تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله



الصفحات : [1] 2 3

ابو وليد البحيرى
2018-11-29, 07:14 AM
الحلقة (1)
تفسير السعدى
فففسورة الفاتحةققق
من الاية(1)الى الاية(7)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير الفاتحة
وهي مكية
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/254.jpg

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg.

( بِسْمِ اللَّهِ ) أي: أبتدئ بكل اسم لله تعالى, لأن لفظ ( اسم ) مفرد مضاف, فيعم جميع الأسماء [الحسنى]. ( اللَّهِ ) هو المألوه المعبود, المستحق لإفراده بالعبادة, لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال. ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء, وعمت كل حي, وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة, ومن عداهم فلهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg نصيب منها.
واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها, الإيمان بأسماء الله وصفاته, وأحكام الصفات.
فيؤمنون مثلا بأنه رحمن رحيم, ذو الرحمة التي اتصف بها, المتعلقة بالمرحوم. فالنعم كلها, أثر من آثار رحمته, وهكذا في سائر الأسماء. يقال في العليم: إنه عليم ذو علم, يعلم [به] كل شيء, قدير, ذو قدرة يقدر على كل شيء.
( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) [هو] الثناء على الله بصفات الكمال, وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل, فله الحمد الكامل, بجميع الوجوه. ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الرب, هو المربي جميع العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه لهم, وإعداده لهم الآلات, وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة, التي لو فقدوها, لم يمكن لهم البقاء. فما بهم من نعمة, فمنه تعالى.
وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة.
فالعامة: هي خلقه للمخلوقين, ورزقهم, وهدايتهم لما فيه مصالحهم, التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة: تربيته لأوليائه, فيربيهم بالإيمان, ويوفقهم له, ويكمله لهم, ويدفع عنهم الصوارف, والعوائق الحائلة بينهم وبينه, وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير, والعصمة عن كل شر. ولعل هذا [المعنى] هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب. فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.
فدل قوله ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) على انفراده بالخلق والتدبير, والنعم, وكمال غناه, وتمام فقر العالمين إليه, بكل وجه واعتبار.
( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) المالك: هو من اتصف بصفة الملك التي من آثارها أنه يأمر وينهى, ويثيب ويعاقب, ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات, وأضاف الملك ليوم الدين, وهو يوم القيامة, يوم يدان الناس فيه بأعمالهم, خيرها وشرها, لأن في ذلك اليوم, يظهر للخلق تمام الظهور, كمال ملكه وعدله وحكمته, وانقطاع أملاك الخلائق. حتى [إنه] يستوي في ذلك اليوم, الملوك والرعايا والعبيد والأحرار.
كلهم مذعنون لعظمته, خاضعون لعزته, منتظرون لمجازاته, راجون ثوابه, خائفون من عقابه, فلذلك خصه بالذكر, وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام.
وقوله ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) أي: نخصك وحدك بالعبادة
والاستعانة, لأن تقديم المعمول يفيد الحصر, وهو إثبات الحكم للمذكور, ونفيه عما عداه. فكأنه يقول: نعبدك, ولا نعبد غيرك, ونستعين بك, ولا نستعين بغيرك.
وقدم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg العبادة على الاستعانة, من باب تقديم العام على الخاص, واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده.
و ( العبادة ) اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال, والأقوال الظاهرة والباطنة. و ( الاستعانة ) هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع, ودفع المضار, مع الثقة به في تحصيل ذلك.
والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية, والنجاة من جميع الشرور, فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما. وإنما تكون العبادة عبادة, إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله. فبهذين الأمرين تكون عبادة, وذكر ( الاستعانة ) بعد ( العبادة ) مع دخولها فيها, لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى. فإنه إن لم يعنه الله, لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر, واجتناب النواهي.
ثم قال تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) أي: دلنا وأرشدنا, ووفقنا للصراط المستقيم, وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله, وإلى جنته, وهو معرفة الحق والعمل به, فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط. فالهداية إلى الصراط: لزوم دين الإسلام, وترك ما سواه من الأديان, والهداية في الصراط, تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا. فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته, لضرورته إلى ذلك.
وهذا الصراط المستقيم هو: ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ( غَيْرِ ) صراط ( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم. وغير صراط ( الضَّالِّينَ ) الذين تركوا الحق على جهل وضلال, كالنصارى ونحوهم.
فهذه السورة على إيجازها, قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن, فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يؤخذ من قوله: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
وتوحيد الإلهية وهو إفراد الله بالعبادة, يؤخذ من لفظ: ( اللَّهِ ) ومن قوله: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) وتوحيد الأسماء والصفات, وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى, التي أثبتها لنفسه, وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه, وقد دل على ذلك لفظ ( الْحَمْدُ ) كما تقدم. وتضمنت إثبات النبوة في قوله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة.
وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) وأن الجزاء يكون بالعدل, لأن الدين معناه الجزاء بالعدل.
وتضمنت إثبات القدر, وأن العبد فاعل حقيقة, خلافا للقدرية والجبرية. بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [والضلال] في قوله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) لأنه معرفة الحق والعمل به. وكل مبتدع [وضال] فهو مخالف لذلك.

وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى, عبادة واستعانة في قوله: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) فالحمد لله رب العالمين.

ابو وليد البحيرى
2018-11-29, 07:34 AM
الحلقة (2)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(1)الى الأية(5)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/254.jpg


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

تقدم الكلام على البسملة. وأما الحروف المقطعة في أوائل السور, فالأسلم فيها, السكوت عن التعرض لمعناها [من غير مستند شرعي], مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها.
وقوله ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة, المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم,
والحق المبين. فـ ( لا رَيْبَ فِيهِ ) ولا شك بوجه من الوجوه، ونفي الريب عنه, يستلزم ضده, إذ ضد الريب والشك اليقين، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب، وهذه قاعدة مفيدة, أن النفي المقصود به المدح, لا بد أن يكون متضمنا لضده, وهو الكمال, لأن النفي عدم, والعدم المحض, لا مدح فيه.
فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال: ( هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) والهدى: ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة، وقال ( هُدًى ) وحذف المعمول, فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية, ولا للشيء الفلاني, لإرادة العموم, وأنه هدى لجميع مصالح الدارين، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية, ومبين للحق من الباطل, والصحيح من الضعيف, ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم, في دنياهم وأخراهم.
وقال في موضع آخر: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هُدًى لِلنَّاسِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فعمم، وفي هذا الموضع وغيره ( هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق. فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا، ولم يقبلوا هدى الله, فقامت عليهم به الحجة, ولم ينتفعوا به لشقائهم، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر, لحصول الهداية, وهو التقوى التي حقيقتها: اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه, بامتثال أوامره, واجتناب النواهي, فاهتدوا به, وانتفعوا غاية الانتفاع. قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية, والآيات الكونية.
ولأن الهداية نوعان: هداية البيان, وهداية التوفيق. فالمتقون حصلت لهم الهدايتان, وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق. وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها, ليست هداية حقيقية [تامة].
ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة, والأعمال الظاهرة, لتضمن التقوى لذلك فقال: ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل, المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس, فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر. إنما الشأن في الإيمان بالغيب, الذي لم نره ولم نشاهده, وإنما نؤمن به, لخبر الله وخبر رسوله. فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر, لأنه تصديق مجرد لله ورسله. فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به, أو أخبر به رسوله, سواء شاهده, أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله, أو لم يهتد إليه عقله وفهمه. بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية, لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم, ومرجت أحلامهم. وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله.
ويدخل في الإيمان بالغيب, [الإيمان بـ] بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة, وأحوال الآخرة, وحقائق أوصاف الله وكيفيتها, [وما أخبرت به الرسل من < 1-41 > ذلك] فيؤمنون بصفات الله ووجودها, ويتيقنونها, وإن لم يفهموا كيفيتها.
ثم قال: ( وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) لم يقل: يفعلون الصلاة, أو يأتون بالصلاة, لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة. فإقامة الصلاة, إقامتها ظاهرا, بإتمام أركانها, وواجباتها, وشروطها. وإقامتها باطنا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg بإقامة روحها, وهو حضور القلب فيها, وتدبر ما يقوله ويفعله منها، فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهي التي يترتب عليها الثواب. فلا ثواب للإنسان http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg من صلاته, إلا ما عقل منها، ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها.
ثم قال: ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة, والنفقة على الزوجات والأقارب, والمماليك ونحو ذلك. والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير. ولم يذكر المنفق عليهم, لكثرة أسبابه وتنوع أهله, ولأن النفقة من حيث هي, قربة إلى الله، وأتى بـ " من "الدالة على التبعيض, لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءا يسيرا من أموالهم, غير ضار لهم ولا مثقل, بل ينتفعون هم بإنفاقه, وينتفع به إخوانهم.
وفي قوله: ( رَزَقْنَاهُمْ ) إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم, ليست حاصلة بقوتكم وملككم, وإنما هي رزق الله الذي خولكم, وأنعم به عليكم، فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده, فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم, وواسوا إخوانكم المعدمين.
وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن, لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود, والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود, وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه, فلا إخلاص ولا إحسان.
ثم قال: ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ ) وهو القرآن والسنة، قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول, ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه, فيؤمنون ببعضه, ولا يؤمنون ببعضه, إما بجحده أو تأويله, على غير مراد الله ورسوله, كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة, الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم, بما حاصله عدم التصديق بمعناها, وإن صدقوا بلفظها, فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا.
وقوله: ( وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ ) يشمل الإيمان بالكتب http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg السابقة، ويتضمن الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه, خصوصا التوراة والإنجيل والزبور، وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب السماوية http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم.
ثم قال: ( وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) و " الآخرة "اسم لما يكون بعد الموت، وخصه [بالذكر] بعد العموم, لأن الإيمان باليوم الآخر, أحد أركان الإيمان؛ ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل، و " اليقين "هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك, الموجب للعمل.
( أُولَئِكَ ) أي: الموصوفون بتلك الصفات الحميدة ( عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) أي: على هدى عظيم, لأن التنكير للتعظيم، وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة، وهل الهداية [الحقيقية] إلا هدايتهم، وما سواها [مما خالفها]، فهو http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ضلالة.

وأتى بـ " على "في هذا الموضع, الدالة على الاستعلاء, وفي الضلالة يأتي بـ " في "كما في قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى, مرتفع به, وصاحب الضلال منغمس فيه محتَقر.
ثم قال: ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) والفلاح [هو] الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، حصر الفلاح فيهم؛ لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم, وما عدا تلك السبيل, فهي سبل الشقاء والهلاك والخسار التي تفضي بسالكها إلى الهلاك.

فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقا, ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم، المعاندين للرسول، فقال:

ابو وليد البحيرى
2018-12-01, 02:20 AM
الحلقة (3)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(6)الى الأية(16)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/254.jpg


(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) ) .

يخبر تعالى أن الذين كفروا, أي: اتصفوا بالكفر, وانصبغوا به, وصار وصفا لهم لازما, لا يردعهم عنه رادع, ولا ينجع فيهم وعظ، إنهم مستمرون على كفرهم, فسواء عليهم أأنذرتهم, أم لم تنذرهم لا يؤمنون، وحقيقة الكفر: هو الجحود لما جاء به الرسول, أو جحد بعضه، فهؤلاء الكفار لا تفيدهم < 1-42 > الدعوة إلا إقامة الحجة, وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول صلى الله عليه وسلم في إيمانهم, وأنك لا تأس عليهم, ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.
ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان فقال: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) أي: طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان, ولا ينفذ فيها، فلا يعون ما ينفعهم, ولا يسمعون ما يفيدهم.
( وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) أي: غشاء وغطاء وأكنة تمنعها عن النظر الذي ينفعهم, وهذه طرق العلم والخير, قد سدت عليهم, فلا مطمع فيهم, ولا خير يرجى عندهم، وإنما منعوا ذلك, وسدت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق, كما قال تعالى: ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) وهذا عقاب عاجل.

ثم ذكر العقاب الآجل، فقال: ( وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) وهو عذاب النار, وسخط الجبار المستمر الدائم.
ثم قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر فقال:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) .
واعلم أن النفاق هو: إظهار الخير وإبطان الشر، ويدخل في هذا التعريف النفاق الاعتقادي, والنفاق العملي، كالذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " آية المنافق ثلات: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان "وفي رواية: " وإذا خاصم فجر "
وأما النفاق الاعتقادي المخرج عن دائرة الإسلام, فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها، ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم [من مكة] إلى المدينة, وبعد أن هاجر, فلما كانت وقعة " بدر " وأظهر الله المؤمنين وأعزهم، ذل من في المدينة ممن لم يسلم, فأظهر بعضهم الإسلام خوفا ومخادعة, ولتحقن دماؤهم, وتسلم أموالهم, فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم منهم, وفي الحقيقة ليسوا منهم.
فمن لطف الله بالمؤمنين, أن جلا أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها, لئلا يغتر بهم المؤمنون, ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم [قال تعالى]: ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ) فوصفهم الله بأصل النفاق فقال: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فأكذبهم الله بقوله: ( وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) لأن الإيمان الحقيقي, ما تواطأ عليه القلب واللسان, وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين.
والمخادعة: أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا, ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع، فهؤلاء المنافقون, سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك, فعاد خداعهم على أنفسهم، فإن هذا من العجائب؛ لأن المخادع, إما أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد أو يسلم, لا له ولا عليه، وهؤلاء عاد خداعهم عليهم, وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها؛ لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم [شيئا] وعباده المؤمنون, لا يضرهم كيدهم شيئا، فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان, فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم, وصار كيدهم في نحورهم, وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا, والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة.
ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع, بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم, والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك.
وقوله: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) والمراد بالمرض هنا: مرض الشك والشبهات والنفاق، لأن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة, ومرض الشهوات المردية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع, كلها من مرض الشبهات، والزنا, ومحبة [الفواحش و]المعاصي وفعلها, من مرض الشهوات ، كما قال تعالى: ( فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ )وهي شهوة الزنا، والمعافى من عوفي من هذين المرضين, فحصل له اليقين والإيمان, والصبر عن كل معصية, فرفل في أثواب العافية.
وفي قوله عن المنافقين: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ) بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين, وأنه بسبب ذنوبهم السابقة, يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى: ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ )وقال تعالى: ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) وقال تعالى: ( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ )فعقوبة المعصية, المعصية بعدها, كما أن من ثواب الحسنة, الحسنة بعدها، قال تعالى: ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ) .
< 1-43 >
( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) ).
أي: إذا نهي هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض, وهو العمل بالكفر والمعاصي, ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالاتهم للكافرين ( قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض, وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح, قلبا للحقائق, وجمعا بين فعل الباطل واعتقاده حقا، وهذا أعظم جناية ممن يعمل بالمعصية, مع اعتقاد أنها معصية فهذا أقرب للسلامة, وأرجى لرجوعه.
ولما كان في قولهم: ( إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) حصر للإصلاح في جانبهم - وفي ضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الإصلاح - قلب الله عليهم دعواهم بقوله: ( ألا إنهم هم المفسدون ) فإنه لا أعظم فسادا ممن كفر بآيات الله, وصد عن سبيل الله، وخادع الله وأولياءه, ووالى المحاربين لله ورسوله, وزعم مع ذلك أن هذا إصلاح, فهل بعد هذا الفساد فساد؟ !! ولكن لا يعلمون علما ينفعهم, وإن كانوا قد علموا بذلك علما تقوم به عليهم حجة الله، وإنما كان العمل بالمعاصي في الأرض إفسادا, لأنه يتضمن فساد ما على وجه الأرض من الحبوب والثمار والأشجار, والنبات, بما يحصل فيها من الآفات بسبب المعاصي، ولأن الإصلاح في الأرض أن تعمر بطاعة الله والإيمان به, لهذا خلق الله الخلق, وأسكنهم في الأرض, وأدر لهم الأرزاق, ليستعينوا بها على طاعته [وعبادته]، فإذا عمل فيها بضده, كان سعيا فيها بالفساد فيها, وإخرابا لها عما خلقت له.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس, أي: كإيمان الصحابة رضي الله عنهم، وهو الإيمان بالقلب واللسان, قالوا بزعمهم الباطل: أنؤمن كما آمن السفهاء؟ يعنون - قبحهم الله - الصحابة رضي الله عنهم, بزعمهم أن سفههم أوجب لهم الإيمان, وترك الأوطان, ومعاداة الكفار، والعقل عندهم يقتضي ضد ذلك, فنسبوهم إلى السفه; وفي ضمنه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg أنهم هم العقلاء أرباب الحجى والنهى.
فرد الله ذلك عليهم, وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة, لأن حقيقة السفه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg جهل الإنسان بمصالح نفسه, وسعيه فيما يضرها, وهذه الصفة منطبقة عليهم وصادقة عليهم، كما أن العقل والحجا, معرفة الإنسان بمصالح نفسه, والسعي فيما ينفعه, و[في] دفع ما يضره، وهذه الصفة منطبقة على [الصحابة و]المؤمنين وصادقة عليهم، فالعبرة بالأوصاف والبرهان, لا بالدعاوى المجردة, والأقوال الفارغة. ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، و[ذلك] أنهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين, أظهروا أنهم على طريقتهم وأنهم معهم, فإذا خلوا إلى شياطينهم - أي: رؤسائهم وكبرائهم في الشر - قالوا: إنا معكم في الحقيقة, وإنما نحن مستهزئون بالمؤمنين بإظهارنا لهم, أنا على طريقتهم، فهذه حالهم الباطنة والظاهرة, ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
قال تعالى: ( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) وهذا جزاء لهم, على استهزائهم بعباده، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثة, حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين, لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم، ومن استهزائه بهم يوم القيامة, أنه يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا, فإذا مشى المؤمنون بنورهم, طفئ نور المنافقين, وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين, فما أعظم اليأس بعد الطمع، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآية.
قوله: ( وَيَمُدُّهُمْ ) أي: يزيدهم ( فِي طُغْيَانِهِمْ ) أي: فجورهم وكفرهم، ( يَعْمَهُونَ ) أي: حائرون مترددون, وهذا من استهزائه تعالى بهم.
ثم قال تعالى كاشفا عن حقيقة أحوالهم:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أولئك, أي: المنافقون الموصوفون بتلك الصفات ( الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) أي: رغبوا في الضلالة, رغبة المشتري بالسلعة, التي من رغبته فيها يبذل فيها الأثمان http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg النفيسة. وهذا من أحسن الأمثلة, فإنه جعل الضلالة, التي هي غاية الشر, كالسلعة، وجعل الهدى الذي هو غاية الصلاح بمنزلة الثمن، فبذلوا الهدى رغبة عنه بالضلالة رغبة فيها، فهذه تجارتهم, فبئس التجارة, وبئس الصفقة صفقتهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
< 1-44 >
وإذا كان من بذل http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg دينارا في مقابلة درهم خاسرا, فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها درهما؟" فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضلالة, واختار الشقاء على السعادة, ورغب في سافل الأمور عن عاليها http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ؟" فما ربحت تجارته, بل خسر فيها أعظم خسارة. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وقوله: ( وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) تحقيق لضلالهم, وأنهم لم يحصل لهم من الهداية شيء, فهذه أوصافهم القبيحة.
ثم ذكر مثلهم الكاشف لها غاية الكشف، فقال:

ابو وليد البحيرى
2018-12-01, 02:29 AM
الحلقة (4)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(17)الى الأية(24)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/254.jpg


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

أي: مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارا، أي: كان في ظلمة عظيمة, وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره, ولم تكن عنده معدة, بل هي خارجة عنه، فلما أضاءت النار ما حوله, ونظر المحل الذي هو فيه, وما فيه من المخاوف وأمنها, وانتفع بتلك النار, وقرت بها عينه, وظن أنه قادر عليها, فبينما هو كذلك, إذ ذهب الله بنوره, فذهب عنه النور, وذهب معه السرور, وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة, فذهب ما فيها من الإشراق, وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمة المطر, والظلمة الحاصلة بعد النور, فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون, استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين, ولم تكن صفة لهم, فانتفعوا بها وحقنت بذلك دماؤهم, وسلمت أموالهم, وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم الموت, فسلبهم الانتفاع بذلك النور, وحصل لهم كل هم وغم وعذاب, وحصل لهم ظلمة القبر, وظلمة الكفر, وظلمة النفاق, وظلم المعاصي على اختلاف أنواعها, وبعد ذلك ظلمة النار [وبئس القرار].
فلهذا قال تعالى [عنهم]: ( صُمٌّ ) أي: عن سماع الخير، ( بُكْمٌ ) [أي]: عن النطق به، ( عُمْيٌ ) عن رؤية الحق، ( فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه, فلا يرجعون إليه، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال, فإنه لا يعقل, وهو أقرب رجوعا منهم.
ثم قال تعالى: ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ) يعني: أو مثلهم كصيب، أي: كصاحب صيب من السماء، وهو المطر الذي يصوب, أي: ينزل بكثرة، ( فِيهِ ظُلُمَاتٌ ) ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمة المطر، ( وَرَعْدٌ ) وهو الصوت الذي يسمع من السحاب، ( وَبَرْقٌ ) وهو الضوء [اللامع] المشاهد مع السحاب.
( كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ ) البرق في تلك الظلمات ( مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) أي: وقفوا.
فهكذا حال المنافقين, إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده, جعلوا أصابعهم في آذانهم, وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده ووعيده, فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم, ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد, ويجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت, فهذا تمكن له السلامة. وأما المنافقون فأنى لهم السلامة, وهو تعالى محيط بهم, قدرة وعلما فلا يفوتونه ولا يعجزونه, بل يحفظ عليهم أعمالهم, ويجازيهم عليها أتم الجزاء.
ولما كانوا مبتلين بالصمم, والبكم, والعمى المعنوي, ومسدودة عليهم طرق الإيمان، قال تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ) أي: الحسية, ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية, ليحذروا, فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم، ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض.
وفي هذه الآية وما أشبهها, رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى, لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله: ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

هذا أمر عام لكل الناس, بأمر عام, وهو العبادة الجامعة, لامتثال أوامر الله, واجتناب نواهيه, وتصديق خبره, فأمرهم تعالى بما خلقهم له، قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
ثم استدل على وجوب عبادته وحده, بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم, فخلقكم بعد العدم, وخلق الذين من قبلكم, وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة, فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها, وتنتفعون بالأبنية, والزراعة, والحراثة, والسلوك من محل إلى محل, وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم, وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم, كالشمس, والقمر, والنجوم.
( وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) والسماء: [هو] كل ما علا فوقك فهو سماء, ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هاهنا: السحاب، فأنزل منه تعالى ماء، ( فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) كالحبوب, والثمار, من نخيل, وفواكه, [وزروع] وغيرها ( رِزْقًا لَكُمْ ) به ترتزقون, وتقوتون وتعيشون وتفكهون.
( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ) أي: نظراء وأشباها من المخلوقين, فتعبدونهم كما تعبدون الله, وتحبونهم كما تحبون الله, وهم مثلكم, مخلوقون, مرزوقون مدبرون, لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون، ( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أن الله ليس له شريك, ولا نظير, لا في الخلق, والرزق, والتدبير, ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب, وأسفه السفه.
وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده, والنهي عن عبادة ما سواه, وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته, وبطلان عبادة من سواه, وهو [ذكر] توحيد الربوبية, المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك, فكذلك فليكن إقراره بأن [الله] لا شريك له في العبادة, وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري، وبطلان الشرك.
وقوله تعالى: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) يحتمل أن المعنى: أنكم إذا عبدتم الله وحده, اتقيتم بذلك سخطه وعذابه, لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك، ويحتمل أن يكون المعنى: أنكم إذا عبدتم الله, صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى, وكلا المعنيين صحيح, وهما متلازمان، فمن أتى بالعبادة كاملة, كان من المتقين، ومن كان من المتقين, حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه. ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به، فقال: ( وإن كنتم ) معشر المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه في شك واشتباه, مما نزلنا على عبدنا, هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم, ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم, لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله, وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون, فأتوا بسورة من مثله, واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم, فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة, والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله, فهو كما زعمتم, وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز, ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg على وجه الإنصاف والتنزل معكم، فهذا آية كبرى, ودليل واضح [جلي] على صدقه وصدق ما جاء به, فيتعين عليكم اتباعه, واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [والشدة], أن كانت وقودها الناس والحجارة, ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب, وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله, بعد ما تبين لكم أنه رسول الله.
وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي, وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
وكيف يقدر المخلوق من تراب, أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل, الذي له الكمال المطلق, والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [بأنواع] الكلام, إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء, ظهر له الفرق العظيم.
وفي قوله: ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) إلى آخره, دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة: [هو] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg إن كان صادقا في طلب الحق.
وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه, فهذا لا يمكن رجوعه, لأنه ترك الحق بعد ما تبين له, لم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه.
وكذلك الشاك غير الصادق http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg في طلب الحق, بل هو معرض غير مجتهد في طلبه, فهذا في الغالب أنه لا يوفق.
وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم, دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم, قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين.
كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg وفي مقام الإنزال، فقال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
وفي قوله: ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، وفيها أيضا, أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار, لأنه قال: ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) فلو كان [عصاة الموحدين] يخلدون فيها, لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة.

وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه, وهو الكفر, وأنواع المعاصي على اختلافها.

ابو وليد البحيرى
2018-12-03, 10:48 PM
الحلقة (5)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(25)الى الأية(29)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/254.jpg

( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) .
لما ذكر جزاء الكافرين, ذكر جزاء المؤمنين, أهل الأعمال الصالحات, على طريقته تعالى في القرآن يجمع بين الترغيب والترهيب, ليكون العبد راغبا راهبا, خائفا راجيا فقال: ( وَبَشِّرِ ) أي: [يا أيها الرسول ومن قام مقامه] ( الَّذِينَ آمَنُوا ) بقلوبهم ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) بجوارحهم, فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة.
ووصفت أعمال الخير بالصالحات, لأن بها تصلح أحوال العبد, وأمور دينه ودنياه, وحياته الدنيوية والأخروية, ويزول بها عنه فساد الأحوال, فيكون بذلك من الصالحين, الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.
فبشرهم ( أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ) أي: بساتين جامعة من الأشجار العجيبة, والثمار الأنيقة, والظل المديد, [والأغصان والأفنان وبذلك] صارت جنة يجتن بها داخلها, وينعم فيها ساكنها.
( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) أي: أنهار الماء, واللبن, والعسل, والخمر، يفجرونها كيف شاءوا, ويصرفونها أين أرادوا, وتشرب منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار.
( كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ) أي: هذا من جنسه, وعلى وصفه, كلها متشابهة في الحسن واللذة، ليس فيها ثمرة خاصة, وليس لهم وقت خال من اللذة, فهم دائما متلذذون بأكلها.
وقوله: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) قيل: متشابها في الاسم, مختلف الطعوم وقيل: متشابها في اللون, مختلفا في الاسم، وقيل: يشبه بعضه بعضا, في الحسن, واللذة, والفكاهة, ولعل هذا هو الصحيح .
ثم لما ذكر مسكنهم, وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم, ذكر أزواجهم, فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه, وأوضحه فقال: ( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ) فلم يقل " مطهرة من العيب الفلاني "ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق, مطهرات الخلق, مطهرات اللسان, مطهرات الأبصار، فأخلاقهن, أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن, وحسن التبعل, والأدب القولي والفعلي, ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني, والبول والغائط, والمخاط والبصاق, والرائحة الكريهة، ومطهرات الخلق أيضا, بكمال الجمال, فليس فيهن عيب, ولا دمامة خلق, بل هن خيرات حسان, مطهرات اللسان والطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن, وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح.
ففي هذه الآية الكريمة, ذكر المبشِّر والمبشَّر, والمبشَّر به, والسبب الموصل لهذه البشارة، فالمبشِّر: هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته، والمبشَّر: هم المؤمنون العاملون الصالحات، والمبشَّر به: هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات، والسبب الموصل لذلك, هو الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة, إلا بهما، وهذا أعظم بشارة حاصلة, على يد أفضل الخلق, بأفضل الأسباب.
وفيه استحباب بشارة المؤمنين, وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها [وثمراتها], فإنها بذلك تخف وتسهل، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان, توفيقه للإيمان والعمل الصالح، فذلك أول البشارة وأصلها، ومن بعده البشرى عند الموت، ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم، نسأل الله أن يجعلنا منهم .
( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) .
يقول تعالى ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا ) أي: أيَّ مثل كان ( بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) لاشتمال الأمثال على الحكمة, وإيضاح الحق, والله لا يستحيي من الحق، وكأن في هذا, جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة، واعترض على الله في ذلك. فليس في ذلك محل اعتراض. بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم. فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر. ولهذا قال: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) فيتفهمونها، ويتفكرون فيها.
فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل، ازداد بذلك علمهم وإيمانهم، وإلا علموا أنها حق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا، بل لحكمة بالغة، ونعمة سابغة.
( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا ) فيعترضون ويتحيرون، فيزدادون كفرا إلى كفرهم، كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ولهذا قال: ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ) فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية. قال تعالى:( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة [وضلالة] وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة [ورحمة] وزيادة خير إلى خيرهم، فسبحان من فاوت بين عباده، وانفرد بالهداية والإضلال.
ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى فقال: ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ) أي: الخارجين عن طاعة الله; المعاندين لرسل الله; الذين صار الفسق وصفهم; فلا يبغون به بدلا فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة.
والفسق نوعان: نوع مخرج من الدين، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان; كالمذكور في هذه الآية ونحوها، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الآية].
ثم وصف الفاسقين فقال: ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه والذي بينهم وبين عباده الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات، فلا يبالون بتلك المواثيق; بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه; وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق.
( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته، وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب; وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق التي أمر الله أن نصلها.
فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق، وقاموا بها أتم القيام، وأما الفاسقون، فقطعوها، ونبذوها وراء ظهورهم; معتاضين عنها بالفسق والقطيعة; والعمل بالمعاصي; وهو: الإفساد في الأرض.
فـ ( فَأُولَئِكَ ) أي: من هذه صفته ( هُمُ الْخَاسِرُونَ ) في الدنيا والآخرة، فحصر الخسارة فيهم; لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم; ليس لهم نوع من الربح؛ لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان; فمن لا إيمان له لا عمل له; وهذا الخسار هو خسار الكفر، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا; وقد يكون معصية; وقد يكون تفريطا في ترك مستحب، المذكور في قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg فهذا عام لكل مخلوق; إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح; والتواصي بالحق; والتواصي بالصبر; وحقيقة فوات الخير; الذي [كان] العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه.
.ثم قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار، أي: كيف يحصل منكم الكفر بالله; الذي خلقكم من العدم; وأنعم عليكم بأصناف النعم; ثم يميتكم عند استكمال آجالكم; ويجازيكم في القبور; ثم يحييكم بعد البعث والنشور; ثم إليه ترجعون; فيجازيكم الجزاء الأوفى، فإذا كنتم في تصرفه; وتدبيره; وبره; وتحت أوامره الدينية; ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي; أفيليق بكم أن تكفروا به; وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه وحماقة ؟ بل الذي يليق بكم أن تؤمنوا به وتتقوه وتشكروه وتخافوا عذابه; وترجوا ثوابه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ) أي: خلق لكم, برا بكم ورحمة, جميع ما على الأرض, للانتفاع والاستمتاع والاعتبار.
وفي هذه الآية العظيمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة, لأنها سيقت في معرض الامتنان، يخرج بذلك الخبائث, فإن [تحريمها أيضا] يؤخذ من فحوى الآية, ومعرفة المقصود منها, وأنه خلقها لنفعنا, فما فيه ضرر, فهو خارج من ذلك، ومن تمام نعمته, منعنا من الخبائث, تنزيها لنا.
وقوله: ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .
( اسْتَوَى ) ترد في القرآن على ثلاثة معاني: فتارة لا تعدى بالحرف، فيكون معناها, الكمال والتمام, كما في قوله عن موسى: ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg وتارة تكون بمعنى " علا "و " ارتفع "وذلك إذا عديت بـ " على "كما في قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg وتارة تكون بمعنى " قصد "كما إذا عديت بـ " إلى "كما في هذه الآية، أي: لما خلق تعالى الأرض, قصد إلى خلق السماوات ( فسواهن سبع سماوات ) فخلقها وأحكمها, وأتقنها, ( وهو بكل شيء عليم ) فـ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg و http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg يعلم السر وأخفى.
وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية, وكما في قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg لأن خلقه للمخلوقات, أدل دليل على علمه, وحكمته, وقدرته.

ابو وليد البحيرى
2018-12-03, 11:07 PM
الحلقة (6)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(26)الى الأية(37)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/254.jpg


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
هذا شروع في ذكر فضل آدم عليه السلام أبي البشر أن الله حين أراد خلقه أخبر الملائكة بذلك, وأن الله مستخلفه في الأرض.
فقالت الملائكة عليهم السلام: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) بالمعاصي ( وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) [و]هذا تخصيص بعد تعميم, لبيان [شدة] مفسدة القتل، وهذا بحسب ظنهم أن الخليفة المجعول في الأرض سيحدث منه ذلك, فنزهوا الباري عن ذلك, وعظموه, وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه خال من المفسدة فقالوا: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ) أي: ننزهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك، ( وَنُقَدِّسُ لَكَ ) يحتمل أن معناها: ونقدسك, فتكون اللام مفيدة للتخصيص والإخلاص، ويحتمل أن يكون: ونقدس لك أنفسنا، أي: نطهرها بالأخلاق الجميلة, كمحبة الله وخشيته وتعظيمه, ونطهرها من الأخلاق الرذيلة.
قال الله تعالى للملائكة: ( إِنِّي أَعْلَمُ ) من هذا الخليفة ( مَا لا تَعْلَمُونَ ) ؛ لأن كلامكم بحسب ما ظننتم, وأنا عالم بالظواهر والسرائر, وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة, أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر فلو لم يكن في ذلك, إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين, والشهداء والصالحين, ولتظهر آياته لخلقه, ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة, كالجهاد وغيره, وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم من الخير والشر بالامتحان, وليتبين عدوه من وليه, وحزبه من حربه, وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه, واتصف به, فهذه حكم عظيمة, يكفي بعضها في ذلك.
ثم لما كان قول الملائكة عليهم السلام, فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله الله في الأرض, أراد الله تعالى, أن يبين لهم من فضل آدم, ما يعرفون به فضله, وكمال حكمة الله وعلمه فـ ( عَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) أي: أسماء الأشياء, وما هو مسمى بها، فعلمه الاسم والمسمى, أي: الألفاظ والمعاني, حتى المكبر من الأسماء كالقصعة، والمصغر كالقصيعة.
( ثُمَّ عَرَضَهُمْ ) أي: عرض المسميات ( عَلَى الْمَلائِكَةِ ) امتحانا لهم, هل يعرفونها أم لا؟.
( فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) في قولكم وظنكم, أنكم أفضل من هذا الخليفة.
( قَالُوا سُبْحَانَكَ ) أي: ننزهك من الاعتراض منا عليك, ومخالفة أمرك. ( لا عِلْمَ لَنَا ) بوجه من الوجوه ( إِلا مَا عَلَّمْتَنَا ) إياه, فضلا منك وجودا، ( إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) العليم الذي أحاط علما بكل شيء, فلا يغيب عنه ولا يعزب مثقال ذرة في السماوات والأرض, ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
الحكيم: من له الحكمة التامة التي لا يخرج عنها مخلوق, ولا يشذ عنها مأمور، فما خلق شيئا إلا لحكمة: ولا أمر بشيء إلا لحكمة، والحكمة: وضع الشيء في موضعه اللائق به، فأقروا, واعترفوا بعلم الله وحكمته, وقصورهم عن معرفة أدنى شيء، واعترافهم بفضل الله عليهم; وتعليمه إياهم ما لا يعلمون.
فحينئذ قال الله: ( يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ) أي: أسماء المسميات التي عرضها الله على الملائكة; فعجزوا عنها، ( فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ) تبين للملائكة فضل آدم عليهم; وحكمة الباري وعلمه في استخلاف هذا الخليفة، ( قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) وهو ما غاب عنا; فلم نشاهده، فإذا كان عالما بالغيب; فالشهادة من باب أولى، ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ) أي: تظهرون ( وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) .
ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم; إكراما له وتعظيما; وعبودية لله تعالى، فامتثلوا أمر الله; وبادروا كلهم بالسجود، ( إِلا إِبْلِيسَ أَبَى ) امتنع عن السجود; واستكبر عن أمر الله وعلى آدم، قال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg وهذا الإباء منه والاستكبار; نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه; فتبينت حينئذ عداوته لله ولآدم وكفره واستكباره.
وفي هذه الآيات من العبر والآيات; إثبات الكلام لله تعالى; وأنه لم يزل متكلما; يقول ما شاء; ويتكلم بما شاء; وأنه عليم حكيم، وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالواجب عليه; التسليم; واتهام عقله; والإقرار لله بالحكمة، وفيه اعتناء الله بشأن الملائكة; وإحسانه بهم; بتعليمهم ما جهلوا; وتنبيههم على ما لم يعلموه.
وفيه فضيلة العلم من وجوه:
منها: أن الله تعرف لملائكته; بعلمه وحكمته ، ومنها: أن الله عرفهم فضل آدم بالعلم; وأنه أفضل صفة تكون في العبد، ومنها: أن الله أمرهم بالسجود لآدم; إكراما له; لما بان فضل علمه، ومنها: أن الامتحان للغير; إذا عجزوا عما امتحنوا به; ثم عرفه صاحب الفضيلة; فهو أكمل مما عرفه ابتداء، ومنها: الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن; وبيان فضل آدم; وأفضال الله عليه; وعداوة إبليس له; إلى غير ذلك من العبر.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
لما خلق الله آدم وفضله; أتم نعمته عليه; بأن خلق منه زوجة ليسكن إليها; ويستأنس بها; وأمرهما بسكنى الجنة; والأكل منها رغدا; أي: واسعا هنيئا، ( حَيْثُ شِئْتُمَا ) أي: من أصناف الثمار والفواكه; وقال الله له: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
( وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) نوع من أنواع شجر الجنة; الله أعلم بها، وإنما نهاهما عنها امتحانا وابتلاء [أو لحكمة غير معلومة لنا] ( فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) دل على أن النهي للتحريم; لأنه رتب عليه الظلم.
فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه; حتى أزلهما، أي: حملهما على الزلل بتزيينه. ( وَقَاسَمَهُمَا ) بالله ( إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) فاغترا به وأطاعاه; فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد; وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة.
( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) أي: آدم وذريته; أعداء لإبليس وذريته، ومن المعلوم أن العدو; يجد ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق; وحرمانه الخير بكل طريق، ففي ضمن هذا, تحذير بني آدم من الشيطان كما قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ * أَفَتَتَّخِذُون َهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
ثم ذكر منتهى الإهباط إلى الأرض، فقال: ( وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ ) أي: مسكن وقرار، ( وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) انقضاء آجالكم, ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها, وخلقت لكم، ففيها أن مدة هذه الحياة, مؤقتة عارضة, ليست مسكنا حقيقيا, وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار, ولا تعمر للاستقرار.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg فَتَلَقَّى آدَمُ (37) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
( فَتَلَقَّى آدَمُ ) أي: تلقف وتلقن, وألهمه الله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg وهي قوله: ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا )الآية، فاعترف بذنبه وسأل الله مغفرته ( فَتَابَ ) الله ( عَلَيْهِ ) ورحمه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg لمن تاب إليه وأناب.
وتوبته نوعان: توفيقه أولا ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانيا.
( الرَّحِيمُ ) بعباده, ومن رحمته بهم, أن وفقهم للتوبة, وعفا عنهم وصفح.

