ابو وليد البحيرى
2018-12-12, 06:10 AM
التصويب الصرفي والنحوي لدى ابن
الأنباري في كتابه الزاهر دكتور / فايز صبحي عبد السلام تركي
أستاذ النحو والصرف والعروض المشارك
بكلية الآداب – جامعة الملك فيصل
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله، فتق العقول بمعرفته، وأطلق الألسن بحمده وتسبيحه، وجعل ما أمتن به من ذلك على خلقه كفاء لتأدية حقه، والصلاة والسلام على أشرف رسله وأنبيائه، وعلى آله وأصحابه الذين حفظوا القرآن، وحافظوا عليه من التبديل والتحريف؛ ومن ثم كان الحفاظ على لغته، فكانوا أعلامًا يهتدي بهديهم، أما بعد، فإن اللغة العربية لها من القدر والشرف والرفعة في نفوسنا ما يعجز الوصف عنه أو يحيط به مداد؛ ذلك أنها اللغة التي شرفها المولى – عز وجل – بأن تكون لغة كتابه، القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. تلك اللغة الفصحى التي استعملها أهلها قبل تقعيدها مستخدمين سليقتهم اللغوية في التواصل فيما بينهم، إلى أن كان نزول القرآن الكريم، فكثرت حوله الدراسات في شتى الجوانب، خادمة له؛ من منطلق قوله تعالى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر 9؛ ومن ثم كان التقعيد لهذه اللغة، بناء على جمعها من البوادي واستنطاق أهلها، ومن ثم تدوينها، فكان كتاب سيبويه ومعاجم الموضوعات ومعاجم الألفاظ، وغير ذلك من الكتب، التي سعت إلى الحفاظ على لغة القرآن والاهتمام بها في إطار حفظه.
ولما توسعت الدولة الإسلامية بانتشار الإسلام هنا وهناك، ترتب على ذلك اختلاط العرب بغيرهم، ودخول غيرهم فيه، وهو ما أدى إلى تحريف العامية للعربية الفصحى، ذلك التحريف – أو (اللحن) – الذي فشا وكثر على ألسنة العامة ثم تسرب بمرور الوقت إلى ألسنة الخاصة أيضًا، من المحدثين والفقهاء وغيرهم، فكان تتابع الكتب التي تقوم لحن الخاصة بمرور الوقت([1])؛ مما ترتب عليه ظهور ما يسمى بحركة التصويب اللغوي أو ما اصطلح عليه بلحن العامة، وتوالت المؤلفات في هذا الشأن.
هذا، ويكاد الإجماع يكون على أن أول من خصص مؤلفًا لذلك – عندما شاع اللحن في القرن الثاني الهجري في العراق، وامتد إلى كثير من البلاد العربية بحلول القرن الرابع الهجري([2]) – هو أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي (119-189هـ)، في كتابه (ما تلحن فيه العامة)، ثم كان إصلاح المنطق، لابن السكيت (ت244هـ)، وأدب الكاتب، لابن قتيبة (ت276هـ)، والفصيح، لأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب (ت291هـ)، وغير ذلك من الكتب التي أحصاها أستاذنا الدكتور رمضان عبد التواب، في كتابه (لحن العامة والتطور اللغوي)، والدكتور عبد العزيز مطر، في كتابه (لحن العامة في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة) ([3])،وغيرهما من العلماء؛ ومن ثم تعددت القراءات لتلك الكتب التي اهتمت برصد ملامح اللحن في اللغة وتصويبه ابتغاء مقاومة لحن العامة والخاصة أيضًا.
وهنا يحضرني قول الدكتور شوقي ضيف: "وكل هذه المؤلفات تحاول تصحيح نطق العوام لألفاظ العربية في البلدان المختلفة، بحيث تخلصها من كل ما دخل عليها من تحريف، وتصوب كل ما شابها من اللحن"([4]).
وفي إطار تعدد هذه القراءات كان الإسهام بهذا البحث في خدمة الفصحى لغة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والتراث الإسلامي الزاخر بكنوز المعرفة، واستنهاض الهمم؛ من أجل التأكيد على الهوية العربية والحفاظ عليها، تلك الهوية التي ينبغي السعي إلى تأصيلها وترسيخها، ومناقشة حال العربية، وما يعترض سبيلها من تحديات مختلفة، كزحف العامية وتعدد اللهجات وغزو اللغات الأخرى؛ ومن ثم محاولة تلمس السبل التي تنهض باللغة العربية، وتجعلها مواكبة لمتطلبات العصر الحاضر، وذلك بالانفتاح على معطياته والإفادة من الدراسات اللغوية المعاصرة، فيما يثري اللغة، ويقربها للمتلقي دون التنازل عن ثوابت الهوية اللغوية الأصيلة.
ولما كانت كتب التصويب اللغوي أو التصحيح اللغوي – بما فيه من أصوات وصرف ونحو ودلالة – قد أتى عليها السابقون واللاحقون، ولما كانت الخلفية الثقافية تشير إلى عدم اقتصار التصويب اللغوي على ما وضع من مؤلفات مخصصة لمقاومة لحن العامة والخاصة- بل على نحو ما حوت بطون المعاجم والمصادر اللغوية بعضًا من هذه الملامح- فقد كان التوجه إلى التنقيب في هذه المصادر، علنًا نجد من بينها ما يمكن تسليط الضوء على ما به من تصحيح لغوي.
وبإمعان النظر- وفي ضوء ما لدي من معطيات سابقة- وقع اختياري على عالم من علماء اللغة، عاش في القرنين الثالث والرابع الهجريين، إنه أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري (271-328هـ)، وكان النظر في كتابه (الزاهر في معاني كلمات الناس)، فكان مصدرًا لهذا البحث؛ بناء على عدة أمور:
أولها: أنه توجد قناعة لدى الباحث بأن التصحيح اللغوي لا يقتصر على ما وضع من كتب، خصصت لمقاومة لحن العامة، بل إن محاربة هذا اللحن تكفلت به أيضًا كتب اللغويين والنحاة القدامى ومعاجمهم؛ ومن ثم ينبغي النظر فيها.
وثانيها: أنه كانت لي وقفة سابقة مع هذا الكتاب([5])، تبين من خلالها اهتمام ابن الأنباري بمقاومة لحن العامة كلما أمكنه ذلك، فقد عقد كتابه لشرح ما يجري بين الناس من كلام في الحياة الدينية والدنيوية، مشيرًا إلى أنه سيتبع ذلك ببيان ما تستعمله العوام في أمثلتها ومحاوراتها من كلام العرب، وهي غير عالمة بتأويله، ثم ذكر أنه لن يخليه مما يستحسن إدخاله فيه من النحو والغريب واللغة والمصادر والتثنية والجمع، ليكون مشاكلًا لاسمه، أي لاسم الكتاب([6]).
أما آخر هذه الأمور، فيكمن في شهادة محققه الدكتور حاتم صالح الضامن – تلك الشهادة التي لا تنفك عن الحقيقة – أن ابن الأنباري "ينبه كثيرًا على أقوال العامة وأخطائهم، وهو بهذا يعتبر من كتب التصويب اللغوي"([7]).
وبناء على ذلك، فقد ابتغى الوقوف على تلك التنبيهات في هذا الكتاب وتحليلها، في ضوء معطيات الدرس اللغوي، علها تكون موجهًا إلى مثله من الكتب؛ لاستكناه محتواها؛ ومن ثم يكون الإسهام فيما يبذل من جهود، غايتها تأصيل الهوية اللغوية العربية وترسيخها، ومحاولة تلمس السبل التي تنهض باللغة العربية، وتجعلها مواكبة لمتطلبات العصر الحاضر؛ ومن ثم كان عنوان هذا البحث "التصويب الصرفي والنحوي لدى ابن الأنباري في كتابه الزاهر". وهو ما استلزم الاعتماد على المنهج الوصفي التحليلي المبني على إحصاء مواضع التصويب وتصنيفها؛ ومن ثم وصفها وتحليلها في ضوء معطيات الدرس اللغوي، قديمة وحديثه.
ولما كان ذلك كذلك، فقد استقريت الكتاب مرة أخرى، وهو ما ترتب عليه تقسيم البحث على تمهيد – هو ما نحن بصدده – ومبحثين اثنين، أولها للتصويب الصرفي، والآخر للتصويب النحوي، وتوج المبحثان بخاتمة، تضمنت أهم النتائج العامة التي توصلت إليها، وما أردت من توصيات – بالإضافة إلى ما اكتنفته صفحات البحث على مدار التحليل من نتائج جزئية – منهيًا إياه بقائمة المصادر والمراجع، وذلك فيما يلي.
المبحث الأول
التصويب الصرفي
جاءت ملامح التصويب الصرفي في كتاب الزاهر متصلة بالتصويب في أبنية الأسماء، وأبنية الأفعال، والتصويب في المشتقات، والمقصور، والجمع، والنسب، وفيما يلي عرض لهذه الأمور:
أولًا- التصويب في أبنية الأسماء:
ما ليس في أبنية العرب:
فيما يتصل بالتصويب الصرفي في هذا الصدد نلاحظ أنه قد ورد في أربعة مواضع، على مدار كتاب الزاهر([8])، ففي تعليق ابن الأنباري على قولهم: (قد دقه دقًا نعمًا) قال: قال أبو بكر: قال الكسائي: معنى قولهم: نعمًا: بالغًا زائدًا. قال: ويقال: قد دققت الدواء، فأنعمت دقه: أي زدت فيه ... ومن ذلك قول النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل عليين كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما)([9]) ... والكوكب الدري فيه خمسة أوجه: يقال: "كوكب دريء، بضم الدال والهمز، وكوكب دري، بكسر الدال وتشديد الياء، وكوكب دري، بفتح الدال فمن قال: كوكب دري، قال: هو منسوب إلى الدر مشبه به؛ لصفائه وحسنه، ومن قال: كوكب دريء ، قال: هو فعيل مأخوذ من درأ الكوكب: إذا جرى في أفق السماء. ومن قال: دريء، قال الفراء: هو خطأ، وقد قرأ به الأعمش وحمزة. قال: وإنما صار هذا خطأ؛ لأنه: فعيل، وليس في أبنية العرب فعيل، وإنما فعيل في الأعجمية، نحو: مريق، وما أشبه ذلك. وقال سيبويه: في أبنية العرب: فعيل، وذكر المريق. وقال أبو عبيد: الأصل في دريء : دروء، على مثال سبوح وقدوس. قال: فجعلوا الواو ياء، والضمة التي قبلها كسرة، فقالوا: دريء، قال: ومثل هذا من كلام العرب: عتا عتوا، وعتا عتيًا. ومن قال: دري، قال: كسرت الدال من أجل الياء التي جاءت بعد الراء([10]).
فابن الأنباري في هذا النص قد أشار إلى الأوجه الخمسة في كلمة (الدري)، ومن بين هذه الأوجه الخمسة أن يقال: كوكب دريء، على مثال فعيل، ذلك الاسم الثلاثي المزيد، بزيادة الياء رابعة، على أنه مأخوذ من درأ الكوكب: إذا جرى في أفق السماء، ثم عرض لتخطئة الفراء هذا الوجه ([11])– على الرغم من قراءة الأعمش وحمزة وعاصم عن أبي بكر به، في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}([12]) – وعلة ذلك الخطأ عند الفراء أنه ليس في أبنية العرب: فعيل، وإنما فعيل في الأعجمية، نحو: مريق، وما أشبه ذلك.
هذا، ولم يعرب ابن الأنباري عن وجهة نظره صراحة تجاه هذا التخطيء، وإنما أورد رأيه- وكأنه لم يوافق على ما قاله الفراء- من خلال ذكره إدراج سيبويه لهذا الوزن ضمن أبنية العرب، ومنه المريق([13])، الذي عده الفراء أعجميًا، وأضاف ابن الأنباري إلى ذلك وجهة نظر أبي عبيد التي يرى فيها أن الأصل في دريء: دروء ، على مثال سبوح وقدوس، فجعلوا الواو ياء، والضمة التي قبلها كسرة، فقالوا: دريء، مبينًا أن ذلك نظيره من كلام العرب: عتا عتوا، وعتا عتيًا.
وأمام هذا الخلاف، وتخطئة من يقول: كوكب دريء، على مثال فعيل، أحيل – غير موافق على رأي الفراء ومن لف لفه([14]) – إلى توجيه أبي علي الفارسي لذلك، حيث قوله: "من قرأ (دريء) احتمل قوله أمرين، أحدهما: أن يكون نسبه إلى الدر، وذلك لفرط ضيائه ونوره، كما أن الدر كذلك، ويجوز أن يكون فعيلًا من الدرء، فخفف الهمزة، فانقلبت ياء، كما تنقلب من النسيء والنبيء، ونحوه إذا خففت ياء"([15]).
وهو ما يذكرني بقول ابن جني أيضًا: "فأما ذرية المضمومة، فإن أخذتها من ذرأ، فإنها في الأصل فعيلة كمريق، واصلها ذريئة، فألزمت التخفيف أو البدل، كنبي في أكثر اللغة، وكالخابية، وكالبرية، فيمن أخذها من برأ الله الخلق، وغير ذلك مما ألزم التخفيف. و مثلها "كوكب دري" فيمن جعله فعيلًا من درأت؛ وذلك لأنه يدرأ الظلمة عن نفسه بضوئه، وأصله عن هذا درئ، فخفف، وقد قرئ به مهموزًا"([16]).
كما يمكن الإشارة إلى قول ابن منظور ووصفه لذلك بالفصاحة، فيما نقله عن عمرو بن العلاء: "وكوكب دريء على فعيل: مندفع في مضيه من المشرق إلى المغرب من ذلك، والجمع دراريء على وزن دراريع. وقد درأ الكوكب دروءًا. قال أبو عمرو بن العلاء: سألت رجلًا عن سعد بن بكر، من أهل ذات عرق، فقلت: هذا الكوكب الضخم ما تسمونه؟ قال: الدريء، و كان من أفصح الناس"([17]).
وفي كل ذلك ما يدل على أن هذا البناء موجود بلغة العرب، لكنه نادر؛ ومن ثم ينبغي إضافته إلى أبنية العرب، وعدم القول بخطئه.
وضع الصيغة في غير موضعها:
عرض ابن الأنباري لتصويب وضع الصيغة في غير موضعها، في تعليقه على قولهم: (قطع الله دابر فلان، وقد قطع الله دابر القوم)، فقال: "قال أبو بكر: قال أبو عبيد: قال أبو عبيدة: دابر القوم: آخرهم، يقال: دبرهم يدبرهم دبرًا: إذا كان آخرهم. جاء في الحديث (ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرًا) ([18])،قال أبو بكر: كذا يقول المحدثون، ومعناه: في آخر الوقت، وهو من هذا مأخوذ. وقال أبو عبيد: قال أبو زيد: الصواب (لا يأتي الصلاة إلا دبريًا)، وقال الأصمعي: دابر القوم: أصلهم...." ([19]).
ففي هذا النص نلاحظ إشارة ابن الأنباري – فيما نقله عن أبي عبيدة دون إبداء رأيه – إلى أن دابر القوم: آخرهم، مستشهدًا بما جاء في الحديث (ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرًا) كما يقول المحدثون، أي أن (دبر) على مثال (فعل).
وأمام هذا الأمر نقل ابن الأنباري تصويبًا لخطأ من أخطاء الخاصة (المحدثين)، فيما نقله أبو عبيد عن أبي زيد بأن الصواب: (لا يأتي الصلاة إلا دبريًا)، وهو ما يتضح من خلاله أن الصحيح التعبير بالاسم (دبري) على مثال (فعلي) ([20]).
