ابو وليد البحيرى
2018-12-01, 12:00 AM
طبقات الفقهاء لابن كمال باشا (ت940ه)
دراسة وتحقيق
د. صلاح محمد سالم أبو الحاج ([·])
ملخص البحث:
هذه رسالة مختصرة في "طبقات الفقهاء " الحنفية لشيخ الإسلام ابن كمال باشا، وهي مشهورة جدا، ويكثر تداول الباحثين ما تضمنته من معلومات، لكنها مع شهرتها لم تنل تحقيقا علميا بمفردها، مما أحدث تصحيفا فيها، ونسبة أمور أخرى لها، فرأيت أهمية العناية بها وتحقيقها؛ لتتضح صورتها للباحثين، وقدمت قبلها دارسة موجزة عن المؤلف، ودراسة عن الرسالة، وتوسعت بالتعليقات عليها بإيراد ما ذكره كبار العلماء من المناقشات حولها؛ مبالغة في خدمتها، وتوضيحا لما ورد فيها من أمور لم تسلم لمؤلفها عند المحققين.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين، ومن سار على دربهم إلى يوم الدين.
وبعد:
فإنه وقع اختياري على "طبقات الفقهاء " لابن كمال باشا فاهتممت بتحقيقها؛ لكونها تعد من أشهر ما كتب في الطبقات وأكثرها شيوعا، ورغم كل ذلك لم تخرج لوحدها؛ ليتسنى النقل عنها مباشرة، وإنما ينقل عنها بالواسطة من خلال الكتب التي ذكرتها مثل: "حاشية ابن عابدين " و"شرح عقود رسم المفتي " لابن عابدين، و"كتائب أعلام الأخيار " للكفوي، و"مقدمة عمدة الرعاية " و" النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير "للكنوي، و"ناظورة الحق " للمرجاني، و"الطبقات السنية في طبقات الحنفية " للتميمي، و"طبقات الحنفية " لابن الحنائي، و "إرشاد الملة " للمطيعي.
وبعضمهم عندما يذكرها يختصر منها، وبعضهم نسب لها ما ليس فيها. كما سيأتي-، فأصبح الدارس في شك مما ينسب إليها، فكان لزاما على الاشتغال بجمع بعض نسخها المخطوطة وتحقيق نصها ونشرها.
وإن هذه الطبقات كانت محل مناقشة للعلماء في القبول والرد، فكان من تمام خدمتها " ليكتمل الانتفاع بها، هو اتباع طريق التحشية في تحقيقها، وذلك بالاستفاضة في التعليق عليها بإيراد مناقشات الفقهاء عليها، حتى يكون الباحث على بينة مما ورد فيها.
ومشكلة الدراسة: في بيان صحة نسبة المخطوط إلى مؤلفه، وصحة اسمه؟ وكيف يمكن إخراج المخطوط على ما أراده وكتبه المؤلف؟ وفي كيفية خدمة نص الكتاب بشرح غوامضه وعزو معلوماته، وتخريج أحاديثه؟.
وأهمية الدراسة ومبرراتها: بإثراء المكتبة الإسلامية من خلال تحقيق هذه الرسالة، وإخراج رسالة مفيدة لعالم كبير من شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية، وبيان فضل علماء الأمة المتقدمين وما قدموه لها من جهد يعظم الأمانة على اللاحقين وأدائها بما يتناسب مع ذلك الجهد.
والدراسات السابقة: لم يسبق لهذا الرسالة في حدود علمي أن تناولها الباحثون بالتحقيق أو الدراسة، وذلك بعد البحث والتحري قدر الجهد والطاقة، وبالتالي ظهرت الحاجة جلية لتحقيق هذا الرسالة.
ومنهجية البحث: هي المنهج الاستردادي التاريخي بكتابة حياة هذا المؤلف وجهوده العلمية وتحقيق نص الكتاب.
والمنهج المتبع في التحقيق:
نسخ الكتاب، وضبطه، ومقابلته على عدد من النسخ، وإثبات الفروق بينها.
اعتماد منهج النسخة الصواب في المتن وليس النسخة الأم، بإثبات ما هو الصواب في المتن عند المقارنة بين النسخ، وأما الفروق ففي الهامش.
وضع الكلمة أو الجملة الساقطة إذا سقطت في بعض النسخ بين معكوفتين [ ]، والإشارة إلى النسخ التي كان السقط فيها في الهامش.
الالتزام في كتابة الكلمات بالرسم الإملائي الحديث، وإن خالف رسم المخطوط، مع وضع علامات الترقيم المناسبة، وتفصيل عباراته إلى مقاطع صغيرة على حسب ما يقتضيه المعنى.
اعتماد طريق التحشية في خدمة الكتاب وذلك ببيان معاني المفردات والجمل التي تحتاج إلى توضيح، والترجمة لما ورد فيه من الأعلام، والتعليق على المسائل بقدر الحاجة.
توثيق النصوص المنقولة.
وتحقيقا لهذا المقصود، قسمت البحث إلى ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في ترجمة المصنف، ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: اسمه ونسبه ونسبته ولقبه ومذهبه وولادته.
المطلب الثاني: عصره السياسي والاجتماعي.
المطلب الثالث: شيوخه وتلاميذه وطبقته ووظائفه.
المطلب الرابع: مؤلفاته وثناء العلماء عليه ووفاته.
المبحث الثاني: في دراسة عن الرسالة.
المبحث الثالث: في النص المحقق.
سائلا المولى التوفيق والسداد.
المبحث الأول
ترجمة المصنف
وتشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: اسمه ونسبه ونسبته ولقبه ومذهبه وولادته:
أولا: اسمه: اتفق من ترجم له ([1]) على أن اسمه أحمد، إلا جرجي زيدان ([2]) فسماه: محمد بن أحمد.
ثانيا: نسبه: اتفق من ترجم له على ذكر اسم أبيه واسم جده، وهما:
سليمان بن كمال باشا.
فجده: كمال باشا كان من أمراء الدولة العثمانية ([3]).
ثالثا: نسبته: ينسبه بعض من يترجم له بالرومي ([4])؛ وذلك لأنه تركي الأصل ([5]).
رابعا: لقبه: لقبه كما في الكتب التي تناولت ترجمته ([6]): شمس الدين، ثم أنه رحمه الله تعالى تولى منصب الإفتاء في الدولة العثمانية، وهو أعلى المناصب الدينية، ومن يتولاه يلقب: شيخ الإسلام ([7])، فلقب به.
خامسا: مذهبه: كان مذهبه الفقهي هو: المذهب الحنفي، الذي كان المذهب الرسمي للدولة العثمانية، وأما مذهبه العقدي، فهو ما تريدي الاعتقاد، نسبة إلى إمام الهدى أبي منصور الماتريدي الحنفي، وعلى ذلك عامة الحنفية ([8]).
سادسا: ولادته: ولد في طوقات من نواحي سيواس من بلاد الروم "تركيا "، وعلى ذلك يكون هو وابن الهمام من بلدة واحدة، إذ يرجع أصل ابن الهمام إلى سيواس ([9])، ولم أقف على سنة ولادته.
المطلب الثاني: عصره السياسي والاجتماعي:
أولا: عصره السياسي: عاش ابن كمال في العقد الأخير من القرن التاسع والنصف الأول من القرن العاشر الهجري، وكانت في هذه الفترة ثلاث دول كبيرة تتصارع على السيطرة والحكم في العالم الإسلامي، وهي: الدولة العثمانية، ودولة المماليك، والدولة الصفوية ([10])، وقضى عمره في ظل الدولة العثمانية، فنشأ في سلطنة محمد محمد الفاتح (855-886 هـ)(1451-1481م)، الذي نال شرف نبوءة الرسول بفتح القسطنطينية التي تعسر على من سبقه منذ عهد معاوية بن أبي سفيان، واتخذها عاصمة لبلاده، واستبدل اسمها باستنبول، ولم يكن فتح القسطنطينية النهاية بالنسبة للفاتح، وإنما كانت البداية، إذ سير جيوشه لفتح بلاد الصرب، واستطاع بسط نفوذه عليه ما عدا مدينة بلغراد، وفتح بلاد المروة والأفلاق والبغدان والبوسنة والهرسك وألبانيا وأما ستريس وسينوب وطرابزون، وخاض عدة حروب مع البندقية كانت نتيجتها خضوعها لشروط الفاتح، ودفع الجزية له، واستطاع فتح بلاد القرم، الذي يعد من أهم فتوحاته بعد القسطنطينية واستطاع فتح جنوب إيطاليا وردوس، ولم يمنع العثمانيون من فتح إيطاليا إلا وفاة الفاتح ([11]).
وتولى بعده ابنه بايزيد الثاني (1481-1512)، فاستطاع أن يحافظ على حدود دولته، ووجه ضربات للبندقية، وسيطر على عدة قلاع وحصون في أوروبا، وحصلت مواجهات مع الشاه الصفوي بين الحين والآخر، واتسم بصورة عامة إلى ميله إلى السلم وترك الحروب.
وتولى بعده ابنه سليم الأول (1512-1520هـ)، وكان ينتظره عدوه إسماعيل الصفوي الذي بسط نفوذه على بلاد فارس والعراق، وأخذ يبث المذهب الشيعي فيما جاوره من بلاد الدولة العثمانية، فأعد السلطان العدة لمواجهة هذا الخطر والتقى مع خصمه على رأس جيش جرار في صحراء تشالديران (1415م)، وانتصر عليه، وفر الشاه مع من بقي من جيوشه إلى المناطق الداخلية من إيران، ودخل السلطان عاصمته تبريز، ونظم حملة مطاردة بعد ثمانية أيام من الاستراحة مقتفيا أثره حتى وصل إلى نهر الرس، إلا أن فعل الأحوال الجوية وتناقص المؤنة أجبره على العودة إلى بلاده.
ثم عاد سليم الأول إلى بلاد فارس (1515م) من طريق الأناضول الشرقية ففتح أربيجان ودخل أريفان العاصمة الأرمينية وأطل على شمالي العراق، وندب الشيخ البدلليسي لإثارة أمراء الأكراد ورؤساء العشائر وحكام المقاطعات على حكم الشاه، ونجح في ذلك للاستياء من الحكم الصفوي، وتوغلت الجيوش العثمانية (1516م)، وسيطرت على ديار بكر والرها ومادرين وحصن كيفا والرقة والموصل، وبذلك أضحت مفاتيح العراق الشمالية في أيدي العثمانيين، كما أضحى السلطان سليم الأول سلطان العراقين عندما أعلن صاحب بغداد الولاء له ([12]).
وبعد هذه الانتصارات العظيمة التي حققتها العثمانيون توجهت قلوب المسلمين نحوهم، وتصدروا العالم الإسلامي، وهذا الأمر كان يغيظ قانصوه الغوري سلطان المماليك في مصر، الأمر الذي دفعه إلى القيام بعدة أعمال استفزازية ضد العثمانيين، منها: رفضه لتسليم علاء الدين بن أخيه لسليم الأول، ورفض المماليك التعاون مع العثمانيين في مقاتلة الصفويين.
يعد السبب المباشر لمعركة مرج دابق (1516م) هو قتل سليم الأول لعلاء الدولة، وقد انتصر السلطان سليم الأول في المعركة، وانتحر قانصوه الغوري أثناء انهزام الجيش المملوكي، واستثمر السلطان سليم انتصاره هذا وضمن حلب وحماة وحمص ودمشق، وكان السكان يرحبون به، ويحتفون بمقدمه بصورة لم يألفها أي سلطان من قبل.
وأراد السلطان أن يوقف الحرب وزحفه على مصر، فعرض على طومان باي ابن شقيقة الغوري أن يعلن خضوعه له مقابل أن يسند إليه حكم مصر، ولكنه لم يقبل، فاستمر في زحفه نحو مصر وضم فلسطين إليه في طريقه، وانتصر سليم الأول ([13]).