ابو وليد البحيرى
2018-12-06, 02:58 AM
الحلقة (7)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(38)الى الأية(48)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/254.jpg



http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
كرر الإهباط, ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله: ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى ) أي: أيَّ وقت وزمان جاءكم مني -يا معشر الثقلين- هدى, أي: رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني, ويدنيكم مني; ويدنيكم من رضائي، ( فمن تبع هداي ) منكم, بأن آمن برسلي وكتبي, واهتدى بهم, وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب, والامتثال للأمر والاجتناب للنهي، ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .
وفي الآية الأخرى: ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ).
فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء:
نفي الخوف والحزن والفرق بينهما, أن المكروه إن كان قد مضى, أحدث الحزن, وإن كان منتظرا, أحدث الخوف، فنفاهما عمن اتبع هداه وإذا انتفيا, حصل ضدهما, وهو الأمن التام، وكذلك نفي الضلال والشقاء عمن اتبع هداه وإذا انتفيا ثبت ضدهما، وهو الهدى والسعادة، فمن اتبع هداه, حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى، وانتفى عنه كل مكروه, من الخوف, والحزن, والضلال, والشقاء، فحصل له المرغوب, واندفع عنه المرهوب، وهذا عكس من لم يتبع هداه, فكفر به, وكذب بآياته.
فـ ( أولئك أصحاب النار ) أي: الملازمون لها, ملازمة الصاحب لصاحبه, والغريم لغريمه، ( هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون.
وفي هذه الآيات وما أشبهها, انقسام الخلق من الجن والإنس, إلى أهل السعادة, وأهل الشقاوة, وفيها صفات الفريقين والأعمال الموجبة لذلك، وأن الجن كالإنس في الثواب والعقاب, كما أنهم مثلهم, في الأمر والنهي.
ثم شرع تعالى يذكِّر بني إسرائيل نعمه عليهم وإحسانه فقال:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) المراد بإسرائيل: يعقوب عليه السلام، والخطاب مع فرق بني إسرائيل, الذين بالمدينة وما حولها, ويدخل فيهم من أتى من بعدهم, فأمرهم بأمر عام، فقال: ( اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها، والمراد بذكرها بالقلب اعترافا, وباللسان ثناء, وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه ويرضيه.
( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي ) وهو ما عهده إليهم من الإيمان به, وبرسله وإقامة شرعه.
( أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) وهو المجازاة على ذلك.
والمراد بذلك: ما ذكره الله في قوله: ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ [وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي] )خإلى قوله: ( فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ).
ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده, وهو الرهبة منه تعالى, وخشيته وحده, فإن مَنْ خشِيَه أوجبت له خشيته امتثال أمره واجتناب نهيه.
ثم أمرهم بالأمر الخاص, الذي لا يتم إيمانهم, ولا يصح إلا به فقال: ( وَآمِنُوا بِمَا أَنزلْتُ ) وهو القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بالإيمان به, واتباعه, ويستلزم ذلك, الإيمان بمن أنزل عليه، وذكر الداعي لإيمانهم به، فقال: ( مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ) أي: موافقا له لا مخالفا ولا مناقضا، فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب, غير مخالف لها; فلا مانع لكم من الإيمان به, لأنه جاء بما جاءت به المرسلون, فأنتم أولى من آمن به وصدق به, لكونكم أهل الكتب والعلم.
وأيضا فإن في قوله: ( مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ) إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به, عاد ذلك عليكم, بتكذيب ما معكم, لأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء، فتكذيبكم له تكذيب لما معكم.
وأيضا, فإن في الكتب التي بأيدكم, صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن والبشارة به، فإن لم تؤمنوا به, كذبتم ببعض ما أنزل إليكم, ومن كذب ببعض ما أنزل إليه, فقد كذب بجميعه، كما أن من كفر برسول, فقد كذب الرسل جميعهم.
فلما أمرهم بالإيمان به, نهاهم وحذرهم من ضده وهو الكفر به فقال: ( وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) أي: بالرسول والقرآن.
وفي قوله: ( أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) أبلغ من قوله: ( ولا تكفروا به ) لأنهم إذا كانوا أول كافر به, كان فيه مبادرتهم إلى الكفر به, عكس ما ينبغي منهم, وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم.
ثم ذكر المانع لهم من الإيمان, وهو اختيار العرض الأدنى على السعادة الأبدية، فقال: ( وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا ) وهو ما يحصل لهم من المناصب والمآكل, التي يتوهمون انقطاعها, إن آمنوا بالله ورسوله, فاشتروها بآيات الله واستحبوها, وآثروها.
( وَإِيَّايَ ) أي: لا غيري ( فَاتَّقُونِ ) فإنكم إذا اتقيتم الله وحده, أوجبت لكم تقواه, تقديم الإيمان بآياته على الثمن القليل، كما أنكم إذا اخترتم الثمن القليل, فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم.
ثم قال: ( وَلا تَلْبِسُوا ) أي: تخلطوا ( الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ ) فنهاهم عن شيئين, عن خلط الحق بالباطل, وكتمان بيان الحق؛ لأن المقصود من أهل الكتب والعلم, تمييز الحق من الباطل, ليهتدي بذلك المهتدون, ويرجع الضالون, وتقوم الحجة على المعاندين؛ لأن الله فصل آياته وأوضح بيناته, ليميز الحق من الباطل, ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل المجرمين، فمن عمل بهذا من أهل العلم, فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم.
ومن لبس الحق بالباطل, فلم يميز هذا من هذا, مع علمه بذلك, وكتم الحق الذي يعلمه, وأمر بإظهاره, فهو من دعاة جهنم, لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم, فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين.
ثم قال: ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) أي: ظاهرا وباطنا ( وَآتُوا الزَّكَاةَ ) مستحقيها، ( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) أي: صلوا مع المصلين، فإنكم إذا فعلتم ذلك مع الإيمان برسل الله وآيات الله, فقد جمعتم بين الأعمال الظاهرة والباطنة, وبين الإخلاص للمعبود, والإحسان إلى عبيده، وبين العبادات القلبية البدنية والمالية.
وقوله: ( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) أي: صلوا مع المصلين, ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها، وفيه أن الركوع ركن من أركان الصلاة لأنه عبّر عن الصلاة بالركوع، والتعبير عن العبادة بجزئها يدل على فرضيته فيها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ (44) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ) أي: بالإيمان والخير http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg أي: تتركونها عن أمرها بذلك، والحال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg وأسمى العقل عقلا لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير, وينعقل به عما يضره، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به, وأول تارك لما ينهى عنه، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله, أو نهاه عن الشر فلم يتركه, دل على عدم عقله وجهله, خصوصا إذا كان عالما بذلك, قد قامت عليه الحجة.
وهذه الآية, وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل, فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه, وأمر نفسه ونهيها، فترك أحدهما, لا يكون رخصة في ترك الآخر، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين, والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر, فليس في رتبة الأول, وهو دون الأخير، وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه، وهو الصبر على طاعة الله حتى يؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها, والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها، فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور, ومن يتصبر يصبره الله، وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان, وتنهى عن الفحشاء والمنكر, يستعان بها على كل أمر من الأمور ( وَإِنَّهَا ) أي: الصلاة ( لَكَبِيرَةٌ ) أي: شاقة ( إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ ) فإنها سهلة عليهم خفيفة؛ لأن الخشوع, وخشية الله, ورجاء ما عنده يوجب له فعلها, منشرحا صدره لترقبه للثواب, وخشيته من العقاب، بخلاف من لم يكن كذلك, فإنه لا داعي له يدعوه إليها, وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه.
والخشوع هو: خضوع القلب وطمأنينته, وسكونه لله تعالى, وانكساره بين يديه, ذلا وافتقارا, وإيمانا به وبلقائه.
ولهذا قال: ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ ) أي: يستيقنون ( أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ ) فيجازيهم بأعمالهم ( وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) فهذا الذي خفف عليهم العبادات وأوجب لهم التسلي في المصيبات, ونفس عنهم الكربات, وزجرهم عن فعل السيئات، فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات، وأما من لم يؤمن بلقاء ربه, كانت الصلاة وغيرها من العبادات من أشق شيء عليه.
ثم كرر على بني إسرائيل التذكير بنعمته, وعظا لهم, وتحذيرا وحثا.
وخوفهم بيوم القيامة الذي ( لا تَجْزِي ) فيه، أي: لا تغني ( نَفْسٌ ) ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين ( عَنْ نَفْسٍ ) ولو كانت من العشيرة الأقربين ( شَيْئًا ) لا كبيرا ولا صغيرا وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه.
( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا ) أي: النفس, شفاعة لأحد بدون إذن الله ورضاه عن المشفوع له, ولا يرضى من العمل إلا ما أريد به وجهه، وكان على السبيل والسنة، ( وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) أي: فداء http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg ولا يقبل منهم ذلك ( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) أي: يدفع عنهم المكروه، فنفى الانتفاع من الخلق بوجه من الوجوه، فقوله: ( لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ) هذا في تحصيل المنافع، ( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) هذا في دفع المضار, فهذا النفي للأمر المستقل http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg به النافع.
( ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ) هذا نفي للنفع الذي يطلب ممن يملكه بعوض, كالعدل, أو بغيره, كالشفاعة، فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين, لعلمه أنهم لا يملكون له مثقال ذرة من النفع, وأن يعلقه بالله الذي يجلب المنافع, ويدفع المضار, فيعبده وحده لا شريك له ويستعينه على عبادته.

ابو وليد البحيرى
2018-12-06, 03:01 AM
الحلقة (8)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(49)الى الأية(57)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/254.jpg



http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُ مْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.
هذا شروع في تعداد نعمه على بني إسرائيل على وجه التفصيل فقال: ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) أي: من فرعون وملئه وجنوده وكانوا قبل ذلك ( يَسُومُونَكُمْ ) أي: يولونهم ويستعملونهم، ( سُوءَ الْعَذَابِ ) أي: أشده بأن كانوا ( يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ) خشية نموكم، ( وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) أي: فلا يقتلونهن، فأنتم بين قتيل ومذلل بالأعمال الشاقة، مستحيي على وجه المنة عليه والاستعلاء عليه فهذا غاية الإهانة، فمن الله عليهم بالنجاة التامة وإغراق عدوهم وهم ينظرون لتقر أعينهم.
( وَفِي ذَلِكم ) أي: الإنجاء ( بَلاءٌ ) أي: إحسان ( مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) فهذا مما يوجب عليكم الشكر والقيام بأوامره.
ثم ذكر منته عليهم بوعده لموسى أربعين ليلة لينزل عليهم التوراة المتضمنة للنعم العظيمة والمصالح العميمة، ثم إنهم لم يصبروا قبل استكمال الميعاد حتى عبدوا العجل من بعده, أي: ذهابه.
( وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ) عالمون بظلمكم, قد قامت عليكم الحجة, فهو أعظم جرما وأكبر إثما.
ثم إنه أمركم بالتوبة على لسان نبيه موسى بأن يقتل بعضكم بعضا فعفا الله عنكم بسبب ذلك ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) الله.
( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) وهذا غاية الظلم والجراءة على الله وعلى رسوله، ( فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ) إما الموت أو الغشية العظيمة، ( وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) وقوع ذلك, كل ينظر إلى صاحبه، ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .
ثم ذكر نعمته عليكم في التيه والبرية الخالية من الظلال وسعة الأرزاق، فقال: ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ ) وهو اسم جامع لكل رزق حسن يحصل بلا تعب، ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك.
( وَالسَّلْوَى ) طائر صغير يقال له السماني، طيب اللحم، فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم < 1-53 > ويقيتهم ( كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) أي: رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين, فلم يشكروا هذه النعمة, واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب.
( وَمَا ظَلَمُونَا ) يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا لأن الله لا تضره معصية العاصين, كما لا تنفعه طاعات الطائعين، ( وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) فيعود ضرره عليهم.

ابو وليد البحيرى
2018-12-08, 04:04 AM
الحلقة (9)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(58)الى الأية(61)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/254.jpg


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
وهذا أيضا من نعمته عليهم بعد معصيتهم إياه, فأمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا ومسكنا, ويحصل لهم فيها الرزق الرغد، وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين لله فيه بالفعل, وهو دخول الباب ( سجدا ) أي: خاضعين ذليلين، وبالقول وهو أن يقولوا: ( حِطَّةٌ ) أي أن يحط عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته.
( نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ) بسؤالكم المغفرة، ( وَسَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ ) بأعمالهم, أي: جزاء عاجل وآجلا.
( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) منهم, ولم يقل فبدلوا لأنهم لم يكونوا كلهم بدلوا ( قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ) فقالوا بدل حطة: حبة في حنطة، استهانة بأمر الله, واستهزاء وإذا بدلوا القول مع خفته فتبديلهم للفعل من باب أولى وأحرى، ولهذا دخلوا يزحفون على أدبارهم, ولما كان هذا الطغيان أكبر سبب لوقوع عقوبة الله بهم، قال: ( فَأَنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) منهم ( رِجْزًا ) أي: عذابا ( مِنَ السَّمَاءِ ) بسبب فسقهم وبغيهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
استسقى, أي: طلب لهم ماء يشربون منه.
( فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ) إما حجر مخصوص معلوم عنده, وإما اسم جنس، ( فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ) وقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة قبيلة، ( قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ ) منهم ( مَشْرَبَهُمْ ) أي: محلهم الذي يشربون عليه من هذه الأعين, فلا يزاحم بعضهم بعضا, بل يشربونه متهنئين لا متكدرين, ولهذا قال: ( كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ ) أي: الذي آتاكم من غير سعي ولا تعب، ( وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ ) أي: تخربوا على وجه الإفساد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُو نَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
أي: واذكروا, إذ قلتم لموسى, على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها، ( لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ) أي: جنس من الطعام, وإن كان كما تقدم أنواعا, لكنها لا تتغير، ( فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا ) أي: نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه، ( وَقِثَّائِهَا ) وهو الخيار ( وَفُومِهَا ) أي: ثومها، والعدس والبصل معروف، قال لهم موسى ( أَتَسْتَبْدِلُو نَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى ) وهو الأطعمة المذكورة، ( بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ) وهو المن والسلوى, فهذا غير لائق بكم، فإن هذه الأطعمة التي طلبتم, أي مصر هبطتموه وجدتموها، وأما طعامكم الذي من الله به عليكم, فهو خير الأطعمة وأشرفها, فكيف تطلبون به بدلا؟
ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم واحتقارهم لأوامر الله ونعمه, جازاهم من جنس عملهم فقال: ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ) التي تشاهد على ظاهر أبدانهم ( وَالْمَسْكَنَةُ ) بقلوبهم، فلم تكن أنفسهم عزيزة, ولا لهم همم عالية, بل أنفسهم أنفس مهينة, وهممهم أردأ الهمم، ( وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ) أي: لم تكن غنيمتهم التي رجعوا بها وفازوا, إلا أن رجعوا بسخطه عليهم, فبئست الغنيمة غنيمتهم, وبئست الحالة حالتهم.
( ذَلِكَ ) الذي استحقوا به غضبه ( بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ) الدالات على الحق الموضحة لهم, فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليهم, وبما كانوا ( يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) .
وقوله: ( بِغَيْرِ الْحَقِّ ) زيادة شناعة, وإلا فمن المعلوم أن قتل النبي لا يكون بحق, لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم.
( ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا ) بأن ارتكبوا معاصي الله ( وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) على عباد الله, فإن المعاصي يجر بعضها بعضا، فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير, ثم ينشأ عنه الذنب الكبير, ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك, فنسأل الله العافية من كل بلاء.
واعلم أن الخطاب في هذه الآيات لأمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزول القرآن, وهذه الأفعال المذكورة خوطبوا بها وهي فعل أسلافهم, ونسبت إليهم لفوائد عديدة، منها: أنهم كانوا يتمدحون ويزكون أنفسهم, ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به، فبين الله من أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم, ما يبين به لكل أحد [منهم] أنهم ليسوا من أهل الصبر ومكارم الأخلاق, ومعالي الأعمال، فإذا كانت هذه حالة سلفهم، مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم فكيف الظن بالمخاطبين؟".
ومنها: أن نعمة الله على المتقدمين منهم, نعمة واصلة إلى المتأخرين, والنعمة على الآباء, نعمة على الأبناء، فخوطبوا بها, لأنها نعم تشملهم وتعمهم.
ومنها: أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم, مما يدل على أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها, حتى كان متقدمهم ومتأخرهم في وقت واحد, وكان الحادث من بعضهم حادثا من الجميع.
لأن ما يعمله بعضهم من الخير يعود بمصلحة الجميع, وما يعمله من الشر يعود بضرر الجميع.
ومنها: أن أفعالهم أكثرها لم ينكروها, والراضي بالمعصية شريك للعاصي، إلى غير ذلك من الحِكَم التي لا يعلمها إلا الله.

ابو وليد البحيرى
2018-12-08, 04:10 AM
الحلقة (10)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(62)الى الأية(69)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/254.jpg


ثم قال تعالى حاكما بين الفرق الكتابية: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة, لأن الصابئين, الصحيح أنهم من جملة فرق النصارى، فأخبر الله أن المؤمنين من هذه الأمة, واليهود والنصارى, والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر, وصدقوا رسلهم, فإن لهم الأجر العظيم والأمن, ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر, فهو بضد هذه الحال, فعليه الخوف والحزن.
والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف, من حيث هم, لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد, فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وأن هذا مضمون أحوالهم، وهذه طريقة القرآن إذا وقع في بعض النفوس عند سياق الآيات بعض الأوهام, فلا بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم, لأنه تنزيل مَنْ يعلم الأشياء قبل وجودها, ومَنْ رحمته وسعت كل شيء.
وذلك والله أعلم - أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم, وذكر معاصيهم وقبائحهم, ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم، فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه، ولما كان أيضا ذكر بني إسرائيل خاصة يوهم الاختصاص بهم. ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها, ليتضح الحق, ويزول التوهم والإشكال، فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول العالمين.
ثم عاد تبارك وتعالى يوبخ بني إسرائيل بما فعل سلفهم:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: واذكروا ( إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ) وهو العهد الثقيل المؤكد بالتخويف لهم, برفع الطور فوقهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg وقيل لهم: ( خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ ) من التوراة ( بِقُوَّةٍ ) أي: بجد واجتهاد, وصبر على أوامر الله، ( وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ ) أي: ما في كتابكم بأن تتلوه وتتعلموه، ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) عذاب الله وسخطه, أو لتكونوا من أهل التقوى.
فبعد هذا التأكيد البليغ ( تَوَلَّيْتُمْ ) وأعرضتم, وكان ذلك موجبا لأن يحل بكم أعظم العقوبات، ولكن ( لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: ولقد تقرر عندكم حالة ( الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ) وهم الذين ذكر الله قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف في قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآيات.
فأوجب لهم هذا الذنب العظيم, أن غضب الله عليهم وجعلهم ( قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) حقيرين ذليلين.
وجعل الله هذه العقوبة ( نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ) أي: لمن حضرها من الأمم, وبلغه خبرها, ممن هو في وقتهم. ( وَمَا خَلْفَهَا ) أي: من بعدهم, فتقوم على العباد حجة الله, وليرتدعوا عن معاصيه, ولكنها لا تكون موعظة نافعة إلا للمتقين، وأما من عداهم فلا ينتفعون بالآيات.
< 1-55 >
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: واذكروا ما جرى لكم مع موسى, حين قتلتم قتيلا وادارأتم فيه, أي: تدافعتم واختلفتم في قاتله, حتى تفاقم الأمر بينكم وكاد - لولا تبيين الله لكم - يحدث بينكم شر كبير، فقال لكم موسى في تبيين القاتل: اذبحوا بقرة، وكان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره, وعدم الاعتراض عليه، ولكنهم أبوا إلا الاعتراض, فقالوا: ( أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ) فقال نبي الله: ( أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه, وهو الذي يستهزئ بالناس، وأما العاقل فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل, استهزاءه بمن هو آدمي مثله، وإن كان قد فضل عليه, فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه, والرحمة لعباده. فلما قال لهم موسى ذلك, علموا أن ذلك صدق فقالوا: ( ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ) .
أي: ما سنها؟ ( قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ ) أي: كبيرة ( وَلا بِكْرٌ ) أي: صغيرة ( عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ) واتركوا التشديد والتعنت.
( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا ) أي: شديد ( تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ) من حسنها.

ابو وليد البحيرى
2018-12-10, 03:13 PM
الحلقة (11)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(70)الى الأية(76)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/254.jpg


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) فلم نهتد إلى ما تريد ( وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ) .
( قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ ) أي: مذللة بالعمل، ( تُثِيرُ الأرْضَ ) بالحراثة ( وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ ) أي: ليست بساقية، ( مُسَلَّمَةٌ ) من العيوب أو من العمل ( لا شِيَةَ فِيهَا ) أي: لا لون فيها غير لونها الموصوف المتقدم.
( قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ) أي: بالبيان الواضح، وهذا من جهلهم, وإلا فقد جاءهم بالحق أول مرة، فلو أنهم اعترضوا أي بقرة لحصل المقصود, ولكنهم شددوا بكثرة الأسئلة فشدد الله عليهم, ولو لم يقولوا " إن شاء الله "لم يهتدوا أيضا إليها، ( فَذَبَحُوهَا ) أي: البقرة التي وصفت بتلك الصفات، ( وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ) بسبب التعنت الذي جرى منهم.
فلما ذبحوها, قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها, أي: بعضو منها, إما معين, أو أي عضو منها, فليس في تعيينه فائدة, فضربوه ببعضها فأحياه الله, وأخرج ما كانوا يكتمون, فأخبر بقاتله، وكان في إحيائه وهم يشاهدون ما يدل على إحياء الله الموتى، ( لعلكم تعقلون ) فتنزجرون عن ما يضركم.
( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ ) أي: اشتدت وغلظت, فلم تؤثر فيها الموعظة، ( مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ) أي: من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم, لأن ما شاهدتم, مما يوجب رقة القلب وانقياده، ثم وصف قسوتها بأنها ( كَالْحِجَارَةِ ) التي هي أشد قسوة من الحديد، لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار, ذاب بخلاف الأحجار.
وقوله: ( أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) أي: إنها لا تقصر عن قساوة الأحجار، وليست " أو "بمعنى " بل "ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم، فقال: ( وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) فبهذه الأمور فضلت قلوبكم. ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال: ( وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها, وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.
واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله, قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل, ونزلوا عليها الآيات القرآنية, وجعلوها تفسيرا لكتاب الله, محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم: " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج "
والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة, ولا منزلة على كتاب الله, فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم: " لا تصدقوا أهل الكتاب < 1-56 > ولا تكذبوهم "فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها, وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه، فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة, التي يغلب على الظن كذبها أو كذب أكثرها, معاني لكتاب الله, مقطوعا بها ولا يستريب بهذا أحد، ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل، والله الموفق.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَه ُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذا قطع لأطماع المؤمنين من إيمان أهل الكتاب, أي: فلا تطمعوا في إيمانهم وحالتهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لا تقتضي الطمع فيهم, فإنهم كانوا يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وعلموه, فيضعون له معاني ما أرادها الله, ليوهموا الناس أنها من عند الله, وما هي من عند الله، فإذا كانت هذه حالهم في كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم يصدون به الناس عن سبيل الله, فكيف يرجى منهم إيمان لكم؟! فهذا من أبعد الأشياء.
ثم ذكر حال منافقي أهل الكتاب فقال: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا ) فأظهروا لهم الإيمان قولا بألسنتهم, ما ليس في قلوبهم، ( وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ) فلم يكن عندهم أحد من غير أهل دينهم، قال بعضهم لبعض: ( أَتُحَدِّثُونَه ُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) أي: أتظهرون لهم الإيمان وتخبروهم أنكم مثلهم, فيكون ذلك حجة لهم عليكم؟
يقولون: إنهم قد أقروا بأن ما نحن عليه حق, وما هم عليه باطل, فيحتجون عليكم بذلك عند ربكم ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) أي: أفلا يكون لكم عقل, فتتركون ما هو حجة عليكم؟ هذا يقوله بعضهم لبعض.

ابو وليد البحيرى
2018-12-10, 03:21 PM
الحلقة (12)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(77)الى الأية(83)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/254.jpg


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (78) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
( أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) فهم وإن أسروا ما يعتقدونه فيما بينهم, وزعموا أنهم بإسرارهم لا يتطرق عليهم حجة للمؤمنين, فإن هذا غلط منهم وجهل كبير, فإن الله يعلم سرهم وعلنهم, فيظهر لعباده ما أنتم عليه.
( وَمِنْهُمْ ) أي: من أهل الكتاب ( أُمِّيُّونَ ) أي: عوام, ليسوا من أهل العلم، ( لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ ) أي: ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط, وليس عندهم خبر بما عند الأولين الذين يعلمون حق المعرفة حالهم, وهؤلاء إنما معهم ظنون وتقاليد لأهل العلم منهم.
فذكر في هذه الآيات علماءهم, وعوامهم, ومنافقيهم, ومن لم ينافق منهم, فالعلماء منهم متمسكون بما هم عليه من الضلال، والعوام مقلدون لهم, لا بصيرة عندهم فلا مطمع لكم في الطائفتين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
توعد تعالى المحرفين للكتاب, الذين يقولون لتحريفهم وما يكتبون: ( هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) وهذا فيه إظهار الباطل وكتم الحق, وإنما فعلوا ذلك مع علمهم ( لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا ) والدنيا كلها من أولها إلى آخرها ثمن قليل، فجعلوا باطلهم شركا يصطادون به ما في أيدي الناس, فظلموهم من وجهين: من جهة تلبيس دينهم عليهم, ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق, بل بأبطل الباطل, وذلك أعظم ممن يأخذها غصبا وسرقة ونحوهما، ولهذا توعدهم بهذين الأمرين فقال: ( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ) أي: من التحريف والباطل ( وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) من الأموال، والويل: شدة العذاب والحسرة, وفي ضمنها الوعيد الشديد.
قال شيخ الإسلام لما ذكر هذه الآيات من قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg أَفَتَطْمَعُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg إلى ( يَكْسِبُونَ ) فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه, وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة, على ما أصله من البدع الباطلة.
وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني, وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه، ومتناول لمن كتب كتابا بيده مخالفا لكتاب الله, لينال به دنيا وقال: إنه من عند الله, مثل أن يقول: هذا هو الشرع والدين, وهذا معنى الكتاب والسنة, وهذا معقول السلف والأئمة, وهذا هو أصول الدين, الذي يجب اعتقاده على الأعيان والكفاية، ومتناول لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة, لئلا يحتج به مخالفه في الحق الذي يقوله.
وهذه الأمور كثيرة جدا في أهل الأهواء جملة, كالرافضة, وتفصيلا مثل كثير من المنتسبين إلى الفقهاء.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
ذكر أفعالهم القبيحة, ثم ذكر مع هذا أنهم يزكون أنفسهم, ويشهدون لها بالنجاة من عذاب الله, والفوز بثوابه, وأنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة, أي: قليلة تعد بالأصابع, فجمعوا بين الإساءة والأمن.
ولما كان هذا مجرد دعوى, رد الله تعالى عليهم فقال: ( قُلْ ) لهم يا أيها الرسول ( أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا ) أي بالإيمان به وبرسله وبطاعته, فهذا الوعد الموجب لنجاة صاحبه الذي لا يتغير ولا يتبدل. ( أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) ؟ فأخبر تعالى أن صدق دعواهم متوقفة على أحد هذين الأمرين اللذين لا ثالث لهما: إما أن يكونوا قد اتخذوا عند الله عهدا, فتكون دعواهم صحيحة.
وإما أن يكونوا متقولين عليه فتكون كاذبة, فيكون أبلغ لخزيهم وعذابهم، وقد علم من حالهم أنهم لم يتخذوا عند الله عهدا, لتكذيبهم كثيرا من الأنبياء, حتى وصلت بهم الحال إلى أن قتلوا طائفة منهم, ولنكولهم عن طاعة الله ونقضهم المواثيق، فتعين بذلك أنهم متقولون مختلقون, قائلون عليه ما لا يعلمون، والقول عليه بلا علم, من أعظم المحرمات, وأشنع القبيحات.
ثم ذكر تعالى حكما عاما لكل أحد, يدخل به بنو إسرائيل وغيرهم, وهو الحكم الذي لا حكم غيره, لا أمانيهم ودعاويهم بصفة الهالكين والناجين، فقال: ( بَلَى ) أي: ليس الأمر كما ذكرتم, فإنه قول لا حقيقة له، ولكن ( مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ) وهو نكرة في سياق الشرط, فيعم الشرك فما دونه، والمراد به هنا الشرك, بدليل قوله: ( وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) أي: أحاطت بعاملها, فلم تدع له منفذا, وهذا لا يكون إلا الشرك, فإن من معه الإيمان لا تحيط به خطيئته.
( فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية, وهي حجة عليهم كما ترى, فإنها ظاهرة في الشرك, وهكذا كل مبطل يحتج بآية, أو حديث صحيح على قوله الباطل فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه.
( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) بالله وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر، ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ولا تكون الأعمال صالحة إلا بشرطين: أن تكون خالصة لوجه الله, متبعا بها سنة رسوله.
فحاصل هاتين الآيتين, أن أهل النجاة والفوز أهل الإيمان والعمل الصالح، والهالكون أهل النار المشركون بالله, الكافرون به.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
وهذه الشرائع من أصول الدين, التي أمر الله بها في كل شريعة, لاشتمالها على المصالح العامة, في كل زمان ومكان, فلا يدخلها نسخ, كأصل الدين، ولهذا أمرنا بها في قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg إلى آخر الآية.
فقوله: ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) هذا من قسوتهم أن كل أمر أمروا به, استعصوا؛ فلا يقبلونه إلا بالأيمان الغليظة, والعهود الموثقة ( لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ ) هذا أمر بعبادة الله وحده, ونهي عن الشرك به، وهذا أصل الدين, فلا تقبل الأعمال كلها إن لم يكن هذا أساسها, فهذا حق الله تعالى على عباده, ثم قال: ( وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا ) أي: أحسنوا بالوالدين إحسانا، وهذا يعم كل إحسان قولي وفعلي مما هو إحسان إليهم، وفيه النهي عن الإساءة إلى الوالدين, أو عدم الإحسان والإساءة، لأن الواجب الإحسان, والأمر بالشيء نهي عن ضده.
وللإحسان ضدان: الإساءة, وهي أعظم جرما، وترك الإحسان بدون إساءة, وهذا محرم, لكن لا يجب أن يلحق بالأول، وكذا يقال في صلة الأقارب واليتامى, والمساكين، وتفاصيل الإحسان لا تنحصر بالعد, بل تكون بالحد, كما تقدم.
ثم أمر بالإحسان إلى الناس عموما فقال: ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف, ونهيهم عن المنكر, وتعليمهم العلم, وبذل السلام, والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب.
ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله, أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق, وهو الإحسان بالقول, فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار, ولهذا قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده, أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله, غير فاحش ولا بذيء, ولا شاتم, ولا مخاصم، بل يكون حسن الخلق, واسع الحلم, مجاملا لكل أحد, صبورا على ما يناله من أذى الخلق, امتثالا لأمر الله, ورجاء لثوابه.
ثم أمرهم بإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, لما تقدم أن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود, والزكاة متضمنة للإحسان إلى العبيد.
( ثُمَّ ) بعد هذا الأمر لكم بهذه الأوامر الحسنة التي إذا نظر إليها البصير العاقل, عرف أن من إحسان الله على عباده أن أمرهم بها,, وتفضل بها عليهم وأخذ المواثيق عليكم ( تَوَلَّيْتُمْ ) على وجه الإعراض، لأن المتولي قد يتولى, وله نية رجوع إلى ما تولى عنه، وهؤلاء ليس لهم رغبة ولا رجوع في هذه الأوامر، فنعوذ بالله من الخذلان.
وقوله: ( إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ ) هذا استثناء, لئلا يوهم أنهم تولوا كلهم، فأخبر أن قليلا منهم, عصمهم الله وثبتهم.

ابو وليد البحيرى
2018-12-12, 05:55 AM
الحلقة (13)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(84)الى الأية(88)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/254.jpg


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وهذا الفعل المذكور في هذه الآية, فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مشركين, وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية، فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود, بنو قريظة, وبنو النضير, وبنو قينقاع، فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة.
فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الفرقة الأخرى من اليهود, فيقتل اليهودي اليهودي, ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها, وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا.
والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم، ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض, ولا يخرج بعضهم بعضا، وإذا وجدوا أسيرا منهم, وجب عليهم فداؤه، فعملوا بالأخير وتركوا الأولين, فأنكر الله عليهم ذلك فقال: ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ ) وهو فداء الأسير ( وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) وهو القتل والإخراج.
وفيها أكبر دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر واجتناب النواهي، وأن المأمورات من الإيمان، قال تعالى: ( فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) وقد وقع ذلك فأخزاهم الله, وسلط رسوله عليهم, فقتل من قتل, وسبى من سبى منهم, وأجلى من أجلى.
( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ) أي: أعظمه ( وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) .
ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب, والإيمان ببعضه فقال: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ) توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار, فاختاروا النار على العار، فلهذا قال: ( فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ) بل هو باق على شدته, ولا يحصل لهم راحة بوقت من الأوقات، ( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) أي: يدفع عنهم مكروه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يمتن تعالى على بني إسرائيل أن أرسل لهم كليمه موسى, وآتاه التوراة, ثم تابع من بعده بالرسل الذين يحكمون بالتوراة, إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى ابن مريم عليه السلام، وآتاه من الآيات البينات ما يؤمن على مثله البشر، ( وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) أي: قواه الله بروح القدس.
قال أكثر المفسرين: إنه جبريل عليه السلام, وقيل: إنه الإيمان الذي يؤيد الله به عباده.
ثم مع هذه النعم التي لا يقدر قدرها, لما أتوكم ( بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ) عن الإيمان بهم، ( فَفَرِيقًا ) منهم ( كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ) فقدمتم الهوى على الهدى, وآثرتم الدنيا على الآخرة، وفيها من التوبيخ والتشديد ما لا يخفى.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ (88) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: اعتذروا عن الإيمان لما دعوتهم إليه, يا أيها الرسول, بأن قلوبهم غلف, أي: عليها غلاف وأغطية, فلا تفقه ما تقول، يعني فيكون لهم - بزعمهم - عذر لعدم العلم, وهذا كذب منهم، فلهذا قال تعالى: ( بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ) أي: أنهم مطرودون ملعونون, بسبب كفرهم، فقليلا المؤمن منهم, أو قليلا إيمانهم، وكفرهم هو الكثير.

ابو وليد البحيرى
2018-12-12, 05:58 AM
الحلقة (14)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(89)الى الأية(93)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/254.jpg


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
أي: ولما جاءهم كتاب من عند الله على يد أفضل الخلق وخاتم الأنبياء, المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة, وقد علموا به, وتيقنوه حتى إنهم كانوا إذا وقع http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب, استنصروا بهذا النبي, وتوعدوهم بخروجه, وأنهم يقاتلون المشركين معه، فلما جاءهم هذا الكتاب والنبي الذي عرفوا, كفروا به, بغيا وحسدا, أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، فلعنهم الله, وغضب عليهم غضبا بعد غضب, لكثرة كفرهم وتوالي شكهم وشركهم.
( وللكافرين عذاب مهين ) أي: مؤلم موجع, وهو صلي الجحيم, وفوت النعيم المقيم، فبئس الحال حالهم, وبئس ما استعاضوا واستبدلوا من الإيمان بالله وكتبه ورسله, الكفر به, وبكتبه, وبرسله, مع علمهم وتيقنهم, فيكون أعظم لعذابهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
أي: وإذا أمر اليهود بالإيمان بما أنزل الله على رسوله, وهو القرآن استكبروا وعتوا, و ( قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ ) أي: بما سواه من الكتب، مع أن الواجب أن يؤمن بما أنزل الله مطلقا, سواء أنزل عليهم, أو على غيرهم, وهذا هو الإيمان النافع, الإيمان بما أنزل الله على جميع رسل الله.
وأما التفريق بين الرسل والكتب, وزعم الإيمان ببعضها دون بعض, فهذا ليس بإيمان, بل هو الكفر بعينه, ولهذا قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
ولهذا رد عليهم تبارك وتعالى هنا ردا شافيا, وألزمهم إلزاما لا محيد لهم عنه, فرد عليهم بكفرهم بالقرآن بأمرين فقال: ( وَهُوَ الْحَقُّ ) فإذا كان هو الحق في جميع ما اشتمل عليه من الإخبارات, والأوامر والنواهي, وهو من عند ربهم, فالكفر به بعد ذلك كفر بالله, وكفر بالحق الذي أنزله.
ثم قال: ( مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ) أي: موافقا له في كل ما دل عليه من الحق ومهيمنا عليه.
فلم تؤمنون بما أنزل عليكم, وتكفرون بنظيره؟ هل هذا إلا تعصب واتباع للهوى لا للهدى؟
وأيضا, فإن كون القرآن مصدقا لما معهم, يقتضي أنه حجة لهم على صدق ما في أيديهم من الكتب, قلا سبيل لهم إلى إثباتها إلا به، فإذا كفروا به وجحدوه, صاروا بمنزلة من ادعى دعوى بحجة وبينة ليس له غيرها, ولا تتم دعواه إلا بسلامة بينته, ثم يأتي هو لبينته وحجته, فيقدح فيها ويكذب بها; أليس هذا من الحماقة والجنون؟ فكان كفرهم بالقرآن, كفرا بما في أيديهم ونقضا له.
ثم نقض عليهم تعالى دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم بقوله: ( قُلْ ) لهم: ( فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ )
أي: بالأدلة الواضحات المبينة للحق، ( ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ ) أي: بعد مجيئه ( وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ) في ذلك ليس لكم عذر.
( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ) أي: سماع قبول وطاعة واستجابة، ( قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) أي: صارت هذه حالتهم ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ) أي : صبغ حب العجل وحب عبادته في قلوبهم ، وتشرَّبها http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg بسبب كفرهم.
( قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي: أنتم تدعون الإيمان وتتمدحون بالدين الحق, وأنتم قتلتم أنبياء الله, واتخذتم العجل إلها من دون الله, لما غاب عنكم موسى, نبي الله, ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إلا بعد التهديد ورفع الطور فوقكم, فالتزمتم بالقول, ونقضتم بالفعل، فما هذا الإيمان الذي ادعيتم, وما هذا الدين؟.
فإن كان هذا إيمانا على زعمكم, فبئس الإيمان الداعي صاحبه إلى الطغيان, والكفر برسل الله, وكثرة العصيان، وقد عهد أن الإيمان الصحيح, يأمر صاحبه بكل خير, وينهاه عن كل شر، فوضح بهذا كذبهم, وتبين تناقضهم.