وهنا أشير إلى أن الدبري أو الدبري – بفتح الباء وسكونها – منسوب إلى (الدبر) الذي هو آخر الشيء، وفتح الباء من تغييرات النسب، وذلك ما يؤنسه قول ابن منظور: "وجاء دبريًا أي أخيرًا، وفلان لا يصلي الصلاة إلا دبريًا، بالفتح، أي في آخر وقتها؛ وفي المحكم: أي أخيرًا؛ رواه أبو عبيد عن الأصمعي، قال: والمحدثون يقولون دبريًا، بالضم، أي في آخر وقتها؛ وقال أبو الهيثم: دبريًا، بفتح الدال وإسكان الباء. وفي الحديث عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة: رجل أتى الصلاة دبارًا، ورجل اعتبد محررًا، ورجل أم قومًا هم له كارهون؛ قال الإفريقي راوي هذا الحديث: معنى قوله دبارًا أي بعدما يفوت الوقت. وفي حديث أبي هريرة: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "إن للمنافقين علامات يعرفون بها: تحيتهم لعنة، وطعامهم نهبة، لا يقربون المساجد إلا هجرًا، ولا يأتون الصلاة إلا دبرًا، مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون، خشب بالليل، صخب بالنهار([21])؛ قال ابن الأعرابي: قوله دبارًا في الحديث الأول جمع دبر ودبر، وهو آخر أوقات الشيء، الصلاة وغيرها؛ قال: ومنه الحديث الآخر لا يأتي الصلاة إلا دبرًا، يروى بالضم والفتح، وهو منصوب على الظرف؛ وفي حديث آخر: لا يأتي الصلاة إلا دبريًا، بفتح الباء و سكونها، وهو منسوب إلى الدبر آخر الشيء، وفتح الباء من تغييرات النسب، ونصبه على الحال من فاعل يأتي، قال: والعرب تقول العلم قبلي وليس بالدبري؛ قال أبو العباس: معناه أن العالم المتقن يجيبك سريعًا، والمتخلف يقول لي فيها نظر"([22]).
وهو ما يعرب عن أن التعبير بالاسم (دبر) على مثال (فعل) صحيح، والتعبير بالصيغة نفسها مع إضافة ياء النسب صحيح أيضًا، لا خطأ فيه، وهو ما يجعلني أقول: كان من الواجب على ابن الأنباري أن يدلي بدلوه في هذه المسألة حتى لا يتخبط العامة بين قول هذا وذاك؛ وهو ما يسهم في مقاومة لحن العامة.
ثانيًا – التصويب في أبنية الأفعال:
جاء تصويب أبنية الأفعال في كتاب الزاهر في ثلاثة مواضع([23])، كلها لابن الأنباري، يمكن عرضها على النحو التالي:
فيما يتصل بضم ياء المضارعة وكسر العين في (فعل يفعل):
وذلك ما جاء في ضم ياء المضارعة من (يفعل)، في فعل يفعل، ونصه على أن الصواب فتحها، في تعليقه على قولهم: (لا يفضض الله فاك)، فقال: "قال أبو بكر: معناه لا يكسر الله أسنانك ويفرقها. وفيه وجهان: لا يفضض الله فاك، بفتح الياء وضم الضاد الأولى وكسر الثانية، ولا يفض الله فاك, بضم الياء وحذف الياء الثانية للجزم. فمن قال: لا يفضض الله فاك، أخذه من فضضت الشيء: إذا كسرته وفرقته. ويقال: فضضت جموع القوم: إذا فرقتها وكسرتها، قال الله عز وجل: {ولَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}([24]) معناه: لتفرقوا. والعامة تلحن في هذا، فتقول: لا يفضض الله فاك، ولغة النبي – صلى الله عليه وسلم -: لا يفضض الله فاك، بفتح الياء وضم الضاد الأولى وكسر الثانية. يروى أن النابغة الجعدي لما أنشد النبي – صلى الله عليه وسلم- قصيدته التي يقول فيها:
تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى
ويتلو كتابًا كالمجرة نيرًا
فقال فيها:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
ثم أنشده:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: إلى أين أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنة، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم-: لا يفضض الله فاك. هكذا حفظ عنه، صلى الله عليه وسلم"([25]).
فالملاحظ أن ابن الأنباري قد أشار في هذا النص إلى ان معنى قولهم: (لا يفضض الله فاك)، لا يكسر الله أسنانك ويفرقها، وأن فيه وجهين: أولهما: لا يفضض الله فاك، بفتح الياء وضم الضاد الأولى وكسر الثانية، والآخر: ولا يفض الله فاك، بضم الياء وحذف الضاد الثانية للجزم. ثم أشار إلى أن من قال: لا يفضض الله فاك، مشتق من فضضت الشيء: إذا كسرته وفرقته.
وما يهمنا إشارته إلى أن العامة تلحن في هذا، فتقول: لا يفضض الله فاك، بضم ياء المضارعة من (يفعل)، في (فعل يفعل) وكسر عين المضارع أيضًا؛ ومن ثم كان نصه على أن الصواب فتح الياء، وضم الضاد الأولى، مستشهدًا بأن لغة النبي – صلى الله عليه وسلم -: لا يفضض الله فاك، بفتح الياء وضم الضاد الأولى وكسر الثانية، وذلك في رده – صلى الله عليه وسلم- على النابغة الجعدي على نحو ما تقدم، وهو ما أقرته المعاجم.
فقد قال الجوهري: الفض: الكسر بالتفرقة، وقد فضه يفضه، وفضضت ختم الكتاب. وفي الحديث: "لا يفضض الله فاك"، ولا تقل بكسر: لا يفضض"([26])؛ ومن ثم يكون تصحيح ابن الأنباري في محله، وهو ما يسهم في مقاومة لحن العامة.
فيما يتصل بضم ياء المضارعة في (فعل يفعل):
وذلك ما جاء في تعليقه على قولهم: (هذا الأمر لا يعنيني)، فقال: "قال أبو بكر: معناه: لا يشغلني، يقال: عناني الشيء يعنيني: إذا شغلني... ويقال: الشيء لا يعنيني، بفتح الياء، ولا يقال: يعنيني، بضم الياء، قال الشاعر:
إن الفتى ليس بقميه ويقمعه
إلا تكلفه ما ليس يعنيه"([27]).
وهو ما يتضح من خلاله أن ابن الأنباري قد أشار إلى أن قولهم: (هذا الأمر لا يعنيني)، معناه: لا يشغلني، ثم أشار إلى أنه لا يقال: يعنيني: بضم الياء، فالصواب أن يقال: عناني الشيء يعنيني: إذا شغلني... ويقال: الشيء لا يعنيني، بفتح الياء، ثم استشهد بما ورد في الشعر العربي، على نحو ما سبق.
هذا، وقد جاء في الحديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه أي لا يهمه،
وفي الحديث عن عائشة، رضي الله عنها: كان النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا اشتكى أتاه جبريل، فقال بسم الله أرقيك من كل داء يعنيك، من شر كل حاسد ومن شر كل عين؛ قوله يعنيك أي يشغلك. ويقال: هذا الأمر لا يعنيني أي لا يشغلني ولا يهمني". وأنشد:
عناني عنك، والأنصاب حرب، كأن صلابها الأبطال هيم
أراد شغلني؛ وقال آخر: لا تلمني على البكاء خليلي، إنه ما عناك قدمًا عناني، وقال آخر: إن الفتى ليس يعنيه يقمعه إلا تكلفه ما ليس يعنيه أي لا يشغله، وقيل: معنى قول جبريل، عليه السلام، يعنيك أي يقصدك. يقال: عنيت فلانًا عنيًا أي قصدته، ومن تعنى بقولك أي من تقصد وعناني أمرك أي قصدني؛ وقال أبو عمرو في قول الجعدي: وأعضاد المطي عواني، أي عوامل وقال أبو سعيد: معنى قوله عواني أي قواصد في السير وفلان تتعناه الحمى أي تتعهده، ولا تقال هذه اللفظة في غير الحمى ويقال: عنيت في الأمر أي تعنيت فيه، فأنا أعني وأنا عن، فإذ سألت قلت: كيف من تعني بأمره؟ مضموم؛ لأن الأمر عناه، ولا يقال كيف من تعني بأمره"([28]).
وهو الأمر الذي ينبغي أن يكون عليه كثير من العامة في وقتنا هذا قائلين: الشيء لا يعنيني، بفتح الياء، ولا يقال: يعنيني، بضم الياء؛ لئلا ينحرف اللسان العربي عن القياس، فيما كان على (فعل، يفعل)، بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع، نحو ضرب يضرب، ورمى يرمي، وطوى يطوي.
فيما يتصل بضم عين الماضي في (فعل يفعل):
من المعلوم أن بناء (فعل يفعل) يأتي لازمًا، نحو سكت يسكت، دالًا على الهدوء والسكون وغير ذلك، ويأتي متعديًا، نحو قتل يقتل، ورعف يرعف، دالًا في أكثره على المغالبة ، بالإضافة إلى غير ذلك من المعانى، نحو الاعتداء والإيذاء والرفعة والإعطاء.. الخ([29]).
هذا، وقد عرض ابن الأنباري للتصويب الصرفي – باعتباره جديلة من جدائل التصويب اللغوي- فيما يتصل ببناء (فعل يفعل)، في تعليقه على قولهم: (قد أصاب فلانًا الرعاف)، فقال: "قال أبو بكر: معناه في كلام العرب: الدم السابق السائل. يقال: قد رعف فلان أصحابه: إذا سبقهم في السير، وقد جاء راعفًا، أي: سابقًا. قال الأعشى:
به تزعف الألف إذ أرسلت
غداة الصباح إذا النقع ثارا
معناه: يسبق الألف، ويتقدمهم. ويقال: رعف الرجل، بفتح العين، يرعف، فهو راعف، ولا تضم العين في الماضي"([30]).
ومن خلاله يتضح لنا أن عين (فعل) الذي مضارعه (يفعل) لا تضم في الماضي، فلا يقال: رعف أو شكر أو خرج، والصواب فتحها، فيقال: رعف، شكر، خرج. فعلى الرغم من تصريح الجوهري بأن (رعف) لغة ضعيفة([31])، فإنني أوافق ابن الأنباري على عدم صحة الضم، قال الأزهري: "أبو عبيد عن الأصمعي: رعف يرعف، ورعف يرعف، هكذا رواه عنه. وقال أبو عبيد: الرعف: السبق، رعفت أرعف... أبو حاتم عن الأصمعي يقال: رعف يرعف ويرعف، ولم يعرف رعف ولا (رعف) في فعل الرعاف"([32]).
ثالثًا- التصويب في المشتقات:
بين اسم الفاعل والمفعول:
جاء التصويب الصرفي في باب المشتقات لدى ابن الأنباري في (الزاهر) في موضع واحد، صدد تعليقه على قولهم: (إن عذابك الجد بالكفار ملحق)، فقال: "الجد، بكسر الجيم: الحق. والمعنى: إن عذابك الحق الذي ليس بهزل. ولا يجوز: الجد، بفتح الجيم في هذا الموضع، للعلة التي تقدمت في قوله: ولا ينفع ذا الجد منك الجد. و في (ملحق) ثلاثة أقوال: قال أبو عبيد: الرواية([33]): ملحق، بكسر الحاء، معناه: إن عذابك لاحق؛ يقال: ألحقت القوم، بمعنى: لحقت القوم؛ وكذلك أتبعت القوم، بمعنى: تبعتهم؛ قال الله عز وجل: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}([34])، معناه: فتبعه شهاب ثاقب... قال أبو بكر: قال لي أبي: سمعت الحسن بن عرفة([35]) قال: قال القسم بن معن([36]): ملحق، بفتح الحاء، أصوب من ملحق. ذهب إلى هذا المعنى: ألحقهم الله عذابه: أنشد النحويون:
ألحق عذابك بالقوم الذين طغوا
وعائذًا بك أن يعلوا فيطغوني
والوجه الثالث: إن عذابك بالكفار لاحق، قال أبو بكر : ولا نحب هذا القول؛ لأنه يخالف الإجماع"([37]).
وهو ما يتضح من خلاله أن ابن الأنباري يرى فيما رواه عن أبيه أن الصواب (ملحق) بصيغة اسم المفعول، فمن المعلوم أن الفعل (ألحق يلحق) فهو ملحق، واسم الفاعل ملحق، ووجه الصواب هنا في أن وضع الصيغة موضعها راجع إلى المعنى، أي: ألحقهم الله عذابه – وهو ما نؤيده – وهو ما يؤيده أيضًا بيت الشعر المذكور آنفًا.
هذا، وقد أضاف ابن الأنباري أيضًا أنه يجوز: إن عذابك بالكفار لاحق، لكنه لا يؤدي هذا الوجه، من جهة مخالفته الإجماع، في أن العذاب لا يلحق، وإنما يلحق فهو ملحق، وهو ما يتضمن أن كلمة (لاحق) اسم فاعل من الثلاثي المجرد (لحق).
التصويب في اسم المكان:
مما لا شك فيه أن كلا من اسم المكان والزمان اسمان مشتقان من الفعل أو من المصدر؛ للدلالة على زمان وقوع الفعل أو مكانه([38]). وقد جاء التصويب اللغوي لدى ابن الأنباري فيما يتصل باسم المكان في تعليقه على قول العامة: (قد مضى فلان إلى المأصر)، فقال: "العامة تخطيء فيه، فتفتح الصاد، والصواب كسرها. ومعنى (المأصر) في اللغة: الموضع الحابس، من قولهم: قد أصرت فلانًا على الشيء أصره أصرًا: إذا حبسته عليه، وعطفته. يقال: ما تأصرني على فلان آصرة، أي: ما تحبسني عليه حابسة، ولا تعطفني عليه عاطفة... والإصر، بكسر الهمزة: الثقل... والإصر أيضًا: العهد"([39]).
وهو ما يتضح من خلاله إشارة ابن الأنباري إلى أن العامة تخطئ في (المأصر) فيفتحون الصاد قائلين: (قد مضى فلان إلى المأصر)، والصواب كسرها، فمن المعلوم أن (المأصر) اسم مكان، على وزن (مفعل)، من الفعل الثلاثي الصحيح (أصر)، على وزن (فعل) المكسور العين في المضارع (يأصر)؛ ولذلك فإن اسم المكان منه يأتي على مثال (مفعل)، إلا إذا كان معتل الآخر، فإنه يصاغ على (مفعل) ([40])؛ ومن ثم كانت إشارة ابن الأنباري إلى أن نطق الكلمة بالفتح من غير الصحيح صرفيًا، ففسر (المأصر) في اللغة بأنه الموضع الحابس.
ومن المعروف في الدرس الصرفي أن اسم المكان من غير الثلاثي يأتي على وزن المضارع مع إبدال حرف المضارعة ميمًا مضمومة وفتح ما قبل الآخر، والفعل موضع الحديث ليس من غير الثلاثي، أضف إلى ذلك أن التغيير الذي أشار إليه ابن الأنباري إنما هو للتغيير في المعنى، قال سيبويه: "أما ما كان من فعل يفعل، فإن موضع الفعل مفعل، وذلك قولك: هذا محبسنا، ومضربنا، ومجلسنا، كأنهم بنوه على بناء يفعل، فكسروا العين كما كسروها في يفعل"([41]).
رابعًا – التصويب فيما يتصل بالجمع:
جاء التصويب الصرفي لدى ابن الأنباري فيما يتصل بالجمع، في ثلاثة مواضع([42])، يمكن تناولها كما يأتي:
في جمع (فاعل):
من المعلوم في الدرس الصرفي أن ما كان (فاعلًا) فإنك تكسره على (فعل)، وذلك قولك: شاهد المصر، وقوم شهد، وبازل وبزل... ويكسرونه أيضًا على (فعال)، وذلك قولك: شهاد، وجهال، وركاب... ويكسرونه على (فعلة)، وذلك نحو: فسقة، وبررة، وجهلة..." ([43]).
وقد جاء التصويب في جمع (فاعل) لدى ابن الأنباري في تعليقه على قولهم: (إنما هم أكلة رأس)، فقال: "قال أبو بكر : معناه عددهم قليل، فكأنهم لو اجتمعوا على أكل رأس لكان كافيًا لهم. والعامة تلحن في هذا، فتسكن الكاف منه، والصواب: أكلة، بفتح الكاف، جمع: آكل. ويقال: آكل وأكلة وآكلون، كما يقال: كافر وكفرة وكافرون، وكامل وكملة وكاملون"([44]).
وهو ما يتضح من خلاله أن تسكين الكاف من (أكلة) في قولهم: (إنما هم أكلة رأس) خطأ؛ لأن أكله، بفتح الكاف، جمع آكل، ونظيره كافر وكفرة وكافرون، وكامل وكملة وكاملون، وهو ما نقله ابن فارس عن أبي عبيد، أضف إلى ذلك أن (الأكلة) المرة الواحدة حتى يشبع...وتقول: أكلت أكلة واحدة أي لقمة([45]).