ونتيجة لهذه المكانة والانتصارات لسليم الأول أعلن شريف مكة أبو البركات الهاشمي ولاءه للعثمانيين، ودفع ابنه أبا نمى لتقديم الطاعة ومعه مفاتيح مكة والمدينة ([14]).
وتولى بعده ابنه سليمان الأول (1520-1566م) الذي استطاع فتح بلغراد (1521م) التي طالما استعصت على من سبقه، وفتح جزيرة ردوس (1522 م) وفتح بلاد المجر(1526 م) وفتح سيجتوار، وغيرها من القلاع والحصون في أوروبا ([15]).
ونتيجة للانتصارات التي حققها العثمانيون توجه لهم أمير الجزائر خير الدين وسكانها برسائل (1519م) تتضمن الولاء والتبعية لهم، فوافق السلطان وبعث الحاميات إلى الجزائر، ثم بعد معارك دارت بين الحاميات العثمانية وخير الدين ضد الحكم الحفصي في تونس بمساندة الأسبان استمر من 1534-1541 دخلت تونس ضمن بلاد الدولة العثمانية، وفي عام (1550 م) استنجد زعماء المقاومة بطرابلس الغرب بالدولة العثمانية لطرد الأسبان منها، ونجدتهم بذلك، وأجلوا ما كان فيها من الفرسان، وأضحت من ولايات الدولة العثمانية (1551 م)، وكذلك انضمت اليمن إلى الدولة العثمانية ([16]).
ثانيا: عصره الاجتماعي:
إن الدولة العثمانية شملت تحت رايتها خليطا من الأجناس، من أتراك وأكراد وأعاجم وعرب وأرمن وروم ويهود، كما جمعت تحتها-أيضا-أصحاب ديانات ومذاهب مختلفة من مسلمين سنيين وهم القوة الحاكمة العظمى، وشيعة ومسيحين ويهود، وكان المسيحيون في البلاد التي فتحها العثمانيون يقيمون شعائرهم الدينية بحرية كاملة دون أن يلقوا أي أذى من قبل المسلمين، وكذلك اليهود.
أما عن التنظيم الاقتصادي للدولة العثمانية، فيقول الجنرال النمسوي كونت فارسكلي. وهو القائد الذي أمضى حياته في محاربة العثمانيين-: "وصل التنظيم الاقتصادي العثماني إلى درجة عالية، بحيث لم يكن يعادلها نظير في الحكومات المسيحية، من الممكن إيجاد موانع شتى في القوانين العثمانية والنظم الاقتصادية التركية تمنع الاستغلال وتشجب كافة المساوئ ".
وأما عن وفرة الخدمات بها، فيكمل قائلا: "من أسباب القدرة على الحركة العسكرية الموفقة للجيش العثماني: جودة الأطعمة والعناية بالحيوانات، وهذه كلها أكثر دقة مما هي عليه عندنا، وأكثر جودة في التنظيم " ([17]).
وأما عن الخدمات الاجتماعية: فإن الدولة لم تكن متكفلة بها، بل كانت هذه تدخل في اختصاص الوقف، وكان ركنا أساسا في اقتصاد الدولة العثمانية، وعن طريقه نشطت الحركة العلمية في جوامع استنبول.
وكان رصف الطرق، والفنادق مقامة على الطريق البرية في كل أرجاء الدولة، وكان المأكل والمشرب والمبيت مجانا، يصرف عليه من الأوقاف.
وقد اعتاد العثمانيون أن يرسلوا مساعدات مالية كبيرة إلى سكان الحرمين الشريفين ([18]).
وكان ابن كمال من أسر الأمراء في الدولة العثمانية، ولذا تربى تربية الأمراء، فنشأ في صباه وهو في حجر العز والدلال، وتلقى العلوم التي كان يتلقاها من في مستواه، فقرأ مباني العلوم في أوائل شبابه ([19])، وكان محبا له، مشتغلا به ليل نهار، لكن ما كان عليه أهل طبقته وأهل بيته من الإمارة كان يقتضي أن يلحق بزمرة العسكر.
لكن الله تعالى اختاره ليكون من حملة هذا العلم الشريف، والمنافحين عن علومه، فرده إليه، وكان لذلك قصة طريفة يحكيها هو عن نفسه، فيقول: كنت مع السلطان بايزيد خان في سفر، وكان الوزير وقتئذ إبراهيم باشا ابن خليل باشا، وكان وزيرا عظيم الشأن، وكان في ذلك الزمان أمير يقال له: أحمد بك ابن أورنوس، وكان عظيم الشأن جدا، لا يتصدر عليه أحد من الأمراء، وكنت واقفا على قدمي قدام الوزير المزبور، والأمير المذكور عنده جالس، إذ جاء رجل من العلماء رث الهيئة، دنيء اللباس، فجلس فوق الأمير المذكور، ولم يمنعه أحد عن ذلك.
فتحيرت في هذا، فقلت لبعض رفقائي: من هذا الذي جلس فوق هذا الأمير، فقال: هو رجل عالم مدرس بمدرسة "فلبه "، يقال له: المولى لطفي، قلت: كم وظيفته، قال: ثلاثون درهما، قلت: فكيف يتصدر هذا الأمير، ومنصبه هذا المقدار، قال رفيقي: إن العلماء معظمون " لعلمهم، ولو تأخر لم يرض بذلك الأمير، ولا الوزير، قال: فتفكرت في نفسي، فقلت: إني لا أبلغ مرتبة الأمير المسفور في الإمارة، وإني لو اشتغلت بالعلم يمكن أن أبلغ رتبة العالم المذكور، فنويت أن أشتغل بعد ذلك بالعلم الشريف ([20]).
ومن ثم دأب، وحصل، وصرف سائر أوقاته في تحصيل العلم، ومذاكرته، وإفادته، واستفادته، حتى فاق الأقران، وصار إنسان عين الأعيان ([21]).
المطلب الثالث: شيوخه وتلاميذه وطبقته ووظائفه:
أولا: شيوخه:
المولى لطف الله التوقاتي الرومي، الشهير مولانا لطفي ([22]).
المولى مصلح الدين مصطفى القسطلاني ([23]).
المولى خطيب زاده، من مؤلفاته: "حاشية التجريد " ([24]).
المولى معروف زاده ([25]).
ثانيا: تلاميذه:
الأستاذ السيد محيي الدين محمد بن عبد القادر، المشتهر بالمعلول ([26]).
المولى محيي الدين محمد بن حسام الدين، الشهير بفزه جلبي ([27]).
المولى محمد بن عبد الوهاب بن المولى عبد الكريم ([28]).
محمود بن قانصوه المظفر المكي ([29]).
المولى محيي الدين محمد بن بير محمد باشا الجمالي ([30]).
المولى محيي الدين محمد بن عبد الله الشهير بمحمد بك ([31]).
المولى هداية الله ابن مولانا بار علي العجمي ([32]).
المولى عبد الكريم الويزوي ([33]).
المولى درويش محمد ([34]).
المولى مصلح الدين مصطفى ابن المولى المنتشوي ([35]).
المولى محيي الدين الشهير بابن الإمام ([36]).
الوزير الكبير رستم باشا ([37]).
المولى تاج الدين إبراهيم ([38]).
المولى مصلح الدين، المشتهر ببستان ([39]).
الشيخ حاجي أفندي المعروف بقره ميلان ([40]).
المولى بالي بن محمد ([41]).
ثالثا: طبقته:
جعله الكفوي من أصحاب الترجيح من المقلدين القادرين على تفضيل بعض الروايات على بعض، صرح به في ترجمة على الرازي ([42]).
رابعا: الوظائف التي تولاها:
التدريس: درس في كثير من المدارس، منها: مدرسة علي بك بأدرنه، ومدرسة أسكوب، والمدرسة الحلبية بأدرنه، ودرس بإحدى المدرستين المتجاورتين بأدرنه، ودرس بإحدى المدارس الثمان، ومدرسة السلطان بايزيد خان بأدرنه، وتولى التدريس فيها مرتين، إذ رأى سليم خان أن يعطيه مدرسة جده ([43])، ومدرسة دار الحديث بأدرنه، ثم عاد إليه السلطان بالإحسان مبتدرا لما فطن أن أمر الفتوى يكون متعذراً، فأعطاه دار الحديث بأدرنه، وعين له كل يوم مئة درهم، وعطايا سنية في السنة ([44]).
القضاء: فإنه ولي القضاء بأدرنه، ثم قضاء العسكر المنصور في ولاية أناضولي، وقد دخل مصر صحبة للسلطان سليم خان لما أخذها من يد الجراكسة، وكان قاضيا بالعسكر، فلما دخل القاهرة، لقيه أكابر العلماء، وأعاظم الفضلاء، وناظروه وباحثوه، وتكلموا بما عندهم فامتحنوه، فاعجبوا بفصاحة لسانه وحسن كلامه وبلاغة بيانه وبسط مرامه، وأقروا له بالفضل والكمال ([45])، وكانوا يذكرونه بغاية التبجيل والإجلال، ويشهدون أن ليس له في العرب عديل ولا في أفاضل العجم والروم عوض وبديل، ثم سعى الأحداث والأراذل من مديد أصحابه، وكتبوا على التفصيل والإجمال، وأوصلوا كتابهم إلى السلطان، وكشفوا الأحوال فعزله السلطان ([46]).
الإفتاء: فإنه صار مفتيا بمدينة القسطنطينية (إسطنبول) بعد وفاة المولى علاء الدين علي الجمالي سنة (932 هـ) ([47])، فعاش فيها معززا مكرما محترما مقبولا عند الخاص والعام، ونالت عقود الفضل في زمانه حسن النظام ([48])، واستمر فيها إلى أخر عمره.
وقد كان مهيبا ذا مكانة رفيعة عالية، يعظمه السلطان، ويغضب لغضبه، ويأخذ بأمره، ويعاقب معارضه، ويحرض على إرضائه.
المطلب الرابع: مؤلفاته وثناء العلماء عليه ووفاته:
أولاً: مؤلفاته:
كان رحمه الله تعالى من العلماء الذين صرفوا جميع أوقاتهم إلى العلم، وكان يشتغل بالعلم ليلا ونهارا، ويكتب جميع ما لاح بباله الشريف، وقد فتر الليل والنهار ولم يفتر قلمه، وصنف رسائل كثيرة في المباحث المهمة الغامضة، وكان عدد رسائله قريبا من مئة رسالة،
قال طاشكبرى زاده ([49]) بعدما ذكر قسطا من كتبه: "هذا ما شاع بين الناس، وأما ما بقي في المسودة فأكثر مما ذكر، وكل تصانيفه مقبولة بين الناس، وكان له يد طولي في الإنشاء والنظم بالفارسية والتركية ".
وقال التميمي ([50]): "له رسائل كثيرة في فنون عديدة، لعلها تزيد على ثلاثمئة رسالة، وفاق في الإنشاء بالعربية والفارسية والتركية، كان له منها حظ جزيل، وفيها باع طويل، وكل مؤلفاته مقبولة، مرغوب فيها، متنافس في تحصيلها، متفاخر بتملك الأكثر منها، وهي لذلك مستحقة، وبه جديرة ".
وقال الكفوي ([51]): "وكل تصانيفه مشهـورة مقبولة بين الأعيان متداولة بين أهالي الزمان، وكان عدد رسائله قريباً من مئة رسالة كل منها جامعة لفوائد عامة العوائد، وهذه المذكورات ما شاعت بين الناس، وأما ما بقي في المسودة فأكثر مما لا يحصى تفرقته الأيادي ".
ومن التصانيف ([52]):
"تفسير القرآن العزيز " ولم يكمله، و "شرح العشر في معشر الحشر "، و "الأربعون في الحديث "، و "شرح حديث الأربعين "، و "أشكال الفرائض ".