ابو وليد البحيرى
2018-12-14, 03:21 PM
الحلقة (15)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(94)الى الأية(101)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/254.jpg


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُ مْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( قُلْ ) لهم على وجه تصحيح دعواهم: ( إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ ) يعني الجنة ( خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ ) كما زعمتم, أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى, وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، فإن كنتم صادقين بهذه الدعوى ( فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ) وهذا نوع مباهلة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليس بعد هذا الإلجاء والمضايقة لهم بعد العناد منهم, إلا أحد أمرين: إما أن يؤمنوا بالله ورسوله، وإما أن يباهلوا على ما هم عليه بأمر يسير < 1-60 > عليهم, وهو تمني الموت الذي يوصلهم إلى الدار التي هي خالصة لهم, فامتنعوا من ذلك.
فعلم كل أحد أنهم في غاية المعاندة والمحادة لله ولرسوله, مع علمهم بذلك، ولهذا قال تعالى ( وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) من الكفر والمعاصي, لأنهم يعلمون أنه طريق لهم إلى المجازاة بأعمالهم الخبيثة، فالموت أكره شيء إليهم, وهم أحرص على الحياة من كل أحد من الناس, حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بأحد من الرسل والكتب.
ثم ذكر شدة محبتهم للدنيا فقال: ( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ) وهذا أبلغ ما يكون من الحرص, تمنوا حالة هي من المحالات، والحال أنهم لو عمروا العمر المذكور, لم يغن عنهم شيئا ولا دفع عنهم من العذاب شيئا.
( وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: قل لهؤلاء اليهود, الذين زعموا أن الذي منعهم من الإيمان بك, أن وليك جبريل عليه السلام, ولو كان غيره من ملائكة الله, لآمنوا بك وصدقوا، إن هذا الزعم منكم تناقض وتهافت, وتكبر على الله، فإن جبريل عليه السلام هو الذي نزل بالقرآن من عند الله على قلبك, وهو الذي ينزل على الأنبياء قبلك, والله هو الذي أمره, وأرسله بذلك, فهو رسول محض.
مع أن هذا الكتاب الذي نزل به جبريل مصدقا لما تقدمه من الكتب غير مخالف لها ولا مناقض, وفيه الهداية التامة من أنواع الضلالات, والبشارة بالخير الدنيوي والأخروي, لمن آمن به، فالعداوة لجبريل الموصوف بذلك, كفر بالله وآياته, وعداوة لله ولرسله وملائكته، فإن عداوتهم لجبريل, لا لذاته بل لما ينزل به من عند الله من الحق على رسل الله.
فيتضمن الكفر والعداوة للذي أنزله وأرسله, والذي أرسل به, والذي أرسل إليه, فهذا وجه ذلك.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ (99) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) تحصل بها الهداية لمن استهدى, وإقامة الحجة على من عاند, وهي في الوضوح والدلالة على الحق, قد بلغت مبلغا عظيما ووصلت إلى حالة لا يمتنع من قبولها إلا من فسق عن أمر الله, وخرج عن طاعة الله, واستكبر غاية التكبر.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وهذا فيه التعجيب http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg من كثرة معاهداتهم, وعدم صبرهم على الوفاء بها.
فـ " كُلَّمَا "تفيد التكرار, فكلما وجد العهد ترتب عليه النقض، ما السبب في ذلك؟ السبب أن أكثرهم لا يؤمنون، فعدم إيمانهم هو الذي أوجب لهم نقض العهود، ولو صدق إيمانهم, لكانوا مثل من قال الله فيهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ولما جاءهم هذا الرسول الكريم بالكتاب العظيم بالحق الموافق لما معهم، وكانوا يزعمون أنهم متمسكون بكتابهم, فلما كفروا بهذا الرسول وبما جاء به، ( نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ ) الذي أنزل إليهم أي: طرحوه رغبة عنه ( وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ) وهذا أبلغ في الإعراض كأنهم في فعلهم هذا من الجاهلين وهم يعلمون صدقه، وحقيّة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ما جاء به.
تبين بهذا أن هذا الفريق من أهل الكتاب لم يبق في أيديهم شيء حيث لم يؤمنوا بهذا الرسول, فصار كفرهم به كفرا بكتابهم من حيث لا يشعرون.
ولما كان من العوائد القدرية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه، وأمكنه الانتفاع به فلم ينتفع, ابتلي بالاشتغال بما يضره, فمن ترك عبادة الرحمن, ابتلي بعبادة الأوثان, ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه, ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه, ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان, ومن ترك الذل لربه, ابتلي < 1-61 > بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل.
كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلو الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر، وزعموا أن سليمان عليه السلام كان يستعمله وبه حصل له الملك العظيم.

ابو وليد البحيرى
2018-12-14, 03:26 PM
الحلقة (16)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(102)الى الأية(105)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/254.jpg


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُون َ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

وهم كذبة في ذلك، فلم يستعمله سليمان، بل نزهه الصادق في قيله: ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ) أي: بتعلم السحر, فلم يتعلمه، ( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ) بذلك.
( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) من إضلالهم وحرصهم على إغواء بني آدم، وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق، أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلاء من الله لعباده فيعلمانهم السحر.
( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى ) ينصحاه, و ( يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) أي: لا تتعلم السحر فإنه كفر، فينهيانه عن السحر، ويخبرانه عن مرتبته, فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال، ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلام، وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة.
فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين, والسحر الذي يعلمه الملكان, فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين, وكل يصبو إلى ما يناسبه.
ثم ذكر مفاسد السحر فقال: ( فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما, لأن الله قال في حقهما: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يضر بإذن الله، أي: بإرادة الله، والإذن نوعان: إذن قدري، وهو المتعلق بمشيئة الله, كما في هذه الآية، وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير، فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير, ولم يخالف في هذا الأصل أحد من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد، زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة, فأخرجوها عن قدرة الله، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين.
ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة, ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي، كما قال تعالى في الخمر والميسر: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg فهذا السحر مضرة محضة, فليس له داع أصلا فالمنهيات كلها إما مضرة محضة, أو شرها أكبر من خيرها.
كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها.
( وَلَقَدْ عَلِمُوا ) أي: اليهود ( لَمَنِ اشْتَرَاهُ ) أي: رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة.
( مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) أي: نصيب, بل هو موجب للعقوبة, فلم يكن فعلهم إياه جهلا ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.
( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) علما يثمر العمل ما فعلوه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين: ( رَاعِنَا ) أي: راع أحوالنا, فيقصدون بها معنى صحيحا، وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدا, فانتهزوا الفرصة, فصاروا يخاطبون الرسول بذلك, ويقصدون المعنى الفاسد، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة, سدا لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز, إذا كان وسيلة إلى محرم، وفيه الأدب, واستعمال الألفاظ, التي لا تحتمل إلا الحسن, وعدم الفحش, وترك الألفاظ القبيحة, أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لأمر غير لائق، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن فقال: ( وَقُولُوا انْظُرْنَا ) فإنها كافية يحصل بها المقصود من غير محذور، ( وَاسْمَعُوا ) لم يذكر المسموع, ليعم ما أمر باستماعه، فيدخل فيه سماع القرآن, وسماع السنة التي هي الحكمة, لفظا ومعنى واستجابة، ففيه الأدب والطاعة.
ثم توعد الكافرين بالعذاب المؤلم الموجع, وأخبر عن عداوة اليهود والمشركين للمؤمنين, أنهم ما يودون ( أَنْ يُنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ ) أي: لا قليلا ولا كثيرا ( مِنْ رَبِّكُمْ ) حسدا منهم, وبغضا لكم أن يختصكم بفضله فإنه ( ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) ومن فضله عليكم, إنزال الكتاب على رسولكم, ليزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة, ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون, فله الحمد والمنة.

ابو وليد البحيرى
2018-12-17, 02:40 AM
الحلقة (17)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(106)الى الأية(112)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ < 1-62 > تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
النسخ: هو النقل, فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع, إلى حكم آخر, أو إلى إسقاطه، وكان اليهود ينكرون النسخ, ويزعمون أنه لا يجوز, وهو مذكور عندهم في التوراة, فإنكارهم له كفر وهوى محض.
فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ، وأنه ما ينسخ من آية ( أَوْ نُنْسِهَا ) أي: ننسها العباد, فنزيلها من قلوبهم، ( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ) وأنفع لكم ( أَوْ مِثْلِهَا ) .
فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول؛ لأن فضله تعالى يزداد خصوصا على هذه الأمة, التي سهل عليها دينها غاية التسهيل.
وأخبر أن من قدح في النسخ فقد قدح في ملكه وقدرته فقال: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) .
فإذا كان مالكا لكم, متصرفا فيكم, تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه, فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير, كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام. فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية, فما له والاعتراض؟
وهو أيضا, ولي عباده, ونصيرهم، فيتولاهم في تحصيل منافعهم, وينصرهم في دفع مضارهم، فمن ولايته لهم, أن يشرع لهم من الأحكام, ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم.
ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ, عرف بذلك حكمة الله ورحمته عباده, وإيصالهم إلى مصالحهم, من حيث لا يشعرون بلطفه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ينهى الله المؤمنين, أو اليهود, بأن يسألوا رسولهم ( كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ) والمراد بذلك, أسئلة التعنت والاعتراض, كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وقال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فهذه ونحوها, هي المنهي عنها.
وأما سؤال الاسترشاد والتعلم, فهذا محمود قد أمر الله به كما قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ويقررهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg عليه, كما في قوله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg و ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ) ونحو ذلك.
ولما كانت المسائل المنهي عنها مذمومة, قد تصل بصاحبها إلى الكفر، قال: ( وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) .
ثم أخبر عن حسد كثير من أهل الكتاب, وأنهم بلغت بهم الحال, أنهم ودوا ( لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا ) وسعوا في ذلك, وأعملوا المكايد, وكيدهم راجع عليهم [كما] قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهذا من حسدهم الصادر من عند أنفسهم.
فأمرهم الله بمقابلة من أساء إليهم غاية الإساءة بالعفو عنهم والصفح حتى يأتي الله بأمره.
ثم بعد ذلك, أتى الله بأمره إياهم بالجهاد, فشفى الله أنفس المؤمنين منهم, فقتلوا من قتلوا, واسترقوا من استرقوا, وأجلوا من أجلوا ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
ثم أمرهم [الله] بالاشتغال في الوقت الحاضر, بإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة وفعل كل القربات، ووعدهم أنهم مهما فعلوا من خير, فإنه لا يضيع عند الله, بل يجدونه عنده وافرا موفرا قد حفظه ( إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: قال اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فحكموا لأنفسهم بالجنة وحدهم, وهذا مجرد أماني غير مقبولة, إلا بحجة وبرهان, فأتوا بها إن كنتم صادقين، وهكذا كل من ادعى دعوى, لا بد أن يقيم البرهان على صحة دعواه، وإلا فلو قلبت عليه دعواه, وادعى مدع عكس ما ادعى بلا برهان < 1-63 > لكان لا فرق بينهما، فالبرهان هو الذي يصدق الدعاوى أو يكذبها، ولما لم يكن بأيديهم برهان, علم كذبهم بتلك الدعوى.
ثم ذكر تعالى البرهان الجلي العام لكل أحد, فقال: ( بَلَى ) أي: ليس بأمانيكم ودعاويكم, ولكن ( مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) أي: أخلص لله أعماله, متوجها إليه بقلبه، ( وَهُوَ ) مع إخلاصه ( مُحْسِنٌ ) في عبادة ربه, بأن عبده بشرعه, فأولئك هم أهل الجنة وحدهم.
( فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) وهو الجنة بما اشتملت عليه من النعيم، ( وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) فحصل لهم المرغوب, ونجوا من المرهوب.
ويفهم منها, أن من ليس كذلك, فهو من أهل النار الهالكين، فلا نجاة إلا لأهل الإخلاص للمعبود, والمتابعة للرسول.

ابو وليد البحيرى
2018-12-17, 02:52 AM
الحلقة (18)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(113)الى الأية(119)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
وذلك أنه بلغ بأهل الكتاب الهوى والحسد, إلى أن بعضهم ضلل بعضا, وكفر بعضهم بعضا, كما فعل الأميون من مشركي العرب وغيرهم.
فكل فرقة تضلل الفرقة الأخرى, ويحكم الله في الآخرة بين المختلفين بحكمه العدل, الذي أخبر به عباده, فإنه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg لا فوز ولا نجاة إلا لمن صدق جميع الأنبياء والمرسلين, وامتثل أوامر ربه, واجتنب نواهيه, ومن عداهم, فهو هالك.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
أي: لا أحد أظلم وأشد جرما, ممن منع مساجد الله, عن ذكر الله فيها, وإقامة الصلاة وغيرها من أنواع الطاعات.
( وَسَعَى ) أي: اجتهد وبذل وسعه ( فِي خَرَابِهَا ) الحسي والمعنوي، فالخراب الحسي: هدمها وتخريبها, وتقذيرها، والخراب المعنوي: منع الذاكرين لاسم الله فيها، وهذا عام, لكل من اتصف بهذه الصفة, فيدخل في ذلك أصحاب الفيل, وقريش, حين صدوا رسول الله عنها عام الحديبية, والنصارى حين أخربوا بيت المقدس, وغيرهم من أنواع الظلمة, الساعين في خرابها, محادة لله, ومشاقة، فجازاهم الله, بأن منعهم دخولها شرعا وقدرا, إلا خائفين ذليلين, فلما أخافوا عباد الله, أخافهم الله، فالمشركون الذين صدوا رسوله, لم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا, حتى أذن الله له في فتح مكة، ومنع المشركين من قربان بيته, فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) .
وأصحاب الفيل, قد ذكر الله ما جرى عليهم، والنصارى, سلط الله عليهم المؤمنين, فأجلوهم عنه.
وهكذا كل من اتصف بوصفهم, فلا بد أن يناله قسطه, وهذا من الآيات العظيمة, أخبر بها الباري قبل وقوعها, فوقعت كما أخبر.
واستدل العلماء بالآية الكريمة, على أنه لا يجوز تمكين الكفار من دخول المساجد.
( لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ) أي: فضيحة كما تقدم ( وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) .
وإذا كان لا أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه, فلا أعظم إيمانا ممن سعى في عمارة المساجد بالعمارة الحسية والمعنوية, كما قال تعالى: ( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) .
بل قد أمر الله تعالى برفع بيوته وتعظيمها وتكريمها, فقال تعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) .
وللمساجد أحكام كثيرة, يرجع حاصلها إلى مضمون هذه الآيات الكريمة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
أي: ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ) خصهما بالذكر, لأنهما محل الآيات العظيمة, فهما مطالع الأنوار ومغاربها، فإذا كان مالكا لها, كان مالكا لكل الجهات.
( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا ) وجوهكم من الجهات, إذا كان توليكم إياها بأمره, إما أن يأمركم باستقبال الكعبة بعد أن كنتم مأمورين باستقبال بيت المقدس, أو تؤمرون بالصلاة في السفر على الراحلة ونحوها, فإن القبلة حيثما توجه العبد أو تشتبه القبلة, فيتحرى الصلاة إليها, ثم يتبين له الخطأ, أو يكون معذورا بصلب أو مرض ونحو ذلك، فهذه الأمور, إما أن يكون العبد فيها معذورا أو مأمورا.
وبكل حال, فما استقبل جهة من الجهات, خارجة عن ملك ربه.
( فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) فيه إثبات الوجه لله تعالى, على الوجه اللائق به تعالى, وأن لله وجها لا تشبهه الوجوه, وهو - تعالى - واسع الفضل والصفات عظيمها, عليم بسرائركم ونياتكم.
فمن سعته وعلمه, وسع لكم الأمر, وقبل منكم المأمور, فله الحمد والشكر.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
( وَقَالُوا ) أي: اليهود والنصارى والمشركون, وكل من قال ذلك: ( اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) فنسبوه إلى ما لا يليق بجلاله, وأساءوا كل الإساءة, وظلموا أنفسهم.
وهو - تعالى - صابر على ذلك منهم, قد حلم عليهم, وعافاهم, ورزقهم مع تنقصهم إياه.
( سُبْحَانَهُ ) أي: تنزه وتقدس عن كل ما وصفه به المشركون والظالمون مما لا يليق بجلاله، فسبحان من له الكمال المطلق, من جميع الوجوه, الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه.
ومع رده لقولهم, أقام الحجة والبرهان على تنزيهه عن ذلك فقال: ( بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي: جميعهم ملكه وعبيده, يتصرف فيهم تصرف المالك بالمماليك, وهم قانتون له مسخرون تحت تدبيره، فإذا كانوا كلهم عبيده, مفتقرين إليه, وهو غني عنهم, فكيف يكون منهم أحد, يكون له ولدا, والولد لا بد أن يكون من جنس والده, لأنه جزء منه.
والله تعالى المالك القاهر, وأنتم المملوكون المقهورون, وهو الغني وأنتم الفقراء، فكيف مع هذا, يكون له ولد؟ هذا من أبطل الباطل وأسمجه.
والقنوت نوعان: قنوت عام: وهو قنوت الخلق كلهم, تحت تدبير الخالق، وخاص: وهو قنوت العبادة.
فالنوع الأول كما في هذه الآية، والنوع الثاني: كما في قوله تعالى: ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) .
ثم قال: ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي: خالقهما على وجه قد أتقنهما وأحسنهما على غير مثال سبق.
( وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) فلا يستعصى عليه, ولا يمتنع منه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
أي: قال الجهلة من أهل الكتاب وغيرهم: هلا يكلمنا, كما كلم الرسل، ( أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ) يعنون آيات الاقتراح, التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة, وآرائهم الكاسدة, التي تجرأوا بها على الخالق, واستكبروا على رسله كقولهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg الآية، وقالوا: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg الآيات وقوله: ( وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg الآيات.
فهذا دأبهم مع رسلهم, يطلبون آيات التعنت, لا آيات الاسترشاد, ولم يكن قصدهم تبين الحق، فإن الرسل, قد جاءوا من الآيات, بما يؤمن بمثله البشر, ولهذا قال تعالى: ( قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) فكل موقن, فقد عرف من آيات الله الباهرة, وبراهينه الظاهرة, ما حصل له به اليقين, واندفع عنه كل شك وريب.
ثم ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة للآيات الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به فقال: ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) فهذا مشتمل على الآيات التي جاء بها, وهي ترجع إلى ثلاثة أمور:
الأول: في نفس إرساله, والثاني: في سيرته وهديه ودله، والثالث: في معرفة ما جاء به من القرآن والسنة.
فالأول والثاني, قد دخلا في قوله: ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ) والثالث دخل في قوله: ( بِالْحَقِّ ) .
وبيان الأمر الأول وهو - نفس إرساله - أنه قد علم حالة أهل الأرض قبل بعثته صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من عبادة الأوثان والنيران, والصلبان, وتبديلهم للأديان, حتى كانوا في ظلمة من الكفر, قد عمتهم وشملتهم, إلا بقايا من أهل الكتاب, قد انقرضوا قبيل البعثة.
وقد علم أن الله تعالى لم يخلق خلقه سدى, ولم يتركهم هملا لأنه حكيم عليم, قدير رحيم، فمن حكمته ورحمته بعباده, أن أرسل إليهم هذا الرسول العظيم, يأمرهم بعبادة الرحمن وحده لا شريك له, فبمجرد رسالته يعرف العاقل صدقه, وهو آية كبيرة على أنه رسول الله، وأما الثاني: فمن عرف النبي صلى الله عليه وسلم معرفة تامة, وعرف سيرته وهديه قبل البعثة, ونشوءه على أكمل الخصال, ثم من بعد ذلك,
قد ازدادت مكارمه وأخلاقه العظيمة الباهرة للناظرين, فمن عرفها, وسبر أحواله, عرف أنها لا تكون إلا أخلاق الأنبياء الكاملين, لأن الله تعالى جعل الأوصاف أكبر دليل على معرفة أصحابها وصدقهم وكذبهم.
وأما الثالث: فهو معرفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الشرع العظيم, والقرآن الكريم, المشتمل على الإخبارات الصادقة, والأوامر الحسنة, والنهي عن كل قبيح, والمعجزات الباهرة, فجميع الآيات تدخل في هذه الثلاثة.
قوله: ( بَشِيرًا ) أي لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والأخروية، ( نَذِيرًا ) لمن عصاك بالشقاوة والهلاك الدنيوي والأخروي.
( وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ) أي: لست مسئولا عنهم, إنما عليك البلاغ, وعلينا الحساب.

ابو وليد البحيرى
2018-12-20, 05:56 PM
الحلقة (19)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(120)الى الأية(126)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ < 1-65 > وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى رسوله, أنه لا يرضى منه اليهود ولا النصارى, إلا باتباعه دينهم, لأنهم دعاة إلى الدين الذي هم عليه, ويزعمون أنه الهدى، فقل لهم: ( إِنَّ هُدَى اللَّهِ ) الذي أرسلت به ( هُوَ الْهُدَى ) .
وأما ما أنتم عليه, فهو الهوى بدليل قوله ( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .
فهذا فيه النهي العظيم, عن اتباع أهواء اليهود والنصارى, والتشبه بهم فيما يختص به دينهم، والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمته داخلة في ذلك، لأن الاعتبار بعموم المعنى لا بخصوص المخاطب، كما أن العبرة بعموم اللفظ, لا بخصوص السبب.
ثم قال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى أن الذين آتاهم الكتاب, ومنَّ عليهم به منة مطلقة, أنهم ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) أي: يتبعونه حق اتباعه, والتلاوة: الاتباع، فيحلون حلاله, ويحرمون حرامه, ويعملون بمحكمه, ويؤمنون بمتشابهه، وهؤلاء هم السعداء من أهل الكتاب, الذين عرفوا نعمة الله وشكروها,
وآمنوا بكل الرسل, ولم يفرقوا بين أحد منهم.
فهؤلاء, هم المؤمنون حقا, لا من قال منهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ولهذا توعدهم بقوله ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) وقد تقدم تفسير الآية التي بعدها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى, عن عبده وخليله, إبراهيم عليه السلام, المتفق على إمامته وجلالته, الذي كل من طوائف أهل الكتاب تدعيه, بل وكذلك المشركون: أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات, أي: بأوامر ونواهي, كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده, ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء والامتحان من الصادق, الذي ترتفع درجته, ويزيد قدره, ويزكو عمله, ويخلص ذهبه، وكان من أجلِّهم في هذا المقام, الخليل عليه السلام.
فأتم ما ابتلاه الله به, وأكمله ووفاه, فشكر الله له ذلك, ولم يزل الله شكورا فقال: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) أي: يقتدون بك في الهدى, ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية, ويحصل لك الثناء الدائم, والأجر الجزيل, والتعظيم من كل أحد.
وهذه - لعمر الله - أفضل درجة, تنافس فيها المتنافسون, وأعلى مقام, شمر إليه العاملون, وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم, من كل صديق متبع لهم, داع إلى الله وإلى سبيله.
فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام, وأدرك هذا, طلب ذلك لذريته, لتعلو درجته ودرجة ذريته، وهذا أيضا من إمامته, ونصحه لعباد الله, ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون، فلله عظمة هذه الهمم العالية, والمقامات السامية.
فأجابه الرحيم اللطيف, وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام فقال: ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) أي: لا ينال الإمامة في الدين, من ظلم نفسه وضرها, وحط قدرها, لمنافاة الظلم لهذا المقام, فإنه مقام آلته الصبر واليقين، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة, والأخلاق الجميلة, والشمائل السديدة, والمحبة التامة, والخشية والإنابة، فأين الظلم وهذا المقام؟
ودل مفهوم الآية, أن غير الظالم, سينال الإمامة, ولكن مع إتيانه بأسبابها.
ثم ذكر تعالى, نموذجا باقيا دالا على إمامة إبراهيم, وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده, ركنا من أركان الإسلام, حاطا للذنوب والآثام.
وفيه من آثار الخليل وذريته, ما عرف به إمامته, وتذكرت به حالته فقال: ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ) أي: مرجعا يثوبون إليه, لحصول منافعهم الدينية والدنيوية, يترددون إليه, ولا يقضون منه وطرا، ( و ) جعله ( أَمْنًا ) يأمن به كل أحد, حتى الوحش, وحتى الجمادات كالأشجار.
ولهذا كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام, ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم, فلا يهيجه، فلما جاء الإسلام, زاده حرمة وتعظيما, وتشريفا وتكريما.
( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) يحتمل أن يكون المراد بذلك, المقام المعروف الذي قد جعل الآن, مقابل باب الكعبة، وأن المراد بهذا, ركعتا الطواف, يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم, وعليه جمهور المفسرين، ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا, فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج، وهي المشاعر كلها: من الطواف, والسعي, والوقوف بعرفة, ومزدلفة ورمي الجمار والنحر, وغير ذلك من أفعال الحج.
فيكون معنى قوله: ( مُصَلًّى ) أي: معبدا, أي: اقتدوا به في شعائر الحج، ولعل هذا المعنى أولى, لدخول المعنى الأول فيه, واحتمال اللفظ له.
( وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ) أي: أوحينا إليهما, وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك, والكفر والمعاصي, ومن الرجس والنجاسات < 1-66 > والأقذار, ليكون ( لِلطَّائِفِينَ ) فيه ( وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) أي: المصلين، قدم الطواف, لاختصاصه بالمسجد [الحرام]، ثم الاعتكاف, لأن من شرطه المسجد مطلقا، ثم الصلاة, مع أنها أفضل, لهذا المعنى.
وأضاف الباري البيت إليه لفوائد، منها: أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره, لكونه بيت الله، فيبذلان جهدهما, ويستفرغان وسعهما في ذلك.
ومنها: أن الإضافة تقتضي التشريف والإكرام، ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه.
ومنها: أن هذه الإضافة هي السبب الجاذب للقلوب إليه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: وإذ دعا إبراهيم لهذا البيت, أن يجعله الله بلدا آمنا, ويرزق أهله من أنواع الثمرات، ثم قيد عليه السلام هذا الدعاء للمؤمنين, تأدبا مع الله, إذ كان دعاؤه الأول, فيه الإطلاق, فجاء الجواب فيه مقيدا بغير الظالم.
فلما دعا لهم بالرزق, وقيده بالمؤمن, وكان رزق الله شاملا للمؤمن والكافر, والعاصي والطائع, قال تعالى: ( وَمَنْ كَفَرَ ) أي: أرزقهم كلهم, مسلمهم وكافرهم، أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة الله, ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة، وأما الكافر, فيتمتع فيها قليلا ( ثُمَّ أَضْطَرُّهُ ) أي: ألجئه وأخرجه مكرها ( إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

ابو وليد البحيرى
2018-12-20, 06:00 PM
الحلقة (20)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(127)الى الأية(134)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.
أي: واذكر إبراهيم وإسماعيل, في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس, واستمرارهما على هذا العمل العظيم، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء, حتى إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما, حتى يحصل http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg فيه النفع العميم.
ودعوا لأنفسهما, وذريتهما بالإسلام, الذي حقيقته, خضوع القلب, وانقياده لربه المتضمن لانقياد الجوارح. ( وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ) أي: علمناها على وجه الإراءة والمشاهدة, ليكون أبلغ. يحتمل أن يكون المراد بالمناسك: أعمال الحج كلها, كما يدل عليه السياق والمقام، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك وهو الدين كله, والعبادات كلها, كما يدل عليه عموم اللفظ, لأن النسك: التعبد, ولكن غلب على متعبدات الحج, تغليبا عرفيا، فيكون حاصل دعائهما, يرجع إلى التوفيق للعلم النافع, والعمل الصالح، ولما كان العبد - مهما كان - لا بد أن يعتريه التقصير, ويحتاج إلى التوبة قالا ( وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .
( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ ) أي: في ذريتنا ( رَسُولا مِنْهُمْ ) ليكون أرفع لدرجتهما, ولينقادوا له, وليعرفوه حقيقة المعرفة. ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ) لفظا, وحفظا, وتحفيظا ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) معنى.
( وَيُزَكِّيهِمْ ) بالتربية على الأعمال الصالحة والتبري من الأعمال الردية, التي لا تزكي النفوس http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg معها. ( إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ ) أي: القاهر لكل شيء, الذي لا يمتنع على قوته شيء. ( الْحَكِيمُ ) الذي يضع الأشياء مواضعها، فبعزتك وحكمتك, ابعث فيهم هذا الرسول. فاستجاب الله لهما, فبعث الله هذا الرسول الكريم, الذي رحم الله به ذريتهما خاصة, وسائر الخلق عامة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " أنا دعوة أبي إبراهيم ".
ولما عظم الله إبراهيم هذا التعظيم, وأخبر عن صفاته الكاملة قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.
أي: ما يرغب ( عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ) بعد ما عرف من فضله ( إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) أي: جهلها وامتهنها, ورضي لها بالدون, وباعها بصفقة المغبون، كما أنه لا أرشد وأكمل, ممن رغب في ملة إبراهيم، ثم أخبر عن حالته في الدنيا والآخرة فقال: ( وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ) أي: اخترناه ووفقناه للأعمال, التي صار بها من < 1-67 > المصطفين الأخيار.
( وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) الذين لهم أعلى الدرجات.
( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ ) امتثالا لربه ( أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) إخلاصا وتوحيدا, ومحبة, وإنابة فكان التوحيد لله نعته.
ثم ورثه في ذريته, ووصاهم به, وجعلها كلمة باقية في عقبه, وتوارثت فيهم, حتى وصلت ليعقوب فوصى بها بنيه.
فأنتم - يا بني يعقوب - قد وصاكم أبوكم بالخصوص, فيجب عليكم كمال الانقياد, واتباع خاتم الأنبياء قال: ( يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ ) أي: اختاره وتخيره لكم, رحمة بكم, وإحسانا إليكم, فقوموا به, واتصفوا بشرائعه, وانصبغوا بأخلاقه, حتى تستمروا على ذلك فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه, لأن من عاش على شيء, مات عليه, ومن مات على شيء, بعث عليه.
ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم, ومن بعده يعقوب, قال تعالى منكرا عليهم: ( أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ ) أي: حضورا ( إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ) أي: مقدماته وأسبابه، فقال لبنيه على وجه الاختبار, ولتقر عينه في حياته بامتثالهم ما وصاهم به: ( مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ) ؟ فأجابوه بما قرت به عينه فقالوا: ( نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا ) فلا نشرك به شيئا, ولا نعدل به أحدا، ( وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) فجمعوا بين التوحيد والعمل.
ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب, لأنهم لم يوجدوا بعد، فإذا لم يحضروا, فقد أخبر الله عنه أنه وصى بنيه بالحنيفية, لا باليهودية.
ثم قال تعالى: ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ) أي: مضت ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ) أي: كل له عمله, وكل سيجازى بما فعله, لا يؤخذ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg أحد بذنب أحد ولا ينفع أحدا إلا إيمانه وتقواه فاشتغالكم بهم وادعاؤكم, أنكم على ملتهم, والرضا بمجرد القول, أمر فارغ لا حقيقة له، بل الواجب عليكم, أن تنظروا حالتكم التي أنتم عليها, هل تصلح للنجاة أم لا؟

ابو وليد البحيرى
2018-12-23, 04:25 PM
الحلقة (21)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(135)الى الأية(141)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية



http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: دعا كل من اليهود والنصارى المسلمين إلى الدخول في دينهم, زاعمين أنهم هم المهتدون وغيرهم ضال.
قل له http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg مجيبا جوابا شافيا: ( بَلْ ) نتبع ( مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) أي: مقبلا على الله, معرضا عما سواه, قائما بالتوحيد, تاركا للشرك والتنديد.
فهذا الذي في اتباعه الهداية, وفي الإعراض عن ملته الكفر والغواية.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذه الآية الكريمة, قد اشتملت على جميع ما يجب الإيمان به.
واعلم أن الإيمان الذي هو تصديق القلب التام, بهذه الأصول, وإقراره المتضمن لأعمال القلوب والجوارح، وهو بهذا الاعتبار يدخل فيه الإسلام, وتدخل فيه الأعمال الصالحة كلها، فهي من الإيمان, وأثر من آثاره، فحيث أطلق الإيمان, دخل فيه ما ذكر، وكذلك الإسلام, إذا أطلق دخل فيه الإيمان، فإذا قرن بينهما, كان الإيمان اسما لما في القلب من الإقرار والتصديق، والإسلام, اسما للأعمال الظاهرة وكذلك إذا جمع بين الإيمان والأعمال الصالحة، فقوله تعالى: ( قُولُوا ) أي: بألسنتكم, متواطئة عليها قلوبكم، وهذا هو القول التام, المترتب عليه الثواب والجزاء، فكما أن النطق باللسان, بدون اعتقاد القلب, نفاق وكفر، فالقول الخالي من العمل عمل القلب, عديم التأثير, قليل الفائدة, وإن كان العبد يؤجر عليه, إذا كان خيرا ومعه أصل الإيمان، لكن فرق بين القول المجرد, والمقترن به عمل القلب.
وفي قوله: ( قُولُوا ) إشارة إلى الإعلان بالعقيدة, والصدع بها, والدعوة لها, إذ هي أصل الدين وأساسه.
وفي قوله: ( آمَنَّا ) ونحوه مما فيه صدور الفعل, منسوبا إلى جميع الأمة, إشارة إلى أنه يجب على الأمة, الاعتصام بحبل الله جميعا, والحث على الائتلاف حتى يكون داعيهم واحدا, وعملهم متحدا, وفي ضمنه النهي عن الافتراق، وفيه: أن المؤمنين كالجسد الواحد.
وفي قوله: ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ) إلخ دلالة على جواز إضافة الإنسان إلى نفسه الإيمان, على وجه التقييد, بل على وجوب ذلك، بخلاف قوله: "أنا مؤمن"ونحوه, فإنه لا يقال إلا مقرونا بالاستثناء بالمشيئة, لما فيه من تزكية النفس, والشهادة على نفسه بالإيمان.
فقوله: ( آمَنَّا بِاللَّهِ ) أي: بأنه موجود, واحد أحد, متصف بكل صفة كمال, منزه عن كل نقص وعيب, مستحق لإفراده بالعبادة كلها, وعدم الإشراك به في شيء منها, بوجه من الوجوه.
< 1-68 >
( وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا ) يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى: ( وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) فيدخل فيه الإيمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله, من صفات الباري, وصفات رسله, واليوم الآخر, والغيوب الماضية والمستقبلة, والإيمان بما تضمنه ذلك من الأحكام الشرعية الأمرية, وأحكام الجزاء وغير ذلك.
( وَمَا أُنزلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ) إلى آخر الآية، فيه الإيمان بجميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء، والإيمان بالأنبياء عموما وخصوصا, ما نص عليه في الآية, لشرفهم ولإتيانهم بالشرائع الكبار. فالواجب في الإيمان بالأنبياء والكتب, أن يؤمن بهم على وجه العموم والشمول، ثم ما عرف منهم بالتفصيل, وجب الإيمان به مفصلا.
وقوله: ( لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ) أي: بل نؤمن بهم كلهم، هذه خاصية المسلمين, التي انفردوا بها عن كل من يدعي أنه على دين.
فاليهود والنصارى والصابئون وغيرهم - وإن زعموا أنهم يؤمنون بما يؤمنون به من الرسل والكتب - فإنهم يكفرون بغيره، فيفرقون بين الرسل والكتب, بعضها يؤمنون به وبعضها يكفرون به، وينقض تكذيبهم تصديقهم، فإن الرسول الذي زعموا, أنهم قد آمنوا به, قد صدق سائر الرسل وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كذبوا محمدا, فقد كذبوا رسولهم فيما أخبرهم به, فيكون كفرا برسولهم.
وفي قوله: ( وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ) دلالة على أن عطية الدين, هي العطية الحقيقية المتصلة بالسعادة الدنيوية والأخروية. لم يأمرنا أن نؤمن بما أوتي الأنبياء من الملك والمال ونحو ذلك، بل أمرنا أن نؤمن بما أعطوا من الكتب والشرائع.
وفيه أن الأنبياء مبلغون عن الله, ووسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ دينه, ليس لهم من الأمر شيء.
وفي قوله: ( مِنْ رَبِّهِمْ ) إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده, أن ينزل عليهم الكتب, ويرسل إليهم الرسل, فلا تقتضي ربوبيته, تركهم سدى ولا هملا.
وإذا كان ما أوتي النبيون, إنما هو من ربهم, ففيه الفرق بين الأنبياء وبين من يدعي النبوة, وأنه يحصل الفرق بينهم بمجرد معرفة ما يدعون إليه، فالرسل لا يدعون إلا إلى لخير, ولا ينهون إلا عن كل شر، وكل واحد منهم, يصدق الآخر, ويشهد له بالحق, من غير تخالف ولا تناقض لكونه من عند ربهم ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) .
وهذا بخلاف من ادعى النبوة, فلا بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم ونواهيهم, كما يعلم ذلك من سبر أحوال الجميع, وعرف ما يدعون إليه.
فلما بيَّن تعالى جميع ما يؤمن به, عموما وخصوصا, وكان القول لا يغني عن العمل قال: ( وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) أي: خاضعون لعظمته, منقادون لعبادته, بباطننا وظاهرنا, مخلصون له العبادة بدليل تقديم المعمول, وهو ( لَهُ ) على العامل وهو ( مُسْلِمُونَ ) .
فقد اشتملت هذه الآية الكريمة - على إيجازها واختصارها - على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية, وتوحيد الألوهية, وتوحيد الأسماء والصفات، واشتملت على الإيمان بجميع الرسل, وجميع الكتب، وعلى التخصيص الدال على الفضل بعد التعميم، وعلى التصديق بالقلب واللسان والجوارح والإخلاص لله في ذلك، وعلى الفرق بين الرسل الصادقين, ومن ادعى النبوة من الكاذبين، وعلى تعليم الباري عباده, كيف يقولون, ورحمته وإحسانه عليهم بالنعم الدينية المتصلة بسعادة الدنيا والآخرة، فسبحان من جعل كتابه تبيانا لكل شيء, وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: فإن آمن أهل الكتاب ( بمثل ما آمنتم به ) - يا معشر المؤمنين - من جميع الرسل, وجميع الكتب, الذين أول من دخل فيهم, وأولى خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن, وأسلموا لله وحده, ولم يفرقوا بين أحد من رسل الله ( فَقَدِ اهْتَدَوْا ) للصراط المستقيم, الموصل لجنات النعيم، أي: فلا سبيل لهم إلى الهداية, إلا بهذا الإيمان، لا كما زعموا بقولهم: ( كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ) فزعموا أن الهداية خاصة بما كانوا عليه، و " الهدى "هو العلم بالحق, والعمل به, وضده الضلال عن العلم والضلال عن العمل بعد العلم, وهو الشقاق الذي كانوا عليه, لما تولوا وأعرضوا، فالمشاق: هو الذي يكون في شق والله ورسوله في شق، ويلزم من المشاقة المحادة, والعداوة البليغة, التي من لوازمها, بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول، فلهذا وعد الله رسوله, أن يكفيه إياهم, لأنه السميع لجميع الأصوات, باختلاف اللغات, على تفنن الحاجات, العليم بما بين أيديهم وما خلفهم, بالغيب والشهادة, بالظواهر والبواطن، فإذا كان كذلك, كفاك الله شرهم
وقد أنجز الله لرسوله وعده, وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم, وسبى بعضهم, وأجلى بعضهم, وشردهم كل مشرد.
ففيه معجزة من معجزات القرآن, وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه, فوقع طبق ما أخبر.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: الزموا صبغة الله, وهو دينه, وقوموا به قياما تاما, بجميع أعماله الظاهرة والباطنة, وجميع عقائده في جميع الأوقات, حتى يكون لكم صبغة, وصفة من صفاتكم، فإذا كان صفة من صفاتكم, أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره, طوعا واختيارا ومحبة, وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ التام < 1-69 > للثوب الذي صار له صفة, فحصلت لكم السعادة الدنيوية والأخروية, لحث الدين على مكارم الأخلاق, ومحاسن الأعمال, ومعالي الأمور، فلهذا قال - على سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية-: ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ) أي: لا أحسن صبغة من صبغته http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
وإذا أردت أن تعرف نموذجا يبين لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من الصبغ, فقس الشيء بضده، فكيف ترى في عبد آمن بربه إيمانا صحيحا, أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح، فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن, وفعل جميل, وخلق كامل, ونعت جليل، ويتخلى من كل وصف قبيح, ورذيلة وعيب، فوصفه: الصدق في قوله وفعله, والصبر والحلم, والعفة, والشجاعة, والإحسان القولي والفعلي, ومحبة الله وخشيته, وخوفه, ورجاؤه، فحاله الإخلاص للمعبود, والإحسان لعبيده، فقسه بعبد كفر بربه, وشرد عنه, وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة, من الكفر, والشرك والكذب, والخيانة, والمكر, والخداع, وعدم العفة, والإساءة إلى الخلق, في أقواله, وأفعاله، فلا إخلاص للمعبود, ولا إحسان إلى عبيده.
فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما, ويتبين لك أنه لا أحسن صبغة من صبغة الله, وفي ضمنه أنه لا أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه.
وفي قوله: ( وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ) بيان لهذه الصبغة, وهي القيام بهذين الأصلين: الإخلاص والمتابعة, لأن " العبادة "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال, والأقوال الظاهرة والباطنة، ولا تكون كذلك, حتى يشرعها الله على لسان رسوله، والإخلاص: أن يقصد العبد وجه الله وحده, في تلك الأعمال، فتقديم المعمول, يؤذن بالحصر.
وقال: ( وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ) فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار, ليدل على اتصافهم بذلك وكونه صار صبغة لهم ملازما.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
المحاجة هي: المجادلة بين اثنين فأكثر, تتعلق بالمسائل الخلافية, حتى يكون كل من الخصمين يريد نصرة قوله, وإبطال قول خصمه، فكل واحد منهما, يجتهد في إقامة الحجة على ذلك، والمطلوب منها, أن تكون بالتي هي أحسن, بأقرب طريق يرد الضال إلى الحق, ويقيم الحجة على المعاند, ويوضح الحق, ويبين الباطل، فإن خرجت عن هذه الأمور, كانت مماراة, ومخاصمة لا خير فيها,
وأحدثت من الشر ما أحدثت، فكان أهل الكتاب, يزعمون أنهم أولى بالله من المسلمين, وهذا مجرد دعوى, تفتقر إلى برهان ودليل. فإذا كان رب الجميع واحدا, ليس ربا لكم دوننا, وكل منا ومنكم له عمله, فاستوينا نحن وإياكم بذلك. فهذا لا يوجب أن يكون أحد الفريقين أولى بالله من غيره؛ لأن التفريق مع الاشتراك في الشيء, من غير فرق مؤثر, دعوى باطلة, وتفريق بين متماثلين, ومكابرة ظاهرة. وإنما يحصل التفضيل, بإخلاص الأعمال الصالحة لله وحده، وهذه الحالة, وصف المؤمنين وحدهم, فتعين أنهم أولى بالله من غيرهم؛ لأن الإخلاص, هو الطريق إلى الخلاص، فهذا هو الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان, بالأوصاف الحقيقية التي يسلمها أهل العقول, ولا ينازع فيها إلا كل مكابر جهول، ففي هذه الآية, إرشاد لطيف لطريق المحاجة, وأن الأمور مبنية على الجمع بين المتماثلين, والفرق بين المختلفين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وهذه دعوى أخرى منهم, ومحاجة في رسل الله, زعموا أنهم أولى بهؤلاء الرسل المذكورين من المسلمين.
فرد الله عليهم بقوله: ( أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ) فالله يقول: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهم يقولون: بل كان يهوديا أو نصرانيا.
فإما أن يكونوا, هم الصادقين العالمين, أو يكون الله تعالى هو الصادق العالم بذلك, فأحد الأمرين متعين لا محالة، وصورة الجواب مبهم, وهو في غاية الوضوح والبيان، حتى إنه - من وضوحه - لم يحتج أن يقول بل الله أعلم وهو أصدق, ونحو ذلك, لانجلائه لكل أحد، كما إذا قيل: الليل أنور, أم النهار؟ والنار أحر أم الماء؟ والشرك أحسن أم التوحيد؟ ونحو ذلك.
وهذا يعرفه كل من له أدنى عقل حتى إنهم بأنفسهم يعرفون ذلك, ويعرفون أن إبراهيم وغيره من الأنبياء, لم يكونوا هودا ولا نصارى, فكتموا هذا العلم وهذه الشهادة, فلهذا كان ظلمهم أعظم الظلم. ولهذا قال تعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ) فهي شهادة عندهم, مودعة من الله, لا من الخلق, فيقتضي الاهتمام بإقامتها, فكتموها, وأظهروا ضدها، جمعوا بين كتم الحق, وعدم النطق به, وإظهار الباطل, والدعوة إليه، أليس هذا أعظم الظلم؟ بلى والله, وسيعاقبهم عليه أشد العقوبة، فلهذا قال: ( وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) بل قد أحصى أعمالهم, وعدها وادخر لهم جزاءها, فبئس الجزاء جزاؤهم, وبئست النار, مثوى للظالمين، وهذه طريقة القرآن في ذكر العلم والقدرة, عقب الآيات المتضمنة للأعمال التي يجازى عليها.
فيفيد ذلك الوعد والوعيد, < 1-70 > والترغيب والترهيب، ويفيد أيضا ذكر الأسماء الحسنى بعد الأحكام, أن الأمر الديني والجزائي, أثر من آثارها, وموجب من موجباتها, وهي مقتضية له.
.ثم قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
تقدم تفسيرها, وكررها, لقطع التعلق بالمخلوقين, وأن المعول عليه ما اتصف به الإنسان, لا عمل أسلافه وآبائه، فالنفع الحقيقي بالأعمال, لا بالانتساب المجرد للرجال.

