النعمتين كثير من الناس؛ حيث لا يكسبون فيهما الأعمال الكافية لما يحتاجون إليه في معادهم، فيندمون على تضييع أعمارهم عند زوالها، ولا ينفعهم الندم، قال تعالى: {ذلك يوم التغابن}، وقال صلى الله عليه وسلم : «ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله فيها».
وقال ابن حجر مبينا معنى النعمة: «هي الحالة الحسنة»، ثم نقل عن ابن بطال أنه قال: «معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغا حتى يكون مكفيا صحيح البدن؛ فمن حصل له ذلك فليحرص على ألا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومن شكره امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فمن فرط في ذلك فهو المغبون، وأشار بقوله: «كثير من الناس» إلى أن الذي يوفق لذلك قليل، وقال ابن الجوزي: «قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون؛ لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم».
فالأوقات ثمينة، والساعات عزيزة، فواجب المسلم أن يملأ وقته بالخيرات، ويبادر بالطاعات كما قال تعالى: {فاستبقوا الخيرات}، وقال صلى الله عليه وسلم : «اغتنم خمسا قبل خمس؛ شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».
ولا بد من تنظيم الوقت، وترتيب الأولويات، فيعرف المسلم وظيفة كل وقته وحقه، فقد قال أبو بكر رضي الله عنه موصيا عمر رضي الله عنه : «إن لله حقا بالنهار لا يقبله بالليل، وحقا بالليل لا يقبله بالنهار»، وقال بعض الصالحين: «أوقات العبد أربعة لا خامس لها: النعمة والبلية والطاعة والمعصية، ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية، يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية».
ومن ألزم الأمور الحذر من الغفلة وبلادة الحس بأهمية الوقت والحياة، فالله تعالى يحذرنا من الغفلة وأهلها فقال سبحانه: {ولا تكن من الغافلين}، وقال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}، وكان من دعاء عمر رضي الله عنه : «اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، ولا تجعلنا من الغافلين».
وكذلك لابد من الحذر من التأجيل والتسويف ولا سيما في أعمال الخير، قال الحسن: «إياك والتسويف؛ فإنك بيومك ولست بغدك، فإن يكن لك غد فكن في غد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن لك غد لم تندم على ما فرطت في اليوم».
ومن المهم أن يعلم المسلم أنه مسؤول عن وقته وعمره كما أكد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه».
وختاما فلا شك أن للزمن قيمته، وللعمر أهميته، والسعيد من حفظ وقته، واستدرك ما فاته، والمغبون من أضاع عمره فيما لا ينفع، وأهدر ساعاته فيما لا يجدي، وتأمل هذه الوصية الذهبية من الإمام ابن القيم رحمه الله في كيفية حفظ الأوقات واستدراك ما فات حيث قال: «إن في وقت بين الوقتين وهو في الحقيقة عمرك وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل، فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار، وذلك شيء لا تعب فيه ولا نصب ولا معاناة عمل شاق إنما هو عمل قلب، وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب، وامتناعك ترك وراحة ليس هو عملا بالجوارح يشق عليك معاناته، وإنما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وقلبك وسرك، فما مضى تصلحه بالتوبة، وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية، وليس للجوارح في هذين نصب ولا تعب، ولكن الشأن في عمرك، وهو وقتك الذي بين الوقتين، فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك، وإن أصلحته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم، وحفظه أشق من إصلاح ما قبله وما بعده، فإن حفظه أن تلزم نفسك ما هو أولى بها وأنفع لها، وفي هذا تفاوت الناس أعظم تفاوت، فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك، إما إلى الجنة وإما إلى النار».

وكل ما سبق يؤكد حقيقة ذلك المثل السويسري الذي يقول: «من أضاع ساعة من الزمن أضاع سنة»، فمن تعود إضاعة اللحظات هان عليه فوات الساعات،ثم يسهل عليها ضياع الأيام والسنوات، ووقته كان رصيدا له صرفه بلا منفعة دنيوية ولا دينية ولا أخروية، فهو حقا مغبون خاسر، نسأل الله تعالى أن يرزقنا عمارة الأوقات بالطاعات.




اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-06-18, 10:43 PM
الحكمة ضالة المؤمن (52)

المال والبنون زينة الحياة الدنيا




من الحكم القرآنية التي جرت على ألسن الناس مجرى الأمثال الحكيمة قوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا}، فتجد كثيرا ما يردد الناس هذه الآية إما في سياق تذكر نعم الله تعالى عليهم حثا لأنفسهم ولغيرهم على شكرها والقيام بحقها، وإما في سياق التحسر على فواتها وخلو النفس منها ورجاء لله تعالى أن يكرمهم بها .

وقد تكرر في القرآن الكريم ذكر المال والبنين في مواضع عديدة، وعند جمع تلك الآيات، والتأمل في تلك المناسبات، مع الرجوع إلى كلام المفسرين المعتبرين يتجلى بعض الفوائد والحكم التي تمس الحاجة إلى معرفتها، ويتأكد العمل بمقتضاها، من تلك الفوائد :
أولاً: الأموال والأولاد رزق من الله عز وجل:
فالله سبحانه وتعالى خالق كل شيء ومالكه ، فهو سبحانه بيده خزائن كل شيء كما قال تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم}، قال الشيخ ابن سعدي: أي: جميع الأرزاق، وأصناف الأقدار، لا يملكها أحد إلا الله، فخزائنها بيده، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، بحسب حكمته ورحمته الواسعة.
وقال عز وجل: {لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير}، قال الشيخ ابن سعدي: هذه الآية فيها إخبار عن سعة ملكه تعالى، ونفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء، والتدبير لجميع الأمور، فالله تعالى هو الذي يعطيهم من الأولاد ما يشاء.
وقال تعالى وهو يعدد نعمه على عباده: {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات}، قال الشيخ ابن سعدي: يخبر تعالى عن منته العظيمة على عباده، حيث جعل لهم أزواجا، ليسكنوا إليها، وجعل لهم من أزواجهم أولادا تقر بهم أعينهم ويخدمونهم، ويقضون حوائجهم، وينتفعون بهم من وجوه كثيرة، ورزقهم من الطيبات، من المآكل والمشارب والنعم الظاهرةـ التي لا يقدر العباد على أن يحصوها.
وقال سبحانه مخاطبا بني إسرائيل: {وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا}، وقال على لسان نوح عليه السلام: {ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا}.
فعلى المسلم أن يسأل الله تعالى من فضله، ويدعوه أن يهب له ما يريد من الأموال والأولاد؛ لأنه وحده القادر على ذلك، فلا يسأل غير الله، ولا يرجو أحدا سواه كما قال صلى الله عليه وسلم : «إذا سألت فاسأل الله».
ثانياً: على المسلم حسن توجيه الأموال والأبناء:
من شكر النعمة العمل بها على ما يرضي المنعم، وعدم صرفها فيما يسخطه، فواجب المسلم أن يحسن تدبير أمواله كسبا وحفظا وصرفا كما قال تعالى:{يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}، وقال صلى الله عليه وسلم : «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم»، وجاءت نصوص كثيرة في تحريم المكاسب المحرمة ، والتبذير والإسراف في أنفاق الأموال .
وكذلك من واجب المسلم حسن تربية أولاده وتنشئتهم على القيم الكريمة والأخلاق الحميدة التي جاء بها الدين الحنيف، كما قال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا}، قال الشيخ ابن سعدي: وقاية الأنفس بإلزامها أمر الله امتثالا، ونهيه اجتنابا، والتوبة عما يسخط الله، ويوجب العذاب، ووقاية الأهل والأولاد، بتأديبهم، وتعليمهم، وإجبارهم على أمر الله، فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر الله به في نفسه، وفيمن تحت ولايته وتصرفه.
ثالثاً: الحذر من الاغترار بالمال والبنين:
كثرة الأموال والأنصار - أحيانا - تكون سببا للطغيان وظلم الناس، كما قال عزوجل: {أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات}، قال الشيخ ابن سعدي: أي: أيظنون أن زيادتنا إياهم بالأموال والأولاد دليل على أنهم من أهل الخير والسعادة، وأن لهم خير الدنيا والآخرة، وهذا مقدم لهم؟! ليس الأمر كذلك {بل لا يشعرون}، أنما نملي لهم ونمهلهم ونمدهم بالنعم حتى يزدادوا إثما وليتوفر عقابهم في الآخرة.
ولهذا حذرنا القرآن من ذلك فقال عز وجل: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين}، قال الشيخ ابن سعدي: يخبر تعالى عن حالة الأمم الماضية المكذبة للرسل أنها كحال هؤلاء الحاضرين المكذبين لرسولهم محمد[، كفر به مترفوها، وأبطرتهم نعمتهم وفخروا بها {محتجين} بأنهم ليسوا بمبعوثين، ولو بعثوا فالذي أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا سيعطيهم أكثر من ذلك في الآخرة ولا يعذبهم، فأجابهم الله تعالى بأن بسط الرزق وتضييقه ليس دليلا على ما زعمتم؛ فإن الرزق تحت مشيئة الله فقال: {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون} .
وحقيقة الأمر في هذه المسألة ما قاله تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}، فالنجاة عند الله تعالى في امتثال أمره لا بالمفاخرة بنعمه.
والمال والبنون مما فطر الإنسان على حبه كما قال عز وجل: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة}، إلا أن المسلم يحذر من تفضيل الزينة الفانية على الحقيقة الباقية، قال الشيخ ابن سعدي: أخبر سبحانه عن حالة الناس في إيثار الدنيا على الآخرة، وبين التفاوت العظيم، والفرق الجسيم بين الدارين، فأخبر أن الناس زينت لهم هذه الأمور، فرمقوها بالأبصار، واستحلوها بالقلوب، وعكفت على لذاتها النفوس، كل طائفة من الناس تميل إلى نوع من هذه الأنواع، قد جعلوها هي أكبر همهم، ومبلغ علمهم، وهي -مع هذا- متاع قليل، منقض في مدة يسيرة فهذا {متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}.
قال القرطبي: قوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا}، وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لأن في المال جمالا ونفعا، وفي البنين قوة ودفعا ، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين; لأن المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة فلا تتبعوها نفوسكم، وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى ، كالهشيم حين ذرته الريح; إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعدة الآخرة، وكان يقال: لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك، ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدا لغيرك، ويكفي في هذا قول الله تعالى:{إنما أموالكم وأولادكم فتنة}، وقال تعالى :{إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم}، فواجب المسلم شكر الله تعالى على ما حباه من أموال وبنين، وجعلهما قنطرة إلى الدار الآخرة، {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-06-25, 11:23 PM
الحكمة ضالة المؤمن (52)

المال والبنون زينة الحياة الدنيا




من الحكم القرآنية التي جرت على ألسن الناس مجرى الأمثال الحكيمة قوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا}، فتجد كثيرا ما يردد الناس هذه الآية إما في سياق تذكر نعم الله تعالى عليهم حثا لأنفسهم ولغيرهم على شكرها والقيام بحقها، وإما في سياق التحسر على فواتها وخلو النفس منها ورجاء لله تعالى أن يكرمهم بها .

وقد تكرر في القرآن الكريم ذكر المال والبنين في مواضع عديدة، وعند جمع تلك الآيات، والتأمل في تلك المناسبات، مع الرجوع إلى كلام المفسرين المعتبرين يتجلى بعض الفوائد والحكم التي تمس الحاجة إلى معرفتها، ويتأكد العمل بمقتضاها، من تلك الفوائد :
أولاً: الأموال والأولاد رزق من الله عز وجل:
فالله سبحانه وتعالى خالق كل شيء ومالكه ، فهو سبحانه بيده خزائن كل شيء كما قال تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم}، قال الشيخ ابن سعدي: أي: جميع الأرزاق، وأصناف الأقدار، لا يملكها أحد إلا الله، فخزائنها بيده، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، بحسب حكمته ورحمته الواسعة.
وقال عز وجل: {لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير}، قال الشيخ ابن سعدي: هذه الآية فيها إخبار عن سعة ملكه تعالى، ونفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء، والتدبير لجميع الأمور، فالله تعالى هو الذي يعطيهم من الأولاد ما يشاء.
وقال تعالى وهو يعدد نعمه على عباده: {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات}، قال الشيخ ابن سعدي: يخبر تعالى عن منته العظيمة على عباده، حيث جعل لهم أزواجا، ليسكنوا إليها، وجعل لهم من أزواجهم أولادا تقر بهم أعينهم ويخدمونهم، ويقضون حوائجهم، وينتفعون بهم من وجوه كثيرة، ورزقهم من الطيبات، من المآكل والمشارب والنعم الظاهرةـ التي لا يقدر العباد على أن يحصوها.
وقال سبحانه مخاطبا بني إسرائيل: {وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا}، وقال على لسان نوح عليه السلام: {ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا}.
فعلى المسلم أن يسأل الله تعالى من فضله، ويدعوه أن يهب له ما يريد من الأموال والأولاد؛ لأنه وحده القادر على ذلك، فلا يسأل غير الله، ولا يرجو أحدا سواه كما قال صلى الله عليه وسلم : «إذا سألت فاسأل الله».
ثانياً: على المسلم حسن توجيه الأموال والأبناء:
من شكر النعمة العمل بها على ما يرضي المنعم، وعدم صرفها فيما يسخطه، فواجب المسلم أن يحسن تدبير أمواله كسبا وحفظا وصرفا كما قال تعالى:{يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}، وقال صلى الله عليه وسلم : «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم»، وجاءت نصوص كثيرة في تحريم المكاسب المحرمة ، والتبذير والإسراف في أنفاق الأموال .
وكذلك من واجب المسلم حسن تربية أولاده وتنشئتهم على القيم الكريمة والأخلاق الحميدة التي جاء بها الدين الحنيف، كما قال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا}، قال الشيخ ابن سعدي: وقاية الأنفس بإلزامها أمر الله امتثالا، ونهيه اجتنابا، والتوبة عما يسخط الله، ويوجب العذاب، ووقاية الأهل والأولاد، بتأديبهم، وتعليمهم، وإجبارهم على أمر الله، فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر الله به في نفسه، وفيمن تحت ولايته وتصرفه.
ثالثاً: الحذر من الاغترار بالمال والبنين:
كثرة الأموال والأنصار - أحيانا - تكون سببا للطغيان وظلم الناس، كما قال عزوجل: {أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات}، قال الشيخ ابن سعدي: أي: أيظنون أن زيادتنا إياهم بالأموال والأولاد دليل على أنهم من أهل الخير والسعادة، وأن لهم خير الدنيا والآخرة، وهذا مقدم لهم؟! ليس الأمر كذلك {بل لا يشعرون}، أنما نملي لهم ونمهلهم ونمدهم بالنعم حتى يزدادوا إثما وليتوفر عقابهم في الآخرة.
ولهذا حذرنا القرآن من ذلك فقال عز وجل: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين}، قال الشيخ ابن سعدي: يخبر تعالى عن حالة الأمم الماضية المكذبة للرسل أنها كحال هؤلاء الحاضرين المكذبين لرسولهم محمد[، كفر به مترفوها، وأبطرتهم نعمتهم وفخروا بها {محتجين} بأنهم ليسوا بمبعوثين، ولو بعثوا فالذي أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا سيعطيهم أكثر من ذلك في الآخرة ولا يعذبهم، فأجابهم الله تعالى بأن بسط الرزق وتضييقه ليس دليلا على ما زعمتم؛ فإن الرزق تحت مشيئة الله فقال: {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون} .
وحقيقة الأمر في هذه المسألة ما قاله تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}، فالنجاة عند الله تعالى في امتثال أمره لا بالمفاخرة بنعمه.
والمال والبنون مما فطر الإنسان على حبه كما قال عز وجل: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة}، إلا أن المسلم يحذر من تفضيل الزينة الفانية على الحقيقة الباقية، قال الشيخ ابن سعدي: أخبر سبحانه عن حالة الناس في إيثار الدنيا على الآخرة، وبين التفاوت العظيم، والفرق الجسيم بين الدارين، فأخبر أن الناس زينت لهم هذه الأمور، فرمقوها بالأبصار، واستحلوها بالقلوب، وعكفت على لذاتها النفوس، كل طائفة من الناس تميل إلى نوع من هذه الأنواع، قد جعلوها هي أكبر همهم، ومبلغ علمهم، وهي -مع هذا- متاع قليل، منقض في مدة يسيرة فهذا {متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}.
قال القرطبي: قوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا}، وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لأن في المال جمالا ونفعا، وفي البنين قوة ودفعا ، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين; لأن المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة فلا تتبعوها نفوسكم، وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى ، كالهشيم حين ذرته الريح; إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعدة الآخرة، وكان يقال: لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك، ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدا لغيرك، ويكفي في هذا قول الله تعالى:{إنما أموالكم وأولادكم فتنة}، وقال تعالى :{إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم}، فواجب المسلم شكر الله تعالى على ما حباه من أموال وبنين، وجعلهما قنطرة إلى الدار الآخرة، {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-06-25, 11:24 PM
الحكمة ضالة المؤمن (53)

الحلال بيّـن والحرام بيّـن




من الأحاديث العظيمة، والحكم النبوية النفيسة حديث النعمان بن بشير الذي هو قاعدة من قواعد الدين، وأصل عظيم من أصوله، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بيّـن وإن الحرام بيّـن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (متفق عليه واللفظ لمسلم).
قال النووي: أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث وكثرة فوائده، وسبب عظم موقعه أنه صلى الله عليه وسلم نبه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها، وأنه ينبغي ترك المشتبهات فإنه سبب لحماية دينه وعرضه.
وقال ابن حجر: وقد عظم العلماء أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة أحاديث تدور عليها الأحكام، قال القرطبي: لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه.
وقد دل الحديث على تميز الحلال البيّـن والحرام البيّـن، فالحلال المحض بيّـن لا اشتباه فيه، مثل أكل الطيبات من الزروع والثمار وبهيمة الأنعام والأشربة الطيبة والألبسة المباحة والأنكحة المشروعة والمكاسب الطيبة، كما قال تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات}، وقال عز وجل: {كلوا من طيبات ما رزقناكم}.
والحرام المحض بيّـن لا اشتباه فيه، مثل أكل الميتة والدم والخنزير وشرب الخمر ونكاح المحارم والزنى ولبس الحرير للرجال والمكاسب الخبيثة كالربا والقمار والسرقة والغصب وأكل أموال الناس بالباطل.
قال ابن رجب: فما ظهر بيانه واشتهر وعلم من الدين بالضرورة لم يبق فيه شك ولا يعذر أحد بجهله في بلد يظهر فيه الإسلام، وما كان بيانه دون ذلك فمنه ما يشتهر بين حملة الشريعة خاصة وقد يخفى على من ليس منهم، ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضا فاختلفوا في تحليله وتحريمه.
وقد أشار الحديث إلى هذا المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم : «وبينهما مشتبهات»، وفي لفظ للبخاري: وبينهما أمور مشتبهة، قال ابن حجر: أي شبهت بغيرها مما لم يتبين به حكمها على التعيين، وقال النووي: المشتبهات معناه أنها ليست بواضحة الحل والحرمة؛ ولهذا لا يعرفها كثير من الناس أما العلماء فيعرفون حكمها، وقال ابن رجب: وقد فسر الإمام أحمد الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام - يعني الحلال المحض والحرام المحض - وقال : من اتقاها فقد استبرأ لدينه، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام.
وقد يكون سبب اشتباه بعض الأمور:
1- تعارض النصوص في ظاهرها بين الإباحة والحظر.
2- وقد يكون سبب الاشتباه عدم ظهور سبب الحل أو المنع كما قال صلى الله عليه وسلم : «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها» (متفق عليه).
3- وقد يقع الاشتباه في الحكم لكون الفرع مترددا بين أصول تجتذبه كتحريم الرجل زوجته فإنه متردد بين تحريم الظهار الذي يوجب الكفارة الكبرى، وتحريم الطلقة الواحدة الذي يتحقق بانقضاء العدة، وتحريم الثلاث الذي لا تباح معه حتى تنكح زوجا غيره، وبين تحريم الرجل ما أحل الله له الذي يوجب الكفارة الصغرى.
وهذه الأمور المشتبهة ليست مشتبهة من كل وجه، بل بيّـن صلى الله عليه وسلم أن أمرها لا يخفى على كل الناس، وإنما يعلم حكمها قلة منهم وهم العلماء الراسخون في العلم، فالشبهات على هذا تكون في حق غيرهم، وقد تقع لهم حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد الدليلين، قال ابن رجب: وكلام النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذه المشتبهات من الناس من يعلمها، وكثير منهم لا يعلمها، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان: أحدهما: من يتوقف فيها لاشتباهها عليه، والثاني: من يعتقدها على غير ما هي عليه.
وقد بين الحديث مواقف الناس من المتشابهات:
فالأول: من كان عالما بها وبحكمها وعمل بما دل عليه علمه من حل أو حرمة فهذا أفضل الأقسام لأنه علم حكم الله وعمل به.
الثاني: من يتقي الشبهات لاشتباهها عليه ابتغاء مرضات الله وتحرزا من الإثم فقد استبرأ لدينه وعرضه، أي: طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين الذي يحصل لمن لا يجتنبها، كما قيل: من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء الظن به، وقد جاء في رواية البخاري: «فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك».
الثالث: من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهة عنده فقد وقع في الحرام، وقد فسر ذلك ابن رجب بقوله: وهذا يفسر في معنيين: أن يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنها (شبهة) ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدريج والتسامح، وفي رواية البخاري: «ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، أو أن من أقدم على ما هو ما هو مشتبه عنده لا يدري أهو حلال أم حرام، فإنه لا يأمن أن يكون حراما في نفس الأمر فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام».
ولهذا جاءت الآثار عن السلف في التحذير والتوقي من المتشابهات، قال ابن عمر: إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها. وقال أبو الدرداء: تمام التقوى أن يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه من مثقال الذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما حجابا بينه وبين الحرام.
وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام، وقال الثوري: إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى.
وقد ختم الحديث بقاعدة عظيمة توضح الأصل الذي ينطلق منه المسلم عند اعتراض المتشابهات لطريقه فقال صلى الله عليه وسلم : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه المحارم واتقاءه الشبهات إنما يكون بحسب صلاح قلبه، والعكس صحيح؛ فإن كان قلبه سليما ليس فيه إلا محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه الله وفيه خشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات وتوقي الشبهات حذرا من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع الهوى فسدت حركات الجوارح، وانبعثت إلى المعاصي والشبهات.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-06-28, 11:34 PM
الحكمة ضالة المؤمن (54)

إذا نزل بك الشر فاقعد به




من الأمثال العربية الحكيمة التي تدل على عقل واع، وأدب راق، ونظر ثاقب، وفكر صائب، قولهم: «إذا نزل بك الشر فاقعد به»، ومعناه - كما يقول ابن منظور - يدور حول معنيين: «أحدهما: أن الشر إذا غلبك فذل له ولا تضطرب فيه، والثاني: إذا انتصب لك الشر ولم تجد منه بدا فانتصب له وجاهده. وقولهم: فاقعد به أي: احلم».

والإنسان في هذه الدنيا لا يخلو من التعرض للفتن والمحن والشرور التي تعترض طريقه، والناس تختلف مواقفها من الشرور والفتن بحسب طبيعة كل منهم، وما يمليه عليه دينه وخلقه وما نشأ عليه من التأني والرفق والحلم، أو الطيش والعجلة والسفه.
فهذا المثل العربي القديم يضرب لمن يؤمر بالحلم وترك التسرع إلى الشر، ومعناه: إذا رأيت شراً مقبلاً، وفتنة ثائرة، فتأن، واحلم، ولا تسارع في الشر، ولا تستشرف له.
والسنة المطهرة تقرر مثل هذا المعنى وتؤكده، قال البخاري في أول كتاب الفتن من صحيحه: «باب قول الله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من الفتن»، يشير رحمه الله إلى ما ورد من أحاديث كثيرة يأمر فيها النبي صلى الله عليه وسلمالمسلم بالرفق والتأني عند ظهور الفتن وكثرتها، منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج» قالوا: يا رسول الله، أيما هو؟ قال: «القتل القتل» متفق عليه.
قال ابن حجر: قوله: «وتظهر الفتن» فالمراد: «كثرتها، واشتهارها، وعدم التكاتم بها».
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرّف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعذ به» متفق عليه، قال ابن حجر: «وفيه التحذير من الفتنة، والحث على اجتناب الدخول فيها، وأن شرها يكون بحسب التعلق بها».
وقال أيضا: «والمراد بالأفضلية في هذه الخيرية من يكون أقل شرا ممن فوقه على التفصيل المذكور، وقوله: «من تشرّف لها» أي: تطلع لها؛ بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يعرض عنها، وقوله: «تستشرفه» أي: تهلكه، بأن يشرف منها على الهلاك، يقال: استشرفت الشيء: علوته وأشرفت عليه، يريد من انتصب لها انتصبت له، ومن أعرض عنها أعرضت عنه، وحاصله: أن من طلع فيها بشخصه، قابلته بشرها».
والنبي صلى الله عليه وسلم يحث على أن يكون المسلم بابا للخير بأنواعه المادية والمعنوية، ولا يكون بابا للشر بأي صورة من صوره، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْر عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ» أخرجه ابن ماجه وحسنه الألباني.
والشر في اللغة: هو السوء والفساد، قال الراغب: «الشر الذي يرغب عنه الكل، كما أن الخير هو الذي يرغب فيه الكل».
قال السندي في شرح الحديث: «المفتاح بكسر الميم آلة لفتح الباب ونحوه، والجمع: مفاتيح ومفاتح أيضا، والمغلاق بكسر الميم هو ما يغلق به، ولا يبعد أن يقدر: «ذوي مفاتيح للخير» أي: إن الله تعالى أجرى على أيديهم فتح أبواب الخير كالعلم والصلاح على الناس حتى كأنه ملّـكهم مفاتيح الخير ووضعها في أيديهم؛ ولذلك قال: جعل الله مفاتيح الخير على يديه».
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يحث المسلم على الرفق والحلم والأناة، وترك الطيش والعجلة والسفه، فقال صلى الله عليه وسلم : «التأني من الله، والعجلة من الشيطان»، وقال صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة» متفق عليه.
فالتأني: عدم العجلة في طلب شيء من الأشياء، والتمهل في تحصيله والترفق فيه، وقد قال بعضهم: «الأناة حصن السلامة، والعجلة مفتاح الندامة».
والحلم هو ضبط النفس عند هيجان الغضب، وقيل: تأخير مجازاة الظالم على ظلمه.
ومن فضل الحلم أنه صفة الأنبياء قال تعالى: {إن إبراهيم لأواه حليم}، وقال قوم شعيب له: {إنك لأنت الحليم الرشيد}، وقال تعالى عن إسماعيل: {وبشرناه بغلام حليم}، والنبي صلى الله عليه وسلم يؤكد هذه الحقيقة بقوله صلى الله عليه وسلم : «السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة» أخرجه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم : «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» متفق عليه.
قال النووي: «فهذا هو الفاضل الممدوح الذي قلّ من يقدر على التخلق بخلقه، ومشاركته في فضيلته، بخلاف الأول، وفي الحديث: كظم الغيظ وإمساك النفس عند الغضب عن الانتصار والمخاصمة والمنازعة».
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فكم أوذي في الله، فكان يقابل الإساءة بالإحسان، ويصفح عن المسيء، ويرفق بالجاهل، ويصبر على السفيه، فعن أبي هريرة أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه يطلب حقه فأغلظ له، فهمّ به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «دعوه فإن لصاحب الحق مقالا» ثم قال: «أعطوه سنا مثل سنه» يعني بعيرا مثل بعيره، فلما لم يجدوا إلا أفضل من بعيره قال صلى الله عليه وسلم : «أعطوه، فإن من خيركم أحسنكم قضاء» متفق عليه، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك، فقلت: بل عليكم السام واللعنة، فقال: «يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» قلت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: «قلت: وعليكم» متفق عليه، وعن أنس قال: «كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر له بعطاء» متفق عليه قال النووي: «فيه احتمال الجاهلين، والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة، وإعطاء من يتألف قلبه، وفيه كمال خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمه وصفحه الجميل».
فالخلاصة أن على المسلم أن يتحلى بالرفق والحلم، ويترك الطيش وهو سرعة الغضب من يسير الأمور، والمبادرة بالبطش، والسرف في العقوبة، ولاسيما عند اختلاط الأمور، وعدم تميز الحقائق، واشتباه الأشياء، فلابد من التمهل وترك العجلة، ومشاورة أهل العلم كما قال تعالى: {وإِذا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}، قال الشيخ ابن سعدي: «وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا، فيحجم عنه؟»، وبالله التوفيق.



اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-07-09, 06:08 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (55)

والصلح خير



لما كان من طبيعة الإنسان عموما الاختلاف والمغالبة والتعدي، فإن قيام المنازعات والخصومات بين الناس أمر حتمي ولابد، وهذا ما يشهد به الواقع؛ فلا يخلو مجتمع بل ولا أسرة أو علاقة بين اثنين من الناس من الخصومة والتنازع التي قد يرفعها دين الشخص أو عقله أو المصلحون، أو قد تستمر إن استحكم فيها الكبر والهوى والبغي والظلم.

ولأن النزاع والصراع شر وفساد، وله ما لا يخفى من النتائج الوخيمة والآثار الأليمة، شرع الله تعالى الصلح لدفع هذا الشقاق ورفع آثاره الضارة بالفرد والمجتمع، فجاءت النصوص الشرعية تحث على الألفة والمحبة، وتنهى عن العداوة والبغضاء؛ لما في الاجتماع والائتلاف من الخير والتمكين، ولما في الشقاق والخلاف من الشر والفساد وتسلط الأعداء.
ولهذا فإن شيخ الإسلام يؤكد أن ائتلاف قلوب المسلمين مقصد من مقاصد الشريعة يقدم على بعض المستحبات، فمصلحة تأليف القلوب أعظم في الدين من بعض المستحبات.
والصلح والإصلاح والمصالحة هي قطع المنازعة، مأخوذة من صلح الشيء، إذا كمل، وهو خلاف الفساد، قال الراغب: والصلح يختص بإزالة النفار بين الناس، يقال: اصطلحوا وتصالحوا، وعلى ذلك وقع الصلح بينهم.
ومجالات الصلح كثيرة ومتعددة تبعا لتعدد مجالات النزاع كما بيّن ذلك ابن حجر بقوله: «الصلح أقسام: صلح المسلم مع الكافر، والصلح بين الزوجين، والصلح بين الفئة الباغية والعادلة، والصلح بين المتغاضبين كالزوجين، والصلح في الجراح كالعفو على مال، والصلح لقطع الخصومة إذا وقعت المزاحمة في الأملاك».
والنصوص الشرعية في فضل الصلح والإصلاح كثيرة منها قوله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}.
قال ابن حجر: «وهو ظاهر في فضل الإصلاح»، وقال ابن سعدي: «أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه».
ثم ذكر أن الله تعالى استثنى أمورا منها: {أَوْ إِصْلَاح بَيْنَ النَّاسِ}، والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره؛ فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض، بل وفي الأديان كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}.
وقال الشيخ ابن سعدي أيضا: «الساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله،كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله، ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير، كما دل على ذلك الاستثناء.
ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص؛ ولهذا قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل جزء من أجزاء الخير؛ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين، وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أو لا؛ لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل».
وعن عبد الله بن حبيب قال: كنت جالسا مع محمد بن كعب القرظي، فأتاه رجل فقال له القوم: أين كنت؟ فقال: أصلحت بين قوم، فقال محمد بن كعب:أصبت، لك مثل أجر المجاهدين ثم قرأ: {لا خير في كثير من نجواهم..} الآية.
ومن النصوص الشرعية قوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير}، قال الشيخ ابن سعدي: «ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى أن الصلح بين مَن بينهما حق أو منازعة في جميع الأشياء أنه خير من استقصاء كل منهما على كل حقه؛ لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح».
ويشير رحمه الله إلى أمر مهم وهو أن كل حكم من الأحكام لا يتم إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه، ومن ذلك (الصلح)، فنبه سبحانه على أن الصلح خير، والخير كل عاقل يطلبه ويرغب فيه، فإن كان - مع ذلك - قد أمر الله به وحثّ عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه، وذكر المانع بقوله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحّ} أي: جبلت النفوس على الشح، وهو: عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا،أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك.
فمتى وفق الإنسان لهذا الخُلُق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب، بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة؛ لأنه لا يرضيه إلا جميع ما له، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر».
وقال تعالى: {فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم)}، وقال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}، وقال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}، وقال سبحانه: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} فكل هذه الآيات الكريمة تدل على فضل الصلح وأهميته.
ومما جاء في فضل الصلح في السنة المطهرة قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا: بلى، قال: «إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة» أخرجه أبو داود
قال في الشرح: «إصلاح ذات البين: أي: أحوال بينكم، يعني ما بينكم من الأحوال ألفة ومحبة، وقيل: المراد بذات البين المخاصمة والمهاجرة بين اثنين بحيث يحصل بينهما بين، أي فرقة، والبين من الأضداد: الوصل والفرق، وفساد ذات البين الحالقة، أي: هي الخصلة التي من شأنها أن تحلق الدين وتستأصله كما يستأصل الموسى الشعر، وفي الحديث حث وترغيب في إصلاح ذات البين واجتناب الإفساد فيها؛ لأن الإصلاح سبب للاعتصام بحبل الله وعدم التفرق بين المسلمين، وفساد ذات البين ثلمة في الدين، فمن تعاطى إصلاحها ورفع فسادها نال درجة فوق ما يناله الصائم القائم المشتغل بخويصة نفسه».
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الناس صدقة» متفق عليه، قال النووي: «يعدل بينهما: يصلح بينهما بالعدل».
وقد باشر النبي صلى الله عليه وسلم الصلح بنفسه، فعن سهل بن سعد أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم» أخرجه البخاري.
وعن أم كلثوم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا» متفق عليه، قال النووي: «ومعناه: ليس الكذاب المذموم الذي يصلح بين الناس، بل هذا محسن».
قال ابن شهاب: «ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها» أخرجه البخاري.
قال النووي: «قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور، واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها، فقالت طائفة: هو على إطلاقه، وأجازوا قول ما لم يكن في هذه الصور للمصلحة، وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة واحتجوا بقول إبراهيم عليه السلام: {بل فعله كبيرهم} و{إني سقيم} وقول منادي يوسف: {أيتها العير إنكم لسارقون}.
وقال آخرون منهم الطبري: لا يجوز الكذب في شيء أصلا، قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا المراد به التورية واستعمال المعاريض لا صريح الكذب، وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه».
وقال ابن حجر: «واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها، وكذا في الحرب في غير التأمين، واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختف عنده، فله أن ينفي كونه عنده، ويحلف على ذلك ولا يأثم، والله أعلم».


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-07-09, 06:09 PM
الحكمة ضالة المؤمن (56)

لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين





يرشد الإسلام أتباعه إلى استعمال عقولهم الرشيدة، وتوجيه أفهامهم السديدة فيما يعود عليهم بصلاح دنياهم وأخراهم، فالله عز وجل قد أمد الإنسان بوسائل الإدراك المختلفة، وجعل له العقل والقلب اللذين يميز بهما ما يرد عليه من خواطر وعلوم ومشاعر ورغبات، ويتنبه إلى ما يحيط به من أخطار وأضرار ومفاسد، فيسلك طريقه سليما مما يؤذيه في دنياه، أو يضره في دينه وأخراه.