و "رسالة في حق أبوي النبي "، و "رسالة في حق الشهداء "، و "رسالة في الشخص الإنساني "، و "رسالة في شرح قوله سأخبركم... "، و "رسالة في الماهية ومجعوليتها "، و "رسالة مختصرة في المسح على الخفين "، و "رسالة في تحقيق المشاكلة "، و "رسالة في الاستخلاف للخطبة والصلاة في الجمعة "، و "رسالة في تفضيل الأنبياء على الملائكة "، و "رسالة في بيان الحكمة لعدم نسبة الشر إليه تعالى "، و "رسالة في قدم القرآن كلام الله تعالى "، و "رسالة في دخول ولد البنت في الموقوف "، و "رسالة في حقيقة المعجزة ودلالتها على صدق من ادعى النبوة "، و "رسالة في بيان الوجود "، و "رسالة قول إيماني كإيمان جبريل "، وغيرها كثير.
و "حواش على الكشاف "، و "حاشية على شرح السيد للكشاف "، و "حاشية على شرح المواقف " في الكلام، و "حاشية على لوامع الأسرار شرح مطالع الأنوار " في المنطق و "حواشي على أوائل تفسير البيضاوي "، و "حاشية على شرح الطوسي للإشارات " في المنطق والحكمة، و "حاشية على محاكمات القطب ".
و "شرح الهداية " لم يكتمل، و "الفتاوى "، و "فريدة التحري "، و "الفلاح في " شرح المراح "، و "قواعد الحمليات "، و "الكلام على البسملة والحمدلة "، و "اللواء المرفوع "، و "محيط اللغة في اللغات الفارسية والعربية "، و "مرآة الجنان "، و "مقال القائلين "، و "المنيرة في المواعظ "، و "مهمات المسائل " في الفروع، و "ترجمة النجوم الزاهرة في أحوال مصر والقاهرة إلى اللغة التركية "، و "نزاع الحكماء والمعتزلة بالأشاعرة "، و "نزهة الخاطر "، و "إظهار الأظهار في أشجار الأشعار " في الأدب.
و "الكلمات العربية "، و "ريحان الأرواح في شرح المراح "، و "شرح الجامع الصحيح " للبخاري، و "شرح فرائض السراجية "، و "شرح القصيدة الخمرية " لأبن الفارض، و "شرح القنوت "، و "شرح مشارق الأنوار " للصغاني، و "شرح مصابيح السنة " للبغوي، وغيرها كثير.
ثانيا: ثناء العلماء عليه:
قال طاشكبرى زاده ([53]): وكان صاحب أخلاق حميدة حسنة، وأدب تام، وعقل وافر، وتقرير حسن ملخص، وله تحرير مقبول جدا لإيجازه مع وضوح دلالته على المراد، وبالجملة: أنسى رحمه الله تعالى ذكر السلف بين الناس، وأحيا رباع العلم بعد الإندراس، وكان في العلم جبلا راسخا، وطودا شامخا، وكان من مفردات الدنيا، ومنبعا للمعارف العليا، روح الله تعالى روحه وزاد في غرف الجنان فتوحه.
وقال ([54]): المولى العالم الفاضل المشتهر في الآفاق.
وقال الكفوي ([55]): أستاذ الفضلاء المشاهير، أستاذ العلماء النحارير، إمام الفروع والأصول، علامة المعقول والمنقول، كشاف مشكلات الكلام القديم، حلال معضلات الكتاب الكريم، فارس ميدان البلاغة والأدب، ومؤسس طريقة الخلاف والمذهب، مفتي لسان الفريقين، السائرة تصانيفه، مسير الخافقين، شيخ الإسلام والمسلمين، شمس الملة وضياء الدين، العلامة الفاضل، والفهامة الكامل، وقال ([56]): شهرته تغني عن التفصيل والإطناب، والحاصل: ما من فن إلا وله فيه حكمة وفصل خطاب.
وقال التميمي: الإمام، العالم، العلامة، الرحلة، الفهامة، أوحد أهل عصره، وجمال أهل مصره، من لم يخلف بعده مثله، ولم تر العيون من جمع كماله وفضله. كان رحمه الله تعالى، إماما بارعا، في التفسير، والفقه، والحديث، والنحو، والتصريف، والمعاني، والبيان، والكلام، والمنطق، والأصول، وغير ذلك، بحيث أنه تفرد في إتقان كل علم من هذه العلوم، وقلما يوجد فن من الفنون إلا وله مصنف أو مصنفات.
وقال ابن عابدين ([57]): الإمام العالم العلامة الرحالة الفهامة، كان بارعا في العلوم، وقلما أن يوجد فن إلا وله فيه مصنف أو مصنفات ([58]).
ثالثا: وفاته:
مات رحمه الله سنة أربعين وتسعمئة ([59])، وصلي عليه صلاة الغائب في جامع دمشق في يوم الجمعة ثاني ذي القعدة ([60]).
المبحث الثاني
دراسة عن الرسالة
أولا: تحقيق اسم الرسالة:
ذكر في فهارس المخطوطات ([61]) أسماء عديدة لهذه الرسالة، منها: "رسالة في طبقات الحنفية "، أو "رسالة في طبقات الفقهاء "، أو "رسالة في طبقات المجتهدين "، أو "طبقات الفقهاء " أو "طبقات فقهاء الحنفية ".
يرجع السبب لهذا الاختلاف: أن ابن كمال باشا لم يذكر اسم الرسالة في بدايتها، فمن قال: طبقات الفقهاء اعتمد على قول ابن كمال في بداية الرسالة: "اعلم أن الفقهاء سبعة طبقات "، ومن قال: طبقات المجتهدين، نظر إلى أن ابن كمال باشا ذكر في الطبقة الأولى والثانية والثالثة: "طبقة المجتهدين "، ومن قال: طبقات الحنفية نظر إلى أن هذا التقسيم لطبقات الحنفية.
وبالتالي فهذه الأسماء كلها صادقة عليها في بيان وصفها، والراجح إطلاق اسم "طبقات الفقهاء " عليها؛ للأمور الآتية:
أنه كان الأكثر شيوعا وانتشارا في الإطلاق عليها.
أن ابن كمال أشار إليه في بداية الرسالة-كما سبق-.
أن بعض الطبقات التي ذكرها ابن كمال باشا ليست من طبقات المجتهدين، وهي الطبقة الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة.
أن طبقات الحنفية اشتهر إطلاقها على كتب التراجم التي تترجم لعامة علماء الحنفية.
وبسبب هذا الاختلاف في الاسم توهم بعض المترجمين ([62]) أنهما تأليفان مستقلان، فذكروا في ترجمة ابن كمال باشا: الأول: "طبقات المجتهدين "، والثاني: "طبقات الفقهاء "
ثانيا: صحة نسبة الطبقات لابن كمال:
لم أقف على اختلاف بين العلماء في صحة نسبة الطبقات لابن كمال باشا، ولكن حصل خلاف في كوانها تأليفا مستقلا لابن كمال أو هي جزء من بعض مؤلفاته، ووقفت عليها في ضمن رسالة "وقف البنات " ([63])، وهذا ما أكده ابن عابدين فقال ([64]): "وقد أوضحها المحقق ابن كمال باشا في بعض رسائله ".
وبالتالي وجود الطبقات بعض رسائل ابن كمال رحمه الله أمر مسلم فيه، وبقي هل استقل بها في تأليف مستقل، فالظاهر نعم؛ لأنه وجدت لها العديد من المخطوطات كرسالة مستقلة -كما سيأتي -، فيمكن التعويل على هذا، بأنه أفردها بالتأليف لوحدها، وذكرها في بعض مؤلفاته عند مناقشة فكرة متعلقة بالطبقات؛ ليستدل بها، والله أعلم.
ثالثا: خطا ابن العماد في نسبة "طبقات الحنفية " لابن الحنائي إلى ابن كمال باشا:
نسب ابن العماد بعض التراجم المذكورة في "طبقات الحنفية " لابن الحنائي إلى "طبقات ابن كمال باشا "، وهي في الحقيقة موجودة بتمامها في "طبقات الحنفية " لابن الحنائي، والظاهر أنه ظن أن "طبقات ابن الحنائي " هي "طبقات ابن كمال باشا "، ومن التراجم التي ذكرها ونسبها لطبقات ابن كمال باشا:
يوسف بن أبي بكر السكاكى.... قاله ابن كمال باشا في "طبقاته " ([65]).
محمد بن عبد الغفار بن محمد العلماوي الكردري، قال ابن كمال باشا في "طبقاته ": كان أستاذ الأئمة على الإطلاق.... ([66]).
محمود بن عبد العزيز الأوزجندي الإمام الكبير، بقية السلف، مفتي الشرق، من طبقة المجتهدين في المسائل.... قاله ابن كمال باشا في "طبقاته " ([67]).
محمد بن محمود بن عبد الكريم الكردرب، المعروف بخواهر زاده الحنفي... قاله ابن كمال باشا ([68]).
رابعا: طبقات ابن كمال باشا بين القبول والرد:
لاقت طبقات ابن كمال انتشارا وقبولا كثيرا رغم رد المحققين لها؛ لما اشتملت عليه من الأغاليط، سواء في التقسيم أو في تصنيف الفقهاء فيها، وسبب هذا القبول ما اشتملت عليه من حسن الترتيب والاختصار وذكر الوظائف، لكن هذه الأمور يغتر بها من لم يكن من العلماء الضابطين، أو من لم يدقق النظر فيها وإن كان من المحققين.
فممن ذكروها في كتبهم: ابن الحنائي، والقاري، والأزهري، والكفوي، والحصكفي، وابن عابدين، والتميمي، وغيرهم.
أما ابن الحنائي: فقد ذكرها في كتابه: "طبقات الفقهاء "، وقال في نهايته ([69]): "كذا حققه بعض الفضلاء من المتأخرين ".
وأما القاري ([70]) والأزهري ([71]): فاقتصروا على ذكرها لا غير.
وأما الكفوي: فقد جعلهم خمس طبقات بدلا من سبع طبقات ([72]).
وأما الحصكفي: فلم يذكرها صريحا بل أشار إليها بقوله ([73]): "وقد ذكروا أن المجتهد المطلق قد فقد، وأما المقيد: فعلى سبع مراتب مشهورة ".
وأما ابن عابدين: فقد ذكرها ([74]) باختصار في "رد المحتار " في توضيح عبارة الحصكفي: "سبع مراتب مشهورة "، وأعاد ذكرها في "شرح عقود رسم المفتي " ([75]).
وأما التميمي: فقال بعد ذكرها ([76]): "هو تقسيم حسن جدا "، وتعقبه المرجاني ([77]) بقوله: "بل هو بعيد عن الصحة بمراحل فضلا عن حسنه جدا، فإنه تحكمات باردة وخيالات فارغة، وكلمات لا روح لها وألفاظ غير محصلة المعنى، ولا سلف له في ذلك المدعى، ولا سبيل له في تلك الدعوى، وإن تابعه من جاء من عقبه من غير دليل يتمسك به، وحجة تلجئه إليه.
ومهما تسامحنا معهم في عد الفقهاء والمتفقهة على هذه المراتب السبع، وهو غير مسلم لهم، فلا يتخلصون من فحش الغلط والوقوع في الخطأ المفرط في تعيين رجال الطبقات وترتيبهم على هذه الدرجات " ([78])، وكرر عامة هذا الكلام المطيعي ([79]) بدون نسبته للمرجاني.
فقد جعل المرجاني هذه الطبقات مجرد خيال لا يؤيده الواقع، ولا يشهد عليه شاهد، ولا يقوم عليها دليل، ولم يفعله أحد قبل ابن كمال باشا، وهي غير مسلمة من حيث مراتبها، ولا من حيث من وضع فيها من الرجال.
وهذا ما أيده الكوثري، فقال ([80]): "لم يصب في أحد الأمرين، لا في ترتيب الطبقات ولا في توزيع الفقهاء عليها، وإن لقي استحسانا من المقلدة بعده، وكان في نفس الشيخ عبد الحي وقفة في صنيع ابن كمال باشا، وقد شفى ما في نفسه عمل الناقد العصامي المرجاني في كتابه ناظورة الحق من تعقب يهدم الأمرين: الترتيب، والتوزيع معا، فعاد الأمر إلى نصابه بتحقيقه، فجزاه الله عن العلم خيرا ".