ابو وليد البحيرى
2018-12-23, 04:30 PM
الحلقة (22)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(142)الى الأية(145)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
قد اشتملت الآية الأولى على معجزة, وتسلية, وتطمين قلوب المؤمنين, واعتراض وجوابه, من ثلاثة أوجه, وصفة المعترض, وصفة المسلم لحكم الله دينه.
فأخبر تعالى أنه سيعترض السفهاء من الناس, وهم الذين لا يعرفون مصالح أنفسهم, بل يضيعونها ويبيعونها بأبخس ثمن, وهم اليهود والنصارى, ومن أشبههم من المعترضين على أحكام الله وشرائعه، وذلك أن المسلمين كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس, مدة مقامهم بمكة، ثم بعد الهجرة إلى المدينة, نحو سنة ونصف - لما لله تعالى في ذلك من الحكم التي سيشير إلى بعضها, وكانت حكمته تقتضي أمرهم باستقبال الكعبة، فأخبرهم أنه لا بد أن يقول السفهاء من الناس: ( مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ) وهي استقبال بيت المقدس، أي: أيُّ شيء صرفهم عنه؟ وفي ذلك الاعتراض على حكم الله وشرعه, وفضله وإحسانه، فسلاهم, وأخبر بوقوعه, وأنه إنما يقع ممن اتصف بالسفه, قليل العقل, والحلم, والديانة، فلا تبالوا بهم, إذ قد علم مصدر هذا الكلام، فالعاقل لا يبالي باعتراض السفيه, ولا يلقي له ذهنه. ودلت الآية على أنه لا يعترض على أحكام الله, إلا سفيه جاهل معاند، وأما الرشيد المؤمن العاقل, فيتلقى أحكام ربه بالقبول, والانقياد, والتسليم كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآية، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وقد كان في قوله ( السفهاء ) ما يغني عن رد قولهم, وعدم المبالاة به.
ولكنه تعالى مع هذا لم يترك هذه الشبهة, حتى أزالها وكشفها مما سيعرض لبعض القلوب من الاعتراض, فقال تعالى: ( قُلْ ) لهم مجيبا: ( لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي: فإذا كان المشرق والمغرب ملكا لله, ليس جهة من الجهات خارجة عن ملكه, ومع هذا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم, ومنه هدايتكم إلى هذه القبلة التي هي من ملة أبيكم إبراهيم، فلأي شيء يعترض المعترض بتوليتكم قبلة داخلة تحت ملك الله, لم تستقبلوا جهة ليست ملكا له؟ فهذا يوجب التسليم لأمره, بمجرد ذلك، فكيف وهو من فضل الله عليكم, وهدايته وإحسانه, أن هداكم لذلك فالمعترض عليكم, معترض على فضل الله, حسدا لكم وبغيا.
ولما كان قوله: ( يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) والمطلق يحمل على المقيد, فإن الهداية والضلال, لهما أسباب أوجبتها حكمة الله وعدله, وقد أخبر في غير موضع من كتابه بأسباب الهداية, التي إذا أتى بها العبد حصل له الهدى كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ذكر في هذه الآية السبب الموجب لهداية هذه الأمة مطلقا بجميع أنواع الهداية, ومنة الله عليها فقال:
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) أي: عدلا خيارا، وما عدا الوسط, فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة, وسطا في كل أمور الدين، وسطا في الأنبياء, بين من غلا فيهم, كالنصارى, وبين من جفاهم, كاليهود, بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك، ووسطا في الشريعة, لا تشديدات اليهود وآصارهم, ولا تهاون النصارى.
وفي باب الطهارة والمطاعم, لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم, ولا يطهرهم الماء من النجاسات, وقد حرمت عليهم الطيبات, عقوبة لهم، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئا, ولا يحرمون شيئا, بل أباحوا ما دب ودرج.
بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها، وأباح الله لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح, وحرم عليهم الخبائث من ذلك، فلهذه الأمة من الدين أكمله, ومن الأخلاق أجلها, ومن الأعمال أفضلها.
ووهبهم الله من العلم والحلم, والعدل والإحسان, ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا ( أُمَّةً وَسَطًا ) [كاملين] ليكونوا ( شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط, يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان, ولا يحكم عليهم غيرهم، فما شهدت له هذه الأمة بالقبول, فهو مقبول, وما شهدت له بالرد, فهو مردود. فإن قيل: كيف يقبل حكمهم على غيرهم, والحال أن كل مختصمين غير مقبول قول بعضهم على بعض؟ قيل: إنما لم يقبل قول أحد المتخاصمين, لوجود التهمة فأما إذا انتفت التهمة, وحصلت العدالة التامة, كما في هذه الأمة, فإنما المقصود, الحكم بالعدل والحق، وشرط ذلك, العلم والعدل, وهما موجودان في هذه الأمة, فقبل قولها.
فإن شك شاك في فضلها, وطلب مزكيا لها, فهو أكمل الخلق, نبيهم صلى الله عليه وسلم، فلهذا قال تعالى: ( وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) .
< 1-71 >
ومن شهادة هذه الأمة على غيرهم, أنه إذا كان يوم القيامة, وسأل الله المرسلين عن تبليغهم, والأمم المكذبة عن ذلك, وأنكروا أن الأنبياء بلغتهم، استشهدت الأنبياء بهذه الأمة, وزكاها نبيها.
وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة, حجة قاطعة, وأنهم معصومون عن الخطأ, لإطلاق قوله: ( وَسَطًا ) فلو قدر اتفاقهم على الخطأ, لم يكونوا وسطا, إلا في بعض الأمور, ولقوله: ( لتكونوا شهداء على الناس ) يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحله أو حرمه أو أوجبه، فإنها معصومة في ذلك. وفيها اشتراط العدالة في الحكم, والشهادة, والفتيا, ونحو ذلك.
يقول تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ) وهي استقبال بيت المقدس أولا ( إِلا لِنَعْلَمَ ) أي: علما يتعلق به الثواب والعقاب, وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها.
ولكن هذا العلم, لا يعلق عليه ثوابا ولا عقابا, لتمام عدله, وإقامة الحجة على عباده، بل إذا وجدت أعمالهم, ترتب عليها الثواب والعقاب، أي: شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن ( مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ) ويؤمن به, فيتبعه على كل حال, لأنه عبد مأمور مدبر، ولأنه قد أخبرت الكتب المتقدمة, أنه يستقبل الكعبة، فالمنصف الذي مقصوده الحق, مما يزيده ذلك إيمانا, وطاعة للرسول.
وأما من انقلب على عقبيه, وأعرض عن الحق, واتبع هواه, فإنه يزداد كفرا إلى كفره, وحيرة إلى حيرته, ويدلي بالحجة الباطلة, المبنية على شبهة لا حقيقة لها.
( وَإِنْ كَانَتْ ) أي: صرفك عنها ( لَكَبِيرَةٌ ) أي: شاقة ( إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ) فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم, وشكروا, وأقروا له بالإحسان, حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم, الذي فضله على سائر بقاع الأرض، وجعل قصده, ركنا من أركان الإسلام, وهادما للذنوب والآثام, فلهذا خف عليهم ذلك, وشق على من سواهم.
ثم قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) أي: ما ينبغي له ولا يليق به تعالى, بل هي من الممتنعات عليه، فأخبر أنه ممتنع عليه, ومستحيل, أن يضيع إيمانكم، وفي هذا بشارة عظيمة لمن مَنَّ الله عليهم بالإسلام والإيمان, بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم, فلا يضيعه, وحفظه نوعان:
حفظ عن الضياع والبطلان, بعصمته لهم عن كل مفسد ومزيل له ومنقص من المحن المقلقة, والأهواء الصادة، وحفظ له بتنميته لهم, وتوفيقهم لما يزداد به إيمانهم, ويتم به إيقانهم، فكما ابتدأكم, بأن هداكم للإيمان, فسيحفظه لكم, ويتم نعمته بتنميته وتنمية أجره, وثوابه, وحفظه من كل مكدر، بل إذا وجدت المحن المقصود منها, تبيين المؤمن الصادق من الكاذب، فإنها تمحص المؤمنين, وتظهر صدقهم، وكأن في هذا احترازا عما قد يقال إن قوله: ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ) قد يكون سببا لترك بعض المؤمنين إيمانهم, فدفع هذا الوهم بقوله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) بتقديره لهذه المحنة أو غيرها.
ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة, فإن الله لا يضيع إيمانهم, لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها، وطاعة الله, امتثال أمره في كل وقت, بحسب ذلك، وفي هذه الآية, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح.
وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) أي: شديد الرحمة بهم عظيمها، فمن رأفته ورحمته بهم, أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها، وأن ميَّزَ عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون قلبه، وأن امتحنهم امتحانا, زاد به إيمانهم, وارتفعت به درجتهم، وأن وجههم إلى أشرف البيوت, وأجلها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يقول الله لنبيه: ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ) أي: كثرة تردده في جميع جهاته, شوقا وانتظارا لنزول الوحي باستقبال الكعبة، وقال: ( وَجْهكَ ) ولم يقل: " بصرك "لزيادة اهتمامه, ولأن تقليب الوجه مستلزم لتقليب البصر.
( فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ ) أي: نوجهك لولايتنا إياك، ( قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) أي: تحبها, وهي الكعبة، وفي هذا بيان لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم, حيث إن الله تعالى يسارع في رضاه, ثم صرح له باستقبالها فقال: ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) والوجه: ما أقبل من بدن الإنسان، ( وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ ) أي: من بر وبحر, وشرق وغرب, جنوب وشمال. ( فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) أي: جهته.
ففيها اشتراط استقبال الكعبة, للصلوات كلها, فرضها, ونفلها, وأنه إن أمكن استقبال عينها, وإلا فيكفي شطرها وجهتها، وأن الالتفات بالبدن, مبطل للصلاة, لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ولما ذكر تعالى فيما تقدم, المعترضين على ذلك من أهل الكتاب وغيرهم، وذكر جوابهم, ذكر هنا, أن أهل الكتاب والعلم منهم, يعلمون أنك في ذلك على حق وأمر، لما يجدونه في كتبهم, فيعترضون عنادا وبغيا، فإذا كانوا يعلمون بخطئهم فلا تبالوا بذلك، فإن الإنسان إنما يغمه اعتراض من اعترض عليه, إذا كان الأمر مشتبها, وكان ممكنا أن يكون معه صواب.
< 1-72 >
فأما إذا تيقن أن الصواب والحق مع المعترض عليه, وأن المعترض معاند, عارف ببطلان قوله, فإنه لا محل للمبالاة, بل ينتظر بالمعترض العقوبة الدنيوية والأخروية, فلهذا قال تعالى: ( وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) بل يحفظ عليهم أعمالهم, ويجازيهم عليها، وفيها وعيد للمعترضين, وتسلية للمؤمنين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
كان النبي صلى الله عليه وسلم من كمال حرصه على هداية الخلق يبذل لهم غاية ما يقدر عليه من النصيحة, ويتلطف بهدايتهم, ويحزن إذا لم ينقادوا لأمر الله، فكان من الكفار, من تمرد عن أمر الله, واستكبر على رسل الله, وترك الهدى, عمدا وعدوانا، فمنهم: اليهود والنصارى, أهل الكتاب الأول, الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم عن يقين, لا عن جهل، فلهذا أخبره الله تعالى أنك لو ( أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ ) أي: بكل برهان ودليل يوضح قولك ويبين ما تدعو إليه، ( مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ) أي: ما تبعوك, لأن اتباع القبلة, دليل على اتباعه، ولأن السبب هو شأن القبلة، وإنما كان الأمر كذلك, لأنهم معاندون, عرفوا الحق وتركوه، فالآيات إنما تفيد وينتفع بها من يتطلب الحق, وهو مشتبه عليه, فتوضح له الآيات البينات، وأما من جزم بعدم اتباع الحق, فلا حيلة فيه.
وأيضا فإن اختلافهم فيما بينهم, حاصل, وبعضهم, غير تابع قبلة بعض، فليس بغريب منهم مع ذلك أن لا يتبعوا قبلتك يا محمد, وهم الأعداء حقيقة الحسدة، وقوله: ( وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ) أبلغ من قوله: " وَلا تَتَّبِعْ "لأن ذلك يتضمن أنه صلى الله عليه وسلم اتصف بمخالفتهم, فلا يمكن وقوع ذلك منه، ولم يقل: " ولو أتوا بكل آية "لأنهم لا دليل لهم على قولهم.
وكذلك إذا تبين الحق بأدلته اليقينية, لم يلزم الإتيان بأجوبة الشبه الواردة عليه, لأنها لا حد لها, ولأنه يعلم بطلانها, للعلم بأن كل ما نافى الحق الواضح, فهو باطل, فيكون حل الشبه من باب التبرع.
( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ) إنما قال: " أهواءهم "ولم يقل " دينهم "لأن ما هم عليه مجرد أهوية http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg نفس, حتى هم في قلوبهم يعلمون أنه ليس بدين، ومن ترك الدين, اتبع الهوى ولا محالة، قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ) بأنك على الحق, وهم على الباطل، ( إِنَّكَ إِذًا ) أي: إن اتبعتهم, فهذا احتراز, لئلا تنفصل هذه الجملة عما قبلها, ولو في الأفهام، ( لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) أي: داخل فيهم, ومندرج في جملتهم، وأي ظلم أعظم, من ظلم, من علم الحق والباطل, فآثر الباطل على الحق، وهذا, وإن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم, فإن أمته داخلة في ذلك، وأيضا, فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم لو فعل ذلك -وحاشاه- صار ظالما مع علو مرتبته, وكثرة حسناته http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg فغيره من باب أولى وأحرى.

ابو وليد البحيرى
2018-12-25, 10:34 AM
الحلقة (23)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(146)الى الأية(153)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


ثم قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
يخبر تعالى: أن أهل الكتاب قد تقرر عندهم, وعرفوا أن محمدا رسول الله, وأن ما جاء به, حق وصدق, وتيقنوا ذلك, كما تيقنوا أبناءهم بحيث لا يشتبهون عليهم بغيرهم، فمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم, وصلت إلى حد لا يشكون فيه ولا يمترون، ولكن فريقا منهم - وهم أكثرهم - الذين كفروا به, كتموا هذه الشهادة مع تيقنها, وهم يعلمون ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ) وفي ضمن ذلك, تسلية للرسول والمؤمنين, وتحذير له من شرهم وشبههم، وفريق منهم لم يكتموا الحق وهم يعلمون، فمنهم من آمن [به] ومنهم من كفر [به] جهلا فالعالم عليه إظهار الحق, وتبيينه وتزيينه, بكل ما يقدر عليه من عبارة وبرهان ومثال, وغير ذلك, وإبطال الباطل وتمييزه عن الحق, وتشيينه, وتقبيحه للنفوس, بكل طريق مؤد لذلك، فهولاء الكاتمون, عكسوا الأمر, فانعكست أحوالهم.
( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) أي: هذا الحق الذي هو أحق أن يسمى حقا من كل شيء, لما اشتمل عليه من المطالب العالية, والأوامر الحسنة, وتزكية النفوس وحثها على تحصيل مصالحها, ودفع مفاسدها, لصدوره من ربك, الذي من جملة تربيته لك أن أنزل عليك هذا القرآن الذي فيه تربية العقول والنفوس, وجميع المصالح.
( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) أي: فلا يحصل لك أدنى شك وريبة فيه، بل تفكَّر فيه وتأمل, حتى تصل بذلك إلى اليقين, لأن التفكر فيه لا محالة, دافع للشك, موصل لليقين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
أي: كل أهل دين وملة, له وجهة يتوجه إليها في عبادته، وليس الشأن في استقبال القبلة, فإنه من الشرائع التي تتغير بها الأزمنة والأحوال, ويدخلها النسخ والنقل, من جهة إلى جهة، ولكن الشأن كل الشأن, في امتثال طاعة الله, والتقرب إليه, وطلب الزلفى عنده، فهذا هو عنوان السعادة ومنشور الولاية، وهو الذي إذا لم تتصف به النفوس, حصلت لها خسارة الدنيا والآخرة، كما أنها إذا اتصفت به فهي الرابحة على الحقيقة, وهذا أمر متفق عليه في جميع الشرائع, وهو الذي خلق الله له الخلق, وأمرهم به.
والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها, يتضمن فعلها, وتكميلها, وإيقاعها على أكمل الأحوال, والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات, فهو السابق في الآخرة إلى الجنات, فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل, من صلاة, وصيام, وزكوات http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg وحج, عمرة, وجهاد, ونفع متعد وقاصر.
ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير, وينشطها, ما رتب الله عليها من الثواب قال: ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فيجمعكم ليوم القيامة بقدرته, فيجازي كل عامل بعمله ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) .
ويستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان بكل فضيلة يتصف بها العمل، كالصلاة في أول وقتها, والمبادرة إلى إبراء الذمة, من الصيام, والحج, والعمرة, وإخراج الزكاة, والإتيان بسنن العبادات وآدابها, فلله ما أجمعها وأنفعها من آية".
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
أي: ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ) في أسفارك وغيرها, وهذا للعموم, ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) أي: جهته.
ثم خاطب الأمة عموما فقال: ( وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) وقال: ( وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) أكده بـ " إن "واللام, لئلا يقع لأحد فيه أدنى شبهة, ولئلا يظن أنه على سبيل التشهي لا الامتثال.
( وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم, فتأدبوا معه, وراقبوه بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه، فإن أعمالكم غير مغفول عنها, بل مجازون عليها أتم الجزاء, إن خيرا فخير, وإن شرا فشر.
وقال هنا: ( لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ) أي: شرعنا لكم استقبال الكعبة المشرفة, لينقطع عنكم احتجاج الناس من أهل الكتاب والمشركين، فإنه لو بقي مستقبلا بيت المقدس, لتوجهت عليه الحجة، فإن أهل الكتاب, يجدون في كتابهم أن قبلته المستقرة, هي الكعبة البيت الحرام، والمشركون يرون أن من مفاخرهم, هذا البيت العظيم, وأنه من ملة إبراهيم, وأنه إذا لم يستقبله محمد صلى الله عليه وسلم, توجهت نحوه حججهم, وقالوا: كيف يدعي أنه على ملة إبراهيم, وهو من ذريته, وقد ترك استقبال قبلته؟
فباستقبال الكعبة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg قامت الحجة على أهل الكتاب والمشركين, وانقطعت حججهم عليه.
( إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) أي: من احتج منهم بحجة, هو ظالم فيها, وليس لها مستند إلا اتباع الهوى والظلم, فهذا لا سبيل إلى إقناعه والاحتجاج عليه، وكذلك لا معنى لجعل الشبهة التي يوردونها على سبيل الاحتجاج محلا يؤبه لها, ولا يلقى لها بال, فلهذا قال تعالى: ( فَلا تَخْشَوْهُمْ ) لأن حجتهم باطلة, والباطل كاسمه مخذول, مخذول صاحبه، وهذا بخلاف صاحب الحق, فإن للحق صولة وعزا, يوجب خشية من هو معه, وأمر تعالى بخشيته, التي هي أصل http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg كل خير، فمن لم يخش الله, لم ينكف عن معصيته, ولم يمتثل أمره.
وكان صرف المسلمين إلى الكعبة, مما حصلت فيه فتنة كبيرة, أشاعها أهل الكتاب, والمنافقون, والمشركون, وأكثروا فيها من الكلام والشبه، فلهذا بسطها الله تعالى, وبينها أكمل بيان, وأكدها بأنواع من التأكيدات, التي تضمنتها هذه الآيات.
منها: الأمر بها, ثلاث مرات, مع كفاية المرة الواحدة، ومنها: أن المعهود, أن الأمر, إما أن يكون للرسول, فتدخل فيه الأمة تبعا, أو للأمة عموما، وفي هذه الآية أمر فيها الرسول بالخصوص في قوله: ( فَوَلِّ وَجْهَكَ ) والأمة عموما في قوله: ( فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ) .
ومنها: أنه رد فيه جميع الاحتجاجات الباطلة, التي أوردها أهل العناد وأبطلها شبهة شبهة, كما تقدم توضيحها، ومنها: أنه قطع الأطماع من اتباع الرسول قبلة أهل الكتاب، ومنها قوله: ( وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) فمجرد إخبار الصادق العظيم كاف شاف, ولكن مع هذا قال: ( وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) .
ومنها: أنه أخبر - وهو العالم بالخفيات - أن أهل الكتاب متقرر عندهم, صحة هذا الأمر, ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم.
ولما كان توليته لنا إلى استقبال القبلة, نعمة عظيمة, وكان لطفه بهذه الأمة ورحمته, لم يزل يتزايد, وكلما شرع لهم شريعة, فهي نعمة عظيمة قال: ( وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ) .
فأصل النعمة, الهداية لدينه, بإرسال رسوله, وإنزال كتابه، ثم بعد ذلك, النعم المتممات لهذا الأصل, لا تعد كثرة, ولا تحصر, منذ بعث الله رسوله إلى أن قرب رحيله من الدنيا، وقد أعطاه الله من الأحوال والنعم, وأعطى أمته, ما أتم به نعمته عليه وعليهم, وأنزل الله عليه: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) .
فلله الحمد على فضله, الذي لا نبلغ له عدا, فضلا عن القيام بشكره، ( وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) أي: تعلمون الحق, وتعملون به، فالله تبارك وتعالى - من رحمته - بالعباد, قد يسر لهم أسباب الهداية غاية التيسير, ونبههم على سلوك طرقها, وبينها لهم أتم تبيين، حتى إن من جملة ذلك أنه يقيض للحق, المعاندين له فيجادلون فيه, فيتضح بذلك الحق, وتظهر آياته وأعلامه, ويتضح بطلان الباطل, وأنه لا حقيقة له، ولولا قيامه في مقابلة الحق, لربما لم يتبين حاله لأكثر الخلق، وبضدها تتبين الأشياء، فلولا الليل, ما عرف فضل النهار، ولولا القبيح, ما عرف فضل الحسن، ولولا الظلمة ما عرف منفعة النور، ولولا الباطل ما اتضح الحق اتضاحا ظاهرا، فلله الحمد على ذلك.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
يقول تعالى: إن إنعامنا عليكم باستقبال الكعبة وإتمامها بالشرائع والنعم المتممة, ليس ذلك ببدع من إحساننا, ولا بأوله, بل أنعمنا عليكم بأصول النعم ومتمماتها, فأبلغها إرسالنا إليكم هذا الرسول الكريم منكم, تعرفون نسبه وصدقه, وأمانته وكماله ونصحه.
( يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ) وهذا يعم الآيات القرآنية وغيرها، فهو يتلو عليكم الآيات المبينة للحق من الباطل, والهدى من الضلال, التي دلتكم أولا على توحيد الله وكماله, ثم على صدق رسوله, ووجوب الإيمان به, ثم على جميع ما أخبر به من المعاد والغيوب, حتى حصل لكم الهداية التامة, والعلم اليقيني.
( وَيُزَكِّيكُمْ ) أي: يطهر أخلاقكم ونفوسكم, بتربيتها على الأخلاق الجميلة, وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة, وذلك كتزكيتهم من الشرك, إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص, ومن الكذب إلى الصدق, ومن الخيانة إلى الأمانة, ومن الكبر إلى التواضع, ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق, ومن التباغض والتهاجر والتقاطع, إلى التحاب والتواصل والتوادد, وغير ذلك من أنواع التزكية.
( وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ ) أي: القرآن, ألفاظه ومعانيه، ( وَالْحِكْمَةَ ) قيل: هي السنة, وقيل: الحكمة, معرفة أسرار الشريعة والفقه فيها, وتنزيل الأمور منازلها.
فيكون - على هذا - تعليم السنة داخلا في تعليم الكتاب, لأن السنة, تبين القرآن وتفسره, وتعبر عنه، ( وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) لأنهم كانوا قبل بعثته, في ضلال مبين, لا علم ولا عمل، فكل علم أو عمل, نالته هذه الأمة فعلى يده صلى الله عليه وسلم, وبسببه كان، فهذه النعم هي أصول النعم على الإطلاق, ولهي أكبر نعم ينعم بها على عباده، فوظيفتهم شكر الله عليها والقيام بها؛ فلهذا قال تعالى: ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) فأمر تعالى بذكره, ووعد عليه أفضل جزاء, وهو ذكره لمن ذكره, كما قال تعالى على لسان رسوله: ( من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ) .
وذكر الله تعالى, أفضله, ما تواطأ عليه القلب واللسان, وهو الذكر الذي يثمر معرفة الله ومحبته, وكثرة ثوابه، والذكر هو رأس الشكر, فلهذا أمر به خصوصا, ثم من بعده أمر بالشكر عموما فقال: ( وَاشْكُرُوا لِي ) أي: على ما أنعمت عليكم بهذه النعم، ودفعت عنكم صنوف النقم، والشكر يكون بالقلب, إقرارا بالنعم, واعترافا, وباللسان, ذكرا وثناء, وبالجوارح, طاعة لله وانقيادا لأمره, واجتنابا لنهيه, فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة, وزيادة في النعم المفقودة، قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg وفي الإتيان بالأمر بالشكر بعد النعم الدينية, من العلم وتزكية الأخلاق والتوفيق للأعمال, بيان أنها أكبر النعم, بل هي النعم الحقيقية؟ التي تدوم, إذا زال غيرها وأنه ينبغي لمن وفقوا لعلم أو عمل, أن يشكروا الله على ذلك, ليزيدهم من فضله, وليندفع عنهم الإعجاب, فيشتغلوا بالشكر.
ولما كان الشكر ضده الكفر, نهى عن ضده فقال: ( وَلا تَكْفُرُونِ ) المراد بالكفر هاهنا ما يقابل الشكر, فهو كفر النعم وجحدها, وعدم القيام بها، ويحتمل أن يكون المعنى عاما, فيكون الكفر أنواعا كثيرة, أعظمه الكفر بالله, ثم أنواع المعاصي, على اختلاف أنواعها وأجناسها, من الشرك, فما دونه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
أمر الله تعالى المؤمنين, بالاستعانة على أمورهم الدينية والدنيوية ( بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) فالصبر هو: حبس النفس وكفها عما تكره, فهو ثلاثة أقسام: صبرها على طاعة الله حتى تؤديها, وعن معصية الله حتى تتركها, وعلى أقدار الله المؤلمة فلا تتسخطها، فالصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر, فلا سبيل لغير الصابر, أن يدرك مطلوبه، خصوصا الطاعات الشاقة المستمرة, فإنها مفتقرة أشد الافتقار, إلى تحمل الصبر, وتجرع المرارة الشاقة، فإذا لازم صاحبها الصبر, فاز بالنجاح, وإن رده المكروه والمشقة عن الصبر والملازمة عليها, لم يدرك شيئا, وحصل على الحرمان، وكذلك المعصية التي تشتد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي في محل قدرة العبد، فهذه لا يمكن تركها إلا بصبر عظيم, وكف لدواعي قلبه ونوازعها لله تعالى, واستعانة بالله على العصمة منها, فإنها من الفتن الكبار. وكذلك البلاء الشاق, خصوصا إن استمر, فهذا تضعف معه القوى النفسانية والجسدية, ويوجد مقتضاها, وهو التسخط, إن لم يقاومها صاحبها بالصبر لله, والتوكل عليه, واللجأ إليه, والافتقار على الدوام.
فعلمت أن الصبر محتاج إليه العبد, بل مضطر إليه في كل حالة من أحواله، فلهذا أمر الله تعالى به, وأخبر أنه ( مَعَ الصَّابِرِينَ ) أي: مع من كان الصبر لهم خلقا, وصفة, وملكة بمعونته وتوفيقه, وتسديده، فهانت عليهم بذلك, المشاق والمكاره, وسهل عليهم كل عظيم, وزالت عنهم كل صعوبة، وهذه معية خاصة, تقتضي محبته ومعونته, ونصره وقربه, وهذه [منقبة عظيمة] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg للصابرين، فلو لم يكن للصابرين فضيلة إلا أنهم فازوا بهذه المعية من الله, لكفى بها فضلا وشرفا، وأما المعية العامة, فهي معية العلم والقدرة, كما في قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg وهذه عامة للخلق.
وأمر تعالى بالاستعانة بالصلاة لأن الصلاة هي عماد الدين, ونور المؤمنين, وهي الصلة بين العبد وبين ربه، فإذا كانت صلاة العبد صلاة كاملة, مجتمعا فيها ما يلزم فيها, وما يسن, وحصل فيها حضور القلب, الذي هو لبها فصار العبد إذا دخل فيها, استشعر دخوله على ربه, ووقوفه بين يديه, موقف العبد الخادم المتأدب, مستحضرا لكل ما يقوله وما يفعله, مستغرقا بمناجاة ربه ودعائه لا جرم أن هذه الصلاة, من أكبر المعونة على جميع الأمور فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولأن هذا الحضور الذي يكون في الصلاة, يوجب للعبد في قلبه, وصفا, وداعيا يدعوه إلى امتثال أوامر ربه, واجتناب نواهيه، هذه هي الصلاة التي أمر الله أن نستعين بها على كل شيء.