في جمع (فعل):
يشير الدرس الصرفي إلى أن "ما كان من الأسماء على ثلاثة أحرف، وكان (فعلًا) فإنك إذا ثلثته إلى أن تعشره، فإن تكسيره (أفعل)، وذلك قولك: كلب وأكلب... فإذا جاوز العدد هذا البناء قد يجيء على (فعال) وعلى (فعول)، وذلك قولك: كلاب وكباش وبغال. وأما الفعول فنسور وبطون، وربما كانت فيه اللغتان، فقالوا فعول وفعال، وذلك قولهم: فروخ وفراخ... وربما جاء (فعيلًا)، وهو قليل، نحو: الكليب والعبيد. والمضاعف يجري هذا المجرى، وذلك قولك: ضب وأضب وضباب"([46]).
ولما كان ذلك كذلك، فقد جاء في تعليق ابن الأنباري على قولهم: (أكل فلان العراق)، ما نصه: "قال أبو بكر: قال أبو عبيد: العراق: الفدرة من اللحم... وقال ابن قتيبة: العراق العظام... قال: و(العراق) جمع: العرق، بمنزلة قولهم: ظئر وظؤار، وربى ورباب: للشاة التي تكون في منزل القوم، يحلبونها وليست سائمة... والعراق في المصادر بمنزلة قولهم: سكت سكاتًا، وصمت صماتًا، وصرخ صراخًا.. و"العرق" بمنزلة "العراق"، مصدر لعرقت، ولا يجوز أن يكون واحد "العراق" على ما ذكر ابن قتيبة؛ لأنه لم يؤثر عن العرب "فعال" في جمع فعل"([47]).
فقد بين ابن الأنباري أن معنى العراق: الفدرة من اللحم أو هي العظام، ثم تطرق إلى ما أدلى به ابن قتيبة، حيث رأى ابن قتيبة أن (العراق) جمع: العرق، بمنزلة قولهم: ظئر وظؤار، وهو ما نفاه ابن الأنباري معللًا ذلك بأنه لم يرد عن العرب "فعال" في جمع فعل، وهو ما نؤيده، بناء على ما بين أيدينا من موروث لغوي، على الرغم من قول الأزهري في تهذيبه: العرق جمعه عراق، وهي العظام التي اعترق منها هبر اللحم، وبقي عليها لحوم رقيقة طيبة، فتكسر وتطبخ([48]).
في جمع (فعل):
فيما يتصل بجمع ما كان على مثال (فعل) أشير إلى أن "ما كان على ثلاثة أحرف، وكان (فعلًا)، فإنك تكسره على أفعال من أبنية أدنى العدد، وهو قياس غير المعتل. فإذا كان كذلك، فهو في هذا أجدر أن يكون، وذلك قولك: فيل وأفيال، وجيد وأجياد، وميل وأميال. فإذا كسرته على بناء أكثر العدد قلت (فعول)، كما قلت: عذوق وجذوع، وذلك قولك: فيول وديوك وجيود. وقد يقتصرون في هذا الباب على (أفعال)، كما اقتصروا على ذلك في باب فعل وفعل من المعتل... وقالوا في (فعل) من بنات الواو: ريح وأرواح ورياح، ونظيره أبار وبئار"([49]).
وبناء على ذلك، فقد جاء تعليق ابن الأنباري على قولهم: (قد هبت الريح)، فقال: "قال أبو بكر: قال بعض أهل اللغة : إنما سميت الريح ريحًا؛ لان الغالب عليها في هبوبها المجيء بالروح والراحة، وانقطاع هبوبها يكسب الكرب والغم والأذى، فهي مأخوذة من الروح. وأصلها: روح، فصارت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، كما فعلوا مثل ذلك في الميزان والميعاد والعيد، والدليل على ذلك أن أصل "ريح": روح، قولهم في الجمع: أرواح، ولو كانت الياء صحيحة في "الريح" لقيل في الجمع: أرياح، و"أرياح" خطأ لا تتكلم العرب به: قال زهير:
قف بالديار التي لم يعفها القدم
بلى وغيرها الأرواح والديم"([50]).
وهو ما يتضح من خلاله أن ابن الأنباري قد بين سبب تسمية الريح بهذا الاسم، ثم بين أصلها الاشتقاقي بأنها مأخوذة من (الروح)، وأن أصلها: روح، فصارت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، كما فعلوا مثل ذلك في الميزان والميعاد والعيد.
وفي سبيل التدليل على ذلك أشار إلى أنهم يقولون في الجمع: أرواح، ولو كانت الياء صحيحة في "الريح" لقيل في الجمع: أرياح، ثم تدرج في هذا التدليل، فبين أن (أرياحًا) خطأ، لا تتكلم به العرب، ومن ثم يجب عدم التكلم به، واستشهد على صحة ذلك بالبيت السابق لزهير، حيث ورود كلمة (الأرواح) جمعًا للريح، وهو ما يؤيده الدرس اللغوي، الذي يخبرنا بأن حكاية أرياح وأرايح شاذ، وهو ما أنكره أبو حاتم وغيره([51]).
خامسًا- التصويب في باب النسب:
مما لاشك فيه أن النسب ظاهرة صرفية تعني إضافة ياء مشددة مكسور ما قبلها علامة للنسب إليه بآخر الاسم المراد منه الدلالة على اتصافه بما يراد نسبه إليه، قال سيبويه: "إنك إذا أضفت رجلًا فجعلته من آل ذلك الرجل ألحقت ياءي الإضافة، فإن أضفته إلى بلد فجعلته من أهله ألحقت ياءي الإضافة، وكذلك إن أضفت سائر الأسماء إلى البلاد، أو إلى حي أو قبيلة"([52]).
هذا، وقد جاء التصويب الصرفي في باب النسب لدى ابن الأنباري في (الزاهر) في موضع واحد، في سياق تعليقه على قولهم: (فلان أعرابي)، فقال: "قال أبو بكر: قال الفراء: الأعراب: أهل البادية، والعرب: أهل الأمصار، فإذا نسب الرجل إلى أنه من أعراب البادية قيل: أعرابي. قال الفراء: ولا تقول: عربي؛ لئلا يلتبس بالنسبة إلى أهل الأمصار. قال الفراء: وإذا نسبت رجلًا إلى أنه يتكلم بالعربية، وهو من العجم، قلت: رجل عرباني، وإنما سميت العرب عربًا؛ لحسن بيانها في عبارتها، وإيضاح معانيها، من قول العرب: قد أعربت عن القوم: إذا تكلمت عنهم، وأبنت معانيهم"([53]).
فمن خلال هذا النص يتبين لنا – فيما نقله ابن الأنباري عن الفراء- أننا إذا نسبنا رجلًا إلى أعراب البادية، لا نقل: إنه عربي، بل نقول: أعرابي. وقد علل الفراء ذلك بعدم التباسه بالنسبة إلى أهل الأمصار – وهو ما أؤيده، على الرغم من مخالفته القياس – وهو الأمر الذي يؤيده الواقع اللغوي، يقول سيبويه: "وتقول في الأعراب: أعرابي؛ لأنه ليس له واحد على هذا المعنى، ألا ترى أنك تقول: العرب، فلا تكون على هذا المعنى؟ فهذا يقويه"([54]).
ويقترب منه قوله أيضًا: "فمن ذلك قولهم في الطويل الجمة: جماني، وفي الطويل اللحية: اللحياني، وفي الغليظ الرقبة: الرقباني. فإن سميت برقبة أو جمة أو لحية، قلت: رقبي ولحيي وجمي ولحوي؛ وذلك لأن المعنى قد تحول، إنما أردت حيث قلت جماني الطويل الجمة، وحيث قلت: اللحياني الطويل اللحية، فلما لم تعن ذلك أجري مجرى نظائره التي ليس فيها ذلك المعنى"([55]).
وفيما سبق ما يدل على موافقة ابن الأنباري الفراء، فيما طرحه من تصويب في باب النسب، مرجعه مراعاة الفرق في المعنى عند النسب إلى من يتكلم العربية، سواء أكان من أهل البادية، أم كان من أهل الأمصار، أم كان أعجميًا، فلكل لفظ للنسب إليه، يمكن إقراره وإضافته إلى قواعد النسب وعدم عده من شواذ النسب.
سادسًا – التصويب في باب المقصور:
لا شك في أن الاسم المقصور اسم متمكن، معرب؛ ومن ثم اهتم به علم الصرف، فعرف بأنه الاسم المتمكن، الذي آخره ألف لازمة، كالمغني والرحى- والعصا، وله نظير من الصحيح، وهذه الألف مفردة، احترازًا عن الممدود؛ لأنها في الأصل ألفان، قلبت الثانية همزة، والممدود هو ذلك الاسم المتمكن، الذي آخره همزة بعد ألف زائدة، نحو كساء ورداء، وله نظير من الصحيح([56]).
وهنا يحضرني قول أستاذي الدكتور محمد حماسة: "والمقصور والممدود نوعان من الأسماء المتمكنة، فلا يطلقان اصطلاحًا على الاسم المبني، ولا على الفعل، ولا على الحرف"([57])، أي أن مهمة الصرفيين أن يبحثوا في الأسماء المقصورة والممدودة قياسيًا؛ لأن السماع مهمة المشتغلين بجمع اللغة، أضف إلى ذلك أنه ليست له قاعدة تضبطه. والمقصور يأتي على صور مختلفة، فقد يأتي والمعنى مختلف، وهو الغالب، كالهوى والهواء والثرى والثراء والعشا والعشاء... الخ، ويأتي والمعنى واحد، كالقرى والقراء، بمعنى إطعام الضيف والإحسان إليه، والجري والجراء، بمعنى نعمة الشباب ومتعته... الخ([58]).
وقد جاء التصويب الصرفي لدى ابن الأنباري فيما يتصل بالمقصور، في تعليقه على قولهم: (قد ضربته بالعصا)، فقال: قال أبو بكر: قال أبو العباس: روى الأصمعي عن بعض شيوخ البصريين أنه قال: إنما سميت العصا: عصا؛ لأن اليد والأصابع تجتمع عليها. وقال: هو مأخوذ من قول العرب: قد عصوت القوم أعصوهم: إذا جمعتهم على خير أو شر. ولا يجوز مد العصا، ولا إدخال التاء معها، قال الراجز:
ربيته حتى إذا تمعددا
كأن جزائي بالعصا أن أجلدا
ويقال: أول لحن سمع بالعراق: عصاتي، بالتاء"([59]).
فمن خلال هذا النص تتضح لنا إشارة ابن الأنباري – فيما نقل عن الأصمعي، وهو ما أوافقه عليه – إلى أن الاسم المقصور (عصا) مأخوذ من قول العرب: قد عصوت القوم أعصوهم: إذا جمعتهم على خير أو شر، ولا يجوز مده، أو إلحاق التاء به؛ وبناء على ذلك عد اللغويون قول من قالوا من أهل العراق: عصاتي، بالتاء، من باب اللحن في اللغة، وهو ما لم يأت به القرآن في قوله تعالى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}.
قال ابن السكيت: "وتقول: هذه عصاي، قال الله وجل، وعز: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}. وزعم الفراء أن أول لحن سمع بالعراق: هذه عصاتي"([60])، وهو ما وجد بالعامية المصرية – على سبيل المثال – فهم يلحقون بآخر كلمة (عصا) الياء والتاء، فيقال: أين عصايتي، وهو خطأ، والصواب: أين عصاي([61])؛ ومن ثم، فان لمثل هذه التنبيهات- على نحو ما جاء به ابن الأنباري وغيره – أهميتها في مقاومة لحن العامة.
المبحث الثاني
التصويب النحوي
جاءت ملامح التصويب النحوي في كتاب الزاهر متصلة باللازم والمتعدي، والإضافة والاقتصار على وجه واحد في الممنوع من الصرف، والإخلال بالتركيب اللغوي، وفيما يلي عرض لهذه الأمور:
أولًا- اللازم والمتعدي:
ما يتعدى وما لا يتعدى:
فيما يتصل بالتصويب النحوي في هذا الصدد نلاحظ أنه قد ورد في أربعة مواضع، على مدار كتاب الزاهر([62])، ففي تعليق ابن الأنباري على قولهم: (فلان سفيه) قال: قال أبو بكر: معناه فلان قليل الحلم. والسفه عند العرب خفة الحلم. قال بعض أهل اللغة: من ذلك قولهم: ثوب سفية: إذا كان خفيفًا رقيقًا ومن ذلك قول ذي الرمة:
وأبيض موشي القميص عصبته
على ظهر مقلات سفيه جديلها
الجديل: الزمام، والمعنى: خفيف زمامها، مسرع... ويقال: سفه عبد الله، وسفه عبد الله، وسفه عبد الله رأيه، ولا يجوز سفه عبد الله رأيه، بضم الفاء مع النصب؛ لأن "فعل" لا ينصب، و"فعل" ينصب؛ وذلك أنك تقول: علم عبد الله علمًا، ولا تقول: كرم عبد الله أخاك"([63]).
فابن الأنباري في هذا النص قد أشار إلى قول الناس (سفه عبد الله، وسفه عبد الله، وسفه عبد الله رأيه)، وذلك معناه أن (فعل) يأتي لازمًا ومتعديًا، أما (فعل) بضم الفاء، فلا يأتي إلا لازمًا؛ ومن ثم كان من اللازم تصويب قولهم: (سفه عبد الله رأيه) بضم الفاء، ونصب كلمة (رأيه) على أنها مفعول به، وهو ما يترتب عليه تنقية كلام العامة من الخلط بين ما يأتي لازمًا وما يأتي متعديًا، وما يأتي لازمًا حينًا، ويأتي متعديًا حينًا آخر([64]).
ما يتعدى بنفسه ولا يتعدى بالهمزة:
جاء ذلك في (الزاهر) منقولًا عن (الأصمعي)، في سياق تعليق ابن الأنباري على قولهم: (قد طلق فلان فلانة ثلاثًا بتة)، فقال: "قال أبو بكر: معناه: قاطعة، أي: قطعت الثلاث حبائلها من حبائله. قال الفراء: يقال: أبتت على فلان القضاء، وبتت، أي: قطعت. وقال الأصمعي: لا يقال: أبتت، بالألف، ولكن يقال: بتت، بغير ألف"([65]).
وهو ما يتضح من خلاله نقل ابن الأنباري عن الفراء والأصمعي دون ترجيح لأحدهما عن الآخر أو إبداء وجهة نظره. فالفراء يرى أن الفعل (بت) يتعدى بالهمزة، ويتعدى بنفسه، أما الأصمعي فيشير إلى أنه من غير الصحيح نحويًا أن يقال: أبتت، بالألف؛ ومن ثم كان لابد من نصه على هذا التصويب، فأتبعه بقوله: ولكن يقال: بتت، بغير ألف.
وهنا أشير إلى أن مثل هذه الخلافات مما يوقع العامة في الخطأ، ويجعلهم على صواب بناء على رأي الفراء – مثلًا – أو يجعلهم على خطأ، على رأي الأصمعي، كما هو الحال في هذا الموضع، وهو ما يجعلني أقول: كان من الواجب على ابن الأنباري أن يتدخل هنا فيحسم المسألة، لاسيما أن وضع الألف أو عدم وضعها هو ما يترتب عليه وضع الكلمة في غير موضعها([66])، مما لا يمنع من الإشارة هنا إلى أن ابن الأنباري قد حسم الأمر في موضع من هذه المواضع، فقال: "وكذلك تخطيء العامة، فيقول الرجل منهم للرجل: أوعدني موعدًا أقف عليه. وهذا خطأ في كلام العرب؛ وذلك أنهم يقولون: قد وعدت الرجل خيرًا، وأوعدته شرًا. فإذا لم يذكروا الخير قالوا: وعدته، فلم يدخلوا ألفًا، وإذا لم يذكروا الشر قالوا: أوعدته، ولم يسقطوا الألف، قال الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته
لأخلف إيعادي وأنجز موعدي"([67])
أي أن الفعل (وعد) بدون الألف يأتي في الخير، فيقال: قد وعدت الرجل خيرًا، أو يقال: وعدته، أما الفعل (أوعد) بالألف فيأتي في الشر، فيقال: أوعدته شرًا، أو يقال: أوعدته. أما عن (بتت وأبتت)، فيمكن القول: إن كلا منهما صحيح في تعديته، فهو يتعدى بنفسه وبالهمزة، فيقال: بتت الحبل، فأنبت، وأبتت. وعن ابن سيده: بت الشيء يبته، ويبته بتًا، وأبته: قطعه قطعًا مستأصلًا، فهما لغتان مستعملتان([68]).