وقال اللكنوي ([81]): "وكذا ذكر-أي الطبقات-من جاء بعد-أي: ابن كمال باشا-مقلدا له، إلا أن فيه أنظارا شتى من جهة إدخال من الطبقة الأعلى في الأدنى، قد أبداها الفاضل هارون بهاء الدين شهاب الدين المرجاني الحنفي ".
وهذا كلام نفيس من اللكنوي والكوثري، حيث اعتبرا أن هذا الاستحسان من بعض الفقهاء هو محض تقليد بدون تفكر أو تحقيق أو تحرير للمسألة، وبالتالي فلا قيمة لهذا الاستحسان، وأما العلماء المحققون: كاللكنوي والمرجاني: فلم يقبلوه، وردوه.
وبذلك يتبين لنا أن هذه الطبقات مردودة بالكلية من قبل هؤلاء الأفاضل: المرجاني واللكنوي والكوثري.
خامسا: سبب رد طبقات ابن كمال في نظر المرجاني:
لما كان المرجاني هو العمدة في نقد هذه الطبقات، رأيت أن أخص بالذكر الأسباب التي دفعته لردها، وهي على النحو الآتي:
عدم ظهور تفريق بين الطبقات، فقال ([82]): "لم يحصل من بيانه فرق بين أخر طبقتين، وليت شعري بأي قياس قاسهم ووجد هذه التفاوت بينهم ".
عدم وجود الدراية الكاملة عند ابن كمال بفقهاء المذهب، فقال ([83]): "وهو قليل الممارسة في الباب، كليل المؤانسة بمن ذكره في الكتاب، ولا يعرف كثيرا منهم، وربما يجعل الواحد اثنين ويعكس الأمر، ويقدم على ما هو عليه ويؤخر، وينسب كثيرا من الكتب إلى غير أصحابها، فكيف يعرف طبقاتهم ويميز في الفقه درجاتهم.
عدم تمييز حال الفقهاء، فهم مشتركون بأكثر الأوصاف، فيصعب رفع أحدهم وإنزال أخر، قال ([84]): "والحال أن العلم بهذه الكلية كالمتعذر بالنسبة إلى أجلة الفقهاء وأئمة العلماء، فإنهم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها على ما يشير إليه قوله: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف: 48)، يريد والله أعلم أن كل أية إذا جرد النظر إليها قال الناظر: هي أكبر الآيات، وإلا فلا يتصور أن يكون كل أية أكبر من الأخرى من كل جهة؛ للتناقض ".
توهمه بالنظر إلى الألقاب التي ترجع للعرف، وليست للمكانة العلمية، قال ([85]): "ولكن لما كان الغالب على فقهاء العراق السذاجة في الألقاب، وعدم التلون في العنوانات، والجد في الجري على منهاج السلف في التجافي عن الألقاب الهائلة والأوصاف الحافلة، والتحاشي عن الترفع وتنويه النفس وإعجاب الحال تدينا وتصلبا، وتورعا وتأدبا، كما كان الغالب عليهم الخمول والاجتناب عن ولاية القضاء، وتناول الأعمال السلطانية؛ لأن منازع الاتباع ما كانت مفارقة عنهم، ولا شعارهم متحولا إلى شعار غيرهم، فكانوا يذهبون مذهبهم في الاكتفاء بالتميز عن غيرهم بأسماء ساذجة يبتذلها العامة، ويمتهنها السوقة من الانتساب إلى الصناعة أو القبيلة أو القرية أو المحلة أو نحوه ذلك: كالخصاف (ت 261 هـ) والجصاص (ت 370 هـ) والقدوري (ت 428ه) والثلجي (ت 256 هـ) والطحاوي (ت 321هـ) والكرخي (ت 340 هـ) والصيمري (436 هـ)، فجاء المتأخرون منهم على منهاجهم في الاكتفاء بها، وعدم الزيادة عليها في الحكاية عنهم.
وأما الغالب على أهل خراسان ولا سيما ما وراء النهر في القرون الوسطى والمتأخرة، فهو المغالاة في الترفع على غيرهم وإعجاب حالهم، والذهاب بأنفسهم عجبا وكبرا، والتصنع بالتواضع سمعة ورياء، يستصغرون الأحاديث عمن سواهم ولا يسترمون في معمورة الأرض مثوى غير مثواهم، قد تصور كل منهم في خلده أن الوجود كله يصغر بالإضافة إلى بلده، فلا جرم جرى عرق منهم في علمائهم، فلقبوا بالألقاب النبيلة، ووسموا بالأوصاف الجليلة، مثل: شمس الأئمة، وفخر الإسلام، وصدر الشريعة.
واستمرت الحال في أخلافهم على ذلك المنوال من الإتراف والغلو في تنويه أسلافهم، والغض من غيرهم، فإذا ذكروا واحدا من أنفسهم بالغوا في وصفه، وقالوا الشيخ الإمام الأجل الزاهد الفقيه ونحو ذلك، وإذا نقلوا كلاما عن غيرهم فلا يزيدون على مثل قولهم: قال الكرخي والجصاص.
وربما يقتدي بهم من عداهم ممن يتلقى منهم الكلام، فيظن الجاهل بأحوال الرجال ومراتبهم في الكمال وطبقات العلماء ودرجات الفقهاء ظن السوء، فيأخذ بالاستدلال بنباهة الأوصاف على نباهة الموصوف، فيحمله ذلك على الإنكار لمن عداهم واستخفاف رجال الله سواهم.
وقد كان ابن الكمال على ولاية عمل الإفتاء من جهة الدولة، فأحوجه ذلك إلى مراجعة كتب الفتاوى، والإكثار من مطالعة ما فيها في تحصيل إربه، والتخلص عن كربه، ووقع في نظره فيما سار به أهل ما وراء النهر من رفع أنفسهم، والوضع من غيرهم، فنزع إليهم، وصار ذلك طبيعة له وسببا لاندفاعه إلى هذه التحكمات الباردة والتعسفات الشاردة ".
وأقره على هذا اللكنوي ([86]) والكوثري ([87]) وغيرهما.
سادسا: وصف النسخ المخطوطة:
كثرت النسخ المخطوطة للكتاب في مكتبات العالم، ومنها:
في مركز الملك فيصل للبحوث، الرياض، رقم 04000-33، و08444-4، 08990-23، 09792-1، 6084-9-فب، 6084-9-فب. ومكتبة الحرم المكي رقم 10/125 مجاميع، والمكتبة المحمودية، المدينة المنورة، رقم 16/2650، 10/2673.
والمكتبة المركزية-جامعه الملك سعود رقم 1660.
والمكتبة المركزية لجدة 554/1 مجاميع.
ومكتبه كليه الآداب والمخطوطات، الكويت، 358 مج 1.
ومعهد المخطوطات العربية، مصر، 3658 ج (8)، ومكتبة الظاهريه، دمشق، 7831.
واقتصرت في تحقيق الرسالة على أربعة نسخ مخطوطة لحصول الكفاية بها، وهي:
النسخة :
وهي نسخة لطبقات ابن كمال ضمن معهد الثقافة والدراسات الشرقية في جامعة طوكيو اليابان، وتقع في ورقتين، تحتوي الصفحة الأولى على (21) سطر وهي بخط معتاد جيد.
النسخة (ب):
وهي نسخة لطبقات ابن كمال ضمن معهد الثقافة والدراسات الشرقية في جامعة طوكيو اليابان، وتقع في ورقة، تحتوي الصفحة الأولى على (22) سطر وهي بخط معتاد جيد.
النسخة (جـــ):
وهي نسخة لطبقات ابن كمال ضمن جامعة الملك سعود، وتقع في ورقة، تحتوي كل صفحة (18) سطر وهي بخط معتاد جيد.
النسخة (د):
وهي نسخة لطبقات ابن كمال ضمن مخطوطات الأزهر الشريف، وتقع في ورقة، تحتوي كل صفحة على (20) سطر وهي بخط معتاد جيد.
خامسا: النسخ المخطوطة المعتمد عليها في تحقيق الرسالة:
الصفحة الأولى والأخيرة من النسخة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/262.jpg
الصفحة الأولى من النسخة (ب)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/263.jpg
الصفحة الأولى والأخيرة من النسخة (جـــ)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/264.jpg
الصفحة الأولى والأخيرة من النسخة (د)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/265.jpg
المبحث الثالث
النص المحقق بسم الله الرحمن الرحيم
(الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، خاتم النبيين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين) ([88]).
اعلم (وفقني الله وإياك) ([89]) أن الفقهاء سبعة طبقات:
الأولى:
طبقة المجتهدين في الشرع:
كالأئمة الأربعة.
ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول، واستنباط أحكام الفروع عن الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، على حسب تلك القواعد، من غير تقليد لأحد لا في الفروع ولا في الأصول ([90]).
والثانية ([91]):
طبقة المجتهدين في المذهب:
كأبي يوسف ومحمد ([92]).
وسائر أصحاب أبي حنيفة ([93])، القادرين على استخراج الأحكام عن الأدلة المذكورة ([94]) على حسب مقتضى القواعد التي قررها أستاذهم أبي حنيفة ([95])، فإنهم وإن خالفوه في بعض أحكام الفروع.
لكنهم يقلدونه ([96]) في قواعد الأصول ([97])، وبه يمتازون عن المعارضين في المذهب ويفارقونهم: كالشافعي ونظائره المخالفين لأبي حنيفة في الأحكام (غير مقلدين) ([98]) له ([99]) في الأصول.
والثالثة ([100]):
طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب:
كالخصاف ([101]).
وأبي جعفر ([102]) الطحاوي ([103]) ([104]).
وأبي الحسن الكرخي ([105]) ([106]).
وشمس الأئمة الحلواني ([107]).
وشمس الأئمة السرخسي ([108])
وفخر الإسلام البزدوي ([109]).
وفخر الدين قاضي خان ([110])، وأمثالهم ([111]).
فإنهم لا يقدرون على المخالفة للشيخ، لا في الأصول ولا في الفروع، لكنهم يستنبطون الأحكام من المسائل التي لا نص فيها عنه على حسب أصول قررها ومقتضى قواعد بسطها.
والرابعة ([112]):
طبقة أصحاب التخريج من المقلدين:
كالرازي ([113]) وأضرابه ([114]).
فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلا، لكنهم لإحاطتهم بالأصول، وضبطهم للمأخذ، يقدرون على تفصيل قول مجمل ذي وجهين، وحكم محتمل لأمرين، منقول عن صاحب المذهب، أو عن أحد من أصحابه المجتهدين برأيهم ونظرهم في الأصول والمقايسة على أمثاله ونظائره من الفروع.
وما وقع في بعض المواضع من ((الهداية)) ([115]) من قوله: ((كذا في تخريج الكرخي))، و((تخريج الرازي)) من هذا القبيل.
والخامسة ([116]):
طبقة أصحاب الترجيح من المقلدين:
كأبي الحسن القدوري ([117]).
وصاحب ((الهداية)) ([118])، وأمثالهما ([119]).
وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض أخر، بقولهم: هذا أولى، وهذا أصح رواية، وهذا أوضح، وهذا أوفق للقياس، وهذا أرفق للناس.
والسادسة ([120]):
طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين القولين ([121]) الأقوى والقوي ([122]) والضعيف،
وظاهر الرواية (وظاهر المذهب) ([123]) والرواية ([124]) النادرة:
كأصحاب المتون المعتبرة ([125]) من المتأخرين
مثل: صاحب ((الكنز)) ([126]).
وصاحب ((المختار)) ([127]).
وصاحب ((الوقاية)) ([128]).
وصاحب ((المجمع)) ([129]) ([130]).
وشأنهم ([131]) أن لا ينقلوا في كتبهم الأقوال المردودة والروايات الضعيفة.
والسابعة ([132]):
طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر:
ولا يفرقون بين الغث ([133]) والسمين، ولا يميزون الشمال من اليمين، بل يجمعون ما يجدون كحاطب ليل، فالويل لمن قلدهم كل الويل ([134]).
(والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا) ([135]).
يتبع
دراسة وتحقيق
د. صلاح محمد سالم أبو الحاج ([·])
ملخص البحث:
هذه رسالة مختصرة في "طبقات الفقهاء " الحنفية لشيخ الإسلام ابن كمال باشا، وهي مشهورة جدا، ويكثر تداول الباحثين ما تضمنته من معلومات، لكنها مع شهرتها لم تنل تحقيقا علميا بمفردها، مما أحدث تصحيفا فيها، ونسبة أمور أخرى لها، فرأيت أهمية العناية بها وتحقيقها؛ لتتضح صورتها للباحثين، وقدمت قبلها دارسة موجزة عن المؤلف، ودراسة عن الرسالة، وتوسعت بالتعليقات عليها بإيراد ما ذكره كبار العلماء من المناقشات حولها؛ مبالغة في خدمتها، وتوضيحا لما ورد فيها من أمور لم تسلم لمؤلفها عند المحققين.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين، ومن سار على دربهم إلى يوم الدين.
وبعد:
فإنه وقع اختياري على "طبقات الفقهاء " لابن كمال باشا فاهتممت بتحقيقها؛ لكونها تعد من أشهر ما كتب في الطبقات وأكثرها شيوعا، ورغم كل ذلك لم تخرج لوحدها؛ ليتسنى النقل عنها مباشرة، وإنما ينقل عنها بالواسطة من خلال الكتب التي ذكرتها مثل: "حاشية ابن عابدين " و"شرح عقود رسم المفتي " لابن عابدين، و"كتائب أعلام الأخيار " للكفوي، و"مقدمة عمدة الرعاية " و" النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير "للكنوي، و"ناظورة الحق " للمرجاني، و"الطبقات السنية في طبقات الحنفية " للتميمي، و"طبقات الحنفية " لابن الحنائي، و "إرشاد الملة " للمطيعي.
وبعضمهم عندما يذكرها يختصر منها، وبعضهم نسب لها ما ليس فيها. كما سيأتي-، فأصبح الدارس في شك مما ينسب إليها، فكان لزاما على الاشتغال بجمع بعض نسخها المخطوطة وتحقيق نصها ونشرها.
وإن هذه الطبقات كانت محل مناقشة للعلماء في القبول والرد، فكان من تمام خدمتها " ليكتمل الانتفاع بها، هو اتباع طريق التحشية في تحقيقها، وذلك بالاستفاضة في التعليق عليها بإيراد مناقشات الفقهاء عليها، حتى يكون الباحث على بينة مما ورد فيها.
ومشكلة الدراسة: في بيان صحة نسبة المخطوط إلى مؤلفه، وصحة اسمه؟ وكيف يمكن إخراج المخطوط على ما أراده وكتبه المؤلف؟ وفي كيفية خدمة نص الكتاب بشرح غوامضه وعزو معلوماته، وتخريج أحاديثه؟.
وأهمية الدراسة ومبرراتها: بإثراء المكتبة الإسلامية من خلال تحقيق هذه الرسالة، وإخراج رسالة مفيدة لعالم كبير من شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية، وبيان فضل علماء الأمة المتقدمين وما قدموه لها من جهد يعظم الأمانة على اللاحقين وأدائها بما يتناسب مع ذلك الجهد.
والدراسات السابقة: لم يسبق لهذا الرسالة في حدود علمي أن تناولها الباحثون بالتحقيق أو الدراسة، وذلك بعد البحث والتحري قدر الجهد والطاقة، وبالتالي ظهرت الحاجة جلية لتحقيق هذا الرسالة.
ومنهجية البحث: هي المنهج الاستردادي التاريخي بكتابة حياة هذا المؤلف وجهوده العلمية وتحقيق نص الكتاب.
والمنهج المتبع في التحقيق:
نسخ الكتاب، وضبطه، ومقابلته على عدد من النسخ، وإثبات الفروق بينها.
اعتماد منهج النسخة الصواب في المتن وليس النسخة الأم، بإثبات ما هو الصواب في المتن عند المقارنة بين النسخ، وأما الفروق ففي الهامش.
وضع الكلمة أو الجملة الساقطة إذا سقطت في بعض النسخ بين معكوفتين [ ]، والإشارة إلى النسخ التي كان السقط فيها في الهامش.
الالتزام في كتابة الكلمات بالرسم الإملائي الحديث، وإن خالف رسم المخطوط، مع وضع علامات الترقيم المناسبة، وتفصيل عباراته إلى مقاطع صغيرة على حسب ما يقتضيه المعنى.
اعتماد طريق التحشية في خدمة الكتاب وذلك ببيان معاني المفردات والجمل التي تحتاج إلى توضيح، والترجمة لما ورد فيه من الأعلام، والتعليق على المسائل بقدر الحاجة.
توثيق النصوص المنقولة.
وتحقيقا لهذا المقصود، قسمت البحث إلى ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في ترجمة المصنف، ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: اسمه ونسبه ونسبته ولقبه ومذهبه وولادته.
المطلب الثاني: عصره السياسي والاجتماعي.
المطلب الثالث: شيوخه وتلاميذه وطبقته ووظائفه.
المطلب الرابع: مؤلفاته وثناء العلماء عليه ووفاته.
المبحث الثاني: في دراسة عن الرسالة.
المبحث الثالث: في النص المحقق.
سائلا المولى التوفيق والسداد.
المبحث الأول
ترجمة المصنف
وتشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: اسمه ونسبه ونسبته ولقبه ومذهبه وولادته:
أولا: اسمه: اتفق من ترجم له ([1]) على أن اسمه أحمد، إلا جرجي زيدان ([2]) فسماه: محمد بن أحمد.
ثانيا: نسبه: اتفق من ترجم له على ذكر اسم أبيه واسم جده، وهما:
سليمان بن كمال باشا.
فجده: كمال باشا كان من أمراء الدولة العثمانية ([3]).
ثالثا: نسبته: ينسبه بعض من يترجم له بالرومي ([4])؛ وذلك لأنه تركي الأصل ([5]).
رابعا: لقبه: لقبه كما في الكتب التي تناولت ترجمته ([6]): شمس الدين، ثم أنه رحمه الله تعالى تولى منصب الإفتاء في الدولة العثمانية، وهو أعلى المناصب الدينية، ومن يتولاه يلقب: شيخ الإسلام ([7])، فلقب به.
خامسا: مذهبه: كان مذهبه الفقهي هو: المذهب الحنفي، الذي كان المذهب الرسمي للدولة العثمانية، وأما مذهبه العقدي، فهو ما تريدي الاعتقاد، نسبة إلى إمام الهدى أبي منصور الماتريدي الحنفي، وعلى ذلك عامة الحنفية ([8]).
سادسا: ولادته: ولد في طوقات من نواحي سيواس من بلاد الروم "تركيا "، وعلى ذلك يكون هو وابن الهمام من بلدة واحدة، إذ يرجع أصل ابن الهمام إلى سيواس ([9])، ولم أقف على سنة ولادته.
المطلب الثاني: عصره السياسي والاجتماعي:
أولا: عصره السياسي: عاش ابن كمال في العقد الأخير من القرن التاسع والنصف الأول من القرن العاشر الهجري، وكانت في هذه الفترة ثلاث دول كبيرة تتصارع على السيطرة والحكم في العالم الإسلامي، وهي: الدولة العثمانية، ودولة المماليك، والدولة الصفوية ([10])، وقضى عمره في ظل الدولة العثمانية، فنشأ في سلطنة محمد محمد الفاتح (855-886 هـ)(1451-1481م)، الذي نال شرف نبوءة الرسول بفتح القسطنطينية التي تعسر على من سبقه منذ عهد معاوية بن أبي سفيان، واتخذها عاصمة لبلاده، واستبدل اسمها باستنبول، ولم يكن فتح القسطنطينية النهاية بالنسبة للفاتح، وإنما كانت البداية، إذ سير جيوشه لفتح بلاد الصرب، واستطاع بسط نفوذه عليه ما عدا مدينة بلغراد، وفتح بلاد المروة والأفلاق والبغدان والبوسنة والهرسك وألبانيا وأما ستريس وسينوب وطرابزون، وخاض عدة حروب مع البندقية كانت نتيجتها خضوعها لشروط الفاتح، ودفع الجزية له، واستطاع فتح بلاد القرم، الذي يعد من أهم فتوحاته بعد القسطنطينية واستطاع فتح جنوب إيطاليا وردوس، ولم يمنع العثمانيون من فتح إيطاليا إلا وفاة الفاتح ([11]).
وتولى بعده ابنه بايزيد الثاني (1481-1512)، فاستطاع أن يحافظ على حدود دولته، ووجه ضربات للبندقية، وسيطر على عدة قلاع وحصون في أوروبا، وحصلت مواجهات مع الشاه الصفوي بين الحين والآخر، واتسم بصورة عامة إلى ميله إلى السلم وترك الحروب.
وتولى بعده ابنه سليم الأول (1512-1520هـ)، وكان ينتظره عدوه إسماعيل الصفوي الذي بسط نفوذه على بلاد فارس والعراق، وأخذ يبث المذهب الشيعي فيما جاوره من بلاد الدولة العثمانية، فأعد السلطان العدة لمواجهة هذا الخطر والتقى مع خصمه على رأس جيش جرار في صحراء تشالديران (1415م)، وانتصر عليه، وفر الشاه مع من بقي من جيوشه إلى المناطق الداخلية من إيران، ودخل السلطان عاصمته تبريز، ونظم حملة مطاردة بعد ثمانية أيام من الاستراحة مقتفيا أثره حتى وصل إلى نهر الرس، إلا أن فعل الأحوال الجوية وتناقص المؤنة أجبره على العودة إلى بلاده.
ثم عاد سليم الأول إلى بلاد فارس (1515م) من طريق الأناضول الشرقية ففتح أربيجان ودخل أريفان العاصمة الأرمينية وأطل على شمالي العراق، وندب الشيخ البدلليسي لإثارة أمراء الأكراد ورؤساء العشائر وحكام المقاطعات على حكم الشاه، ونجح في ذلك للاستياء من الحكم الصفوي، وتوغلت الجيوش العثمانية (1516م)، وسيطرت على ديار بكر والرها ومادرين وحصن كيفا والرقة والموصل، وبذلك أضحت مفاتيح العراق الشمالية في أيدي العثمانيين، كما أضحى السلطان سليم الأول سلطان العراقين عندما أعلن صاحب بغداد الولاء له ([12]).
وبعد هذه الانتصارات العظيمة التي حققتها العثمانيون توجهت قلوب المسلمين نحوهم، وتصدروا العالم الإسلامي، وهذا الأمر كان يغيظ قانصوه الغوري سلطان المماليك في مصر، الأمر الذي دفعه إلى القيام بعدة أعمال استفزازية ضد العثمانيين، منها: رفضه لتسليم علاء الدين بن أخيه لسليم الأول، ورفض المماليك التعاون مع العثمانيين في مقاتلة الصفويين.
يعد السبب المباشر لمعركة مرج دابق (1516م) هو قتل سليم الأول لعلاء الدولة، وقد انتصر السلطان سليم الأول في المعركة، وانتحر قانصوه الغوري أثناء انهزام الجيش المملوكي، واستثمر السلطان سليم انتصاره هذا وضمن حلب وحماة وحمص ودمشق، وكان السكان يرحبون به، ويحتفون بمقدمه بصورة لم يألفها أي سلطان من قبل.
وأراد السلطان أن يوقف الحرب وزحفه على مصر، فعرض على طومان باي ابن شقيقة الغوري أن يعلن خضوعه له مقابل أن يسند إليه حكم مصر، ولكنه لم يقبل، فاستمر في زحفه نحو مصر وضم فلسطين إليه في طريقه، وانتصر سليم الأول ([13]).
ونتيجة لهذه المكانة والانتصارات لسليم الأول أعلن شريف مكة أبو البركات الهاشمي ولاءه للعثمانيين، ودفع ابنه أبا نمى لتقديم الطاعة ومعه مفاتيح مكة والمدينة ([14]).