ابو وليد البحيرى
2018-12-25, 10:41 AM
الحلقة (24)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(154)الى الأية(163)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
لما ذكر تبارك وتعالى, الأمر بالاستعانة بالصبر على جميع الأمور http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg ذكر نموذجا مما يستعان بالصبر عليه, وهو الجهاد في سبيله, وهو أفضل الطاعات البدنية, وأشقها على النفوس, لمشقته في نفسه, ولكونه مؤديا للقتل, وعدم الحياة, التي إنما يرغب الراغبون في هذه الدنيا لحصول الحياة ولوازمها، فكل ما يتصرفون به, فإنه سعى لها, ودفع لما يضادها.
ومن المعلوم أن المحبوب لا يتركه العاقل إلا لمحبوب أعلى منه وأعظم، فأخبر تعالى: أن من قتل في سبيله, بأن قاتل في سبيل الله, لتكون كلمة الله هي العليا, ودينه الظاهر, لا لغير ذلك من الأغراض, فإنه لم تفته الحياة المحبوبة, بل حصل له حياة أعظم وأكمل, مما تظنون وتحسبون.
فالشهداء ( أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُو نَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) .
فهل أعظم من هذه الحياة المتضمنة للقرب من الله تعالى, وتمتعهم برزقه البدني في المأكولات والمشروبات اللذيذة, والرزق الروحي, وهو الفرح، والاستبشار http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg وزوال كل خوف وحزن، وهذه حياة برزخية أكمل من الحياة الدنيا، بل قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في أجواف طيور http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg خضر ترد أنهار الجنة, وتأكل من ثمارها, وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. وفي هذه الآية, أعظم حث على الجهاد في سبيل الله, وملازمة الصبر عليه، فلو شعر العباد بما للمقتولين في سبيل الله من الثواب لم يتخلف عنه أحد، ولكن عدم العلم اليقيني التام, هو الذي فتر العزائم, وزاد نوم النائم, وأفات الأجور العظيمة والغنائم، لم لا يكون كذلك والله تعالى قد: ( اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) .
فوالله لو كان للإنسان ألف نفس, تذهب نفسا فنفسا في سبيل الله, لم يكن عظيما في جانب هذا الأجر العظيم، ولهذا لا يتمنى الشهداء بعدما عاينوا من ثواب الله وحسن جزائه إلا أن يردوا إلى الدنيا, حتى يقتلوا في سبيله مرة بعد مرة.
وفي الآية, دليل على نعيم البرزخ وعذابه, كما تكاثرت بذلك النصوص.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلَنَبْلُوَنَّ كُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن, ليتبين الصادق من الكاذب, والجازع من الصابر, وهذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان, ولم يحصل معها محنة, لحصل الاختلاط الذي هو فساد, وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر. هذه فائدة المحن, لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان, ولا ردهم عن دينهم, فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين، فأخبر في هذه الآية أنه سيبتلي عباده ( بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ ) من الأعداء ( وَالْجُوعِ ) أي: بشيء يسير منهما؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله, أو الجوع, لهلكوا, والمحن تمحص لا تهلك.
( وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ ) وهذا يشمل جميع النقص المعتري للأموال من جوائح سماوية, وغرق, وضياع, وأخذ الظلمة للأموال من الملوك الظلمة, وقطاع الطريق وغير ذلك.
( وَالأنْفُسِ ) أي: ذهاب الأحباب من الأولاد, والأقارب, والأصحاب, ومن أنواع الأمراض في بدن العبد, أو بدن من يحبه، ( وَالثَّمَرَاتِ ) أي: الحبوب, وثمار النخيل, والأشجار كلها, والخضر ببرد, أو برد, أو حرق, أو آفة سماوية, من جراد http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg ونحوه.
فهذه الأمور, لا بد أن تقع, لأن العليم الخبير, أخبر بها, فوقعت كما أخبر، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين: جازعين وصابرين، فالجازع, حصلت له المصيبتان, فوات المحبوب, وهو وجود هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها, وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر، ففاز بالخسارة والحرمان, ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكران, وحصل [له] السخط الدال على شدة النقصان.
وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب, فحبس نفسه عن التسخط, قولا وفعلا واحتسب أجرها عند الله, وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له, بل المصيبة تكون نعمة في حقه, لأنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له وأنفع منها, فقد امتثل أمر الله, وفاز بالثواب، فلهذا قال تعالى: ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب.
فالصابرين, هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة, والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ ) وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره.
( قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ ) أي: مملوكون لله, مدبرون تحت أمره وتصريفه, فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها, فقد تصرف أرحم الراحمين, بمماليكه وأموالهم, فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد, علمه, بأن وقوع البلية من المالك الحكيم, الذي أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك, الرضا عن الله, والشكر له على تدبيره, لما هو خير لعبده, وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله, فإنا إليه راجعون يوم المعاد, فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفورا عنده، وإن جزعنا وسخطنا, لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله, وراجع إليه, من أقوى أسباب الصبر.
( أُولَئِكَ ) الموصوفون بالصبر المذكور ( عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ) أي: ثناء وتنويه بحالهم ( وَرَحْمَةٌ ) عظيمة، ومن رحمته إياهم, أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر، ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) الذين عرفوا الحق, وهو في هذا الموضع, علمهم بأنهم لله, وأنهم إليه راجعون, وعملوا به وهو هنا صبرهم لله.
ودلت هذه الآية, على أن من لم يصبر, فله ضد ما لهم, فحصل له الذم من الله, والعقوبة, والضلال والخسار، فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين, وأعظم عناء الجازعين، فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها, لتخف وتسهل, إذا وقعت، وبيان ما تقابل به, إذا وقعت, وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر, وما للصابر من الأجر، ويعلم حال غير الصابر, بضد حال الصابر.
وأن هذا الابتلاء والامتحان, سنة الله التي قد خلت, ولن تجد لسنة الله تبديلا وبيان أنواع المصائب.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
يخبر تعالى أن الصفا والمروة وهما معروفان ( مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) أي أعلام دينه الظاهرة, التي تعبد الله بها عباده, وإذا كانا من شعائر الله, فقد أمر الله بتعظيم شعائره فقال: ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) فدل مجموع النصين أنهما من شعائر الله, وأن تعظيم شعائره, من تقوى القلوب.
والتقوى واجبة على كل مكلف, وذلك يدل على أن السعي بهما فرض لازم للحج والعمرة, كما عليه الجمهور, ودلت عليه الأحاديث النبوية وفعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " خذوا عني مناسككم "
( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) هذا دفع لوهم من توهم وتحرج من المسلمين عن الطواف بينهما, لكونهما في الجاهلية تعبد عندهما الأصنام، فنفى تعالى الجناح لدفع هذا الوهم, لا لأنه غير لازم.
ودل تقييد نفي الجناح فيمن تطوف بهما في الحج والعمرة, أنه لا يتطوع بالسعي مفردا إلا مع انضمامه لحج أو عمرة، بخلاف الطواف بالبيت, فإنه يشرع مع العمرة والحج, وهو عبادة مفردة.
فأما السعي والوقوف بعرفة ومزدلفة, ورمي الجمار فإنها تتبع النسك، فلو فعلت غير تابعة للنسك, كانت بدعة, لأن البدعة نوعان: نوع يتعبد لله بعبادة, لم يشرعها أصلا ونوع يتعبد له بعبادة قد شرعها على صفة مخصوصة, فتفعل على غير تلك الصفة, وهذا منه.
وقوله: ( وَمَنْ تَطَوَّعَ ) أي: فعل طاعة مخلصا بها لله تعالى ( خَيْرًا ) من حج وعمرة, وطواف, وصلاة, وصوم وغير ذلك ( فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ) فدل هذا, على أنه كلما ازداد العبد من طاعة الله, ازداد خيره وكماله, ودرجته عند الله, لزيادة إيمانه.
ودل تقييد التطوع بالخير, أن من تطوع بالبدع, التي لم يشرعها الله ولا رسوله, أنه لا يحصل له إلا العناء, وليس بخير له, بل قد يكون شرا له إن كان متعمدا عالما بعدم مشروعية العمل.
( فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) الشاكر والشكور, من أسماء الله تعالى, الذي يقبل من عباده اليسير من العمل, ويجازيهم عليه, العظيم من الأجر, الذي إذا قام عبده بأوامره, وامتثل طاعته, أعانه على ذلك, وأثنى عليه ومدحه, وجازاه في قلبه نورا وإيمانا وسعة, وفي بدنه قوة ونشاطا, وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء, وفي أعماله زيادة توفيق.
ثم بعد ذلك, يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملا موفرا, لم تنقصه هذه الأمور.
ومن شكره لعبده, أن من ترك شيئا لله أعاضه خيرا منه، ومن تقرب منه شبرا, تقرب منه ذراعا, ومن تقرب منه ذراعا, تقرب منه باعا, ومن أتاه يمشي, أتاه هرولة, ومن عامله, ربح عليه أضعافا مضاعفة.
ومع أنه شاكر, فهو عليم بمن يستحق الثواب الكامل, بحسب نيته وإيمانه وتقواه, ممن ليس كذلك، عليم بأعمال العباد, فلا يضيعها, بل يجدونها أوفر ما كانت, على حسب نياتهم التي اطلع عليها العليم الحكيم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب, وما كتموا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته, فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله ( مِنَ الْبَيِّنَاتِ ) الدالات على الحق المظهرات له، ( وَالْهُدَى ) وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم, ويتبين به طريق أهل النعيم, من طريق أهل الجحيم، فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم, بأن يبينوا الناس ما منّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين, كتم ما أنزل الله, والغش لعباد الله، فأولئك ( يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ) أي: يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته.
( وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ ) وهم جميع الخليقة, فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة, لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم, وإبعادهم من رحمة الله, فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير, يصلي الله عليه وملائكته, حتى الحوت في جوف الماء, لسعيه في مصلحة الخلق, وإصلاح أديانهم, وقربهم من رحمة الله, فجوزي من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله, مضاد لأمر الله, مشاق لله, يبين الله الآيات للناس ويوضحها، وهذا يطمسها http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg فهذا عليه هذا الوعيد الشديد.
( إِلا الَّذِينَ تَابُوا ) أي رجعوا عما هم عليه من الذنوب, ندما وإقلاعا, وعزما على عدم المعاودة ( وَأَصْلَحُوا ) ما فسد من أعمالهم، فلا يكفي ترك القبيح حتى يحصل فعل الحسن.
ولا يكفي ذلك في الكاتم أيضا, حتى يبين ما كتمه, ويبدي ضد ما أخفى، فهذا يتوب الله عليه, لأن توبة الله غير محجوب عنها، فمن أتى بسبب التوبة, تاب الله عليه, لأنه ( التَّوَّابُ ) أي: الرجاع على عباده بالعفو والصفح, بعد الذنب إذا تابوا, وبالإحسان والنعم بعد المنع, إذا رجعوا، ( الرَّحِيمُ ) الذي اتصف بالرحمة العظيمة, التي وسعت كل شيء ومن رحمته أن وفقهم للتوبة والإنابة فتابوا وأنابوا, ثم رحمهم بأن قبل ذلك منهم, لطفا وكرما, هذا حكم التائب من الذنب.
وأما من كفر واستمر على كفره حتى مات ولم يرجع إلى ربه, ولم ينب إليه, ولم يتب عن قريب فأولئك ( عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) لأنه لما صار كفرهم وصفا ثابتا, صارت اللعنة عليهم وصفا ثابتا لا تزول, لأن الحكم يدور مع علته, وجودا وعدما.
و ( خَالِدِينَ فِيهَا ) أي: في اللعنة, أو في العذاب والمعنيان متلازمانhttp://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg.
( لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ) بل عذابهم دائم شديد مستمر ( وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) أي: يمهلون, لأن وقت الإمهال وهو الدنيا قد مضى, ولم يبق لهم عذر فيعتذرون.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
يخبر تعالى - وهو أصدق القائلين - أنه ( إِلَهٌ وَاحِدٌ ) أي: متوحد منفرد في ذاته, وأسمائه, وصفاته, وأفعاله، فليس له شريك في ذاته, ولا سمي له ولا كفو له, ولا مثل, ولا نظير, ولا خالق, ولا مدبر غيره، فإذا كان كذلك, فهو المستحق لأن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة, ولا يشرك به أحد من خلقه, لأنه ( الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) المتصف بالرحمة العظيمة, التي لا يماثلها رحمة أحد, فقد وسعت كل شيء وعمت كل حي، فبرحمته وجدت المخلوقات, وبرحمته حصلت لها أنواع الكمالات، وبرحمته اندفع عنها كل نقمة، وبرحمته عرّف عباده نفسه بصفاته وآلائه, وبيَّن لهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم, بإرسال الرسل, وإنزال الكتب.
فإذا علم أن ما بالعباد من نعمة, فمن الله, وأن أحدا من المخلوقين, لا ينفع أحدا، علم أن الله هو المستحق لجميع أنواع العبادة, وأن يفرد بالمحبة والخوف, والرجاء, والتعظيم, والتوكل, وغير ذلك من أنواع الطاعات.
وأن من أظلم الظلم, وأقبح القبيح, أن يعدل عن عبادته إلى عبادة العبيد, وأن يشرك المخلوق http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg من تراب, برب الأرباب, أو يعبد المخلوق المدبر العاجز من جميع الوجوه, مع الخالق المدبر القادر القوي، الذي قد قهر كل شيء ودان له كل شيء.
ففي هذه الآية, إثبات وحدانية الباري وإلهيته، وتقريرها بنفيها عن غيره من المخلوقين وبيان أصل الدليل على ذلك وهو إثبات رحمته التي من آثارها وجود جميع النعم, واندفاع [جميع] النقم، فهذا دليل إجمالي على وحدانيته تعالى.

ابو وليد البحيرى
2018-12-27, 10:56 AM
الحلقة (25)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(164)الى الأية(169)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


ثم ذكر الأدلة التفصيلية فقال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة, آيات أي: أدلة على وحدانية الباري وإلهيته، وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته، ولكنها ( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) أي: لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له، فعلى حسب ما منّ الله على عبده من العقل, ينتفع بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبُّره، ففي ( خَلْقِ السَّمَاوَاتِ ) في ارتفاعها واتساعها, وإحكامها, وإتقانها, وما جعل الله فيها من الشمس والقمر, والنجوم, وتنظيمها لمصالح العباد.
وفي خلق ( الأرْضِ ) مهادا للخلق, يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها, والاعتبار. ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير, وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقها, وحكمته التي بها أتقنها, وأحسنها ونظمها, وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع, من منافع الخلق ومصالحهم, وضروراتهم وحاجاتهم. وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله, واستحقاقه أن يفرد بالعبادة, لانفراده بالخلق والتدبير, والقيام بشئون عباده ( و ) في ( اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) وهو تعاقبهما على الدوام, إذا ذهب أحدهما, خلفه الآخر، وفي اختلافهما في الحر, والبرد, والتوسط, وفي الطول, والقصر, والتوسط, وما ينشأ عن ذلك من الفصول, التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم, وجميع ما على وجه الأرض, من أشجار ونوابت، كل ذلك بانتظام وتدبير, وتسخير, تنبهر له العقول, وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحول, ما يدل ذلك على قدرة مصرفها, وعلمه وحكمته, ورحمته الواسعة, ولطفه الشامل, وتصريفه وتدبيره, الذي تفرد به, وعظمته, وعظمة ملكه وسلطانه, مما يوجب أن يؤله ويعبد, ويفرد بالمحبة والتعظيم, والخوف والرجاء, وبذل الجهد في محابه ومراضيه.
( و ) في ( وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ) وهي السفن والمراكب ونحوها, مما ألهم الله عباده صنعتها, وخلق لهم من الآلات الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها.
ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح, التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال, والبضائع التي هي من منافع الناس, وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم.
فمن الذي ألهمهم صنعتها, وأقدرهم عليها, وخلق لهم من الآلات ما به يعملونها؟ أم من الذي سخر لها البحر, تجري فيه بإذنه وتسخيره, والرياح؟ أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية, النار والمعادن المعينة على حملها, وحمل ما فيها من الأموال؟ فهل هذه الأمور, حصلت اتفاقا, أم استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز, الذي خرج من بطن أمه, لا علم له ولا قدرة، ثم خلق له ربه القدرة, وعلمه ما يشاء تعليمه، أم المسخر لذلك رب واحد, حكيم عليم, لا يعجزه شيء, ولا يمتنع عليه شيء؟ بل الأشياء قد دانت لربوبيته, واستكانت لعظمته, وخضعت لجبروته.
وغاية العبد الضعيف, أن جعله الله جزءا من أجزاء الأسباب, التي بها وجدت هذه الأمور العظام, فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه, وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له, والخوف والرجاء, وجميع الطاعة, والذل والتعظيم.
( وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ ) وهو المطر النازل من السحاب.
( فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) فأظهرت من أنواع الأقوات, وأصناف النبات, ما هو من ضرورات الخلائق, التي لا يعيشون بدونها.
أليس ذلك دليلا على قدرة من أنزله, وأخرج به ما أخرج ورحمته, ولطفه بعباده, وقيامه بمصالحهم, وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم؟ أليس ذلك دليلا على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟ ( وَبَثَّ فِيهَا ) أي: في الأرض ( مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ) أي: نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة, ما هو دليل على قدرته وعظمته, ووحدانيته وسلطانه العظيم، وسخرها للناس, ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع.
فمنها: ما يأكلون من لحمه, ويشربون من دره، ومنها: ما يركبون، ومنها: ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم, ومنها: ما يعتبر به، ومع http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg أنه بث فيها من كل دابة، فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم, المتكفل بأقواتهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها, ويعلم مستقرها ومستودعها.
وفي ( تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ) باردة وحارة, وجنوبا وشمالا وشرقا ودبورا وبين ذلك، وتارة تثير السحاب, وتارة تؤلف بينه, وتارة تلقحه, وتارة تدره, وتارة تمزقه وتزيل ضرره, وتارة تكون رحمة, وتارة ترسل بالعذاب.
فمن الذي صرفها هذا التصريف, وأودع فيها من منافع العباد, ما لا يستغنون عنه؟ وسخرها ليعيش فيها جميع الحيوانات, وتصلح الأبدان والأشجار, والحبوب والنوابت, إلا العزيز الحكيم الرحيم, اللطيف بعباده المستحق لكل ذل وخضوع, ومحبة وإنابة وعبادة؟.
وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير, فيسوقه الله إلى حيث شاء، فيحيي به البلاد والعباد, ويروي التلول والوهاد, وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه، فإذا كان يضرهم كثرته, أمسكه عنهم, فينزله رحمة ولطفا, ويصرفه عناية وعطفا، فما أعظم سلطانه, وأغزر إحسانه, وألطف امتنانه
أليس من القبيح بالعباد, أن يتمتعوا برزقه, ويعيشوا ببره وهم يستعينون بذلك على مساخطه ومعاصيه؟ أليس ذلك دليلا على حلمه وصبره, وعفوه وصفحه, وعميم لطفه؟
فله الحمد أولا وآخرا, ظاهرا وباطنا.
والحاصل, أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات, وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات, وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة, علم بذلك, أنها خلقت للحق وبالحق, وأنها صحائف آيات, وكتب دلالات, على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته, وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر, وأنها مسخرات, ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها.
فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون, وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا الله, ولا رب سواه.
.ثم قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها، فإنه تعالى, لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة, وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين, المزيلة لكل شك، ذكر هنا أن ( مِنَ النَّاسِ ) مع هذا البيان التام من يتخذ من المخلوقين أندادا لله أي: نظراء ومثلاء, يساويهم في الله بالعبادة والمحبة, والتعظيم والطاعة.
ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة, وبيان التوحيد - علم أنه معاند لله, مشاق له, أو معرض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته, فليس له أدنى عذر في ذلك, بل قد حقت عليه كلمة العذاب.
وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله, لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير, وإنما يسوونهم به في العبادة, فيعبدونهم، ليقربوهم إليه، وفي قوله: ( اتخذوا ) دليل على أنه ليس لله ند وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له, تسمية مجردة, ولفظا فارغا من المعنى، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg فالمخلوق ليس ندا لله لأن الله هو الخالق, وغيره مخلوق, والرب الرازق ومن عداه مرزوق, والله هو الغني وأنتم الفقراء، وهو الكامل من كل الوجوه, والعبيد ناقصون من جميع الوجوه، والله هو النافع الضار, والمخلوق ليس له من النفع والضر والأمر شيء، فعلم علما يقينا, بطلان قول من اتخذ من دون الله آلهة وأندادا، سواء كان ملكا أو نبيا, أو صالحا, صنما, أو غير ذلك، وأن الله هو المستحق للمحبة الكاملة, والذل التام، فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ) أي: من أهل الأنداد لأندادهم, لأنهم أخلصوا محبتهم له, وهؤلاء أشركوا بها، ولأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة, الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه، والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئا, ومحبته عين شقاء العبد وفساده, وتشتت أمره.
فلهذا توعدهم الله بقوله: ( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله, وسعيهم فيما يضرهم.
( إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ) أي: يوم القيامة عيانا بأبصارهم، ( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ) أي: لعلموا علما جازما, أن القوة والقدرة لله كلها, وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء، فتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها وعجزها, لا كما اشتبه عليهم في الدنيا, وظنوا أن لها من الأمر شيئا, وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه، فخاب ظنهم, وبطل سعيهم, وحق عليهم شدة العذاب, ولم تدفع عنهم أندادهم شيئا, ولم تغن عنهم مثقال ذرة من النفع، بل يحصل لهم الضرر منها, من حيث ظنوا نفعها.
وتبرأ المتبوعون من التابعين, وتقطعت بينهم الوصل, التي كانت في الدنيا, لأنها كانت لغير الله, وعلى غير أمر الله, ومتعلقة بالباطل الذي لا حقيقة له, فاضمحلت أعمالهم, وتلاشت أحوالهم، وتبين لهم أنهم كانوا كاذبين, وأن أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها, انقلبت عليهم حسرة وندامة, وأنهم خالدون في النار لا يخرجون منها أبدا، فهل بعد هذا الخسران خسران؟ ذلك بأنهم اتبعوا الباطل، فعملوا العمل الباطل ورجوا غير مرجو, وتعلقوا بغير متعلق, فبطلت الأعمال ببطلان متعلقها، ولما بطلت وقعت الحسرة بما فاتهم من الأمل فيها, فضرتهم غاية الضرر، وهذا بخلاف من تعلق بالله الملك الحق المبين, وأخلص العمل لوجهه, ورجا نفعه، فهذا قد وضع الحق في موضعه, فكانت أعماله حقا, لتعلقها بالحق, ففاز بنتيجة عمله, ووجد جزاءه عند ربه, غير منقطع كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرأوا من متبوعيهم, بأن يتركوا الشرك بالله, ويقبلوا على إخلاص العمل لله، وهيهات, فات الأمر, وليس الوقت وقت إمهال وإنظار، ومع هذا, فهم كذبة, فلو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنما هو قول يقولونه, وأماني يتمنونها, حنقا وغيظا على المتبوعين لما تبرأوا منهم والذنب ذنبهم، فرأس المتبوعين على الشر إبليس, ومع هذا يقول لأتباعه لما قضي الأمر http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg
هذا خطاب للناس كلهم, مؤمنهم وكافرهم، فامتن عليهم بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في الأرض، من حبوب, وثمار, وفواكه, وحيوانات, حالة كونها ( حَلالا ) أي: محللا لكم تناوله، ليس بغصب ولا سرقة, ولا محصلا بمعاملة محرمة أو على وجه محرم، أو معينا على محرم.
( طَيِّبًا ) أي: ليس بخبيث, كالميتة والدم, ولحم الخنزير, والخبائث كلها، ففي هذه الآية, دليل على أن الأصل في الأعيان الإباحة، أكلا وانتفاعا, وأن المحرم نوعان: إما محرم لذاته, وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب، وإما محرم لما عرض له, وهو المحرم لتعلق حق الله, أو حق عباده به, وهو ضد الحلال.
وفيه دليل على أن الأكل بقدر ما يقيم البنية واجب, يأثم تاركه لظاهر الأمر، ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به - إذ هو عين صلاحهم - نهاهم عن اتباع ( خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) أي: طرقه التي يأمر بها, وهي جميع المعاصي من كفر, وفسوق, وظلم، ويدخل في ذلك تحريم السوائب, والحام, ونحو ذلك، ويدخل فيه أيضا تناول المأكولات المحرمة، ( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) أي: ظاهر العداوة, فلا يريد بأمركم إلا غشكم, وأن تكونوا من أصحاب السعير، فلم يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته, حتى أخبرنا - وهو أصدق القائلين - بعداوته الداعية للحذر منه, ثم لم يكتف بذلك, حتى أخبرنا بتفصيل ما يأمر به, وأنه أقبح الأشياء, وأعظمها مفسدة فقال: ( إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ ) .
أي: الشر الذي يسوء صاحبه, فيدخل في ذلك, جميع المعاصي، فيكون قوله: ( وَالْفَحْشَاءِ ) من باب عطف الخاص على العام؛ لأن الفحشاء من المعاصي, ما تناهى قبحه, كالزنا, وشرب الخمر, والقتل, والقذف, والبخل ونحو ذلك, مما يستفحشه من له عقل، ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) فيدخل في ذلك, القول على الله بلا علم, في شرعه, وقدره، فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه, أو وصفه به رسوله, أو نفى عنه ما أثبته لنفسه, أو أثبت له ما نفاه عن نفسه, فقد قال على الله بلا علم، ومن زعم أن لله ندا, وأوثانا, تقرب من عبدها من الله, فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: إن الله أحل كذا, أو حرم كذا, أو أمر بكذا, أو نهى عن كذا, بغير بصيرة, فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: الله خلق هذا الصنف من المخلوقات, للعلة الفلانية بلا برهان له بذلك, فقد قال على الله بلا علم، ومن أعظم القول على الله بلا علم, أن يتأول المتأول كلامه, أو كلام رسوله, على معان اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال, ثم يقول: إن الله أرادها، فالقول على الله بلا علم, من أكبر المحرمات, وأشملها, وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها, فهذه طرق الشيطان التي يدعو إليها هو وجنوده, ويبذلون مكرهم وخداعهم, على إغواء الخلق بما يقدرون عليه.
وأما الله تعالى, فإنه يأمر بالعدل والإحسان, وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فلينظر العبد نفسه, مع أي الداعيين هو, ومن أي الحزبين؟ أتتبع داعي الله الذي يريد لك الخير والسعادة الدنيوية والأخروية, الذي كل الفلاح بطاعته, وكل الفوز في خدمته, وجميع الأرباح في معاملة المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة, الذي لا يأمر إلا بالخير, ولا ينهى إلا عن الشر، أم تتبع داعي الشيطان, الذي هو عدو الإنسان, الذي يريد لك الشر, ويسعى بجهده على إهلاكك في الدنيا والآخرة؟ الذي كل الشر في طاعته, وكل الخسران في ولايته، الذي لا يأمر إلا بشر, ولا ينهى إلا عن خير.

ابو وليد البحيرى
2018-12-27, 11:05 AM
الحلقة (26)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(170)الى الأية(176)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (170) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
ثم أخبر تعالى عن حال المشركين إذا أمروا باتباع ما أنزل الله على رسوله - مما تقدم وصفه - رغبوا عن ذلك وقالوا: ( بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) فاكتفوا بتقليد الآباء, وزهدوا في الإيمان بالأنبياء، ومع هذا فآباؤهم أجهل الناس, وأشدهم ضلالا وهذه شبهة لرد الحق واهية، فهذا دليل على إعراضهم عن الحق, ورغبتهم عنه, وعدم إنصافهم، فلو هدوا لرشدهم, وحسن قصدهم, لكان الحق هو القصد، ومن جعل الحق قصده, ووازن بينه وبين غيره, تبين له الحق قطعا, واتبعه إن كان منصفا.
ثم قال [تعالى]: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
لما بين تعالى عدم انقيادهم لما جاءت به الرسل, وردهم لذلك بالتقليد, علم من ذلك أنهم غير قابلين للحق, ولا مستجيبين له, بل كان معلوما لكل أحد أنهم لن يزولوا عن عنادهم، أخبر تعالى, أن مثلهم عند دعاء الداعي لهم إلى الإيمان كمثل البهائم التي ينعق لها راعيها, وليس لها علم بما يقول داعيها ومناديها، فهم يسمعون مجرد الصوت, الذي تقوم به عليهم الحجة, ولكنهم لا يفقهونه فقها ينفعهم, فلهذا كانوا صما لا يسمعون الحق سماع فهم وقبول, عميا لا ينظرون نظر اعتبار, بكما فلا ينطقون بما فيه خير لهم.
والسبب الموجب لذلك كله, أنه ليس لهم عقل صحيح, بل هم أسفه السفهاء, وأجهل الجهلاء.
فهل يستريب العاقل, أن من دعي إلى الرشاد, وذيد عن الفساد, ونهي عن اقتحام العذاب, وأمر بما فيه صلاحه وفلاحه, وفوزه, ونعيمه فعصى الناصح, وتولى عن أمر ربه, واقتحم النار على بصيرة, واتبع الباطل, ونبذ الحق - أن هذا ليس له مسكة من عقل, وأنه لو اتصف بالمكر والخديعة والدهاء, فإنه من أسفه السفهاء.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
هذا أمر للمؤمنين خاصة, بعد الأمر العام, وذلك أنهم هم المنتفعون على الحقيقة بالأوامر والنواهي, بسبب إيمانهم, فأمرهم بأكل الطيبات من الرزق, والشكر لله على إنعامه, باستعمالها بطاعته, والتقوي بها على ما يوصل إليه، فأمرهم بما أمر به المرسلين في قوله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
فالشكر في هذه الآية, هو العمل الصالح، وهنا لم يقل " حلالا "لأن المؤمن أباح الله له الطيبات من الرزق خالصة من التبعة، ولأن إيمانه يحجزه عن تناول ما ليس له.
وقوله ( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) أي: فاشكروه، فدل على أن من لم يشكر الله, لم يعبده وحده, كما أن من شكره, فقد عبده, وأتى بما أمر به، ويدل أيضا على أن أكل الطيب, سبب للعمل الصالح وقبوله، والأمر بالشكر, عقيب النعم؛ لأن الشكر يحفظ النعم الموجودة, ويجلب النعم المفقودة كما أن الكفر, ينفر النعم المفقودة ويزيل النعم الموجودة.
ولما ذكر تعالى إباحة الطيبات ذكر تحريم الخبائث فقال ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ) وهي: ما مات بغير تذكية شرعية, لأن الميتة خبيثة مضرة, لرداءتها في نفسها, ولأن الأغلب, أن تكون عن مرض, فيكون زيادة ضرر http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg واستثنى الشارع من هذا العموم, ميتة الجراد, وسمك البحر, فإنه حلال طيب.
( وَالدَّمَ ) أي: المسفوح كما قيد في الآية الأخرى.
( وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ) أي: ذبح لغير الله, كالذي يذبح للأصنام والأوثان من الأحجار, والقبور ونحوها, وهذا المذكور غير حاصر للمحرمات، جيء به لبيان أجناس الخبائث المدلول عليها بمفهوم قوله: ( طَيِّبَاتِ ) فعموم المحرمات, تستفاد من الآية السابقة, من قوله: ( حَلالا طَيِّبًا ) كما تقدم.
وإنما حرم علينا هذه الخبائث ونحوها, لطفا بنا, وتنزيها عن المضر، ومع هذا ( فَمَنِ اضْطُرَّ ) أي: ألجئ إلى المحرم, بجوع وعدم, أو إكراه، ( غَيْرَ بَاغٍ ) أي: غير طالب للمحرم, مع قدرته على الحلال, أو مع عدم جوعه، ( وَلا عَادٍ ) أي: متجاوز الحد في تناول ما أبيح له, اضطرارا، فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال، وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها، ( فَلا إِثْمَ ) [أي: جناح] عليه، وإذا ارتفع الجناح الإثم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg رجع الأمر إلى ما كان عليه، والإنسان بهذه الحالة, مأمور بالأكل, بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة, وأن يقتل نفسه.
فيجب, إذًا عليه الأكل, ويأثم إن ترك الأكل حتى مات, فيكون قاتلا لنفسه.
وهذه الإباحة والتوسعة, من رحمته تعالى بعباده, فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال: ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .
ولما كان الحل مشروطا بهذين الشرطين, وكان الإنسان في هذه الحالة, ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها - أخبر تعالى أنه غفور, فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال, خصوصا وقد غلبته الضرورة, وأذهبت حواسه المشقة.
وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة: " الضرورات تبيح المحظورات "فكل محظور, اضطر إليه الإنسان, فقد أباحه له, الملك الرحمن. [فله الحمد والشكر, أولا وآخرا, وظاهرا وباطنا].
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
هذا وعيد شديد لمن كتم ما أنزل الله على رسله, من العلم الذي أخذ الله الميثاق على أهله, أن يبينوه للناس ولا يكتموه، فمن تعوض عنه بالحطام الدنيوي, ونبذ أمر الله, فأولئك: ( مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ ) لأن هذا الثمن الذي اكتسبوه, إنما حصل لهم بأقبح المكاسب, وأعظم المحرمات, فكان جزاؤهم من جنس عملهم، ( وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) بل قد سخط عليهم وأعرض عنهم، فهذا أعظم عليهم من عذاب النار، ( وَلا يُزَكِّيهِمْ ) أي: لا يطهرهم من الأخلاق الرذيلة, وليس لهم أعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها، وإنما لم يزكهم لأنهم فعلوا أسباب عدم التزكية التي أعظم أسبابها العمل بكتاب الله, والاهتداء به, والدعوة إليه، فهؤلاء نبذوا كتاب الله, وأعرضوا عنه, واختاروا الضلالة على الهدى, والعذاب على المغفرة، فهؤلاء لا يصلح لهم إلا النار, فكيف يصبرون عليها, وأنى لهم الجلد عليها؟"
( ذَلِكَ ) المذكور, وهو مجازاته بالعدل, ومنعه أسباب الهداية, ممن أباها واختار سواها.
( بِأَنَّ اللَّهَ نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) ومن الحق, مجازاة المحسن بإحسانه, والمسيء بإساءته.
وأيضا ففي قوله: ( نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) ما يدل على أن الله أنزله لهداية خلقه, وتبيين الحق من الباطل, والهدى من الضلال، فمن صرفه عن مقصوده, فهو حقيق بأن يجازى بأعظم العقوبة.
( وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) أي: وإن الذين اختلفوا في الكتاب, فآمنوا ببعضه, وكفروا ببعضه، والذين حرفوه وصرفوه على أهوائهم ومراداتهم ( لَفِي شِقَاقٍ ) أي: محادة، ( بَعِيدٍ ) عن الحق لأنهم قد خالفوا الكتاب الذي جاء بالحق الموجب للاتفاق وعدم التناقض، فمرج أمرهم, وكثر شقاقهم, وترتب على ذلك افتراقهم، بخلاف أهل الكتاب الذين آمنوا به, وحكموه في كل شيء, فإنهم اتفقوا وارتفقوا بالمحبة والاجتماع عليه.
وقد تضمنت هذه الآيات, الوعيد للكاتمين لما أنزل الله, المؤثرين عليه, عرض الدنيا بالعذاب والسخط, وأن الله لا يطهرهم بالتوفيق, ولا بالمغفرة، وذكر السبب في ذلك بإيثارهم الضلالة على الهدى، فترتب على ذلك اختيار العذاب على المغفرة، ثم توجع لهم بشدة صبرهم على النار, لعملهم بالأسباب التي يعلمون أنها موصلة إليها، وأن الكتاب مشتمل على الحق الموجب للاتفاق عليه, وعدم الافتراق، وأن كل من خالفه, فهو في غاية البعد عن الحق, والمنازعة والمخاصمة, والله أعلم.

ابو وليد البحيرى
2018-12-29, 12:21 AM
الحلقة (27)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(177)الى الأية(181)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


< 1-83 > http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يقول تعالى: ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) أي: ليس هذا هو البر المقصود من العباد, فيكون كثرة البحث فيه والجدال من العناء الذي ليس تحته إلا الشقاق والخلاف، وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب "ونحو ذلك.
( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ) أي: بأنه إله واحد, موصوف بكل صفة كمال, منزه عن كل نقص.
( وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) وهو كل ما أخبر الله به في كتابه, أو أخبر به الرسول, مما يكون بعد الموت.
( وَالْمَلائِكَةِ ) الذين وصفهم الله لنا في كتابه, ووصفهم رسوله صلى الله عليه وسلم ( وَالْكِتَابِ ) أي: جنس الكتب التي أنزلها الله على رسوله, وأعظمها القرآن, فيؤمن بما تضمنه من الأخبار والأحكام، ( وَالنَّبِيِّينَ ) عموما, خصوصا خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم.
( وَآتَى الْمَالَ ) وهو كل ما يتموله الإنسان من مال, قليلا كان أو كثيرا، أي: أعطى المال ( عَلَى حُبِّهِ ) أي: حب المال ، بيَّن به أن المال محبوب للنفوس, فلا يكاد يخرجه العبد.
فمن أخرجه مع حبه له تقربا إلى الله تعالى, كان هذا برهانا لإيمانه، ومن إيتاء المال على حبه, أن يتصدق وهو صحيح شحيح, يأمل الغنى, ويخشى الفقر، وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة, كانت أفضل, لأنه في هذه الحال, يحب إمساكه, لما يتوهمه من العدم والفقر.
وكذلك إخراج النفيس من المال, وما يحبه من ماله كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فكل هؤلاء ممن آتى المال على حبه.
ثم ذكر المنفق عليهم, وهم أولى الناس ببرك وإحسانك. من الأقارب الذين تتوجع لمصابهم, وتفرح بسرورهم, الذين يتناصرون ويتعاقلون، فمن أحسن البر وأوفقه, تعاهد الأقارب بالإحسان المالي والقولي, على حسب قربهم وحاجتهم.
ومن اليتامى الذين لا كاسب لهم, وليس لهم قوة يستغنون بها، وهذا من رحمته [تعالى] بالعباد, الدالة على أنه تعالى أرحم بهم من الوالد بولده، فالله قد أوصى العباد, وفرض عليهم في أموالهم, الإحسان إلى من فقد آباؤهم ليصيروا كمن لم يفقد والديه، ولأن الجزاء من جنس العمل فمن رحم يتيم غيره, رُحِمَ يتيمه.
( وَالْمَسَاكِين ) وهم الذين أسكنتهم الحاجة, وأذلهم الفقر فلهم حق على الأغنياء, بما يدفع مسكنتهم أو يخففها, بما يقدرون عليه, وبما يتيسر، ( وَابْنَ السَّبِيلِ ) وهو الغريب المنقطع به في غير بلده، فحث الله عباده على إعطائه من المال, ما يعينه على سفره, لكونه مظنة الحاجة, وكثرة المصارف، فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته, وخوله من نعمته, أن يرحم أخاه الغريب, الذي بهذه الصفة, على حسب استطاعته, ولو بتزويده أو إعطائه آلة لسفره, أو دفع ما ينوبه من المظالم وغيرها.
( وَالسَّائِلِينَ ) أي: الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج, توجب السؤال، كمن ابتلي بأرش جناية, أو ضريبة عليه من ولاة الأمور, أو يسأل الناس لتعمير المصالح العامة, كالمساجد, والمدارس, والقناطر, ونحو ذلك, فهذا له حق وإن كان غنيا ( وَفِي الرِّقَابِ ) فيدخل فيه العتق والإعانة عليه, وبذل مال للمكاتب ليوفي سيده, وفداء الأسرى عند الكفار أو عند الظلمة.
( وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ) قد تقدم مرارا, أن الله تعالى يقرن بين الصلاة والزكاة, لكونهما أفضل العبادات, وأكمل القربات, عبادات قلبية, وبدنية, ومالية, وبهما يوزن الإيمان, ويعرف ما مع صاحبه من الإيقان.
( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ) والعهد: هو الالتزام بإلزام الله أو إلزام العبد لنفسه. فدخل في ذلك حقوق الله كلها, لكون الله ألزم بها عباده والتزموها, ودخلوا تحت عهدتها, ووجب عليهم أداؤها, وحقوق العباد, التي أوجبها الله عليهم, والحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور, ونحو ذلك.
( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ ) أي: الفقر, لأن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة, لكونه يحصل له من الآلام القلبية والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره.
فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألم، وإن جاع أو جاعت عياله تألم، وإن أكل طعاما غير موافق لهواه تألم، وإن عرى أو كاد تألم, وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من المستقبل الذي يستعد له تألم, وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم.
فكل هذه ونحوها, مصائب, يؤمر بالصبر عليها, والاحتساب, ورجاء الثواب من الله عليها.
( وَالضَّرَّاءِ ) أي: المرض على اختلاف أنواعه, من حمى, وقروح, ورياح, ووجع عضو, حتى الضرس والإصبع ونحو ذلك, فإنه يحتاج إلى الصبر على ذلك؛ لأن النفس تضعف, والبدن يألم, وذلك في غاية المشقة على النفوس, خصوصا مع تطاول ذلك, فإنه يؤمر بالصبر, احتسابا لثواب الله [تعالى].
< 1-84 >
( وَحِينَ الْبَأْسِ ) أي: وقت القتال للأعداء المأمور بقتالهم, لأن الجلاد, يشق غاية المشقة على النفس, ويجزع الإنسان من القتل, أو الجراح أو الأسر, فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابا, ورجاء لثواب الله [تعالى] الذي منه النصر والمعونة, التي وعدها الصابرين.
( أُولَئِكَ ) أي: المتصفون بما ذكر من العقائد الحسنة, والأعمال التي هي آثار الإيمان, وبرهانه ونوره, والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية، فأولئك هم ( الَّذِينَ صَدَقُوا ) في إيمانهم, لأن أعمالهم صدقت إيمانهم، ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) لأنهم تركوا المحظور, وفعلوا المأمور؛ لأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير, تضمنا ولزوما, لأن الوفاء بالعهد, يدخل فيه الدين كله، ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية أكبر العبادات، ومن قام بها, كان بما سواها أقوم, فهؤلاء هم الأبرار الصادقون المتقون.
وقد علم ما رتب الله على هذه الأمور الثلاثة, من الثواب الدنيوي والأخروي, مما لا يمكن تفصيله في [مثل] هذا الموضع.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يمتن تعالى على عباده المؤمنين, بأنه فرض عليهم ( الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ) أي: المساواة فيه, وأن يقتل القاتل على الصفة, التي قتل عليها المقتول, إقامة للعدل والقسط بين العباد.
وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين, فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم، حتى أولياء القاتل حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول, إذا طلب القصاص وتمكينه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg من القاتل, وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد, ويمنعوا الولي من الاقتصاص, كما عليه عادة الجاهلية, ومن أشبههم من إيواء المحدثين.
ثم بيَّن تفصيل ذلك فقال: ( الْحُرُّ بِالْحُرِّ ) يدخل بمنطوقها, الذكر بالذكر، ( وَالأنْثَى بِالأنْثَى ) والأنثى بالذكر, والذكر بالأنثى, فيكون منطوقها مقدما على مفهوم قوله: " الأنثى بالأنثى "مع دلالة السنة, على أن الذكر يقتل بالأنثى، وخرج من عموم هذا الأبوان وإن علوا، فلا يقتلان بالولد, لورود السنة بذلك، مع أن في قوله: ( الْقِصَاصُ ) ما يدل على أنه ليس من العدل, أن يقتل الوالد بولده، ولأن في قلب الوالد من الشفقة والرحمة, ما يمنعه من القتل لولده إلا بسبب اختلال في عقله, أو أذية شديدة جدا من الولد له.
وخرج من العموم أيضا, الكافر بالسنة, مع أن الآية في خطاب المؤمنين خاصة.
وأيضا فليس من العدل أن يقتل ولي الله بعدوه، والعبد بالعبد, ذكرا كان أو أنثى, تساوت قيمتهما أو اختلفت، ودل بمفهومها على أن الحر, لا يقتل بالعبد, لكونه غير مساو له، والأنثى بالأنثى, أخذ بمفهومها بعض أهل العلم فلم يجز قتل الرجل بالمرأة, وتقدم وجه ذلك.
وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في القتل, وأن الدية بدل عنه، فلهذا قال: ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) أي: عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية, أو عفا بعض الأولياء, فإنه يسقط القصاص, وتجب الدية, وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي.
فإذا عفا عنه وجب على الولي, [أي: ولي المقتول] أن يتبع القاتل ( بِالْمَعْرُوفِ ) من غير أن يشق عليه, ولا يحمله ما لا يطيق, بل يحسن الاقتضاء والطلب, ولا يحرجه.
وعلى القاتل ( أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) من غير مطل ولا نقص, ولا إساءة فعلية أو قولية, فهل جزاء الإحسان إليه بالعفو, إلا الإحسان بحسن القضاء، وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للإنسان، مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف، ومن عليه الحق, بالأداء بإحسان http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
وفي قوله: ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ ) ترقيق وحث على العفو إلى الدية، وأحسن من ذلك العفو مجانا.
وفي قوله: ( أَخِيهِ ) دليل على أن القاتل لا يكفر, لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان, فلم يخرج بالقتل منها، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر, لا يكفر بها فاعلها, وإنما ينقص بذلك إيمانه.
وإذا عفا أولياء المقتول, أو عفا بعضهم, احتقن دم القاتل, وصار معصوما منهم ومن غيرهم, ولهذا قال: ( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ ) أي: < 1-85 > بعد العفو ( فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي: في الآخرة، وأما قتله وعدمه, فيؤخذ مما تقدم, لأنه قتل مكافئا له, فيجب قتله بذلك.
وأما من فسر العذاب الأليم بالقتل, فإن الآية تدل على أنه يتعين قتله, ولا يجوز العفو عنه, وبذلك قال بعض العلماء والصحيح الأول, لأن جنايته لا تزيد على جناية غيره.
ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال: ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) أي: تنحقن بذلك الدماء, وتنقمع به الأشقياء, لأن من عرف أنه مقتول إذا قتل, لا يكاد يصدر منه القتل, وإذا رئي القاتل مقتولا انذعر بذلك غيره وانزجر, فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل, لم يحصل انكفاف الشر, الذي يحصل بالقتل، وهكذا سائر الحدود الشرعية, فيها من النكاية والانزجار, ما يدل على حكمة الحكيم الغفار، ونكَّر " الحياة "لإفادة التعظيم والتكثير.
ولما كان هذا الحكم, لا يعرف حقيقته, إلا أهل العقول الكاملة والألباب الثقيلة, خصهم بالخطاب دون غيرهم، وهذا يدل على أن الله تعالى, يحب من عباده, أن يعملوا أفكارهم وعقولهم, في تدبر ما في أحكامه من الحكم, والمصالح الدالة على كماله, وكمال حكمته وحمده, وعدله ورحمته الواسعة، وأن من كان بهذه المثابة فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب, وناداهم رب الأرباب, وكفى بذلك فضلا وشرفا لقوم يعقلون.
وقوله: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) وذلك أن من عرف ربه وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات الرفيعة, أوجب له ذلك أن ينقاد لأمر الله, ويعظم معاصيه فيتركها, فيستحق بذلك أن يكون من المتقين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: فرض الله عليكم, يا معشر المؤمنين ( إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) أي: أسبابه, كالمرض المشرف على الهلاك, وحضور أسباب المهالك، وكان قد ( تَرَكَ خَيْرًا ) [أي: مالا] وهو المال الكثير عرفا, فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه بالمعروف, على قدر حاله من غير سرف, ولا اقتصار على الأبعد, دون الأقرب، بل يرتبهم على القرب والحاجة, ولهذا أتى فيه بأفعل التفضيل.
وقوله: ( حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) دل على وجوب ذلك, لأن الحق هو: الثابت، وقد جعله الله من موجبات التقوى.
واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين, مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل، والأحسن في هذا أن يقال: إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة, ردها الله تعالى إلى العرف الجاري.
ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث, بعد أن كان مجملا وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو وصف, فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره، وهذا القول تتفق عليه الأمة, ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين, لأن كلا من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا, واختلف المورد.
فبهذا الجمع, يحصل الاتفاق, والجمع بين الآيات, لأنه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ, الذي لم يدل عليه دليل صحيح.
ولما كان الموصي قد يمتنع من الوصية, لما يتوهمه أن من بعده, قد يبدل ما وصى به قال تعالى: ( فَمَنْ بَدَّلَهُ ) أي: الإيصاء للمذكورين أو غيرهم ( بَعْدَمَا سَمِعَهُ ) [أي:] بعدما عقله, وعرف طرقه وتنفيذه، ( فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) وإلا فالموصي وقع أجره على الله, وإنما الإثم على المبدل المغير.
( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ) يسمع سائر الأصوات, ومنه سماعه لمقالة الموصي ووصيته، فينبغي له أن يراقب من يسمعه ويراه, وأن لا يجور في وصيته، ( عَلِيمٌ ) بنيته, وعليم بعمل الموصى إليه، فإذا اجتهد الموصي, وعلم الله من نيته ذلك, أثابه ولو أخطأ، وفيه التحذير للموصى إليه من التبديل، فإن الله عليم به, مطلع على ما فعله, فليحذر من الله، هذا حكم الوصية العادلة.