جـ- وقوع فعل على فعل:
أشار ابن الأنباري إلى هذا الأمر وكونه خطأ في سياق تفسيره قولهم: "شراب سلسال".
فقال: قال أبو بكر: معناه: عذب، سهل الدخول في الحلق، وفيه لغات: شراب سلسال.
وسلسل، وسلسبيل، قال أبو كبير:
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره
أشهى إلي من الرحيق السلسل
وقال الله جل وعلا: {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا}([69])، فيجوز أن يكون "سلسبيل" اسمًا للعين، فنون وحقه ألا يجري؛ لتعريفه وتأنيثه؛ ليكون موافقًا رؤوس الآيات المنونة، إذ كان التوفيق بينها أخف على اللسان، وأسهل على القارئ ويجوز أن يكون "سلسبيل" صفة للعين ونعتًا، فإذا كان وصفًا زال عنه ثقل التعريف، فاستحق الإجراء... وقال سعيد بن المسيب: هي عين تجري من تحت العرش، في قضيب من ياقوت. وقال بعض المفسرين: معنى "سلسبيلًا": سل ربك سبيلًا إلى هذه العين، قال أبو بكر: وهذا عندنا خطأ؛ لأنه لو كان كذلك، لقطعت اللام من السين، ولم توصل بها، ولبقى تسمى غير واقع على منصوب، وسبيله أن يصحبه المنصوب، كقولك: المرأة تسمى هندًا، والجارية تسمى جملًا، وغير جائز أن يقع على "سل"؛ لأن "سل" فعل معناه الأمر، ولا يقع فعل على فعل، فخلا (تسمى) من المنصوب، واتصال اللام بالسين أكبر دليل على غلط القوم، وأوضح برهان على أنها حرف واحد، لا ينفصل بعضه عن بعض"([70]).
فأنت ترى ابن الأنباري في هذا النص قد عرض لكون كلمة "سلسبيل" اسمًا للعين أو نعتًا لها، ثم بين غلط بعض المفسرين في القول بأن معنى "سلسبيلًا" سل ربك سبيلًا إلى هذه العين، وعلة ذلك – وهو ما أوافقه عليه- أنه لو كان كذلك، لقطعت اللام من السين، ولم توصل بها، ولبقي الفعل "تسمى" غير واقع على منصوب، في الوقت الذي ينبغي أن يكون له منصوب؛ لأنه فعل يتعدى إلى المفعول، كقولنا: المرأة تسمى هندًا، والجارية تسمى جملًا، فكل من (هند، والجمل) مفعول به للفعل (تسمى)، وغير جائز أن يقع على "سل"؛ لأن "سل" فعل معناه الأمر، ومن المعلوم نحويًا أنه لا يقع فعل على فعل، بالإضافة إلى أن الفعل "تسمى" يكون بذلك قد خلا من المنصوب، ثم بين أن اتصال اللام بالسين أكبر دليل على غلط القوم، وأوضح برهان على أنها حرف واحد، لا ينفصل بعضه من بعض، وهو الأمر الذي من شأنه القضاء على كل سبيل من سبل تطرق هذه الفكرة إلى العامة؛ ومن ثم يكون مقاومة اللحن لديهم.
فالمعروف أن "سلسبيل صفة للعين بالسلسبيل، وقال بعضهم: إنما أراد عينًا تسمى سلسبيلًا؛ أي: تسمى من طيبها، أي: توصف للناس"([71])، وهو ما أرجحه، على الرغم من قول الفراء: "ذكروا أن السلسبيل اسم للعين، وذكر أنه صفة للماء لسلسلته وعذوبته، ونرى أنه لو كان اسمًا للعين لكان ترك الإجراء فيه أكثر، ولم تر أحدًا من القراء ترك إجراءها، وهو جائز في العربية، كما كان في قراءة عبد الله. {ولا تَذَرُنَّ ودًا ولا سُوَاعًا ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًا} بالألف. وكما قال (سلاسلًا)، و(قواريرًا) بالألف، فأجروا ما لا يجري، وليس بخطأ؛ لأن العرب تجري ما لا يجري في الشعر، فلو كان خطأ ما أدخلوه في أشعارهم"([72]).
ثانيًا – التصويب في باب الإضافة:
لما كان المقصود من الإضافة نحويًا النسبة، فإنه يمكن الإشارة إلى أنها نسبة تقييدية بين اسمين، توجب لثانيهما الجر أبدًا"([73])، أو أنها نسبة اسم إلى غيره على تنزيل الثاني من الأول منزلة تنوينه أو ما يقوم مقام تنوينه"([74]).
ومما لاشك فيه أن الإضافة من أبواب النحو العربي، لها أقسام كثيرة، يضيق المقام بحصرها، ناهيك عن فوائدها. وقد جاء تصويب ابن الأنباري في هذا الباب في تعليقه على قولهم: (طوباك إن فعلت كذا وكذا)، فقال: قال أبو بكر: هذا مما تلحن فيه العوام، والصواب: طوبى لك إن فعلت كذا وكذا، قال الله عز وجل: {طُوبَى لَهُمْ وحُسْنُ مَئَابٍ}([75]). واختلف الناس في معنى طوبى، فقال أهل اللغة: طوبى لهم معناه: خير لهم... وقال أبو هريرة: طوبى: شجرة في الجنة..." ([76]).
وهو ما يتضح من خلاله أن ابن الأنباري قد أشار إلى أن العوام يلحنون في قولهم: (طوباك إن فعلت كذا وكذا)، بإضافة كلمة (طوبى) إلى ضمير المخاطب، ثم بين أن الصواب: طوبى لك إن فعلت كذا وكذا، ولم يكتف بذلك، بل عضد رأيه الموافق لما عليه الفصحى بقوله تعالى: {طُوبَى لَهُمْ وحُسْنُ مَئَابٍ}، مما يؤكد أن كلمة (طوبى) لا تضاف إلى ضمير المخاطب، بل يتوصل إلى هذا الضمير باللام، وطوبى على مثال فعلى، من الطيب، بمعنى العيش الطيب لهم، أو خير لهم([77])، وهي ممنوعة من الصرف، قال الزجاج: "وتقول: كل فعلي في الكلام لا تنصرف"، ولا تحتاج إلى أن تقول كانت ألفها لتأنيث؛ لأنها لم تقع في الكلام إلا للتأنيث، نحو أنثى وخنثى وطوبى ورجعى، فإنما تقول: "كل فعلي في الكلام لا تنصرف" ولا تنون فعلي"([78]).
ثالثًا – التصويب في باب الممنوع من الصرف:
من المعروف في الدرس النحوي أن الكلمة تمنع من الصرف لعلة من العلل التي ذكرها النحاة([79])، وقد جاء تصويب ابن الأنباري لما تلحن فيه العامة في هذا الشأن، من باب اقتصارهم على وجه واحد، من حيث صرف الكلمة أو منعها من الصرف، وذلك في تعليقه على قولهم: (افعل كذا وكذا إذا هلك الهلك، وإن هلك الهلك)، فقال: قال أبو بكر: العامة تخطئ في هذا فتقول: إن هلك الهلك، والعرب تقول: افعل كذا وكذا إما هلكت هلك، بالإجراء، وهلك، بلا إجراء، وهلكه، بالإضافة. يريدون: افعله على ما خيلت، أخبرنا ابو العباس عن الفراء: ومعنى خيلت: أرت وشبهت. وحدثنا أحمد بن الهيثم قال: حدثنا شعبة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: ذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- الدجال، فقال: (أعور جعد هجان، كأن رأسه أصلة، أشبه الناس بعبد العزى بن قطن، ولكن الهلك كل الهلك أن ربكم ليس بأعور)، وفي غير هذه الرواية: فإن هلكت هلك، وفي رواية أخرى: فإن هلكت هلك"([80]).
فابن الأنباري في هذا النص يريد توجية الأنظار إلى ضرب من لحن العامة، وهو اقتصارهم على وجه الإجراء (الصرف) في كلمة (الهلك) أو (الهلك) جمع (هالك)، في قولهم: (افعل كذا وكذا إذا هلك الهلك، وإن هلك الهلك)، أي: افعل كذا وكذا على ما خيل وشبه لك، وإن هلك به الهالكون([81])؛ وهناك من يسبقونها بالألف واللام للتعريف، ولا يضيفونها، وهو ما يتفق مع واقع اللغة.
هذا، وقد علل ابن الأنباري اللحن في هذا الاقتصار على وجه الإجراء بما ورد عن العرب من أنهم يقولون: افعل كذا وكذا إما هلكت هلك، بالإجراء، أي بصرف الكلمة منونة، ويقولون: افعل كذا وكذا إما هلكت هلك، بلا إجراء، أي بمنعها من الصرف، فلا تنون ولا تضاف، ويقولون أيضًا: افعل كذا وكذا إما هلكت هلكه، بإضافة كلمة (هلك) إلى الضمير.
ولم يكتف ابن الأنباري بذلك، بل أيد كلامه بحديث لمن لا ينطق عن الهوى، جاءت فيه الكلمة مصروفة، مسبوقة بالألف واللام، وفي روايتين له جاءت الكلمة مصروفة غير معرفة في إحداهما، وفي الأخرى جاءت ممنوعة من الصرف، مما يؤكد على خطأ العامة في الاقتصار على وجه واحد؛ ومن ثم فبقية الأوجه صحيحة، تدعمها الفصحى، فقد جاء في لسان العرب: "وافعل ذلك إما هلكت هلك، أي على كل حال، بضم الهاء واللام غير مصروف؛ قال ابن سيده: وبعضهم لا يصرفه، أي على ما خيلت نفسك ولو هلكت، والعامة تقول: إن هلك الهلك؛ قال ابن بري: حكى أبو علي عن الكسائي هلكت هلك، مصروفًا وغير مصروف. وفي حديث الدجال: وذكر صفته ثم قال: ولكن الهلك كل الهلك أن ربكم ليس بأعور، وفي رواية: فإما هلكت هلك فإن ربكم ليس بأعور؛ الهلك الهلاك، ومعنى الرواية الأولى الهلاك كل الهلاك للدجال؛ لأنه وإن ادعى الربوبية ولبس على الناس بما لا يقدر عليه الشر، فإنه لا يقدر على إزالة العور؛ لأن الله منزه عن النقائص والعيوب، وأما الثانية فهلك، بالضم والتشديد، جمع هالك، أي فإن هلك به ناس جاهلون وضلوا فاعلموا أن الله ليس بأعور، ولو روي: فإما هلكت هلك على قول العرب افعل كذا إما هلكت هلك وهلك بالتخفيف منونًا وغير منون، لكان وجهًا قويًا، ومجراه مجرى قولهم افعل ذلك على ما خيلت، أي على كل حال. وهلك: صفة مفردة بمعنى هالكة كناقة سرح وامرأة عطل، فكأنه قال: فكيفما كان الأمر فإن ربكم ليس بأعور، وفي رواية: فإما هلك الهلك فإن ربكم ليس بأعور. قال الفراء: العرب تقول افعل ذلك إما هلكت هلك، وهلك بإجراء وغير إجراء، وبعضهم يضيفه، إما هلكت هلكه، أي على ما خيلت، أي على كل حال"([82]).
رابعًا – الإخلال بالتركيب اللغوي:
من المعروف أن التراكيب لها أسس تبنى عليها، يجب الالتزام بها، ويعد الإخلال بها من باب اللحن في اللغة، أما الانحراف أو العدول عن المعتاد فيها – في إطار الصواب اللغوي لغرض ما، يتصل بالمعنى أو النسج – فلا يعد من باب اللحن الذي نحن بصدد العرض لبعض ملامح تصويبه.
وقد جاء تصويب ابن الأنباري فيما يتصل بالإخلال بالتركيب اللغوي في موضعين، أولهما في سياق عرضه قولهم: (هو ذا ألقى فلانًا)، فقال: "قال السجستاني: بعض أهل الحجاز يقولون: هو ذا، بفتح الهاء والواو، وهذا خطأ منه؛ لأن العلماء الموثوق بعلمهم اتفقوا على أن هذا من تحريف العامة وخطئها. والعرب إذا أرادت معنى: هو ذا، قالوا: ها أنا ذا ألقى فلانًا، ويقول الاثنان: ها نحن ذان نلقاه، ويقول الرجال: ها نحن أولاء نلقاه، ويقال للمخاطب: ها أنت ذا تلقى فلانًا، وللاثنين: ها أنتما ذان تلقيانه، وللجميع ها أنتم أولاء تلقونه، ويقال للغائب: هو ذا يلقاه، وللاثنين: ها هما ذان يلقيانه، وللجميع: ها هم أولاء يلقونه، ويبنى التأنيث على التذكير ... وإنما يجعلون المكنى بين "ها" و "ذا" إذا قربوا الخبر، فتأويل قول القائل: ها أنا ذا ألقى فلانًا: قد قرب لقائي إياه"([83]).
فابن الأنباري في هذا النص روى عن السجستاني أن أهل الحجاز يقولون: هو ذا، بفتح الهاء والواو ، وعدم الفصل بين (ها) و(ذا)؛ ومن ثم نص على أن هذا خطأ منه؛ لأن العلماء الموثوق بعلمهم اتفقوا على أن هذا من تحريف العامة وخطئها، مضيفًا أن العرب إذا أرادت معنى: هو ذا، قالوا: ها أنا ذا ألقى فلانًا، ويقول الاثنان: ها نحن ذان نلقاه، ويقول الرجال: ها نحن أولاء نلقاه ...الخ([84])، وهو ما يتضح من خلاله أن العرب الموثوق بهم يفصلون بين "ها" و "ذا" بالضمير (المكنى)؛ وذلك لغاية دلالية، مفادها تقريب الخبر الذي هو محط الفائدة.
وفي ذلك قال الفراء: "العرب إذا جاءت إلى اسم مكنى قد وصف بهذا وهاذان وهؤلاء فرقوا بين (ها) وبين (ذا)، وجعلوا المكنى بينهما؛ وذلك على جهة التقريب لا في غيرها. فيقولون: أين أنت؟ فيقول القائل: هأنذا، ولا يكادون يقولون: هذا أنا، وكذلك التثنية والجمع .... وربما أعادوا (ها) فوصلوها بذا وهذان وهؤلاء، فيقولون: ها أنت هذا، وها أنتم هؤلاء، وقال الله تبارك وتعالى في النساء: {هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
فإذا كان الكلام على غير تقريب أو كان مع اسم ظاهر جعلوا (ها) موصولة بذا، فيقولون: هذا هو، وهذان هما، إذا كان على خبر يكتفي كل واحد بصاحبه بلا فعل، والتقريب لابد فيه من فعل لنقصانه، وأحبوا أن يفرقوا بذلك بين معنى التقريب وبين معنى الاسم الصحيح"([85]).
أما الموضع الآخر فقد كان في سياق تعليقه على قولهم: (يصيب وما يدري، ويخطئ وما درى)، فقال: "قال أبو بكر: قال اللغويون: الصواب وما تتكلم به العرب: يصيب وما يدري ، ويخطئ وما درى، أي: ما ختل، من قولهم: دريت الظباء أدريها دريًا: إذا ختلتها. ومن هذا قولهم: قد داريت الرجل : إذا لاينته وختلته، أداريه مداراة. أنشدنا أبو العباس:
فإن كنت لا أدري الظباء فإنني
أدس لها تحت التراب الدواهيا"([86]).
وهو ما يتضح من خلاله أن ابن الأنباري يرى – نقلًا عن اللغويين – أنه من غير الصحيح أن نقول: (يصيب وما يدري، ويخطئ وما درى)، بالفصل بين الفعل (يخطئ) ومفعوله بحرف العطف، وذلك أن التركيب هنا ينبئ عن أن الفعل (يخطئ) فعل متعد واقع على ما يختل؛ ومن ثم فالصواب بإسقاط حرف العطف، وجعل (ما) موصولة، في محل نصب، على أنها مفعول به، وليست نافية، على نحو ما جاء عند العامة- وإن كان ابن الأنباري لم يصرح بلفظ العامة، لكنه مفهوم من الكلام- ومن ثم فجملة (درى) لا محل لها من الإعراب؛ لكونها صلة الموصول الحرفي (ما).