فالمسلم أريب، لبيب، فطن، عاقل، من ذوي الأفهام النيـّرة، والأذهان الصافية، وليس بطيء الحس، ولا سقيم الفهم، ولا أغلف القلب، أو أعمى البصيرة.
يدل على هذا المعنى حديث الشيخين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَال: «لاَ يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ».
وهذا الحديث له قصة ذكرها أصحاب الحديث، كما قال النووي وغيره: أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَسَرَ أَبَا عَزَّة الشَّاعِر يَوْم بَدْر، فذكر فقرا وعيالا، فمَـنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ، فعَاهَدَهُ أبو عزة أَلا يُحَرِّض عَلَيْهِ وَلا يَهْجُوهُ، فأطلقَه النبي صلى الله عليه وسلم فَلَحِقَ بقَوْمِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى التَّحْرِيض وَالْهِجَاء، ثُمَّ أَسَرَهُ يَوْم أُحُد،فَسَأَلَه ُ الْمَنّ، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِن لَا يُلْدَغ مِنْ جُحْر مَرَّتَيْنِ» وأمر به فقتل.
قال الحافظ ابن حجر: «فيستفاد من هذا أن الحلم ليس محمودا بإطلاق، كما أن الجود ليس محمودا مطلقا، وقد قال تعالى في وصف الصحابة: {أشداء على الكفار رحماء بينهم}».
فهذا الحديث له أهمية في حياة المسلم، كما قال ابن بطال: «فيه أدب شريف أدّب به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، ونبههم كيف يحذرون مما يخافون سوء عاقبته»، والمسلم يخاف سوء العاقبة في الدنيا قبل الآخرة، والحديث قد دل على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن على المسلم الحذر مما يضره في دينه وآخرته:
فذكر النووي أن المؤمن المراد في الحديث هو الفطن الذي لا يخدع في أمور الآخرة دون الدنيا.
وهو ما ذهب إليه الشيخ ابن سعدي فقال: «هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لبيان كمال احتراز المؤمن ويقظته، وأن المؤمن يمنعه إيمانه من اقتراف السيئات التي تضره مقارفتها، وأنه متى وقع في شيء منها، فإنه في الحال يبادر إلى الندم والتوبة والإنابة.
ومن تمام توبته: أن يحذر غاية الحذر من ذلك السبب الذي أوقعه في الذنب، كحال من أدخل يده في جحر فلدغته حية، فإنه بعد ذلك لا يكاد يدخل يده في ذلك الجحر؛ لما أصابه فيه أول مرة».
وقال أيضا: «وقد حذر الله المؤمنين من العود إلى ما زينه الشيطان من الوقوع في العاصي فقال: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين}، ولهذا فإن من ذاق الشر من التائبين تكون كراهته له أعظم، وتحذيره وحذره عنه أبلغ؛ لأنه عرف بالتجربة آثاره القبيحة».
وقال: «وكما أن الإيمان يحمل صاحبه على فعل الطاعات، ويرغبه فيها، ويحزنه لفواتها، فكذلك يزجره عن مقارفة السيئات، وإن وقعت، بادر إلى النزوع عنها، ولم يعد إلى مثل ما وقع فيه».
الوجه الثاني: أن على المسلم الحذر مما قد يضره في دنياه:
ذكر المحدثون أن هذا الحديث يروى على وجهين:
- أحدهما: بضم الغين على الخبر، ومعناه: المؤمن الممدوح، وهو الكيـّس الحازم الذي لا يستغفل، فيخدع مرة بعد أخرى، ولا يفطن لذلك، قَال النووي: «الرواية المشهورة برفع الغين»، وقال الحافظ ابن حجر: «هو بالرفع على صيغة الخبر، قال الخطابي: قَوله: (لا يُلْدَغ) هَذَا لَفْظه خَبَر وَمَعْنَاهُ أَمْر، أَيْ لِيَكُنْ الْمُؤْمِن حَازِمًا حَذِرًا لَا يُؤْتَى مِنْ نَاحِيَة الْغَفْلَة فَيُخْدَع مَرَّة بَعْد أُخْرَى، وَقَدْ يَكُون ذَلِكَ فِي أَمْر الدِّين كَمَا يَكُون فِي أَمْر الدُّنْيَا، وَهُوَ أَوْلاهُمَا بِالْحَذَر.
والوجه الأخر: بكسر الغين على النهي أن يؤتى من جهة الغفلة.
وعلى هذا فيكون المراد بالمؤمن في هذا الحديث (الكامل)، كما قرره الحافظ، الذي أوقفته معرفته على غوامض الأمور حتى صار يحذر مما سيقع، وأما المؤمن المغفل فقد يلدغ مرارا.
قال الشيخ ابن سعدي: «وفي هذا الحديث: الحث على الحزم والكيس في جميع الأمور، ومن لوازم ذلك: تعرّف الأسباب النافعة ليقوم بها، والأسباب الضارة ليتجنبها، ويدل على الحث على تجنب أسباب الريـّب التي يخشى من مقاربتها الوقوع في الشر».
وذهب بعض العلماء إلى أن معنى الحديث: من أذنب ذنبا فعوقب به في الدنيا فإنه لا يعاقب به في الآخرة.
ويعلق ابن حجر قائلا: إن أراد قائل هذا أن عموم الخبر يتناول هذا فيمكن، وإلا فسبب الحديث يأبى ذلك، ويؤيده قول من قال: فيه التحذير من التغفيل، وإشارة إلى استعمال الفطنة.
وقال أبو عبيد: معناه لا ينبغي للمؤمن إذا نكب من وجه أن يعود إليه. قال ابن حجر: هذا هو الذي فهمه الأكثر ومنهم الزهري راوي الحديث، فأخرج ابن حبان من طريق سعيد بن عبد العزيز قال: وقيل للزهري لما قدم من عند هشام بن عبد الملك: ماذا صنع بك؟ قال: أوفى عني ديني، ثم قال: يا بن شهاب تعود تدّان؟ قلت: لا، وذكر الحديث».
وقد أخرج البخاري تعليقا عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: «لا حكيم إلا ذو تجربة»، وذكر ابن حجر عنه لفظا آخر: «لا حلم إلا بالتجارب»، وساق حديثا ضعيفا وهو: «لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة»، ونقل عن ابن الأثير أن معناه: لا يحصل الحلم حتى يرتكب الأمور ويعثر فيها فيعتبر بها ويستبين مواضع الخطأ ويجتنبها، وقال غيره: المعنى: لا يكون حليما كاملا إلا من وقع في زلة، وحصل منه خطأ، فحينئذ يخجل، فينبغي لمن كان كذلك أن يستر من رآه على عيب فيعفو عنه، وكذلك من جرب الأمور علم نفعها وضررها فلا يفعل شيئا إلا عن حكمة.


والخلاصة أن المسلم ينبغي أن يكون من أكمل الناس عقلا، وأسدهم رأيا، يحسن توجيه نعم ربه إلى ما فيه خيرا الدنيا والآخرة، ويحذر أسباب الشر والفساد وما يضره في دينه ودنياه وآخرته، وبالله التوفيق.



اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-08-09, 10:13 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (57)

أعقل الناس أعذرهم للناس





هذه كلمة حكيمة، ودرة نفيسة، من درر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تدل على فهم عميق للنفس الإنسانية، ومنهج سديد في التربية العملية، للرقي بالمسلم من حضيض الانتقام والتشفي، إلى سمو الصفح والعفو، ليحيا في سلام مع نفسه والآخرين، فيسلم من آفات الغضب والرغبة في الثأر التي تعود عليه بالضرر في بدنه ودينه ودنياه وربما آخرته.

فاللوم والنقد والمقارنة هي القتلة الثلاثة - كما سماها د. إبراهيم الفقي رحمه الله - لما فيها من أثر ضار - كسم الثعبان- يسري في داخل الإنسان وينعكس على تصرفاته، وتسلب منه سعادته وراحة باله واتزانه، وبالتالي تبعده عن أهدافه الحقيقية في تحصيل سعادة الدنيا والآخرة بطاعة الله والتزام دينه.
فبعض الناس يعيش في دائرة اللوم؛ فكثيرا ما يلوم الآخرين على ما يفعلون، ويعذلهم على ما يقولون، ولا ينفك من توجيه توبيخ أو تعنيف أو تقريع ، فالناس منه في شقاء، ونفسه منه في ضيق وكرب.
فقول عمر رضي الله عنه عين الصواب؛ لأن العاقل حين يعذر الناس يتخلص من اللوم والنقد فيحيا في سلام وهدوء، فهو يضع نفسه مكان الآخرين، فيلتمس لهم الأعذار والتبريرات، ولا يحملهم على الكذب لتبرير أفعالهم وأقوالهم فيسلم من تسلط الشك والريب، ويحيا معافى في بدنه وعقله.
والشرع المطهر يقرر هذا الخلق، ويؤكد هذا السلوك في النصوص الشرعية، فمن ذلك قوله تعالى: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}، قال ابن كثير: «فَإِنَّ الْجَزَاء مِنْ جنس الْعَمَل فَكَمَا تَغفِر ذنب مَنْ أَذنَبَ إِلَيك يَغفِر اللَّه لَك، وَكَمَا تَصْفَح يُصْفَح عَنْك».
وقال الشيخ ابن سعدي: «واعف عما صدر منهم لله، فإن من عفا عن عباد الله عفا الله عنه، ومن سامحهم سامحه الله، ومن تفضل عليهم تفضل الله عليه، والجزاء من جنس العمل».
وقال تعالى: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}، قال الطبري: «يَقُول: إِنْ تَعْفُوا أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَمَّا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ صَدّهمْ إِيَّاكُمْ عَنْ الْإِسْلَام وَالْهِجْرَة وَتَصْفَحُوا لَهُمْ عَنْ عُقُوبَتكُمْ إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ, وَتَغْفِرُوا لَهُمْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوب {فَإِنَّ اللَّه غَفُور رَحِيم} لَكُمْ لِمَنْ تَابَ مِنْ عِبَاده, مِنْ ذُنُوبكُمْ {رَحِيم} بِكُمْ أَنْ يُعَاقِبكُمْ عَلَيْهَا مِنْ بَعْد تَوْبَتكُمْ مِنْهَا».
وقال تعالى: {فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين} قال ابن كثير: «وَهَذَا هُوَ عَيْن النَّصْر وَالظَّفر، كَمَا قَالَ بَعْض السَّلَف: مَا عَامَلت مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيك بمِثْلِ أَنْ تُطِيع اللَّهَ فِيهِ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تَأْلِيفٌ وَجَمْعٌ عَلَى الْحَقِّ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يَهْدِيهِم وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّه يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ} يَعنِي بِهِ الصَّفح عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْك».
وانظر إلى صفح يوسف عليه السلام عن إخوته بعد أن فعلوا به ما ذكره الله تعالى من المعاناة والأذى ثم لما تمكن وقدر قال لهم: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، قال ابن كثير: أَيْ لَا تَأْنِيب عَلَيْكُمْ وَلا عَتْبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْم وَلا أُعِيد عَلَيْكُمْ ذَنبكُمْ فِي حَقِّي بَعْد الْيَوْم، ثُمَّ زَادَهُمْ الدُّعَاء لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ فَقَالَ: {يَغْفِر اللَّه لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَم الرَّاحِمِينَ}.
وتأمل صفح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة بعد أن تمكن منهم بعد الفتح فقال لهم: «ما تقولون وما تظنون؟» قالوا: نقول: ابن أخ، وابن عم، حليم، رحيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقول كما قال يوسف: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}، قال أبو هريرة: فخرجوا كأنما نشروا من القبور، فدخلوا في الإسلام .
وهذا ليس بمستغرب من خلقه وهديه صلى الله عليه وسلم، فقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح» أخرجه الترمذي وهو صحيح.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» أخرجه أبو داود وصححه الألباني، قال شراح الحديث: «المراد بذوي الهيئات: أصحاب المروءات والخصال الحميدة، وقيل: ذوو الوجوه من الناس، ومعنى أقيلوا: أي: اعفوا، والعثرات: الزلات، والحديث يندب إلى التجافي عن الزلات وعدم المؤاخذة بالصغائر وما يندر من الخطايا ممن كان حاله الاستقامة وظاهره الصلاح إلا ما يستوجب العقوبة المقدرة شرعا وهي الحدود فلا تساهل فيها.
وفي الأثر قال جعفر بن محمد: إذا بلغك عن أخيك الشيء تـنكره ؛ فالتمس له عذراً واحداً إلى سبعين عذراً، فإن أصبته وإلا قل: لعل له عذراً لا أعرفه.
وقال حمدون القصار: إذا زل أخٌ من إخوانكم فاطلبوا له سبعين عذراً ، فإن لم تقبله قلوبكم فاعلموا أن المعيب أنفسكم؛ حيث ظهر لمسلم سبعون عذراً فلم تقبله.
وقال دِعبل الخُزاعي:


تأنَّ ولا تعجَل بلَومِكَ صاحِبا



لعلَّ له عُذراً وأنتَ تلومُ

والاعتذار كما قال ابن فارس: العذر معروف، وهو طلب الإنسان إصلاح ما أنكر عليه بكلام، وقال الأصفهاني: العذر تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه».
وهو أمر محمود كما قال أبو حاتم البستي: الاعتذار يذهب الهموم، ويجلي الأحزان، ويدفع الحقد، ويذهب الصد، والإقلال منه تستغرق فيه الجنايات العظيمة، والذنوب الكثيرة، والإكثار منه يؤدي إلى الاتهام وسوء الرأي، فلو لم يكن في اعتذار المرء إلى أخيه خصلة تحمد إلا نفي التعجب عن النفس في الحال لكان الواجب على العاقل ألا يفارقه الاعتذار عند كل زلة.
ولهذا فإن الواجب على العاقل - كما يقول أبو حاتم البستي - إذا اعتذر أخوه إليه لجرم مضى، أو لتقصير سبق، أن يقبل عذره، ويجعله كمن لم يذنب؛ لأن من تنصل إليه فلم يقبل أخاف ألا يرد الحوض على المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ومن فرط منه تقصير في سبب من الأسباب يجب عليه الاعتذار في تقصيره إلى أخيه.
وقال أيضاً: لا يخلو المعتذر في اعتذاره من أحد رجلين: إما أن يكون صادقا في اعتذاره، أو كاذبا؛ فإن كان صادقا فقد استحق العفو؛ لأن شر الناس من لم يقل العثرات، ولا يستر الزلات، وإن كان كاذبا فالواجب على المرء إذا علم من المعتذر إثم الكذب وريبته وخضوع الاعتذار وذلته ألا يعاقبه على الذنب السالف، بل يشكر له الإحسان المحدث الذي جاء به في اعتذاره.


فحق المسلم العاقل أن يعيش في سلام مع نفسه ومع الآخرين، فيسامح نفسه ويحيا في صفاء وهدوء، ويعفو عن زلات الناس، ويقبل أعذارهم،ويتغاضى عن عثراتهم، فيكون عفوا، صفوحا، واسع الحلم، رحب الصدر، يحب الناس قربه ، ويأنسون به، ويكون حقا مثالا حيا للمسلم الصالح، وبالله التوفيق.



اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-08-09, 10:16 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (58)

شرف المؤمن صلاته بالليل



قيام الليل هو قضاء الليل ولو ساعة بالصلاة أو غيرها كما قال تعالى: }يأيها المزمل قم الليل إلا قليلا{، والتهجد: هو صلاة التطوع بالليل بعد النوم كما قال تعالى: }ومن الليل فتهجد به نافلة لك{، وقد جاء في فضل قيام الليل نصوص كثيرة، فمن القرآن الكريم:
1- قوله عز وجل في صفة المتقين: {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون}، قال الشيخ ابن سعدي: «من أفضل أنواع الإحسان في عبادة الخالق، صلاة الليل، الدالة على الإخلاص، وتواطؤ القلب واللسان؛ ولهذا قال: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} أي: كان هجوعهم، أي: نومهم بالليل، قليلاً، وأما أكثر الليل، فإنهم قانتون لربهم، ما بين صلاة، وقراءة، وذكر، ودعاء، وتضرع وَبِالْأَسْحَار ِ} التي هي قبيل الفجر {هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الله تعالى، فمدوا صلاتهم إلى السحر، ثم جلسوا في خاتمة قيامهم بالليل، يستغفرون الله تعالى، استغفار المذنب لذنبه، وللاستغفار بالأسحار فضيلة وخصيصة ليست لغيره، كما قال تعالى في وصف أهل الإيمان والطاعة:
وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالْأَسْحَارِ}.
2- قوله عز وجل في صفة عباد الرحمن: {والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما}، قال الشيخ ابن سعدي: «أي: يكثرون من صلاة الليل مخلصين فيها لربهم متذللين له».
3- قوله عز وجل: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: ترتفع جنوبهم، وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة، إلى ما هو ألذ عندهم منه وأحب إليهم، وهو الصلاة في الليل، ومناجاة اللّه تعالى، ولهذا قال: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أي: في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية، ودفع مضارهما، {خَوْفًا وَطَمَعًا} أي: جامعين بين الوصفين، خوفًا أن ترد أعمالهم، وطمعًا في قبولها، خوفًا من عذاب اللّه، وطمعًا في ثوابه،وأما جزاؤهم، فقال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} من الخير الكثير، والنعيم الغزير، والفرح والسرور، واللذة والحبور، كما قال تعالى على لسان رسوله: «أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، فكما صلوا في الليل، ودعوا، وأخفوا العمل، جازاهم من جنس عملهم، فأخفى أجرهم؛ ولهذا قال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
4- قوله عز وجل: {أمّن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} قال ابن سعدي: «قانت أي: مطيع للّه بأفضل العبادات وهي الصلاة، وأفضل الأوقات وهو أوقات الليل، فوصفه بكثرة العمل وأفضله، ثم وصفه بالخوف والرجاء، وذكر أن متعلق الخوف عذاب الآخرة، على ما سلف من الذنوب، وأن متعلق الرجاء، رحمة اللّه، فوصفه بالعمل الظاهر والباطن».
ومن السنة المطهرة جاءت أحاديث كثيرة تحث على قيام الليل، منها:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» أخرجه مسلم.
2- وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم» أخرجه الترمذي، قال الشراح: «أي التهجد فيه هو دأب الصالحين أي: عادتهم وشأنهم، ومكفرة للذنوب وساتر لها، وناه عن ارتكاب الإثم كما قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}.
3- قال صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» أخرجه الترمذي، قال الشراح: «لأنه وقت الغفلة فلأرباب الحضور مزيد المثوبة، أو لبعده عن الرياء والسمعة».
4- قال صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» أخرجه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة، فكن» أخرجه الترمذي.
6- عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها» فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائما والناس نيام» أخرجه الطبراني وقال الألباني: حسن صحيح.
7- عن سهل بن سعد قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا محمد، عش ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس» أخرجه الطبراني وقال الألباني: حسن لغيره. والشرف يطلق على المكان العالي، ويطلق على العلو والمجد، فرفعة المؤمن ومجده بكمال عبوديته لربه بقيام الليل مخلصا.
8- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» أخرجه أبو داود وقال الألباني: صحيح.
ولقيام الليل آداب منها:
1- على المسلم أن ينوي قيام الليل عند نومه لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح، كتب له ما نوى وكان نومه صدقة عليه من ربه» أخرجه النسائي.
2- أن يستاك إذا استيقظ من نومه «فعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام للتهجد من الليل يشوص فاه بالسواك» أخرجه البخاري.
3- يدعو بما ورد، فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتهجد قال: «اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن...» الحديث أخرجه البخاري.
4- أن يفتتح تهجده بركعتين خفيفتين كما تقدم ولقول عائشة: «كان رسول الله إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين» أخرجه مسلم.
5- يستحب أن يوقظ أهله لقوله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى ثم أيقظ امرأته فصلت فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ثم أيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء» أخرجه النسائي.
6- أن يرقد إذا غلبه النعاس لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه» أخرجه مسلم.
7- أن يختم تهجده بالوتر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا» أخرجه مسلم.
8- أن يقضي ورده إذا فاته لمرض أو نوم لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن حزبه أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل» أخرجه مسلم، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثنتي عشرة، ركعة أخرجه مسلم.
نسأل الله أن يعيننا على قيام الليل ويتقبله منا.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-08-21, 04:06 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن (59)

تاجروا الله بالصدقة تربحوا



هذه الكلمة الحكيمة قالها أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، يحث المسلمين على الصدقة ؛ لأن الصّدقة شكر للّه تعالى على نعمه ، وهي دليل لصحّة إيمان مؤدّيها وتصديقه ، ولهذا سمّيت صدقةً، كما قال صلى الله عليه وسلم:« والصدقة برهان»أخرجه مسلم؛ ولأن للصدقة فضائل عديدة، وثمرات كثيرة في الدنيا والآخرة، منها :
1ـ أن صدقة التطوع تكمِّل زكاة الفريضة وتجبر نقصها؛ لقوله عليه السلام: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن كان أتمَّها كتبت له تامة، وإن لم يكن أتمها قال الله لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوِّعٍ فتكملون بها فريضته، ثم الزكاة كذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك»أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الألباني
2ـ والصدقة يحصل بها مضاعفة الأجر على حسب الإخلاص لله تعالى؛ لقول الله : {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }؛ ولحديث أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله : «لك بها يوم القيامة سَبْعمائة ناقةٍ كلها مخطومة».
3ـ والله تعالى يبارك في الصدقة وينميها لقوله صلى الله عليه وسلم:«إن العبد إذا تصدق من طيب تقبلها الله منه وأخذها بيمينه فرباها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله أو قال في كف الله حتى تكون مثل الجبل فتصدقوا». أخرجه ابن خزيمة .
4ـ والصدقة تجلب البركة والزيادة والخلف من الله تعالى، قال الله سبحانه:{ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
وقال صلى الله عليه وسلم :«ما نقصت صدقة من مال»رواه مسلم
5ـ وهي الخير الباقي حقيقة لقوله عليه السلام: «يقول العبد مالي مالي وإنما له من ماله ثلاث؛ ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، ما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس»رواه مسلم
6- والصدقة وقاية من النار فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة» وفي رواية :«من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل» رواه البخاري ومسلم.
7- وعن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لكعب بن عجرة يا كعب بن عجرة الصلاة قربان والصيام جنة والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار يا كعب بن عجرة الناس غاديان فبائع نفسه فموثق رقبته ومبتاع نفسه في عتق رقبته»رواه أبو يعلى بإسناد صحيح
8- وعن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الصدقة لتطفىء عن أهلها حر القبور، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته»رواه الطبراني في الكبير والبيهقي وهو حسن.
9- عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«كل امرىء في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس». قال يزيد فكان أبو الخير مرثد لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو بكعكة أو بصلة رواه أحمد وابن خزيمة
10- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله [: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا مَلَكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً» . متفق عليه
قال القرطبي‏: «وهو يعم الواجبات والمندوبات، لكن الممسك عن المندوبات لا يستحق هذا الدعاء إلا أن يغلب عليه البخل المذموم بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه ولو أخرجه‏».‏
11- والصدقة سبب لقضاء الحاجات، وتفريج الكربات؛ لأن الجزاء من جنس العمل؛ فعن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من نفَّس عن مؤمن كُربَة من كُرب الدنيا نفَّس الله عنه كُربةً من كُربِ يوم القيامة، ومن يسَّر على معسرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».
والصدقة معنى واسع يشمل القربات المالية وغير المالية، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده أن شرع قربات تناسب جميع المسلمين على اختلاف أحوالهم، فالأغنياء والمقتدرون لهم قربات تناسب أحوالهم المالية والبدنية، وكذلك للفقراء والعاجزين قربات تناسب فقرهم وعجزهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة»، فمن أبواب المعروف والصدقة غير المالية:
1ـ العزم المخلص والنية الصادقة، فعن أبي كبشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الدنيا لأربعة نفر؛ عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه ، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية؛ يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته ، فأجرهما سواء» الحديث أخرجه الترمذي .
2- والأذكار مما يعود نفعه على المسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: «فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة» أخرجه مسلم
3- والمشي إلى الصلاة لقوله عليه السلام: «وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة» متفق عليه
4- وصلاة الضحى لقوله صلى الله عليه وسلم: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» متفق عليه
5- ومن الصدقات التي يتعدى نفعها إلى الأخرين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،والكلمة الطيبة، وإعانة المحتاجين، فعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«على كل نفس في كل يوم طلعت عليه الشمس صدقة منه على نفسه، من أبواب الصدقة: التكبير ، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله ، واستغفر الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويعزل الشوك عن طريق الناس والعظم والحجر ، وتهدي الأعمى ، وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه، وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك،» الحديث أخرجه أحمد والنسائي وصححه الألباني.
6- ومن الصدقة التسليم على المسلمين فعن أبي ذر مرفوعا:«يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة، تسليمه على من لقيه صدقة» أخرجه أبو داود وصححه الألباني
7- التبسم في وجه المسلم من الصدقة فعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تبسمك في وجه أخيك لك صدقة» أخرجه الترمذي قال في تحفة الأحوذي:«يعني إظهارك البشاشة والبشر إذا لقيته تؤجر عليه كما تؤجر على الصدقة».
8- وكذلك مشاركة المنفرد صلاته ليحصل له أجر الجماعة من الصدقة، فعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا يصلي وحده فقال:«ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه» أخرجه أبو داود ، قال في عون المعبود:«أي يتفضل عليه ويحسن إليه ليحصل له ثواب الجماعة، فيكون كأنه قد أعطاه صدقة، وسماه صدقة؛ لأنه يتصدق عليه بثواب ست وعشرين درجة».
9- وإذا عجز المسلم عن بذل المعروف فأقل الصدقة هو الامتناع من الشرور وإيذاء الخلق فعن أبي موسى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ» فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ» قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ:» يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ» قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُمْسِكْ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ»أخرجه البخاري
والخلاصة أن التجارة مع الله تعالى رابحة ولا شك متى ما اتصف العمل بالإخلاص والاتباع، وأبواب المعروف والصدقات كثيرة تناسب كل إنسان ، والسعيد من هداه الله ووفقه وأعانه .


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-08-21, 04:08 AM
الحكمة ضالة المؤمن (60)

{واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك}




أنزل الله تعالى القرآن الكريم ليكون هاديا ومرشدا للبشرية إلى سواء السبيل كما قال تعالى:}إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم{، وقال تعالى: }كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد{.
ويتعلق بالقرآن الكريم وظائف عديدة وتكاليف كثيرة، من أهمهما وأعلاها تلاوة القرآن وترتيله، فهي عبادة عظيمة أمر الله تعالى بها ورتب عليها الأجر الجزيل، ومدح أهلها في غير موضع، فقال تعالى: {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور} قال قتادة: «كان مطرف رحمه الله إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القراء ».
وتلاوة القرآن الكريم معنى واسع يشمل القراءة والترتيل، ويشمل العمل به وامتثال أحكامه، فالفعل (تلا) له معان في لغة العرب منها؛ القراءة، يقال: تلا الكتاب تلاوة أي قرأه كقوله تعالى:{قل لو شاء الله ما تلوته عليكم}، ومنها الاتباع، يقال: تلا الرجل إذا تبعه كقوله تعالى:{والقمر إذا تلاها} قال مجاهد: تبعها أي تبع الشمس، فما جاء من الآيات في ذلك من معانيه (القراءة) كما قال تعالى: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك} قال الشوكاني: «أمره الله سبحانه أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحى به إليه»، وقال تعالى مبينا وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن} قال البغوي: «يعني: وأمرت أن أتلو القرآن».
وأيضا من تلاوة القرآن الكريم العمل به كما قال الشيخ ابن سعدي في تفسير قوله تعالى: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك} قال: «التلاوة هي الاتباع، أي: اتبع ما أوحى الله إليك بمعرفة معانيه وفهمها، وتصديق أخباره، وامتثال أوامره ونواهيه.
وقال عند تفسير قوله تعالى:{اتل ما أوحي إليك من الكتاب}: «يأمر تعالى بتلاوة وحيه وتنزيله، وهو هذا الكتاب العظيم، ومعنى تلاوته اتباعه، بامتثال ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه، والاهتداء بهداه، وتصديق أخباره، وتدبر معانيه، وتلاوة ألفاظه، فصار تلاوة لفظه جزءا المعنى وبعضه، وإذا كان هذا معنى تلاوة الكتاب، علم أن إقامة الدين كله، داخلة في تلاوة الكتاب».
فمطلوب من المسلم أن يكثر من قراءة القرآن الكريم، وأن يتدبر معانيه، ويعمل بأحكامه، ويجتنب نواهيه، ويتحلى بأخلاقه بقدر استطاعته كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة كقوله تعالى: {اتل ما أوحي إليك من كتاب ربك} وقال:{اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة}، وقال: {ورتل القرآن ترتيلا}، وقال صلى الله عليه وسلم : «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به» متفق عليه، قال ابن كثير: «ومعناه أن الله تعالى ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبي يجهر بقراءته ويحسنها، وذلك أنه اجتمع في قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم وتمام الخشية وذلك هو الغاية من ذلك».
وقال صلى الله عليه وسلم : «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» أخرجه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم : «من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» أخرجه الترمذي، وقال [: «يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي.
وقد جاءت نصوص تبين مضاعفة الأجر بمجرد القراءة كقوله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ {قل هو الله أحد...} حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة» فقال عمر: إذن نستكثر قصورا يا رسول الله ! فقال: «الله أكثر وأطيب» أخرجه أحمد.
وجاءت نصوص يدل ظاهرها على أن الثواب يحصل بمجرد القراءة والتلاوة ولا يشترط في ذلك الفهم كما أخرج البيهقي عن جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا العجمي والعربي، فقال: «اقرأوا فكل حسن، وسيجيء أقوام يتعجلونه ولا يتأجلونه» وهو صحيح، ومعلوم أن فهم الأعجمي ليس كفهم العربي.
فمن قرأ القرآن تقربا إلى الله تعالى مخلصا له فإنه يؤجر بإذن الله تعالى على قراءته لدلالة النصوص المتقدمة، فإن كان مع ذلك مطيعا زاده الله من فضله، وإن كان مقصرا بترك بعض الواجبات أو فعل المحرمات استحق العقاب بما كسبت يداه كما قال تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما} قال ابن عباس: «لا يخاف أن يزداد على سيئاته ولا ينقص من حسناته».
وأيضا فقد أمر الله سبحانه وتعالى بتدبر كتابه الكريم، وتأمل ما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونهى عن هجره والإعراض عنه، وذم المكذبين له والغافلين عما فيه من العلوم والآداب والحكم والأحكام والمواعظ، فقال عز وجل:{أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}، قال الشيخ ابن سعدي: «أي: فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون كتاب الله، ويتأملونه حق التأمل؛ فإنهم لو تدبروه، لدلهم على كل خير، ولحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبين لهم الطريق الموصلة إلى الله، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تحذر، ولعرفهم بربهم وأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل، ورهبهم من العقاب الوبيل».
وقال عز وجل: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}، قال الشيخ ابن سعدي: «{ يَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} أي: هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود».
وقال ابن القيم: «فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر؛ فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها».
فحري بالمسلم أن يشغل وقته بالقرآن الكريم ؛ تلاوة وترتيلا، ودراسة وتدبرا، وعملا وتخلقا، والسعيد من عرف غايته وشمر إليها، ورزقه الله تعالى السداد والتوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-08-26, 05:19 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (61)

دعوهـا فإنهـا منتنـة



منّ الله تعالى على عباده بأن أخرجهم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، فصاروا بذلك أفضل الأمم وأكرمها على الله تعالى، فقال سبحانه: { كنتم خير أمة أخرجت للناس}، وعن بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ عن أبيه عن جَدِّه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «نُكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرُها»، وفي رواية: «إنكم وفيتم سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله» أخرجه ابن ماجه وحسنه الألباني.
والتأمل في أحوال المجتمع يلحظ بروز موجة غريبة من التعصب المقيت، وظهور التفاخر المذموم لدى بعض الناس، وانعكس كراهية وحقدا، ونخشى أن ينقلب فرقة وفتنة تمزق المجتمع وتفسد الأخوة الإيمانية التي أمر الله بها وحث عليها كما قال تعالى:{إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}، وقال صلى الله عليه وسلم: «وكونوا عباد الله إخوانا»، وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: «كل فكرة تقسم المسلمين وتجعلهم أحزابا، فكرة باطلة، تخالف مقاصد الإسلام وما يرمي إليه، وذلك لأنه يدعو إلى الاجتماع والوئام والتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى، كما يدل على ذلك قوله تعالى:{واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}».
وقال شيخ الإسلام: «كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية».
وقد جاءت نصوص كثيرة تنهى عن التعصب المذموم، وتحذر من سوء عاقبته، وتبين أن الأنساب للتعارف والتواصل، وليست للتنافس والتقاطع، فالنسب الحقيقي ما كان لله وبالله كما قال تعالى:{هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا}، وقال صلى الله عليه وسلم: «فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله»، وهذا النسب هو الباقي النافع بإذن الله، قال تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}، وقال سبحانه:{يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه}.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصارياً أي ضربه على دبره، فغضب الأنصاري غضباً شديداً، حتى تداعوا وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى أهل الجاهلية ؟» ثم قال: «ما شأنهم؟» فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «دعوها فإنها خبيثة» وفي رواية: «دعوها فإنها منتنة». متفق عليه.
قال ابن حجر: «ودعوى الجاهلية: الاستغاثة عند إرادة الحرب، كانوا يقولون: يا آل فلان، فيجتمعون فينصرون القائل ولو كان ظالما، فجاء الإسلام بالنهي عن ذلك».
وفرق رحمه الله بين أمرين فقال: «إن الاستغاثة ليست حراما، وإنما الحرام ما يترتب عليها من دعوى الجاهلية».
وقوله: «دعوها فإنها خبيثة»، أي: دعوى الجاهلية أي: أنها كلمة قبيحة خبيثة، وقوله: «منتنة»، قال النووي: «أي: قبيحة كريهة مؤذية»، وقال أيضاً: «وأما تسميته صلى الله عليه وسلم ذلك دعوى الجاهلية فهي كراهة منه لذلك، فإنه مما كانت عليه الجاهلية من التعاضد بالقبائل في أمور الدنيا ومتعلقاتها، وكانت الجاهلية تأخذ حقوقها بالعصبات والقبائل، فجاء الإسلام بإبطال ذلك، وفصل القضايا بالأحكام الشرعية، فإذا اعتدى إنسان على آخر حكم القاضي بينهما وألزمه مقتضى عدوانه، كما تقرر من قواعد الإسلام».
وأخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية».
وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبّـيـّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن»، قال الخطابي: «العبّـيّة: الكبر والنخوة، فعبية الجاهلية فخرها وتكبرها ونخوتها»، وقوله صلى الله عليه وسلم : «مؤمن تقي وفاجر شقي» قال الخطابي: معناه أن الناس رجلان: مؤمن تقي فهو الخير الفاضل وإن لم يكن حسيبا في قومه، وفاجر شقي فهو الدني وإن كان في أهله شريفا رفيعا، وقوله: «أنتم بنو آدم» أي فلا يليق بمن أصله التراب النخوة والكبر».
وأخرج البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية، ومطّلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه».
قال شيخ الإسلام: «والسنة الجاهلية كل عادة كانوا عليها، فإن السنة هي العادة، وهي الطريق التي تتكرر لنوع من الناس مما يعدونه عبادة أو لا يعدونه عبادة، فمن عمل بشيء من سننهم فقد اتبع سنة جاهلية، وهذا نص عام يوجب تحريم متابعة كل شيء من سنن الجاهلية في أعيادهم وغير أعيادهم».
قال شيخ الإسلام: «فقد دلت هذه الأحاديث على أن إضافة الأمر إلى الجاهلية تقتضي ذمه والنهي عنه، وذلك يقتضي المنع من أمور الجاهلية مطلقا».
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: «إن الإسلام نهى عن دعوى الجاهلية وحذر منها، وأبدى في ذلك وأعاد في نصوص كثيرة، بل قد جاءت النصوص تنهى عن جميع أخلاق الجاهلية وأعمالهم إلا ما أقره الإسلام من ذلك، وكم جرّت دعوى الجاهلية على أهلها من ويلات وحروب طاحنة وقودها النفوس والأموال والأعراض، وعاقبتها تمزيق الشمل، وغرس العداوة والشحناء في القلوب، والتفريق بين القبائل والشعوب».
ثم ذكر رحمه الله قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثى جهنم» قيل: يا رسول الله وإن صلى وصام؟ قال: «وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله» قال الشيخ ابن باز معلقا: «فيا له من وعيد شديد، وتحذير أكيد ينذر كل مسلم من الدعوات الجاهلية والركون إلى معتنقيها، وإن زخرفوها بالمقالات السحرية، والخطب الرنانة، والخيالات الواسعة التي لا أساس لها من الحقيقة، ولا شاهد لها من الواقع، وإنما هو التلبيس والخداع والتقليد الأعمى الذي ينتهي بأهله إلى أسوأ العواقب».
فالدين يقرر ويؤكد أصل الخلق في قوله تعالى: {يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} فالناس من أصل واحد كلهم يرجعون إلى آدم عليه السلام، ولكن الله تعالى أراد بهم الخير فجعلهم رجالا كثيرا ونساء، وجعلهم شعوبا وقبائل لأجل أن يتعارفوا فيتعاونوا ويتوارثوا، وتحيا بهم الأرض بالتعاون والتعارف، وليس بالتفاخر والاختلاف فقال تعالى: {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} فالأنساب للتواصل والتراحم كما قال النبي عليه السلام: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم؛ فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر» أخرجه أحمد.
ولم يجعل معيار التفاضل النسب والأسرة والقبيلة، بل التقوى والعمل الصالح هما ميزان الكرامة، ووسيلة الرفعة عند الله تعالى كما قال عز وجل: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وعن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط أيام التشريق فقال: «يأيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى». أخرجه الإمام أحمد.
فما أحوجنا للتمسك بأصول ديننا، والتحلي بأخلاق قرآننا، والتخلق بهدي نبيينا، وهجر ما عداه.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-08-26, 05:20 PM
الحكمة ضالة المؤمن(62)

رأي الشيخ خير من مشهد الغلام



من أبرز قواعد الحكم في الإسلام، ومن أوضح ملامح المجتمع المسلم (الشورى)، فالمشاورة معلم أصيل من معالم الجماعة المسلمة وذلك لما فيها من الفوائد العظيمة، قال الشيخ ابن سعدي: «المشاورة تنور الأفكار، وتحل الاشتباه والإشكال، وتبلغ العبد الآمال، المشاورة عنوان العقل، والاستبداد من نتائج الجهل، ما ندم من استعان بالله واستخاره، وشاور الناصحين».