وتولى بعده ابنه سليمان الأول (1520-1566م) الذي استطاع فتح بلغراد (1521م) التي طالما استعصت على من سبقه، وفتح جزيرة ردوس (1522 م) وفتح بلاد المجر(1526 م) وفتح سيجتوار، وغيرها من القلاع والحصون في أوروبا ([15]).
ونتيجة للانتصارات التي حققها العثمانيون توجه لهم أمير الجزائر خير الدين وسكانها برسائل (1519م) تتضمن الولاء والتبعية لهم، فوافق السلطان وبعث الحاميات إلى الجزائر، ثم بعد معارك دارت بين الحاميات العثمانية وخير الدين ضد الحكم الحفصي في تونس بمساندة الأسبان استمر من 1534-1541 دخلت تونس ضمن بلاد الدولة العثمانية، وفي عام (1550 م) استنجد زعماء المقاومة بطرابلس الغرب بالدولة العثمانية لطرد الأسبان منها، ونجدتهم بذلك، وأجلوا ما كان فيها من الفرسان، وأضحت من ولايات الدولة العثمانية (1551 م)، وكذلك انضمت اليمن إلى الدولة العثمانية ([16]).
ثانيا: عصره الاجتماعي:
إن الدولة العثمانية شملت تحت رايتها خليطا من الأجناس، من أتراك وأكراد وأعاجم وعرب وأرمن وروم ويهود، كما جمعت تحتها-أيضا-أصحاب ديانات ومذاهب مختلفة من مسلمين سنيين وهم القوة الحاكمة العظمى، وشيعة ومسيحين ويهود، وكان المسيحيون في البلاد التي فتحها العثمانيون يقيمون شعائرهم الدينية بحرية كاملة دون أن يلقوا أي أذى من قبل المسلمين، وكذلك اليهود.
أما عن التنظيم الاقتصادي للدولة العثمانية، فيقول الجنرال النمسوي كونت فارسكلي. وهو القائد الذي أمضى حياته في محاربة العثمانيين-: "وصل التنظيم الاقتصادي العثماني إلى درجة عالية، بحيث لم يكن يعادلها نظير في الحكومات المسيحية، من الممكن إيجاد موانع شتى في القوانين العثمانية والنظم الاقتصادية التركية تمنع الاستغلال وتشجب كافة المساوئ ".
وأما عن وفرة الخدمات بها، فيكمل قائلا: "من أسباب القدرة على الحركة العسكرية الموفقة للجيش العثماني: جودة الأطعمة والعناية بالحيوانات، وهذه كلها أكثر دقة مما هي عليه عندنا، وأكثر جودة في التنظيم " ([17]).
وأما عن الخدمات الاجتماعية: فإن الدولة لم تكن متكفلة بها، بل كانت هذه تدخل في اختصاص الوقف، وكان ركنا أساسا في اقتصاد الدولة العثمانية، وعن طريقه نشطت الحركة العلمية في جوامع استنبول.
وكان رصف الطرق، والفنادق مقامة على الطريق البرية في كل أرجاء الدولة، وكان المأكل والمشرب والمبيت مجانا، يصرف عليه من الأوقاف.
وقد اعتاد العثمانيون أن يرسلوا مساعدات مالية كبيرة إلى سكان الحرمين الشريفين ([18]).
وكان ابن كمال من أسر الأمراء في الدولة العثمانية، ولذا تربى تربية الأمراء، فنشأ في صباه وهو في حجر العز والدلال، وتلقى العلوم التي كان يتلقاها من في مستواه، فقرأ مباني العلوم في أوائل شبابه ([19])، وكان محبا له، مشتغلا به ليل نهار، لكن ما كان عليه أهل طبقته وأهل بيته من الإمارة كان يقتضي أن يلحق بزمرة العسكر.
لكن الله تعالى اختاره ليكون من حملة هذا العلم الشريف، والمنافحين عن علومه، فرده إليه، وكان لذلك قصة طريفة يحكيها هو عن نفسه، فيقول: كنت مع السلطان بايزيد خان في سفر، وكان الوزير وقتئذ إبراهيم باشا ابن خليل باشا، وكان وزيرا عظيم الشأن، وكان في ذلك الزمان أمير يقال له: أحمد بك ابن أورنوس، وكان عظيم الشأن جدا، لا يتصدر عليه أحد من الأمراء، وكنت واقفا على قدمي قدام الوزير المزبور، والأمير المذكور عنده جالس، إذ جاء رجل من العلماء رث الهيئة، دنيء اللباس، فجلس فوق الأمير المذكور، ولم يمنعه أحد عن ذلك.
فتحيرت في هذا، فقلت لبعض رفقائي: من هذا الذي جلس فوق هذا الأمير، فقال: هو رجل عالم مدرس بمدرسة "فلبه "، يقال له: المولى لطفي، قلت: كم وظيفته، قال: ثلاثون درهما، قلت: فكيف يتصدر هذا الأمير، ومنصبه هذا المقدار، قال رفيقي: إن العلماء معظمون " لعلمهم، ولو تأخر لم يرض بذلك الأمير، ولا الوزير، قال: فتفكرت في نفسي، فقلت: إني لا أبلغ مرتبة الأمير المسفور في الإمارة، وإني لو اشتغلت بالعلم يمكن أن أبلغ رتبة العالم المذكور، فنويت أن أشتغل بعد ذلك بالعلم الشريف ([20]).
ومن ثم دأب، وحصل، وصرف سائر أوقاته في تحصيل العلم، ومذاكرته، وإفادته، واستفادته، حتى فاق الأقران، وصار إنسان عين الأعيان ([21]).
المطلب الثالث: شيوخه وتلاميذه وطبقته ووظائفه:
أولا: شيوخه:
المولى لطف الله التوقاتي الرومي، الشهير مولانا لطفي ([22]).
المولى مصلح الدين مصطفى القسطلاني ([23]).
المولى خطيب زاده، من مؤلفاته: "حاشية التجريد " ([24]).
المولى معروف زاده ([25]).
ثانيا: تلاميذه:
الأستاذ السيد محيي الدين محمد بن عبد القادر، المشتهر بالمعلول ([26]).
المولى محيي الدين محمد بن حسام الدين، الشهير بفزه جلبي ([27]).
المولى محمد بن عبد الوهاب بن المولى عبد الكريم ([28]).
محمود بن قانصوه المظفر المكي ([29]).
المولى محيي الدين محمد بن بير محمد باشا الجمالي ([30]).
المولى محيي الدين محمد بن عبد الله الشهير بمحمد بك ([31]).
المولى هداية الله ابن مولانا بار علي العجمي ([32]).
المولى عبد الكريم الويزوي ([33]).
المولى درويش محمد ([34]).
المولى مصلح الدين مصطفى ابن المولى المنتشوي ([35]).
المولى محيي الدين الشهير بابن الإمام ([36]).
الوزير الكبير رستم باشا ([37]).
المولى تاج الدين إبراهيم ([38]).
المولى مصلح الدين، المشتهر ببستان ([39]).
الشيخ حاجي أفندي المعروف بقره ميلان ([40]).
المولى بالي بن محمد ([41]).
ثالثا: طبقته:
جعله الكفوي من أصحاب الترجيح من المقلدين القادرين على تفضيل بعض الروايات على بعض، صرح به في ترجمة على الرازي ([42]).
رابعا: الوظائف التي تولاها:
التدريس: درس في كثير من المدارس، منها: مدرسة علي بك بأدرنه، ومدرسة أسكوب، والمدرسة الحلبية بأدرنه، ودرس بإحدى المدرستين المتجاورتين بأدرنه، ودرس بإحدى المدارس الثمان، ومدرسة السلطان بايزيد خان بأدرنه، وتولى التدريس فيها مرتين، إذ رأى سليم خان أن يعطيه مدرسة جده ([43])، ومدرسة دار الحديث بأدرنه، ثم عاد إليه السلطان بالإحسان مبتدرا لما فطن أن أمر الفتوى يكون متعذراً، فأعطاه دار الحديث بأدرنه، وعين له كل يوم مئة درهم، وعطايا سنية في السنة ([44]).
القضاء: فإنه ولي القضاء بأدرنه، ثم قضاء العسكر المنصور في ولاية أناضولي، وقد دخل مصر صحبة للسلطان سليم خان لما أخذها من يد الجراكسة، وكان قاضيا بالعسكر، فلما دخل القاهرة، لقيه أكابر العلماء، وأعاظم الفضلاء، وناظروه وباحثوه، وتكلموا بما عندهم فامتحنوه، فاعجبوا بفصاحة لسانه وحسن كلامه وبلاغة بيانه وبسط مرامه، وأقروا له بالفضل والكمال ([45])، وكانوا يذكرونه بغاية التبجيل والإجلال، ويشهدون أن ليس له في العرب عديل ولا في أفاضل العجم والروم عوض وبديل، ثم سعى الأحداث والأراذل من مديد أصحابه، وكتبوا على التفصيل والإجمال، وأوصلوا كتابهم إلى السلطان، وكشفوا الأحوال فعزله السلطان ([46]).
الإفتاء: فإنه صار مفتيا بمدينة القسطنطينية (إسطنبول) بعد وفاة المولى علاء الدين علي الجمالي سنة (932 هـ) ([47])، فعاش فيها معززا مكرما محترما مقبولا عند الخاص والعام، ونالت عقود الفضل في زمانه حسن النظام ([48])، واستمر فيها إلى أخر عمره.
وقد كان مهيبا ذا مكانة رفيعة عالية، يعظمه السلطان، ويغضب لغضبه، ويأخذ بأمره، ويعاقب معارضه، ويحرض على إرضائه.
المطلب الرابع: مؤلفاته وثناء العلماء عليه ووفاته:
أولاً: مؤلفاته:
كان رحمه الله تعالى من العلماء الذين صرفوا جميع أوقاتهم إلى العلم، وكان يشتغل بالعلم ليلا ونهارا، ويكتب جميع ما لاح بباله الشريف، وقد فتر الليل والنهار ولم يفتر قلمه، وصنف رسائل كثيرة في المباحث المهمة الغامضة، وكان عدد رسائله قريبا من مئة رسالة،
قال طاشكبرى زاده ([49]) بعدما ذكر قسطا من كتبه: "هذا ما شاع بين الناس، وأما ما بقي في المسودة فأكثر مما ذكر، وكل تصانيفه مقبولة بين الناس، وكان له يد طولي في الإنشاء والنظم بالفارسية والتركية ".
وقال التميمي ([50]): "له رسائل كثيرة في فنون عديدة، لعلها تزيد على ثلاثمئة رسالة، وفاق في الإنشاء بالعربية والفارسية والتركية، كان له منها حظ جزيل، وفيها باع طويل، وكل مؤلفاته مقبولة، مرغوب فيها، متنافس في تحصيلها، متفاخر بتملك الأكثر منها، وهي لذلك مستحقة، وبه جديرة ".
وقال الكفوي ([51]): "وكل تصانيفه مشهـورة مقبولة بين الأعيان متداولة بين أهالي الزمان، وكان عدد رسائله قريباً من مئة رسالة كل منها جامعة لفوائد عامة العوائد، وهذه المذكورات ما شاعت بين الناس، وأما ما بقي في المسودة فأكثر مما لا يحصى تفرقته الأيادي ".
ومن التصانيف ([52]):
"تفسير القرآن العزيز " ولم يكمله، و "شرح العشر في معشر الحشر "، و "الأربعون في الحديث "، و "شرح حديث الأربعين "، و "أشكال الفرائض ".