يتبع
الأنباري في كتابه الزاهر دكتور / فايز صبحي عبد السلام تركي
أستاذ النحو والصرف والعروض المشارك
بكلية الآداب – جامعة الملك فيصل
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله، فتق العقول بمعرفته، وأطلق الألسن بحمده وتسبيحه، وجعل ما أمتن به من ذلك على خلقه كفاء لتأدية حقه، والصلاة والسلام على أشرف رسله وأنبيائه، وعلى آله وأصحابه الذين حفظوا القرآن، وحافظوا عليه من التبديل والتحريف؛ ومن ثم كان الحفاظ على لغته، فكانوا أعلامًا يهتدي بهديهم، أما بعد، فإن اللغة العربية لها من القدر والشرف والرفعة في نفوسنا ما يعجز الوصف عنه أو يحيط به مداد؛ ذلك أنها اللغة التي شرفها المولى – عز وجل – بأن تكون لغة كتابه، القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. تلك اللغة الفصحى التي استعملها أهلها قبل تقعيدها مستخدمين سليقتهم اللغوية في التواصل فيما بينهم، إلى أن كان نزول القرآن الكريم، فكثرت حوله الدراسات في شتى الجوانب، خادمة له؛ من منطلق قوله تعالى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر 9؛ ومن ثم كان التقعيد لهذه اللغة، بناء على جمعها من البوادي واستنطاق أهلها، ومن ثم تدوينها، فكان كتاب سيبويه ومعاجم الموضوعات ومعاجم الألفاظ، وغير ذلك من الكتب، التي سعت إلى الحفاظ على لغة القرآن والاهتمام بها في إطار حفظه.
ولما توسعت الدولة الإسلامية بانتشار الإسلام هنا وهناك، ترتب على ذلك اختلاط العرب بغيرهم، ودخول غيرهم فيه، وهو ما أدى إلى تحريف العامية للعربية الفصحى، ذلك التحريف – أو (اللحن) – الذي فشا وكثر على ألسنة العامة ثم تسرب بمرور الوقت إلى ألسنة الخاصة أيضًا، من المحدثين والفقهاء وغيرهم، فكان تتابع الكتب التي تقوم لحن الخاصة بمرور الوقت([1])؛ مما ترتب عليه ظهور ما يسمى بحركة التصويب اللغوي أو ما اصطلح عليه بلحن العامة، وتوالت المؤلفات في هذا الشأن.
هذا، ويكاد الإجماع يكون على أن أول من خصص مؤلفًا لذلك – عندما شاع اللحن في القرن الثاني الهجري في العراق، وامتد إلى كثير من البلاد العربية بحلول القرن الرابع الهجري([2]) – هو أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي (119-189هـ)، في كتابه (ما تلحن فيه العامة)، ثم كان إصلاح المنطق، لابن السكيت (ت244هـ)، وأدب الكاتب، لابن قتيبة (ت276هـ)، والفصيح، لأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب (ت291هـ)، وغير ذلك من الكتب التي أحصاها أستاذنا الدكتور رمضان عبد التواب، في كتابه (لحن العامة والتطور اللغوي)، والدكتور عبد العزيز مطر، في كتابه (لحن العامة في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة) ([3])،وغيرهما من العلماء؛ ومن ثم تعددت القراءات لتلك الكتب التي اهتمت برصد ملامح اللحن في اللغة وتصويبه ابتغاء مقاومة لحن العامة والخاصة أيضًا.
وهنا يحضرني قول الدكتور شوقي ضيف: "وكل هذه المؤلفات تحاول تصحيح نطق العوام لألفاظ العربية في البلدان المختلفة، بحيث تخلصها من كل ما دخل عليها من تحريف، وتصوب كل ما شابها من اللحن"([4]).
وفي إطار تعدد هذه القراءات كان الإسهام بهذا البحث في خدمة الفصحى لغة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والتراث الإسلامي الزاخر بكنوز المعرفة، واستنهاض الهمم؛ من أجل التأكيد على الهوية العربية والحفاظ عليها، تلك الهوية التي ينبغي السعي إلى تأصيلها وترسيخها، ومناقشة حال العربية، وما يعترض سبيلها من تحديات مختلفة، كزحف العامية وتعدد اللهجات وغزو اللغات الأخرى؛ ومن ثم محاولة تلمس السبل التي تنهض باللغة العربية، وتجعلها مواكبة لمتطلبات العصر الحاضر، وذلك بالانفتاح على معطياته والإفادة من الدراسات اللغوية المعاصرة، فيما يثري اللغة، ويقربها للمتلقي دون التنازل عن ثوابت الهوية اللغوية الأصيلة.
ولما كانت كتب التصويب اللغوي أو التصحيح اللغوي – بما فيه من أصوات وصرف ونحو ودلالة – قد أتى عليها السابقون واللاحقون، ولما كانت الخلفية الثقافية تشير إلى عدم اقتصار التصويب اللغوي على ما وضع من مؤلفات مخصصة لمقاومة لحن العامة والخاصة- بل على نحو ما حوت بطون المعاجم والمصادر اللغوية بعضًا من هذه الملامح- فقد كان التوجه إلى التنقيب في هذه المصادر، علنًا نجد من بينها ما يمكن تسليط الضوء على ما به من تصحيح لغوي.
وبإمعان النظر- وفي ضوء ما لدي من معطيات سابقة- وقع اختياري على عالم من علماء اللغة، عاش في القرنين الثالث والرابع الهجريين، إنه أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري (271-328هـ)، وكان النظر في كتابه (الزاهر في معاني كلمات الناس)، فكان مصدرًا لهذا البحث؛ بناء على عدة أمور:
أولها: أنه توجد قناعة لدى الباحث بأن التصحيح اللغوي لا يقتصر على ما وضع من كتب، خصصت لمقاومة لحن العامة، بل إن محاربة هذا اللحن تكفلت به أيضًا كتب اللغويين والنحاة القدامى ومعاجمهم؛ ومن ثم ينبغي النظر فيها.
وثانيها: أنه كانت لي وقفة سابقة مع هذا الكتاب([5])، تبين من خلالها اهتمام ابن الأنباري بمقاومة لحن العامة كلما أمكنه ذلك، فقد عقد كتابه لشرح ما يجري بين الناس من كلام في الحياة الدينية والدنيوية، مشيرًا إلى أنه سيتبع ذلك ببيان ما تستعمله العوام في أمثلتها ومحاوراتها من كلام العرب، وهي غير عالمة بتأويله، ثم ذكر أنه لن يخليه مما يستحسن إدخاله فيه من النحو والغريب واللغة والمصادر والتثنية والجمع، ليكون مشاكلًا لاسمه، أي لاسم الكتاب([6]).
أما آخر هذه الأمور، فيكمن في شهادة محققه الدكتور حاتم صالح الضامن – تلك الشهادة التي لا تنفك عن الحقيقة – أن ابن الأنباري "ينبه كثيرًا على أقوال العامة وأخطائهم، وهو بهذا يعتبر من كتب التصويب اللغوي"([7]).
وبناء على ذلك، فقد ابتغى الوقوف على تلك التنبيهات في هذا الكتاب وتحليلها، في ضوء معطيات الدرس اللغوي، علها تكون موجهًا إلى مثله من الكتب؛ لاستكناه محتواها؛ ومن ثم يكون الإسهام فيما يبذل من جهود، غايتها تأصيل الهوية اللغوية العربية وترسيخها، ومحاولة تلمس السبل التي تنهض باللغة العربية، وتجعلها مواكبة لمتطلبات العصر الحاضر؛ ومن ثم كان عنوان هذا البحث "التصويب الصرفي والنحوي لدى ابن الأنباري في كتابه الزاهر". وهو ما استلزم الاعتماد على المنهج الوصفي التحليلي المبني على إحصاء مواضع التصويب وتصنيفها؛ ومن ثم وصفها وتحليلها في ضوء معطيات الدرس اللغوي، قديمة وحديثه.
ولما كان ذلك كذلك، فقد استقريت الكتاب مرة أخرى، وهو ما ترتب عليه تقسيم البحث على تمهيد – هو ما نحن بصدده – ومبحثين اثنين، أولها للتصويب الصرفي، والآخر للتصويب النحوي، وتوج المبحثان بخاتمة، تضمنت أهم النتائج العامة التي توصلت إليها، وما أردت من توصيات – بالإضافة إلى ما اكتنفته صفحات البحث على مدار التحليل من نتائج جزئية – منهيًا إياه بقائمة المصادر والمراجع، وذلك فيما يلي.
المبحث الأول
التصويب الصرفي
جاءت ملامح التصويب الصرفي في كتاب الزاهر متصلة بالتصويب في أبنية الأسماء، وأبنية الأفعال، والتصويب في المشتقات، والمقصور، والجمع، والنسب، وفيما يلي عرض لهذه الأمور:
أولًا- التصويب في أبنية الأسماء:
ما ليس في أبنية العرب:
فيما يتصل بالتصويب الصرفي في هذا الصدد نلاحظ أنه قد ورد في أربعة مواضع، على مدار كتاب الزاهر([8])، ففي تعليق ابن الأنباري على قولهم: (قد دقه دقًا نعمًا) قال: قال أبو بكر: قال الكسائي: معنى قولهم: نعمًا: بالغًا زائدًا. قال: ويقال: قد دققت الدواء، فأنعمت دقه: أي زدت فيه ... ومن ذلك قول النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل عليين كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما)([9]) ... والكوكب الدري فيه خمسة أوجه: يقال: "كوكب دريء، بضم الدال والهمز، وكوكب دري، بكسر الدال وتشديد الياء، وكوكب دري، بفتح الدال فمن قال: كوكب دري، قال: هو منسوب إلى الدر مشبه به؛ لصفائه وحسنه، ومن قال: كوكب دريء ، قال: هو فعيل مأخوذ من درأ الكوكب: إذا جرى في أفق السماء. ومن قال: دريء، قال الفراء: هو خطأ، وقد قرأ به الأعمش وحمزة. قال: وإنما صار هذا خطأ؛ لأنه: فعيل، وليس في أبنية العرب فعيل، وإنما فعيل في الأعجمية، نحو: مريق، وما أشبه ذلك. وقال سيبويه: في أبنية العرب: فعيل، وذكر المريق. وقال أبو عبيد: الأصل في دريء : دروء، على مثال سبوح وقدوس. قال: فجعلوا الواو ياء، والضمة التي قبلها كسرة، فقالوا: دريء، قال: ومثل هذا من كلام العرب: عتا عتوا، وعتا عتيًا. ومن قال: دري، قال: كسرت الدال من أجل الياء التي جاءت بعد الراء([10]).
فابن الأنباري في هذا النص قد أشار إلى الأوجه الخمسة في كلمة (الدري)، ومن بين هذه الأوجه الخمسة أن يقال: كوكب دريء، على مثال فعيل، ذلك الاسم الثلاثي المزيد، بزيادة الياء رابعة، على أنه مأخوذ من درأ الكوكب: إذا جرى في أفق السماء، ثم عرض لتخطئة الفراء هذا الوجه ([11])– على الرغم من قراءة الأعمش وحمزة وعاصم عن أبي بكر به، في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}([12]) – وعلة ذلك الخطأ عند الفراء أنه ليس في أبنية العرب: فعيل، وإنما فعيل في الأعجمية، نحو: مريق، وما أشبه ذلك.
هذا، ولم يعرب ابن الأنباري عن وجهة نظره صراحة تجاه هذا التخطيء، وإنما أورد رأيه- وكأنه لم يوافق على ما قاله الفراء- من خلال ذكره إدراج سيبويه لهذا الوزن ضمن أبنية العرب، ومنه المريق([13])، الذي عده الفراء أعجميًا، وأضاف ابن الأنباري إلى ذلك وجهة نظر أبي عبيد التي يرى فيها أن الأصل في دريء: دروء ، على مثال سبوح وقدوس، فجعلوا الواو ياء، والضمة التي قبلها كسرة، فقالوا: دريء، مبينًا أن ذلك نظيره من كلام العرب: عتا عتوا، وعتا عتيًا.
وأمام هذا الخلاف، وتخطئة من يقول: كوكب دريء، على مثال فعيل، أحيل – غير موافق على رأي الفراء ومن لف لفه([14]) – إلى توجيه أبي علي الفارسي لذلك، حيث قوله: "من قرأ (دريء) احتمل قوله أمرين، أحدهما: أن يكون نسبه إلى الدر، وذلك لفرط ضيائه ونوره، كما أن الدر كذلك، ويجوز أن يكون فعيلًا من الدرء، فخفف الهمزة، فانقلبت ياء، كما تنقلب من النسيء والنبيء، ونحوه إذا خففت ياء"([15]).
وهو ما يذكرني بقول ابن جني أيضًا: "فأما ذرية المضمومة، فإن أخذتها من ذرأ، فإنها في الأصل فعيلة كمريق، واصلها ذريئة، فألزمت التخفيف أو البدل، كنبي في أكثر اللغة، وكالخابية، وكالبرية، فيمن أخذها من برأ الله الخلق، وغير ذلك مما ألزم التخفيف. و مثلها "كوكب دري" فيمن جعله فعيلًا من درأت؛ وذلك لأنه يدرأ الظلمة عن نفسه بضوئه، وأصله عن هذا درئ، فخفف، وقد قرئ به مهموزًا"([16]).
كما يمكن الإشارة إلى قول ابن منظور ووصفه لذلك بالفصاحة، فيما نقله عن عمرو بن العلاء: "وكوكب دريء على فعيل: مندفع في مضيه من المشرق إلى المغرب من ذلك، والجمع دراريء على وزن دراريع. وقد درأ الكوكب دروءًا. قال أبو عمرو بن العلاء: سألت رجلًا عن سعد بن بكر، من أهل ذات عرق، فقلت: هذا الكوكب الضخم ما تسمونه؟ قال: الدريء، و كان من أفصح الناس"([17]).
وفي كل ذلك ما يدل على أن هذا البناء موجود بلغة العرب، لكنه نادر؛ ومن ثم ينبغي إضافته إلى أبنية العرب، وعدم القول بخطئه.
وضع الصيغة في غير موضعها:
عرض ابن الأنباري لتصويب وضع الصيغة في غير موضعها، في تعليقه على قولهم: (قطع الله دابر فلان، وقد قطع الله دابر القوم)، فقال: "قال أبو بكر: قال أبو عبيد: قال أبو عبيدة: دابر القوم: آخرهم، يقال: دبرهم يدبرهم دبرًا: إذا كان آخرهم. جاء في الحديث (ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرًا) ([18])،قال أبو بكر: كذا يقول المحدثون، ومعناه: في آخر الوقت، وهو من هذا مأخوذ. وقال أبو عبيد: قال أبو زيد: الصواب (لا يأتي الصلاة إلا دبريًا)، وقال الأصمعي: دابر القوم: أصلهم...." ([19]).
ففي هذا النص نلاحظ إشارة ابن الأنباري – فيما نقله عن أبي عبيدة دون إبداء رأيه – إلى أن دابر القوم: آخرهم، مستشهدًا بما جاء في الحديث (ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرًا) كما يقول المحدثون، أي أن (دبر) على مثال (فعل).
وأمام هذا الأمر نقل ابن الأنباري تصويبًا لخطأ من أخطاء الخاصة (المحدثين)، فيما نقله أبو عبيد عن أبي زيد بأن الصواب: (لا يأتي الصلاة إلا دبريًا)، وهو ما يتضح من خلاله أن الصحيح التعبير بالاسم (دبري) على مثال (فعلي) ([20]).