والشورى هي استنباط المرء الرأي من غيره فيما يعرض له من مشكلات الأمور.
وقد اعتنى القرآن الكريم بالشورى عناية كبيرة، فمن ذلك أن الله تعالى سمى سورة من سور القرآن الكريم باسم سورة الشورى، وتحدث فيها عن صفات المؤمنين ومنها صفة التشاور، وقرن سبحانه الشورى بالصلاة والصدقة واجتناب الفواحش فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
قال الحسن: «ما تشاور قوم قط بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم»، وفي لفظ: «إلا عزم الله لهم بالرشد أو بالذي ينفع» قال ابن حجر: «أخرجه ابن أبي حاتم بسند قوي».
وقال الشيخ ابن سعدي:» {وَأَمْرُهُمْ} الديني والدنيوي {شُورَى بَيْنَهُمْ} أي: لا يستبد أحد منهم برأيه في أمر من الأمور المشتركة بينهم، وهذا لا يكون إلا فرعا عن اجتماعهم وتآلفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال عقولهم، أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها، اجتمعوا لها وتشاوروا وبحثوا فيها، حتى إذا تبينت لهم المصلحة، انتهزوها وبادروها».
وأمر الله تعالى نبيه الكريم بالشورى فقال تعالى: {وشاورهم في الأمر}، قال أبو هريرة: «ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم »، وقال الحسن: «قد علم أنه ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده»، قال ابن حجر: «أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن».
والمشاورة دليل على كمال عقل الشخص وحسن تصرفه، قال عمر: «الرجال ثلاثة: رجل ترد عليه الأمور فيسددها برأيه، ورجل يشاور فيما أشكل عليه وينزل حيث يأمره أهل الرأي، ورجل حائر بائر لا يأتمر رشدا، ولا يطيع مرشدا»، وقال علي: «نعم المؤازرة المشاورة، وبئس الاستعداد الاستبداد»، وقال عمر بن عبد العزيز: «إن المشورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا بركة، لا يضل معهما رأي، ولا يفقد معهما حزم»، وقال بعض البلغاء: «من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذ ربما زل، والعقل الفرد ربما زل».
ولأهمية الشورى وعظيم أثرها فيجب أن تسند إلى أهلها كما قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، فلابد من التماس الشورى وطلب الرأي السديد من أهل الشورى الجديرين بها، وأهل الشورى وإن لم يرد نص في تحديدهم إلا أن المتأمل لهدي النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنهم أهل العلم والدراية والخبرة كما قال البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه : «كان القراء يعني حفاظ القرآن -أصحاب مشورة عمر- كهولا كانوا أو شبانا»، وقال أيضا: «وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلميستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب والسنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم».
أما شروط أهل الشورى فقد ذكرها الماوردي باختصار، وهي: أن يكون ذا عقل كامل مع تجربة سالفة، وأن يكون ذا دين وتُقَى، فعن ابن عباس قال: «من أراد أمرا فشاور فيه امرأ مسلما وفقه الله لأرشد أموره»، وأن يكون ناصحا ودودا، فإن النصح والمودة يصدقان الفكرة ويمحضان الرأي، وأن يكون سليم الفكر من هم قاطع وغم شاغل؛ فإن من عارضت فكره شوائب الهموم لا يسلم له رأي، وألا يكون له في الأمر المستشار فيه غرض يتابعه، ولا هوى يساعده؛ فإن الأغراض جاذبة، والهوى صياد.
ولا بد من مراعاة التخصص في أهل الشورى فيستشار في كل مجال أربابه، قال الشيخ ابن سعدي: «واعلم أن المشاورة تختلف باختلاف مواضيعها، فأمور السياسة يشاور فيها أهل الحل والعقد، والرجال المتميزون في عقولهم وآرائهم وكمال نصحهم، وأمور العلم والدين يشاور فيها أهل العلم بالدين، الجامعون بين العلم والحلم والعقل والدين، والأمور الدنيوية يشاور فيها أهل الخبرة فيها والرأي بحسب أحوالها، ولا بد في ذلك كله من قصد النصح”.
وفي هذه الأيام نحن بحاجة إلى حكمة الشيوخ وتجاربهم، فهم أولى بالتقديم والتصدر من حماس الشباب واندفاعهم، فخبرة العقلاء وحنكة الحكماء معلم مضيء عند اشتباه الأمور وتزاحم الأحداث يسترشد بها الناس ويهتدوا عند اختلاط الآراء وتعالي الأصوات، أما حماس الشباب بغير حكمة الشيوخ فشجاعة بلا روية، وإقدام بغير تأمل ولا نظر، فما أسرع ما تعقبه الندامة والحسرة، ويتبعه الاعتذار بعدم العلم وقلة الخبرة ونقص التجربة، وكان حق الشباب تقديم رأي الشيوخ المجربين، والوقوف وراءهم لا التقدم عليهم ولا التصدر بين أيديهم.
فعَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: أَتَيْتُ عليا ]فقلت: إِنِّي أَثبتُ مِنْ عَمِّي وَأَجْرَأُ؛ فَإِنْ رأيت أن تجعلني مكانهُ، قَال: «يَابْنَ أَخِي إِنَّ رَأْيَ الشَّيْخِ خَيْرٌ مِنْ مَشْهَدِ الْغُلام».
قال الثعالبي: أطلب آراء الأشياخ الذين حنكتهم الأيام فتقاد، ولا تطلب ملازمة ذوي الأوجه الأغراء فتصطاد.
وقال بعضهم: «شاور من جرب الأمور؛ فإنه يعطيك من رأيه ما دفع ثمنه غاليا وأنت تأخذه مجانا».
فالشيخ كثير التجربة يبلغ برأيه من النتائج والآثار الحميدة في الحرب وغيرها، ما لا يبلغه الشاب صغير السن قليل التجربة، الذي قد يأخذه الحماس فيغرر بنفسه فيهلك نفسه وغيره ممن تابعه.
وما أحسن ما قاله المتنبي في هذا المعنى حيث قال:

الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ

هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني

فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ

بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ



اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-09-01, 11:20 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن (63)

واعتصموا بحبل الله جميعا




دعا القرآن الكريم المكلفين إلى الاعتصام بالدين الحنيف والتمسك بالوحي المعصوم كما قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، وتكرر ذلك في أكثر من موضع مما يقتضي من المكلفين معرفة معنى الاعتصام وحكمه وفضله وآثاره ليحققوا ما أمرهم به ربهم من تدبر كتابه وتعقل معانيه وحكمه.

فالاعتصام هو التمسك بما يحميك ويدفع عنك الخطر، ومما يؤكد هذا المعنى حديث سفيان بن عبد الله حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «حدثني بأمر أعتصم به - أي أستمسك به - قال: « قل ربي الله، ثم استقم» أخرجه الترمذي.
والاعتصام بالله وبدينه وبكتابه واجب كما دل على ذلك آيات عديدة منها قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}، قال الطبري: «يعني بذلك جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعا، يريد بذلك - تعالى ذكره-: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله».
ونقل عن أهل العلم اختلافهم في بيان معنى (حبل الله)، فذكر عن ابن مسعود أنه فسره بالجماعة، وقال آخرون: عنى بذلك القرآن والعهد الذي عهد فيه، وأخرج بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» وهو صحيح، وقال آخرون: بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله، فنقل عن أبي العالية قوله: «اعتصموا بالإخلاص لله وحده»، وعن ابن زيد قال: «الحبل: الإسلام».
قال الشيخ ابن سعدي مبينا مناسبة الأمر بالاعتصام بحبل الله تعالى بعد الأمر بتقواه: «هذا أمر من الله لعباده المؤمنين أن يتقوه حق تقواه وأن يستمروا على ذلك ويثبتوا عليه ويستقيموا إلى الممات؛ فإن من عاش على شيء مات عليه، فمن كان في حال صحته ونشاطه وإمكانه مداوما لتقوى ربه وطاعته منيبا إليه على الدوام، ثبته الله عند موته، ثم أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين؛ فإنه في باجتماع المسلمين على دينهم وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم، وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها من التعاون على البر والتقوى، كما أنه بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه ولو أدى إلى الضرر العام»اهـ.
وقد جاء في السنة المطهرة ما يؤكد هذا المعنى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا؛ فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال». أخرجه مسلم.
قال النووي: «وأما الاعتصام بحبل الله فهو التمسك بعهده وهو اتباع كتابه العزيز وحدوده والتأدب بأدبه، والحبل يطلق على العهد وعلى الأمان وعلى الوصلة وعلى السبب، وأصله من استعمال العرب الحبل في مثل هذه الأمور لاستمساكهم بالحبل عند شدائد أمورهم ويوصلون بها المتفرق، فاستعير اسم الحبل لهذه الأمور، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تفرقوا» فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين وتآلف بعضهم ببعض وهذه إحدى قواعد الإسلام» اهـ.
وقال تعالى: {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير}، قال الشيخ ابن سعدي:«{واعتصموا بالله} أي امتنعوا به وتوكلوا عليه في ذلك ولا تتكلوا على حولكم وقوتكم: {هو مولاكم} الذي يتولى أموركم فيدبركم بحسن تدبيره ويصرفكم على أحسن تقديره».
فالاعتصام بالله وبدينه سبيل النجاة كما قال تعالى: {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}، قال ابن القيم: «الاعتصام نوعان: اعتصام بالله، واعتصام بحبل الله، قال الله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} وقال: {واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير}، ومدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام بالله والاعتصام بحبله، ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين، فأما الاعتصام بحبله فإنه يعصم من الضلالة، والاعتصام به يعصم من الهلكة؛ فإن السائر إلى الله كالسائر على طريق نحو مقصده فهو محتاج إلى هداية الطريق والسلامة فيها فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له، فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة وأن يهديه إلى الطريق، والعدة والقوة والسلاح التى بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها، فالاعتصام بحبل الله يوجب له الهداية واتباع الدليل، والاعتصام بالله يوجب له القوة والعدة والسلاح والمادة التي يستلئم بها فى طريقه» اهـ.
والاعتصام سبب للنجاة من النفاق وآثاره الخطيرة في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما}، قال ابن سعدي: «وتأمل كيف خص الاعتصام والإخلاص بالذكر مع دخولهما في قوله: {وأصلحوا}؛ لأن الاعتصام والإخلاص من جملة الإصلاح لشدة الحاجة إليهما خصوصا في هذا المقام الحرج الذي تمكن فيه النفاق من القلوب فلا يزيله إلا شدة الاعتصام بالله ودوام اللجأ والافتقار إليه في دفعه، وكون الإخلاص منافيا كل المنافاة للنفاق، فذكرهما لفضلهما وتوقف الأعمال الظاهرة والباطنة عليهما ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما»اهـ.
والاعتصام سبب لنيل رحمة الله وفضله وهدايته كما قال تعالى: {فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما}، قال ابن كثير: «قوله: {فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به} أي جمعوا بين مقامي العبادة والتوكل على الله في جميع أمورهم، وقال ابن جريج: آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن {فيدخلهم في رحمة منه وفضل}، أي يرحمهم فيدخلهم الجنة ويزيدهم ثوابا ومضاعفة ورفعا في درجاتهم من فضله عليهم وإحسانه إليهم».
وبين تعالى أنه وحده يعصم من يشاء فلا يوصَل إلى من عصمه الله كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين}، قال ابن سعدي: «هذه حماية وعصمة من الله لرسوله من الناس وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ ولا يثنيك عنه خوف من المخلوقين؛ فإن نواصيهم بيد الله وقد تكفل بعصمتك».
ومن أراد الله تعالى إهلاكه أو عقوبته فلا عاصم له كما قال تعالى: {ما لهم من الله من عاصم} قال ابن كثير: «أي لا مانع ولا واق يقيهم العذاب».
وقال تعالى: {يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم}، قال ابن سعدي: «لا من أنفسكم قوة تدفعون بها عذاب الله، ولا ينصركم من دونه من أحد».
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الاعتصام بدينه القويم وكتابه الكريم وهدي نبيه المستقيم.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-09-01, 11:21 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن (64)

إنما جعل الاستئذان من أجل البصر




الإسلام دين كامل، ونظام شامل، يتناول الحقائق الكبرى بالبيان والبرهان؛ فيقرر توحيد الله تعالى بأقوى حجة وأوضح دليل، ويؤكد النبوات والبعث بالدلائل العقلية والشواهد الحسية وأدلة الفطرة والمعجزات الباهرة، وهو مع ذلك لا يهمل أدق تفاصيل الحياة الإنسانية فيما يتعلق بالآداب العامة والخاصة، فيشرع لها أحكاما دقيقة في القرآن والسنة؛ ليكون المجتمع المسلم متميزا في جميع أحواله الإيمانية والأخلاقية والأسرية والمجتمعية.
ومن تلك الآداب الإسلامية الرفيعة أدب الاستئذان في الدخول على بيوت الآخرين، حيث ضرب الإسلام أروع الأمثلة في الرقي الأخلاقي واحترام خصوصية الناس، وأرشد المسلمين إلى أحكام الاستئذان التي تناولتها سورة النور في موضعين منها، الموضع الأول قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.
والاسْتِئْنَاس المذكور في الآية هُوَ الِاسْتِئْذَان، وهو طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن، قَالَ مَالِك: الِاسْتِئْنَاس فِيمَا نَرَى -وَاَللَّه أَعْلَم-: الِاسْتِئْذَان، قال الجصاص: «وإنما سمي الاستئذان استئناسا؛ لأنهم إذا استأذنوا أو سلموا أنس أهل البيوت بذلك، ولو دخلوا عليهم بغير إذن لاستوحشوا وشق عليهم».
وأما حكم الاستئذان في الدخول على بيوت الغير فهو الوجوب كما دلت عليه الآية، ويحرم على المسلم دخول بيت غيره قبل أن يؤذن له بالاتفاق، سواء أكان باب البيت مفتوحا أم مغلقا، وسواء أكان فيه سكان أم لم يكن؛ لقوله تعالى: {لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا}، ولأن للبيوت حرمتها فلا يجوز أن تنتهك هذه الحرمة، ولأن الاستئذان ليس للسكان أنفسهم خاصة بل لأنفسهم ولأموالهم؛ لأن الإنسان كما يتخذ البيت سترا لنفسه، يتخذه سترا لأمواله، وكما يكره اطلاع الغير على نفسه يكره اطلاعه على أمواله.
ومما يدل على وجوب الاستئذان حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رجلاً اطلع في جحر في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلممدرى -وهي حديدة يسوّى بها الشعر- يحك بها رأسه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: «لو أعلم أنك تنظرني لطعنت بها في عينك»، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» متفق عليه.
ومما يستثنى من وجوب الاستئذان دخول الإنسان بيته فلا يجب عليه أن يستأذن، قال ابن حجر: «المرءلا يحتاج في دخوله منزله إلى الاستئذان؛ لفقد العلة التي شرع لأجلها الاستئذان».
ويشرع في حق الرجل إذا دخل بيته أمران:
- الأول: السلام؛ لحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم، يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك» أخرجه الترمذي وهو حسن.
- والأمر الثاني: الإعلام فيندب للزوج أن يعلم زوجته بدخوله بسلام أو تنحنح أو طرق نعال ونحو ذلك؛لأنها ربما كانت على حالة لا تريد أن يراها عليها، قالت زينب امرأة ابن مسعود: «كان عبد الله إذا دخل تنحنح وصوت»، وقال الإمام أحمد: «يستحب أن يحرك نعله في استئذانه عند دخوله حتى إلى بيته»، وقال: «إذا دخل على أهله تنحنح».
فَإِنْ كَانَ فِي البيت أُمّه أَوْ أُخْته فيجب عليه أن يستأذن قبل الدخول، لأنهما قَدْ تكُونَان عَلَى حَالَة لَا يحِبّ أَنْ يرَاهُمَا فِيهَا. قَالَ الإمام مَالِك: وَيَسْتَأْذِن الرَّجُل عَلَى أُمّه وَأُخْته إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُل عَلَيْهِمَا. وَقَدْ رَوَى عَطَاء بْن يَسَار أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَسْتَأْذِن عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: إِنِّي أَخْدُمهَا؟ قَالَ: «اِسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا» فَعَاوَدَهُ ثَلَاثًا، قَال: «أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَة؟» قَالَ: لا، قَالَ: «فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا». أخرجه مالك.
وفي «الأدب المفرد» للبخاري أن رجلاً سأل حذيفة: أستأذن على أمي؟ قال: إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره. وسأل رجلٌ ابن عباس فقال: أستأذن على أختي؟ قال: نعم، قال: إنها في حجري، قال: أتحب أن تراها عريانة.
ومما يستثنى أيضاً من وجوب الاستئذان إذا كان الدخول للبيت فيه إحياء لنفس أو مال، كما لو دخل لص بيت إنسان واستنجد بالناس أو وقع في البيت حريق وأهله غافلون.
والاستئذان في السابق كان باللفظ وبإلقاء السلام بأن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ لمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ رِبْعِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا رَجُل مِنْ بَنِي عَامِر اِسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلموَهُوَ فِي بَيْت، فَقَالَ: أأَلِج؟ فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلملِخَادِمِهِ : «اُخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَان، فَقَل لَهُ: قُلْ: السَّلام عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَسَمِعَهُ الرَّجُل فَقَالَ: السَّلام عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَل».
فلما اتخذ الناس الأبواب وكبرت المنازل قام قرع الباب مقام الاستئذان باللفظ، سواء أكان الباب مغلقا أم مفتوحا؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي، فدققت الباب، فقال: «من ذا؟» فقلت: أنا، فقال: «أنا، أنا» كأنه كرهها. أخرجه البخاري.
قال ابن حجر: وقد أخرج البخاري في «الأدب المفرد» من حديث أنس أن أبواب النبي صلى الله عليه وسلم انت تقرع بالأظافير، وهذا محمول منهم على المبالغة في الأدب، وهو حسن لمن قرب محله من الباب، أما من بعد عن الباب بحيث لا يبلغه صوت القرع بالظفر فيستحب أن يقرع بما فوق ذلك بحسبه.
وينبغي للمستأذن أن يكرر ذلك ثَلاث مَرَّات لَا يُزَاد عَلَيْهَا، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ دَخَلَ، وَإِنْ أُمِرَ بِالرُّجُوعِ اِنْصَرَفَ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْهُ اِسْتَأْذَنَ ثَلاثًا ; ثُمَّ يَنْصَرِف مِنْ بَعْد الثَّلاث.
قال مالك: الاسْتِئْذان ثَلاث، لا أُحِبّ أَنْ يَزِيد أَحَد عَلَيْهَا، إِلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يسمع، فَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَزِيد إِذَا اِسْتَيْقَنَ أَنَّهُ لم يسمع، ودليل ذلك قَوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا اِسْتَأْذَنَ أَحَدكُمْ ثَلاثًا فَلَمْ يؤْذن لَهُ فَلْيَرْجِعْ» متفق عليه.
ومن أدب الاستئذان ألاّ يقف قبالة الباب، بل ينحرف ذات اليمين أو ذات الشمال؛ لحديث عبد الله بن بسر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم -وفي رواية: يريد أن يستأذن- لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: «السلام عليكم، السلام عليكم»، وذلك أن الدور لم يكن عليها ستور.أخرجه أبو داود وهو صحيح.
وعن هزيل بن شرحبيل قال: استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقام مستقبل الباب فقال له صلى الله عليه وسلم: «هكذا عنك وهكذا، فإنما الاستئذان من النظر» أخرجه أبو داود وهو صحيح.
ويستحب للمستأذن إذا قيل له: من أنت؟ أن يقول: فلان، فيسمي نفسه بما يعرف به من اسم أو كنية، ويكره أن يقول: أنا؛ فعنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه رضي الله عنه قَالَ: اِسْتَأْذَنْت عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟» فَقُلْت: أَنَا، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَنَا»! كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ. قال ابن حجر: «وذكر ابن الجوزي أن السبب في كراهة قول (أنا) أن فيها نوعا من الكبر، كأن قائلها يقول: أنا الذي لا أحتاج أذكر اسمي ولا نسبي».
وينبغي للمستأذن أن يحترم رغبة من يريد الدخول عليه وخصوصيته، فإذا اعتذر أخوه عن استقباله لأي سبب فعليه أن يرجع دون غضب أو ضيق؛ لأن ذلك أزكى له كما قال تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}.
قال القرطبي: «وَعَنْ قَتَادَة قَالَ: قَالَ رَجُل مِنْ الْمُهَاجِرِينَ : لَقَدْ طَلَبْت عُمْرِي هَذِهِ الْآيَة فَمَا أَدْرَكْتهَا أَنْ أَسْتَأْذِن عَلَى بَعْض إِخْوَانِي فَيَقُول لِي اِرْجِعْ، فَأَرْجِع وَأَنَا مُغْتَبِط; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}».
قال الماوردي: «وهنا ينظر، فإن كان -رد المستأذن- بعد الدخول عن إذن لزم الانصراف وحرم اللبث، وإن كان قبل الدخول فهو رد للإذن ومنع من الدخول».
نسأل الله تعالى أن يجملنا بأحسن الأخلاق ويرشدنا لأجمل الآداب إنه سميع مجيب.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-09-16, 10:24 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن(65)

-احذروا نفار النعم.. فما كل شارد بمردود



كلمة حق قالها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما نقلها عنه الثعالبي في كتابه «الإعجاز والإيجاز»؛ حيث شبه رضي الله عنه النعم بالإبل المقيدة، وحذر من فرارها من قيدها ونفرتها من صاحبها؛ لأنه ليس كل ما شرد يمكن رده إلى حاله الأولى.
وهي كلمة حكيمة تدل على إدراك عميق، ونظر دقيق في النصوص الشرعية والسنن الكونية، التي تشهد بأن النعم كلها من الله تعالى وحده كما قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله}، وأن سبب دوامها هو الشكر والاستقامة كما قال تعالى: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم}، ومن أكبر أسباب زوالها الكفر والبطر وسوء استعمالها وصرفها عما يقتضيه الشرع والعقل.
ولو نظرنا في معنى النعمة في اللغة لوجدنا أنها على كثرة اشتقاقاتها تدور حول الترفه وطيب العيش والصلاح، فالنعمة: ما ينعم الله به على عبده من مال وعيش.
وأما النعمة في القرآن فهي كما قال الأصفهاني في «المفردات»: «النعمة: الحالة الحسنة»، قال: «والنعمة للجنس تقال للقليل الكثير، قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} وقال: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم}، وقال: {وأتممت عليكم نعمتي}.
وذكر ابن الجوزي في «نزهة الأعين النواظر» أن النعمة ما يحصل للإنسان به التنعم في العيش، وقرر أن النعمة في القرآن على عشرة أوجه:
- أحدها: المنة، ومنه قوله تعالى في المائدة: {يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم}.
- والثاني: الدين والكتاب، ومنه قوله تعالى في البقرة: {ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته}.
- والثالث: محمد صلى الله عليه وسلم، ومنه قوله تعالى في النحل: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها}.
- والرابع: الثواب، ومنه قوله تعالى في آل عمران: {يستبشرون بنعمة من الله وفضل}.
- والخامس: النبوة، ومنه قوله تعالى في الضحى: {وأما بنعمة ربك فحدث}.
- والسادس: الرحمة، ومنه قوله تعالى في الحجرات: {فضلا من الله ونعمة}.
- والسابع: الإحسان، ومنه قوله تعالى في الليل: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى}.
- والثامن: سعة المعيشة، ومنه قوله تعالى في لقمان: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة}.
- والتاسع: الإسلام، ومنه قوله تعالى في الأحزاب: {إذ تقول للذي أنعم الله عليه}.
- والعاشر: العتق، ومنه قوله تعالى في الأحزاب: {وأنعمت عليه}؛ لأن إنعام الله تعالى عليه بالإسلام، وإنعام النبي صلى الله عليه وسلم بالعتق وهو زيد بن حارثة.
والقرآن الكريم يرشدنا إلى واجب المسلم تجاه النعم، وأول ذلك التذكر وعدم نسيان النعم أو التغافل عنها، قال تعالى: {يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم}، وقال سبحانه: {واذكروا نعمة الله عليكم}، قال الشيخ ابن سعدي موضحًا كيفية التذكر: «باللسان حمدًا وثناء، وبالقلب اعترافًا وإقرار»، وبالأركان بصرفها في طاعة الله».
وبين رحمه الله ثمرة كثرة ذكر النعم فقال: «فإن في استدامة ذكرها داعيا لشكر الله تعالى ومحبته وامتلاء القلب من إحسانه».
ومن واجب المسلم تجاه النعم الشكر كما قال تعالى: {واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: إن كنتم مخلصين له العبادة فلا تشكروا إلا إياه، ولا تنسوا المنعم».
والشكر هو حال المرسلين والمؤمنين كما ذكر سبحانه عن سليمان عليه السلام أنه قال: {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي}، وقال سبحانه عن المؤمن الصالح أنه يقول: {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي}، قال الشيخ ابن سعدي: «فسأل ربه التوفيق للقيام بشكر نعمته الدينية والدنيوية عليه وعلى والديه».
وقد وضح لنا القرآن الكريم أسباب زوال النعم ومنها الكفر فقال تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار}، فنعمة الله تعالى عليهم هي إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، فقاموا بالكفر به والصد عن سبيل الله بدلا من الشكر لله بالإيمان برسوله واتباع دينه، فكان عاقبتهم النار وبئس القرار.
وضرب الله تعالى في القرآن الأمثلة للقرى الكافرة بنعم الله وما حل بها نتيجة ذلك، فقال تعالى: {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}، قال الشيخ ابن سعدي: «فأذاقهم الله ضد ما كانوا فيه، وألبسهم لباس الجوع الذي هو ضد الرغد، والخوف الذي هو ضد الأمن، وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم وعدم شكرهم».
وضرب لنا مثلا بأهل سبأ فقال: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال...} إلى أن قال تعالى{ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور}، قال الشيخ ابن سعدي: «فكما بدلوا الشكر الحسن بالكفر القبيح، بدلوا تلك النعمة بما ذكر» ثم قال: «وهل نجازي جزاء العقوبة إلا من كفر بالله وبطر النعمة؟!».
وضرب لنا مثلا في سورة القلم بأصحاب الجنة الذين اغتروا بما عندهم من النعمة وجزموا بثباتها في أيديهم، وعزموا على منع حق الله تعالى فيها، فكانت النتيجة أن نزعت منهم ونزل بها عذاب أبادها وأتلفها، ثم قال تعالى: {كذلك العذاب} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: الدنيوي لمن أتى بأسباب العذاب أن يسلبه الله الشيء الذي طغى به وبغى، وآثر الحياة الدنيا، وأن يزيله عنه أحوج ما يكون إليه».
فما أحوجنا في بلدنا الآمن الذي نتقلب فيه بنعم الله الوفيرة وآلائه الغزيرة أن ندرك قيمة ما لدينا فنذكر نعمة الله، ونشكر فضله، ونحفظ حدوده، وننأى عن سبيل الجاهلين وسلوك الجاحدين، ونعلم أن النعم سريعة الزوال، وأن العصيان سبب الحرمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه» رواه أحمد.
وقد أخرج الإمام أحمد عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب» وحسنه الشيخ الألباني، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم». متفق عليه.
قال الشيخ ابن سعدي: «هذا يدل على شكر الله بالاعتراف بنعمه، والتحدث بها، والاستعانة بها على طاعة المنعم، وفعل جميع الأسباب المعينة على الشكر؛ فإن الشكر لله هو رأس العبادة، وأصل الخير، وأوجبه على العباد؛ فإنه ما بالعباد من نعمة ظاهرة ولا باطنة، خاصة أو عامة إلا من الله، وهو الذي يأتي بالخير والحسنات، ويدفع السوء والسيئات، فيستحق أن يبذل له العباد من الشكر ما تصل إليه قواهم، وعلى العبد أن يسعى بكل وسيلة توصله وتعينه على الشكر.
وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذا الدواء العجيب، والسبب القوي لشكر نعم الله، وهو أن يلحظ العبد في كل وقت من هو دونه في العقل والنسب والمال وأصناف النعم، فمن استدام هذا النظر اضطره إلى كثرة شكر ربه والثناء عليه؛ فإنه لا يزال يرى خلقًا كثيرًا دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنى كثير منهم أن يصل إلى قريب مما أوتيه من عافية ومال ورزق، وخلق وخلق، فيحمد الله على ذلك حمدًا كثير».
فيا ليت المغرورين ينظرون إلى ما هم فيه، ويقارنونه مع حال كثير من شعوب الأرض التي فقدت النعم الحسية والمعنوية، فيشكروا الله تعالى على الأمن والإيمان، والخير والإحسان، ويدركوا أن النعم إذا فرت يعسر ردها إلا أن يشاء الله كما قال علي رضي الله عنه: «احذروا نفار النعم؛ فما كل شارد بمردود».

اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-09-16, 10:25 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (66)


{واتبع سبيل من أناب إلي}




هذه الوصية الربانية على وجازتها اشتملت على فوائد عديدة، وتوجيهات مفيدة، تضمن النجاة لمن اتبعها، والسلامة لمن عمل بها.

فقد دلت بمنطوقها على لزوم اتباع سبيل من أناب إلى الله تعالى، وأشارت بدلالتها على وجود سبل أخرى غير هذا السبيل، على المسلم أن يعرفها أولاً ليحذر منها ويجتنبها.