ابو وليد البحيرى
2018-12-29, 12:26 AM
الحلقة (28)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(182)الى الأية(186)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وأما الوصية التي فيها حيف وجنف, وإثم، فينبغي لمن حضر الموصي وقت الوصية بها, أن ينصحه بما هو الأحسن والأعدل, وأن ينهاه < 1-86 > عن الجور والجنف, وهو: الميل بها عن خطأ, من غير تعمد, والإثم: وهو التعمد لذلك.
فإن لم يفعل ذلك, فينبغي له أن يصلح بين الموصى إليهم, ويتوصل إلى العدل بينهم على وجه التراضي والمصالحة, ووعظهم بتبرئة ذمة ميتهم فهذا قد فعل معروفا عظيما, وليس عليهم إثم, كما على مبدل الوصية الجائزة، ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ) أي: يغفر جميع الزلات, ويصفح عن التبعات لمن تاب إليه, ومنه مغفرته لمن غض من نفسه, وترك بعض حقه لأخيه, لأن من سامح, سامحه الله، غفور لميتهم الجائر في وصيته, إذا احتسبوا بمسامحة بعضهم بعضا لأجل براءة ذمته، رحيم بعباده, حيث شرع لهم كل أمر به يتراحمون ويتعاطفون، فدلت هذه الآيات على الحث على الوصية, وعلى بيان من هي له, وعلى وعيد المبدل للوصية العادلة, والترغيب في الإصلاح في الوصية الجائرة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى بما منَّ به على عباده, بأنه فرض عليهم الصيام, كما فرضه على الأمم السابقة, لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان.
وفيه تنشيط لهذه الأمة, بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال, والمسارعة إلى صالح الخصال, وأنه ليس من الأمور الثقيلة, التي اختصيتم بها.
ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى, لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه.
فمما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها, التي تميل إليها نفسه, متقربا بذلك إلى الله, راجيا بتركها, ثوابه، فهذا من التقوى.
ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى, فيترك ما تهوى نفسه, مع قدرته عليه, لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان, فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم, فبالصيام, يضعف نفوذه, وتقل منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في الغالب, تكثر طاعته, والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع, أوجب له ذلك, مواساة الفقراء المعدمين, وهذا من خصال التقوى.
ولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام, أخبر أنه أيام معدودات, أي: قليلة في غاية السهولة.
ثم سهل تسهيلا آخر. فقال: ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) وذلك للمشقة, في الغالب, رخص الله لهما, في الفطر.
ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن, أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض, وانقضى السفر, وحصلت الراحة.
وفي قوله: ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ ) فيه دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان, كاملا كان, أو ناقصا, وعلى أنه يجوز أن يقضي أياما قصيرة باردة, عن أيام طويلة حارة كالعكس.
وقوله: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) أي: يطيقون الصيام ( فِدْيَةٌ ) عن كل يوم يفطرونه ( طَعَامُ مِسْكِينٍ ) وهذا في ابتداء فرض الصيام, لما كانوا غير معتادين للصيام, وكان فرضه حتما, فيه مشقة عليهم, درجهم الرب الحكيم, بأسهل طريق، وخيَّر المطيق للصوم بين أن يصوم, وهو أفضل, أو يطعم، ولهذا قال: ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) .
ثم بعد ذلك, جعل الصيام حتما على المطيق وغير المطيق, يفطر ويقضيه في أيام أخر [وقيل: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) أي: يتكلفونه، ويشق عليهم مشقة غير محتملة, كالشيخ الكبير, فدية عن كل يوم مسكين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg وهذا هو الصحيح] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) أي: الصوم المفروض عليكم, هو شهر رمضان, الشهر العظيم, الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو القرآن الكريم, المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية, وتبيين الحق بأوضح بيان, والفرقان بين الحق والباطل, والهدى والضلال, وأهل السعادة وأهل الشقاوة.
فحقيق بشهر, هذا فضله, وهذا إحسان الله عليكم فيه, أن يكون موسما للعباد مفروضا فيه الصيام.
فلما قرره, وبين فضيلته, وحكمة الله تعالى في تخصيصه قال: ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح الحاضر.
ولما كان النسخ للتخيير, بين الصيام والفداء خاصة, أعاد الرخصة للمريض والمسافر, لئلا يتوهم أن الرخصة أيضا منسوخة [فقال] ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) أي: يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير, ويسهلها أشد http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg تسهيل، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية < 1-87 > السهولة في أصله.
وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله, سهَّله تسهيلا آخر, إما بإسقاطه, أو تخفيفه بأنواع التخفيفات.
وهذه جملة لا يمكن تفصيلها, لأن تفاصيلها, جميع الشرعيات, ويدخل فيها جميع الرخص والتخفيفات.
( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) وهذا - والله أعلم - لئلا يتوهم متوهم, أن صيام رمضان, يحصل المقصود منه ببعضه, دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته، ويشكر الله [تعالى] عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده, وبالتكبير عند انقضائه, ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلال شوال إلى فراغ خطبة العيد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذا جواب سؤال، سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه فقالوا: يا رسول الله, أقريب ربنا فنناجيه, أم بعيد فنناديه؟ فنزل: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ) لأنه تعالى, الرقيب الشهيد, المطلع على السر وأخفى, يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, فهو قريب أيضا من داعيه, بالإجابة، ولهذا قال: ( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) والدعاء نوعان: دعاء عبادة, ودعاء مسألة.
والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه, وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق.
فمن دعا ربه بقلب حاضر, ودعاء مشروع, ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء, كأكل الحرام ونحوه, فإن الله قد وعده بالإجابة، وخصوصا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء, وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية, والإيمان به, الموجب للاستجابة، فلهذا قال: ( فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة, ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة. ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره, سبب لحصول العلم كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-01-01, 02:02 AM
الحلقة (29)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(187)الى الأية(190)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية

ثم قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
كان في أول فرض الصيام، يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم الأكل والشرب والجماع، فحصلت المشقة لبعضهم، فخفف الله تعالى عنهم ذلك، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع، سواء نام أو لم ينم، لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به.
( فتاب ) الله ( عليكم ) بأن وسع لكم أمرا كان - لولا توسعته - موجبا للإثم ( وعفا عنكم ) ما سلف من التخون.
( فالآن ) بعد هذه الرخصة والسعة من الله ( باشروهن ) وطأ وقبلة ولمسا وغير ذلك.
( وابتغوا ما كتب الله لكم ) أي: انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى والمقصود الأعظم من الوطء، وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته، وحصول مقاصد النكاح.
ومما كتب الله لكم ليلة القدر، الموافقة لليالي صيام رمضان، فلا ينبغي لكم أن تشتغلوا بهذه اللذة عنها وتضيعوها، فاللذة مدركة، وليلة القدر إذا فاتت لم تدرك.
( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) هذا غاية للأكل والشرب والجماع، وفيه أنه إذا أكل ونحوه شاكا في طلوع الفجر فلا بأس عليه.
وفيه: دليل على استحباب السحور للأمر، وأنه يستحب تأخيره أخذا من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد.
وفيه أيضا دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل أن يغتسل، ويصح صيامه، لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر، أن يدركه الفجر وهو جنب، ولازم الحق حق.
( ثم ) إذا طلع الفجر ( أتموا الصيام ) أي: الإمساك عن المفطرات ( إلى الليل ) وهو غروب الشمس ولما كان إباحة الوطء في ليالي الصيام ليست إباحته http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg عامة لكل أحد، فإن المعتكف لا يحل له ذلك، استثناه بقوله: ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) أي: وأنتم متصفون بذلك، ودلت الآية على مشروعية الاعتكاف، وهو لزوم المسجد لطاعة الله [تعالى]، وانقطاعا إليه، وأن الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد.
ويستفاد من تعريف المساجد، أنها المساجد المعروفة عندهم، وهي التي تقام فيها الصلوات الخمس.
وفيه أن الوطء من مفسدات الاعتكاف.
( تلك ) المذكورات - وهو تحريم الأكل والشرب والجماع ونحوه من المفطرات في الصيام، وتحريم الفطر على غير المعذور، وتحريم الوطء على المعتكف، ونحو ذلك من المحرمات ( حدود الله ) التي حدها لعباده، ونهاهم عنها، فقال: ( فلا تقربوها ) أبلغ من قوله: " فلا تفعلوها "لأن القربان، يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه، والنهي عن وسائله الموصلة < 1-88 > إليه.
والعبد مأمور بترك المحرمات، والبعد منها غاية ما يمكنه، وترك كل سبب يدعو إليها، وأما الأوامر فيقول الله فيها: ( تلك حدود الله فلا تعتدوها ) فينهى عن مجاوزتها.
( كذلك ) أي: بيَّن [الله] لعباده الأحكام السابقة أتم تبيين، وأوضحها لهم أكمل إيضاح.
( يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ) فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه، فإن الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم، ولو علم تحريمه لم يفعله، فإذا بين الله للناس آياته، لم يبق لهم عذر ولا حجة، فكان ذلك سببا للتقوى.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: ولا تأخذوا أموالكم أي: أموال غيركم، أضافها إليهم, لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه, ويحترم ماله كما يحترم ماله؛ ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة.
ولما كان أكلها نوعين: نوعا بحق, ونوعا بباطل, وكان المحرم إنما هو أكلها بالباطل, قيده تعالى بذلك، ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية, أو نحو ذلك، ويدخل فيه أيضا, أخذها على وجه المعاوضة, بمعاوضة محرمة, كعقود الربا, والقمار كلها, فإنها من أكل المال بالباطل, لأنه ليس في مقابلة عوض مباح، ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة, ونحوها، ويدخل في ذلك استعمال الأجراء وأكل أجرتهم، وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه، ويدخل في ذلك أخذ الأجرة على العبادات والقربات التي لا تصح حتى يقصد بها وجه الله تعالى، ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات, والأوقاف، والوصايا, لمن ليس له حق منها, أو فوق حقه.
فكل هذا ونحوه, من أكل المال بالباطل, فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه، حتى ولو حصل فيه النزاع وحصل الارتفاع إلى حاكم الشرع, وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة, غلبت حجة المحق, وحكم له الحاكم بذلك، فإن حكم الحاكم, لا يبيح محرما, ولا يحلل حراما, إنما يحكم على نحو مما يسمع, وإلا فحقائق الأمور باقية، فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة, ولا شبهة, ولا استراحة.
فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة, وحكم له بذلك, فإنه لا يحل له, ويكون آكلا لمال غيره, بالباطل والإثم, وهو عالم بذلك. فيكون أبلغ في عقوبته, وأشد في نكاله.
وعلى هذا فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه, لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يقول http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ ) جمع - هلال - ما فائدتها وحكمتها؟ أو عن ذاتها، ( قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ) أي: جعلها الله تعالى بلطفه ورحمته على هذا التدبير يبدو الهلال ضعيفا في أول الشهر, ثم يتزايد إلى نصفه, ثم يشرع في النقص إلى كماله, وهكذا, ليعرف الناس بذلك, مواقيت عباداتهم من الصيام, وأوقات الزكاة, والكفارات, وأوقات الحج.
ولما كان الحج يقع في أشهر معلومات, ويستغرق أوقاتا كثيرة قال: ( وَالْحَجِّ ) وكذلك تعرف بذلك, أوقات الديون المؤجلات, ومدة الإجارات, ومدة العدد والحمل, وغير ذلك مما هو من حاجات الخلق، فجعله تعالى, حسابا, يعرفه كل أحد, من صغير, وكبير, وعالم, وجاهل، فلو كان الحساب بالسنة الشمسية, لم يعرفه إلا النادر من الناس.
( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ) وهذا كما كان الأنصار وغيرهم من العرب, إذا أحرموا, لم يدخلوا البيوت من أبوابها, تعبدا بذلك, وظنا أنه بر. فأخبر الله أنه ليس ببر http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لأن الله تعالى, لم يشرعه لهم، وكل من تعبد بعبادة لم يشرعها الله ولا رسوله, فهو متعبد ببدعة، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها لما فيه من السهولة عليهم, التي هي قاعدة من قواعد الشرع.
ويستفاد من إشارة الآية أنه ينبغي في كل أمر من الأمور, أن يأتيه الإنسان من الطريق السهل القريب, الذي قد جعل له موصلا فالآمر بالمعروف, والناهي عن المنكر, ينبغي أن ينظر في حالة المأمور, ويستعمل معه الرفق والسياسة, التي بها يحصل المقصود أو بعضه، والمتعلم والمعلم, ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله, يحصل به مقصوده، وهكذا كل من حاول أمرا من الأمور وأتاه من أبوابه وثابر عليه, < 1-89 > فلا بد أن يحصل له المقصود بعون الملك المعبود.
( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) هذا هو البر الذي أمر الله به, وهو لزوم تقواه على الدوام, بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, فإنه سبب للفلاح, الذي هو الفوز بالمطلوب, والنجاة من المرهوب، فمن لم يتق الله تعالى, لم يكن له سبيل إلى الفلاح, ومن اتقاه, فاز بالفلاح والنجاح.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذه الآيات, تتضمن الأمر بالقتال في سبيل الله, وهذا كان بعد الهجرة إلى المدينة, لما قوي المسلمون للقتال, أمرهم الله به, بعد ما كانوا مأمورين بكف أيديهم، وفي تخصيص القتال ( فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) حث على الإخلاص, ونهي عن الاقتتال في الفتن بين المسلمين.
( الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ ) أي: الذين هم مستعدون لقتالكم, وهم المكلفون الرجال, غير الشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال.
والنهي عن الاعتداء, يشمل أنواع الاعتداء كلها, من قتل من لا يقاتل, من النساء, والمجانين والأطفال, والرهبان ونحوهم والتمثيل بالقتلى, وقتل الحيوانات, وقطع الأشجار [ونحوها], لغير مصلحة تعود للمسلمين.
ومن الاعتداء, مقاتلة من تقبل منهم الجزية إذا بذلوها, فإن ذلك لا يجوز.

ابو وليد البحيرى
2019-01-01, 02:07 AM
الحلقة (30)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(191)الى الأية(196)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) هذا أمر بقتالهم, أينما وجدوا في كل وقت, وفي كل زمان قتال مدافعة, وقتال مهاجمة ثم استثنى من هذا العموم قتالهم ( عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) وأنه لا يجوز إلا أن يبدأوا بالقتال, فإنهم يقاتلون جزاء لهم على اعتدائهم، وهذا مستمر في كل وقت, حتى ينتهوا عن كفرهم فيسلموا, فإن الله يتوب عليهم, ولو حصل منهم ما حصل من الكفر بالله والشرك في المسجد الحرام, وصد الرسول والمؤمنين عنه وهذا من رحمته وكرمه بعباده.
ولما كان القتال عند المسجد الحرام, يتوهم أنه مفسدة في هذا البلد الحرام, أخبر تعالى أن المفسدة بالفتنة عنده بالشرك, والصد عن دينه, أشد من مفسدة القتل, فليس عليكم - أيها المسلمون - حرج في قتالهم.
ويستدل بهذه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg الآية على القاعدة المشهورة، وهي: أنه يرتكب أخف المفسدتين, لدفع أعلاهما.
ثم ذكر تعالى المقصود من القتال في سبيله, وأنه ليس المقصود به, سفك دماء الكفار, وأخذ أموالهم، ولكن المقصود به أن ( يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) تعالى, فيظهر دين الله [تعالى], على سائر الأديان, ويدفع كل ما يعارضه, من الشرك وغيره, وهو المراد بالفتنة، فإذا حصل هذا المقصود, فلا قتل ولا قتال، ( فَإِنِ انْتَهَوْا ) عن قتالكم عند المسجد الحرام ( فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ ) أي: فليس عليهم منكم اعتداء, إلا من ظلم منهم, فإنه يستحق المعاقبة, بقدر ظلمه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
يقول تعالى: ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ) يحتمل أن يكون المراد به ما وقع من صد المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية, عن الدخول لمكة, وقاضوهم على دخولها من قابل, وكان الصد والقضاء في شهر حرام, وهو ذو القعدة, فيكون هذا بهذا، فيكون فيه, تطييب لقلوب الصحابة, بتمام نسكهم, وكماله.
ويحتمل أن يكون المعنى: إنكم إن قاتلتموهم في الشهر الحرام http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg فقد قاتلوكم فيه, وهم المعتدون, فليس عليكم في ذلك حرج، وعلى هذا فيكون قوله: ( وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ) من باب عطف العام على الخاص، أي: كل شيء يحترم من شهر حرام, أو بلد حرام, أو إحرام, أو ما هو أعم من ذلك, جميع ما أمر الشرع باحترامه, فمن تجرأ عليها فإنه يقتص منه، فمن قاتل في الشهر الحرام, قوتل، ومن هتك البلد الحرام, أخذ منه الحد, ولم يكن له حرمة، ومن قتل مكافئا له قتل به, ومن جرحه أو قطع عضوا, منه, اقتص منه، ومن أخذ مال غيره المحترم, أخذ منه بدله، ولكن هل لصاحب الحق أن يأخذ من ماله بقدر حقه أم لا؟ خلاف بين العلماء, الراجح من ذلك, أنه إن كان سبب الحق ظاهرا كالضيف, إذا لم يقره غيره, والزوجة, والقريب إذا امتنع من تجب عليه النفقة [من الإنفاق عليه] فإنه يجوز أخذه من ماله.
وإن كان السبب خفيا, كمن جحد دين غيره, أو خانه في وديعة, أو سرق منه ونحو ذلك, فإنه لا يجوز له أن يأخذ من ماله مقابلة له, جمعا بين الأدلة, ولهذا قال تعالى, تأكيدا وتقوية لما تقدم: ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) هذا تفسير لصفة المقاصة, وأنها هي المماثلة في مقابلة المعتدي.
ولما كانت النفوس - في الغالب - لا تقف على حدها إذا رخص لها في المعاقبة لطلبها التشفي, أمر تعالى بلزوم تقواه, التي هي الوقوف عند حدوده, وعدم تجاوزها, وأخبر تعالى أنه ( مَعَ الْمُتَّقِينَ ) أي: بالعون, والنصر, والتأييد, والتوفيق.
ومن كان الله معه, حصل له السعادة الأبدية، ومن لم يلزم التقوى تخلى عنه وليه, وخذله, فوكله إلى نفسه فصار هلاكه أقرب إليه من حبل الوريد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله, وهو إخراج الأموال في الطرق الموصلة إلى الله، وهي كل طرق الخير, من صدقة على مسكين, أو قريب, أو إنفاق على من تجب مؤنته.
وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله، فإن النفقة فيه جهاد بالمال, وهو فرض كالجهاد بالبدن، وفيها من المصالح العظيمة, الإعانة على تقوية المسلمين, وعلى توهية الشرك وأهله, وعلى إقامة دين الله وإعزازه، فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة، فالنفقة له كالروح, لا يمكن وجوده بدونها، وفي ترك الإنفاق في سبيل الله, إبطال للجهاد, وتسليط للأعداء, وشدة تكالبهم، فيكون قوله تعالى: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) كالتعليل لذلك، والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين: ترك ما أمر به العبد, إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح، وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح, فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة، فمن ذلك, ترك الجهاد في سبيل الله, أو النفقة فيه, الموجب لتسلط الأعداء، ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف, أو محل مسبعة أو حيات, أو يصعد شجرا أو بنيانا خطرا, أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك، فهذا ونحوه, ممن ألقى بيده إلى التهلكة.
ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg الإقامة على معاصي الله, واليأس من التوبة، ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض, التي في تركها هلاك للروح والدين.
ولما كانت النفقة في سبيل الله نوعا من أنواع الإحسان, أمر بالإحسان عموما فقال: ( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان, لأنه لم يقيده بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم.
ويدخل فيه الإحسان بالجاه, بالشفاعات ونحو ذلك، ويدخل في ذلك, الإحسان بالأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, وتعليم العلم النافع، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس, من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم, وعيادة مرضاهم, وتشييع جنائزهم, وإرشاد ضالهم, وإعانة من يعمل عملا والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك, مما هو من الإحسان الذي أمر الله به، ويدخل في الإحسان أيضا, الإحسان في عبادة الله تعالى, وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: " أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه, فإنه يراك "
فمن اتصف بهذه الصفات, كان من الذين قال الله فيهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره.
ولما فرغ تعالى من [ذكر] أحكام الصيام فالجهاد, ذكر أحكام الحج فقال:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
يستدل بقوله [تعالى]: ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ) على أمور:
أحدها: وجوب الحج والعمرة, وفرضيتهما.
الثاني: وجوب إتمامهما بأركانهما, وواجباتهما, التي قد دل عليها فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: " خذوا عني مناسككم "
الثالث: أن فيه حجة لمن قال بوجوب العمرة.
الرابع: أن الحج والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما, ولو كانا نفلا.
الخامس: الأمر بإتقانهما وإحسانهما, وهذا قدر زائد على فعل ما يلزم لهما.
السادس: وفيه الأمر بإخلاصهما لله تعالى.
السابع: أنه لا يخرج المحرم بهما بشيء من الأشياء حتى يكملهما, إلا بما استثناه الله, وهو الحصر, فلهذا قال: ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ) أي: منعتم من الوصول إلى البيت لتكميلهما, بمرض, أو ضلالة, أو عدو, ونحو ذلك من أنواع الحصر, الذي هو المنع.
( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) أي: فاذبحوا ما استيسر من الهدي, وهو سبع بدنة, أو سبع بقرة, أو شاة يذبحها المحصر, ويحلق ويحل من إحرامه بسبب الحصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, لما صدهم المشركون عام الحديبية، فإن لم يجد الهدي, فليصم بدله عشرة أيام كما في المتمتع ثم يحل.
ثم قال تعالى: ( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) وهذا من محظورات الإحرام, إزالة الشعر, بحلق أو غيره, لأن المعنى واحد من الرأس, أو من البدن, لأن المقصود من ذلك, حصول الشعث والمنع من الترفه بإزالته, وهو موجود في بقية الشعر.
وقاس كثير من العلماء على إزالة الشعر, تقليم الأظفار بجامع الترفه، ويستمر المنع مما ذكر, حتى يبلغ الهدي محله, وهو يوم النحر، والأفضل أن يكون الحلق بعد النحر, كما تدل عليه الآية.
ويستدل بهذه الآية على أن المتمتع إذا ساق الهدي, لم يتحلل من عمرته قبل يوم النحر، فإذا طاف وسعى للعمرة, أحرم بالحج, ولم يكن له إحلال بسبب سوق الهدي، وإنما منع تبارك وتعالى من ذلك, لما فيه من الذل والخضوع لله والانكسار له, والتواضع الذي هو عين مصلحة العبد, وليس عليه في ذلك من ضرر، فإذا حصل الضرر بأن كان به أذى من مرض, ينتفع بحلق رأسه له, أو قروح, أو قمل ونحو ذلك فإنه يحل له أن يحلق رأسه, ولكن يكون عليه فدية من صيام ثلاثة أيام, أو صدقة على ستة مساكين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg أو نسك ما يجزئ في أضحية, فهو مخير، والنسك أفضل, فالصدقة, فالصيام.
ومثل هذا, كل ما كان في معنى ذلك, من تقليم الأظفار, أو تغطية الرأس, أو لبس المخيط, أو الطيب, فإنه يجوز عند الضرورة, مع وجوب الفدية المذكورة لأن القصد من الجميع, إزالة ما به يترفه.
ثم قال تعالى: ( فَإِذَا أَمِنْتُمْ ) أي: بأن قدرتم على البيت من غير مانع عدو وغيره، ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ) بأن توصل بها إليه, وانتفع بتمتعه بعد الفراغ منها.
( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) أي: فعليه ما تيسر من الهدي, وهو ما يجزئ في أضحية، وهذا دم نسك, مقابلة لحصول النسكين له في سفرة واحدة, ولإنعام الله عليه بحصول الانتفاع بالمتعة بعد فراغ العمرة, وقبل الشروع في الحج، ومثلها القِران لحصول النسكين له.
ويدل مفهوم الآية, على أن المفرد للحج, ليس عليه هدي، ودلت الآية, على جواز, بل فضيلة المتعة, وعلى جواز فعلها في أشهر الحج.
( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ) أي الهدي أو ثمنه ( فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ) أول جوازها من حين الإحرام بالعمرة, وآخرها ثلاثة أيام بعد النحر, أيام رمي الجمار, والمبيت بـ "منى" ولكن الأفضل منها, أن يصوم السابع, والثامن, والتاسع، ( وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ) أي: فرغتم من أعمال الحج, فيجوز فعلها في مكة, وفي الطريق, وعند وصوله إلى أهله.
( ذَلِكَ ) المذكور من وجوب الهدي على المتمتع ( لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) بأن كان عند مسافة قصر فأكثر, أو بعيدا عنه عرفا, فهذا الذي يجب عليه الهدي, لحصول النسكين له في سفر واحد، وأما من كان أهله من حاضري المسجد الحرام, فليس عليه هدي لعدم الموجب لذلك.
( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) أي: في جميع أموركم, بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه، ومن ذلك, امتثالكم, لهذه المأمورات, واجتناب هذه المحظورات المذكورة في هذه الآية.
( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) أي: لمن عصاه, وهذا هو الموجب للتقوى, فإن من خاف عقاب الله, انكف عما يوجب العقاب، كما أن من رجا ثواب الله عمل لما يوصله إلى الثواب، وأما من لم يخف العقاب, ولم يرج الثواب, اقتحم المحارم, وتجرأ على ترك الواجبات.

ابو وليد البحيرى
2019-01-02, 05:43 PM
الحلقة (31)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(197)الى الأية(202)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ (197) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى أن ( الْحَجَّ ) واقع في ( أشهر معلومات ) عند المخاطبين, مشهورات, بحيث لا تحتاج إلى تخصيص، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره, وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس.
وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم, التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم.
والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء: شوال, وذو القعدة, وعشر من ذي الحجة, فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا.
( فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ) أي: أحرم به, لأن الشروع فيه يصيره فرضا, ولو كان نفلا.
واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه, على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره، قلت لو قيل: إن فيها دلالة لقول الجمهور, بصحة الإحرام [بالحج] قبل أشهره لكان قريبا، فإن قوله: ( فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ) دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة وقد لا يقع فيها, وإلا لم يقيده.
وقوله: ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) أي: يجب أن تعظموا الإحرام بالحج, وخصوصا الواقع في أشهره, وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه, من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية, خصوصا عند النساء بحضرتهن.
والفسوق وهو: جميع المعاصي, ومنها محظورات الإحرام.
والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة, لكونها تثير الشر, وتوقع العداوة.
والمقصود من الحج, الذل < 1-92 > والانكسار لله, والتقرب إليه بما أمكن من القربات, والتنزه عن مقارفة السيئات, فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور, ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان, فإنها http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg يتغلظ المنع عنها في الحج.
واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر، ولهذا قال تعالى: ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ) أتى بـ " من "لتنصيص على العموم، فكل خير وقربة وعبادة, داخل في ذلك، أي: فإن الله به عليم, وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير, وخصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة, فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها, من صلاة, وصيام, وصدقة, وطواف, وإحسان قولي وفعلي.
ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك, فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين, والكف عن أموالهم, سؤالا واستشرافا، وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين, وزيادة قربة لرب العالمين، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع.
وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه, في دنياه, وأخراه, فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار, وهو الموصل لأكمل لذة, وأجل نعيم دائم أبدا، ومن ترك هذا الزاد, فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر, وممنوع من الوصول إلى دار المتقين. فهذا مدح للتقوى.
ثم أمر بها أولي الألباب فقال: ( وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ ) أي: يا أهل العقول الرزينة, اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول, وتركها دليل على الجهل, وفساد الرأي.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
لما أمر تعالى بالتقوى, أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره, ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج, وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل الله, لا منسوبا إلى حذق العبد, والوقوف مع السبب, ونسيان المسبب, فإن هذا هو الحرج بعينه.
وفي قوله: ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) دلالة على أمور:
أحدها: الوقوف بعرفة, وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج، فالإفاضة من عرفات, لا تكون إلا بعد الوقوف.
الثاني: الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام, وهو المزدلفة, وذلك أيضا معروف, يكون ليلة النحر بائتا بها, وبعد صلاة الفجر, يقف في المزدلفة داعيا, حتى يسفر جدا, ويدخل في ذكر الله عنده, إيقاع الفرائض والنوافل فيه.
الثالث: أن الوقوف بمزدلفة, متأخر عن الوقوف بعرفة, كما تدل عليه الفاء والترتيب.
الرابع, والخامس: أن عرفات ومزدلفة, كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها, وإظهارها.
السادس: أن مزدلفة في الحرم, كما قيده بالحرام.
السابع: أن عرفة في الحل, كما هو مفهوم التقييد بـ " مزدلفة "
( وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ) أي: اذكروا الله تعالى كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال, وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذه من أكبر النعم, التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان.
( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ) أي: ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس, من لدن إبراهيم عليه السلام إلى الآن، والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفا عندهم, وهو رمي الجمار, وذبح الهدايا, والطواف, والسعي, والمبيت بـ " منى "ليالي التشريق وتكميل باقي المناسك.
ولما كانت [هذه] الإفاضة, يقصد بها ما ذكر, والمذكورات آخر المناسك, أمر تعالى عند الفراغ منها باستغفاره والإكثار من ذكره، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد, في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة.
وهكذا ينبغي للعبد, كلما فرغ من عبادة, أن يستغفر الله عن التقصير, ويشكره على التوفيق, لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة, ومن بها على ربه, وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة, فهذا حقيق بالمقت, ورد الفعل، كما أن < 1-93 > الأول, حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر.
ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق, وأن الجميع يسألونه مطالبهم, ويستدفعونه ما يضرهم, ولكن مقاصدهم تختلف، فمنهم: ( مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ) أي: يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته, وليس له في الآخرة من نصيب, لرغبته عنها, وقصر همته على الدنيا، ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين, ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه، وكل من هؤلاء وهؤلاء, لهم نصيب من كسبهم وعملهم, وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم, وهماتهم ونياتهم, جزاء دائرا بين العدل والفضل, يحمد عليه أكمل حمد وأتمه، وفي هذه الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع, مسلما أو كافرا, أو فاسقا، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه, دليلا على محبته له وقربه منه, إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين.
والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد, من رزق هنيء واسع حلال, وزوجة صالحة, وولد تقر به العين, وراحة, وعلم نافع, وعمل صالح, ونحو ذلك, من المطالب المحبوبة والمباحة.
وحسنة الآخرة, هي السلامة من العقوبات, في القبر, والموقف, والنار, وحصول رضا الله, والفوز بالنعيم المقيم, والقرب من الرب الرحيم، فصار هذا الدعاء, أجمع دعاء وأكمله, وأولاه بالإيثار, ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به, والحث عليه.

ابو وليد البحيرى
2019-01-02, 05:50 PM
الحلقة (32)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(203)الى الأية(210)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يأمر تعالى بذكره في الأيام المعدودات, وهي أيام التشريق الثلاثة بعد العيد, لمزيتها وشرفها, وكون بقية أحكام المناسك تفعل بها, ولكون الناس أضيافا لله فيها, ولهذا حرم صيامها، فللذكر فيها مزية ليست لغيرها, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أيام التشريق, أيام أكل وشرب, وذكر الله "
ويدخل في ذكر الله فيها, ذكره عند رمي الجمار, وعند الذبح, والذكر المقيد عقب الفرائض، بل قال بعض العلماء: إنه يستحب فيها التكبير المطلق, كالعشر, وليس ببعيد.
( فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ) أي: خرج من " منى "ونفر منها قبل غروب شمس اليوم الثاني ( فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ ) بأن بات بها ليلة الثالث ورمى من الغد ( فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) وهذا تخفيف من الله [تعالى] على عباده, في إباحة كلا الأمرين، ولكن من المعلوم أنه إذا أبيح كلا الأمرين, فالمتأخر أفضل, لأنه أكثر عبادة.
ولما كان نفي الحرج قد يفهم منه نفي الحرج في ذلك المذكور وفي غيره, والحاصل أن الحرج منفي عن المتقدم، والمتأخر فقط قيده بقوله: ( لِمَنِ اتَّقَى ) أي: اتقى الله في جميع أموره, وأحوال الحج، فمن اتقى الله في كل شيء, حصل له نفي الحرج في كل شيء، ومن اتقاه في شيء دون شيء, كان الجزاء من جنس العمل.
( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) بامتثال أوامره واجتناب معاصيه، ( وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) فمجازيكم بأعمالكم، فمن اتقاه, وجد جزاء التقوى عنده, ومن لم يتقه, عاقبه أشد العقوبة، فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى الله, فلهذا حث تعالى على العلم بذلك.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما أمر تعالى بالإكثار من ذكره, وخصوصا في الأوقات الفاضلة الذي هو خير ومصلحة وبر, أخبر تعالى بحال من يتكلم بلسانه ويخالف فعله قوله, فالكلام إما أن يرفع الإنسان أو يخفضه فقال: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي: إذا تكلم راق كلامه للسامع، وإذا نطق, ظننته يتكلم بكلام نافع, ويؤكد ما يقول بأنه ( وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ) بأن يخبر أن الله يعلم, أن ما في قلبه موافق لما نطق به, وهو كاذب في ذلك, لأنه يخالف قوله فعله.
فلو كان صادقا, لتوافق القول والفعل, كحال المؤمن غير المنافق, فلهذا قال: ( وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ) أي: إذا خاصمته, وجدت فيه من اللدد والصعوبة والتعصب, وما يترتب على ذلك, ما هو من مقابح الصفات, ليس كأخلاق المؤمنين, الذين جعلوا السهولة مركبهم, والانقياد للحق وظيفتهم, والسماحة سجيتهم.
( وَإِذَا تَوَلَّى ) هذا الذي يعجبك قوله إذا حضر عندك ( سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ) أي: يجتهد على أعمال المعاصي, التي هي إفساد في الأرض ( وَيُهْلِكَ ) بسبب ذلك ( الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ) فالزروع والثمار والمواشي, تتلف وتنقص, وتقل بركتها, بسبب العمل في المعاصي، ( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) وإذا كان لا يحب الفساد, فهو يبغض العبد المفسد في الأرض, غاية البغض, وإن قال بلسانه قولا حسنا.
< 1-94 >
ففي هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص, ليست دليلا على صدق ولا كذب, ولا بر ولا فجور حتى يوجد العمل المصدق لها, المزكي لها وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود, والمحق والمبطل من الناس, بسبر أعمالهم, والنظر لقرائن أحوالهم, وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم.
ثم ذكر أن هذا المفسد في الأرض بمعاصي الله, إذا أمر بتقوى الله تكبر وأنف، و ( أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ ) فيجمع بين العمل بالمعاصي والكبر http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg على الناصحين.
( فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ) التي هي دار العاصين والمتكبرين، ( وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ) أي: المستقر والمسكن, عذاب دائم, وهم لا ينقطع, ويأس مستمر, لا يخفف عنهم العذاب, ولا يرجون الثواب, جزاء لجناياتهم ومقابلة لأعمالهم، فعياذا بالله من أحوالهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة الله ورجاء لثوابه، فهم بذلوا الثمن للمليء الوفيّ الرءوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك، وقد وعد الوفاء بذلك، فقال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر الآية. وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا، وبذل ما به رغبوا، فلا تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من الكريم، وما ينالهم من الفوز والتكريم http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا ( فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) أي: في جميع شرائع الدين, ولا يتركوا منها شيئا, وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه, إن وافق الأمر المشروع هواه فعله, وإن خالفه, تركه، بل الواجب أن يكون الهوى, تبعا للدين, وأن يفعل كل ما يقدر عليه, من أفعال الخير, وما يعجز عنه, يلتزمه وينويه, فيدركه بنيته.
ولما كان الدخول في السلم كافة, لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال: ( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) أي: في العمل بمعاصي الله ( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) والعدو المبين, لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء, وما به الضرر عليكم.
ولما كان العبد لا بد أن يقع منه خلل وزلل, قال تعالى: ( فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ) أي: على علم ويقين ( فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .
وفيه من الوعيد الشديد, والتخويف, ما يوجب ترك الزلل, فإن العزيز القاهر http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الحكيم, إذا عصاه العاصي, قهره بقوته, وعذبه بمقتضى حكمته فإن من حكمته, تعذيب العصاة والجناة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (210) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وهذا فيه من الوعيد الشديد والتهديد ما تنخلع له القلوب، يقول تعالى: هل ينتظر الساعون في الفساد في الأرض, المتبعون لخطوات الشيطان, النابذون لأمر الله إلا يوم الجزاء بالأعمال, الذي قد حشي من الأهوال والشدائد والفظائع, ما يقلقل قلوب الظالمين, ويحق به الجزاء السيئ على المفسدين.
وذلك أن الله تعالى يطوي السماوات والأرض, وتنثر الكواكب, وتكور الشمس والقمر, وتنزل الملائكة الكرام, فتحيط بالخلائق, وينزل الباري [تبارك] تعالى: ( فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ) ليفصل بين عباده بالقضاء العدل.
فتوضع الموازين, وتنشر الدواوين, وتبيض وجوه أهل السعادة وتسود وجوه أهل الشقاوة, ويتميز أهل الخير من أهل الشر، وكل يجازى بعمله، فهنالك يعض الظالم على يديه إذا علم حقيقة ما هو عليه.
وهذه الآية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, المثبتين للصفات الاختيارية, كالاستواء, والنزول, والمجيء, ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى, عن نفسه, أو أخبر بها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فيثبتونها على وجه يليق بجلال الله وعظمته, من غير تشبيه ولا تحريف، خلافا للمعطلة على اختلاف أنواعهم, من الجهمية, والمعتزلة, والأشعرية ونحوهم, ممن ينفي هذه الصفات, ويتأول لأجلها الآيات بتأويلات ما أنزل الله عليها من سلطان, بل حقيقتها القدح في بيان الله وبيان رسوله, والزعم بأن كلامهم هو الذي تحصل به الهداية في هذا الباب، فهؤلاء ليس معهم دليل نقلي, بل ولا دليل عقلي، أما النقلي فقد اعترفوا أن النصوص الواردة في الكتاب والسنة, ظاهرها بل صريحها, دال على مذهب أهل السنة والجماعة, وأنها تحتاج لدلالتها على مذهبهم الباطل, أن تخرج عن ظاهرها ويزاد فيها وينقص، وهذا كما ترى لا يرتضيه من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وأما العقل فليس في العقل ما يدل على نفي هذه الصفات، بل العقل دل على أن الفاعل أكمل من الذي لا يقدر < 1-95 > على الفعل, وأن فعله تعالى المتعلق بنفسه والمتعلق بخلقه هو كمال، فإن زعموا أن إثباتها يدل على التشبيه بخلقه، قيل لهم: الكلام على الصفات, يتبع الكلام على الذات، فكما أن لله ذاتا لا تشبهها الذوات, فلله صفات لا تشبهها الصفات، فصفاته تبع لذاته, وصفات خلقه, تبع لذواتهم, فليس في إثباتها ما يقتضي التشبيه بوجه.
ويقال أيضا, لمن أثبت بعض الصفات, ونفى بعضا, أو أثبت الأسماء دون الصفات: إما أن تثبت الجميع كما أثبته الله لنفسه, وأثبته رسوله، وإما أن تنفي الجميع, وتكون منكرا لرب العالمين، وأما إثباتك بعض ذلك, ونفيك لبعضه, فهذا تناقض، ففرق بين ما أثبته, وما نفيته, ولن تجد إلى الفرق سبيلا فإن قلت: ما أثبته لا يقتضي تشبيها، قال لك أهل السنة: والإثبات لما نفيته لا يقتضي تشبيها، فإن قلت: لا أعقل من الذي نفيته إلا التشبيه، قال لك النفاة: ونحن لا نعقل من الذي أثبته إلا التشبيه، فما أجبت به النفاة, أجابك به أهل السنة, لما نفيته.
والحاصل أن من نفى شيئا وأثبت شيئا مما دل الكتاب والسنة على إثباته, فهو متناقض, لا يثبت له دليل شرعي ولا عقلي, بل قد خالف المعقول والمنقول.