وهنا أشير إلى أن الدبري أو الدبري – بفتح الباء وسكونها – منسوب إلى (الدبر) الذي هو آخر الشيء، وفتح الباء من تغييرات النسب، وذلك ما يؤنسه قول ابن منظور: "وجاء دبريًا أي أخيرًا، وفلان لا يصلي الصلاة إلا دبريًا، بالفتح، أي في آخر وقتها؛ وفي المحكم: أي أخيرًا؛ رواه أبو عبيد عن الأصمعي، قال: والمحدثون يقولون دبريًا، بالضم، أي في آخر وقتها؛ وقال أبو الهيثم: دبريًا، بفتح الدال وإسكان الباء. وفي الحديث عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة: رجل أتى الصلاة دبارًا، ورجل اعتبد محررًا، ورجل أم قومًا هم له كارهون؛ قال الإفريقي راوي هذا الحديث: معنى قوله دبارًا أي بعدما يفوت الوقت. وفي حديث أبي هريرة: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "إن للمنافقين علامات يعرفون بها: تحيتهم لعنة، وطعامهم نهبة، لا يقربون المساجد إلا هجرًا، ولا يأتون الصلاة إلا دبرًا، مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون، خشب بالليل، صخب بالنهار([21])؛ قال ابن الأعرابي: قوله دبارًا في الحديث الأول جمع دبر ودبر، وهو آخر أوقات الشيء، الصلاة وغيرها؛ قال: ومنه الحديث الآخر لا يأتي الصلاة إلا دبرًا، يروى بالضم والفتح، وهو منصوب على الظرف؛ وفي حديث آخر: لا يأتي الصلاة إلا دبريًا، بفتح الباء و سكونها، وهو منسوب إلى الدبر آخر الشيء، وفتح الباء من تغييرات النسب، ونصبه على الحال من فاعل يأتي، قال: والعرب تقول العلم قبلي وليس بالدبري؛ قال أبو العباس: معناه أن العالم المتقن يجيبك سريعًا، والمتخلف يقول لي فيها نظر"([22]).
وهو ما يعرب عن أن التعبير بالاسم (دبر) على مثال (فعل) صحيح، والتعبير بالصيغة نفسها مع إضافة ياء النسب صحيح أيضًا، لا خطأ فيه، وهو ما يجعلني أقول: كان من الواجب على ابن الأنباري أن يدلي بدلوه في هذه المسألة حتى لا يتخبط العامة بين قول هذا وذاك؛ وهو ما يسهم في مقاومة لحن العامة.
ثانيًا – التصويب في أبنية الأفعال:
جاء تصويب أبنية الأفعال في كتاب الزاهر في ثلاثة مواضع([23])، كلها لابن الأنباري، يمكن عرضها على النحو التالي:
فيما يتصل بضم ياء المضارعة وكسر العين في (فعل يفعل):
وذلك ما جاء في ضم ياء المضارعة من (يفعل)، في فعل يفعل، ونصه على أن الصواب فتحها، في تعليقه على قولهم: (لا يفضض الله فاك)، فقال: "قال أبو بكر: معناه لا يكسر الله أسنانك ويفرقها. وفيه وجهان: لا يفضض الله فاك، بفتح الياء وضم الضاد الأولى وكسر الثانية، ولا يفض الله فاك, بضم الياء وحذف الياء الثانية للجزم. فمن قال: لا يفضض الله فاك، أخذه من فضضت الشيء: إذا كسرته وفرقته. ويقال: فضضت جموع القوم: إذا فرقتها وكسرتها، قال الله عز وجل: {ولَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}([24]) معناه: لتفرقوا. والعامة تلحن في هذا، فتقول: لا يفضض الله فاك، ولغة النبي – صلى الله عليه وسلم -: لا يفضض الله فاك، بفتح الياء وضم الضاد الأولى وكسر الثانية. يروى أن النابغة الجعدي لما أنشد النبي – صلى الله عليه وسلم- قصيدته التي يقول فيها:
تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى
ويتلو كتابًا كالمجرة نيرًا
فقال فيها:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
ثم أنشده:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: إلى أين أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنة، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم-: لا يفضض الله فاك. هكذا حفظ عنه، صلى الله عليه وسلم"([25]).
فالملاحظ أن ابن الأنباري قد أشار في هذا النص إلى ان معنى قولهم: (لا يفضض الله فاك)، لا يكسر الله أسنانك ويفرقها، وأن فيه وجهين: أولهما: لا يفضض الله فاك، بفتح الياء وضم الضاد الأولى وكسر الثانية، والآخر: ولا يفض الله فاك، بضم الياء وحذف الضاد الثانية للجزم. ثم أشار إلى أن من قال: لا يفضض الله فاك، مشتق من فضضت الشيء: إذا كسرته وفرقته.
وما يهمنا إشارته إلى أن العامة تلحن في هذا، فتقول: لا يفضض الله فاك، بضم ياء المضارعة من (يفعل)، في (فعل يفعل) وكسر عين المضارع أيضًا؛ ومن ثم كان نصه على أن الصواب فتح الياء، وضم الضاد الأولى، مستشهدًا بأن لغة النبي – صلى الله عليه وسلم -: لا يفضض الله فاك، بفتح الياء وضم الضاد الأولى وكسر الثانية، وذلك في رده – صلى الله عليه وسلم- على النابغة الجعدي على نحو ما تقدم، وهو ما أقرته المعاجم.
فقد قال الجوهري: الفض: الكسر بالتفرقة، وقد فضه يفضه، وفضضت ختم الكتاب. وفي الحديث: "لا يفضض الله فاك"، ولا تقل بكسر: لا يفضض"([26])؛ ومن ثم يكون تصحيح ابن الأنباري في محله، وهو ما يسهم في مقاومة لحن العامة.
فيما يتصل بضم ياء المضارعة في (فعل يفعل):
وذلك ما جاء في تعليقه على قولهم: (هذا الأمر لا يعنيني)، فقال: "قال أبو بكر: معناه: لا يشغلني، يقال: عناني الشيء يعنيني: إذا شغلني... ويقال: الشيء لا يعنيني، بفتح الياء، ولا يقال: يعنيني، بضم الياء، قال الشاعر:
إن الفتى ليس بقميه ويقمعه
إلا تكلفه ما ليس يعنيه"([27]).
وهو ما يتضح من خلاله أن ابن الأنباري قد أشار إلى أن قولهم: (هذا الأمر لا يعنيني)، معناه: لا يشغلني، ثم أشار إلى أنه لا يقال: يعنيني: بضم الياء، فالصواب أن يقال: عناني الشيء يعنيني: إذا شغلني... ويقال: الشيء لا يعنيني، بفتح الياء، ثم استشهد بما ورد في الشعر العربي، على نحو ما سبق.
هذا، وقد جاء في الحديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه أي لا يهمه،
وفي الحديث عن عائشة، رضي الله عنها: كان النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا اشتكى أتاه جبريل، فقال بسم الله أرقيك من كل داء يعنيك، من شر كل حاسد ومن شر كل عين؛ قوله يعنيك أي يشغلك. ويقال: هذا الأمر لا يعنيني أي لا يشغلني ولا يهمني". وأنشد:
عناني عنك، والأنصاب حرب، كأن صلابها الأبطال هيم
أراد شغلني؛ وقال آخر: لا تلمني على البكاء خليلي، إنه ما عناك قدمًا عناني، وقال آخر: إن الفتى ليس يعنيه يقمعه إلا تكلفه ما ليس يعنيه أي لا يشغله، وقيل: معنى قول جبريل، عليه السلام، يعنيك أي يقصدك. يقال: عنيت فلانًا عنيًا أي قصدته، ومن تعنى بقولك أي من تقصد وعناني أمرك أي قصدني؛ وقال أبو عمرو في قول الجعدي: وأعضاد المطي عواني، أي عوامل وقال أبو سعيد: معنى قوله عواني أي قواصد في السير وفلان تتعناه الحمى أي تتعهده، ولا تقال هذه اللفظة في غير الحمى ويقال: عنيت في الأمر أي تعنيت فيه، فأنا أعني وأنا عن، فإذ سألت قلت: كيف من تعني بأمره؟ مضموم؛ لأن الأمر عناه، ولا يقال كيف من تعني بأمره"([28]).
وهو الأمر الذي ينبغي أن يكون عليه كثير من العامة في وقتنا هذا قائلين: الشيء لا يعنيني، بفتح الياء، ولا يقال: يعنيني، بضم الياء؛ لئلا ينحرف اللسان العربي عن القياس، فيما كان على (فعل، يفعل)، بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع، نحو ضرب يضرب، ورمى يرمي، وطوى يطوي.
فيما يتصل بضم عين الماضي في (فعل يفعل):
من المعلوم أن بناء (فعل يفعل) يأتي لازمًا، نحو سكت يسكت، دالًا على الهدوء والسكون وغير ذلك، ويأتي متعديًا، نحو قتل يقتل، ورعف يرعف، دالًا في أكثره على المغالبة ، بالإضافة إلى غير ذلك من المعانى، نحو الاعتداء والإيذاء والرفعة والإعطاء.. الخ([29]).
هذا، وقد عرض ابن الأنباري للتصويب الصرفي – باعتباره جديلة من جدائل التصويب اللغوي- فيما يتصل ببناء (فعل يفعل)، في تعليقه على قولهم: (قد أصاب فلانًا الرعاف)، فقال: "قال أبو بكر: معناه في كلام العرب: الدم السابق السائل. يقال: قد رعف فلان أصحابه: إذا سبقهم في السير، وقد جاء راعفًا، أي: سابقًا. قال الأعشى:
به تزعف الألف إذ أرسلت
غداة الصباح إذا النقع ثارا
معناه: يسبق الألف، ويتقدمهم. ويقال: رعف الرجل، بفتح العين، يرعف، فهو راعف، ولا تضم العين في الماضي"([30]).
ومن خلاله يتضح لنا أن عين (فعل) الذي مضارعه (يفعل) لا تضم في الماضي، فلا يقال: رعف أو شكر أو خرج، والصواب فتحها، فيقال: رعف، شكر، خرج. فعلى الرغم من تصريح الجوهري بأن (رعف) لغة ضعيفة([31])، فإنني أوافق ابن الأنباري على عدم صحة الضم، قال الأزهري: "أبو عبيد عن الأصمعي: رعف يرعف، ورعف يرعف، هكذا رواه عنه. وقال أبو عبيد: الرعف: السبق، رعفت أرعف... أبو حاتم عن الأصمعي يقال: رعف يرعف ويرعف، ولم يعرف رعف ولا (رعف) في فعل الرعاف"([32]).
ثالثًا- التصويب في المشتقات:
بين اسم الفاعل والمفعول:
جاء التصويب الصرفي في باب المشتقات لدى ابن الأنباري في (الزاهر) في موضع واحد، صدد تعليقه على قولهم: (إن عذابك الجد بالكفار ملحق)، فقال: "الجد، بكسر الجيم: الحق. والمعنى: إن عذابك الحق الذي ليس بهزل. ولا يجوز: الجد، بفتح الجيم في هذا الموضع، للعلة التي تقدمت في قوله: ولا ينفع ذا الجد منك الجد. و في (ملحق) ثلاثة أقوال: قال أبو عبيد: الرواية([33]): ملحق، بكسر الحاء، معناه: إن عذابك لاحق؛ يقال: ألحقت القوم، بمعنى: لحقت القوم؛ وكذلك أتبعت القوم، بمعنى: تبعتهم؛ قال الله عز وجل: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}([34])، معناه: فتبعه شهاب ثاقب... قال أبو بكر: قال لي أبي: سمعت الحسن بن عرفة([35]) قال: قال القسم بن معن([36]): ملحق، بفتح الحاء، أصوب من ملحق. ذهب إلى هذا المعنى: ألحقهم الله عذابه: أنشد النحويون:
ألحق عذابك بالقوم الذين طغوا
وعائذًا بك أن يعلوا فيطغوني
والوجه الثالث: إن عذابك بالكفار لاحق، قال أبو بكر : ولا نحب هذا القول؛ لأنه يخالف الإجماع"([37]).
وهو ما يتضح من خلاله أن ابن الأنباري يرى فيما رواه عن أبيه أن الصواب (ملحق) بصيغة اسم المفعول، فمن المعلوم أن الفعل (ألحق يلحق) فهو ملحق، واسم الفاعل ملحق، ووجه الصواب هنا في أن وضع الصيغة موضعها راجع إلى المعنى، أي: ألحقهم الله عذابه – وهو ما نؤيده – وهو ما يؤيده أيضًا بيت الشعر المذكور آنفًا.
هذا، وقد أضاف ابن الأنباري أيضًا أنه يجوز: إن عذابك بالكفار لاحق، لكنه لا يؤدي هذا الوجه، من جهة مخالفته الإجماع، في أن العذاب لا يلحق، وإنما يلحق فهو ملحق، وهو ما يتضمن أن كلمة (لاحق) اسم فاعل من الثلاثي المجرد (لحق).
التصويب في اسم المكان:
مما لا شك فيه أن كلا من اسم المكان والزمان اسمان مشتقان من الفعل أو من المصدر؛ للدلالة على زمان وقوع الفعل أو مكانه([38]). وقد جاء التصويب اللغوي لدى ابن الأنباري فيما يتصل باسم المكان في تعليقه على قول العامة: (قد مضى فلان إلى المأصر)، فقال: "العامة تخطيء فيه، فتفتح الصاد، والصواب كسرها. ومعنى (المأصر) في اللغة: الموضع الحابس، من قولهم: قد أصرت فلانًا على الشيء أصره أصرًا: إذا حبسته عليه، وعطفته. يقال: ما تأصرني على فلان آصرة، أي: ما تحبسني عليه حابسة، ولا تعطفني عليه عاطفة... والإصر، بكسر الهمزة: الثقل... والإصر أيضًا: العهد"([39]).
وهو ما يتضح من خلاله إشارة ابن الأنباري إلى أن العامة تخطئ في (المأصر) فيفتحون الصاد قائلين: (قد مضى فلان إلى المأصر)، والصواب كسرها، فمن المعلوم أن (المأصر) اسم مكان، على وزن (مفعل)، من الفعل الثلاثي الصحيح (أصر)، على وزن (فعل) المكسور العين في المضارع (يأصر)؛ ولذلك فإن اسم المكان منه يأتي على مثال (مفعل)، إلا إذا كان معتل الآخر، فإنه يصاغ على (مفعل) ([40])؛ ومن ثم كانت إشارة ابن الأنباري إلى أن نطق الكلمة بالفتح من غير الصحيح صرفيًا، ففسر (المأصر) في اللغة بأنه الموضع الحابس.
ومن المعروف في الدرس الصرفي أن اسم المكان من غير الثلاثي يأتي على وزن المضارع مع إبدال حرف المضارعة ميمًا مضمومة وفتح ما قبل الآخر، والفعل موضع الحديث ليس من غير الثلاثي، أضف إلى ذلك أن التغيير الذي أشار إليه ابن الأنباري إنما هو للتغيير في المعنى، قال سيبويه: "أما ما كان من فعل يفعل، فإن موضع الفعل مفعل، وذلك قولك: هذا محبسنا، ومضربنا، ومجلسنا، كأنهم بنوه على بناء يفعل، فكسروا العين كما كسروها في يفعل"([41]).
رابعًا – التصويب فيما يتصل بالجمع:
جاء التصويب الصرفي لدى ابن الأنباري فيما يتصل بالجمع، في ثلاثة مواضع([42])، يمكن تناولها كما يأتي:
في جمع (فاعل):
من المعلوم في الدرس الصرفي أن ما كان (فاعلًا) فإنك تكسره على (فعل)، وذلك قولك: شاهد المصر، وقوم شهد، وبازل وبزل... ويكسرونه أيضًا على (فعال)، وذلك قولك: شهاد، وجهال، وركاب... ويكسرونه على (فعلة)، وذلك نحو: فسقة، وبررة، وجهلة..." ([43]).
وقد جاء التصويب في جمع (فاعل) لدى ابن الأنباري في تعليقه على قولهم: (إنما هم أكلة رأس)، فقال: "قال أبو بكر : معناه عددهم قليل، فكأنهم لو اجتمعوا على أكل رأس لكان كافيًا لهم. والعامة تلحن في هذا، فتسكن الكاف منه، والصواب: أكلة، بفتح الكاف، جمع: آكل. ويقال: آكل وأكلة وآكلون، كما يقال: كافر وكفرة وكافرون، وكامل وكملة وكاملون"([44]).
وهو ما يتضح من خلاله أن تسكين الكاف من (أكلة) في قولهم: (إنما هم أكلة رأس) خطأ؛ لأن أكله، بفتح الكاف، جمع آكل، ونظيره كافر وكفرة وكافرون، وكامل وكملة وكاملون، وهو ما نقله ابن فارس عن أبي عبيد، أضف إلى ذلك أن (الأكلة) المرة الواحدة حتى يشبع...وتقول: أكلت أكلة واحدة أي لقمة([45]).