والسبيل في اللغة هو الطريق الواضح، وقال الأصفهاني: «الطريق الذي فيه سهولة».
- والإنابة: في اللغة تعني الرجوع، مأخوذة من الفعل ناب نوبا ونوبة: إذا رجع مرة بعد مرة، والإنابة إلى الله تعالى تكون بالرجوع إليه بالتوبة والإخلاص، وفي اللفظة معنى الإسراع والرجوع، والمنيب إلى الله: المسرع إلى مرضاته، الراجع إليه كل وقت.
وقد أمر الله تعالى بالإنابة فقال:{وأنيبوا إلى ربكم}، وأثنى على خليله بها فقال تعالى: {إن إبراهيم لحليم أواه منيب}، وأخبر أن آياته إنما يتبصر بها ويتذكر أهل الإنابة فقال:{ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها}إلى أن قال: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}، وأخبر أن ثوابه وجنته لأهل الإنابة فقال:{وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام}.
قال ابن القيم: «والإنابة إنابتان: إنابة لربوبيته، وهي إنابة المخلوقات كلها، يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر قال الله تعالى: {وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه}، فهذا عام في حق كل داع أصابه ضر، كما هو الواقع، وهذه الإنابة لا تستلزم الإسلام، بل تجامع الشرك والكفر، كما قال تعالى في حق هؤلاء:{ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم} فهذا حالهم بعد إنابتهم.
والإنابة الثانية:إنابة أوليائه، وهي إنابة لإلهيته، إنابة عبودية ومحبة، وهي تتضمن أربعة أمور: محبته، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، فلا يستحق اسم المنيب إلا من اجتمعت فيه هذه الأربع، وتفسير السلف لهذه اللفظة يدور على ذلك».
وقد تعددت عبارات العلماء في تحديد المقصود بهذه الآية؛ فقال ابن كثير: «يعني: المؤمنين»، وقال الشيخ ابن سعدي: «وهم المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، المستسلمون لربهم، المنيبون إليه، واتباع سبيلهم: أن يسلك مسلكهم في الإنابة إلى الله، التي هي انجذاب دواعي القلب وإراداته إلى الله، ثم يتبعها سعي البدن فيما يرضي الله، ويقرب إليه».
وقال البغوي: «أي: دين من أقبل إلى طاعتي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه»، وقال الطبري: «يقول: واسلك طريق من تاب من شركه، ورجع إلى الإسلام، واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم».
وقد جاء في كتاب الله تعالى آيات كثيرة تضمنت ذكر سبيل الله كقوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله}، وقوله: {وأنفقوا في سبيل الله}، وقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك} وسبيل الله تعالى: كل ما شرعه من الحق والهدى، وتارة يصفه بأنه سبيل الرشد كما قال تعالى: {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا}، وتارة يصفه بأنه سبيل المؤمنين كما قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جنهم وساءت مصيرا} قال الشيخ ابن سعدي: «وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم».
ويحذرنا سبحانه من سبيل المجرمين كما قال تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}، قال الشيخ ابن سعدي: «نوضحها ونبينها ونميز طريق الهدى من الضلال، والغي من الرشاد، ليهتدي بذلك المهتدون، ويتبين الحق الذي ينبغي سلوكه، ولتستبين سبيل المجرمين الموصلة إلى سخط الله وعذابه؛ فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت أمكن اجتنابها والبعد عنها، بخلاف ما لو كانت مشتبهة ملتبسة فإنه لا يحصل هذا المقصود الجليل».
ونهانا سبحانه عن اتباع سبيل المفسدين كما جاء في وصية موسى لأخيه هارون عليهما السلام في قوله تعالى: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: اتبع طريق الصلاح ولا تتبع سبيل المفسدين وهم الذين يعملون بالمعاصي».
ونهى تعالى عن اتباع سبيل الذين لا يعلمون، فقال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: {فاستقيما ولا تتبعانِّ سبيل الذين لا يعلمون} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: لا تتبعانِّ سبيل الجهال الضلال المنحرفين عن الصراط المستقيم، المتبعين لطرق الجحيم».
وقد وصانا الله تعالى وصية جامعة عظيمة فقال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
قال الشيخ ابن سعدي: «ولما بيّن كثيرا من الأوامر الكبار والشرائع المهمة أشار إليها وإلى ما هو أعم منها فقال: {وأن هذا صراطي مستقيما} أي: هذه الأحكام وما أشبهها مما بينه الله في كتابه، ووضحه لعباده صراط الله الموصل إليه، وإلى دار كرامته، المعتدل السهل المختصر، {فاتبعوه} لتنالوا الفوز والفلاح، وتدركوا الآمال والأفراح، {ولا تتبعوا السبل} أي: الطرق المخالفة لهذا الطريق {فتفرق بكم عن سبيله}أي: تضلكم عنه وتفرقكم يمينا وشمالا، فإذا ضللتم عن الصراط المستقيم فليس ثم إلا طرق توصل إلى الجحيم، فقال:{ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} فإنكم إذا قمتم بما بينه الله لكم علما وعملا، صرتم من المتقين، وعباد الله المفلحين، ووحد الصراط وأضافه إليه؛ لأنه سبيل واحد موصل إليه، والله هو المعين للسالكين على سلوكه».
وعن عبد الله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا , ثم قال: «هذا سبيل الله» ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال: «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها» ثم قرأ هذه الآية.
فالمسلم أمام تقاطع السبل ومفترق الطرق عليه أن يبحث عن سبيل الله الذي قامت عليه الأدلة والبراهين، ويسأل الله الهداية إليه ويستعين بالمجاهدة للوصول إليه فقد وعد الله تعالى أهل المجاهدة بالهداية والإعانة فقال عز وجل: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} قال الشيخ ابن سعدي: «دل هذا على أن أحرى الناس بموافقة الصواب أهل الجهاد، وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه الله ويسر له أسباب الهداية».
وليحذر من مخالفة سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع سبيل الغاوين؛ حتى لا يبوء بالحسرة والندامة يوم القيامة كما قال تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتَى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا}.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-09-21, 08:18 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (67)


-استــفـت قلبـــك




يحتج بعض الناس بهذه العبارة: «استفت قلبك ولو أفتاك المفتون» ليبرر بها تصرفاته، ويعتذر بها عن مواقفه من حيث استحلاله لشيء فيقدم عليه، أو تحريمه لآخر فيحجم عنه، دون أن يسترشد بدليل شرعي معتبر، أو يستشير ذا علم واطلاع في العلوم الدينية، وإنما يحتكم لهواه وما يمليه عليه عقله المجرد.
وهذه العبارة جزء من حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟» قلت: نَعَمْ، فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي وَيَقُولُ: «يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» أخرجه الإمام أحمد، وحسنه الألباني.
وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال:قلت: يا رسول الله أخبرني ما يحل لي ويحرم عليّ؟ فقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ» رواه أحمد وصحه الألباني.
فالحديثان يدلان على أمور مهمة منها:
- الأول: واجب المسلم تعلم أحكام دينه التي يحتاج إليها ويتوقف عليها إيمانه وصحة عبادته وما يباشره من معاملات مالية أو غيرها، فإن كان المسلم من أهل الاجتهاد المعتبر رجع إلى الأدلة الشرعية واستنبط منها الأحكام الفقهية، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد وهو حال أغلب المسلمين فعليه أن يسأل من يثق بدينه وعلمه كما قال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. بالبينات والزبر} قال الشيخ ابن سعدي: «وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم، وأن أعلى أنواعه العلم بكتاب الله المنزل، فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث، وفي ضمنه تعديل لأهل العلم، وتزكية لهم، حيث أمر بسؤالهم، وأنه بذلك يخرج الجاهل من التبعة؛ فدل على أن الله ائتمنهم على وحيه وتنزيله».
- الثاني: إذا سأل المسلم من يظنه من أهل العلم عما يحتاج إلى معرفة حكمه فأجابه بالحكم الديني مؤيدا بالدليل الشرعي، فواجب المسلم حينئذ العمل بما دل عليه الدليل الصحيح الصريح الذي لا مخالف له ولا معارض، فالله تعالى أمرنا بامتثال أمره واتباع شرعه فقال سبحانه: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون}، ووعد من اتبع هداه بالرضوان والجنان فقال:{قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}، وذم سبحانه من أعرض وامتنع فقال عز وجل: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}.
قال ابن رجب رحمه الله: «فأمَّا ما كان مع المفتي به دليلٌ شرعيٌّ، فالواجب على المستفتي الرُّجوعُ إليه، وإنْ لم ينشرح له صدرُه، وهذا كالرخص الشرعية، مثل الفطر في السفر، والمرض، وقصرالصَّلاة في السَّفر، ونحو ذلك ممَّا لا ينشرحُ به صدور كثيرٍ مِنَ الجُهَّال، فهذا لا عبرةَ به، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم، فيمتنعون من فعله فيغضب من ذلك؛ كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، فكرهه من كرهه منهم، وكما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من عمرة الحديبية فكرهوه».
وفي الجملة، فما ورد النصُّ به، فليس للمؤمن إلا طاعةُ الله ورسوله، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا.
- الثالث: إذا لم يطمئن السائل لجواب المسؤول من أهل العلم؛ لظنه أنه لم يفهم سؤاله، أو استعجل بجوابه، أو لم يذكر له دليلا على حكمه، أو كان المسؤول معروفا بالتساهل في الإفتاء، أو من أهل الأهواء، فهنا على المسلم الاحتياط لدينه، والأخذ بأسباب نجاته، ويعلم أن الله تعالى مطلع على الصدور وخبايا النفوس، وأنه يحاسب الناس يوم القيامة على أعمالهم ومقاصدهم، وفتوى المفتي لا تغير من حقائق الأشياء التي يعلم الإنسان أنها لا تحل له أو يرتاب في حلها، وقد قال العلماء: «الفتوى غير التقوى؛ فإن الفتوى الحكم على ظاهر الأشياء، والتقوى الاحتياط في الأمور بأن يجتنب الرجل الشبهات، أو يعدل عنها إلى ما تيقن كونه حلالا، ومثاله: رجل له مال حلال وآخر حرام، فإن أتاك بشيء من ماله، والمفتي يقول لك: كلّ ما لم تتيقن أنه حرام جاز لك أكله، فلا ينبغي لك أن تأكل خوفا من أن تأكل حراما، فإن الفتوى غير التقوى».
قال ابن القيم رحمه الله في «إعلام الموقعين»: «لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردد فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك»، فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولا، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار»، والمفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره؛ لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها، فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي يسأل ثانيا وثالثا حتى تحصل له الطمأنينة، فإن لم يجد فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والواجب تقوى الله حسب الاستطاعة».
- الرابع: القلب الذي يرجع إليه الإنسان هو القلب المستنير بالإيمان، المسترشد بالعلم، وليس القلب الجاهل ولا القلب المريض بالشبهات أو الشهوات، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في فوائد الحديث: «جواز الرجوع إلى القلب والنفس لكن بشرط أن يكون هذا الذي رجع إلى قلبه ونفسه ممن استقام دينه؛ فإن الله عز وجل يؤيد من علم الله منه صدق النية».
وقال أيضا: «أي : حتى وإن أفتاك مفتٍ بأن هذا جائز، ولكن نفسك لم تطمئن ولم تنشرح إليه فدعه، فإن هذا من الخير والبر، إلا إذا علمت في نفسك مرضا من الوسواس والشك والتردد فلا تلتفت لهذا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب الناس أو يتكلم على الوجه الذي ليس في قلب صاحبه مرض» انتهى.
وقال أيضا: «وهذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافياً سليماً، فهذا هو الذي يحوك في نفسه ما كان إثماً، ويكره أن يطلع عليه الناس. أما المُتَمَرِّدون الخارجون عن طاعة الله الذين قست قلوبهم فهؤلاء لا يبالون، بل ربما يتبجحون بفعل المنكر والإثم، فالكلام هنا ليس عاماً لكل أحد، بل هو خاص لمن كان قلبه سليماً طاهراً نقياً، فإنه إذا هَمَّ بإثم وإن لم يعلم أنه إثم من قبل الشرع تجده متردداً يكره أن يطلع الناس عليه، فهذا علامة على الإثم في قلب المؤمن».
وقال رحمه الله: «لا يغتر الإنسان بإفتاء الناس، ولا سيما إذا وجد في نفسه ترددا، فإن كثيرا من الناس يستفتي عالما أو طالب علم فيفتيه ثم يتردد ويشك، فهل لهذا إذا تردد وشك أن يسأل عالما آخر؟ الجواب: نعم، بل يجب عليه أن يسأل عالما آخر إذا تردد في جواب الأول».
وخلاصة الأمر أن الاستدلال بالأدلة الشرعية إنما يكون وفق منهج معين بينه علماء الشريعة، وليس عملا عشوائيا، يأخذ الإنسان ما وقف عليه من الأدلة ويحتج به ويعمل وفقه دون العلم بثبوته أو دلالته أو سلامته من المعارض الراجح، بل لا بد من سؤال أهل العلم والله الموفق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-09-21, 08:19 PM
الحكمة ضالة المؤمن (68)


- من أضر بشخص أصبح خطرا على مائه



يتساهل بعض الناس أحيانا في انتهاك القوانين أو اللوائح ، أو التجاوز على الأملاك العامة أو الأملاك الخاصة، أو إيذاء الآخرين بسلوكه غير المبالي أو تصرفه الأناني الذاتي، ويسوّغ ذلك بأنه لم يضر أحدا، ولا ضير في مثل هذا التصرف اليسير - في ظنه - ويزعم أنه لا داعي للمبالغة أو تضخيم الأمور فالخطب يسير والأمر سهل، ونحو ذلك من عبارات تدل على التساهل في إيذاء الآخر والتعدي عليه، أوالتجاوز على الأملاك والمرافق العامة، فبعض الناس لديه من تبلد الإحساس وسذاجة التفكير وعدم الاهتمام بالآخرين ما يحمله على الإضرار بهم وبالمجتمع من حيث لا يشعر .
وخطورة الأمر تكمن في (طريقة التفكير) وليس عين الحدث، فمن أضر بشخص أصبح خطرا على مائه، وهو مثل إيطالي يدل على أن التساهل في الإيذاء من شخص يصبح ظاهرة تلحق الأذى بالمجتمع، كما أن التساهل في الضرر اليسير ينجم عنه استمرار تلك النقاط الصغيرة لتصبح سيلا جارفا يكتسح ما أمامه كما قيل: «القطرات القليلة تصنع جدولا».
وللإضرار معاني كثيرة واستعمالات عديدة، والمقصود منها هنا معنى الإيذاء وإيصال المفسدة والضرر إلى الآخرين، والشريعة الإسلامية قد وقفت موقفا حازما من الضرر والإضرار تمثل في النصوص الشرعية والقواعد الكلية التي بينت حقيقة الضرر وما يترتب عليه من جزاء مادي ومعنوي في الدنيا والآخرة.
فقال تعالى عن السحرة: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله}، فالسحر ضرر يلحقه الساحر بالمسحور بإذن الله.
ومن أوجه الإضرار؛ الإضرار بالزوجة بالطلاق والرجعة على غير الوجه المشروع كما قال تعالى: {ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا}، قال الشيخ ابن عثيمين: «كانوا في الجاهلية يطلق الرجل المرأة فإذا شارفت انقضاء العدة راجعها، ثم طلقها ثانية فإذا شارفت انقضاء العدة راجعها، ثم طلقها ثالثة ورابعة، لقصد الإضرار، فرفع الله تعالى ذلك إلى حد ثلاث طلقات فقط».
ومنها الإضرار في الرضاع، قال تعالى: {‏لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ‏}
قال مجاهد: «لا يمنع أمه أن ترضعه ليحزنها بذلك».
ومن ذلك الإضرار في الوصية قال تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ‏}، ويضرب الشيخ ابن عثيمين مثلا لذلك بقوله: «رجل أوصى بعد موته بنصف ماله لرجل آخر من أجل أن ينقص سهام الورثة، فهذا محرم عليه مع أن للورثة أن يبطلوا ما زاد على الثلث، مثال آخر:رجل له ابن عم بعيد لا يرثه غيره، فأراد أن يضاره وأوصى بثلث ماله مضارة لابن العم البعيد أن لا يأخذ المال، فهذا أيضاً حرام».
ومنه الإضرار في توثيق الحقوق كما قال تعالى:{ولا يضار كاتب ولا شهيد} وذلك بإيذاء الكاتب أو الشاهد على أي وجه كان.
وعن أبي صرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ضارّ ضارّ الله به، ومن شاقّ شقّ الله عليه» أخرجه أبو داود، قال صاحب عون المعبود: «من ضار» أي: مسلما - كما في رواية - أي: من أدخل على مسلم، جارا كان أو غيره مضرة يعني مفسدة في ماله أو نفسه أو عرضه بغير حق «أضر الله به» أي: جازاه من جنس فعله وأدخل عليه المضرة، قال: والحديث فيه دليل على تحريم الضرار على أي صفة كان، من غير فرق بين الجار وغيره.
وعنْ أَبي سَعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: “«لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَار» أخرجه ابن ماجه.
قال الشيخ ابن عثيمين: وهذا الحديث أصل عظيم في أبواب كثيرة، ولا سيما في المعاملات:
كالبيع والشراء والرهن والارتهان، وكذلك في الأنكحة يضار الرجل زوجته أو هي تضار زوجها، وكذلك في الوصايا يوصي الرجل وصية يضر بها الورثة.
فالقاعدة: متى ثبت الضرر وجب رفعه، ومتى ثبت الإضرار وجب رفعه مع عقوبة قاصد الإضرار، ولو سرنا على هذا الحديث لصلحت الأحوال، لكن النفوس مجبولة على الشح والعدوان، فتجد الرجل يضار أخاه، وتجده يحصل منه الضرر ولا يرفع الضرر.
هذا الحديث يعد قاعدة من قواعد الشريعة، وهي أن الشريعة لا تقر الضرر، وتنكر الإضرار أشد وأشد، والله الموفق.
وقد نقل ابن رجب عن العلماء الفرق بين الضرر والضرار ، فذكر أن فمنهم من قال هما بمعنى واحد على وجه التأكيد ، والمشهور أن بينهما فرقا ، ثم ذكر أوجه التفريق بينهما:
فقيل: إن الضرر هو الاسم، والضرار الفعل، فالمعنى أن الضرر نفسه منتف في الشرع وإدخال الضرر بغير حق كذلك .
وقيل: الضرر أن يدخل على غيره ضررا بما ينتفع هو به، والضرار أن يدخل على غيره ضررا بلا منفعة له به كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع .
وقيل:الضرر أن يضر به من لا يضره، والضرار أن يضر بمن قد أضر به على وجه غير جائز.
والفقه الإسلامي بمذاهبه المتعددة أكد هذا الأصل بأمثلة واقعية فيها معاقبة المهمل الذي ترتب على إهماله إلحاق الضرر بالآخرين، فمن تلك الأمثلة أن من فتح الماء في مزرعته واشتغل بأمر آخر فلم يشعر حتى تجاوز الماء الحواجز وأفسد زرع جاره فإنه يضمن.
والراعي الذي ينام في النهار فتضيع الغنم في نومه أويصيبها السبع أو السارق فيضمن لإهماله، ومن أوقد في ملكه نارا كثيرا تسري في العادة لكثرتها فأحرقت دار جاره يضمن.
ومن كانت يده يد أمانة كالمودع لديه والأجير فإنه يضمن التلف الذي حصل بسبب إهماله وتقصيره .
ونحو ذلك من الأمثلة التي تدل على أن التقصير وعدم الاحتياط الواجب عند باشرة الإنسان من يجوز له فعله مما يترتب عليه إلحاق الضرر بالغير فإن ذلك مما يوجب تعويض الضرر الذي أصاب الآخرين؛ لأن واجب الإنسان أن يتثبت ويحترس عند استعمال ملكه الخاص، فإذا قصر تحمل نتيجة فعله حفظا لأنفس الناس وأموالهم وأعراضهم.
ولا علاقة هنا للنية الصالحة والقصد الطيب، بل لابد من أن يوافق العمل الظاهر القصد الباطن، فصلاح الباطن وسلامة القصد لا يكفي لدفع المسؤولية عن الإنسان عندما يثبت تقصيره في الحفاظ على أمن وسلامة الآخرين .
فالمسلم يحرص على مراعاة الآخرين وسلامتهم، وتجنب الإضرار بهم على أي وجه كان، ويعلم أن سلامة المجتمع بالتزام كل فرد فيه بالمطلوب منه دون توقف على فعل الآخرين، فكل إنسان يقوم بواجبه ابتغاء وجه الله، سواء وافقه الآخرون أم تفرد بذلك، فاستقامة كل فرد تعني استقامة المجتمع، من أضر بشخص أصبح خطرا على مئة ، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

السليماني
2024-09-24, 12:47 PM
جزاك الله خيراً...

ابو وليد البحيرى
2024-09-28, 04:37 AM
آمين وإياكم

ابو وليد البحيرى
2024-09-28, 04:38 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن(69)

- ولن تجد لسنة الله تحويلا




أمرنا الله تعالى بتدبر كتابه الكريم، والتأمل فيما فيه من الحكم والأحكام، والعقائد والأعمال، والأخلاق والآداب، فالقرآن الكريم كتاب هداية للبشرية، يحمل لها النور والعلم وسبل الفلاح في الدنيا والآخرة. ومما اشتمل عليه القرآن الكريم آيات كثيرة تقرر أن لله تعالى سننا ثابتة، ونواميس لازمة، تتسم هذه السنن بالثبات وعدم التغير، وتتصف بالشمول والعموم، كما أنها نافذة متحققة لا تتخلف ولا تتبدل، التفقه بها تدبر لبعض ما اشتمل عليه القرآن من العلوم النافعة.
كما أنه يجعل المسلم على بصيرة وبينة فيسلك سبيل النجاة ويحذر سبل الهلاك، أما الجهل بها والإعراض عنها فيعرض المسلم للخطر؛ إذ لا يأمن المرء أن يقع فيما وقع فيه السابقون فيصيبه ما أصابهم كما قال تعالى:{قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}.
ويعرف الراغب الأصفهاني السنن فيقول: «السنن: جمع سنة، وسنة الله تعالى: قد تقال لطريقة حكمته، وطريقة طاعته، نحو: {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}،{ولن تجد لسنة الله تحويلا} فهو تنبيه بأن فروع الشرائع، وإن اختلفت صورها، فالغرض المقصود منها لا يختلف ولا يتبدل، وهو تطهير النفس وترشيحها للوصول إلى ثواب الله تعالى وجواره».
وبتتبع القرآن الكريم نجد أن سنن الله تعالى متنوعة منها سنة التغيير كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ومنها سنة المداولة كما قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ومنها سنة التدافع كما قال تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا}، وغيرها من السنن القرآنية.
وبعض تلك السنن الإلهية تحمل الخير للمسلمين؛ لذا بيّنها لنا سبحانه وأمرنا باتباعها كما قال تعالى:{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}، وقال سبحانه: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم}، قال ابن سعدي: «يخبر الله تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة وحسن تربيته لعباده المؤمنين وسهولة دينه فقال: {يريد الله ليبين لكم} أي: جميع ما تحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل، والحلال والحرام: {ويهديكم سنن الذين من قبلكم}أي: الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم في سيرهم الحميدة وأفعالهم السديدة وشمائلهم الكاملة، فلذلك نفذ ما أراده، ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل».
وقال تعالى: {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}، قال ابن سعدي: «هذه بشارة من الله تعالى لعباده المؤمنين بنصرهم على أعدائهم الكافرين»، وقال ابن كثير: «أي: هذه سنة الله وعادته في خلقه: ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل إلا نصر الله الإيمان على الكفر فرفع الحق ووضع الباطل ، كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين نصرهم على أعدائه من المشركين مع قلة عدد المسلمين وعُددهم وكثرة المشركين وعُددهم».
كما أن بعض تلك السنن في حقيقتها عقوبة جسيمة كما قال تعالى: {فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا}، قال ابن سعدي: «سنة الله في الأولين التي لا تبدل ولا تغير، أن كل من سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد أن تحل به نقمته، وتسلب عنه نعمته، فليترقب هؤلاء ما فعل بأولئك».
وقال سبحانه: {سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}، قال ابن سعدي: «إن من تمادى في العصيان، وتجرأ على الأذى ولم ينته عنه، فإنه يعاقب عقوبة بليغة: {ولن تجد لسنة الله تبديلا} أي: تغييرا، بل سنته تعالى وعادته جارية مع الأسباب المفضية لمسبباتها».
وقال عز وجل: {سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا}، قال ابن سعدي في فوائد الآية: «وفيها أن الله إذا أراد إهلاك أمة تضاعف جرمها وعظم وكبر فيحق عليها القول من الله فيوقع بها العقاب كما هي سنته في الأمم إذا أخرجوا رسولهم»، وقال ابن كثير: «أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا، وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم، يأتيهم العذاب، ولولا أنه صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به؛ ولهذا قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}.
وقال تعالى: {سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا}، وقال: {سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون}، قال ابن كثير: «أي : هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل؛ ولهذا جاء في الحديث: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر».
وأطلق الله تعالى (سنة الأولين) على عادته في إهلاك المكذبين فقال تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا}، قال ابن سعدي: «أي: ما منع الناس من الإيمان، والحال أن الهدى الذي يحصل به الفرق بين الهدى الضلال، والحق والباطل، قد وصل إليهم، وقامت عليهم حجة الله، فلم يمنعهم عدم البيان، بل منعهم الظلم والعدوان عن الإيمان، فلم يبق إلا أن تأتيهم سنة الله وعادته في الأولين من أنهم إذا لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب، أو يرون العذاب قد أقبل عليهم ورأوه مقابلة معاينة، أي: فليخافوا من ذلك وليتوبوا من كفرهم قبل أن يكون العذاب الذي لا مرد له».
وقال سبحانه: {لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين}، قال ابن كثير: «أي: قد علم ما فعل تعالى بمن كذب رسله من الهلاك والدمار وكيف أنجى الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة».
وقال تعالى: {وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين}، قال ابن كثير: «وقوله: {وإن يعودوا} أي: يستمروا على ما هم فيه {فقد مضت سنة الأولين} أي: فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة».



اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-09-28, 04:41 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن (70)


- المجالــــس بالأمانــة




الإنسان مدني بطبعه، يحب مخالطة الآخرين والتواصل معهم، ويحرص على مشاركتهم في أفكارهم ومشاعرهم، ويتبادل معهم الآراء والمفاهيم؛ مما يقتضي الحديث معهم في المجالس العامة والجلسات الخاصة، وقد أرشدنا الإسلام إلى احترام تلك المجالس، والقيام بحقوقها من حفظ الأسرار، ورعاية خصوصية المتحدثين، وعدم إيذائهم بإفشاء أسرارهم ونشر أخبارهم دون إذن منهم.
ويوضح الراغب معنى السر بأنه: «ما يلقى إلى الإنسان من حديث يستكتم، وذلك إما لفظا كقولك لغيرك: اكتم ما أقول لك، وإما حالا: وهو أن يتحرى القائل حال انفراده فيما يورده أو يخفض صوته أو يخفيه عن مجالسه؛ ولهذا قيل: إذا حدثك إنسان بحديث فالتفت فهو أمانة».
ويبين أيضاً أن كتمان الأسرار من الوفاء، وإذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدر، ويوصف به ضعفة الرجال والنساء والصبيان، فقد قيل: الصبر على القبض على الجمر أيسر من الصبر على كتمان السر.
ومن النصوص الشرعية التي أكدت حرمة المجالس ولزوم القيام بحقوقها قوله صلى الله عليه وسلم: «المجالس بالأمانة، إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق» أخرجه أبو داود وحسنه الألباني
ويبين العلماء أن معنى الحديث: تحسن المجالس أو حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضرها؛ لما يحصل في المجالس ويقع فيها من الأقوال والأفعال، فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أمينا على ما يسمعه أو يراه.
- وقوله: «إلا ثلاثة مجالس»، هو استثناء منقطع، والمعنى ينبغي للمؤمن إذا رأى أهل مجلس على منكر ألا يشيع ما رأى منهم إلا ثلاثة مجالس وهي المذكورة، فلا يجوز للمستمع كتمه بل عليه إفشاؤه دفعا للمفسدة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا حدث الرجل بالحديث، ثم التفت، فهي أمانة» أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني.
قال شراح الحديث: «والمعنى إذا حدث الرجل شخصا بالحديث الذي يريد إخفاءه ثم التفت يمينا وشمالا احتياطا، فذلك الحديث أمانة عند من حدثه، أي: حكمه حكم الأمانة، فلا يجوز إضاعتها بإشاعتها؛ لأن التفاته إعلام لمن يحدثه أنه يخاف أن يسمع حديثه أحد، وأنه قد خصه بسره، فكان الالتفات قائما مقام: اكتم هذا عني، أي: خذه عني واكتمه، وهو عندك أمانة».
وقال صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الألباني، والمقصود بالمستشار: أي الذي طلب إليه المشورة والرأي، وقوله: «مؤتمن» اسم مفعول من الأمن أو الأمانة، أي: أمين، فلا ينبغي له أن يخون المستشير بكتمان المصلحة والدلالة على المفسدة.
قال الطيبي: «معناه أنه أمين فيما يسأل من الأمور؛ فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته».
وقال أبو حاتم البستي: «والواجب على العاقل السالك سبيل ذوي الحجى أن يعلم أن المشاورة تفشي الأسرار، فلا يستشير إلا اللبيب الناصح الودود الفاضل في دينه، وإرشاد المشيرِ المستشيرَ قضاءُ حق النعمة في الرأي، والمشورة لا تخلو من البركة إذا كانت مع مثل من وصفنا نعته».
وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الهدي بنفسه كما أخرج البخاري في «الأدب المفرد» عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الهيثم: «هل لك خادم؟»، قال: لا، قال: «فإذا أتانا سبي فائتنا»، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اختر منهما»، قال: يا رسول الله، اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المستشار مؤتمن، خذ هذا؛ فإني رأيته يصلي، واستوص به خيرا»، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، قال: فهو عتيق.
وتأمل تطبيق الصحابة الكرام لهذا الهدي النبوي الكريم فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَأَنَا ابْنُ ثَمَانيِ سِنِينَ، فَأَخَذَتْ أُمِّي بِيَدِي، فَانْطَلَقَتْ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ رَجُلٌ وَلاَ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلاَّ قَدْ أَتْحَفَكَ بِتُحْفَةٍ، وَإِنِّي لاَ أَقْدِرُ عَلَى مَا أُتْحِفُكَ بِهِ إِلاَّ ابْنِي هَذَا، فَخُذهُ فَلْيَخْدُمْكَ مَا بَدَا لَكَ، فَخَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا ضَرَبَنِي ضَرْبَةً، وَلاَ سَبَّنِي سَبَّةً، وَلاَ انْتَهَرَنِي، وَلاَ عَبَسَ فِي وَجْهِي، وَكَانَ أَوَّلَ مَا أَوْصَانِي بِهِ أَنْ قَالَ:«يَا بُنَيَّ، اكْتُمْ سِرِّي تَكُ مُؤْمِنًا». قال أنس: فَكَانَتْ أُمِّي وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلْنَنِي عَنْ سِرِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلاَ أُخْبِرُهُمْ بِهِ، وَمَا أَنَا بِمُخْبِرٍ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا أَبَدًا. أخرجه التِّرْمِذِي.
وعن أنس قال: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ صِبْيَانٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، وَأَرْسَلَنِي فِي حَاجَةٍ، وَجَلَسَ فِي الطَّرِيقِ يَنْتَظِرُنِي، حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ فَقُلْتُ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ، قَالَتْ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ: فَاحْفَظْ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. أخرجه البُخَارِي في «الأدب المفرد».
ومن سوء العشرة وخيانة الأمانة إفشاء الأسرار الزوجية، فعن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم يَنْشُر سرها» أخرجه مسلم.
قال الشراح: «والمعنى أن نشر الرجل وإفشاءه ما جرى بينه وبين امرأته حال الاستمتاع بها من أعظم خيانة الأمانة».
فخلاصة القول أن كتم الأسرار من الأمانة، والأمانة من الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» أخرجه أحمد وصححه الألباني، كما أن كتم السر من الوفاء بالعهد وقد قال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا}، ونشر الأسرار خيانة للعهد كما قال الحسن: «إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك»، وخيانة العهد من صفات المنافقين كما قال صلى الله عليه وسلم:»أربع من كن فيه كان منافقا خالصا» وذكر منهن: «إذا اؤتمن خان»، كما أن كتم السر فضيلة تدل على كمال عقل الإنسان ووقاره، وحفظه لحقوق الأخوة، وإفشاء الأسرار قد يسبب أضرارا مادية ومعنوية، دنيوية ودينية. وفقنا الله تعالى لما يحب ويرضى.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-09-30, 07:45 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (71)


-من طلب ما لم يَعْنِهِ فاته ما يعنيه



خلق الله تعالى الإنسان لغاية عظيمة، وهي أن يعبد الله تعالى وحده، ويعمل بطاعته، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وسخر الله تعالى للإنسان السموات والأرض والمخلوقات ليتفرغ لعبادته، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}.
وقال سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}، فالسعيد من أدرك غايته، وسعى لها بلا كسل ولا انحراف، والمحروم من لم يعرف غايته، أو اشتغل بما خلق لخدمته عمن خلقه لعبادته.
وهذه الكلمة الحكيمة: «من طلب ما لم يعنه فاته ما يعنيه»؛ هي من نفائس كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يقرر فيها أمرا عظيما، وخلقا كريما ألا وهو أن من طلب ما ليس بمهم له أضاع وقته وجهده على حساب ما هو مهم له وضروري لدنياه وآخرته، فهو يحثنا على البصيرة في الدين، والفطنة في الدنيا بأن يطلب الإنسان ما فيه صلاح دينه ودنياه، ولا يضيع وقته وجهده في أمور لا تعنيه، بل قد تضره وتؤخره، فالواجبات كما قيل أكثر من الأوقات، والمسلم مطالب بحقوق كثيرة لله تعالى ولعباد الله، ومن اشتغل بذلك لم يجد وقتا لفضول الكلام، أو كثرة المخالطة، أو الاشتغال بعيوب الناس وانتقادهم.
وقد جاء في السنة المطهرة ما يؤكد هذا المعنى ويقرره، فعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ[: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيه» أخرجه الترمذي.
قال ابن رجب: «ومعنى هذا الحديث: أن من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه من قول وفعل، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، ومعنى يعنيه: أنه تتعلق عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه، والعناية: شدة الاهتمام بالشيء، يقال: عناه يعنيه: إذا اهتم به وطلبه، وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس، بل بحكم الشرع والإسلام؛ ولهذا جعله من حسن الإسلام؛ فإذا حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال؛ فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات، وإن الإسلام الكامل الممدوح يدخل فيه ترك المحرمات كما قال[: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وإذا حسن الإسلام، اقتضى ترك كل ما لا يعني من المحرمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه، وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإن الله يراه، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه، فقد حسن إسلامه، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه؛ فإنه يتولد من هذين المقامين الاستحياء من الله وترك كل ما يستحيا منه».
ويبين عمر بن عبد العزيز رحمه الله ما يعين على هذا الخلق فيقول: «من عد كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما يعنيه»، قال ابن رجب: «وهو كما قال، فإن كثيرا من الناس لا يعد كلامه من عمله، فيجازف فيه، ولا يتحرى».
وعن الحسن قال: «من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه».
وقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: «مَنِ اشْتَغَلَ بِمَا لا يَعْنِيهِ فَاتَهُ مَا يَعْنِيهِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِمَا يَكْفِيهِ فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ يُغْنِيه»، وقيل: «بترك الفضول تكمل العقول».
ويبين ابن القيم رحمه الله خطورة الاشتغال بما لا يعني الإنسان فيقول: «اشغل نفسك فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، فإياك ثم إياك أن تمكن الشيطان من أفكارك فإنه يفسدها عليك إفسادا يصعب تداركه، ويلقي إليك الوسواس، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، إياك أن تعينه على نفسك بتمكينه من قلبك، فمثالك معه كمثال صاحب رحـى يطحن فيها الحبوب، فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونك، فإن طردته ولم تمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون فقد واصلت على طحن ما ينفعك، وإن مكنته من إلقاء ما معه في الطاحون أفسد عليك ما في الطاحون من الحب فخرج الطحين كله فاسدا».
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: «لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل، ولا آمن عليك الزور، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا، فرب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فأعنته».
ودخلوا على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض فكان وجهه يتهلل فقيل له: ما بال وجهك يتهلل يرحمك الله؟ فقال: «ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليما».
فعمر الإنسان ثمين، ووقته عزيز، والمطالب الدينية كثيرة، وأبواب الخير عديدة، والمرء لا يملك الوقت الكافي ولا الجهد المعين على القيام بتلك الواجبات، فكيف يضيع وقته في مجالس فارغة، وأسواق ملهية، وكلام في أمور ماضية لا يملك تغييرها، أو أمور مستقبلة الله أعلم بها، وهو مستغرق في مضغ وتكرار أمور لا يريدها من سلبيات المجتمع وأخطاء الناس، وكسول ومتراخ عن أمور يريدها ويطمح بها من علم نافع، وعمل صالح، ومال حلال، وأسرة مطمئنة، وراحة بال، وطيب عيش، كل ذلك وهو يعيش في دائرة السلبيات والحديث عن الأخطاء، ولا يحرك ساكنا، ولا يبذل أدنى جهد لإصلاح ما يقدر على إصلاحه في حياته وأسرته وما يدخل تحت سلطانه.
فالطريق طويل، والسفر شاق، والحمل ثقيل، والعقبة كؤود، والموفق من استعد لعبورها بالإيمان والعمل الصالح والعلم النافع والتخفف من أثقال الذنوب والمعاصي، والمحروم من اشتغل بعيوب الآخرين عن إصلاح نفسه ودينه وأخراه، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-09-30, 07:46 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (72)


{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (1-2)




هذه الآية الكريمة دلت على حقيقة كبرى من حقائق الدين الرئيسة، وقواعده الأصيلة، وهي أن غاية خلق الثقلين، والحكمة العليا من الإيجاد هي عبادة الله تعالى وحده والقيام بمقتضى العبودية له سبحانه وتعالى.