و "رسالة في حق أبوي النبي "، و "رسالة في حق الشهداء "، و "رسالة في الشخص الإنساني "، و "رسالة في شرح قوله سأخبركم... "، و "رسالة في الماهية ومجعوليتها "، و "رسالة مختصرة في المسح على الخفين "، و "رسالة في تحقيق المشاكلة "، و "رسالة في الاستخلاف للخطبة والصلاة في الجمعة "، و "رسالة في تفضيل الأنبياء على الملائكة "، و "رسالة في بيان الحكمة لعدم نسبة الشر إليه تعالى "، و "رسالة في قدم القرآن كلام الله تعالى "، و "رسالة في دخول ولد البنت في الموقوف "، و "رسالة في حقيقة المعجزة ودلالتها على صدق من ادعى النبوة "، و "رسالة في بيان الوجود "، و "رسالة قول إيماني كإيمان جبريل "، وغيرها كثير.
و "حواش على الكشاف "، و "حاشية على شرح السيد للكشاف "، و "حاشية على شرح المواقف " في الكلام، و "حاشية على لوامع الأسرار شرح مطالع الأنوار " في المنطق و "حواشي على أوائل تفسير البيضاوي "، و "حاشية على شرح الطوسي للإشارات " في المنطق والحكمة، و "حاشية على محاكمات القطب ".
و "شرح الهداية " لم يكتمل، و "الفتاوى "، و "فريدة التحري "، و "الفلاح في " شرح المراح "، و "قواعد الحمليات "، و "الكلام على البسملة والحمدلة "، و "اللواء المرفوع "، و "محيط اللغة في اللغات الفارسية والعربية "، و "مرآة الجنان "، و "مقال القائلين "، و "المنيرة في المواعظ "، و "مهمات المسائل " في الفروع، و "ترجمة النجوم الزاهرة في أحوال مصر والقاهرة إلى اللغة التركية "، و "نزاع الحكماء والمعتزلة بالأشاعرة "، و "نزهة الخاطر "، و "إظهار الأظهار في أشجار الأشعار " في الأدب.
و "الكلمات العربية "، و "ريحان الأرواح في شرح المراح "، و "شرح الجامع الصحيح " للبخاري، و "شرح فرائض السراجية "، و "شرح القصيدة الخمرية " لأبن الفارض، و "شرح القنوت "، و "شرح مشارق الأنوار " للصغاني، و "شرح مصابيح السنة " للبغوي، وغيرها كثير.
ثانيا: ثناء العلماء عليه:
قال طاشكبرى زاده ([53]): وكان صاحب أخلاق حميدة حسنة، وأدب تام، وعقل وافر، وتقرير حسن ملخص، وله تحرير مقبول جدا لإيجازه مع وضوح دلالته على المراد، وبالجملة: أنسى رحمه الله تعالى ذكر السلف بين الناس، وأحيا رباع العلم بعد الإندراس، وكان في العلم جبلا راسخا، وطودا شامخا، وكان من مفردات الدنيا، ومنبعا للمعارف العليا، روح الله تعالى روحه وزاد في غرف الجنان فتوحه.
وقال ([54]): المولى العالم الفاضل المشتهر في الآفاق.
وقال الكفوي ([55]): أستاذ الفضلاء المشاهير، أستاذ العلماء النحارير، إمام الفروع والأصول، علامة المعقول والمنقول، كشاف مشكلات الكلام القديم، حلال معضلات الكتاب الكريم، فارس ميدان البلاغة والأدب، ومؤسس طريقة الخلاف والمذهب، مفتي لسان الفريقين، السائرة تصانيفه، مسير الخافقين، شيخ الإسلام والمسلمين، شمس الملة وضياء الدين، العلامة الفاضل، والفهامة الكامل، وقال ([56]): شهرته تغني عن التفصيل والإطناب، والحاصل: ما من فن إلا وله فيه حكمة وفصل خطاب.
وقال التميمي: الإمام، العالم، العلامة، الرحلة، الفهامة، أوحد أهل عصره، وجمال أهل مصره، من لم يخلف بعده مثله، ولم تر العيون من جمع كماله وفضله. كان رحمه الله تعالى، إماما بارعا، في التفسير، والفقه، والحديث، والنحو، والتصريف، والمعاني، والبيان، والكلام، والمنطق، والأصول، وغير ذلك، بحيث أنه تفرد في إتقان كل علم من هذه العلوم، وقلما يوجد فن من الفنون إلا وله مصنف أو مصنفات.
وقال ابن عابدين ([57]): الإمام العالم العلامة الرحالة الفهامة، كان بارعا في العلوم، وقلما أن يوجد فن إلا وله فيه مصنف أو مصنفات ([58]).
ثالثا: وفاته:
مات رحمه الله سنة أربعين وتسعمئة ([59])، وصلي عليه صلاة الغائب في جامع دمشق في يوم الجمعة ثاني ذي القعدة ([60]).
المبحث الثاني
دراسة عن الرسالة
أولا: تحقيق اسم الرسالة:
ذكر في فهارس المخطوطات ([61]) أسماء عديدة لهذه الرسالة، منها: "رسالة في طبقات الحنفية "، أو "رسالة في طبقات الفقهاء "، أو "رسالة في طبقات المجتهدين "، أو "طبقات الفقهاء " أو "طبقات فقهاء الحنفية ".
يرجع السبب لهذا الاختلاف: أن ابن كمال باشا لم يذكر اسم الرسالة في بدايتها، فمن قال: طبقات الفقهاء اعتمد على قول ابن كمال في بداية الرسالة: "اعلم أن الفقهاء سبعة طبقات "، ومن قال: طبقات المجتهدين، نظر إلى أن ابن كمال باشا ذكر في الطبقة الأولى والثانية والثالثة: "طبقة المجتهدين "، ومن قال: طبقات الحنفية نظر إلى أن هذا التقسيم لطبقات الحنفية.
وبالتالي فهذه الأسماء كلها صادقة عليها في بيان وصفها، والراجح إطلاق اسم "طبقات الفقهاء " عليها؛ للأمور الآتية:
أنه كان الأكثر شيوعا وانتشارا في الإطلاق عليها.
أن ابن كمال أشار إليه في بداية الرسالة-كما سبق-.
أن بعض الطبقات التي ذكرها ابن كمال باشا ليست من طبقات المجتهدين، وهي الطبقة الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة.
أن طبقات الحنفية اشتهر إطلاقها على كتب التراجم التي تترجم لعامة علماء الحنفية.
وبسبب هذا الاختلاف في الاسم توهم بعض المترجمين ([62]) أنهما تأليفان مستقلان، فذكروا في ترجمة ابن كمال باشا: الأول: "طبقات المجتهدين "، والثاني: "طبقات الفقهاء "
ثانيا: صحة نسبة الطبقات لابن كمال:
لم أقف على اختلاف بين العلماء في صحة نسبة الطبقات لابن كمال باشا، ولكن حصل خلاف في كوانها تأليفا مستقلا لابن كمال أو هي جزء من بعض مؤلفاته، ووقفت عليها في ضمن رسالة "وقف البنات " ([63])، وهذا ما أكده ابن عابدين فقال ([64]): "وقد أوضحها المحقق ابن كمال باشا في بعض رسائله ".
وبالتالي وجود الطبقات بعض رسائل ابن كمال رحمه الله أمر مسلم فيه، وبقي هل استقل بها في تأليف مستقل، فالظاهر نعم؛ لأنه وجدت لها العديد من المخطوطات كرسالة مستقلة -كما سيأتي -، فيمكن التعويل على هذا، بأنه أفردها بالتأليف لوحدها، وذكرها في بعض مؤلفاته عند مناقشة فكرة متعلقة بالطبقات؛ ليستدل بها، والله أعلم.
ثالثا: خطا ابن العماد في نسبة "طبقات الحنفية " لابن الحنائي إلى ابن كمال باشا:
نسب ابن العماد بعض التراجم المذكورة في "طبقات الحنفية " لابن الحنائي إلى "طبقات ابن كمال باشا "، وهي في الحقيقة موجودة بتمامها في "طبقات الحنفية " لابن الحنائي، والظاهر أنه ظن أن "طبقات ابن الحنائي " هي "طبقات ابن كمال باشا "، ومن التراجم التي ذكرها ونسبها لطبقات ابن كمال باشا:
يوسف بن أبي بكر السكاكى.... قاله ابن كمال باشا في "طبقاته " ([65]).
محمد بن عبد الغفار بن محمد العلماوي الكردري، قال ابن كمال باشا في "طبقاته ": كان أستاذ الأئمة على الإطلاق.... ([66]).
محمود بن عبد العزيز الأوزجندي الإمام الكبير، بقية السلف، مفتي الشرق، من طبقة المجتهدين في المسائل.... قاله ابن كمال باشا في "طبقاته " ([67]).
محمد بن محمود بن عبد الكريم الكردرب، المعروف بخواهر زاده الحنفي... قاله ابن كمال باشا ([68]).
رابعا: طبقات ابن كمال باشا بين القبول والرد:
لاقت طبقات ابن كمال انتشارا وقبولا كثيرا رغم رد المحققين لها؛ لما اشتملت عليه من الأغاليط، سواء في التقسيم أو في تصنيف الفقهاء فيها، وسبب هذا القبول ما اشتملت عليه من حسن الترتيب والاختصار وذكر الوظائف، لكن هذه الأمور يغتر بها من لم يكن من العلماء الضابطين، أو من لم يدقق النظر فيها وإن كان من المحققين.
فممن ذكروها في كتبهم: ابن الحنائي، والقاري، والأزهري، والكفوي، والحصكفي، وابن عابدين، والتميمي، وغيرهم.
أما ابن الحنائي: فقد ذكرها في كتابه: "طبقات الفقهاء "، وقال في نهايته ([69]): "كذا حققه بعض الفضلاء من المتأخرين ".
وأما القاري ([70]) والأزهري ([71]): فاقتصروا على ذكرها لا غير.
وأما الكفوي: فقد جعلهم خمس طبقات بدلا من سبع طبقات ([72]).
وأما الحصكفي: فلم يذكرها صريحا بل أشار إليها بقوله ([73]): "وقد ذكروا أن المجتهد المطلق قد فقد، وأما المقيد: فعلى سبع مراتب مشهورة ".
وأما ابن عابدين: فقد ذكرها ([74]) باختصار في "رد المحتار " في توضيح عبارة الحصكفي: "سبع مراتب مشهورة "، وأعاد ذكرها في "شرح عقود رسم المفتي " ([75]).
وأما التميمي: فقال بعد ذكرها ([76]): "هو تقسيم حسن جدا "، وتعقبه المرجاني ([77]) بقوله: "بل هو بعيد عن الصحة بمراحل فضلا عن حسنه جدا، فإنه تحكمات باردة وخيالات فارغة، وكلمات لا روح لها وألفاظ غير محصلة المعنى، ولا سلف له في ذلك المدعى، ولا سبيل له في تلك الدعوى، وإن تابعه من جاء من عقبه من غير دليل يتمسك به، وحجة تلجئه إليه.
ومهما تسامحنا معهم في عد الفقهاء والمتفقهة على هذه المراتب السبع، وهو غير مسلم لهم، فلا يتخلصون من فحش الغلط والوقوع في الخطأ المفرط في تعيين رجال الطبقات وترتيبهم على هذه الدرجات " ([78])، وكرر عامة هذا الكلام المطيعي ([79]) بدون نسبته للمرجاني.
فقد جعل المرجاني هذه الطبقات مجرد خيال لا يؤيده الواقع، ولا يشهد عليه شاهد، ولا يقوم عليها دليل، ولم يفعله أحد قبل ابن كمال باشا، وهي غير مسلمة من حيث مراتبها، ولا من حيث من وضع فيها من الرجال.
وهذا ما أيده الكوثري، فقال ([80]): "لم يصب في أحد الأمرين، لا في ترتيب الطبقات ولا في توزيع الفقهاء عليها، وإن لقي استحسانا من المقلدة بعده، وكان في نفس الشيخ عبد الحي وقفة في صنيع ابن كمال باشا، وقد شفى ما في نفسه عمل الناقد العصامي المرجاني في كتابه ناظورة الحق من تعقب يهدم الأمرين: الترتيب، والتوزيع معا، فعاد الأمر إلى نصابه بتحقيقه، فجزاه الله عن العلم خيرا ".