في جمع (فعل):
يشير الدرس الصرفي إلى أن "ما كان من الأسماء على ثلاثة أحرف، وكان (فعلًا) فإنك إذا ثلثته إلى أن تعشره، فإن تكسيره (أفعل)، وذلك قولك: كلب وأكلب... فإذا جاوز العدد هذا البناء قد يجيء على (فعال) وعلى (فعول)، وذلك قولك: كلاب وكباش وبغال. وأما الفعول فنسور وبطون، وربما كانت فيه اللغتان، فقالوا فعول وفعال، وذلك قولهم: فروخ وفراخ... وربما جاء (فعيلًا)، وهو قليل، نحو: الكليب والعبيد. والمضاعف يجري هذا المجرى، وذلك قولك: ضب وأضب وضباب"([46]).
ولما كان ذلك كذلك، فقد جاء في تعليق ابن الأنباري على قولهم: (أكل فلان العراق)، ما نصه: "قال أبو بكر: قال أبو عبيد: العراق: الفدرة من اللحم... وقال ابن قتيبة: العراق العظام... قال: و(العراق) جمع: العرق، بمنزلة قولهم: ظئر وظؤار، وربى ورباب: للشاة التي تكون في منزل القوم، يحلبونها وليست سائمة... والعراق في المصادر بمنزلة قولهم: سكت سكاتًا، وصمت صماتًا، وصرخ صراخًا.. و"العرق" بمنزلة "العراق"، مصدر لعرقت، ولا يجوز أن يكون واحد "العراق" على ما ذكر ابن قتيبة؛ لأنه لم يؤثر عن العرب "فعال" في جمع فعل"([47]).
فقد بين ابن الأنباري أن معنى العراق: الفدرة من اللحم أو هي العظام، ثم تطرق إلى ما أدلى به ابن قتيبة، حيث رأى ابن قتيبة أن (العراق) جمع: العرق، بمنزلة قولهم: ظئر وظؤار، وهو ما نفاه ابن الأنباري معللًا ذلك بأنه لم يرد عن العرب "فعال" في جمع فعل، وهو ما نؤيده، بناء على ما بين أيدينا من موروث لغوي، على الرغم من قول الأزهري في تهذيبه: العرق جمعه عراق، وهي العظام التي اعترق منها هبر اللحم، وبقي عليها لحوم رقيقة طيبة، فتكسر وتطبخ([48]).
في جمع (فعل):
فيما يتصل بجمع ما كان على مثال (فعل) أشير إلى أن "ما كان على ثلاثة أحرف، وكان (فعلًا)، فإنك تكسره على أفعال من أبنية أدنى العدد، وهو قياس غير المعتل. فإذا كان كذلك، فهو في هذا أجدر أن يكون، وذلك قولك: فيل وأفيال، وجيد وأجياد، وميل وأميال. فإذا كسرته على بناء أكثر العدد قلت (فعول)، كما قلت: عذوق وجذوع، وذلك قولك: فيول وديوك وجيود. وقد يقتصرون في هذا الباب على (أفعال)، كما اقتصروا على ذلك في باب فعل وفعل من المعتل... وقالوا في (فعل) من بنات الواو: ريح وأرواح ورياح، ونظيره أبار وبئار"([49]).
وبناء على ذلك، فقد جاء تعليق ابن الأنباري على قولهم: (قد هبت الريح)، فقال: "قال أبو بكر: قال بعض أهل اللغة : إنما سميت الريح ريحًا؛ لان الغالب عليها في هبوبها المجيء بالروح والراحة، وانقطاع هبوبها يكسب الكرب والغم والأذى، فهي مأخوذة من الروح. وأصلها: روح، فصارت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، كما فعلوا مثل ذلك في الميزان والميعاد والعيد، والدليل على ذلك أن أصل "ريح": روح، قولهم في الجمع: أرواح، ولو كانت الياء صحيحة في "الريح" لقيل في الجمع: أرياح، و"أرياح" خطأ لا تتكلم العرب به: قال زهير:
قف بالديار التي لم يعفها القدم
بلى وغيرها الأرواح والديم"([50]).
وهو ما يتضح من خلاله أن ابن الأنباري قد بين سبب تسمية الريح بهذا الاسم، ثم بين أصلها الاشتقاقي بأنها مأخوذة من (الروح)، وأن أصلها: روح، فصارت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، كما فعلوا مثل ذلك في الميزان والميعاد والعيد.
وفي سبيل التدليل على ذلك أشار إلى أنهم يقولون في الجمع: أرواح، ولو كانت الياء صحيحة في "الريح" لقيل في الجمع: أرياح، ثم تدرج في هذا التدليل، فبين أن (أرياحًا) خطأ، لا تتكلم به العرب، ومن ثم يجب عدم التكلم به، واستشهد على صحة ذلك بالبيت السابق لزهير، حيث ورود كلمة (الأرواح) جمعًا للريح، وهو ما يؤيده الدرس اللغوي، الذي يخبرنا بأن حكاية أرياح وأرايح شاذ، وهو ما أنكره أبو حاتم وغيره([51]).
خامسًا- التصويب في باب النسب:
مما لاشك فيه أن النسب ظاهرة صرفية تعني إضافة ياء مشددة مكسور ما قبلها علامة للنسب إليه بآخر الاسم المراد منه الدلالة على اتصافه بما يراد نسبه إليه، قال سيبويه: "إنك إذا أضفت رجلًا فجعلته من آل ذلك الرجل ألحقت ياءي الإضافة، فإن أضفته إلى بلد فجعلته من أهله ألحقت ياءي الإضافة، وكذلك إن أضفت سائر الأسماء إلى البلاد، أو إلى حي أو قبيلة"([52]).
هذا، وقد جاء التصويب الصرفي في باب النسب لدى ابن الأنباري في (الزاهر) في موضع واحد، في سياق تعليقه على قولهم: (فلان أعرابي)، فقال: "قال أبو بكر: قال الفراء: الأعراب: أهل البادية، والعرب: أهل الأمصار، فإذا نسب الرجل إلى أنه من أعراب البادية قيل: أعرابي. قال الفراء: ولا تقول: عربي؛ لئلا يلتبس بالنسبة إلى أهل الأمصار. قال الفراء: وإذا نسبت رجلًا إلى أنه يتكلم بالعربية، وهو من العجم، قلت: رجل عرباني، وإنما سميت العرب عربًا؛ لحسن بيانها في عبارتها، وإيضاح معانيها، من قول العرب: قد أعربت عن القوم: إذا تكلمت عنهم، وأبنت معانيهم"([53]).
فمن خلال هذا النص يتبين لنا – فيما نقله ابن الأنباري عن الفراء- أننا إذا نسبنا رجلًا إلى أعراب البادية، لا نقل: إنه عربي، بل نقول: أعرابي. وقد علل الفراء ذلك بعدم التباسه بالنسبة إلى أهل الأمصار – وهو ما أؤيده، على الرغم من مخالفته القياس – وهو الأمر الذي يؤيده الواقع اللغوي، يقول سيبويه: "وتقول في الأعراب: أعرابي؛ لأنه ليس له واحد على هذا المعنى، ألا ترى أنك تقول: العرب، فلا تكون على هذا المعنى؟ فهذا يقويه"([54]).
ويقترب منه قوله أيضًا: "فمن ذلك قولهم في الطويل الجمة: جماني، وفي الطويل اللحية: اللحياني، وفي الغليظ الرقبة: الرقباني. فإن سميت برقبة أو جمة أو لحية، قلت: رقبي ولحيي وجمي ولحوي؛ وذلك لأن المعنى قد تحول، إنما أردت حيث قلت جماني الطويل الجمة، وحيث قلت: اللحياني الطويل اللحية، فلما لم تعن ذلك أجري مجرى نظائره التي ليس فيها ذلك المعنى"([55]).
وفيما سبق ما يدل على موافقة ابن الأنباري الفراء، فيما طرحه من تصويب في باب النسب، مرجعه مراعاة الفرق في المعنى عند النسب إلى من يتكلم العربية، سواء أكان من أهل البادية، أم كان من أهل الأمصار، أم كان أعجميًا، فلكل لفظ للنسب إليه، يمكن إقراره وإضافته إلى قواعد النسب وعدم عده من شواذ النسب.
سادسًا – التصويب في باب المقصور:
لا شك في أن الاسم المقصور اسم متمكن، معرب؛ ومن ثم اهتم به علم الصرف، فعرف بأنه الاسم المتمكن، الذي آخره ألف لازمة، كالمغني والرحى- والعصا، وله نظير من الصحيح، وهذه الألف مفردة، احترازًا عن الممدود؛ لأنها في الأصل ألفان، قلبت الثانية همزة، والممدود هو ذلك الاسم المتمكن، الذي آخره همزة بعد ألف زائدة، نحو كساء ورداء، وله نظير من الصحيح([56]).
وهنا يحضرني قول أستاذي الدكتور محمد حماسة: "والمقصور والممدود نوعان من الأسماء المتمكنة، فلا يطلقان اصطلاحًا على الاسم المبني، ولا على الفعل، ولا على الحرف"([57])، أي أن مهمة الصرفيين أن يبحثوا في الأسماء المقصورة والممدودة قياسيًا؛ لأن السماع مهمة المشتغلين بجمع اللغة، أضف إلى ذلك أنه ليست له قاعدة تضبطه. والمقصور يأتي على صور مختلفة، فقد يأتي والمعنى مختلف، وهو الغالب، كالهوى والهواء والثرى والثراء والعشا والعشاء... الخ، ويأتي والمعنى واحد، كالقرى والقراء، بمعنى إطعام الضيف والإحسان إليه، والجري والجراء، بمعنى نعمة الشباب ومتعته... الخ([58]).
وقد جاء التصويب الصرفي لدى ابن الأنباري فيما يتصل بالمقصور، في تعليقه على قولهم: (قد ضربته بالعصا)، فقال: قال أبو بكر: قال أبو العباس: روى الأصمعي عن بعض شيوخ البصريين أنه قال: إنما سميت العصا: عصا؛ لأن اليد والأصابع تجتمع عليها. وقال: هو مأخوذ من قول العرب: قد عصوت القوم أعصوهم: إذا جمعتهم على خير أو شر. ولا يجوز مد العصا، ولا إدخال التاء معها، قال الراجز:
ربيته حتى إذا تمعددا
كأن جزائي بالعصا أن أجلدا
ويقال: أول لحن سمع بالعراق: عصاتي، بالتاء"([59]).
فمن خلال هذا النص تتضح لنا إشارة ابن الأنباري – فيما نقل عن الأصمعي، وهو ما أوافقه عليه – إلى أن الاسم المقصور (عصا) مأخوذ من قول العرب: قد عصوت القوم أعصوهم: إذا جمعتهم على خير أو شر، ولا يجوز مده، أو إلحاق التاء به؛ وبناء على ذلك عد اللغويون قول من قالوا من أهل العراق: عصاتي، بالتاء، من باب اللحن في اللغة، وهو ما لم يأت به القرآن في قوله تعالى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}.
قال ابن السكيت: "وتقول: هذه عصاي، قال الله وجل، وعز: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}. وزعم الفراء أن أول لحن سمع بالعراق: هذه عصاتي"([60])، وهو ما وجد بالعامية المصرية – على سبيل المثال – فهم يلحقون بآخر كلمة (عصا) الياء والتاء، فيقال: أين عصايتي، وهو خطأ، والصواب: أين عصاي([61])؛ ومن ثم، فان لمثل هذه التنبيهات- على نحو ما جاء به ابن الأنباري وغيره – أهميتها في مقاومة لحن العامة.
المبحث الثاني
التصويب النحوي
جاءت ملامح التصويب النحوي في كتاب الزاهر متصلة باللازم والمتعدي، والإضافة والاقتصار على وجه واحد في الممنوع من الصرف، والإخلال بالتركيب اللغوي، وفيما يلي عرض لهذه الأمور:
أولًا- اللازم والمتعدي:
ما يتعدى وما لا يتعدى:
فيما يتصل بالتصويب النحوي في هذا الصدد نلاحظ أنه قد ورد في أربعة مواضع، على مدار كتاب الزاهر([62])، ففي تعليق ابن الأنباري على قولهم: (فلان سفيه) قال: قال أبو بكر: معناه فلان قليل الحلم. والسفه عند العرب خفة الحلم. قال بعض أهل اللغة: من ذلك قولهم: ثوب سفية: إذا كان خفيفًا رقيقًا ومن ذلك قول ذي الرمة:
وأبيض موشي القميص عصبته
على ظهر مقلات سفيه جديلها
الجديل: الزمام، والمعنى: خفيف زمامها، مسرع... ويقال: سفه عبد الله، وسفه عبد الله، وسفه عبد الله رأيه، ولا يجوز سفه عبد الله رأيه، بضم الفاء مع النصب؛ لأن "فعل" لا ينصب، و"فعل" ينصب؛ وذلك أنك تقول: علم عبد الله علمًا، ولا تقول: كرم عبد الله أخاك"([63]).
فابن الأنباري في هذا النص قد أشار إلى قول الناس (سفه عبد الله، وسفه عبد الله، وسفه عبد الله رأيه)، وذلك معناه أن (فعل) يأتي لازمًا ومتعديًا، أما (فعل) بضم الفاء، فلا يأتي إلا لازمًا؛ ومن ثم كان من اللازم تصويب قولهم: (سفه عبد الله رأيه) بضم الفاء، ونصب كلمة (رأيه) على أنها مفعول به، وهو ما يترتب عليه تنقية كلام العامة من الخلط بين ما يأتي لازمًا وما يأتي متعديًا، وما يأتي لازمًا حينًا، ويأتي متعديًا حينًا آخر([64]).
ما يتعدى بنفسه ولا يتعدى بالهمزة:
جاء ذلك في (الزاهر) منقولًا عن (الأصمعي)، في سياق تعليق ابن الأنباري على قولهم: (قد طلق فلان فلانة ثلاثًا بتة)، فقال: "قال أبو بكر: معناه: قاطعة، أي: قطعت الثلاث حبائلها من حبائله. قال الفراء: يقال: أبتت على فلان القضاء، وبتت، أي: قطعت. وقال الأصمعي: لا يقال: أبتت، بالألف، ولكن يقال: بتت، بغير ألف"([65]).
وهو ما يتضح من خلاله نقل ابن الأنباري عن الفراء والأصمعي دون ترجيح لأحدهما عن الآخر أو إبداء وجهة نظره. فالفراء يرى أن الفعل (بت) يتعدى بالهمزة، ويتعدى بنفسه، أما الأصمعي فيشير إلى أنه من غير الصحيح نحويًا أن يقال: أبتت، بالألف؛ ومن ثم كان لابد من نصه على هذا التصويب، فأتبعه بقوله: ولكن يقال: بتت، بغير ألف.
وهنا أشير إلى أن مثل هذه الخلافات مما يوقع العامة في الخطأ، ويجعلهم على صواب بناء على رأي الفراء – مثلًا – أو يجعلهم على خطأ، على رأي الأصمعي، كما هو الحال في هذا الموضع، وهو ما يجعلني أقول: كان من الواجب على ابن الأنباري أن يتدخل هنا فيحسم المسألة، لاسيما أن وضع الألف أو عدم وضعها هو ما يترتب عليه وضع الكلمة في غير موضعها([66])، مما لا يمنع من الإشارة هنا إلى أن ابن الأنباري قد حسم الأمر في موضع من هذه المواضع، فقال: "وكذلك تخطيء العامة، فيقول الرجل منهم للرجل: أوعدني موعدًا أقف عليه. وهذا خطأ في كلام العرب؛ وذلك أنهم يقولون: قد وعدت الرجل خيرًا، وأوعدته شرًا. فإذا لم يذكروا الخير قالوا: وعدته، فلم يدخلوا ألفًا، وإذا لم يذكروا الشر قالوا: أوعدته، ولم يسقطوا الألف، قال الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته
لأخلف إيعادي وأنجز موعدي"([67])
أي أن الفعل (وعد) بدون الألف يأتي في الخير، فيقال: قد وعدت الرجل خيرًا، أو يقال: وعدته، أما الفعل (أوعد) بالألف فيأتي في الشر، فيقال: أوعدته شرًا، أو يقال: أوعدته. أما عن (بتت وأبتت)، فيمكن القول: إن كلا منهما صحيح في تعديته، فهو يتعدى بنفسه وبالهمزة، فيقال: بتت الحبل، فأنبت، وأبتت. وعن ابن سيده: بت الشيء يبته، ويبته بتًا، وأبته: قطعه قطعًا مستأصلًا، فهما لغتان مستعملتان([68]).