فالعبادة هي الغاية المحبوبة لله تعالى المرضية عنده، التي خلق الخلق لأجلها كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، قال ابن كثير في بيان معنى الآية: «إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم ».
ونقل عن ابن عباس تفسير قوله تعالى: {إلا ليعبدون} أي: «إلا ليقروا بعبادتي طوعا أو كرها» وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن جريج: «إلا ليعرفون».
قال الشيخ الشنقيطي: التحقيق -إن شاء الله - في معنى هذه الآية الكريمة إلا ليعبدون، أي إلا لآمرهم بعبادتي وأبتليهم أي أختبرهم بالتكاليف، ثم أجازيهم على أعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق في معنى الآية؛ لأنها تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملا، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم.
قال تعالى في أول سورة هود: {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء}، ثم بين الحكمة من ذلك فقال: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا}، وقال تعالى في أول سورة الملك: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}، فتصريحه -جل وعلا - في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق، هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملا، يفسر قوله: {ليعبدون}، وخير ما يفسر به القرآن (القرآن).
ومعلوم أن نتيجة العمل المقصودة منه لا تتم إلا بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؛ ولذا صرح تعالى بأن حكمة خلقهم أولا وبعثهم ثانيا، هي جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وذلك في قوله تعالى في أول يونس: {إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط}.
ويؤكد شيخ الإسلام ابن تيمية أن العبادة هي الغاية الكريمة التي أرسل لأجلها الرسل وأنزل الكتب كما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}، وبها وصف ملائكته وأنبياءه فقال تعالى: {وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون}، ونعت بها صفوة خلقه فقال تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}، وقال تعالى: {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا}.
وقد وصف الله سبحانه بالعبادة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم في أكمل أحواله، فقال عنه في مقام الإسراء: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}، وقال عنه في مقام الإيحاء: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} وقال في مقام الدعوة: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا}.
وقد ذمّ الله تعالى المستكبرين عن عبادته فقال سبحانه: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}.
ويقرر رحمه الله أن الدين كله داخل في العبادة كما دل على ذلك حديث جبريل الطويل، وفيه سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان فأجابه وقال في آخر الحديث: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».
فالدين في حقيقته متضمن معنى الخضوع والذل الذي هو حقيقة العبادة، ومن هنا فإن دين الله تعالى هو عبادته وطاعته والخضوع له.
وللعبادة ركنان تقوم عليهما وهما: (كمال الخضوع مع كمال الحب)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له».
ويقول الشيخ مبينا ترابط هذين العنصرين: «ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له، كما قد يحب الرجل ولده وصديقه؛ ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله تعالى أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله، وكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدة، وما عظم بغير أمر الله فتعظيمه باطل».
ولابد لصحة العبادة من توافر شروط أهمها: (الإخلاص والاتباع)، قال شيخ الإسلام: «جماع الدين أصلان ألا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، وذلك تحقيق الشهادتين، ففي الأولى: ألا نعبد إلا إياه، والثانية: أن محمدا هو رسوله المبلغ عنه، فعلينا أن نصدق خبره وأن نطيع أمره، وقد بين لنا ما نعبد الله به، ونهانا عن محدثات الأمور وأخبر أنها ضلالة، وكما أننا مأمورون ألا نخاف إلا الله ولا نتوكل إلا على الله ولا نرغب إلا إلى الله ولا نستعين إلا بالله وألا تكون عبادتنا إلا لله، فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه ونتأسى به، فالحلال ما أحله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه».
ويقول ابن القيم: «لا يكون العبد متحققا بالعبودية إلا بأصلين عظيمين، أحدهما: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والثاني: الإخلاص للمعبود».
- فالأصل الأول: وهو: (الإخلاص) دل عليه قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}.والأصل الثاني: وهو: (الاتباع) دل عليه قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} وقوله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}.
وإفراد الله تعالى بالعبادة هو حق الله الواجب على عباده كما أمر بذلك في قوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا}، وقال تعالى: {يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون}.
وعن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا معاذ هل تدري حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟»، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا».
وجاءت النصوص الكثيرة في النهي عن الشرك في عبادة الله تعالى، والوعيد الشديد لمن أشرك غير الله مع الله سبحانه في العبادة، والتنديد بالمعبودات الباطلة، وتأكيد ضلال من عبدها، كل ذلك لتقرير العبودية لله تعالى وحده؛ لأنه سبحانه المستحق لها وحده لما له من الكمال والجلال والجمال وتمام الملك والتفرد بالخلق والرزق وسائر مظاهر الربوبية، وكل ما سواه فهو مخلوق مربوب ضعيف عاجز فقير، والله هو الغني الحميد.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-10-12, 07:45 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (73)


{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (2-2)



قال بعض المؤرخين: من الممكن أن نجد مدنا بلا أسوار ولا ملوك ولا ثروة ولا آداب، ولكن لم ير إنسان قط مدينة بلا معبد، أو لا يمارس أهلها العبادة. فالعبادة من ضروريات حياة الإنسان، فهي ليست أمرا تكميليا، وليست ترفا فكريا، وإنما هي حاجة فطرية أساسية ومطلب قلبي ملح، يقول شيخ الإسلام: القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين، من جهة العبادة - وهي العلة الغائية - ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة، فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا ينعم، ولا يسر، ولا يلتذ، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة.
ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات، لم يطمئن، ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة، وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائما مفتقر إلى حقيقة {إياك نعبد وإياك نستعين}؛ فإنه لو أعين على حصول كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادة الله، فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون الله هو غاية مراده، ونهاية مقصوده.
والعبادة وإن كانت مطلوبا شرعيا، وحقا إلهيا، إلا إن لها ثمرات طيبة، وفوائد مباركة ترجع على العباد في الدنيا والآخرة، وقد اجتهد العلماء في الوصول إلى بعض وظائف العبادة والثمرات التي تحققها في الفرد والمجتمع، ومن تلك الوظائف:
أولا: تحقيق العبودية لله تعالى والتقرب منه:
خلق الله تعالى الإنس والجن لعبادته، فقيام الإنسان بالشعائر التعبدية هو مظهر من مظاهر طاعة الله تعالى، ودليل على صدق عبودية المكلف؛ لأن الدعاوى إذا لم تؤيدها البراهين كانت أقوالا كاذبة، قال ابن القيم: وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة؛ ولهذا جعل تعالى اتباع الرسول علما عليها وشاهدا لمن ادعاها، فقال تعالى:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}، وهذا معنى قول الحسن: ليس الإيمان بالتمنى ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
ثانيا: العبادة تحرير للإنسان:
تحقيق العبادة لله تعالى وحده تحرير للإنسان من كل عبودية أخرى، وذلك أن الإنسان لا ينفك عن وصف العبودية؛ لأن له قلبا إما أن يكون عبدا لله، وإلا استعبدته حاجاته ومطامعه وأهواؤه، ويؤكد شيخ الإسلام هذا المعنى فيقول: فالعبد لا بد له من رزق، وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبدا لله، فقيرا إليه، وإذا طلبه من مخلوق صار عبدا لذلك المخلوق فقيرا إليه.
ويقول: فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، ويقول: الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده، فالقلب عبده.
ويبين رحمه الله الأثر المترتب على حرية القلب ورقه فيقول: فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن؛ فإن من استعبد بدنه واسترق وأسر لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص.
أما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقا مستعبدا متيما لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض، والعبودية الذليلة لما استعبد القلب.
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب؛ فإن المسلم لو أسره كافر أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك، إذا كان قائما بما يقدر عليه من الواجبات، وأما من استعبد قلبه فصار عبدا لغير الله، فهذا يضره ذلك ولو كان في الظاهر ملك الناس».
ثالثاً: تزكية النفس وتطهيرها:
العبادة سبب عظيم لتهذيب النفوس البشرية من الذنوب والأمراض التي قد تطرأ عليها، والأخلاق الرديئة التي قد تنطبع بها، وهذا ما يظهر واضحا من خلال نصوص كثيرة تربط بين العبادة والتزكية مثل قوله تعالى:{وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، وقوله:{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}، وقوله:{قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى}، ونصوص كثيرة تشير إلى أثر العبادة في تزكية الإنسان وتقويمه.
رابعاً: إعداد الفرد الصالح في المجتمع:
للعبادة وظيفة اجتماعية مهمة تتمثل في تخريج أفراد صالحين بكل معاني الصلاح، فتزكية النفوس وتهذيبها بأنواع العبادات المختلفة يعود أثره على واقع المجتمع، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وفائدة هذا عائدة على المجتمع كما لا يخفى، الزكاة تطهير للفرد من البخل والشح، ولا شك أن أفرادا كثيرين سيستفيدون من صرف الزكاة على مستحقيها في المجتمع، وقس على ذلك سائر العبادات من الصيام والحجاب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالعبادة الصحيحة توجد الفرد الصالح القائم بحقوق الله وحقوق العباد.
خامسا: العبادة مظهر من مظاهر الشكر:
العبادة تعبير عملي عن شكر النعم الكثيرة التي امتن الله تعالى بها على عباده، والله تعالى يحب أن يشكر ولا يكفر، ومن صور الشكر القيام بعبادته على الوجه المشروع كما أشار إلى ذلك تعالى في قوله: {اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور}، وحقق النبي [ هذا المعنى حين كان يقوم حتى تتفطر قدماه، فلما قيل له: لم تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال مبينا أن ذلك من موجبات الشكر و الزيادة: «أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا» أخرجه البخاري.
سادساً: العبادة سر السعادة:
يقول شيخ الإسلام: إن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له، لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أمتع ولا أطيب، فالموحد سعيد بتوحيده كما قال تعالى: {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا}، فهذا مثل ضربه الله للمشرك الشقي بطاعة غير الله، والموحد المخلص لله فهو سعيد مرتاح.
وأيضا فإن العابد المطيع يسعد في الدنيا بالنعم العاجلة كما قال تعالى:{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}، وقال تعالى:{ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم، ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}، وقال ابن عباس مبينا الأثر العاجل للطاعة والمعصية: «إن للحسنة نورا في القلب، وزينا في الوجه، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة ظلمة في القلب، وشينا في الوجه، ووهنا في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق».
نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، فذلك - كما يقول ابن القيم - أنفع الدعاء وهو طلب العون على مرضاته، وأفضل المواهب إسعافه بهذا المطلوب، وبهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذا فقال: «لا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-10-12, 07:46 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (74)


- شر الناس ذو الوجهين




يحث الإسلام أتباعه المؤمنين على الصدق في الأقوال والأفعال، والوضوح في المواقف، والثبات على المبادئ، فقال تعالى:{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}، ويحذر من التلون والتقلب في المواقف حسب المصالح الدنيوية والأهواء الشخصية، ويعد هذا من صفات المنافقين كما قال تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا}.
قال الشيخ ابن سعدي: «فهذه الأوصاف المذمومة تدل -بتنبيهها- على أن المؤمنين متصفون بضدها من الصدق والإخلاص ظاهرا وباطنا».
وللأسف تجد بعض الناس ليس له شخصية مستقلة، ولا رأي ثابت، بل هو أقرب ما يكون شبها بالسائل الشفاف يأخذ لون الإناء الذي يوضع فيه، فهذا النوع من الناس إذا جلس مع المتدينين أظهر التدين والصلاح وانتقد غير المتدينين وعابهم، وإذا جمعه المجلس مع غير المتدينين وافقهم في أخلاقهم وأقوالهم وربما استهزأ بالمتدينين وانتقصهم.
ووقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الخلق ولا سيما إذا صاحب ذلك نميمة أو غيبة أو إفساد ، فقد أخرج الشيخان عن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَجِدُونَ النَّاسَ مَعادِنَ: خِيَارُهُم في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا، وتَجِدُونَ خِيَارَ النَّاسِ في هَذَا الشَّأنِ أَشَدَّهُمْ كَرَاهِيَةً لَهُ، وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الوَجْهَينِ، الَّذِي يَأتِي هؤُلاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ».
ويوضح الباجي سبب وصفه بذي الوجهين فيقول: «وصف بذلك لأنه يأتي هؤلاء بوجه التودد إليهم والثناء عليهم والرضا عن قولهم وفعلهم، فإذا زال عنهم وصار مع مخالفيهم لقيهم بوجه من يكره الأولين ويسيء القول فيهم والذم لفعلهم وقولهم».
ويذهب القرطبي إلى أبعد من ذلك فيعد ذلك من أحوال المنافقين فيقول: «إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق؛ إذ هو متملق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس». ومثله الإمام النووي رحمه الله إذ يقول: «ذو الوجهين: هو الذي يأتي كل جماعة بما يرضيها فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق، ومحض كذب وخداع، وتحايل على الاطلاع على أسرار الطائفتين وهي مداهنة محرمة».
ومما يؤكد خطورة هذه الخصلة الذميمة ما ورد في شأنها من وعيد شديد، فعن عمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار» أخرجه أبو داود وصححه الشيخ الألباني .
وظاهر أن هذا الجزاء من جنس العمل كما علله في «عون المعبود» فقال: «معناه: أنه لما كان يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه على وجه الإفساد، جُعل له لسانان من نار كما كان له في الدنيا لسان عند كل طائفة».
وهذا الحكم يستوي فيه الدخول على مجالس العامة ومجالس الوجهاء والأمراء على حد سواء، فقد قال أناس لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على سلطاننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، فقال: «كنا نعده نفاقا». أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأحكام (باب ما يكره من ثناء السلطان وإذا خرج قال غير ذلك).
وذكر الحافظ أن في بعض الروايات أنهم قالوا: «إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون في شيء نعلم أن الحق غيره فنصدقهم، فقال ابن عمر: «كنا نعد هذا نفاقا، فلا أدري كيف هو عندكم»؟
وهذا للأسف ما يفعله بعض الناس، حيث يدخل على الحكام والمسؤولين فيمدحهم ويتزلف لهم، فإذا خرج من عندهم بادر بانتقاصهم واغتيابهم وذكر مساوئهم، فيقال له: ما منعك من نصحهم سرا في مجلسهم أداء للأمانة ونصحا لأئمة المسلمين وعامتهم؟! أم إنه الجبن والتلون وموافقة الجلساء في الغيبة والخوف من مخالفتهم لأجل الحق والمبادئ؟!
وينبغي التفريق بين التلون في المواقف والتنازل عن المبادئ -وهو المداهنة- واستعمال الحكمة عند مخالطة الناس، والترفق بهم للإصلاح والتوعية -وهي المداراة- قال أبو حاتم البستي: «الواجب على العاقل أن يلزم المداراة مع من دفع إليه في العشرة من غير مقارفة المداهنة؛ إذ المداراة من المداري صدقة له، والمداهنة من المداهن تكون خطيئة عليه».
قال النووي: «فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود»، ونقل ابن حجر عن غيره الفرق بينهما: أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى، ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل إليها ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح».
وقال ابن القيّم مبينا الفرق بين المداراة والمداهنة: «المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذمّ، والفرق بينهما أنّ المداري يتلطّف بصاحبه حتّى يستخرج منه الحقّ أو يردّه عن الباطل، والمداهن يتلطّف به ليقرّه على باطله ويتركه على هواه، فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النّفاق. وقد ضرب مثل لذلك مطابق، وهو حال رجل به قرحة قد آلمته فجاءه الطّبيب المداوي الرّفيق، فتعرّف حالها ثمّ أخذ في تليينها، حتّى إذا نضجت أخذ في بطّها برفق وسهولة، حتّى إذا أخرج ما فيها وضع على مكانها من الدّواء والمرهم ما يمنع فسادها، ثمّ تابع عليها بالمراهم الّتي تنبت اللّحم، ثمّ يذرّ عليها بعد نبات اللّحم ما ينشّف رطوبتها، ثمّ يشدّ عليها الرّباط، ثمّ لم يزل يتابع ذلك حتّى صلحت، أمّا المداهن فقال لصاحبها: لا بأس عليك منها، وهذه لا شيء، فاسترها عن العيون بخرقة، ثمّ أله عنها، فلا تزال مدّتها تقوى وتستحكم حتّى عظم فسادها».
وقال البخاري في كتاب الأدب باب المداراة مع الناس: ويذكر عن أبي الدرداء: «إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم»، قال ابن حجر: «والكشر بالشين المعجمة وفتح أوله: ظهور الأسنان، وأكثر ما يطلق عند الضحك».
ثم أخرج بسنده عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: «ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة». فلما دخل ألان له الكلام فقلت له: «يا رسول الله، قلت ما قلت ثم ألنت له في القول؟» فقال: «أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه».
قال ابن بطال: «المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة. وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط; لأن المدارة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك».
فعلى المسلم أن يكون صادقا مع ربه ومع نفسه ومع الآخرين، ثابتا في مواقفه ومبادئه، حكيما في دعوته إلى الله تعالى، متوسطا بين الحزم والرفق، مفرقا بين الصراحة والوقاحة، وموازنا بين المصالح والمفاسد، جامعا بين العلم والعمل، والله تعالى الموفق لكل خير وسداد.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-10-28, 04:57 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن (75)


- عَـشِّ ولا تغتر




يبتلي الله تعالى عباده بالخير والشر، فتارة يبتليهم بالفقر والمرض والحروب ونحوها من المصائب، وتارة يبتليهم بالأموال وكثرة الأولاد والتمكين في الأرض وتسخير الخيرات لهم كما قال عز وجل:{ ونبلوكم بالشر والخير فتنة}، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: « أي نبتليكم بالشر والخير فتنة: بالشدة، والرخاء، والصحة، والسقم، والغنى، والفقر، والحلال، والحرام، والطاعة، والمعصية، والهدى، والضلال»، وقال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} ونحو ذلك من الآيات.
والابتلاء بالخير أشد من الابتلاء بالشر؛ لأن الشر أمره ظاهر ويتفطن له غالب الناس، أما الابتلاء بالخير فقد يغرق الإنسان في النعم ولا يتنبه إلى أن هذا اختبار من الله تعالى له ليبلوه أيشكر أم يكفر، وتجري عليه النعم سابغة وهو غافل عن المقصود منها، وقد يغتر بها ويسوقه البطر إلى نسيان شكر المنعم، والغفلة عن القيام بحقه، والمسلم الواعي لا ينشغل بالنعم عن المنعم، ولا يغتر بالدنيا، ولا يثق بزينتها وزخرفها، ويأخذ بأوثق الأمور، ويستعد لأسوأ الاحتمالات، ويعمل بأسباب النجاة؛ فالسفر طويل، والعقبة كؤود، والناقد بصير.
وهذا المثل العربي يصور هذه الحقيقة، ويقرب ذلك المعنى بأوجز عبارة وأقصر لفظ، قال الميداني في مجمع الأمثال: «أصل المثل -فيما يُقَال- أن رجلا أراد أن يُفَوِّزَ -أي يسير في المفازة-بإبله ليلا، واتّكَل على عشب يجده هناك، فقيل له‏:‏ عّشِّ ولا تَغْتَر، إي لا تغتر بما لست منه على يقين.
ويروى أن رجلاً أتى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم فقال‏:‏ كما لا ينفع مع الشرك عمل، كذلك لا يضر مع الإيمان ذنب، فكلهم قَال‏:‏ «عشِّ ولا تّغْتَر»، يقولون‏:‏ لا تُفَرِّطْ في أعمال الخير وخُذْ في ذلك بأوثقَ الأمور، فإن كان الشأن على ما ترجو من الرُّخصَة والسَّعة هناك، كان ما كسبت زيادةً في الخير، وإن كان على ما تخاف كنت قد احْتَطْتَ لنفسك.
ويوضح الغزالي أهمية اليقظة وخطورة الغرور فيقول: «إن مفتاح السعادة التيقظ والفطنة، ومنبع الشقاوة الغرور والغفلة، والمغرور هو الذي لم تنفتح بصيرته ليكون بهداية نفسه كفيلا، وبقي في العمى، فاتخذ الهوى قائدا والشيطان دليلا».
ويعرف الغرور بأنه: «هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان، فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور، وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه، فأكثر الناس إذاً مغرورون وإن اختلفت أصناف غرورهم».
وزيادة في الإيضاح يبين ابن القيم الفرق بين الثقة والغرور فيقول: «الفرق بينهما: أن الواثق بالله قد فعل ما أمره الله به، ووثق بالله في طلوع ثمرته وتنميتها وتزكيتها كغارس الشجرة وباذر الأرض، والمغتر العاجز قد فرط فيما أُمر به، وزعم أنه واثق بالله، والثقة إنما تصح بعد بذل المجهود».
وقال رحمه الله: «إن الثقة سكون يستند إلى أدلة وأمارات يسكن القلب إليها، فكلما قويت تلك الأمارات قويت الثقة واستحكمت ولا سيما على كثرة التجارب وصدق الفراسة.
وأما الغرة فهي حال المغتر الذي غرته نفسه وشيطانه وهواه وأمله الخائب الكاذب بربه حتى أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، والغرور ثقتك بمن لا يوثق به، وسكونك إلى من لا يُسكن إليه، ورجاؤك النفع من المحل الذي لا يأتي بخير، كحال المغتر بالسراب».
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة في ذم الغرور بأنواعه، والتحذير من آثاره الوخيمة، فمن ذلك قوله تعالى:{يأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}، قال سعيد بن جبير: «غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة، حتى يقول: يا ليتني قدمت لحياتي».
وقال عز وجل: {يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}، قال ابن سعدي: «يقول تعالى معاتبا الإنسان المقصر في حقه، المجترئ على معاصيه:{يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} أتهاونا منك في حقوقه؟ أم احتقارا منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟»، قال قتادة: «ما غر ابن آدم غير هذا العدو والشيطان».
وقال تعالى: {ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون}، قال ابن كثير: «أَيْ إِنَّمَا جَازَيْنَاكُمْ هَذَا الْجَزَاء لِأَنَّكُمْ اِتَّخَذْتُمْ حُجَج اللَّه عَلَيْكُمْ سِخْرِيًّا تَسْخَرُونَ وَتَسْتَهْزِئُو نَ بِهَا، وَغَرَّتْكُمْ الْحَيَاة الدُّنْيَا، أَيْ خَدَعَتْكُمْ فَاطْمَأْنَنْتُ مْ إِلَيْهَا فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ».
وقال عز وجل:{وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}، قال ابن سعدي: «هذه الآية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها، وعدم بقائها، وأنها متاع الغرور، تفتن بزخرفها، وتخدع بغرورها، وتغر بمحاسنها، ثم هي منتقلة، ومنتقل عنها إلى دار القرار التي توفى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار من خير وشر».
وقال تعالى: {ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني}، قال الطبري: «وقوله: {وغرتكم الأماني} يقول: وخدعتكم أماني نفوسكم، فصدتكم عن سبيل الله، وأضلتكم {حتى جاء أمر الله} يقول: حتى جاء قضاء الله بمناياكم فاجتاحتكم، وعن قتادة في قوله تعالى:{ وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله} كانوا على خدعة من الشيطان - والله ما زالوا عليها - حتى قذفهم الله في النار.
وقوله: {وغركم بالله الغرور} يقول: وخدعكم بالله الشيطان، فأطمعكم بالنجاة من عقوبته، والسلامة من عذابه».
وقال صلى الله عليه وسلم: «والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار يحيى بالسبابة- في اليم، فلينظر بما يرجع» أخرجه مسلم.
قال النووي: «ومعنى الحديث: ما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها وفناء لذاتها، ودوام الآخرة ودوام لذاتها ونعيمها، إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالإصبع إلى باقي البحر».

والخلاصة أن المطلوب من المسلم أن يكون متنبها إلى ما يطرأ له من ابتلاءات وفتن بالخير قبل الشر، وعليه أن يقوم بواجبه من الشكر والصبر، عدم الاغترار بالدنيا والانغماس فيها إلى درجة الاستغراق والغفلة عن الحقائق الكبرى وهي الموت والبعث والجزاء، قال الزهري: «من استطاع ألا يغتر فلا يغتر»، فليحرص كل مسلم على ما ينفعه، ويستعين بالله على طاعته وحسن عبادته، فذلك أفضل مطلوب وأعظم موهوب، وبالله التوفيق.



اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-10-28, 04:58 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن (76)


- إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم




التغيير سنة ماضية، فطبيعة الزمان والمكان وأحوال الناس تتغير بشكل دائم ومستمر، فالمتأمل لأحوال الناس، والدارس لتاريخ البشرية يجد هذا الأمر واقعا ملموسا، وحقيقة محسوسة.
والتغيير قد يكون بالأفراد، كما قد يحدث بالمجتمعات، وقد يكون تغييرا نحو الأفضل، وأحيانا قد يصير التغيير للأسوأ.
فهناك تغيير مذموم، وهو اتباع سبيل الشيطان في تغيير فطرة الإنسان، والانحراف به عن شريعة الرحمن كما قال تعالى: {إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا}.
ويبين الشيخ ابن سعدي أن من إضلال الشيطان (تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله)، ويلتحق بذلك الاعتقادات الفاسدة، والأحكام الجائرة، وأوضح أن تغيير خلق الله يتناول الخلقة الظاهرة؛ بالوشم، والوشر، والنمص، والتفليج للحسن، ونحو ذلك مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن، ويتناول تغيير الخلقة الباطنة، وهي الفطرة السليمة التي تقبل الحق وتنقاد له، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل ، وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان.
وقال جماعة من أهل التفسير منهم مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة: المراد بالتغيير لخلق الله هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات، ليعتبر بها وينتفع بها، فغيـّرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، قال الزجاج: إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل فحرموها على أنفسهم، وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا ما خلق الله.
وروي عن ابن عباس في معنى فَلَيُغَيِّرُنَ ّ خَلْقَ اللَّهِ} أي: دين الله، واختاره الطبري فقال: «وإذا كان ذلك معناه دخل فيه فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ووشم وغير ذلك من المعاصي؛ لأن الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي، أي فليغيرن ما خلق الله في دينه».
وقال مجاهد أيضا: فَلَيُغَيِّرُنَ ّ خَلْقَ اللَّهِ}: فطرة الله التي فطر الناس عليها، يعني أنهم ولدوا على الإسلام فأمرهم الشيطان بتغييره، وهو معنى قوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه». فيرجع معنى الخلق إلى ما أوجده فيهم يوم الذر من الايمان به في قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى}.
ومن التغيير المذموم ما ورد النهي عنه في السنة المطهرة، فعن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله» أخرجه أحمد، وهو صحيح.
فما يفعله بعض النساء من هذه الأفعال المنكرة بحجة التزين والتجمل داخل تحت هذا الوعيد، ومشمول بهذا الذم.
وقد يكون التغيير محمودا، وذلك بأن يتبع المكلف سبيل الرحمن في تزكية نفسه بالعقيدة الصحيحة، والأخلاق القويمة، والعبادات المستقيمة، ويترك ما كان عليه من عقائد منحرفة وعبادات مبتدعة وأخلاق رذيلة، وإنما يتحقق ذلك باتباع شرع الله تعالى، والاهتداء بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
قال ابن كثير: «يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير، وأن الكافرين إنما أولياؤهم الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك».
والله سبحانه وتعالى أخبرنا عن سنته الماضية، وقاعدته المطردة وهي أنه تبارك وتعالى يعين من تغير إلى الخير ويوفقه، ويخذل من تغير إلى الشر ويعاقبه، فقال تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال}.
قال الشيخ ابن سعدي: «{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} من النعمة والإحسان ورغد العيش {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر ومن الطاعة إلى المعصية، أو من شكر نعم الله إلى البطر بها؛ فيسلبهم الله عند ذلك إياها.
وكذلك إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية، فانتقلوا إلى طاعة الله، غير الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} أي: عذابا وشدة وأمرا يكرهونه، فإن إرادته لا بد أن تنفذ فيهم».
وقال تعالى: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيـروا ما بأنفسهم}، قال الشيخ ابن سعدي: «{ذَلِكَ} العذاب الذي أوقعه اللّه بالأمم المكذبين، وأزال عنهم ما هم فيه من النعم والنعيم؛ بسبب ذنوبهم وتغييرهم ما بأنفسهم، {بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم} من نعم الدين والدنيا، بل يبقيها ويزيدهم منها إن ازدادوا له شكرا، {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} من الطاعة إلى المعصية، فيكفروا نعمة اللّه ويبدلوها كفرا، فيسلبهم إياها ويغيرها عليهم كما غيروا ما بأنفسهم، وللّه الحكمة في ذلك والعدل والإحسان إلى عباده، حيث لم يعاقبهم إلا بظلمهم، وحيث جذب قلوب أوليائه إليه، بما يذيق العباد من النكال إذا خالفوا أمره».
قال الشيخ ابن عاشور : «فقوله: {لم يك مغيرا} مؤذن بأنه سنة الله ومقتضى حكمته; لأن نفي الكون بصيغة المضارع يقتضي تجدد النفي ومنفيه .
والمراد بهذا التغيير (تغيير سببه) وهو الشكر بأن يبدلوه بالكفران؛ ذلك أن الأمم تكون صالحة ثم تتغير أحوالها ببطر النعمة فيعظم فسادها، فذلك تغيير ما كانوا عليه; فإذا أراد الله إصلاحهم أرسل إليهم هداة لهم، فإذا أصلحوا استمرت عليهم النعم، مثل قوم يونس وهم أهل نينوى، وإذا كذبوا وبطروا النعمة، غيـّر الله ما بهم من النعمة إلى عذاب ونقمة».
والخلاصة أن التغيير سنة ماضية، وهو وسيلة شرعية لتحصيل النعم الدينية والدنيوية والأخروية واستدامتها، إذا أخلص المسلم النية، وأحسن العمل، واستعان بربه في القيام بعبادته، وشكر نعمته، فأفضل مطلوب، وأحسن موهوب هو (الإعانة على العبادة).
والتغيير يبدأ بنية صادقة، وعزم أكيد، يحدوه علم صحيح، وعمل مستقيم كما قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}وقال تعالى: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} وقال عز وجل: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-11-04, 04:35 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن (77)


- نعــم المــال الصــالح للرجــل الصـــالح



قال أبو حاتم: «وشر المال ما اكتسب من حيث لا يحلّ، وأنفق فيما لا يجمل، ووجوده وعدمه ليسا بتجلد ولا بكثرة حيلة، ولكنه أقسام ومواهب من الخلاّق العليم»

شاع لدى بعض الناس مقولة غريبة هي: «إن الفلوس وسخ دنيا»، وظنوا أن المال أمر مذموم، وأن جامعه ملوم، وكأن المسلم الصالح لا بد أن يكون فقيرا معدما، ولا يليق به أن يكون غنيا محترما، ولعل ذلك تأثرا بقدامى الصوفية كما قال ابن الجوزي: «كان إبليس يلبس على أوائل الصوفية - لصدقهم في الزهد - فيريهم عيب المال، ويخوفهم من شره، فيتجردون من الأموال، ويجلسون على بساط الفقر، وكانت مقاصدهم صالحة، وأفعالهم في ذلك خطأ لقلة العلم».
والمتأمل في أدلة الشريعة الإسلامية وأحكامها ومقاصدها يجد أنها قد أولت الأموال اهتماما كبيرا، يقوم على الاعتدال ومراعاة الفطرة وتحقيق مصالح الفرد والمجتمع، مع القيام بحقوق الله تعالى وحقوق العباد.
فالشريعة الإسلامية تقرر أن المال - وإن كان في يد مالكه - إلا أنه في الحقيقة مال الله تعالى كما قال عز وجل: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}، والإنسان مستخلف في هذا المال كما قال تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}، ومالك المال الحقيقي سيسأل الإنسان عن تصرفه في هذه الأموال كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عَن عُمُرِه فيما أفناهُ، وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ، وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ، وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيم أنفقَهُ» أخرجه الترمذي.
والشريعة الإسلامية جعلت المال من مقاصدها الكلية، وعدته من الضروريات الخمس التي جاءت لتحصيلها وحفظها، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وهذا أمر مقرر وثابت باستقراء الشريعة في أدلتها وقواعدها كما هو معلوم من أصول الفقه وقواعده.
كما أن الشريعة الإسلامية تراعي الفطرة وتهذبها، ولا تصادمها أو تعارضها، فالقرآن يقرر أن حب المال والرغبة في تملكه أمر فطري كما قال عز وجل: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}، وقال تعالى عن الإنسان: {وإنه لحب الخير لشديد} أي: المال، فحب المال غريزة، والدين جاء ليهذبها.
والشريعة الإسلامية تعد المال عونا على طاعة الله تعالى، فالله تعالى أمر بأداء الزكاة وجعلها من أركان الإسلام، وهل يمكن أداؤها إلا بتحصيل الأموال أولا؟ وشرع الله تعالى الصدقات وعدها من أبواب القربات، وأوجب الكفارات لبعض المخالفات وفيها الإطعام والكسوة وتحرير الرقاب، وألزم الله تعالى المكلف بنفقات واجبة تجاه نفسه ومن يعول كزوجته وأبنائه وأقربائه بشروط وضوابط، حيث مدح المنفقين فقال عن المتقين: {ومما رزقناهم ينفقون}، ويلزم من ذلك تحصيل الأموال ليقدر المكلف على القيام بهذه الطاعات، ولا يفرط في تلك الواجبات.
وندب الله تعالى إلى نصرة الدين بالنفس والمال فقال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم}، وقد ضرب الصحابة الكرام في ذلك أروع الأمثلة، فتبرع أبو بكر بماله كله، ودفع عمر نصف ماله، وجهز عثمان جيش العسرة كاملا، رضي الله عنهم أجمعين، وما ذلك إلا لأنهم كانوا أغنياء سخروا أموالهم في خدمة الدين.
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى - وهو أن المال عون المسلم - فعن عَمْرَو بْن الْعَاصِ قال: «بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُهُ فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ عَلَيَّ ثِيَابِي وَسِلاحِي ثُمَّ آتِيَهُ، قَالَ: فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ ثُمَّ طَأْطَأَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَمْرُو إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ، فَيُغْنِمَكَ اللَّهُ وَيُسْلِمكَ، وَأَرْغَبُ لَكَ رَغْبَةً صَالِحَةً مِنَ الْمَالِ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي الْمَالِ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الإِسْلامِ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: «يَا عَمْرُو، نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ». رواه أحمد وغيره وصححه الألباني.
قال أبو حاتم البستي: «هذا الخبر يصرح عن النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة جمع المال من حيث يجب، ويحل للقائم فيه بحقوقه؛ لأن في تقرينه الصلاح بالمال والرجل جميعا بيانا واضحا؛ لأنه إنما أباح في جمع المال الذي لا يكون بمحرم على جامعه، ثم يكون الجامع له قائما بحقوق الله فيه».
والقرآن الكريم يصف المال بأنه خير في مواضع مختلفة كما قال عز وجل: {يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم}. وجعل وفرة الأموال من البركة والثواب المعجل فقال تعالى على لسان نوح عليه السلام: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا}.
وروى البيهقي أنه كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة من الفقر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم»، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر».
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسالك الهدى والتقى والعفاف والغنى»، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم الغني الصالح فقال: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي».
وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص حين أراد أن يوصي بشطر ماله: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس». متفق عليه.
وقال لكعب بن مالك حين أراد أن يتصدق بكل ماله في حديث توبته: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» أخرجه البخاري.
ولما طلبت أم سليم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لابنها أنس بن مالك قال: «اللهُمّ أكثِرْ مالَهُ ووَلدَهُ وأطِلْ حَياتَهُ» رواه البخاري في الأدب المفرد. قال الكرماني: وقد استجاب الله دعاءه فيه بحيث صار أكثر أصحابه مالاً، فكان له بستان يثمر في كل سنة مرتين، وأكثر ولدًا، فكان يطوف بالبيت، ومعه أكثر من سبعين نفسًا من نسله».
وفي عهد عثمان رضي الله عنه ذهب أبو ذر رضي الله عنه إلى أن ما زاد عن حاجة الإنسان فهو كنز يعرض مالكه للوعيد، ذكر البخاري ذلك في كتاب الزكاة باب ما أديّ زكاته فليس بكنز، قال الشيخ الطاهر بن عاشور: «أجمع الصحابة في عهد عثمان على مخالفة أبي ذر في دعوته الناس إلى الانكفاف عن المال، وإنبائه إياهم بأن ما جمعوه يكون وبالا عليهم في الآخرة».
وفي المقابل فإن الشريعة الإسلامية تحذر من الافتتان بالمال؛ لأنه محبب للنفس وقد يعيق الإنسان عن طاعة الله تعالى كما قال عز وجل: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم}، وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن التنافس في الأموال على غير الوجه المشروع سبب للهلاك، فعن عمرو بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ثم قال: «أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين» فقالوا: أجل يا رسول الله، قال: «فأبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» متفق عليه.
وحذرت الشريعة من تقديم المال وكسبه على المقصد الأصلي وهو عبادة الله تعالى وحده، فعند التزاحم تقدم العبادة وحقوقها على الدنيا وزينتها كما قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}، وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» أخرجه البخاري، قال ابن حجر: «قوله: (عبد الدينار) أي: طالبه الحريص على جمعه القائم على حفظه، فكأنه لذلك خادمه وعبده، قال الطيبي: «قيل: خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها، كالأسير الذي لا يجد خلاصا».
ودعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى فقال: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش» قال ابن حجر: «وسوغ الدعاء عليه كونه قصر عمله على جمع الدنيا واشتغل بها عن الذي أمر به من التشاغل بالواجبات والمندوبات».
والشريعة الإسلامية تحث المكلفين على اكتساب الأموال دون استشراف ولا إلحاح ولا تعلق القلوب بها، فعن حكيم بن حِزامٍ رضيَ اللّهُ عنه قال: سألتُ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثمّ سألتهُ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثمّ قال: «يا حكيمُ ! إنّ هذا المالَ خَضِرةٌ حُلوة، فمن أخذَهُ بَسخاوةِ نفسٍ بوركَ له فيه، ومن أخذَهُ بإشْرافِ نفسٍ لم يُبارَك له فيه، كالذي يأكلُ ولا يشبَعُ، اليدُ العُليا خيرٌ منَ اليدِ السّفلى». قال حكيمٌ: فقلتُ: يا رسولَ اللّهِ، والذي بَعثكَ بالحقّ لا أرزأُ أحداً بعدَكَ شيئاً حتى أُفارِقَ الدنيا. متفق عليه.
قال أبو حاتم: «وشر المال ما اكتسب من حيث لا يحلّ، وأنفق فيما لا يجمل، ووجوده وعدمه ليسا بتجلد ولا بكثرة حيلة، ولكنه أقسام ومواهب من الخلاّق العليم».
فالمال رزق من الله تعالى، وكثرته وقلته ليست معيار الكرامة عند الله تعالى كما قال عز وجل: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون}، فالكرامة عند الله تعالى بالتقوى، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، ومن التقوى بذل الأموال في طاعة الله ما كان منها واجبا أو مستحبا.
فبذل الأموال في الطاعات والقربات من سمات المؤمنين، قال تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}، ووعدهم على ذلك بالثواب الجزيل فقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، وحذر من الشح والبخل، فقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}.
وخلاصة القول بعد هذا العرض الموجز أن الشريعة أولت الأموال عناية كبيرة، وحثت على اكتسابها بالوجوه المشروعة، وإنفاقها في مصارفها المقبولة، دون إفراط ولا تفريط كما قال تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملموما محسورا}، فحيازة الأموال على هذا الوجه من الأمور المحمودة، وهي خير للفرد والمجتمع والدولة، حيث تعود على الجميع بالمصالح العديدة وتدرأ عنهم الفقر والمرض والجهل والذل والحاجة للآخرين.
وأختم بوصية قيس بن عاصم لبنيه عند موته حيث قال: «عليكم بالمال واصطناعه؛ فإنه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم ومسألة الناس؛ فإنها آخر كسب الرجل».
ومثله قول أبي قيس بن معديكرب لبنيه: «يا بنيّ اطلبوا هذا المال أجمل طلب، واصرفوه في أحسن مذهب، صلوا به الأرحام، واصطنعوا به الأقوام، واجعلوه جنّـة لأعراضكم تحسن في الناس قالتكم؛ فإنه جمعه كمال الأدب، وبذله كمال المروءة».