وقال اللكنوي ([81]): "وكذا ذكر-أي الطبقات-من جاء بعد-أي: ابن كمال باشا-مقلدا له، إلا أن فيه أنظارا شتى من جهة إدخال من الطبقة الأعلى في الأدنى، قد أبداها الفاضل هارون بهاء الدين شهاب الدين المرجاني الحنفي ".
وهذا كلام نفيس من اللكنوي والكوثري، حيث اعتبرا أن هذا الاستحسان من بعض الفقهاء هو محض تقليد بدون تفكر أو تحقيق أو تحرير للمسألة، وبالتالي فلا قيمة لهذا الاستحسان، وأما العلماء المحققون: كاللكنوي والمرجاني: فلم يقبلوه، وردوه.
وبذلك يتبين لنا أن هذه الطبقات مردودة بالكلية من قبل هؤلاء الأفاضل: المرجاني واللكنوي والكوثري.
خامسا: سبب رد طبقات ابن كمال في نظر المرجاني:
لما كان المرجاني هو العمدة في نقد هذه الطبقات، رأيت أن أخص بالذكر الأسباب التي دفعته لردها، وهي على النحو الآتي:
عدم ظهور تفريق بين الطبقات، فقال ([82]): "لم يحصل من بيانه فرق بين أخر طبقتين، وليت شعري بأي قياس قاسهم ووجد هذه التفاوت بينهم ".
عدم وجود الدراية الكاملة عند ابن كمال بفقهاء المذهب، فقال ([83]): "وهو قليل الممارسة في الباب، كليل المؤانسة بمن ذكره في الكتاب، ولا يعرف كثيرا منهم، وربما يجعل الواحد اثنين ويعكس الأمر، ويقدم على ما هو عليه ويؤخر، وينسب كثيرا من الكتب إلى غير أصحابها، فكيف يعرف طبقاتهم ويميز في الفقه درجاتهم.
عدم تمييز حال الفقهاء، فهم مشتركون بأكثر الأوصاف، فيصعب رفع أحدهم وإنزال أخر، قال ([84]): "والحال أن العلم بهذه الكلية كالمتعذر بالنسبة إلى أجلة الفقهاء وأئمة العلماء، فإنهم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها على ما يشير إليه قوله: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف: 48)، يريد والله أعلم أن كل أية إذا جرد النظر إليها قال الناظر: هي أكبر الآيات، وإلا فلا يتصور أن يكون كل أية أكبر من الأخرى من كل جهة؛ للتناقض ".
توهمه بالنظر إلى الألقاب التي ترجع للعرف، وليست للمكانة العلمية، قال ([85]): "ولكن لما كان الغالب على فقهاء العراق السذاجة في الألقاب، وعدم التلون في العنوانات، والجد في الجري على منهاج السلف في التجافي عن الألقاب الهائلة والأوصاف الحافلة، والتحاشي عن الترفع وتنويه النفس وإعجاب الحال تدينا وتصلبا، وتورعا وتأدبا، كما كان الغالب عليهم الخمول والاجتناب عن ولاية القضاء، وتناول الأعمال السلطانية؛ لأن منازع الاتباع ما كانت مفارقة عنهم، ولا شعارهم متحولا إلى شعار غيرهم، فكانوا يذهبون مذهبهم في الاكتفاء بالتميز عن غيرهم بأسماء ساذجة يبتذلها العامة، ويمتهنها السوقة من الانتساب إلى الصناعة أو القبيلة أو القرية أو المحلة أو نحوه ذلك: كالخصاف (ت 261 هـ) والجصاص (ت 370 هـ) والقدوري (ت 428ه) والثلجي (ت 256 هـ) والطحاوي (ت 321هـ) والكرخي (ت 340 هـ) والصيمري (436 هـ)، فجاء المتأخرون منهم على منهاجهم في الاكتفاء بها، وعدم الزيادة عليها في الحكاية عنهم.
وأما الغالب على أهل خراسان ولا سيما ما وراء النهر في القرون الوسطى والمتأخرة، فهو المغالاة في الترفع على غيرهم وإعجاب حالهم، والذهاب بأنفسهم عجبا وكبرا، والتصنع بالتواضع سمعة ورياء، يستصغرون الأحاديث عمن سواهم ولا يسترمون في معمورة الأرض مثوى غير مثواهم، قد تصور كل منهم في خلده أن الوجود كله يصغر بالإضافة إلى بلده، فلا جرم جرى عرق منهم في علمائهم، فلقبوا بالألقاب النبيلة، ووسموا بالأوصاف الجليلة، مثل: شمس الأئمة، وفخر الإسلام، وصدر الشريعة.
واستمرت الحال في أخلافهم على ذلك المنوال من الإتراف والغلو في تنويه أسلافهم، والغض من غيرهم، فإذا ذكروا واحدا من أنفسهم بالغوا في وصفه، وقالوا الشيخ الإمام الأجل الزاهد الفقيه ونحو ذلك، وإذا نقلوا كلاما عن غيرهم فلا يزيدون على مثل قولهم: قال الكرخي والجصاص.
وربما يقتدي بهم من عداهم ممن يتلقى منهم الكلام، فيظن الجاهل بأحوال الرجال ومراتبهم في الكمال وطبقات العلماء ودرجات الفقهاء ظن السوء، فيأخذ بالاستدلال بنباهة الأوصاف على نباهة الموصوف، فيحمله ذلك على الإنكار لمن عداهم واستخفاف رجال الله سواهم.
وقد كان ابن الكمال على ولاية عمل الإفتاء من جهة الدولة، فأحوجه ذلك إلى مراجعة كتب الفتاوى، والإكثار من مطالعة ما فيها في تحصيل إربه، والتخلص عن كربه، ووقع في نظره فيما سار به أهل ما وراء النهر من رفع أنفسهم، والوضع من غيرهم، فنزع إليهم، وصار ذلك طبيعة له وسببا لاندفاعه إلى هذه التحكمات الباردة والتعسفات الشاردة ".
وأقره على هذا اللكنوي ([86]) والكوثري ([87]) وغيرهما.
سادسا: وصف النسخ المخطوطة:
كثرت النسخ المخطوطة للكتاب في مكتبات العالم، ومنها:
في مركز الملك فيصل للبحوث، الرياض، رقم 04000-33، و08444-4، 08990-23، 09792-1، 6084-9-فب، 6084-9-فب. ومكتبة الحرم المكي رقم 10/125 مجاميع، والمكتبة المحمودية، المدينة المنورة، رقم 16/2650، 10/2673.
والمكتبة المركزية-جامعه الملك سعود رقم 1660.
والمكتبة المركزية لجدة 554/1 مجاميع.
ومكتبه كليه الآداب والمخطوطات، الكويت، 358 مج 1.
ومعهد المخطوطات العربية، مصر، 3658 ج (8)، ومكتبة الظاهريه، دمشق، 7831.
واقتصرت في تحقيق الرسالة على أربعة نسخ مخطوطة لحصول الكفاية بها، وهي:
النسخة :
وهي نسخة لطبقات ابن كمال ضمن معهد الثقافة والدراسات الشرقية في جامعة طوكيو اليابان، وتقع في ورقتين، تحتوي الصفحة الأولى على (21) سطر وهي بخط معتاد جيد.
النسخة (ب):
وهي نسخة لطبقات ابن كمال ضمن معهد الثقافة والدراسات الشرقية في جامعة طوكيو اليابان، وتقع في ورقة، تحتوي الصفحة الأولى على (22) سطر وهي بخط معتاد جيد.
النسخة (جـــ):
وهي نسخة لطبقات ابن كمال ضمن جامعة الملك سعود، وتقع في ورقة، تحتوي كل صفحة (18) سطر وهي بخط معتاد جيد.
النسخة (د):
وهي نسخة لطبقات ابن كمال ضمن مخطوطات الأزهر الشريف، وتقع في ورقة، تحتوي كل صفحة على (20) سطر وهي بخط معتاد جيد.
خامسا: النسخ المخطوطة المعتمد عليها في تحقيق الرسالة:
الصفحة الأولى والأخيرة من النسخة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/262.jpg
الصفحة الأولى من النسخة (ب)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/263.jpg
الصفحة الأولى والأخيرة من النسخة (جـــ)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/264.jpg
الصفحة الأولى والأخيرة من النسخة (د)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/265.jpg
المبحث الثالث
النص المحقق بسم الله الرحمن الرحيم
(الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، خاتم النبيين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين) ([88]).
اعلم (وفقني الله وإياك) ([89]) أن الفقهاء سبعة طبقات:
الأولى:
طبقة المجتهدين في الشرع:
كالأئمة الأربعة.
ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول، واستنباط أحكام الفروع عن الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، على حسب تلك القواعد، من غير تقليد لأحد لا في الفروع ولا في الأصول ([90]).
والثانية ([91]):
طبقة المجتهدين في المذهب:
كأبي يوسف ومحمد ([92]).
وسائر أصحاب أبي حنيفة ([93])، القادرين على استخراج الأحكام عن الأدلة المذكورة ([94]) على حسب مقتضى القواعد التي قررها أستاذهم أبي حنيفة ([95])، فإنهم وإن خالفوه في بعض أحكام الفروع.
لكنهم يقلدونه ([96]) في قواعد الأصول ([97])، وبه يمتازون عن المعارضين في المذهب ويفارقونهم: كالشافعي ونظائره المخالفين لأبي حنيفة في الأحكام (غير مقلدين) ([98]) له ([99]) في الأصول.
والثالثة ([100]):
طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب:
كالخصاف ([101]).
وأبي جعفر ([102]) الطحاوي ([103]) ([104]).
وأبي الحسن الكرخي ([105]) ([106]).
وشمس الأئمة الحلواني ([107]).
وشمس الأئمة السرخسي ([108])
وفخر الإسلام البزدوي ([109]).
وفخر الدين قاضي خان ([110])، وأمثالهم ([111]).
فإنهم لا يقدرون على المخالفة للشيخ، لا في الأصول ولا في الفروع، لكنهم يستنبطون الأحكام من المسائل التي لا نص فيها عنه على حسب أصول قررها ومقتضى قواعد بسطها.
والرابعة ([112]):
طبقة أصحاب التخريج من المقلدين:
كالرازي ([113]) وأضرابه ([114]).
فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلا، لكنهم لإحاطتهم بالأصول، وضبطهم للمأخذ، يقدرون على تفصيل قول مجمل ذي وجهين، وحكم محتمل لأمرين، منقول عن صاحب المذهب، أو عن أحد من أصحابه المجتهدين برأيهم ونظرهم في الأصول والمقايسة على أمثاله ونظائره من الفروع.
وما وقع في بعض المواضع من ((الهداية)) ([115]) من قوله: ((كذا في تخريج الكرخي))، و((تخريج الرازي)) من هذا القبيل.
والخامسة ([116]):
طبقة أصحاب الترجيح من المقلدين:
كأبي الحسن القدوري ([117]).
وصاحب ((الهداية)) ([118])، وأمثالهما ([119]).
وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض أخر، بقولهم: هذا أولى، وهذا أصح رواية، وهذا أوضح، وهذا أوفق للقياس، وهذا أرفق للناس.
والسادسة ([120]):
طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين القولين ([121]) الأقوى والقوي ([122]) والضعيف،
وظاهر الرواية (وظاهر المذهب) ([123]) والرواية ([124]) النادرة:
كأصحاب المتون المعتبرة ([125]) من المتأخرين
مثل: صاحب ((الكنز)) ([126]).
وصاحب ((المختار)) ([127]).
وصاحب ((الوقاية)) ([128]).
وصاحب ((المجمع)) ([129]) ([130]).
وشأنهم ([131]) أن لا ينقلوا في كتبهم الأقوال المردودة والروايات الضعيفة.
والسابعة ([132]):
طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر:
ولا يفرقون بين الغث ([133]) والسمين، ولا يميزون الشمال من اليمين، بل يجمعون ما يجدون كحاطب ليل، فالويل لمن قلدهم كل الويل ([134]).
(والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا) ([135]).
يتبع