نبيل عبد الحميد العريفي
2019-01-03, 02:16 AM
قال تعالى: ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ) أي: مضت ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ) أي: كل له عمله, وكل سيجازى بما فعله, لا يؤخذ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg أحد بذنب أحد ولا ينفع أحدا إلا إيمانه وتقواه فاشتغالكم بهم وادعاؤكم, أنكم على ملتهم, والرضا بمجرد القول, أمر فارغ لا حقيقة له، بل الواجب عليكم, أن تنظروا حالتكم التي أنتم عليها, هل تصلح للنجاة أم لا؟
.
العمل مضاف إلى الله تبارك وتعالى الذي علم أعمال العباد وهو الذي خلق أعمال العباد ؟
.
الفعل مضاف إلى المخلوق كونه سبب الجزاء أو عدمه.
.
قيترجح أن الله تبارك وتعالى خلق أعمال العباد التي هي أفعالهم ؟ فما لم يكن فعلا كان عملا يستحق الجزاء لكنه ليست كالفعل ؟ ولهذا ضمرت في الفعل وقيل الجزاء ؟ "خلق أفعال العباد" .
كالهبة هو أحق بها ولو وهبها ! ولكن وهبها لمن لا يستحقها ؟
ترجع إليه ويبقى أجر الهبة والسعة التي مضت ؟ ولو ضعيها مع من لا يستحقها ؟ ولكنها لا توهب لغير الآخر حتى تسترجع.
فهذا مثال على العمل ؟ وقد ينتفى ؟ بينما الفعل باق لا ينتفى وعليه الأجر والجزاء.

ابو وليد البحيرى
2019-01-07, 04:48 PM
الحلقة (33)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(211)الى الأية(215)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يقول تعالى: ( سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ) تدل على الحق, وعلى صدق الرسل, فتيقنوها وعرفوها, فلم يقوموا بشكر هذه النعمة, التي تقتضي القيام بها.
بل كفروا بها وبدلوا نعمة الله كفرا, فلهذا استحقوا أن ينزل الله عليهم عقابه ويحرمهم من ثوابه، وسمى الله تعالى كفر النعمة تبديلا لها, لأن من أنعم الله عليه نعمة دينية أو دنيوية, فلم يشكرها, ولم يقم بواجبها, اضمحلت عنه وذهبت, وتبدلت بالكفر والمعاصي, فصار الكفر بدل النعمة، وأما من شكر الله تعالى, وقام بحقها, فإنها تثبت وتستمر, ويزيده الله منها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى أن الذين كفروا بالله وبآياته ورسله, ولم ينقادوا لشرعه, أنهم زينت لهم الحياة الدنيا، فزينت في أعينهم وقلوبهم, فرضوا بها, واطمأنوا بها وصارت أهواؤهم وإراداتهم وأعمالهم كلها لها, فأقبلوا عليها, وأكبوا على تحصيلها, وعظموها, وعظموا من شاركهم في صنيعهم, واحتقروا المؤمنين, واستهزأوا بهم وقالوا: أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؟
وهذا من ضعف عقولهم ونظرهم القاصر, فإن الدنيا دار ابتلاء وامتحان, وسيحصل الشقاء فيها لأهل الإيمان والكفران، بل المؤمن في الدنيا, وإن ناله مكروه, فإنه يصبر ويحتسب, فيخفف الله عنه بإيمانه وصبره ما لا يكون لغيره.
وإنما الشأن كل الشأن, والتفضيل الحقيقي, في الدار الباقية, فلهذا قال تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) فيكون المتقون في أعلى الدرجات, متمتعين بأنواع النعيم والسرور, والبهجة والحبور.
والكفار تحتهم في أسفل الدركات, معذبين بأنواع العذاب والإهانة, والشقاء السرمدي, الذي لا منتهى له، ففي هذه الآية تسلية للمؤمنين, ونعي على الكافرين. ولما كانت الأرزاق الدنيوية والأخروية, لا تحصل إلا بتقدير الله, ولن تنال إلا بمشيئة الله، قال تعالى: ( وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) فالرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان, ومحبة الله وخشيته ورجائه، ونحو ذلك, فلا يعطيها إلا من يحب.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
(أي: كان الناس) [أي: كانوا مجتمعين على الهدى، وذلك عشرة قرون بعد نوح عليه السلام، فلما اختلفوا في الدين فكفر فريق منهم وبقي الفريق الآخر على الدين، وحصل النزاع وبعث الله الرسل ليفصلوا بين الخلائق ويقيموا الحجة عليهم، وقيل بل كانوا] http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg مجتمعين على الكفر والضلال والشقاء, ليس لهم نور ولا إيمان، فرحمهم الله تعالى بإرسال الرسل إليهم ( مُبَشِّرِينَ ) من أطاع الله بثمرات الطاعات, من الرزق, والقوة في البدن والقلب, والحياة الطيبة, وأعلى ذلك, الفوز برضوان الله والجنة.
( وَمُنْذِرِينَ ) من عصى الله, بثمرات المعصية, من حرمان الرزق, والضعف, والإهانة, والحياة الضيقة, وأشد ذلك, سخط الله والنار.
( وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) وهو الإخبارات الصادقة, والأوامر العادلة، فكل ما اشتملت عليه الكتب, فهو حق, يفصل بين المختلفين في الأصول والفروع، وهذا هو الواجب عند الاختلاف والتنازع, أن يرد الاختلاف إلى الله وإلى رسوله، ولولا أن في كتابه, وسنة رسوله, فصل النزاع, لما أمر بالرد إليهما.
ولما ذكر نعمته العظيمة بإنزال الكتب على أهل الكتاب, وكان هذا < 1-96 > يقتضي اتفاقهم عليها واجتماعهم، فأخبر تعالى أنهم بغى بعضهم على بعض, وحصل النزاع والخصام وكثرة الاختلاف.
فاختلفوا في الكتاب الذي ينبغي أن يكونوا أولى الناس بالاجتماع عليه, وذلك من بعد ما علموه وتيقنوه بالآيات البينات, والأدلة القاطعات, فضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) من هذه الأمة ( لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ) فكل ما اختلف فيه أهل الكتاب, وأخطأوا فيه الحق والصواب, هدى الله للحق فيه هذه الأمة ( بِإِذْنِهِ ) تعالى وتيسيره لهم ورحمته.
( وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) فعمَّ الخلق تعالى بالدعوة إلى الصراط المستقيم, عدلا منه تعالى, وإقامة حجة على الخلق, لئلا يقولوا: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهدى - بفضله ورحمته, وإعانته ولطفه - من شاء من عباده، فهذا فضله وإحسانه, وذاك عدله وحكمته.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم, فهي سنته الجارية, التي لا تتغير ولا تتبدل, أن من قام بدينه وشرعه, لا بد أن يبتليه، فإن صبر على أمر الله, ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله, فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها, ومن السيادة آلتها.
ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله, بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده, فهو الكاذب في دعوى الإيمان، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني, ومجرد الدعاوى, حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه.
فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم ( مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ ) أي: الفقر ( وَالضَّرَّاءُ ) أي: الأمراض في أبدانهم ( وَزُلْزِلُوا ) بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل, والنفي, وأخذ الأموال, وقتل الأحبة, وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال, وآل بهم الزلزال, إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به.
ولكن لشدة الأمر وضيقه قال ( الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ) .
فلما كان الفرج عند الشدة, وكلما ضاق الأمر اتسع، قال تعالى: ( أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن.
فكلما اشتدت عليه وصعبت، إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنة في حقه منحة, والمشقات راحات, وأعقبه ذلك, الانتصار على الأعداء وشفاء ما في قلبه من الداء، وهذه الآية نظير قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وقوله [تعالى:] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فعند الامتحان, يكرم المرء أو يهان.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْ نِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: يسألونك عن النفقة, وهذا يعم السؤال عن المنفق والمنفق عليه، فأجابهم عنهما فقال: ( قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ ) أي: مال قليل أو كثير, فأولى الناس به وأحقهم بالتقديم, أعظمهم حقا عليك, وهم الوالدان الواجب برهما, والمحرم عقوقهما، ومن أعظم برهما, النفقة عليهما, ومن أعظم العقوق, ترك الإنفاق عليهما، ولهذا كانت النفقة عليهما واجبة, على الولد الموسر، ومن بعد الوالدين الأقربون, على اختلاف طبقاتهم, الأقرب فالأقرب, على حسب القرب والحاجة, فالإنفاق عليهم صدقة وصلة، ( وَالْيَتَامَى ) وهم الصغار الذين لا كاسب لهم, فهم في مظنة الحاجة لعدم قيامهم بمصالح أنفسهم, وفقد الكاسب, فوصى الله بهم العباد, رحمة منه بهم ولطفا، ( وَالْمَسَاكِينِ ) وهم أهل الحاجات, وأرباب الضرورات الذين أسكنتهم الحاجة, فينفق عليهم, لدفع حاجاتهم وإغنائهم.
( وَابْنَ السَّبِيلِ ) أي: الغريب المنقطع به في غير بلده, فيعان على سفره بالنفقة, التي توصله إلى مقصده.
ولما خصص الله تعالى هؤلاء الأصناف, لشدة الحاجة, عمم تعالى فقال: ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ) من صدقة على هؤلاء وغيرهم, بل ومن جميع أنواع الطاعات والقربات, لأنها تدخل في اسم الخير، ( فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) فيجازيكم عليه, ويحفظه لكم, كل على حسب نيته وإخلاصه, وكثرة نفقته وقلتها, وشدة الحاجة إليها, وعظم وقعها ونفعها.

ابو وليد البحيرى
2019-01-07, 04:54 PM
الحلقة (34)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(216)الى الأية(220)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذه الآية, فيها فرض القتال في سبيل الله, بعد ما كان المؤمنون مأمورين بتركه, لضعفهم, وعدم احتمالهم لذلك، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, وكثر < 1-97 > المسلمون, وقووا أمرهم الله تعالى بالقتال، وأخبر أنه مكروه للنفوس, لما فيه من التعب والمشقة, وحصول أنواع المخاوف والتعرض للمتالف، ومع هذا, فهو خير محض, لما فيه من الثواب العظيم, والتحرز من العقاب الأليم, والنصر على الأعداء والظفر بالغنائم, وغير ذلك, مما هو مرب, على ما فيه من الكراهة ( وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ) وذلك مثل القعود عن الجهاد لطلب الراحة, فإنه شر, لأنه يعقب الخذلان, وتسلط الأعداء على الإسلام وأهله, وحصول الذل والهوان, وفوات الأجر العظيم وحصول العقاب.
وهذه الآيات عامة مطردة, في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة أنها خير بلا شك، وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شر بلا شك.
وأما أحوال الدنيا, فليس الأمر مطردا, ولكن الغالب على العبد المؤمن, أنه إذا أحب أمرا من الأمور, فقيض الله [له] من الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له, فالأوفق له في ذلك, أن يشكر الله, ويجعل الخير في الواقع, لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه, وأقدر على مصلحة عبده منه, وأعلم بمصلحته منه كما قال [تعالى:] ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره, سواء سرتكم أو ساءتكم.
ولما كان الأمر بالقتال, لو لم يقيد, لشمل الأشهر الحرم وغيرها, استثنى تعالى, القتال في الأشهر الحرم فقال:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم, منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا، وقال بعض المفسرين: إنه لم ينسخ, لأن المطلق محمول على المقيد، وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقا؛ ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم، بل أكبر مزاياها, تحريم القتال فيها, وهذا إنما هو في قتال الابتداء، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم, كما يجوز في البلد الحرام.
ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل, لسرية عبد الله بن جحش, وقتلهم عمرو بن الحضرمي, وأخذهم أموالهم, وكان ذلك - على ما قيل - في شهر رجب، عيرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم, وكانوا في تعييرهم ظالمين, إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين, قال تعالى في بيان ما فيهم: ( وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) أي: صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله, وفتنتهم من آمن به, وسعيهم في ردهم عن دينهم, وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام, والبلد الحرام, الذي هو بمجرده, كاف في الشر، فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام؟! ( وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ ) أي: أهل المسجد الحرام, وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, لأنهم أحق به من المشركين, وهم عماره على الحقيقة, فأخرجوهم ( مِنْهُ ) ولم يمكنوهم من الوصول إليه, مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد، فهذه الأمور كل واحد منها ( أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) في الشهر الحرام, فكيف وقد اجتمعت فيهم؟! فعلم أنهم فسقة ظلمة, في تعييرهم المؤمنين.
ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم, وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم, ويكونوا كفارا بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير، فهم باذلون قدرتهم في ذلك, ساعون بما أمكنهم, ( وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) .
وهذا الوصف عام لكل الكفار, لا يزالون يقاتلون غيرهم, حتى يردوهم عن دينهم، وخصوصا, أهل الكتاب, من اليهود والنصارى, الذين بذلوا الجمعيات, ونشروا الدعاة, وبثوا الأطباء, وبنوا المدارس, لجذب الأمم إلى دينهم, وتدخيلهم عليهم, كل ما يمكنهم من الشبه, التي تشككهم في دينهم.
ولكن المرجو من الله تعالى, الذي مَنّ على المؤمنين بالإسلام, واختار لهم دينه القيم, وأكمل لهم دينه، أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم القيام, وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره, ويجعل كيدهم في نحورهم, وينصر دينه, ويعلي كلمته.
وتكون هذه الآية صادقة على هؤلاء الموجودين من الكفار, كما صدقت على من قبلهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَ هَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن الإسلام, بأن اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات كافرا، ( فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) لعدم وجود شرطها وهو الإسلام، ( وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .
< 1-98 >
ودلت الآية بمفهومها, أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام, أنه يرجع إليه عمله الذي قبل ردته، وكذلك من تاب من المعاصي, فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذه الأعمال الثلاثة, هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية, وبها يعرف ما مع الإنسان, من الربح والخسران، فأما الإيمان, فلا تسأل عن فضيلته, وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة, وأهل الجنة من أهل النار؟ وهو الذي إذا كان مع العبد, قبلت أعمال الخير منه, وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ولا عدل, ولا فرض, ولا نفل.
وأما الهجرة: فهي مفارقة المحبوب المألوف, لرضا الله تعالى، فيترك المهاجر وطنه وأمواله, وأهله, وخلانه, تقربا إلى الله ونصرة لدينه.
وأما الجهاد: فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء, والسعي التام في نصرة دين الله, وقمع دين الشيطان، وهو ذروة الأعمال الصالحة, وجزاؤه, أفضل الجزاء، وهو السبب الأكبر, لتوسيع دائرة الإسلام وخذلان عباد الأصنام, وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم.
فمن قام بهذه الأعمال الثلاثة على لأوائها ومشقتها كان لغيرها أشد قياما به وتكميلا.
فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله, لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة، وفي هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة، وأما الرجاء المقارن للكسل, وعدم القيام بالأسباب, فهذا عجز وتمن وغرور، وهو دال على ضعف همة صاحبه, ونقص عقله, بمنزلة من يرجو وجود ولد بلا نكاح, ووجود الغلة بلا بذر وسقي, ونحو ذلك.
وفي قوله: ( أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ) إشارة إلى أن العبد ولو أتى من الأعمال بما أتى به لا ينبغي له أن يعتمد عليها, ويعول عليها, بل يرجو رحمة ربه, ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه, وستر عيوبه.
ولهذا قال: ( وَاللَّهُ غَفُورٌ ) أي: لمن تاب توبة نصوحا ( رَحِيمٌ ) وسعت رحمته كل شيء, وعم جوده وإحسانه كل حي.
وفي هذا دليل على أن من قام بهذه الأعمال المذكورة, حصل له مغفرة الله, إذ الحسنات يذهبن السيئات وحصلت له رحمة الله.
وإذا حصلت له المغفرة, اندفعت عنه عقوبات الدنيا والآخرة، التي هي آثار الذنوب, التي قد غفرت واضمحلت آثارها، وإذا حصلت له الرحمة, حصل على كل خير في الدنيا والآخرة؛ بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم, فلولا توفيقه إياهم, لم يريدوها, ولولا إقدارهم عليها, لم يقدروا عليها, ولولا إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم، فله الفضل أولا وآخرا, وهو الذي منّ بالسبب والمسبب.
ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا (219) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: يسألك - يا أيها الرسول - المؤمنون عن أحكام الخمر والميسر, وقد كانا مستعملين في الجاهلية وأول الإسلام, فكأنه وقع فيهما إشكال، فلهذا سألوا عن حكمهما، فأمر الله تعالى نبيه, أن يبين لهم منافعهما ومضارهما, ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما, وتحتيم تركهما.
فأخبر أن إثمهما ومضارهما, وما يصدر منهما من ذهاب العقل والمال, والصد عن ذكر الله, وعن الصلاة, والعداوة, والبغضاء - أكبر مما يظنونه من نفعهما, من كسب المال بالتجارة بالخمر, وتحصيله بالقمار والطرب للنفوس, عند تعاطيهما، وكان هذا البيان زاجرا للنفوس عنهما, لأن العاقل يرجح ما ترجحت مصلحته, ويجتنب ما ترجحت مضرته، ولكن لما كانوا قد ألفوهما, وصعب التحتيم بتركهما أول وهلة, قدم هذه الآية, مقدمة للتحريم, الذي ذكره في قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مُنْتَهُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهذا من لطفه ورحمته وحكمته، ولهذا لما نزلت, قال عمر رضي الله عنه: انتهينا انتهينا.
فأما الخمر: فهو كل مسكر خامر العقل وغطاه, من أي نوع كان، وأما الميسر: فهو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين, من النرد, والشطرنج, وكل مغالبة قولية أو فعلية, بعوض http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg سوى مسابقة الخيل, والإبل, والسهام, فإنها مباحة, لكونها معينة على الجهاد, فلهذا رخص فيها الشارع.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ (220) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وهذا سؤال عن مقدار ما ينفقونه من أموالهم، فيسر الله لهم الأمر, وأمرهم أن ينفقوا العفو, وهو المتيسر من أموالهم, الذي لا تتعلق به حاجتهم وضرورتهم، وهذا يرجع إلى < 1-99 > كل أحد بحسبه, من غني وفقير ومتوسط, كل له قدرة على إنفاق ما عفا من ماله, ولو شق تمرة.
ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم, أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وصدقاتهم, ولا يكلفهم ما يشق عليهم. ذلك بأن الله تعالى لم يأمرنا بما أمرنا به حاجة منه لنا, أو تكليفا لنا [بما يشق] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg بل أمرنا بما فيه سعادتنا, وما يسهل علينا, وما به النفع لنا ولإخواننا فيستحق على ذلك أتم الحمد.
ولما بيّن تعالى هذا البيان الشافي, وأطلع العباد على أسرار شرعه قال: ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ ) أي: الدالات على الحق, المحصلات للعلم النافع والفرقان، ( لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) أي: لكي تستعملوا أفكاركم في أسرار شرعه, وتعرفوا أن أوامره, فيها مصالح الدنيا والآخرة، وأيضا لكي تتفكروا في الدنيا وسرعة انقضائها, فترفضوها وفي الآخرة وبقائها, وأنها دار الجزاء فتعمروها.

ابو وليد البحيرى
2019-01-09, 09:17 PM
الحلقة (35)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(220)الى الأية(224)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg
لما نزل قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg شق ذلك على المسلمين, وعزلوا طعامهم عن طعام اليتامى, خوفا على أنفسهم من تناولها, ولو في هذه الحالة التي جرت العادة بالمشاركة فيها, وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأخبرهم تعالى أن المقصود, إصلاح أموال اليتامى, بحفظها وصيانتها, والاتجار فيها وأن خلطتهم إياهم في طعام أو غيره جائز على وجه لا يضر باليتامى, لأنهم إخوانكم, ومن شأن الأخ مخالطة أخيه, والمرجع في ذلك إلى النية والعمل، فمن علم الله من نيته أنه مصلح لليتيم, وليس له طمع في ماله, فلو دخل عليه شيء من غير قصد لم يكن عليه بأس، ومن علم الله من نيته, أن قصده بالمخالطة, التوصل إلى أكلها وتناولها, فذلك الذي حرج وأثم, و " الوسائل لها أحكام المقاصد "
وفي هذه الآية, دليل على جواز أنواع المخالطات, في المآكل والمشارب, والعقود وغيرها, وهذه الرخصة, لطف من الله [تعالى] وإحسان, وتوسعة على المؤمنين، وإلا فـ ( لَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ ) أي: شق عليكم بعدم الرخصة بذلك, فحرجتم. وشق عليكم وأثمتم، ( إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ) أي: له القوة الكاملة, والقهر لكل شيء، ولكنه مع ذلك ( حَكِيمٌ ) لا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته الكاملة وعنايته التامة, فعزته لا تنافي حكمته، فلا يقال: إنه ما شاء فعل, وافق الحكمة أو خالفها، بل يقال: إن أفعاله وكذلك أحكامه, تابعة لحكمته, فلا يخلق شيئا عبثا, بل لا بد له من حكمة, عرفناها, أم لم نعرفها وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة، فلا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة, أو راجحة, ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة, لتمام حكمته ورحمته.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: ( وَلا تَنْكِحُوا ) النساء ( الْمُشْرِكَاتِ ) ما دمن على شركهن ( حَتَّى يُؤْمِنَّ ) لأن المؤمنة ولو بلغت من الدمامة ما بلغت خير من المشركة, ولو بلغت من الحسن ما بلغت, وهذه عامة في جميع النساء المشركات، وخصصتها آية المائدة, في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا ) وهذا عام لا تخصيص فيه.
ثم ذكر تعالى, الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة, لمن خالفهما في الدين فقال: ( أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) أي: في أقوالهم أو أفعالهم وأحوالهم, فمخالطتهم على خطر منهم, والخطر ليس من الأخطار الدنيوية, إنما هو الشقاء الأبدي.
ويستفاد من تعليل الآية, النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع, لأنه إذا لم يجز التزوج مع http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg أن فيه مصالح كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى, وخصوصا, الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم, كالخدمة ونحوها.
وفي قوله: ( وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ ) دليل على اعتبار الولي [في النكاح].
( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ ) أي: يدعو عباده لتحصيل الجنة والمغفرة, التي من آثارها, دفع العقوبات وذلك بالدعوة إلى أسبابها من الأعمال الصالحة, والتوبة النصوح, والعلم النافع, والعمل الصالح.
( وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ ) أي: أحكامه وحكمها ( لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) فيوجب لهم ذلك التذكر لما نسوه, وعلم ما جهلوه, والامتثال لما ضيعوه.
< 1-100 >
ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى عن سؤالهم عن المحيض, وهل تكون المرأة بحالها بعد الحيض, كما كانت قبل ذلك, أم تجتنب مطلقا كما يفعله اليهود؟.
فأخبر تعالى أن الحيض أذى, وإذا كان أذى, فمن الحكمة أن يمنع الله تعالى عباده عن الأذى وحده, ولهذا قال: ( فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ) أي: مكان الحيض, وهو الوطء في الفرج خاصة, فهذا هو المحرم إجماعا، وتخصيص الاعتزال في المحيض, يدل على أن مباشرة الحائض وملامستها, في غير الوطء في الفرج جائز.
لكن قوله: ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) يدل على أن المباشرة فيما قرب من الفرج, وذلك فيما بين السرة والركبة, ينبغي تركه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأته وهي حائض, أمرها أن تتزر, فيباشرها.
وحد هذا الاعتزال وعدم القربان للحُيَّض ( حَتَّى يَطْهُرْنَ ) أي: ينقطع دمهن, فإذا انقطع الدم, زال المنع الموجود وقت جريانه, الذي كان لحله شرطان, انقطاع الدم, والاغتسال منه.
فلما انقطع الدم, زال الشرط الأول وبقي الثاني, فلهذا قال: ( فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ) أي: اغتسلن ( فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ) أي: في القبل لا في الدبر, لأنه محل الحرث.
وفيه دليل على وجوب الاغتسال للحائض, وأن انقطاع الدم, شرط لصحته.
ولما كان هذا المنع لطفا منه تعالى بعباده, وصيانة عن الأذى قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ) أي: من ذنوبهم على الدوام ( وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ ) أي: المتنزهين عن الآثام وهذا يشمل التطهر الحسي من الأنجاس والأحداث.
ففيه مشروعية الطهارة مطلقا, لأن الله يحب المتصف بها, ولهذا كانت الطهارة مطلقا, شرطا لصحة الصلاة والطواف, وجواز مس المصحف، ويشمل التطهر المعنوي عن الأخلاق الرذيلة, والصفات القبيحة, والأفعال الخسيسة.
( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) مقبلة ومدبرة غير أنه لا يكون إلا في القبل, لكونه موضع الحرث, وهو الموضع الذي يكون منه الولد.
وفيه دليل على تحريم الوطء في الدبر, لأن الله لم يبح إتيان المرأة إلا في الموضع الذي منه الحرث، وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك, ولعن فاعله.
( وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ ) أي: من التقرب إلى الله بفعل الخيرات, ومن ذلك أن يباشر الرجل امرأته, ويجامعها على وجه القربة والاحتساب, وعلى رجاء تحصيل الذرية الذين ينفع الله بهم.
( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) أي: في جميع أحوالكم, كونوا ملازمين لتقوى الله, مستعينين بذلك لعلمكم، ( أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ ) ومجازيكم على أعمالكم الصالحة وغيرها.
ثم قال: ( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) لم يذكر المبشر به ليدل على العموم, وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وكل خير واندفاع كل ضير, رتب على الإيمان فهو داخل في هذه البشارة.
وفيها محبة الله للمؤمنين, ومحبة ما يسرهم, واستحباب تنشيطهم وتشويقهم بما أعد الله لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
المقصود من اليمين، والقسم تعظيم المقسم به, وتأكيد المقسم عليه، وكان الله تعالى قد أمر بحفظ الأيمان, وكان مقتضى ذلك حفظها في كل شيء، ولكن الله تعالى استثنى من ذلك إذا كان البر باليمين, يتضمن ترك ما هو أحب إليه، فنهى عباده أن يجعلوا أيمانهم عرضة, أي: مانعة وحائلة عن أن يبروا: أن http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg يفعلوا خيرا, أو يتقوا شرا, أو يصلحوا بين الناس، فمن حلف على ترك واجب وجب حنثه, وحرم إقامته على يمينه، ومن حلف على ترك مستحب, استحب له الحنث، ومن حلف على فعل محرم, وجب الحنث, أو على فعل مكروه استحب الحنث، وأما المباح فينبغي فيه حفظ اليمين عن الحنث.
ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة, أنه " إذا تزاحمت المصالح, قدم أهمها "فهنا تتميم اليمين مصلحة, وامتثال أوامر الله في هذه الأشياء, مصلحة أكبر من ذلك, فقدمت لذلك.
ثم ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال: ( وَاللَّهُ سَمِيعٌ ) أي: لجميع الأصوات ( عَلِيمٌ ) بالمقاصد < 1-101 > والنيات, ومنه سماعه لأقوال الحالفين, وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر، وفي ضمن ذلك التحذير من مجازاته, وأن أعمالكم ونياتكم, قد استقر علمها عنده.

ابو وليد البحيرى
2019-01-09, 09:23 PM
الحلقة (36)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(225)الى الأية(230)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


ثم قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: لا يؤاخذكم بما يجري على ألسنتكم من الأيمان اللاغية, التي يتكلم بها العبد, من غير قصد منه ولا كسب قلب, ولكنها جرت على لسانه كقول الرجل في عرض كلامه: " لا والله "و " بلى والله "وكحلفه على أمر ماض, يظن صدق نفسه، وإنما المؤاخذة على ما قصده القلب.
وفي هذا دليل على اعتبار المقاصد في الأقوال, كما هي معتبرة في الأفعال.
( والله غفور ) لمن تاب إليه, ( حليم ) بمن عصاه, حيث لم يعاجله بالعقوبة, بل حلم عنه وستر, وصفح مع قدرته عليه, وكونه بين يديه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وهذا من الأيمان الخاصة بالزوجة, في أمر خاص وهو حلف الزوج على ترك وطء زوجته مطلقا، أو مقيدا، بأقل من أربعة أشهر أو أكثر.
فمن آلى من زوجته خاصة، فإن كان لدون أربعة أشهر, فهذا مثل سائر الأيمان, إن حنث كفر, وإن أتم يمينه, فلا شيء عليه, وليس لزوجته عليه سبيل, لأنه ملكه أربعة أشهر.
وإن كان أبدا, أو مدة تزيد على أربعة أشهر, ضربت له مدة أربعة أشهر من يمينه, إذا طلبت زوجته ذلك, لأنه حق لها، فإذا تمت أمر بالفيئة وهو الوطء، فإن وطئ, فلا شيء عليه إلا كفارة اليمين، وإن امتنع, أجبر على الطلاق, فإن امتنع, طلق عليه الحاكم.
ولكن الفيئة والرجوع إلى زوجته, أحب إلى الله تعالى, ولهذا قال: ( فَإِنْ فَاءُوا ) أي: رجعوا إلى ما حلفوا على تركه, وهو الوطء. ( فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ) يغفر لهم ما حصل منهم من الحلف, بسبب رجوعهم. ( رَحِيمٌ ) حيث جعل لأيمانهم كفارة وتحلة, ولم يجعلها لازمة لهم غير قابلة للانفكاك, ورحيم بهم أيضا, حيث فاءوا إلى زوجاتهم, وحنوا عليهن ورحموهن.
( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) أي: امتنعوا من الفيئة, فكان ذلك دليلا على رغبتهم عنهن, وعدم إرادتهم لأزواجهم, وهذا لا يكون إلا عزما على الطلاق، فإن حصل هذا الحق الواجب منه مباشرة, وإلا أجبره الحاكم عليه أو قام به.
( فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) فيه وعيد وتهديد, لمن يحلف هذا الحلف, ويقصد بذلك المضارة والمشاقة.
ويستدل بهذه الآية على أن الإيلاء, خاص بالزوجة, لقوله: ( من نسائهم ) وعلى وجوب الوطء في كل أربعة أشهر مرة, لأنه بعد الأربعة, يجبر إما على الوطء, أو على الطلاق, ولا يكون ذلك إلا لتركه واجبا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: النساء اللاتي طلقهن أزواجهن ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ) أي: ينتظرن ويعتددن مدة ( ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) أي: حيض, أو أطهار على اختلاف العلماء في المراد بذلك, مع أن الصحيح أن القرء, الحيض, ولهذه العدةِ عِدّةُ حِكَمٍ، منها: العلم ببراءة الرحم, إذا تكررت عليها ثلاثة الأقراء, علم أنه ليس في رحمها حمل, فلا يفضي إلى اختلاط الأنساب، ولهذا أوجب تعالى عليهن الإخبار عن ( مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ) وحرم عليهن, كتمان ذلك, من حمل أو حيض, لأن كتمان ذلك, يفضي إلى مفاسد كثيرة، فكتمان الحمل, موجب أن تلحقه بغير من هو له, رغبة فيه واستعجالا لانقضاء العدة، فإذا ألحقته بغير أبيه, حصل من قطع الرحم والإرث, واحتجاب محارمه وأقاربه عنه, وربما تزوج ذوات محارمه، وحصل في مقابلة ذلك, إلحاقه بغير أبيه, وثبوت توابع ذلك, من الإرث منه وله, ومن جعل أقارب الملحق به, أقارب له، وفي ذلك من الشر والفساد, ما لا يعلمه إلا رب العباد، ولو لم يكن في ذلك, إلا إقامتها مع من نكاحها باطل في حقه, وفيه الإصرار على الكبيرة العظيمة, وهي الزنا لكفى بذلك شرا.
وأما كتمان الحيض, بأن استعجلت وأخبرت به وهي كاذبة, ففيه من انقطاع حق الزوج عنها, وإباحتها لغيره وما يتفرع عن ذلك من الشر, كما ذكرنا، وإن كذبت وأخبرت بعدم وجود الحيض, لتطول العدة, فتأخذ منه نفقة غير واجبة عليه, بل هي سحت عليها محرمة من جهتين:
من كونها لا تستحقه, ومن كونها نسبته إلى حكم الشرع وهي كاذبة, وربما راجعها بعد انقضاء العدة, فيكون ذلك سفاحا, لكونها أجنبية عنه, فلهذا قال تعالى: ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) .
< 1-102 >
فصدور الكتمان منهن دليل على عدم إيمانهن بالله واليوم الآخر, وإلا فلو آمنّ بالله واليوم الآخر, وعرفن أنهن مجزيات عن أعمالهن, لم يصدر منهن شيء من ذلك.
وفي ذلك دليل على قبول خبر المرأة, عما تخبر به عن نفسها, من الأمر الذي لا يطلع عليه غيرها, كالحيض والحمل ونحوه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
ثم قال تعالى: ( وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ ) أي: لأزواجهن ما دامت متربصة في تلك العدة, أن يردوهن إلى نكاحهن ( إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا ) أي: رغبة وألفة ومودة.
ومفهوم الآية أنهم إن لم يريدوا الإصلاح, فليسوا بأحق بردهن, فلا يحل لهم أن يراجعوهن, لقصد المضارة لها, وتطويل العدة عليها، وهل يملك ذلك, مع هذا القصد؟ فيه قولان.
الجمهور على أنه يملك ذلك, مع التحريم, والصحيح أنه إذا لم يرد الإصلاح, لا يملك ذلك, كما هو ظاهر الآية الكريمة, وهذه حكمة أخرى في هذا التربص، وهي: أنه ربما أن زوجها ندم على فراقه لها, فجعلت له هذه المدة, ليتروى بها ويقطع نظره.
وهذا يدل على محبته تعالى, للألفة بين الزوجين, وكراهته للفراق, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أبغض الحلال إلى الله الطلاق "وهذا خاص في الطلاق الرجعي، وأما الطلاق البائن, فليس البعل بأحق برجعتها، بل إن تراضيا على التراجع, فلا بد من عقد جديد مجتمع الشروط.
ثم قال تعالى: ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) أي: وللنساء على بعولتهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لأزواجهن من الحقوق اللازمة والمستحبة.
ومرجع الحقوق بين الزوجين يرجع إلى المعروف, وهو: العادة الجارية في ذلك البلد وذلك الزمان من مثلها لمثله، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة, والأحوال, والأشخاص والعوائد.
وفي هذا دليل على أن النفقة والكسوة, والمعاشرة, والمسكن, وكذلك الوطء - الكل يرجع إلى المعروف، فهذا موجب العقد المطلق.
وأما مع الشرط, فعلى شرطهما, إلا شرطا أحل حراما, أو حرم حلالا.
( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) أي: رفعة ورياسة, وزيادة حق عليها, كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ومنصب النبوة والقضاء, والإمامة الصغرى والكبرى, وسائر الولايات مختص بالرجال، وله ضعفا ما لها في كثير من الأمور, كالميراث ونحوه.
( وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) أي: له العزة القاهرة والسلطان العظيم, الذي دانت له جميع الأشياء, ولكنه مع عزته حكيم في تصرفه.
ويخرج من عموم هذه الآية, الحوامل, فعدتهن وضع الحمل، واللاتي لم يدخل بهن, فليس لهن عدة، والإماء, فعدتهن حيضتان, كما هو قول الصحابة رضي الله عنهم، وسياق الآيات http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg يدل على أن المراد بها الحرة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
كان الطلاق في الجاهلية, واستمر أول الإسلام, يطلق الرجل زوجته بلا نهاية، فكان إذا أراد مضارتها, طلقها, فإذا شارفت انقضاء عدتها, راجعها, ثم طلقها وصنع بها مثل ذلك أبدا, فيحصل عليها من الضرر ما الله به عليم، فأخبر تعالى أن ( الطَّلاقَ ) أي: الذي تحصل به الرجعة ( مَرَّتَانِ ) ليتمكن الزوج إن لم يرد المضارة من ارتجاعها, ويراجع رأيه في هذه المدة، وأما ما فوقها, فليس محلا لذلك, لأن من زاد على الثنتين, فإما متجرئ على المحرم, أو ليس له رغبة في إمساكها, بل قصده المضارة، فلهذا أمر تعالى الزوج, أن يمسك زوجته ( بِمَعْرُوفٍ ) أي: عشرة حسنة, ويجري مجرى أمثاله مع زوجاتهم, وهذا هو الأرجح, وإلا يسرحها ويفارقها ( بِإِحْسَانٍ ) ومن الإحسان, أن لا يأخذ على فراقه لها شيئا من مالها, لأنه ظلم, وأخذ للمال في غير مقابلة بشيء, فلهذا قال: ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ) وهي المخالعة بالمعروف, بأن كرهت الزوجة زوجها, لخلقه أو خلقه أو نقص دينه, وخافت أن لا تطيع الله فيه، ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) لأنه عوض لتحصيل مقصودها من الفرقة، وفي هذا مشروعية الخلع, إذا وجدت هذه الحكمة.
( تِلْكَ ) أي ما تقدم من الأحكام الشرعية ( حُدُودُ اللَّهِ ) أي: أحكامه التي شرعها لكم, وأمر بالوقوف معها، ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) وأي ظلم أعظم ممن اقتحم الحلال, وتعدى منه إلى الحرام, فلم يسعه ما أحل الله؟
والظلم ثلاثة أقسام:
ظلم العبد فيما بينه وبين الله, وظلم العبد الأكبر الذي هو الشرك, وظلم العبد فيما بينه وبين الخلق، فالشرك لا يغفره الله إلا بالتوبة, وحقوق العباد, لا يترك الله منها شيئا، والظلم الذي بين العبد وربه فيما دون الشرك, تحت المشيئة والحكمة.
< 1-103 >
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يقول تعالى: ( فَإِنْ طَلَّقَهَا ) أي: الطلقة الثالثة ( فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) أي: نكاحا صحيحا ويطؤها, لأن النكاح الشرعي لا يكون إلا صحيحا, ويدخل فيه العقد والوطء, وهذا بالاتفاق.
ويشترط http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg أن يكون نكاح الثاني, نكاح رغبة، فإن قصد به تحليلها للأول, فليس بنكاح, ولا يفيد التحليل، ولا يفيد وطء السيد, لأنه ليس بزوج، فإذا تزوجها الثاني راغبا ووطئها, ثم فارقها وانقضت عدتها ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ) أي: على الزوج الأول والزوجة ( أَنْ يَتَرَاجَعَا ) أي: يجددا عقدا جديدا بينهما, لإضافته التراجع إليهما, فدل على اعتبار التراضي.
ولكن يشترط في التراجع أن يظنا ( أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ) بأن يقوم كل منهما, بحق صاحبه، وذلك إذا ندما على عشرتهما السابقة الموجبة للفراق, وعزما أن يبدلاها بعشرة حسنة, فهنا لا جناح عليهما في التراجع.
ومفهوم الآية الكريمة, أنهما إن لم يظنا أن يقيما حدود الله, بأن غلب على ظنهما أن الحال السابقة باقية, والعشرة السيئة غير زائلة أن عليهما في ذلك جناحا, لأن جميع الأمور, إن لم يقم فيها أمر الله, ويسلك بها طاعته, لم يحل الإقدام عليها.
وفي هذا دلالة على أنه ينبغي للإنسان, إذا أراد أن يدخل في أمر من الأمور, خصوصا الولايات, الصغار, والكبار, نظر في نفسه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ، فإن رأى من نفسه قوة على ذلك, ووثق بها, أقدم, وإلا أحجم.
ولما بين تعالى هذه الأحكام العظيمة قال: ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ) أي: شرائعه التي حددها وبينها ووضحها.
( يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) لأنهم هم المنتفعون بها, النافعون لغيرهم.
وفي هذا من فضيلة أهل العلم, ما لا يخفى, لأن الله تعالى جعل تبيينه لحدوده, خاصا بهم, وأنهم المقصودون بذلك، وفيه أن الله تعالى يحب من عباده, معرفة حدود ما أنزل على رسوله والتفقه بها.