جـ- وقوع فعل على فعل:
أشار ابن الأنباري إلى هذا الأمر وكونه خطأ في سياق تفسيره قولهم: "شراب سلسال".
فقال: قال أبو بكر: معناه: عذب، سهل الدخول في الحلق، وفيه لغات: شراب سلسال.
وسلسل، وسلسبيل، قال أبو كبير:
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره
أشهى إلي من الرحيق السلسل
وقال الله جل وعلا: {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا}([69])، فيجوز أن يكون "سلسبيل" اسمًا للعين، فنون وحقه ألا يجري؛ لتعريفه وتأنيثه؛ ليكون موافقًا رؤوس الآيات المنونة، إذ كان التوفيق بينها أخف على اللسان، وأسهل على القارئ ويجوز أن يكون "سلسبيل" صفة للعين ونعتًا، فإذا كان وصفًا زال عنه ثقل التعريف، فاستحق الإجراء... وقال سعيد بن المسيب: هي عين تجري من تحت العرش، في قضيب من ياقوت. وقال بعض المفسرين: معنى "سلسبيلًا": سل ربك سبيلًا إلى هذه العين، قال أبو بكر: وهذا عندنا خطأ؛ لأنه لو كان كذلك، لقطعت اللام من السين، ولم توصل بها، ولبقى تسمى غير واقع على منصوب، وسبيله أن يصحبه المنصوب، كقولك: المرأة تسمى هندًا، والجارية تسمى جملًا، وغير جائز أن يقع على "سل"؛ لأن "سل" فعل معناه الأمر، ولا يقع فعل على فعل، فخلا (تسمى) من المنصوب، واتصال اللام بالسين أكبر دليل على غلط القوم، وأوضح برهان على أنها حرف واحد، لا ينفصل بعضه عن بعض"([70]).
فأنت ترى ابن الأنباري في هذا النص قد عرض لكون كلمة "سلسبيل" اسمًا للعين أو نعتًا لها، ثم بين غلط بعض المفسرين في القول بأن معنى "سلسبيلًا" سل ربك سبيلًا إلى هذه العين، وعلة ذلك – وهو ما أوافقه عليه- أنه لو كان كذلك، لقطعت اللام من السين، ولم توصل بها، ولبقي الفعل "تسمى" غير واقع على منصوب، في الوقت الذي ينبغي أن يكون له منصوب؛ لأنه فعل يتعدى إلى المفعول، كقولنا: المرأة تسمى هندًا، والجارية تسمى جملًا، فكل من (هند، والجمل) مفعول به للفعل (تسمى)، وغير جائز أن يقع على "سل"؛ لأن "سل" فعل معناه الأمر، ومن المعلوم نحويًا أنه لا يقع فعل على فعل، بالإضافة إلى أن الفعل "تسمى" يكون بذلك قد خلا من المنصوب، ثم بين أن اتصال اللام بالسين أكبر دليل على غلط القوم، وأوضح برهان على أنها حرف واحد، لا ينفصل بعضه من بعض، وهو الأمر الذي من شأنه القضاء على كل سبيل من سبل تطرق هذه الفكرة إلى العامة؛ ومن ثم يكون مقاومة اللحن لديهم.
فالمعروف أن "سلسبيل صفة للعين بالسلسبيل، وقال بعضهم: إنما أراد عينًا تسمى سلسبيلًا؛ أي: تسمى من طيبها، أي: توصف للناس"([71])، وهو ما أرجحه، على الرغم من قول الفراء: "ذكروا أن السلسبيل اسم للعين، وذكر أنه صفة للماء لسلسلته وعذوبته، ونرى أنه لو كان اسمًا للعين لكان ترك الإجراء فيه أكثر، ولم تر أحدًا من القراء ترك إجراءها، وهو جائز في العربية، كما كان في قراءة عبد الله. {ولا تَذَرُنَّ ودًا ولا سُوَاعًا ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًا} بالألف. وكما قال (سلاسلًا)، و(قواريرًا) بالألف، فأجروا ما لا يجري، وليس بخطأ؛ لأن العرب تجري ما لا يجري في الشعر، فلو كان خطأ ما أدخلوه في أشعارهم"([72]).
ثانيًا – التصويب في باب الإضافة:
لما كان المقصود من الإضافة نحويًا النسبة، فإنه يمكن الإشارة إلى أنها نسبة تقييدية بين اسمين، توجب لثانيهما الجر أبدًا"([73])، أو أنها نسبة اسم إلى غيره على تنزيل الثاني من الأول منزلة تنوينه أو ما يقوم مقام تنوينه"([74]).
ومما لاشك فيه أن الإضافة من أبواب النحو العربي، لها أقسام كثيرة، يضيق المقام بحصرها، ناهيك عن فوائدها. وقد جاء تصويب ابن الأنباري في هذا الباب في تعليقه على قولهم: (طوباك إن فعلت كذا وكذا)، فقال: قال أبو بكر: هذا مما تلحن فيه العوام، والصواب: طوبى لك إن فعلت كذا وكذا، قال الله عز وجل: {طُوبَى لَهُمْ وحُسْنُ مَئَابٍ}([75]). واختلف الناس في معنى طوبى، فقال أهل اللغة: طوبى لهم معناه: خير لهم... وقال أبو هريرة: طوبى: شجرة في الجنة..." ([76]).
وهو ما يتضح من خلاله أن ابن الأنباري قد أشار إلى أن العوام يلحنون في قولهم: (طوباك إن فعلت كذا وكذا)، بإضافة كلمة (طوبى) إلى ضمير المخاطب، ثم بين أن الصواب: طوبى لك إن فعلت كذا وكذا، ولم يكتف بذلك، بل عضد رأيه الموافق لما عليه الفصحى بقوله تعالى: {طُوبَى لَهُمْ وحُسْنُ مَئَابٍ}، مما يؤكد أن كلمة (طوبى) لا تضاف إلى ضمير المخاطب، بل يتوصل إلى هذا الضمير باللام، وطوبى على مثال فعلى، من الطيب، بمعنى العيش الطيب لهم، أو خير لهم([77])، وهي ممنوعة من الصرف، قال الزجاج: "وتقول: كل فعلي في الكلام لا تنصرف"، ولا تحتاج إلى أن تقول كانت ألفها لتأنيث؛ لأنها لم تقع في الكلام إلا للتأنيث، نحو أنثى وخنثى وطوبى ورجعى، فإنما تقول: "كل فعلي في الكلام لا تنصرف" ولا تنون فعلي"([78]).
ثالثًا – التصويب في باب الممنوع من الصرف:
من المعروف في الدرس النحوي أن الكلمة تمنع من الصرف لعلة من العلل التي ذكرها النحاة([79])، وقد جاء تصويب ابن الأنباري لما تلحن فيه العامة في هذا الشأن، من باب اقتصارهم على وجه واحد، من حيث صرف الكلمة أو منعها من الصرف، وذلك في تعليقه على قولهم: (افعل كذا وكذا إذا هلك الهلك، وإن هلك الهلك)، فقال: قال أبو بكر: العامة تخطئ في هذا فتقول: إن هلك الهلك، والعرب تقول: افعل كذا وكذا إما هلكت هلك، بالإجراء، وهلك، بلا إجراء، وهلكه، بالإضافة. يريدون: افعله على ما خيلت، أخبرنا ابو العباس عن الفراء: ومعنى خيلت: أرت وشبهت. وحدثنا أحمد بن الهيثم قال: حدثنا شعبة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: ذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- الدجال، فقال: (أعور جعد هجان، كأن رأسه أصلة، أشبه الناس بعبد العزى بن قطن، ولكن الهلك كل الهلك أن ربكم ليس بأعور)، وفي غير هذه الرواية: فإن هلكت هلك، وفي رواية أخرى: فإن هلكت هلك"([80]).
فابن الأنباري في هذا النص يريد توجية الأنظار إلى ضرب من لحن العامة، وهو اقتصارهم على وجه الإجراء (الصرف) في كلمة (الهلك) أو (الهلك) جمع (هالك)، في قولهم: (افعل كذا وكذا إذا هلك الهلك، وإن هلك الهلك)، أي: افعل كذا وكذا على ما خيل وشبه لك، وإن هلك به الهالكون([81])؛ وهناك من يسبقونها بالألف واللام للتعريف، ولا يضيفونها، وهو ما يتفق مع واقع اللغة.
هذا، وقد علل ابن الأنباري اللحن في هذا الاقتصار على وجه الإجراء بما ورد عن العرب من أنهم يقولون: افعل كذا وكذا إما هلكت هلك، بالإجراء، أي بصرف الكلمة منونة، ويقولون: افعل كذا وكذا إما هلكت هلك، بلا إجراء، أي بمنعها من الصرف، فلا تنون ولا تضاف، ويقولون أيضًا: افعل كذا وكذا إما هلكت هلكه، بإضافة كلمة (هلك) إلى الضمير.
ولم يكتف ابن الأنباري بذلك، بل أيد كلامه بحديث لمن لا ينطق عن الهوى، جاءت فيه الكلمة مصروفة، مسبوقة بالألف واللام، وفي روايتين له جاءت الكلمة مصروفة غير معرفة في إحداهما، وفي الأخرى جاءت ممنوعة من الصرف، مما يؤكد على خطأ العامة في الاقتصار على وجه واحد؛ ومن ثم فبقية الأوجه صحيحة، تدعمها الفصحى، فقد جاء في لسان العرب: "وافعل ذلك إما هلكت هلك، أي على كل حال، بضم الهاء واللام غير مصروف؛ قال ابن سيده: وبعضهم لا يصرفه، أي على ما خيلت نفسك ولو هلكت، والعامة تقول: إن هلك الهلك؛ قال ابن بري: حكى أبو علي عن الكسائي هلكت هلك، مصروفًا وغير مصروف. وفي حديث الدجال: وذكر صفته ثم قال: ولكن الهلك كل الهلك أن ربكم ليس بأعور، وفي رواية: فإما هلكت هلك فإن ربكم ليس بأعور؛ الهلك الهلاك، ومعنى الرواية الأولى الهلاك كل الهلاك للدجال؛ لأنه وإن ادعى الربوبية ولبس على الناس بما لا يقدر عليه الشر، فإنه لا يقدر على إزالة العور؛ لأن الله منزه عن النقائص والعيوب، وأما الثانية فهلك، بالضم والتشديد، جمع هالك، أي فإن هلك به ناس جاهلون وضلوا فاعلموا أن الله ليس بأعور، ولو روي: فإما هلكت هلك على قول العرب افعل كذا إما هلكت هلك وهلك بالتخفيف منونًا وغير منون، لكان وجهًا قويًا، ومجراه مجرى قولهم افعل ذلك على ما خيلت، أي على كل حال. وهلك: صفة مفردة بمعنى هالكة كناقة سرح وامرأة عطل، فكأنه قال: فكيفما كان الأمر فإن ربكم ليس بأعور، وفي رواية: فإما هلك الهلك فإن ربكم ليس بأعور. قال الفراء: العرب تقول افعل ذلك إما هلكت هلك، وهلك بإجراء وغير إجراء، وبعضهم يضيفه، إما هلكت هلكه، أي على ما خيلت، أي على كل حال"([82]).
رابعًا – الإخلال بالتركيب اللغوي:
من المعروف أن التراكيب لها أسس تبنى عليها، يجب الالتزام بها، ويعد الإخلال بها من باب اللحن في اللغة، أما الانحراف أو العدول عن المعتاد فيها – في إطار الصواب اللغوي لغرض ما، يتصل بالمعنى أو النسج – فلا يعد من باب اللحن الذي نحن بصدد العرض لبعض ملامح تصويبه.
وقد جاء تصويب ابن الأنباري فيما يتصل بالإخلال بالتركيب اللغوي في موضعين، أولهما في سياق عرضه قولهم: (هو ذا ألقى فلانًا)، فقال: "قال السجستاني: بعض أهل الحجاز يقولون: هو ذا، بفتح الهاء والواو، وهذا خطأ منه؛ لأن العلماء الموثوق بعلمهم اتفقوا على أن هذا من تحريف العامة وخطئها. والعرب إذا أرادت معنى: هو ذا، قالوا: ها أنا ذا ألقى فلانًا، ويقول الاثنان: ها نحن ذان نلقاه، ويقول الرجال: ها نحن أولاء نلقاه، ويقال للمخاطب: ها أنت ذا تلقى فلانًا، وللاثنين: ها أنتما ذان تلقيانه، وللجميع ها أنتم أولاء تلقونه، ويقال للغائب: هو ذا يلقاه، وللاثنين: ها هما ذان يلقيانه، وللجميع: ها هم أولاء يلقونه، ويبنى التأنيث على التذكير ... وإنما يجعلون المكنى بين "ها" و "ذا" إذا قربوا الخبر، فتأويل قول القائل: ها أنا ذا ألقى فلانًا: قد قرب لقائي إياه"([83]).
فابن الأنباري في هذا النص روى عن السجستاني أن أهل الحجاز يقولون: هو ذا، بفتح الهاء والواو ، وعدم الفصل بين (ها) و(ذا)؛ ومن ثم نص على أن هذا خطأ منه؛ لأن العلماء الموثوق بعلمهم اتفقوا على أن هذا من تحريف العامة وخطئها، مضيفًا أن العرب إذا أرادت معنى: هو ذا، قالوا: ها أنا ذا ألقى فلانًا، ويقول الاثنان: ها نحن ذان نلقاه، ويقول الرجال: ها نحن أولاء نلقاه ...الخ([84])، وهو ما يتضح من خلاله أن العرب الموثوق بهم يفصلون بين "ها" و "ذا" بالضمير (المكنى)؛ وذلك لغاية دلالية، مفادها تقريب الخبر الذي هو محط الفائدة.
وفي ذلك قال الفراء: "العرب إذا جاءت إلى اسم مكنى قد وصف بهذا وهاذان وهؤلاء فرقوا بين (ها) وبين (ذا)، وجعلوا المكنى بينهما؛ وذلك على جهة التقريب لا في غيرها. فيقولون: أين أنت؟ فيقول القائل: هأنذا، ولا يكادون يقولون: هذا أنا، وكذلك التثنية والجمع .... وربما أعادوا (ها) فوصلوها بذا وهذان وهؤلاء، فيقولون: ها أنت هذا، وها أنتم هؤلاء، وقال الله تبارك وتعالى في النساء: {هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
فإذا كان الكلام على غير تقريب أو كان مع اسم ظاهر جعلوا (ها) موصولة بذا، فيقولون: هذا هو، وهذان هما، إذا كان على خبر يكتفي كل واحد بصاحبه بلا فعل، والتقريب لابد فيه من فعل لنقصانه، وأحبوا أن يفرقوا بذلك بين معنى التقريب وبين معنى الاسم الصحيح"([85]).
أما الموضع الآخر فقد كان في سياق تعليقه على قولهم: (يصيب وما يدري، ويخطئ وما درى)، فقال: "قال أبو بكر: قال اللغويون: الصواب وما تتكلم به العرب: يصيب وما يدري ، ويخطئ وما درى، أي: ما ختل، من قولهم: دريت الظباء أدريها دريًا: إذا ختلتها. ومن هذا قولهم: قد داريت الرجل : إذا لاينته وختلته، أداريه مداراة. أنشدنا أبو العباس:
فإن كنت لا أدري الظباء فإنني
أدس لها تحت التراب الدواهيا"([86]).
وهو ما يتضح من خلاله أن ابن الأنباري يرى – نقلًا عن اللغويين – أنه من غير الصحيح أن نقول: (يصيب وما يدري، ويخطئ وما درى)، بالفصل بين الفعل (يخطئ) ومفعوله بحرف العطف، وذلك أن التركيب هنا ينبئ عن أن الفعل (يخطئ) فعل متعد واقع على ما يختل؛ ومن ثم فالصواب بإسقاط حرف العطف، وجعل (ما) موصولة، في محل نصب، على أنها مفعول به، وليست نافية، على نحو ما جاء عند العامة- وإن كان ابن الأنباري لم يصرح بلفظ العامة، لكنه مفهوم من الكلام- ومن ثم فجملة (درى) لا محل لها من الإعراب؛ لكونها صلة الموصول الحرفي (ما).
يتبع