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-11-04, 04:36 AM
الحكمة ضالة المؤمن (78)

-الرفيق الجيد يقصر الطريق


المسلم في رحلة طويلة، تكتنفها العقبات والصعاب، ويعترضها قطاع الطريق من شياطين الإنس والجن، وتسلط الأهواء، وفتن الدنيا، وإغواء النفس

يحتاج الإنسان عادة في أسفاره وتنقلاته إلى من يعينه في سفره، فيحمل عنه أثقاله، ويذهب ضجره، ويؤنس وحدته، ويسانده في محنته؛ لذا كان الرفيق في السفر مطلبا ملحا، وحاجة ضرورية نفسية وشرعية، فعنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بلَيْلٍ وَحْدَهُ» رواه البخاري، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لا يسافرن رجل وحده، ولا ينامن في بيت وحده».
ونقل ابن حجر عن الطبري قوله: «هذا الزجر زجر أدب وإرشاد؛ لما يخشى على الواحد من الوحشة والوحدة، وليس بحرام، فالسائر وحده في فلاة، وكذا البائت في بيت وحده لا يأمن من الاستيحاش، ولا سيما إذا كان ذا فكرة رديئة وقلب ضعيف».
والمسلم في رحلة طويلة، تكتنفها العقبات والصعاب، ويعترضها قطاع الطريق من شياطين الإنس والجن، وتسلط الأهواء، وفتن الدنيا، وإغواء النفس، وأمامه مراحل عديدة في الدنيا والبرزخ وأهوال الآخرة، إلى أن يضع عصاه في الجنة بإذن الله ورحمته، وما أحكم الإمام أحمد بن حنبل لما سئل: متى يجد المؤمن طعم الراحة؟ فأجاب: «عند أول قدم يضعها في الجنة»، وقال ابن القيم: «الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو النار».
ومما يعين المسلم على الصبر في هذه الرحلة، وتحمل مشاق الطريق: حسن اختيار الرفيق، الذي يعينه ولا يعطله، ويرفع همته ولا يخذله، وتأمل قوله تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}، كيف أن ذكر الرفيق في الجنة يسهل على السالك السبيل، ويهون عليه الصعاب؛ شوقا إلى رفقتهم، وخوفا من الحرمان من صحبتهم، قال القرطبي: «والرفق لين الجانب، وسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك بصحبته؛ ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض».
ولأن الصحبة الصالحة والأخوة الصادقة مفيدة في الدنيا والأخرة أمرنا الله تعالى بملازمتهم وعدم الإعراض عنهم فقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، قال الشيخ ابن سعدي: «فيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على محبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراء؛ فإن في صحبتهم من الفوائد ما لا يحصى».
فمن الفوائد الدنيوية دعاء بعضهم لبعض ولو طال الزمان وتباعد المكان، قال تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}، قال الشيخ ابن سعدي: «وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين من السابقين، من الصحابة ومن قبلهم ومن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضا».
وأما في الآخرة، فإن الأخوة الإيمانية تستمر وشائجها، وتدوم فوائدها كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، قال ابن كثير: «أَيْ كُلّ صَدَاقَة وَصحَابَة لِغَيْرِ اللَّه فَإِنَّهَا تَنْقَلِب يَوْم الْقِيَامَة عَدَاوَة إِلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ دَائِم بِدَوَامِهِ».
ولأهمية الأخوة في الله والصحبة الصالحة حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على صحبة الأخيار وملازمة الأبرار فقال: «لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي»، ذكر الشيخ ابن باز كلاما نفيسا في شرح هذا الحديث فقال رحمه الله: «الذي نفهمــه من هـــذا الحديث، والله أعلـــم، أن النبــي صلــى الله عليه وسلم يضــع للمسلــم منهـــجاً ينطلـــق عليه في حيـــاته، ألا يصـــاحب إلا مؤمنــــاً ولا يــأكل طعــامه إلا تقــــي، ولا يعنــــي الحديـــث أنه لا يجـــوز للمسلــم أن يُطعــم غــير المــؤمن الصالـــح، وإنـــما يقصــد الحديــث أنه ينبغــي له ألا يخــالط إلا مؤمـــناً، وألا يــأكل طعـــامه إلا تقـــي، فالمخالطـــة والمصـــاحبة والمصـــادقة شـــيء، وأن يُطعــم بمنـــاسبة ما كافراً أو فــاسقاً شـــيء آخر فهـــذا يجـــوز، ولكـــن ينبغـــي ألا يكــون ذلك منهـــج حيـــاته؛ ذلك لأن المصــاحب الصالح كمثــل بائع المســـك، إما أن يحذيـك، أي: يعطيك مجـــاناً، وإما أن تشتري منه، وإما أن تشــم منه رائحــة طيبـــة، ومثل جليـــس الســوء كمثل الحداد، إما أن يحرق ثيــابك، وإما أن تشــم منه رائــحة كريهــة؛ لذلك لا يجـــوز للمسلـــم أن يخــــالط إلا الصــــالحين، هذا هـــو المقصــــود من قولـــه عليـــه الســـلام في الحديـــث الســـابق المسؤول عنه: «لا تصاحب إلا مؤمـناً، ولا يـأكل طعـــامك إلا تقي».
والنبي صلى الله عليه وسلم يصور اللحمة الإيمانية بقوله: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه. متفق عليه، قال النووي في فوائد الحديث: «تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم، والملاطفة، والتعاضد في غير إثم ولا مكروه».
وقد تكاثرت أقوال السلف في الحث على صحبة الإخوة العقلاء الناصحين، فقال عمر: «عليك بإخوان الصدق فعش في أكنافهم؛ فإنهم زين في الرخاء، وعدة في البلاء»، وقال بلال بن سعد بن تميم: «أخ لك كلما لقيك ذكـّرك بحظك من الله، خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارا».
قال الراغب الأصفهاني: «الصديق محتاج إليه في كل حال: أما عند سوء الحال فيعينونه، وأما عند حسن الحال فليؤانسوه وليضع معروفه عندهم، ومن ظن أنه يمكن الاستغناء عن صديق فمغرور، ومن ظن أن وجوده سهل فمعتوه».
وقال أبو حاتم البستي: «العاقل لا يواخي إلا ذا فضل في الرأي والدين والعلم والأخلاق الحسنة، ذا عقل نشأ مع الصالحين؛ لأن صحبة بليد نشأ مع العقلاء خير من صحبة لبيب نشأ مع الجهال».
ويبين ابن القيم أنواع اللقاء بالإخوة وآثار كل منها فيقول: «الاجتماع بالإخوان قسمان:
- أحدهما: اجتماع على مؤانسة طبع وشغل وقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.
- الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة، والتواصي بالحق والصبر، فهذا أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات:
- إحداها: تزّين بعضهم لبعض، الثانية: الكلام والمخالطة أكثر من الحاجة، الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود.
وبالجملة، فالاجتماع والخلطة لقاح: إما للنفس الإمارة، وإما للقلب والنفس المطمئنة، والنتيجة المستفادة من اللقاح أن من طاب لقاحه طابت ثمرته، وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من الملك، والخبيثة لقاحها من الشيطان، وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين للطيبات، وعكس ذلك».
فكما يحرص الإنسان على رفقة العقلاء الناصحين في سفر الدنيا، فليحرص على صحبة الإخوة الصالحين الصادقين لسفر الآخرة، وحسن أولئك رفيقا، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-11-08, 12:14 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن (79)


-المجـالــس بالأمـانـة



حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضرها، لما يحصل في المجالس ويقع فيها من الأقوال والأفعال فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أمينا لما يسمعه أو يراه قال الشراح: «والمعنى أن نشر الرجل وإفشاءه ما جرى بينه وبين امرأته حال الاستمتاع بها من أعظم خيانة الأمانة».




الإنسان مدني بطبعه، يحب مخالطة الآخرين والتواصل معهم ، ويحرص على مشاركتهم في أفكارهم ومشاعرهم، ويتبادل معهم الآراء والمفاهيم؛ مما يقتضي الحديث معهم في المجالس العامة والجلسات الخاصة، وقد أرشدنا الإسلام إلى احترام تلك المجالس، والقيام بحقوقها من حفظ الأسرار، ورعاية خصوصية المتحدثين، وعدم إيذائهم بإفشاء أسرارهم ونشر أخبارهم دون إذن منهم.
ويوضح الراغب معنى السر بأنه: «ما يلقى إلى الإنسان من حديث يستكتم، وذلك إما لفظا كقولك لغيرك: اكتم ما أقول لك، وإما حالا: وهو أن يتحرى القائل حال انفراده فيما يورده أو يخفض صوته أو يخفيه عن مجالسه، ولهذا قيل: إذا حدثك إنسان بحديث فالتفت فهو أمانة».
ويبين أيضاً أن كتمان الأسرار من الوفاء، وإذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدر، وتوصف به ضعفة الرجال والنساء والصبيان، فقد قيل: الصبر على القبض على الجمر أيسر من الصبر على كتمان السر.
ومن النصوص الشرعية التي أكدت حرمة المجالس ولزوم القيام بحقوقها قوله صلى الله عليه وسلم : «المجالس بالأمانة، إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق» أخرجه أبو داود وحسنه الألباني.
ويبين العلماء أن معنى الحديث : تحسن المجالس أو حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضرها، لما يحصل في المجالس ويقع فيها من الأقوال والأفعال ، فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أمينا لما يسمعه أو يراه.
وقوله: «إلا ثلاثة مجالس»، هو استثناء، والمعنى ينبغي للمؤمن إذا رأى أهل مجلس على منكر ألا يشيع ما رأى منهم إلا ثلاثة مجالس وهي المذكورة فلا يجوز للمستمع كتمه بل عليه إفشاؤه دفعا للمفسدة.
وقال صلى الله عليه وسلم : «إذا حدث الرجل بالحديث، ثم التفت، فهو أمانة» أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني.
قال شراح الحديث: «والمعنى: إذا حدث الرجل شخصا بالحديث الذي يريد إخفاءه ثم التفت يمينا وشمالا احتياطا، فذلك الحديث أمانة عند من حدثه، أي: حكمه حكم الأمانة، فلا يجوز إضاعتها بإشاعتها؛ لأن التفاته إعلام لمن يحدثه أنه يخاف أن يسمع حديثه أحد، وأنه قد خصه بسره، فكان الالتفات قائما مقام: اكتم هذا عني،أي: خذه عني واكتمه، وهو عندك أمانة».
وقال صلى الله عليه وسلم : «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الألباني، والمقصود بالمستشار: أي الذي طلب منه المشورة والرأي، وقوله: «مؤتمن» اسم مفعول من الأمن أو الأمانة، أي: أمين؛ فلا ينبغي له أن يخون المستشير بكتمان المصلحة والدلالة على المفسدة .
قال الطيبي: «معناه أنه أمين فيما يسأل من الأمور، فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته».
قال أبو حاتم البستي: «والواجب على العاقل السالك سبيل ذوي الحجى أن يعلم أن المشاورة تفشي الأسرار، فلا يستشير إلا اللبيب الناصح الودود الفاضل في دينه، وإرشاد المشير المستشير قضاء حق النعمة في الرأي، والمشورة لا تخلو من البركة إذا كانت مع مثل من وصفنا نعته».
وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الهدي بنفسه كما أخرج البخاري في «الأدب المفرد» عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الهيثم: «هل لك خادم؟»، قال: لا، قال: «فإذا أتانا سبي فَأْتِنا»، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اختر منهما»، قال: يا رسول الله، اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي، واستوص به خيرا»، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، قال: فهو عتيق.
وتأمل تطبيق الصحابة الكرام لهذا الهدي النبوي الكريم، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ ، وَأَنَا ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ، فَأَخَذَتْ أُمِّي بِيَدِي، فَانْطَلَقَتْ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ رَجُلٌ وَلاَ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلاَّ قَدْ أَتْحَفَكَ بِتُحْفَةٍ، وَإِنِّي لاَ أَقْدِرُ عَلَى مَا أُتْحِفُكَ بِهِ، إِلاَّ ابْنِي هَذَا، فَخُذهُ فَلْيَخْدُمْكَ مَا بَدَا لَكَ، فَخَدَمْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا ضَرَبَنِي ضَرْبَةً، وَلاَ سَبَّنِي سَبَّةً، وَلاَ انْتَهَرَنِي، وَلاَ عَبَسَ فِي وَجْهِي، وَكَانَ أَوَّلَ مَا أَوْصَانِي بِهِ أَنْ قَالَ: «يَا بُنَيَّ، اكْتُمْ سِرِّي تَكُ مُؤْمِنًا».قال أنس: فَكَانَتْ أُمِّي وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلْنَنِي عَنْ سِرِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَلاَ أُخْبِرُهُمْ بِهِ، وَمَا أَنَا بِمُخْبِرٍ سِرَّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَحَدًا أَبَدًا. أخرجه التِّرْمِذِي.
وعن أنس قال: أَتَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وَنَحْنُ صِبْيَانٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا ، وَأَرْسَلَنِي فِي حَاجَةٍ، وَجَلَسَ فِي الطَّرِيقِ يَنْتَظِرُنِي، حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ فَقُلْتُ: بَعَثَنِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ ، قَالَتْ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ : فَاحْفَظْ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم . أخرجه البُخَارِي في «الأدب المفرد».
ومن سوء العشرة وخيانة الأمانة إفشاء الأسرار الزوجية، فعن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم يَنْشُر سرها» أخرجه مسلم.
قال الشراح: «والمعنى أن نشر الرجل وإفشاءه ما جرى بينه وبين امرأته حال الاستمتاع بها من أعظم خيانة الأمانة».
فخلاصة القول: أن كتم الأسرار من الأمانة، والأمانة من الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم : «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» أخرجه أحمد وصححه الألباني، كما أن كتم السر من الوفاء بالعهد وقد قال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا}، ونشر الأسرار خيانة للعهد كما قال الحسن: «إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك»، وخيانة العهد من صفات المنافقين كما قال صلى الله عليه وسلم : «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا» وذكر منهن: «إذا اؤتمن خان»، كما أن كتم السر فضيلة تدل على كمال عقل الإنسان ووقاره، وحفظه لحقوق الأخوة، وإفشاء الأسرار قد يسبب أضرارا مادية ومعنوية، دنيوية ودينية.وفقنا الله تعالى لما يحب ويرضى.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-11-08, 12:15 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن (80)


- يمحــق الـلـه الـــربا





عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم» أخرجه الحاكم

شرع الله عز وجل لعباده أبواب الكسب المشروعة كالبيع والإجارة والشركة والمضاربة وإحياء الموات ونحوها من معاملات الكسب الطيب والرزق الحلال مما يرجع بالنفع العظيم والخير الوفير على المسلمين أفرادا ومجتمعات. وفي المقابل نهى الله تعالى عن الكسب الخبيث المحرم بأنواعه كالسرقة والغصب والغش وأكل أموال الناس بالباطل والبيوع الفاسدة ونحوها، فالشرع والعقل والواقع يشهد بأنها لا تعود على مرتكبها إلا بالحسرة والخسارة في الدنيا والآخرة.
ومن أعظم ما نهى الله تعالى عنه وحذر منه أشد التحذير وأنذر من تعامل به أبلغ إنذار (الربا)؛ فقد جاء في شأن الربا من النصوص الشرعية الكثيرة ما فيه عظة وواعظ لكل من تسول له نفسه الوقوع في هذه المخالفة الجسيمة والمعصية العظيمة.
قال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما} قال ابن كثير: «يخبر الله تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة ومنها أن الله قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه وأكلوا أموال الناس بالباطل، فحرم عليهم طيبات كان أحلها لهم وذلك بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم لرسولهم واختلافهم عليه».
وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين}، قال مجاهد: كانوا يبيعون البيع إلى أجل فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا؛ فأنزل الله عز وجل:{يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} قال القرطبي: (مضاعفة) إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام كما كانوا يصنعون، فدلت العبارة المؤكدة على شناعة فعلهم وقبحه ولذلك ذكرت حالة التضعيف خاصة، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يتعاملون بالربا وهو أخذ زيادة على أصل الدين ورأس المال في مقابل الأجل، فإذا حل الأجل يقول صاحب الحق للمدين: أتقضي أم تربي؟ يعني يزيده في الأجل ويزيده في الحق، وهكذا يتضاعف الدين ويتراكم على المدين وهو ما يعرف بربا الجاهلية.
ونقل عن أبي حنيفة عن هذه الآية أنها أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه.
وقال تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} قال ابن كثير: «أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له»، وقال ابن عباس: «آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق»، وقال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه، وقيل: يبعثون يوم القيامة قد انتفخت بطونهم كالحبالى، وكلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم.
وقال عز وجل: {وأحل الله البيع وحرم الربا} قال بعض العلماء: حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس.
وقال تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}، والمحق هو النقص والذهاب، قال ابن كثير: «يخبر تعالى أنه يمحق الربا، أي يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به بل يعدمه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة».
وقال سبحانه وتعالى: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}، وهذا تهديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار، قال ابن عباس: «يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب».
قال القرطبي: «دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر ولا خلاف في ذلك، ونقل أنه جاء رجل إلى الإمام مالك فقال: يا أبا عبد الله إني رأيت رجلا سكران يتعاقر يريد أن يأخذ القمر فقلت: امرأتي طالق إن كان دخل جوف ابن آدم أشر من الخمر، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك، ثم قال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشر من الربا لأن الله آذن فيه بالحرب».
وأما السنة المطهرة فهي مليئة بالأحاديث الدالة على حرمة الربا والتحذير من مغبته، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: «الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» متفق عليه، والموبقات هي المهلكات، قال ابن حجر الهيتمي: عدّ الربا كبيرة هو ما أطبقوا عليه؛ اتباعا لما جاء في الأحاديث الصحيحة من تسميته كبيرة بل من أكبر الكبائر وأعظمها.
وعن عبد الله بن حنظلة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «درهم ربا يأكله الرجل -وهو يعلم- أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية» أخرجه أحمد والمنذري، قال المناوي: هذا خرج مخرج الزجر والتهويل لاعتياد الجاهلية أكل الربا وعمومه فيهم.
وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم» أخرجه الحاكم،
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الربا سبعون حوبا، أيسرها أن ينكح الرجل أمه» أخرجه ابن ماجه، قال المناوي: هذا زجر وتخويف لأن العرب قد تظاهروا عليه وشق عليهم تحريمه.
وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قلٍّ» أخرجه الحاكم، قال المناوي: أي وإن كان زيادة في المال عاجلا يؤول إلى نقص ومحق آجلا.
وعن جابر قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: «هم سواء» أخرجه مسلم، قال النووي: «هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابيين والشهادة عليهما، وفيه تحريم الإعانة على الباطل».
وقال أيضا: «فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله، ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره؛ ولهذا كان من أكبر الكبائر ».
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ظهر الزنى والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله» أخرجه الحاكم، قال المناوي: أي تسببوا في وقوعه بهم، ولم يقل العذاب، بل زاد الاسم زيادة في التهويل والزجر، وذلك لمخالفتهم ما اقتضته الحكمة الإلهية من حفظ الأنساب الأموال، وقال ابن القيم: إذا ظهر الزنى والربا في قرية أذن بهلاكها.
ومن صور الربا المعاصرة ما تقدمه البنوك التجارية من فوائد نظير الإيداع، وما تأخذه من فوائد لقاء القروض التي تقدمها لعملائها، وقد توالت فتاوى العلماء بتحريم هذا النوع من المعاملات، ففي سنة 1907 أفتى الشيخ بكري الصدفي مفتي مصر بالحرمة، وتلاه الشيخ عبد المجيد سليم مفتي مصر أيضا عام 1930 بالقول بالحرمة، وبعدهما نص على الحرمة قرار المؤتمر الإسلامي الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة سنة 1965، وقرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة سنة 1985، وقرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكة سنة 1406هجرية.
فواجب المسلمين أفرادا ومجتمعات التخلص من الربا وآثاره المدمرة استجابة لله ورسوله وابتعادا عن أسباب الهلاك التي توعد بها الله تعالى المرابين في الدنيا والآخرة، والله الموفق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-11-10, 07:10 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (81)


- المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده




اشتلمت النصوص الشرعية على مدح أسماء جميلة، والثناء على ألقاب جليلة؛ مما يدل على أن الله تعالى يحبها ويحب من اتصف بها، ويأمر بالتحلي بها والتخلي عن ضدها، ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، وزاد الترمذي: «والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم»، وزاد البيهقي: «والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله».

قال الشيخ ابن سعدي: «ذكر في هذا الحديث كمال هذه الأسماء الجليلة التي رتب الله ورسوله عليها سعادة الدنيا والآخرة؛ وهي الإسلام والإيمان والهجرة والجهاد، وذكر حدودها بكلام جامع شامل».
ومن المقرر أن الإنسان لا بد أن يعرف حقيقة الأشياء قبل طلبها والعمل بها، فالعلم قبل القول والعمل، فمن الأهمية أن يعرف المسلم حدود الأسماء الدينية والألقاب الشرعية كما قال ابن القيم: «ومعلوم أن الله سبحانه حدّ لعباده حدود الحلال والحرام بكلامه، وذمّ من لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، والذي أنزله هو كلامه، فحدود ما أنزل الله هي الوقوف عند حدّ الاسم الذي علق عليه الحلّ والحرمة»، وقال أيضا: «ولهذا كان معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله أصل العلم وقاعدته وآخيته التي يرجع إليها، فلا يخرج شيئا من معاني ألفاظه عنها، ولا يدخل فيها ما ليس منها، بل يعطيها حقها ويفهم المراد منها»، ولهذا العلم فضيلة ومزية كما قال ابن القيم: «فإن أعلم الخلق بالدين أعلمهم بحدود الأسماء التي علق بها الحلّ والحرمة».
فمن الأسماء الشرعية المذكورة في الحديث (الإسلام)، والإسلام في اللغة: هو الانقياد والخضوع والإذعان والاستسلام، وفي الاصطلاح: له معنيان:
الإسلام بالمعنى العام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، فالإسلام هو التعبد لله بما شرع على ألسنة رسله، وهو بهذا المعنى دين جميع الرسل كما قال تعالى عن نوح عليه السلام: {وأمرت أن أكون من المسلمين}، وقال عن إبراهيم عليه السلام: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين}، وقال عن موسى عليه السلام: {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}، وقال عن عيسى عليه السلام: {قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون}.
وأما الإسلام بالمعنى الخاص: فهو الدين المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الدين الإسلامي هو الدين المقبول عند الله، قال الله تعالى: {ِإنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام}، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين}، وهذا الإسلام هو الإسلام الذي امتن به على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً}.
وفي الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة المسلم فقال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده»، قال النووي: «معناه: من لم يؤذ مسلما بقول ولا فعل، وخص اليد بالذكر؛ لأن معظم الأفعال بها، وقد جاء القرآن العزيز بإضافة الاكتساب والأفعال إليها لما ذكرناه»، وقال ابن حجر: «قوله (المسلم) قيل: الألف واللام فيه للكمال، نحو زيد الرجل أي: الكامل في الرجولية، قال الخطابي: المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين»، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يبين علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده كما ذكر مثله في علامة المنافق.
ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحث على حسن معاملة العبد مع ربه؛ لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه، من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
تنبيه: ذكر المسلمين هنا خرج مخرج الغالب؛ لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه المسلم أشد تأكيدا، ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكف عنه، والإتيان بجمع التذكير للتغليب، فإن المسلمات يدخلن في ذلك، وخص اللسان بالذكر لأنه المعبر عما في النفس، وهكذا اليد لأن أكثر الأفعال بها، والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأن اللسان يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة وإن أثرها في ذلك لعظيم، ويستثنى من ذلك شرعا تعاطي الضرب باليد في إقامة الحدود والتعازير على المسلم المستحق لذلك، وفي التعبير باللسان دون القول نكتة فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء، وفي ذكر اليد دون غيرها من الجوارح نكتة فيدخل فيه اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير حق.
قال ابن سعدي: «وذلك أن الإسلام الحقيقي هو الاستسلام لله، وتكميل عبوديته والقيام بحقوقه وحقوق المسلمين، ولا يتم الإسلام حتى يحب للمسلمين ما يحب لنفسه، ولا يتحقق ذلك إلا بسلامتهم من شر لسانه وشر يده، فإن هذا أصل هذا الفرض الذي عليه للمسلمين، فمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده كيف يكون قائما بالفرض الذي عليه لإخوانه المسلمين؟! فسلامتهم من شره القولي والفعلي عنوان على كمال إسلامه».
وأما (الإيمان) فهو في اللغة التصديق، كما جاء في قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} أي: لست بمصدق لنا، وفي الشرع: يختلف معناه بحسب إطلاقه، وله حالتان أيضا:
- الحالة الأولى: أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام فحينئذ يراد به الدين كله كقوله عز وجل: {الله ولي الذين آمنوا} وقوله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق؛ ولهذا أجمع السلف على أنه: «تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية».
- والحالة الثانية: أن يطلق الإيمان مقرونا بالإسلام؛ وحينئذ يفسر بالاعتقادات الباطنة كما في حديث جبريل في قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره».
وقوله في الحديث: «والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» يبين حقيقة المؤمن وهو الأمين العفيف، قال في شرح الترمذي: «والمؤمن: أي الكامل، من أمنه الناس: أي جعلوه أمينا وصاروا منه على أمن على دمائهم وأموالهم لكمال أمانته وديانته وعدم خيانته».
قال ابن سعدي: «وفسر المؤمن بأنه الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم؛ فإن الإيمان إذا دار في القلب وامتلأ به أوجب لصاحبه القيام بحقوق الإيمان التي من أهمها: رعاية الأمانات، والصدق في المعاملات، والورع عن ظلم الناس في دمائهم وأموالهم، ومن كان كذلك عرف الناس هذا منه، وأمنوه على دمائهم وأموالهم، ووثقوا به؛ لما يعلمون منه من مراعاة الأمانة، فإن رعاية الأمانة من أخص واجبات الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له».
وأما (الهجرة) فمَعْنَاهَا في اللغة الِانْتِقَال مِنْ مَوْضِع إِلَى مَوْضِع , وفي الاصطلاح: هي الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام.
وذكر ابن القيم أن الهجرة هجرتان: الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، والثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره إلى خوفه.
وحكم الهجرة باق إلى يوم القيامة، وهو قول عامة أهل العلم، ولهم في ذلك أدلة منها قوله عليه السلام: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها».
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» فقد قال ابن حجر: «والمهاجر هو بمعنى هجر، وإن كان لفظ المفاعل يقتضي وقوع الفعل من اثنين، ولكنه هنا للواحد كالمسافر، ويحتمل ان يكون على بابه؛ لأن من لازم كونه هاجرا وطنه مثلا أنه مهجور من وطنه.
وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة وباطنة، فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان، والظاهرة الفرار بالدين من الفتن، وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه. ويحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة لما فتحت مكة تطييبا لقلوب من لم يدرك ذلك، بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع معاني الحكم والأحكام».
قال ابن سعدي: «وفسر الهجرة التي هي فرض عين على كل مسلم بأنها هجرة الذنوب والمعاصي، وهذا الفرض لا يسقط عن كل مكلف في كل حال من أحواله، فإن الله حرم على عباده انتهاك المحرمات والإقدام على المعاصي، والهجرة الخاصة التي هي الانتقال من بلد الكفر أو البدع إلى بلد الإسلام والسنة جزء من هذه الهجرة وليست واجبة على كل أحد، وإنما تجب بوجود أسبابها المعروفة».
وأما (المجاهد)؛ فالجهاد في اللغة: المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب أو اللسان أو ما أطاق من شيء. وفي الاصطلاح للجهاد إطلاقان:
- الأول: بالمعنى الأعم: هو اسم جامع لكل سبب يحقق ما يحبه الله ودفع ما يبغضه سبحانه، كما قال شيخ الإسلام: «الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان»، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}، قال ابن سعدي: «بذلوا مجهودهم في اتباع مرضاته» وقوله صلى الله عليه وسلم: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله».
الإطلاق الثاني للجهاد بالمعنى الأخص: وهو قتال مسلم كافرا غير ذي عهد بعد دعوته للإسلام وإبائه إعلاء لكلمة الله.
ويبين ابن القيم حقيقة الجهاد الشرعي ومراتبه المتعددة فيقول: «فالجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافق.
فجهاد النفس أربع مراتب أيضا:
- إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عمله شقيت في الدارين.
- الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
- الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله.
- الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربانيين؛ فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلّم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السموات.
وأما جهاد الشيطان فمرتبتان: إحداهما: جهاد على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان، والثانية: جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات، فالجهاد الأول يكون بعده اليقين، والثاني يكون بعده الصبر، قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}.
وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب: بالقلب واللسان والمال والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فثلاث مراتب: الأولى باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه، فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، ومن مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق.
قال ابن سعدي: «وفسر المجاهد بأنه الذي جاهد نفسه على طاعة الله؛ فإن النفس ميالة إلى الكسل عن الخيرات، أمارة بالسوء، سريعة التأثر عند المصائب، وتحتاج إلى صبر وجهاد في إلزامها طاعة الله وثباتها عليها، ومجاهدتها عن معاصي الله، وردعها عنها، وجهادها على الصبر عند المصائب، وهذه هي الطاعات: امتثال المأمور، واجتناب المحظور، والصبر على المقدور.ومن أشرف هذا النوع وأجله مجاهدتها على قتال الأعداء ومجاهدتهم بالقول والفعل، فإن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الدين».
فهذا الحديث قد اشتمل على ذكر أوصاف حميدة، وألقاب كريمة، على المسلم أن يفحص نفسه بحثا عنها، فإن وجد خيرا فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فليجتهد في التحلي بها والتخلق بحقائقها؛ ليفوز بآثارها وثمراتها العاجلة والآجلة، والله الموفق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-11-10, 07:11 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (82)


- للباطل جولة ثم يزول




للباطل صورعديدة، ومظاهر كثيرة، إلا أن حقيقته واحدة، ومآله إلى زوال، فالباطل زيف وسراب وإن انتفش وانتفخ وعلا في السماء، فمصيره إلى سقوط واضمحلال مهما طال الزمان.

فالباطل: نقيض الحق، وهو ما لا ثبات له عند الفحص والتمييز، يقال بطل الشيء: فسد وسقط حكمه، وأبطل الشئ: جعله باطلا كما قال تعالى: {ليحق الحق ويبطل الباطل}.
قال ابن الجوزي: «الباطل ما لا صحة له، وضده الحق، ويقال: بطل الشيء: إذا تلف، وبطل البناء: انتقض، وقد فرق بعض العلماء بين الباطل والفاسد فقال: الباطل هو الذي لا وجود له، والفاسد: موجود إلا أنه قد اختل بعض شروطه، وذكر أهل التفسير أن الباطل في القرآن على أربعة أوجه:
- أحدها: الكذب، ومنه قوله تعالى في سورة العنكبوت: {إذا لارتاب المبطلون}، وفي حم السجدة: {لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه}.
- والثاني: الإحباط، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: { لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى}، وفي سورة محمد: {لا تبطلوا أعمالكم}.
- والثالث: الظلم، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام}، وفي سورة النساء: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}.
- والرابع: الشرك، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {ولا تلبسوا الحق بالباطل}، وفي سورة النحل: {أفبالباطل يؤمنون}، وفي سورة العنكبوت: {والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون}، وقال بعض المفسرين: إن الباطل في هذه الآية الشيطان، فيكون ذلك وجها خامسا».
وللباطل على مر التاريخ صولات وجولات، وأيام ظهر فيها وارتفع، إلا أن سنة الله تعالى ثابتة في نصرة الحق دائما، وإبطال الباطل وإزالته وفضحه، فقد بشرنا الله تعالى بأنه ينصر الحق وأهله فقال سبحانه: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}، وقال تعالى: {ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون}.
فالباطل لا بقاء وإن جال جولة ردهة من الزمن، قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فسالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْربُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأمَّا مَا يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ}، قال ابن كثير: «اِشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة عَلَى مَثَلَيْنِ مَضْرُوبَيْنِ لِلْحَقِّ فِي ثَبَاته وَبَقَائِهِ، وَالْبَاطِل فِي اِضْمِحْلَاله وَفَنَائِهِ».
وقال تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}، قال ابن سعدي: «هذا وصف للباطل، ولكنه قد يكون له صولة ورواج إذا لم يقابله الحق، فعند مجيء الحق يضمحل الباطل، فلا يبقى له حراك، ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمان والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبيناته».
قال ابن كثير عن الآية الكريمة أن فيها تَهْدِيدا وَوَعِيدا لِكُفَّارِ قُرَيْش، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مِنْ اللَّه الْحَقّ الَّذِي لَا مِرْيَة فِيهِ، وَلَا قِبَل لَهُمْ بِهِ، وَهُوَ مَا بَعَثَهُ اللَّه بِهِ مِنْ الْقُرْآن وَالْإِيمَان وَالْعِلْم النَّافِع، وَزَهَقَ بَاطِلهمْ أَيْ اِضْمَحَلَّ وَهَلَكَ، فَإِنَّ الْبَاطِل لَا ثَبَات لَهُ مَعَ الْحَقّ، وَلَا بَقَاء، ونقل عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ: دَخَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة وَحَوْل الْبَيْت سِتُّونَ وَثَلَثمِائَةِ صَنَمًا فَجَعَلَ يَطْعَنهَا بِعُودٍ فِي يَده وَيَقُول {جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِل إِنَّ الْبَاطِل كَانَ زَهُوقًا}. أخرجه البخاري.
ومن الآيات الدالة على زوال الباطل قوله تعالى: {جَاءَ الْحَقّ وَمَا يُبْدِئ الْبَاطِل وَمَا يُعِيد}، قال ابن سعدي: «أي: ظهر وبان، وصار بمنزلة الشمس، وظهر سلطانه، {وما يبدئ الباطل وما يعيد}أي: اضمحل وبطل أمره، وذهب سلطانه، فلا يبدئ ولا يعيد».
وَقَال تعالى مبينا ظهور الحق على الباطل بقوة ووضوح: {بَلْ نَقْذِف بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِل}، قال ابن سعدي: «يخبر تعالى أنه تكفل بإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإن كان باطل قيل وجودل به، فإن الله ينزل من الحق والعلم والبيان ما يدمغه فيضمحل، ويتبين لكل أحد بطلانه، وهذا عام في جميع المسائل الدينية، لا يورد مبطل شبهة عقلية ولا نقلية في إحقاق باطل أو رد حق إلا وفي أدلة الله من القواطع العقلية والنقلية ما يذهب ذلك القول الباطل ويقمعه فإذا هو متبين بطلانه لكل أحد».
فواجب المسلم إخلاص الدين لله تعالى، وحسن الإتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يستنير بالعلم الشرعي، ويسترشد بتوجيهات العلماء المعتبرين حتى يسلم من اتباع الباطل والركون إليه، لأن الجهل وإتباع الهوى والتقليد الأعمى من مزالق الباطل ومدارج الشيطان لإغواء بني آدم للوقوع في حضيض الضلال والانغماس في الباطل، والله سبحانه يتولى المخلصين الصالحين، ويوفق الساعين للخير والمجتهدين، ولا يحب الفساد ولا المفسدين، وقد توعد الضالين المضلين، فليختر المسلم ما يحب أن يعرف به وينسب إليه، وما يريد أن يختم له به، فقد أخرج مسلم عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُبعث كل عبد على ما مات عليه»، قال المُناوي: «أي يموت على ما عاش عليه ويبعث على ذلك»، وقد أشار القرآن الكريم لهذه القاعدة الكريمة بقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }، فشتان بين أصحاب الحق علما وعملا، وأهل الباطل دعوة وانحرافا وإفسادا، نسأل الله تعالى السلامة والاستقامة، وبالله التوفيق.



اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-11-18, 05:00 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن(83)

- قل كل يعمل على شاكلته





النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار


جبل الإنسان على السعي في جلب مصالحه، والبعد عما يضره ويؤذيه، وهذا أمر متفق عليه عند العقلاء، إلا أن الاختلاف وقع في تحديد المصلحة التي يسعى الإنسان لتحصيلها، والمضرة التي يحرص على البعد عنها.
وللناس معايير مختلفة في تحديد المصالح والمفاسد، بحسب عقولهم المتفاوتة، وثقافاتهم المتنوعة، وأهوائهم المتضاربة، وبيئاتهم المتعددة.
والقرآن الكريم قرر هذا التعدد في السعي مشيرا إلى أسبابه وبواعثه؛ فقال تعالى: {قُلْ كُلّ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته فَرَبّكُمْ أَعْلَم بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} قال الإمام الطبري: «يَقُول عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّد لِلنَّاسِ: كُلّكُمْ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته: عَلَى نَاحِيَته وَطَرِيقَته {فَرَبّكُمْ أَعْلَم بِمَنْ} هُوَ مِنْكُمْ {أَهْدَى سَبِيلًا} يَقُول: رَبّكُمْ أَعْلَم بِمَنْ هُوَ مِنْكُمْ أَهْدَى طَرِيقًا إِلَى الْحَقّ مِنْ غَيْره.
ثم ذكر بإسناده عَنْ السلف تفسيرهم لقوله تعالى{كُلّ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته} فعن ابن عباس قال: عَلَى نَاحِيَته. وعَنْ مُجَاهِد قَالَ: عَلَى طَبِيعَته عَلَى حِدَته. وعَنْ قَتَادَة قال: عَلَى نَاحِيَته وَعَلَى مَا يَنْوِي. وقَالَ اِبْن زَيْد: عَلَى دِينه، الشَّاكِلَة: الدِّين».
وذكر القرطبي هذه الأقوال ثم قال: «وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، والمعنى: أن كل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التي ألفها، وهذا ذم للكافر ومدح للمؤمن».
ويبين الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أن الشاكلة في اللغة هي: الطريقة والسيرة التي اعتادها صاحبها، ونشأ عليها، وأصلها شاكلة الطريق، وهي الشعبة التي تتشعب منه، وهذا أحسن ما فسر به الشاكلة هنا، وهذه الجملة في الآية تجري مجرى المثل.
ثم بين مناسبة ختام الآية لأولها في قوله {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا}، فقال: «وهو كلام جامع لتعليم الناس بعموم علم الله، والترغيب للمؤمنين، والإنذار للمشركين مع تشكيكهم في حقية دينهم لعلهم ينظرون، كقوله {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}».
ويوضح الشيخ السعدي؛ أن السعيد من عمل بالتوحيد، والمخذول من عمل للعبيد، فقال: «كل من الناس يعمل على شاكلته أي: ما يليق به من الأحوال؛ إن كانوا من الصفوة الأبرار لم يشاكلهم إلا عملهم لرب العالمين، أو من كانوا من غيرهم من المخذولين لم يناسبهم إلا العمل للمخلوقين، ولم يوافقهم إلا ما وافق أغراضهم».
ويؤكد ابن القيم هذا المعنى ويزيد عليه فيقول: «معنى الآية: كل يعمل على ما يشاكله ويناسبه ويليق به، فالفاجر يعمل على ما يليق به، وكذلك الكافر والمنافق ومريد الدنيا وجيفتها: عامل على ما يناسبه ولا يليق به سواه، ومحب الصور: عامل على ما يناسبه ويليق به. فكل امريء يهفو إلى ما يحبه، وكل امريء يصبو إلى ما يناسبه، فالمريد الصادق المحب لله: يعمل ما هو اللائق به والمناسب له، فهو يعمل على شاكلة إرادته وما هو الأليق به، والمناسب لها.
والنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار، فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقة والخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجل، والنفس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك، فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها.
وهذا معنى قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه}، أي على ما يشاكله ويناسبه، فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته، وكل إنسان يجري على طريقته ومذهبه وعاداته التي ألفها وجبل عليها. فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي والإعراض عن المنعم، والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكرالمنعم ومحبته والثناء عليه، والتودد إليه والحياء منه، والمراقبة له وتعظيمه وإجلاله».
وقد جاء في السنة المطهرة إشارة إلى تنوع أعمال الناس وتفاوت سعيهم، وما ينتج عن ذلك من آثار في الدنيا والآخرة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» أخرجه مسلم.
قال النووي: «معناه كل إنسان يسعى بنفسه؛ فمنهم من يبيعها لله تعالى بطاعته فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتباعهما فيوبقها أي يهلكها».
قال الشيخ ابن عثيمين: «قوله: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو» أي كل الناس يخرج مبكراً في الغدوة في الصباح وهذا من باب ضرب المثل. «فَبَائِعٌ نَفْسَهُ» أي الغادي يبيع نفسه، ومعنى يبيع نفسه أنه يكلفها بالعمل، لأنه إذا كلفها بالعمل أتعب النفس فباعها.
ينقسم هؤلاء الباعة إلى قسمين: معتق و موبق، ولهذا قال: «فَمُعْتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا» فيكون بيعه لنفسه إعتاقاً إذا قام بطاعة الله كما قال الله عزّ وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} يشتري نفسه أي يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله عزّ وجل، فهذا الذي باع نفسه ابتغاء مرضاة الله وقام بطاعته قد أعتقها من العذاب والنار.
والذي أوبقها هو الذي لم يقم بطاعة لله عزّ وجل حيث أمضى عمره خُسراناً، فهذا موبق لها أي مهلك لها.
لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالنسبة للقرآن إلى من يكون القرآن حجة له، ومن يكون حجة عليه، ذكر أن العمل أيضاً قد يكون على الإنسان وقد يكون للإنسان، فيكون للإنسان إذا كان عملاً صالحاً، ويكون عليه إذا كان عملاً سيئاً.
وانظر إلى هذا الحديث: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ» يتبين لك أن الإنسان لابد أن يعمل إما خيراً وإما شراً».
والذي يتأمل الشريعة الإسلامية يجد أن الله تعالى قد أكرم المسلمين بالهداية للدين، ففي الوقت الذي يحار الناس في معرفة سبيلهم وغايتهم، فيهلكون أنفسهم في أودية الدنيا المتشعبة، وتختلف أعمالهم ومقاصدهم، نجد النصوص الشرعية قد بينت أعلى المقاصد، وأسمى الغايات، وأوضحت السبل الموصلة إليها، والأمور المعينة عليها، كما حذرت من آفات الطريق وعقبات السبيل التي تصد الإنسان عن غايته، أو تحرفه عنها وتؤخره عن بلوغها، كما أن المآل والمصير بالنسبة للمسلم معلوم وواضح؛ إما جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، وإما جهنم وبئس المصير، فالحمد لله على إحسانه وإنعامه إذ اختار لنا الإسلام دينا، ووفقنا إليه، وهو المسؤول أن يثبتنا عليه، وأن يرزقنا حسن القصد وحسن العمل، مع حسن الخاتمة وحسن العاقبة، وبالله التوفيق.



اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-11-18, 05:02 AM
الحكمة ضالة المؤمن (85)


-الإسلام يهدم ما قبله



من رحمة الله تعالى بعباده أن فتح لهم باب التوبة والإنابة، ودعاهم إليه، وحثهم عليه بأنواع المرغبات من تكفير السيئات، وتبديلها حسنات، ودخول الجنات، وبيان أن الله تعالى يفرح بتوبة عبده إليه.

ومن أنواع الترغيب في الإنابة والإقلاع عن المخالفات بيان أن الإسلام والحج والهجرة والتوبة تهدم ما قبلها كما قال تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وءامن وعمل صالحًا ثم اهتدى}(طه- 82)، وقال صلى الله عليه وسلم :« ويــتــوب الله على من تاب» متفق عليه.
فدخول الإسلام يهدم ما فعله الإنسان من ذنوب ومعاصي قبل ذلك، كما قال تعالى:{40 قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ ﯔ }، (الأنفال- 38) يبين الطبري المراد بالانتهاء:«إِنْ يَنْتَهُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ كُفْرهمْ بِاَللَّهِ وَرَسُوله وَقِتَالك وَقِتَال الْمُؤْمِنِينَ فَيُنِيبُوا إِلَى الْإِيمَان, يَغْفِر اللَّه لَهُمْ مَا قَدْ خَلَا وَمَضَى مِنْ ذُنُوبهمْ قَبْل إِيمَانهمْ وَإِنَابَتهمْ إِلَى طَاعَة اللَّه وَطَاعَة رَسُوله بِإِيمَانِهِمْ وَتَوْبَتهمْ».
ويبين اِبْن الْعَرَبِيّ الحكمة الربانية من ذلك فيقول:«َهَذِهِ لَطِيفَة مِنْ اللَّه سُبْحَانَهُ مَنَّ بِهَا عَلَى الْخَلْق; وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْتَحِمُونَ الْكُفْرَ وَالْجَرَائِم, وَيَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ وَالْمَآثِمَ; فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِب مُؤَاخَذَةً لَهُمْ لَمَا اِسْتَدْرَكُوا أَبَدًا تَوْبَة وَلَا نَالَتْهُمْ مَغْفِرَة، فَيَسَّرَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَبُولَ التَّوْبَة عِنْد الْإِنَابَة, وَبَذْل الْمَغْفِرَة بِالْإِسْلَامِ, وَهَدْم جَمِيع مَا تَقَدَّمَ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَب لِدُخُولِهِمْ فِي الدِّين, وَأَدْعَى إِلَى قَبُولهمْ لِكَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ, وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ لَمَا تَابُوا وَلَا أَسْلَمُوا».
وفي قصة إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه دليل آخر على هذه الفضيلة، حيث قال:«لما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: ابْسُطْ يمينك فلأبايعْك، فبسطَ يمينه، قال : فقبضتُ يدي، فقال:«مالك يا عمرو؟» قال: قلتُ: أردتُ أن أشْتَرِطَ، فقال: «تشترطُ بماذا»؟ قلتُ: أن يُغْفَر لي، قال:«أما علمتَ أن الإسلامَ يهدِم ما كان قبله؟ وأن الهجرةَ تهدِم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟» أخرجه مسلم، ومعنى (الإسلام يهدم ما كان قبله) قال النووي: «أي يسقطه ويمحو أثره». فلا يطالب به.
وعَنْ ابن مسعود قَالَ : قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ قَالَ: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ» أخرجه البخاري وعند مسلم:«أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام».
ذهب ابن حجر إلى إن المراد بالإساءة في الحديث هي (الكفر)؛ لأنه غاية الإساءة وأشد المعاصي، فإذا ارتد ومات على كفره كان كمن لم يسلم فيعاقب على جميع ما قدمه، وإلى ذلك أشار البخاري بإيراد هذا الحديث بعد حديث «أكبر الكبائر الشرك»، وأورد كلا في أبواب المرتدين.
وأيد ذلك بقول ابن بطال:«عرضته على جماعة من العلماء فقالوا: لا معنى لهذا الحديث غير هذا، ولا تكون الإساءة هنا إلا الكفر للإجماع على أن المسلم لا يؤاخذ بما عمل في الجاهلية».
ويذهب النووي مذهبا قريبا من اختيار ابن حجر فيقول:«الصحيح فيه ما قاله جماعة من المحققين أن المراد (بالإحسان) هنا الدخول في الإسلام بالظاهر والباطن جميعا، وأن يكون مسلما حقيقيا، فهذا يغفر له ماسلف من الكفر بنص القرآن العزيز، والحديث الصحيح «الإسلام يهدم ما قبله» وبإجماع المسلمين، والمراد (بالإساءة) عدم الدخول في الإسلام بقلبه، بل يكون منقادا في الظاهر مظهرا للشهادتين، غير معتقد للإسلام بقلبه، فهذا منافق باق على كفره بإجماع المسلمين، فيؤاخذ بما عمل في الجاهلية قبل إظهار صورة الإسلام، وبما عمل بعد إظهارها؛ لأنه مستمر على كفره».
وقد أثار القرافي مسألة مهمة وهي ما الحقوق التي تسقط بالإسلام والحقوق التي لا تسقط بل يؤاخذ بها الإنسان؟
والجواب: هو التفريق بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد، فيقول: «أما حقوق الله تعالى فلا تلزمه وإن كان ذميا مما تقدم في كفره لا ظهار ولا نذر ولا يمين من الأيمان ولا قضاء الصلوات ولا الزكوات ولا شيء فرط فيه من حقوق الله تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام « الإسلام يجب ما قبله».
أما حقوق العباد فيقول:«فيلزمه ثمن البياعات، وأجر الإجارات، ودفع الديون التي اقترضها ونحو ذلك، ولا يلزمه من حقوق الآدميين القصاص ولا الغصب والنهب». ثم ثم يبين الفرق أن حقوق العباد قسمان:
1- منها ما رضي به حالة كفره واطمأنت نفسه بدفعه لمستحقه فهذا لا يسقط بالإسلام؛ لأن إلزامه إياه ليس منفرا له عن الإسلام لرضاه .
2- وما لم يرض بدفعه لمستحقه كالقتل والغصب ونحوه فإن هذه الأمور إنما دخل عليها معتمدا على أنه لا يوفيها أهلها فهذا كله يسقط ؛ لأن في إلزامه ما لم يعتقد لزومه تنفيرا له عن الإسلام، فقدمت مصلحة الإسلام على مصلحة ذوي الحقوق .
وأما حقوق الله تعالى فتسقط مطلقا رضي بها أم لا ، والفرق بينها وبين حقوق الآدميين من وجهينhttps://majles.alukah.net/imgcache/2024/10/190.jpgأحدهما) أن الإسلام حق الله تعالى والعبادات ونحوها حق لله تعالى، فلما كان الحقان لجهة واحدة ناسب أن يقدم أحدهما على الآخر، ويسقط أحدهما الآخر لحصول الحق الثاني لجهة الحق الساقط.
وأما حق الآدميين فجهة الآدميين والإسلام ليس حقا لهم، بل لجهة الله تعالى فناسب أن لا يسقط حقهم بتحصيل حق غيرهم.
(وثانيهما) أن الله تعالى كريم جواد تناسب رحمته المسامحة، والعبد بخيل ضعيف فناسب ذلك التمسك بحقه، فسقطت حقوق الله تعالى مطلقا وإن رضي بها كالنذور والأيمان أو لم يرض بها كالصلوات والصيام، ولا يسقط من حقوق العباد إلا ما تقدم الرضى به فهذا هو الفرق بين القاعدتين .
وثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّين» رواه مسلم، قال الإمام النووي:«وأما قوله صلى الله عليه وسلم https://majles.alukah.net/imgcache/2024/10/190.jpgإلا الدَّين) ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله تعالى».
وكذلك الحج فقد ورد في فضله ما يدل على أنه يمحو الذنوب، ويرجع منه الإنسان كيوم ولدته أمه، لكن هذا الفضل والثواب لا يعني سقوط الحقوق الواجبة ، سواء كانت حقوقا لله تعالى، كقضاء الصلاة والصيام، وما ثبت في ذمته من زكاة وكفارات ونذر، أو كانت حقوقا للعباد كالديون ونحوها.
قال ابن تيمية:«أجمعَ المسلمون أنه ـ أي: الحج ـ لا يَسقُط حقوقُ العباد كالدَّيْن ونحوِ ذلك، ولا يَسقُط ما وجب عليه من صلاةٍ، وزكاةٍ، وصيامٍ، وحق المقتول عليه وإن حجَّ ، والصلاة التي يَجبُ عليه قضاؤُها : يَجبُ قضاؤُها، وإن حَج ، وهذا كلُّه باتفاق العلماء».
وكذلك التوبة لا تسقط حقوق العباد، قال ابن كثير:«حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقدٌ على أنها لا تسقط بالتوبة، ولا بد من أدائها إليهم في صحة التوبة، فإن تعذر ذلك فلا بد من الطلابة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع الطلابة وقوع المجازاة، وقد يكون للقاتل أعمالٌ صالحةٌ تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يَفضلُ له أجرٌ يدخل به الجنة، أو يعوض اللهُ المقتولَ من فضله بما يشاء، من قصور الجنة ونعيمها، ورفع درجته فيها ونحو ذلك».
وفي الختام يستفاد مما تقدم الأدلة والأقوال أن واجب العبد أن يتوب إلى الله تعالى من جميع الذنوب والخطايا، ومن شروط التوبة أداء حقوق العباد إذا أمكن ، وإلا عوضهم بما يقدر عليه من صدقة أو دعاء أو ثناء ونحو ذلك، كما يستفاد أن الأدلة لا تفهم بمجرد اللغة العربية، بل لابد من الرجوع إلى أقوال أهل العلم، واستعمال الضوابط الشرعية والقواعد الكلية لحسن الفهم وتجنب الزلل حتى لا يقع العبد في القول على الله بغير علم، وبالله التوفيق.



اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-11-29, 07:20 AM
الحكمـة ضالـة المؤمن (85)


- تلك عاجل بشرى المؤمن



إذا كان العبد يجد أعمال الخير ميسرة له، مسهلة عليه، ويجد نفسه محفوظا بحفظ الله عن الأعمال التي تضره، كان هذا من البشرى التي يستدل بها المؤمن على عاقبة أمره
الإنسان يحب الأخبار السارة، وينشط للبشارات والأنباء الطيبة، ولهذا فإن الإسلام دين بشارة بالخير للمؤمنين، والتبشير من وظيفة المرسلين، كما قال تعالى:{ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}(ال أنعام48)، والبشارة صفة القرآن الكريم، كما وصفه الله تعالى بقوله:{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (الإسراء:9).
والبشارة كما يعرفها الجرجاني بأنها:«كل خبر صدق تتغير به بشرة الوجه، ويستعمل في الخير والشر، وفي الخير أغلب».
وقد جاءت البشارة في القرآن على أوجه عديدة منها ؛ بشارة أرباب الإنابة بالهداية، كما قال تعالى:{وَالَّذِي نَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} (الزمر:17-18).
ومنها بشارة المتقين بالفوز كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ { 63 } لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (يونس:63-64)، ومنها بشارة الخائفين بالمغفرة كما قال عزوجل: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ . فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ(11)} (يس:11).
ومنها بشارة المطيعين بالجنة كما قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} (البقرة:25)، ومنها بشارة المؤمنين بالعطاء الأخروي كما قال عز وجل:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (يونس:2)، وقال سبحانه: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا } (الأحزاب:47).
ويوضح الشيخ ابن سعدي معنى البشارة فيقول: «والبشارة هي الخبر أو الأمر السار الذي يعرف به العبد حسن عاقبته، وأنه من أهل السعادة، وأن عمله مقبول».
ويبين -رحمه الله- مجالات البشارة ونطاقها، وأنها أخروية، ودنيوية فيقول: «أما في الآخرة فهي البشارة برضى الله وثوابه، والنجاة من غضبه وعقابه، عند الموت، وفي القبر، وعند القيام إلى البعث، يبعث الله لعبده المؤمن في تلك المواضع بالبشرى على أيدي الملائكة، كما تواترت بذلك نصوص الكتاب والسنة.
وأما البشارة في الدنيا التي يعجلها الله للمؤمنين نموذجا وتعجيلا لفضله، وتعرفا لهم بذلك، وتنشيطا لهم على الأعمال فأهمها؛ توفيقه لهم للخير، وعصمته لهم من الشر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة» متفق عليه.
فإذا كان العبد يجد أعمال الخير ميسرة له، مسهلة عليه، ويجد نفسه محفوظا بحفظ الله عن الأعمال التي تضره، كان هذا من البشرى التي يستدل بها المؤمن على عاقبة أمره؛ فإن الله أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، وإذا ابتدأ عبده بالإحسان أتمه، فأعظم منة وإحسان يمن به عليه إحسانه الديني، فيسر المؤمن بذلك أكمل السرور، سرور بمنة الله عليه بأعمال الخير وتيسيرها؛ لأن أعظم علامات الإيمان محبة الخير، والرغبة فيه، والسرور بفعلهن، وسرور ثان بطمعه الشديد، في إتمام الله نعمته عليه، ودوام فضله».
ومن البشارات الدنيوية ما أخرجه مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ».
قال النووي: «مَعْنَاهُ هَذِهِ الْبُشْرَى الْمُعَجَّلَة لَهُ بِالْخَيْرِ, وَهِيَ دَلِيل عَلَى رِضَاء اللَّه تَعَالَى عَنْهُ, وَمَحَبَّته لَهُ, فَيُحَبِّبهُ إِلَى الْخَلْق, ثُمَّ يُوضَع لَهُ الْقَبُول فِي الْأَرْض. هَذَا كُلّه إِذَا حَمِدَهُ النَّاس مِنْ غَيْر تَعَرُّض مِنْهُ لِحَمْدِهِمْ, وَإِلَّا فَالتَّعَرُّض مَذْمُوم».
وقال ابن سعدي: «أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن آثار الأعمال المحمودة المعجلة أنها من البشرى، فإن الله وعد أولياءه وهم المؤمنون المتقون بالبشرى في هذه الحياة، وفي الآخرة، ومن ذلك ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: إذا عمل العبد عملا من أعمال الخير، ولا سيما الآثار الصالحة، والمشاريع الخيرية العامة النفع، وترتب على ذلك محبة الناس له، وثناؤهم عليه، ودعاؤهم له، كان هذا من البشرى بأن هذا العمل من الأعمال المقبولة، التي جعل الله فيها خيرا وبركة.
ومن البشرى في الحياة الدنيا محبة المؤمنين للعبد لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا} (مريم:96)، أي: محبة منه لهم، وتحبيبا لهم في قلوب العباد.
ومن ذلك الثناء الحسن؛ فإن كثرة ثناء المؤمنين على العبد شهادة منهم له، والمؤمنون شهداء الله في أرضه.
ومن ذلك الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له؛ فإن الرؤيا الصالحة من المبشرات.
فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَمْ يَبْقَ مِنْ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ ». قَالُوا وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ ؟ قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ». أخرجه البخاري.
قال ابن حجر: «المبشرات: جمع مبشرة وهي البشرى، والمعنى: لم يبق بعد النبوة المختصة بي إلا المبشرات، ثم فسرها بالرؤيا».
وسأل أبو الدَّرْدَاءِ النبي صلى الله عليه وسلم عن قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (يونس:64) فَقَالَ: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ» أخرجه الترمذي. وصححه الألباني.
والخلاصة أن البشارة للمؤمن مقدمة فضل الله تعالى عليه، وتمهيد لما هو مقدم عليه، فعليه أن يخلص العمل لله تعالى، ويحقق الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن ذلك حقيقة الاستقامة التي هي من أسباب البشارة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:30)، وإذا حصل له شيء من البشارات فلا يعجب ولا يبطر، بل يتواضع ويشكر، ويزيد من العمل، ويكثر من الذكر، فهذا شأن العقلاء، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقوم حتى تتفطر قدماه عبودية وشكرا، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه.. قالت عائشة : يا رسول الله أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟، فقال صلى الله عليه وسلم :« يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا» أخرجه مسلم.
نسأل الله تعالى أن يتولانا برحمته، وأن يزيدنا من فضله، وأن يكرمنا بطاعته، وأن يوفقنا لشكره وحسن عبادته، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-11-29, 07:22 AM
الحكمة ضالة المؤمن (86)


-الجواب الرقيق يسكت الغضب




الغضب غريزة إنسانية، فهو تغيّر يحصل عند فوران دم القلب؛ ليحصل عنه التشفي وطلب الانتقام، فالإنسان يغضب عندما يستثار، إلا أن الملاحظ في هذا الزمان انتشار سرعة الغضب بين الناس؛ ولأتفه الأسباب، فتقوم الخصومات، وتندلع المضاربات، بل قد يصل الأمر إلى ارتكاب أبشع الجرائم؛ بسبب سَوْرة الغضب وحدة الطبع.
وربما حمل صاحبه على إيذاء غيره، أو نفسه، كما بين ذلك العلماء بانطلاق لسانه بالشتم، والفحش الذي يستحي منه العاقل، ويندم قائله عند سكون الغضب، ويظهر أثر الغضب أيضا في الفعل بالضرب أو القتل، وإن فات ذلك بهرب المغضوب عليه، رجع إلى نفسه، فيمزق ثوبه، ويلطم خده، وربما سقط صريعا، وربما أغمي عليه، وربما كسر الآنية، وضرب من ليس له في ذلك جريمة.
والشرع المطهر يحثنا على الحلم وضبط النفس، وعدم الاسترسال مع الغضب وآثاره الخطيرة، لئلا يقع الإنسان فيما لا تحمد عقباه، ويندم حيث لا ينفع الندم، كما قال عطاء بن أبي رباح: «ما أبكى العلماءَ بكاء آخرِ العمرِ من غضبة يغضبُها أحدُهُم، فتهدِمُ عملَ خمسين سنة، أو ستين سنة، أو سبعين سنة، وربَّ غضبة قد أقحمت صاحبها مقحمًا ما استقاله».
فمن النصوص الشرعية التي تحثنا على الصفح والعفو، قوله تعالى في ذكر صفات عباد الرحمن المحمودة: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) } (الفرقان: 63)، قال الطبري: «وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ بِاللَّهِ بِمَا يَكْرَهُونَهُ مِنَ الْقَوْل، أَجَابُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ مِنَ الْقَوْل، وَالسَّدَاد مِنَ الْخِطَاب»، ونقل عن الحسن البصري أنه قَال: «حُلَمَاء لَا يَجْهَلُونَ، وَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِمْ حَلَمُوا وَلَمْ يُسَفِّهُوا».
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الحلم والصفح، وعدم مقابلة الإساءة بمثلها، فعن أنس رضي الله عنه قال: «كنت أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وسلموعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال : يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم- فضحك ثم أمر له بعطاء». متفق عليه.
قال ابن حجر: «وفي الحديث بيان حلمه صلى الله عليه وسلم وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز عن جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل، من الصفح، والإغضاء، والدفع بالتي هي أحسن».
وجاء زيد بن سعنة الحبر اليهودي قبل إسلامه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دَيْناً عليه، فجبذ ثوبه عن منكبه، وأخذ بمجامع ثيابه، وأغلظ له، ثم قال: إنكم يا بنى عبد المطلب مطل، فانتهره عمر وشدد له في القول، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر: تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي»، ثم قال: «لقد بقى من أجله ثلاث» أي: لم يحن وقت الدين، وأمر عمر يقضيه ماله، ويزيده عشرين صاعا؛ لما روعه، فكان سبب إسلامه، وذلك أن زيدا كان يقول: ما بقى من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد، إلا اثنتين لم أخبرهما: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل إلا حلما، فأخبرته بهذا فوجدته كما وصف» أخرجه الحاكم وابن حبان.
ويبين النبي الكريم أن الحلم، والصفح، والعفو، من الصفات المحمودة شرعا، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» متفق عليه.
قال النووي: «تعتقدون أن الصرعة الممدوح القوي الفاضل هو القوي الذي لا يصرعه الرجال بل يصرعهم، وليس هو كذلك شرعا، بل هو من يملك نفسه عند الغضب، فهذا هو الفاضل الممدوح الذي قل من يقدر على التخلق بخلقه، ومشاركته في فضيلته بخلاف الأول، وفيه كظم الغيظ، وإمساك النفس عند الغضب عن الانتصار والمخاصمة والمنازعة».
ولهذا تكررت الوصية منه صلى الله عليه وسلم بعدم الغضب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني، قال: «لا تغضب». فردد مرارا، قال: «لا تغضب». أخرجه البخاري.
قال ابن حجر: «قال الخطابي معنى قوله: «لا تغضب» اجتنب أسباب الغضب، ولا تتعرض لما يجلبه، وأما نفس الغضب فلا يتأتى النهي عنه، لأنه أمر طبيعي لا يزول من الجبلة.
وقيل: معناه لا تغضب؛ لأن أعظم ما ينشأ عن الغضب (الكبر)؛ لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده فيحمله الكبر على الغضب، فالذي يتواضع حتى يذهب عنه عزة النفس يسلم من شر الغضب. وقيل : معناه لا تفعل ما يأمرك به الغضب.
وقال ابن التين : جمع صلى الله عليه وسلمفي قوله: «لا تغضب» خير الدنيا والآخرة لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه، فينتقص ذلك من الدين.
ويحتمل أن يكون من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، لأن أعدى عدو للشخص شيطانه ونفسه، والغضب إنما ينشأ عنهما، فمن جاهدهما حتى يغلبهما مع ما في ذلك من شدة المعالجة كان لقهر نفسه عن الشهوة أيضا أقوى».
ولا شك أن عاقبة الحلم والعفو حميدة، ومآلها إلى خير، كما قال تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34)، قال الطبري: « يَقُول تَعَالَى ذِكْره لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد[: ادْفَعْ يَا مُحَمَّد بِحِلْمِك جَهْلَ مَنْ جَهِلَ عَلَيْك، وَبِعَفْوِك عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْك إِسَاءَة الْمُسِيء، وَبِصَبْرِك عَلَيْهِمْ مَكْرُوهَ مَا تَجِد مِنْهُمْ، وَيَلْقَاك مِنْ قِبَلهمْ. ونقل عَنِ ابْن عَبَّاس أنه قَالَ: «أَمَرَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عِنْد الْغَضَب، وَالْحِلْم وَالْعَفْو عِنْد الْإِسَاءَة، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمْ اللَّه مِنَ الشَّيْطَان، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوّهُمْ، كَأَنَّهُ وَلِيّ حَمِيم».
وقال عمر بن عبد العزيز: «قد أفلحَ مَنْ عُصِمَ من الهوى، والغَضَب، والطمع».
وقال الحسن: «أربعٌ من كُنَّ فيه عصمه الله من الشيطان، وحرَّمه على النار: مَنْ ملك نفسَه عندَ الرغبة، والرهبة، والشهوةِ، والغَضَب».
والصبر عند الغضب، والحلم على الجاهل يكسبان الإنسان أعوانا وأنصارا، كما قال علي بن أبي طالب: «إن أول ما عوّض الحليم من حلمه أن الناس كلهم أعوانه على الجاهل».
بل إن الإحسان إليه يكسره ويخزيه، كما قال ابن عباس لرجل سبّه: «يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟»، فنكسّ الرجل رأسه واستحى مما رأى من حلمه عليه.
وما أحسن ما قاله الشافعي مبينا فضل الإعراض عن سفاهة الجاهلين:

يخاطبني السفيه بكل قبح

فأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة فأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبا
وقال أيضا :

إذا نطق السفيه فلا تجبه

فخير من إجابته السكوت


فإن كلمته فرّجـت عنـه

وإن خليته كمـدا يمـوت
فالله تعالى المسؤول أن يهدينا لأحسن الأخلاق، وأقوم الصفات، وأن يعصمنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه سميع قريب مجيب.



اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-12-08, 11:28 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (87)


- اقرأ باسم ربك الذي خلق




تكرر لفظ العلم ومشتقاته في القرآن الكريم مئات المرات، مقترنا في مواضع كثيرة بالأمر بالتدبر في الآيات الكونية والشرعية؛ مما يؤكد بقوة أهمية العلم والتعليم في الإسلام، ولا أصرح دلالة على ذلك من قوله تعالى مخاطبا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم في أول وحي نزل عليه: {قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.} (العلق: 1- 5).
قال ابن كثير: «فأول شيء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات، وهن أول رحمة رحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم، وفيها التنبيه على - أن من كرمه تعالى - أن علم الإنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة. والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي، والرسمي يستلزمهما من غير عكس، فلهذا قال: {اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}، وفي الأثر:» قيدوا العلم بالكتابة».
وهذا الخطاب الرباني وإن كان موجها للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه تكليف للأمة عامة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقوله‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ‏}‏ وإن كان خطابًا للنبى صلى الله عليه وسلم ولا، فهو خطاب لكل أحد، سواء كان قوله‏:‏ ‏{‏‏اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ‏} هـو خطاب للإنسـان مطلقًـا، والنبى صلى الله عليه وسلم أول مـن سمع هـذا الخطاب، أو من النوع، أو هو خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم خصوصًا، كما قد قيــل في نظائــر ذلك‏ مثل قوله‏:‏ ‏{‏‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (النساء: 79)،‏‏ قيل‏:‏ خطاب له، وقيل‏:‏ خطاب للجنس، وأمثال ذلك‏.‏‏ فإنه وإن قيل‏:‏ إنه خطاب له، فقد تقرر أن ما خوطب به من أمر ونهي فالأمة مخاطبة به، ما لم يقـم دليل التخصيص‏.‏‏ فقوله في هذه السورة‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ‏}‏، كقوله في آخرها‏:‏ ‏{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏} هذا متناول لجميع الأمة‏.‏»
وللأسف فإن واقع بعض المسلمين اليوم يتنافى مع هذا الأمر الرباني، كما تؤكد ذلك الإحصائيات والتقارير، ففي صحيفة الشرق الأوسط نُشر تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2004 الذي أشرف عليه المئات من الخبراء والباحثين، ووصلوا إلى أن ثلث الرجال ونصف النساء لا يقرؤون.
وفي تقريرمنظمة اليونسكو عن القراءة في الوطن العربي يقول: إن المواطن العربي يقرأ ست دقائق في السنة، مع ملاحظة أن هذه الإحصائية محذوف فيها (قراءة الصحف والمجلات، والكتب الدراسية، وملفات العمل وقراءة التقارير، وقراءة الكتب للتسلية).
من الإحصائيات اللافتة أن كل 20 عربياً يقرؤون كتاباً واحداً في السنة، بينما يقرأ كل ألماني 7 كتب في السنة، أي يقرأ 20 ألمانياً 140 كتاباً في السنة، في حين يقرأ 20 عربياً كتاباً فقط لا غير.
ولهذا يقرر العقاد هذه الحقيقة المرة بقوله: «إن القراءة لم تزل عندنا سخرة، يساق إليها الأكثرون طلبا لوظيفة أو منفعة، ولم تزل عند أمم الحضارة حركة نفسية كحركة العضو الذي لا يطيق الجمود».
ويذهب د. عبد الكريم بكار إلى أن القراءة أصبحت عبئا على بعض الناس حتى تفنن في خلق الأعذار فيقول: «لأن القراءة لا تتمتع بأي أهمية لدى الكثيرين من أبناء الأمة، فإننا نجد لدى الكثير ممن نقابلهم براعة نادرة في اختلاق الأعذار التي تجعل جفاءهم للكتب أمرا طبيعيا».
فالآية الكريمة فيها تكليف الأمة بالقراءة بأسلوب بليغ، كما نبه إليه الشيخ ابن عاشور؛ حيث قال عن افتتاح السورة بكلمة (اقرأ): «وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن.والأمر بالقراءة مستعمل في حقيقته من الطلب لتحصيل فعل في الحال أو الاستقبال، فالمطلوب بقوله: (اقرأ) أن يفعل القراءة في الحال أو المستقبل القريب من الحال».
ومن عناية الإسلام بالقراءة أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى بعض أسرى بدر بتعليم عدد من صبيان المدينة، فعن ابن عباس كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة. قال: فجاء يوماً غلام يبكي إلى أبيه فقال: ما شأنك؟ قال ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بِذِحْل بدر(يعني: بثأر) والله لا تأتيه أبداً. أخرجه الإمام أحمد وحسنه شعيب الأرناؤوط.
والقراءة كما يعرفها الفيروزآبادي هي(الدراسة والتفقه)، فالقراءة عنده تشتمل على أمرين: تتبع الكلمات بالنظر، مع الفهم والاستيعاب.
وقد اتسع مفهوم القراءة ليصبح أداة لتنمية خبرات القارئ العلمية والثقافية، ورافدا لربط الإنسان بعالمه، ووسيلة لحل مشكلاته، وسبيلا للترفيه والاستمتاع.
فقراءة الكتب النافعة، ومطالعة المؤلفات المفيدة سبيل لتحصيل العلم، والنأي بالنفس عن الجهل، وامتثال الأمر الشرعي في قوله صلى الله عليه وسلم : «طلب العلم فريضة على كل مسلم» أخرجه ابن ماجه، وابن عبدالبر، وصححه الألباني. وتحصيل العلم يكون بسؤال أهل العلم والتفقه عليهم، وكذلك يكون بمطالعة المصنفات المفيدة المعتبرة، قال الشيخ محمد الطاهر: «تحصيل العلوم يعتمد أمورا ثلاثة: أحدها: الأخذ عن الغير بالمراجعة والمطالعة، وطريقهما الكتابة وقراءة الكتب، فإن بالكتابة أمكن للأمم تدوين آراء علماء البشر، ونقلها إلى الأقطار النائية، وفي الأجيال الآتية.والثاني: التلقي من الأفواه بالدرس والإملاء. والثالث: ما تنقدح به العقول من المستنبطات والمخترعات، وهذان داخلان تحت قوله تعالى:{علم الإنسان ما لم يعلم}».
وحري بالمسلم أن يتوجه لتحصيل العلم، وينفق أوقاته في طلبه، ليعبد الله تعالى على بصيرة، ويصحح اعتقاده وعمله وخلقه، ويتجنب الزلل والمعاصي والضلال.
ولابد من الاستعانة بالله تعالى في كل الأمور، ومنها تحصيل العلم؛ ولهذا قال عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم : {اقرأ باسم ربك}. قال ابن عاشور: «أي: قل : باسم الله، فتكون الباء للاستعانة، ومعنى الاستعانة باسم الله ذكر اسمه عند هذه القراءة.
وذكر احتمالا ثانيا، وهو أن تكون الباء للمصاحبة أي: اقرأ ما سيوحى إليك مصاحبا قراءتك اسم ربك، فالمصاحبة: مصاحبة الفهم والملاحظة لجلاله، ويكون هذا إثباتا لوحدانية الله بالإلهية، وإبطالا للنداء باسم الأصنام الذي كان يفعله المشركون، يقولون: باسم اللات، باسم العزى، فهذا أول ما جاء من قواعد الإسلام قد افتتح به أول الوحي».
وإذا حصل للمسلم العلم النافع من القراءة والمدارسة، عليه أن يتواضع لربه الذي خلقه من علقة، وعلمه ما لم يعلم، ولهذا جاءت الإشارة إلى بدء خلق الإنسان في الآية وربط العلم بتعليم الله تعالى للإنسان، حتى لا يفخر بعلمه، ولا ينسى أصله وبدء خلقه، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-12-08, 11:29 PM
الحكمـة ضالـة المؤمن (88)


- البركة مع أكابركم




أولى الإسلام كبار السن وذوي الحكمة وأصحاب الخبرة اهتماما كبيرا؛ وذلك لما لهم من التقدم في الإسلام، والحنكة في الأمور، ولما يتحلى به الكبير عادة من الرزانة والوقار، وعدم التعجل في الأمور والتهور في التصرفات كما هو الحال في الشباب إجمالا.

فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «ليس منا من لا يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا» رواه الترمذي وقال: «قال بعض أهل العلم: «معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «ليس منا» يقول: ليس من سنتنا، ليس من أدبنا».
أولى الإسلام كبار السن وذوي الحكمة وأصحاب الخبرة اهتماما كبيرا؛ وذلك لما لهم من التقدم في الإسلام، والحنكة في الأمور، ولما يتحلى به الكبير عادة من الرزانة والوقار، وعدم التعجل في الأمور والتهور في التصرفات كما هو الحال في الشباب إجمالا.
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «ليس منا من لا يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا» رواه الترمذي وقال: «قال بعض أهل العلم: «معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «ليس منا» يقول: ليس من سنتنا، ليس من أدبنا».
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏: ‏‏ «‏ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه‏»‏‏. ‏ رواه أحمد والطبراني وإسناده حسن‏. ‏
وعن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» رواه أبو داود وحسنه الشيخ الألباني في (صحيح أبي داود).
ومعنى قوله: «إِنَّ مِن إجلالِ الله» أي: تبجيله وتعظيمه. ومعنى قوله: «إكرام ذي الشيبة المسلم» أي: تعظيم الشيخ الكبير في الإسلام، بتوقيره في المجالس، والرفق به، والشفقة عليه، ونحو ذلك، كل هذا مِن كمالِ تعظيم الله، لحرمته عند الله.
قال ابن زين الدين: «أي من أكرم ذا الشيبة وحامل القرآن فقد أجلّه لله تعالى، أو أجلّ هو الله تعالى، وإنما كان ذلك من إجلال الله لكون الأول عبدا قديم العهد في الطاعة، والثاني قد أدرج بين جنبيه الوحي الهادي إلى الحق».
وقال طاوس: «من السنة أن يوقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد»، قال البغوي معقبا: «قلت: إذا اجتمع قوم فالأمير أولاهم بالتقديم، ثم العالم، ثم أكبرهم سنا، ولا ينبغي للعالم أن يتقدم أباه وأخاه الأكبر لما عليه من حق الوالد والأخ الأكبر».
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في هذا الباب فعن أسماء قَالَتْ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ (عام الفتح)، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، أَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ، يَعُودُهُ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ [، قَالَ: «هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ أَنْتَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ», فَأَسْلَمَ. أخرجه الإمام أحمد.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان صلى الله عليه وسلم يستن وعنده رجلان، فأُوحي إليه: أن أعط السواك أكبرهما». وعن عبد الله بن كعب: «كان صلى الله عليه وسلم إذا استن أعطى السواك الأكبر، وإذا شرب أعطى الذي عن يمينه».
قال ابن بطال: «فيه تقديم ذي السن في السواك، ويلتحق به الطعام والشراب والمشي والكلام، ومن ثَم كل وجوه الإكرام».
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أراني في المنام أتسوك بسواك، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لى: كبّـر، فدفعته إلى الأكبر منهما» متفق عليه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أمرني جبريل أن أقدم الأكابر» صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
فهذه بعض الأدلة الشرعية في تقديم الكبير والمسن في وجوه الإكرام عامة، قال ابن عبد البر: «من أدب المواكلة والمجالسة أن الرجل إذا أكل أو شرب، ناول فضله الذي على يمينه كائنا من كان، وإن كان مفضولا، وكان على يساره فاضلا، وتقديم الأكبر ينزل على تقديم الشراب والطعام ابتداءً، ثم يليه من كان على يمينه». ويتقوى هذا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ حيث قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقى قال: ابدؤوا بالكبير» أخرجه أبو يعلى وقال الحافظ في الفتح: سنده قوي.
ويتجلى توقيرالكبير في الأحوال العملية، فهو أولى بالسلام عليه فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ» متفق عليه، قال ابن حجر مبينا الحكمة في هذا الترتيب: «تسليم الصغير لأجل حق الكبير؛ لأنه أمر بتوقيره والتواضع له».
كما أن الكبير أولى بالبدء بالكلام من غيره، فعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ أَتَيَا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْل،ِ فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِم،ْ فَبَدَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «كَبِّرْ الْكُبْرَ» الحديث متفق عليه.
قال النووي: «وفي هذا فضيلة السن عند التساوي في الفضائل ولهذا نظائر؛ فإنه يقدم بها في الإمامة، وفي ولاية النكاح ندبا وغير ذلك».
وقال ابن حجر: «المراد الأكبر في السن إذا وقع التساوي في الفضل وإلا يقدم الفاضل في الفقه والعلم إذا عارضه السن».
وانظر إلى أدب الصحابة الكرام مع الكبار واحترامهم، فقد روى الشيخان عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: «لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً فكنت أحفظ عنه، فما يمنعني من القول إلا أن ها هنا رجالاً هم أسن مني».
وقال ابن عمر قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً }(إبراهيم:24) فقال: «أتدرون ما هي؟» قال ابن عمر: لم يخف عليَّ أنها النخلة، فمنعني من الكلام مكان سني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هي النخلة» رواه البزار وأصله في البخاري، قال ابن حجر: «وفيه توقير الكبير، وتقديم الصغير أباه في القول وأنه لا يبادره بما فهمه وإن ظن أنه الصواب».
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: «البركة مع أكابركم» أخرجه الحاكم والبيهقي وصححه الشيخ الألباني.
قال المناوي في فيض القدير مبينا معنى قوله: «البركة مع أكابركم»، المجربين للأمور المحافظين على تكثيرالأجور، فجالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم، أوالمراد من له منصب العـلم وإن صـغر سنه فيجب إجلالهم حفظا لحرمة ما منحهم الحـق سبحانه وتعالى، وقـال شارح الشهاب: هـذا حث على طلـب البركة في الأمور والتبحبـح في الحاجات بمراجعة الأكابر لما خصوا به من سبق الوجـود وتجربة الأمور وسـالف عبادة المعبود، قـال تعالى: {قَالَ كَبِيرُهُمْ} (يوسف:80)، وكان في يد المصطفى صلى الله عليه وسلم سواك فأراد أن يعطيه بعض من حضر فقـال جبريل عليه السلام: كبر كبر فأعطـاه الأكبر، وقد يكون الكبير في العلم أو الدين فيقدم على من هو أسن منه. اهـ
يؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر». أخرجه الطبراني وصححه الألباني.
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه : «لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، وعن أمنائهم وعلمائهم , فإذا أخذوا من صغارهم وشرارهم هلكوا».
فالمطلوب من المسلم أن يلجم حماس الشباب بحكمة الشيوخ، وأن يقيد اندفاع الشباب بوقار الكبار، فالغيرة الدينية بلا حكمة تهور مذموم، والاستعجال في الأمور قبل استشارة ذوي العلم والحكمة يفتح باب المهالك، ويوقع الإنسان في الزلل والندامة، والواقع خير شاهد وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-12-27, 05:37 PM
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (89)


-لا شرف مع سوء أدب



هذه الحكمة من روائع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الخليفة الراشد والصحابي الجليل، يصور من خلالها طبيعة إنسانية، وخلقا رفيعا.
فالطبيعة الإنسانية تتمثل في كون الإنسان يحب أن يكون حسن الصيت، جميل الذكر، فالشَّرَفُ في اللغة الموضع العالي الذي يُشرف على ما حوله، كما يطلق الشَّرَفُ على العُلُوُّ والمجد؛ فشرُف الشّخص علو منزلته، وسمو قدره.
والخلق الرفيع الذي اشترط هو الأدب، وهو كما عرفه المناوي بقوله: «الأدب رياضة النفوس، ومحاسن الأخلاق، ويقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل».
وقال ابن القيم: «الأدب: استعمال ما يحمد قولا وفعلا»، فهو الأخذ بمكارم الأخلاق، وقال عبد الله بن المبارك: «قد أكثر الناس القول في الأدب ونحن نقول: إنه معرفة النفس ورعوناتها، وتجنب تلك الرعونات».
فالعاقل يحرص على أن يكون حميد السمعة، طيب الثناء، وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى سبيل ذلك ألا وهو التزام الشرع المنزل، والاستقامة على الدين الحنيف، فقال تعالى:{وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} (الخرف:44)، قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: وإن هذا القرآن الذي أوحي إليك يا محمد الذي أمرناك أن تستمسك به لشرف لك ولقومك من قريش {وسوف تسألون}، يقول: وسوف يسألك ربك وإياهم عما عملتم فيه، وهل عملتم بما أمركم ربكم فيه، وانتهيتم عما نهاكم عنه فيه؟».
ونقل عن ابن عباس وغيره في قوله: {وإنه لذكر لك ولقومك} يقول: إن القرآن شرف لك.
قال الطاهر مبينا البلاغة في كلمة (ذكر) وأن المراد: أن هذا الدين يكسبه ويكسب قومه حسن السمعة في الأمم، فمن اتبعه نال حظه من ذلك، ومن أعرض عنه عُـدّ عِداد الحمقى، مع الإشارة إلى انتفاع المتبعين له في الآخرة، واستضرار المعرضين عنه فيها، وتحقيق ذلك بحرف الاستقبال.
والذكر يحتمل أن يكون ذكر العقل؛ أي: اهتداؤه لما كان غير عالم به، فشبه بتذكر الشيء المنسي وهو ما فسر به كثير الذكر بالتذكير، أي الموعظة، ويحتمل ذكر اللسان؛ أي: أنه يكسبك وقومك ذكرا، والمعنى: أن القرآن سبب الذكر لأنه يكسب قومه شرفا يذكرون بسببه.
وقد سأل إبراهيم عليه السلام ربه الذكر الحسن فقال تعالى على لسان إبراهيم: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء:84)، قال الطبري: «واجعل لي في الناس ذكراً جميلاً، وثناءً حسناً باقياً فيمن يجيء من القرون بعدي، قال ابن زيد: اللسان الصدق: الذكر الصدق والثناء الصالح».
قال ابن كثير: «اجعل لي ذكراً جميلاً بعدي أذكر به ويقتدى بي في الخير».
وقال الله تعالى عن ذرية إبراهيم عليه السلام: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الأَخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ} (ص:45-48)، أي: شرف وثناءٌ جميل يُذكَرون به، كما قال الطاهر: «ويجوز أن يكون ذكرى مرادف الذكر بكسر الذال، أي : الذكر الحسن، كقوله تعالى: {وجعلنا لهم لسان صدق عليا} وتكون الدار هي الدار الدنيا».
وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (مريم:50) قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: ورزقناهم الثناء الحسن، والذكر الجميل من الناس. ونقل عن ابن عباس في قوله: {وجعلنا لهم لسان صدق عليا}، يقول: الثناء الحسن.
ويبين البغوي كيفية الثناء الحسن فيقول: «يعني ثناء حسنا رفيعا في كل أهل الأديان، فكلهم يتولونهم، ويثنون عليهم».
فتحري الإنسان حسن السمعة والذكر الطيب مشروع إذا كان خالصا لوجه الله تعالى لا رياء ولا سمعة، فقد نقل ابن العربي عن الإمام مالك أنه قال: «لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحا، ويرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله وهو الثناء الصالح، وقد قال الله تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} (طه:39)، وهي رواية أشهب عن مالك رحمه الله».
وقد قال صلى الله عليه وسلم : «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب» رواه أحمد وهوصحيح.
وأما الحرص على الشرف والسمعة فذلك مفسد لدين الإنسان، وقد صور ذلك النبي صلى الله عليه وسلم تصويرا بليغا في قوله: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
قال الشراح: «ومعناه ليس ذئبان جائعان أرسلا في جماعة من جنس الغنم بأشد إفسادا لتلك الغنم من حرص المرء على المال والجاه، فإن إفساده لدين المرء أشد من إفساد الذئبين الجائعين لجماعة من الغنم إذا أرسلا فيها».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا ريب أن الحرص والرغبة في الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا من المال والسلطان مضر».
وذكر الحديث ثم قال: «فذم النبي صلى الله عليه وسلم الحرص على المال والشرف؛ وهو الرياسة والسلطان، وأخبر أن ذلك يفسد الدين مثل أو فوق إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم».
فكون الإنسان ممدوح الخلال، مأثور المحامد، إنما يكون بمدى استقامته على دين الله تعالى ظاهرا وباطنا، ووقيامه بالواجبات الدينية والدنيوية، والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، قال ابن القيم: «فإن أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب».
وقال الراغب: «حق الإنسان في كل فضيلة أن يكتسبها خلقًا، ويجعل نفسه ذات هيئة مستعدة لذلك، سواء أمكنه أن يبرز ذلك فعلًا أم لم يمكنه، وذلك بأن يكون على هيئة الأسخياء والشجعان والحكماء والعدول، وإن لما يكن ذا مال يبذله، ولا عرض له مقام تظهر فيه نجدته، ولا معاملة بينه وبين غيره تبرز فيها عدالته».
وقد قيل لبعض الحكماء: هل من جود يعم به الورى، قال: نعم، أن تحسن خلقك وتنوي لكل أحد خيرًا.
وللأسف يريد بعض الناس أن يحوز شرفا وسؤددا، وليس له رصيد من الفضائل الذاتية؛ فلا علم نافع، ولا عمل صالح، ولا تخلى عن عيوبه وسوء خلقه، إنما يتكئ على فضائل آبائه وأجداده، ويعد ذلك من حسناته ومآثره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» أخرجه مسلم، قال النووي: «معناه: من كان عمله ناقصا، لم يلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال، فينبغي ألا يتكل على شرف النسب، وفضيلة الآباء، ويقصر في العمل».
فلا شرف بلا أدب، ولا وجاهة بغير طاعة، ولا رصيد حقيقيا للإنسان إلا ما قدم. قال تعالى مقررا العدل الإلهي :{ألا تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم: 38-39)، وقال تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} (المؤمنون:101). قال ابن كثير: «لا تنفع الأنساب يومئذ، ولا يرثي والد لولده، ولا يلوي عليه».


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2024-12-27, 05:38 PM
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (90)


- الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله




كل مسلم يحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويرغب في دخول الجنة والنجاة من النار، فهي أمنية كل مسلم، ومقصد كل تقي، وقد يتصور بعض الناس أن طريق الجنة طويل وشاق، يحتاج إلى أعمال متعبة، وجهود مضنية، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم يبشرنا بأن طريق الجنة سهل ميسر قريب لمن وفقه الله تعالى وأعانه.

فقد أخرج البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي [: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك».
قال ابن حجر: «(شراك النعل) هو السير الذي يدخل فيه إصبع الرجل، ويطلق أيضا على كل سير وقربه من القدم، ثم نقل عن ابن بطال في شرحه للحديث قال: «فيه أن الطاعة موصلة إلى الجنة، وأن المعصية مقربة إلى النار، وأن الطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء».
قال ابن حجر: «فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشر أن يجتنبه، فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا السيئة التي يسخط عليه بها».
وقال ابن الجوزي مؤكدا هذه الحقيقة: «معنى الحديث: أن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية».
ويعلل زين الدين المصري موضحا سبب قرب الجنة والنار من المكلف فيقول: «وإنما كانت الجنة والنار أقرب من شراك النعل؛ لأن سبب دخولهما مع الشخص هو العمل الصالح والسيء، وهو أقرب إليه من شراك نعله». وقال الزيداني في المفاتيح: «يعني من عمل عملا صالحا تكون الجنة قريبة منه، ومن عمل سوء تكون النار قريبة منه».
قال الشيخ ابن عثيمين: «هذا الحديث يتضمن ترغيبا وترهيبا:
يتضمن ترغيبا في الجملة الأولى وهي: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله»، وشراك النعل هو السير الذي على ظهر القدم، وهو قريب من الإنسان جدا، ويضرب به المثل في القرب، وذلك لأنه قد تكون الكلمة الواحدة سببا في دخول الجنة، فقد يتكلم الإنسان بالكلمة الواحدة من رضوان الله عز وجل لا يظن أنها تبلغ ما بلغت فإذا هي توصله إلى جنة النعيم.
ومع ذلك فإن الحديث أعم من هذا، فإن كثرة الطاعات واجتناب المحرمات من أسباب دخول الجنة، وهو يسير على من يسره الله عليه، فأنت تجد المؤمن الذي شرح الله صدره للإسلام يصلي براحة وطمأنينة وانشراح صدر ومحبة للصلاة، ويزكي كذلك، ويصوم كذلك، ويحج كذلك، ويفعل الخير كذلك فهو يسير عليه، سهل قريب منه، وتجده يتجنب ما حرمه الله من الأقوال والأفعال وهو يسير عليه.
وأما-والعياذ بالله-من قد ضاق بالإسلام ذرعا، وصار الإسلام ثقيلا عليه فإنه يستثقل الطاعات، ويستثقل اجتناب المحرمات، ولا تصير الجنة أقرب إليه من شراك نعله.
وكذلك النار-وهي الجملة الثانية في الحديث-وهي التي فيها التحذير، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «والنار مثل ذلك» أي: أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، فإن الإنسان ربما يتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا وهي من سخط الله فيهوي بها في النار كذا وكذا من السنين وهو لا يدري، وما أكثر الكلمات التي يتكلم بها الإنسان غير مبال بها، وغير مهتم بمدلولها، فترديه في نار جهنم، نسأل الله العافية».
فالذي يتأمل الإسلام العظيم يجد السهولة واليسر في كل جوانبه وأحكامه، فعقائده ميسرة ليس فيها غموض ولا تعقيد، وعباداته سهلة ليس فيها مشقة ولا إرهاق، وأخلاقه رفيعة ليس فيها مخالفة الفطرة ولا الخروج عن مقتضيات العقل القويم والعرف السليم، فكل أحوال تدعو الإنسان للدخول فيه والتعبد لله تعالى من خلال هديه وأحكامه، كما قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج:78)، وقال تعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة:185).
فطرق الجنة كثيرة ومتنوعة، وكلها سهلة ميسرة على من يسرها الله تعالى عليه كما قال عز وجل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرا شرا يره}، قال الشيخ ابن سعدي: «وهذا شامل عام للخير والشر كله، لأنه إذا رأى مثقال الذرة-التي هي أحقر الأشياء-وجوزي عليها فما فوق ذلك من باب أولى وأحرى، وهذه الآية فيها غاية الترغيب في فعل الخير ولو قليلا، والترهيب من فعل الشر ولو حقيرا».
وقال تعالى: {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى}(الليل:5-7)، قال الشيخ ابن سعدي: «أي: صدّق بـ«لا إله إلا الله» وما دلت عليه من جميع العقائد الدينية، وما ترتب عليها من الجزاء الأخروي» وأعطى ما أمر به من العبادات المالية كالزكاوات، والعبادات البدنية كالصلاة، والمركبة منهما كالحج والعمرة، واتقى ما نهي عنه من المحرمات والمعاصي {فسنيسره لليسرى} أي: نسهل عليه أمره، ونجعل كل خير ميسرا له وميسرا له ترك كل شر؛ لأنه أتى بأسباب التيسير، فيسر الله له ذلك.(بتصرف)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبينا كثرة أبواب الخير وتنوعها: «الإيمان بضع وسبعون شعبة-أو بضع وستون شعبة-فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم مبينا تفاوت الأعمال وعظم ما يترتب عليها من المصالح أو الأضرار: «عرضت عليّ أعمال أمتي، حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن» أخرجه مسلم.
وفي الحديث: «لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين» أخرجه مسلم، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة تدل على تنوع أعمال الخير وكثرتها لتناسب أحوال الناس واختلاف طبائعهم، فلو حمل الناس على نوع واحد من العمل لشق عليهم ولضاقت بهم السبل، لكن من سعة رحمة الله تعالى، وعظيم فضله، وكثرة إحسانه تعددت أبواب الخير، ومسالك الهدى لتشمل الناس كافة، وليدخل فيها حتى الهمّ بالخير ولو لم يفعله المكلف فيجزى على حسن قصده وصدق عزمه، فقد أخرج الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّـن ذلك، فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة»، زاد مسلم: «ومحاها الله، ولا يهلك على الله إلا هالك» قال ابن رجب: «بعد هذا الفضل العظيم من الله والرحمة الواسعة منه بمضاعفة الحسنات، والتجاوز عن السيئات لا يهلك على الله إلا من هلك وألقى بيده إلى التهلكة وتجرأ على السيئات، ورغب عن الحسنات وأعرض عنها».
نسأل الله العظيم أن يعيننا على أنفسنا، وأن يوفقنا للطاعة ويثبتنا عليها ويتقبلها منا.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2025-01-08, 06:12 AM
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (91)


- رضي الله عنهم ورضوا عنه




من أبرز معالم الشخصية الإسلامية السوية الرضا والطمأنينة والسكينة؛ وذلك لما قام بقلب المسلم من الإيمان واليقين، والقبول والانقياد، فلا يعرض له حيرة ولا شك، ولا يعارض أمر الله تعالى بعناد ولا اعتراض، وإذا وقعت منه زلة سارع إلى التوبة والإنابة.

ويعرف المناوي الرضى بأنه: «طيب النفس بما يصيبه ويفوته، مع عدم التغير». والرضوان: اسم مبالغة في معنى الرضى، وعرفه الجرجاني بأنه: «سرور القلب بمرّ القضاء».
ومن صفات الله تعالى الحسنى (صفة الرضا)، كما قال تعالى: {ورضيت لكم الإسلام دينا}(المائدة: 3). قال ابن سعدي: «أي: اخترته واصطفيته لكم دينا، كما ارتضيتكم له، فقوموا به شكرا لربكم، واحمدوا الذي منّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها».
وقال تعالى:{لقد رضي الله عن المؤمنين} (الفتح: 18). قال ابن سعدي: «يخبر تعالى -بفضله ورحمته- برضاه عن المؤمنين؛ إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم واكتسبوا بها سعادة الدينا والآخرة، وكان سبب هذه البيعة التي يقال لها بيعة الرضوان لرضا الله عن المؤمنين فيها».
والله تعالى أحق من يسعى العبد في طلب رضاه كما قال تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} قال الطبري: «أحق أن يرضوه بالتوبة والإنابة مما قالوا ونطقوا {إن كانوا مؤمنين} (التوبة: 62). يقول: إن كانوا مصدقين بتوحيد الله، مقرين بوعده ووعيده».
وقال ابن سعدي: «لأن المؤمن لا يقدم شيئا على رضا ربه، فدل هذا على انتفاء إيمانهم؛ حيث قدموا رضا غير الله ورسوله، وهذا محاداة لله ومشاقة له».
والإخلاص لله تعالى هو أساس الرضى وسببه، قال الله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما}(النساء: 114). قال ابن سعدي: «فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت، وفي كل جزء من أجزاء الخير؛ ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص، فيكون من المخلصين وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا؛ لأن النية حصلت، اقترن بها ما يمكن من العمل».
وقال تعالى:{أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير}(آل عمران: 162). قال ابن سعدي: «يخبر تعالى أنه لا يستوي من كان قصده رضوان الله والعمل على ما يرضيه، كمن ليس كذلك ممن هو مكب على المعاصي، مسخط لربه، هذان لا يستويان في حكم الله وحكمة الله وفي فطر عباد الله».
ولهذا جاء ذلك صريحا في الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاَثًا: فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» أخرجه مسلم. قال الشيخ ابن سعدي: «فيه إثبات الرضى لله، وذكر متعلقاته، وإثبات الكراهة منه، وذكر متعلقاتها، فإن الله جل جلاله من كرمه على عباده، يرضى لهم ما فيه مصلحتهم، وسعادتهم في العاجل والآجل؛ وذلك بالقيام بعبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص الدين له بأن يقوم الناس بعقائد الإيمان وأصوله، وشرائع الإسلام الظاهرة والباطنة، وبالأعمال الصالحة والأخلاق الزاكية، كل ذلك خالصا لله موافقا لمرضاته على سنة نبيه، ويعتصموا بحبل الله وهو دينه الذي هو الوصلة بينه وبين عباده فيقومون به مجتمعين متعاونين على البر والتقوى».
وقد مدح الله المؤمنين لالتماسهم رضى الله تعالى في أعمالهم، بخلاف المنافقين الذين يراؤون ولا يخلصون؛ فقال تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله}(البقرة: 52). قال ابن كثير: «لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة، ذكر صفات المؤمنين الحميدة، فقال: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله}».
قال الطبري: «يعني جل ثناؤه: ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد الله المجاهدين في سبيله وابتاع به أنفسهم بقوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}» (التوبة: 111).
وقال تعالى:{ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله} (البقرة: 265). قال ابن عاشور: «عطف مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله على مثل الذي ينفق ماله رئاء الناس لزيادة بيان ما بين المرتبتين من البون، وتأكيدا للثناء على المنفقين بإخلاص» (آل عمران: 15).
ورضوان الله تعالى من أعظم ما يجازى به المؤمنون يوم القيامة قال تعالى: {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد}.
قال ابن عاشور: «وعطف {رضوان من الله} على ما أعد للذين اتقوا عند الله؛ لأن رضوانه أعظم من ذلك النعيم المادي; لأن رضوان الله تقريب روحاني،قال تعالى:{ورضوان من الله أكبر} (التوبة: 72).
قال ابن حيان: «بدأ أولا بذكر المقر، وهو الجنات التي قال فيها: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} (الزخرف: 71).ثم انتقل من ذكرها إلى ذكر ما يحصل به الأنس التام من الأزواج المطهرة، ثم انتقل من ذلك إلى ما هو أعظم الأشياء وهو رضا الله عنهم، فحصل بمجموع ذلك اللذة الجسمانية والفرح الروحاني، حيث علم برضا الله عنه، كما في الحديث أنه تعالى يسأل أهل الجنة فيقول: «هل رضيم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا». ففي هذه الآية الانتقال من عال إلى أعلى منه».
وقال الله تعالى: {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} (البينة: 8). قال ابن سعدي: «فرضي عنهم بما قاموا به من مراضيه، ورضوا عنه بما أعد لهم من أنواع الكرامات»، وقال القرطبي: «رضي الله عنهم أي رضي أعمالهم ; كذا قال ابن عباس، ورضوا عنه أي رضوا هم بثواب الله - عز وجل -. ذلك أي الجنة».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «من لزم ما يرضي الله من امتثال أوامره واجتناب نواهيه لاسيما إذا قام بواجبها ومستحبها فإن الله يرضى عنه، كما أن من لزم محبوبات الحق أحبه الله، كما قال في الحديث الصحيح: «من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه..». الحديث. وذلك أن الرضا نوعان: أحدهما: بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، ويتناول ما أباحه الله من غير تعد محظور {وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إليه راغبون} (التوبة:59).
والنوع الثاني: الرضا بالمصائب كالفقر والمرض والذل، فهذا رضى مستحب في أحد قولي العلماء، وليس بواجب، وقد قيل:إنه واجب، والصحيح أن الواجب هو الصبر، وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان، فالذي عليه أئمة الدين أنه لا يرضى بذلك، فان الله لا يرضاه كما قال:{ولا يرضى لعباده الكفر} (الزمر:7). وقال تعالى:{فإن ترضوا عنهم فان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} (التوبة:96).
وقال صلى الله عليه وسلم : «يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَام ِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» أخرجه مسلم، وقال: «ما من مسلم أو إنسان أو عبد يقول حين يمسي، وحين يصبح:رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، إلا كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيامة» أخرجه ابن ماجه.
قال ابن القيم: «هذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين، وإليهما تنتهي، وقد تضمنا الرضا بربوبيته - سبحانه - وألوهيته، والرضا برسوله والانقياد له، والرضا بدينه والتسليم له، ومن اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصديق حقا، وهي سهلة بالدعوى واللسان، وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان، ولا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها».
نسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن القصد وحسن العمل، ونسأله تعالى رضاه والجنة، ونعوذ به من سخطه والنار، والله المستعان.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

ابو وليد البحيرى
2025-01-08, 06:13 AM
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (92)


- ساعة وساعة




يذهب بعض المسلمين - هداهم الله تعالى -ـ إلى تقسيم أوقاتهم، وتوزيع ساعاتهم إلى أوقات للطاعة وأخرى للمعصية، وساعة لله بزعمهم، وساعة لقلوبهم، مستدلين بحديث: «روحوا القلوب ساعة بساعة»، وهو حديث ضعيف كما قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في السلسلة الضعيفة والموضوعة، وربما رفع بعضهم شعار: (ساعة لقلبك وساعة لربك)، ثم نسبوا ذلك الشعار الى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً، ولا يخفى على من تأمل هذه الكلمات ما فيها من الانحراف العقدي والجرأة على الله تعالى؛ حيث أوهم هذا اللفظ أن القلب ند لله تعالى، له حظ من وقت العبد ونصيب من حياته كما لله تعالى.
والقرآن الكريم يؤكد أن حياة المسلم كلها لله تعالى كما قال عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿162﴾لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام:162-163) قال الشيخ ابن سعدي: ومن أخلص في صلاته ونسكه استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله، وقوله: {ومحياي ومماتي} أي: ما آتيه في حياتي، وما يجريه الله عليّ في مماتي الجميع لله رب العالمين لا شريك له في العبادة، كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير، وليس هذا الإخلاص لله ابتداعا مني، وبدعا أتيته من تلقاء نفسي، بل بذلك أمرت أمرا حتما، لا أخرج من التبعة إلا بامتثاله{وأنا أول المسلمين} من هذه الأمة.
وسبب انتشار هذا المفهوم الخطأ لدى بعض المسلمين هو فهمهم المغلوط لحديث حنظلة المشهور بحديث (ساعة وساعة)، وحملهم الحديث على غير المقصود الشرعي، وتأولهم له على غير الهدي النبوي.
فقد روى مسلم عن أبي عثمان النهدي عن حنظلة الأسيدي قال: وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وما ذاك؟» قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده؛ أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة». ثلاث مرات».
فسبب ورود الحديث هو خوف حنظلة وأبي بكر رضي الله عنهما من النفاق لما يجدونه من اختلاف أحوالهم الإيمانية بين أن يكونوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندما يكونون مع أهليهم وما يتبع ذلك من المخالطة المباحة، وليس في الحديث ما يدل على تهاونهم في الطاعات، أو جرأتهم على المعاصي تحت ذريعة (ساعة وساعة).
قال النووي رحمه الله :قوله: «نافق حنظلة» معناه: أنه خاف أنه منافق؛ حيث كان يحصل له الخوف في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشر، فخاف أن يكون ذلك نفاقا، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بنفاق، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك».
وقال القاضي عياض: فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن الحال منهم لا يقتضي بقاءهم على وتيرة واحدة، وأن مثل هذا ليس بنفاق.
فالحديث من أدلة التوازن الشرعي المطلوب من المسلم؛ حيث لا يقدم مستحب على واجب، ولا يؤدي واجب إلى ضياع ما هو أوجب منه، ويدل على لزوم مراعاة الفطرة الإنسانية، وتلبية الحاجات البشرية وفق الأحكام الشرعية دون إفراط أو تفريط، ولا غلو أو تقصير.
فقوله صلى الله عليه وسلم : «ساعة وساعة»، يوضحه الشيخ ابن عثيمين بقوله: يعني ساعة للرب -عز وجل-، وساعة مع الأهل والأولاد، وساعة للنفس حتى يعطي الإنسان لنفسه راحتها ، ويعطي ذوي الحقوق حقوقهم .
وهذا من عدل الشريعة الإسلامية وكمالها، أن الله عز وجل له حق فيعطي لله حقه -عز وجل-، وكذلك للنفس حق فتعطى حقها، وللأهل حق فيعطون حقوقهم، وللزوار والضيوف حق فيعطون حقوقهم، حتى يقوم الإنسان بجميع الحقوق التي عليه على وجه الراحة، ويتعبد لله عزوجل براحة؛ لأن الإنسان إذا أثقل على نفسه وشدد عليها تعب، وأضاع حقوقاً كثيرة .
وهذا كما يكون في العبادة وفي حقوق النفس والأهل والضيف، يكون كذلك أيضاً في العلوم، فإذا طلب الإنسان العلم ورأى في نفسه مللاً في مراجعة كتاب ما، فلينتقل إلى كتاب آخر، وإذا رأى من نفسه مللاً من دراسة فن معين، فإنه ينتقل إلى دراسة فن آخر، وهكذا يريح نفسه، ويحصل علماً كثيراً، أما إذا أكره نفسه على الشيء حصل له من الملل والتعب ما يجعله يسأم وينصرف، إلا ما شاء الله؛ فإن بعض الناس يكره نفسه على المراجعة والمطالعة والبحث مع التعب، ثم يأخذ عليه ويكون هذا دأبا له، ويكون ديدناً له، حتى إنه إذا فقد هذا الشيء ضاق صدره، والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
والأدلة الشرعية على هذا الأصل كثيرة منها قوله تعالى في صفة عباد الرحمن:{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} (الفرقان:67)، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً} (الإسراء:29).
وقال سبحانه مبينا المنهج المعتدل:{وَابْتَ غِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}( القصص:77).
قال ابن كثير: أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا ولِزَوْرك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه.
قال الشيخ ابن سعدي: واستمتع بدنياك، استمتاعا لا يثلم دينك، ولا يضر بآخرتك.
وذكر البخاري عن أبي حجيفة قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء وهي زوجة متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال له: كل فإني صائم فقال :ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال: نم .فنام ،ثم ذهب ليقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «صدق سلمان».
قال الحافظ ابن حجر: «وإن لنفسك عليك حقا» أي: تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشرية مما أباحه الله للإنسان من الأكل والشرب والراحة التي يقوم بها بدنه ليكون أعون على عبادة ربه.
وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم التوازن والتكامل بين الواجبات والحاجات، فعن أنس قال: جاء ثلاثة نفر إلى أبيات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من رسول الله؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأنا اصلي الليل أبدا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» متفق عليه.
قال القرطبي في المفهم: في حديث أبي ذر: «وعلى العاقل أن يكون له ساعات؛ ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر فيها في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب»، وهكذا الكمال، وما عداه ترهات وخيال.


اعداد: د.وليد خالد الربيع