ابو وليد البحيرى
2019-01-13, 01:38 PM
الحلقة (37)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(231)الى الأية(233)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنّ َ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ثم قال تعالى: ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ) أي: طلاقا رجعيا بواحدة أو ثنتين.
( فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ) أي: قاربن انقضاء عدتهن.
( فَأَمْسِكُوهُنّ َ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) أي: إما أن تراجعوهن, ونيتكم القيام بحقوقهن, أو تتركوهن بلا رجعة ولا إضرار, ولهذا قال: ( وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا ) أي: مضارة بهن ( لِتَعْتَدُوا ) في فعلكم هذا الحلال, إلى الحرام، فالحلال: الإمساك بمعروف http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg والحرام: المضارة، ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) ولو كان الحق يعود للمخلوق فالضرر عائد إلى من أراد الضرار.
( وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ) لما بين تعالى حدوده غاية التبيين, وكان المقصود, العلم بها والعمل, والوقوف معها, وعدم مجاوزتها, لأنه تعالى لم ينزلها عبثا, بل أنزلها بالحق والصدق والجد, نهى عن اتخاذها هزوا, أي: لعبا بها, وهو التجرؤ عليها, وعدم الامتثال لواجبها، مثل استعمال المضارة في الإمساك, أو الفراق, أو كثرة الطلاق, أو جمع الثلاث، والله من رحمته جعل له واحدة بعد واحدة, رفقا به وسعيا في مصلحته.
( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) عموما باللسان ثناء وحمدا، وبالقلب اعترافا وإقرارا, وبالأركان بصرفها في طاعة الله، ( وَمَا أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ) أي: السنة اللذين بيّن لكم بهما طرق الخير ورغبكم فيها, وطرق الشر وحذركم إياها, وعرفكم نفسه ووقائعه في أوليائه وأعدائه, وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
وقيل: المراد بالحكمة أسرار الشريعة, فالكتاب فيه, الحكم، والحكمة فيها, بيان حكمة الله في أوامره ونواهيه، وكلا المعنيين صحيح، ولهذا قال ( يَعِظُكُمْ بِهِ ) أي: بما أنزل عليكم, وهذا مما يقوي أن المراد بالحكمة, أسرار الشريعة, لأن الموعظة ببيان الحكم والحكمة, والترغيب, أو الترهيب, فالحكم به, يزول الجهل، والحكمة مع الترغيب, يوجب الرغبة، والحكمة مع الترهيب يوجب الرهبة.
( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) في جميع أموركم ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) فلهذا بيّن لكم هذه الأحكام بغاية الإحكام والإتقان التي هي جارية مع المصالح في كل زمان ومكان, [فله الحمد والمنة].
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذا خطاب لأولياء المرأة المطلقة دون الثلاث إذا خرجت من العدة, وأراد زوجها أن ينكحها, ورضيت بذلك, فلا يجوز لوليها, من أب وغيره; أن يعضلها; أي: يمنعها من التزوج به حنقا عليه; وغضبا; واشمئزازا لما فعل من الطلاق الأول.
وذكر أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإيمانه يمنعه من العضل، فإن ذلك أزكى لكم وأطهر وأطيب مما يظن < 1-104 > الولي أن عدم تزويجه هو الرأي: واللائق وأنه يقابل بطلاقه الأول بعدم التزويج له http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg كما هو عادة المترفعين المتكبرين.
فإن كان يظن أن المصلحة في عدم تزويجه, فالله ( يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فامتثلوا أمر من هو عالم بمصالحكم, مريد لها, قادر عليها, ميسر لها من الوجه الذي تعرفون وغيره.
وفي هذه الآية, دليل على أنه لا بد من الولي في النكاح, لأنه نهى الأولياء عن العضل, ولا ينهاهم إلا عن أمر, هو تحت تدبيرهم ولهم فيه حق.
ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذا خبر بمعنى الأمر, تنزيلا له منزلة المتقرر, الذي لا يحتاج إلى أمر بأن ( يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ ) .
ولما كان الحول, يطلق على الكامل, وعلى معظم الحول قال: ( كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) فإذا تم للرضيع حولان, فقد تم رضاعه وصار اللبن بعد ذلك, بمنزلة سائر الأغذية, فلهذا كان الرضاع بعد الحولين, غير معتبر, لا يحرم.
ويؤخذ من هذا النص, ومن قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أن أقل مدة الحمل ستة أشهر, وأنه يمكن وجود الولد بها.
( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ) أي: الأب ( رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) وهذا شامل لما إذا كانت في حباله أو مطلقة, فإن على الأب رزقها, أي: نفقتها وكسوتها, وهي الأجرة للرضاع.
ودل هذا, على أنها إذا كانت في حباله, لا يجب لها أجرة, غير النفقة والكسوة, وكل بحسب حاله, فلهذا قال: ( لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا ) فلا يكلف الفقير أن ينفق نفقة الغني, ولا من لم يجد شيئا بالنفقة حتى يجد، ( لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ) أي: لا يحل أن تضار الوالدة بسبب ولدها, إما أن تمنع من إرضاعه, أو لا تعطى ما يجب لها من النفقة, والكسوة أو الأجرة، ( وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ) بأن تمتنع من إرضاعه على وجه المضارة له, أو تطلب زيادة عن الواجب, ونحو ذلك من أنواع الضرر.
ودل قوله: ( مَوْلُودٌ لَهُ ) أن الولد لأبيه, لأنه موهوب له, ولأنه من كسبه، فلذلك جاز له الأخذ من ماله, رضي أو لم يرض, بخلاف الأم.
وقوله: ( وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ) أي: على وارث الطفل إذا عدم الأب, وكان الطفل ليس له مال, مثل ما على الأب من النفقة للمرضع والكسوة، فدل على وجوب نفقة الأقارب المعسرين, على القريب الوارث الموسر، ( فَإِنْ أَرَادَا ) أي: الأبوان ( فِصَالا ) أي: فطام الصبي قبل الحولين، ( عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا ) بأن يكونا راضيين ( وَتَشَاوُرٍ ) فيما بينهما, هل هو مصلحة للصبي أم لا؟ فإن كان مصلحة ورضيا ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ) في فطامه قبل الحولين، فدلت الآية بمفهومها, على أنه إن رضي أحدهما دون الآخر, أو لم يكن مصلحة للطفل, أنه لا يجوز فطامه.
وقوله: ( وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ ) أي: تطلبوا لهم المراضع غير أمهاتهم على غير وجه المضارة ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ) أي: للمرضعات, ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) فمجازيكم على ذلك بالخير والشر.

ابو وليد البحيرى
2019-01-13, 01:43 PM
الحلقة (38)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(234)الى الأية(237)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

أي: إذا توفي الزوج, مكثت زوجته, متربصة أربعة أشهر وعشرة أيام وجوبا، والحكمة في ذلك, ليتبين الحمل في مدة الأربعة, ويتحرك في ابتدائه في الشهر الخامس، وهذا العام مخصوص بالحوامل, فإن عدتهن بوضع الحمل، وكذلك الأمة, عدتها على النصف من عدة الحرة, شهران وخمسة أيام.
وقوله: ( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ) أي: انقضت عدتهن ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ ) أي: من مراجعتها للزينة والطيب، ( بِالْمَعْرُوفِ ) أي: على وجه غير محرم ولا مكروه.
وفي هذا وجوب الإحداد مدة العدة, على المتوفى عنها زوجها, دون غيرها من المطلقات والمفارقات, وهو مجمع عليه بين العلماء.
( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أي: عالم بأعمالكم, ظاهرها وباطنها, جليلها وخفيها, فمجازيكم عليها.
وفي خطابه للأولياء بقوله: ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ ) < 1-105 > دليل على أن الولي ينظر على المرأة, ويمنعها مما لا يجوز فعله ويجبرها على ما يجب, وأنه مخاطب بذلك, واجب عليه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

هذا حكم المعتدة من وفاة, أو المبانة في الحياة، فيحرم على غير مبينها أن يصرح لها في الخطبة, وهو المراد بقوله: ( وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا ) وأما التعريض, فقد أسقط تعالى فيه الجناح.
والفرق بينهما: أن التصريح, لا يحتمل غير النكاح, فلهذا حرم, خوفا من استعجالها, وكذبها في انقضاء عدتها, رغبة في النكاح، ففيه دلالة على منع وسائل المحرم, وقضاء لحق زوجها الأول, بعدم مواعدتها لغيره مدة عدتها.
وأما التعريض, وهو الذي يحتمل النكاح وغيره, فهو جائز للبائن كأن يقول لها: إني أريد التزوج, وإني أحب أن تشاوريني عند انقضاء عدتك, ونحو ذلك, فهذا جائز لأنه ليس بمنزلة الصريح, وفي النفوس داع قوي إليه.
وكذلك إضمار الإنسان في نفسه أن يتزوج من هي في عدتها, إذا انقضت، ولهذا قال: ( أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ ) هذا التفصيل كله في مقدمات العقد.
وأما عقد النكاح فلا يحل ( حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) أي: تنقضي العدة.
( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ) أي: فانووا الخير, ولا تنووا الشر, خوفا من عقابه ورجاء لثوابه.
( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ) لمن صدرت منه الذنوب, فتاب منها, ورجع إلى ربه ( حَلِيمٌ ) حيث لم يعاجل العاصين على معاصيهم, مع قدرته عليهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

أي: ليس عليكم يا معشر الأزواج جناح وإثم, بتطليق النساء قبل المسيس, وفرض المهر, وإن كان في ذلك كسر لها, فإنه ينجبر بالمتعة، فعليكم أن تمتعوهن بأن تعطوهن شيئا من المال, جبرا لخواطرهن. ( عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ ) أي: المعسر ( قَدَرُهُ ) .
وهذا يرجع إلى العرف, وأنه يختلف باختلاف الأحوال ولهذا قال: ( مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ) فهذا حق واجب ( عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) ليس لهم أن يبخسوهن.
فكما تسببوا لتشوفهن واشتياقهن, وتعلق قلوبهن, ثم لم يعطوهن ما رغبن فيه, فعليهم في مقابلة ذلك المتعة.
فلله ما أحسن هذا الحكم الإلهي, وأدله على حكمة شارعه ورحمته" ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟" فهذا حكم المطلقات قبل المسيس وقبل فرض المهر.
ثم ذكر حكم المفروض لهن فقال:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

أي: إذا طلقتم النساء قبل المسيس, وبعد فرض المهر, فللمطلقات من المهر المفروض نصفه, ولكم نصفه.
هذا هو الواجب ما لم يدخله عفو ومسامحة, بأن تعفو عن نصفها لزوجها, إذا كان يصح عفوها, ( أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ) وهو الزوج على الصحيح http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg لأنه الذي بيده حل عقدته؛ ولأن الولي لا يصح أن يعفو عن ما وجب للمرأة, لكونه غير مالك ولا وكيل.
ثم رغب في العفو, وأن من عفا, كان أقرب لتقواه, لكونه إحسانا موجبا لشرح الصدر, ولكون الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف, وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة, لأن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين: إما عدل وإنصاف واجب, وهو: أخذ الواجب, وإعطاء الواجب. وإما فضل وإحسان, وهو إعطاء ما ليس بواجب والتسامح في الحقوق, والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة, ولو في بعض الأوقات, وخصوصا لمن بينك وبينه معاملة, أو مخالطة, فإن الله مجاز المحسنين بالفضل < 1-106 > والكرم، ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

ابو وليد البحيرى
2019-01-15, 05:49 PM
الحلقة (39)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(238)الى الأية(245)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية

ثم قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يأمر بالمحافظة على الصلوات عمومًا وعلى الصلاة الوسطى، وهي العصر خصوصًا، والمحافظة عليها أداؤها بوقتها وشروطها وأركانها وخشوعها وجميع ما لها من واجب ومستحب، وبالمحافظة على الصلوات تحصل المحافظة على سائر العبادات، وتفيد النهي عن الفحشاء والمنكر خصوصًا إذا أكملها كما أمر بقوله ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) أي: ذليلين خاشعين، ففيه الأمر بالقيام والقنوت والنهي عن الكلام، والأمر بالخشوع، هذا مع الأمن والطمأنينة.
( فَإِنْ خِفْتُمْ ) http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg لم يذكر ما يخاف منه ليشمل الخوف من كافر وظالم وسبع، وغير ذلك من أنواع المخاوف، أي: إن خفتم بصلاتكم على تلك الصفة فصلوها ( رِجَالا ) أي: ماشين على أقدامكم، ( أَوْ رُكْبَانًا ) على الخيل والإبل وغيرها، ويلزم على ذلك أن يكونوا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وفي هذا زيادة التأكيد على المحافظة على وقتها حيث أمر بذلك ولو مع الإخلال بكثير من الأركان والشروط، وأنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها ولو في هذه الحالة الشديدة، فصلاتها على تلك الصورة أحسن وأفضل بل أوجب من صلاتها مطمئنا خارج الوقت ( فَإِذَا أَمِنْتُمْ ) أي: زال الخوف عنكم ( فَاذْكُرُوا اللَّهَ ) وهذا يشمل جميع أنواع الذكر ومنه الصلاة على كمالها وتمامها ( كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ) فإنها نعمة عظيمة ومنة جسيمة، تقتضي مقابلتها بالذكر والشكر ليبقي نعمته عليكم ويزيدكم عليها.
ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: الأزواج الذين يموتون ويتركون خلفهم أزواجا فعليهم أن يوصوا ( وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ) أي: يوصون أن يلزمن بيوتهم مدة سنة لا يخرجن منها ( فإن خرجن ) من أنفسهن ( فلا جناح عليكم ) أيها الأولياء ( في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم ) أي: من مراجعة الزينة والطيب ونحو ذلك وأكثر المفسرين أن هذه الآية منسوخة بما قبلها وهي قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وقيل لم تنسخها بل الآية الأولى دلت على أن أربعة أشهر وعشر واجبة، وما زاد على ذلك فهي مستحبة ينبغي فعلها تكميلا لحق الزوج، ومراعاة للزوجة، والدليل على أن ذلك مستحب أنه هنا نفى الجناح عن الأولياء إن خرجن قبل تكميل الحول، فلو كان لزوم المسكن واجبا لم ينف الحرج عنهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلِلْمُطَلَّقَ اتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على كل متق، جبرا لخاطرها وأداء لبعض حقوقها، وهذه المتعة واجبة على من طلقت قبل المسيس، والفرض سنة في حق غيرها كما تقدم، هذا أحسن ما قيل فيها، وقيل إن المتعة واجبة على كل مطلقة احتجاجا بعموم هذه الآية، ولكن القاعدة أن المطلق محمول على المقيّد، وتقدم أن الله فرض المتعة للمطلقة قبل الفرض والمسيس خاصة.
ولما بيّن تعالى هذه الأحكام العظيمة المشتملة على الحكمة والرحمة امتن بها على عباده فقال: ( كذلك يبين الله لكم آياته ) أي: حدوده، وحلاله وحرامه والأحكام النافعة لكم، لعلكم تعقلونها فتعرفونها وتعرفون المقصود منها، فإن من عرف ذلك أوجب له العمل بها.
ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يقص تعالى علينا قصة الذين خرجوا من ديارهم على كثرتهم واتفاق مقاصدهم، بأن الذي أخرجهم منها حذر الموت من وباء أو غيره، يقصدون بهذا الخروج السلامة من الموت، ولكن لا يغني حذر عن قدر، ( فقال لهم الله موتوا ) فماتوا ( ثم ) إن الله تعالى ( أحياهم ) إما بدعوة نبي أو بغير ذلك، رحمة بهم ولطفا وحلما، وبيانا لآياته لخلقه بإحياء الموتى، ولهذا قال: ( إن الله لذو فضل ) < 1-107 > أي: عظيم ( على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون ) فلا تزيدهم النعمة شكرا، بل ربما استعانوا بنعم الله على معاصيه، وقليل منهم الشكور الذي يعرف النعمة ويقر بها ويصرفها في طاعة المنعم.
ثم أمر تعالى بالقتال في سبيله، وهو قتال الأعداء الكفار لإعلاء كلمة الله ونصر دينه، فقال: ( وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ) أي: فأحسنوا نياتكم واقصدوا بذلك وجه الله، واعلموا أنه لا يفيدكم القعود عن القتال شيئا، ولو ظننتم أن في القعود حياتكم وبقاءكم، فليس الأمر كذلك، ولهذا ذكر القصة السابقة توطئة لهذا الأمر، فكما لم ينفع الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت خروجهم، بل أتاهم ما حذروا من غير أن يحتسبوا، فاعلموا أنكم كذلك.
ولما كان القتال في سبيل الله لا يتم إلا بالنفقة وبذل الأموال في ذلك، أمر تعالى بالإنفاق في سبيله ورغب فيه، وسماه قرضا فقال: ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) فينفق ما تيسر من أمواله في طرق الخيرات، خصوصا في الجهاد، والحسن هو الحلال المقصود به وجه الله تعالى، ( فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، بحسب حالة المنفق، ونيته ونفع نفقته والحاجة إليها، ولما كان الإنسان ربما توهم أنه إذا أنفق افتقر دفع تعالى هذا الوهم بقوله: ( والله يقبض ويبسط ) أي: يوسع الرزق على من يشاء ويقبضه عمن يشاء، فالتصرف كله بيديه ومدار الأمور راجع إليه، فالإمساك لا يبسط الرزق، والإنفاق لا يقبضه، ومع ذلك فالإنفاق غير ضائع على أهله، بل لهم يوم يجدون ما قدموه كاملا موفرا مضاعفا، فلهذا قال: ( وإليه ترجعون ) فيجازيكم بأعمالكم.
ففي هذه الآيات دليل على أن الأسباب لا تنفع مع القضاء والقدر، وخصوصا الأسباب التي تترك بها أوامر الله. وفيها: الآية العظيمة بإحياء الموتى أعيانا في هذه الدار. وفيها: الأمر بالقتال والنفقة في سبيل الله، وذكر الأسباب الداعية لذلك الحاثة عليه، من تسميته قرضا، ومضاعفته، وأن الله يقبض ويبسط وإليه ترجعون.

ابو وليد البحيرى
2019-01-15, 05:53 PM
الحلقة (40)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(246)الى الأية(248)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يقص تعالى على نبيه قصة الملأ من بني إسرائيل وهم الأشراف والرؤساء، وخص الملأ بالذكر، لأنهم في العادة هم الذين يبحثون عن مصالحهم ليتفقوا فيتبعهم غيرهم على ما يرونه، وذلك أنهم أتوا إلى نبي لهم بعد موسى عليه السلام فقالوا له ( ابعث لنا ملكا ) أي: عيِّن لنا ملكا ( نقاتل في سبيل الله ) ليجتمع متفرقنا ويقاوم بنا عدونا، ولعلهم في ذلك الوقت ليس لهم رئيس يجمعهم، كما جرت عادة القبائل أصحاب البيوت، كل بيت لا يرضى أن يكون من البيت الآخر رئيس، فالتمسوا من نبيهم تعيين ملك يرضي الطرفين ويكون تعيينه خاصا لعوائدهم، وكانت أنبياء بني إسرائيل تسوسهم، كلما مات نبي خلفه نبي آخر، فلما قالوا لنبيهم تلك المقالة ( قال ) لهم نبيهم ( هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ) أي: لعلكم تطلبون شيئا وهو إذا كتب عليكم لا تقومون به، فعرض عليهم العافية فلم يقبلوها، واعتمدوا على عزمهم ونيتهم، فقالوا: ( وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ) أي: أي شيء يمنعنا من القتال وقد ألجأنا إليه، بأن أخرجنا من أوطاننا وسبيت ذرارينا، فهذا موجب لكوننا نقاتل ولو لم يكتب علينا، فكيف مع أنه فرض علينا وقد حصل ما حصل، ولهذا لما لم تكن نياتهم حسنة ولم يقوَ توكلهم على ربهم ( فلما كتب عليهم القتال تولوا ) فجبنوا عن قتال الأعداء وضعفوا عن المصادمة، وزال ما كانوا عزموا عليه، واستولى على أكثرهم الخور والجبن ( إلا قليلا منهم ) فعصمهم الله وثبتهم وقوى قلوبهم فالتزموا أمر الله ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه، فحازوا شرف الدنيا والآخرة، وأما أكثرهم فظلموا أنفسهم وتركوا أمر الله، فلهذا قال: ( والله عليم بالظالمين وقال لهم نبيهم ) مجيبا لطلبهم ( إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ) فكان هذا تعيينا من الله الواجب عليهم فيه القبول والانقياد وترك الاعتراض، ولكن أبوا إلا أن يعترضوا، فقالوا: ( أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال ) أي: كيف يكون ملكا وهو دوننا في الشرف والنسب ونحن أحق بالملك منه. ومع هذا فهو < 1-108 > فقير ليس عنده ما يقوم به الملك من الأموال، وهذا بناء منهم على ظن فاسد، وهو أن الملك ونحوه من الولايات مستلزم لشرف النسب وكثرة المال، ولم يعلموا أن الصفات الحقيقية التي توجب التقديم مقدمة عليها، فلهذا قال لهم نبيهم: ( إن الله اصطفاه عليكم ) فلزمكم الانقياد لذلك ( وزاده بسطة في العلم والجسم ) أي: فضله عليكم بالعلم والجسم، أي: بقوة الرأي والجسم اللذين بهما تتم أمور الملك، لأنه إذا تم رأيه وقوي على تنفيذ ما يقتضيه الرأي المصيب، حصل بذلك الكمال، ومتى فاته واحد من الأمرين اختل عليه الأمر، فلو كان قوي البدن مع ضعف الرأي، حصل في الملك خرق وقهر ومخالفة للمشروع، قوة على غير حكمة، ولو كان عالما بالأمور وليس له قوة على تنفيذها لم يفده الرأي الذي لا ينفذه شيئا ( والله واسع ) الفضل كثير الكرم، لا يخص برحمته وبره العام أحدا عن أحد، ولا شريفا عن وضيع، ولكنه مع ذلك ( عليم ) بمن يستحق الفضل فيضعه فيه، فأزال بهذا الكلام ما في قلوبهم من كل ريب وشك وشبهة لتبيينه أن أسباب الملك متوفرة فيه، وأن فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، ليس له راد، ولا لإحسانه صاد.
ثم ذكر لهم نبيهم أيضا آية حسية يشاهدونها وهي إتيان التابوت الذي قد فقدوه زمانا طويلا وفي ذلك التابوت سكينة تسكن بها قلوبهم، وتطمئن لها خواطرهم، وفيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، فأتت به الملائكة حاملة له وهم يرونه عيانا.

ابو وليد البحيرى
2019-01-17, 06:00 PM
الحلقة (41)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(249)الى الأية(252)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: لما تملَّك طالوت ببني إسرائيل واستقر له الملك تجهزوا لقتال عدوهم، فلما فصل طالوت بجنود بني إسرائيل وكانوا عددا كثيرا وجما غفيرا، امتحنهم بأمر الله ليتبين الثابت المطمئن ممن ليس كذلك فقال: ( إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ) فهو عاص ولا يتبعنا لعدم صبره وثباته ولمعصيته ( ومن لم يطعمه ) أي: لم يشرب منه فإنه مني ( إلا من اغترف غرفة بيده ) فلا جناح عليه في ذلك، ولعل الله أن يجعل فيها بركة فتكفيه، وفي هذا الابتلاء ما يدل على أن الماء قد قل عليهم ليتحقق الامتحان، فعصى أكثرهم وشربوا من النهر الشرب المنهي عنه، ورجعوا على أعقابهم ونكصوا عن قتال عدوهم وكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي سيتطاول وتحصل فيه المشقة الكبيرة، وكان في رجوعهم عن باقي العسكر ما يزداد به الثابتون توكلا على الله، وتضرعا واستكانة وتبرؤا من حولهم وقوتهم، وزيادة صبر لقلتهم وكثرة عدوهم، فلهذا قال تعالى: ( فلما جاوزه ) أي: النهر ( هو ) أي: طالوت ( والذين آمنوا معه ) وهم الذين أطاعوا أمر الله ولم يشربوا من النهر الشرب المنهي عنه فرأوا... قلتهم وكثرة أعدائهم، قالوا أي: قال كثير منهم ( لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ) لكثرتهم وعَددهم وعُددهم ( قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله ) أي: يستيقنون ذلك، وهم أهل الإيمان الثابت واليقين الراسخ، مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم، وآمرين لهم بالصبر ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) أي: بإرادته ومشيئته فالأمر لله تعالى، والعزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، فلا تغني الكثرة مع خذلانه، ولا تضر القلة مع نصره، ( والله مع الصابرين ) بالنصر والمعونة والتوفيق، فأعظم جالب لمعونة الله صبر العبد لله، فوقعت موعظته في قلوبهم وأثرت معهم.
ولهذا لما برزوا لجالوت وجنوده ( قالوا ) جميعهم ( ربنا أفرغ علينا صبرا ) أي: قو قلوبنا، وأوزعنا الصبر، وثبت أقدامنا عن التزلزل والفرار، وانصرنا على القوم الكافرين.
من هاهنا نعلم أن جالوت وجنوده كانوا كفارا، فاستجاب الله لهم ذلك الدعاء لإتيانهم بالأسباب الموجبة لذلك، ونصرهم عليهم ( فهزموهم بإذن الله وقتل داود ) عليه السلام، وكان مع جنود طالوت، ( جالوت ) أي: باشر قتل ملك الكفار بيده لشجاعته وقوته وصبره ( وآتاه الله ) أي: آتى الله داود ( الملك والحكمة ) أي: منَّ عليه بتملكه على بني إسرائيل مع الحكمة، وهي النبوة المشتملة على الشرع العظيم والصراط المستقيم، ولهذا قال ( وعلمه مما يشاء ) من العلوم الشرعية والعلوم السياسية، فجمع الله له الملك والنبوة، وقد كان من قبله من الأنبياء يكون الملك < 1-109 > لغيرهم، فلما نصرهم الله تعالى اطمأنوا في ديارهم وعبدوا الله آمنين مطمئنين لخذلان أعدائهم وتمكينهم من الأرض، وهذا كله من آثار الجهاد في سبيله، فلو لم يكن لم يحصل ذلك فلهذا قال تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) أي: لولا أنه يدفع بمن يقاتل في سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار لفسدت الأرض باستيلاء الكفار عليها وإقامتهم شعائر الكفر ومنعهم من عبادة الله تعالى، وإظهار دينه ( ولكن الله ذو فضل على العالمين ) حيث شرع لهم الجهاد الذي فيه سعادتهم والمدافعة عنهم ومكنهم من الأرض بأسباب يعلمونها، وأسباب لا يعلمونها.
ثم قال تعالى: ( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ) أي: بالصدق الذي لا ريب فيها المتضمن للاعتبار والاستبصار وبيان حقائق الأمور ( وإنك لمن المرسلين ) فهذه شهادة من الله لرسوله برسالته التي من جملة أدلتها ما قصه الله عليه من أخبار الأمم السالفين والأنبياء وأتباعهم وأعدائهم التي لولا خبر الله إياه لما كان عنده بذلك علم بل لم يكن في قومه من عنده شيء من هذه الأمور، فدل أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا الذي بعثه بالحق ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وفي هذه القصة من الآيات والعبر ما يتذكر به أولو الألباب، فمنها: أن اجتماع أهل الكلمة والحل والعقد وبحثهم في الطريق الذي تستقيم به أمورهم وفهمه، ثم العمل به، أكبر سبب لارتقائهم وحصول مقصودهم، كما وقع لهؤلاء الملأ حين راجعوا نبيهم في تعيين ملك تجتمع به كلمتهم ويلم متفرقهم، وتحصل له الطاعة منهم، ومنها: أن الحق كلما عورض وأوردت عليه الشبه ازداد وضوحا وتميز وحصل به اليقين التام كما جرى لهؤلاء، لما اعترضوا على استحقاق طالوت للملك أجيبوا بأجوبة حصل بها الإقناع وزوال الشبه والريب. ومنها: أن العلم والرأي: مع القوة المنفذة بهما كمال الولايات، وبفقدهما أو فقد أحدهما نقصانها وضررها. ومنها: أن الاتكال على النفس سبب الفشل والخذلان، والاستعانة بالله والصبر والالتجاء إليه سبب النصر، فالأول كما في قولهم لنبيهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فكأنه نتيجة ذلك أنه لما كتب عليهم القتال تولوا، والثاني في قوله: ( ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله ) ومنها: أن من حكمة الله تعالى تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والصابر من الجبان، وأنه لم يكن ليذر العباد على ما هم عليه من الاختلاط وعدم التمييز. ومنها: أن من رحمته وسننه الجارية أن يدفع ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين، وأنه لولا ذلك لفسدت الأرض باستيلاء الكفر وشعائره عليها.

ابو وليد البحيرى
2019-01-17, 06:05 PM
الحلقة (42)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(253)الى الأية(256)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


ثم قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين سائر الناس بإيحائه وإرسالهم إلى الناس، ودعائهم الخلق إلى الله، ثم فضل بعضهم على بعض بما أودع فيهم من الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة والنفع العام، فمنهم من كلمه الله كموسى بن عمران خصه بالكلام، ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى الله عليه وسلم الذي اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره، وجمع الله له من المناقب ما فاق به الأولين والآخرين ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات ) الدالات على نبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ( وأيدناه بروح القدس ) أي: بالإيمان واليقين الذي أيده به الله وقواه على ما أمر به، وقيل أيده بجبريل عليه السلام يلازمه في أحواله ( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ) الموجبة للاجتماع على الإيمان ( ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ) فكان موجب هذا الاختلاف التفرق والمعاداة والمقاتلة، ومع هذا فلو شاء الله بعد هذا الاختلاف ما اقتتلوا، فدل ذلك على أن مشيئة الله نافذة غالبة للأسباب، وإنما تنفع الأسباب مع عدم معارضة المشيئة، فإذا وجدت اضمحل كل سبب، وزال كل موجب، فلهذا قال ( ولكن الله يفعل ما يريد ) فإرادته غالبة ومشيئته نافذة، وفي هذا ونحوه دلالة على أن الله تعالى لم يزل يفعل ما اقتضته مشيئته وحكمته، ومن جملة ما يفعله ما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من الاستواء والنزول والأقوال، والأفعال التي يعبرون عنها بالأفعال الاختيارية.
فائدة: كما يجب على المكلف معرفته بربه، فيجب عليه معرفته برسله، ما يجب لهم ويمتنع عليهم ويجوز في حقهم، ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم الله به في آيات متعددة، منها: أنهم رجال لا نساء، من أهل < 1-110 > القرى لا من أهل البوادي، وأنهم مصطفون مختارون، جمع الله لهم من الصفات الحميدة ما به الاصطفاء والاختيار، وأنهم سالمون من كل ما يقدح في رسالتهم من كذب وخيانة وكتمان وعيوب مزرية، وأنهم لا يقرون على خطأ فيما يتعلق بالرسالة والتكليف، وأن الله تعالى خصهم بوحيه، فلهذا وجب الإيمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم فهو كافر، ومن قدح في واحد منهم أو سبه فهو كافر يتحتم قتله، ودلائل هذه الجمل كثيرة، من تدبر القرآن تبين له الحق، ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وهذا من لطف الله بعباده أن أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم الله، من صدقة واجبة ومستحبة، ليكون لهم ذخرا وأجرا موفرا في يوم يحتاج فيه العاملون إلى مثقال ذرة من الخير، فلا بيع فيه ولو افتدى الإنسان نفسه بملء الأرض ذهبا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منه، ولم ينفعه خليل ولا صديق لا بوجاهة ولا بشفاعة، وهو اليوم الذي فيه يخسر المبطلون ويحصل الخزي على الظالمين، وهم الذين وضعوا الشيء في غير موضعه، فتركوا الواجب من حق الله وحق عباده وتعدوا الحلال إلى الحرام، وأعظم أنواع الظلم الكفر بالله الذي هو وضع العبادة التي يتعين أن تكون لله فيصرفها الكافر إلى مخلوق مثله، فلهذا قال تعالى: ( والكافرون هم الظالمون ) وهذا من باب الحصر، أي: الذين ثبت لهم الظلم التام، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها، وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة، فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للإنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات، فأخبر تعالى عن نفسه الكريمة بأن ( لا إله إلا هو ) أي: لا معبود بحق سواه، فهو الإله الحق الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى، لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه، ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه، ممتثلا أوامره مجتنبا نواهيه، وكل ما سوى الله تعالى باطل، فعبادة ما سواه باطلة، لكون ما سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه، فلم يستحق شيئا من أنواع العبادة، وقوله: ( الحي القيوم ) هذان الاسمان الكريمان يدلان على سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما، فالحي من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات، كالسمع والبصر والعلم والقدرة، ونحو ذلك، والقيوم: هو الذي قام بنفسه وقام بغيره، وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والإماتة والإحياء، وسائر أنواع التدبير، كل ذلك داخل في قيومية الباري، ولهذا قال بعض المحققين: إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب، وإذا سئل به أعطى، ومن تمام حياته وقيوميته أن ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) والسنة النعاس ( له ما في السماوات وما في الأرض ) أي: هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبر لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فلهذا قال: ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) أي: لا أحد يشفع عنده بدون إذنه، فالشفاعة كلها لله تعالى، ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه، لا يبتدئ الشافع قبل الإذن، ثم قال ( يعلم ما بين أيديهم ) أي: ما مضى من جميع الأمور ( وما خلفهم ) أي: ما يستقبل منها، فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الأمور، متقدمها ومتأخرها، بالظواهر والبواطن، بالغيب والشهادة، والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم تعالى، ولهذا قال: ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ) وهذا يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه، إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتهما وعظمة من فيهما، والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى، بل هنا ما هو أعظم منه وهو العرش، وما لا يعلمه إلا هو، وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار، وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال، فكيف بعظمة خالقها ومبدعها، والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع، والذي قد أمسك السماوات والأرض أن تزولا من غير تعب ولا نصب، فلهذا قال: ( ولا يؤوده ) أي: يثقله ( حفظهما وهو العلي ) بذاته فوق عرشه، العلي بقهره لجميع المخلوقات، العلي بقدره لكمال صفاته ( العظيم ) الذي تتضائل عند عظمته جبروت الجبابرة، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة، فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء، فقد اشتملت هذه الآية على توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وعلى إحاطة ملكه وإحاطة علمه وسعة سلطانه وجلاله ومجده، وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته، فهذه الآية بمفردها عقيدة في أسماء الله وصفاته، متضمنة لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلا ثم قال تعالى:
< 1-111 >
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى أنه لا إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه، لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه، غامضة أثاره، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس، وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول، وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعرف الرشد من الغي، فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره، وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة، خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل، ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين، لعدم النتيجة والفائدة فيه، والمكره ليس إيمانه صحيحا، ولا تدل الآية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين، وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله لكل منصف قصده اتباع الحق، وأما القتال وعدمه فلم تتعرض له، وإنما يؤخذ فرض القتال من نصوص أخر، ولكن يستدل في الآية الكريمة على قبول الجزية من غير أهل الكتاب، كما هو قول كثير من العلماء، فمن يكفر بالطاغوت فيترك عبادة ما سوى الله وطاعة الشيطان، ويؤمن بالله إيمانا تاما أوجب له عبادة ربه وطاعته ( فقد استمسك بالعروة الوثقى ) أي: بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت أركانه، وكان المتمسك به على ثقة من أمره، لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي ( لا انفصام لها ) وأما من عكس القضية فكفر بالله وآمن بالطاغوت، فقد أطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة، واستمسك بكل باطل مآله إلى الجحيم ( والله سميع عليم ) فيجازي كلا منهما بحسب ما علمه منهم من الخير والشر، وهذا هو الغاية لمن استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها.

ابو وليد البحيرى
2019-01-19, 03:27 PM
الحلقة (43)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(257)الى الأية(259)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

ثم ذكر السبب الذي أوصلهم إلى ذلك فقال: ( الله ولي الذين آمنوا ) وهذا يشمل ولايتهم لربهم، بأن تولوه فلا يبغون عنه بدلا ولا يشركون به أحدا، قد اتخذوه حبيبا ووليا، ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه، فتولاهم بلطفه ومنَّ عليهم بإحسانه، فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى نور الإيمان والطاعة والعلم، وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور ( والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ) فتولوا الشيطان وحزبه، واتخذوه من دون الله وليا ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم، فسلطهم عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم إلى المعاصي أزا، ويزعجونهم إلى الشر إزعاجا، فيخرجونهم من نور الإيمان والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي، فكان جزاؤهم على ذلك أن حرموا الخيرات، وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات، وكانوا من حزب الشيطان وأولياءه في دار الحسرة، فلهذا قال تعالى: ( أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

يقول تعالى: ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ) أي: إلى جرائته وتجاهله وعناده ومحاجته فيما لا يقبل التشكيك، وما حمله على ذلك إلا ( أن آتاه الله الملك ) فطغى وبغى ورأى نفسه مترئسا على رعيته، فحمله ذلك على أن حاج إبراهيم في ربوبية الله فزعم أنه يفعل كما يفعل الله، فقال إبراهيم ( ربي الذي يحيي ويميت ) أي: هو المنفرد بأنواع التصرف، وخص منه الإحياء والإماتة لكونهما أعظم أنواع التدابير، ولأن الإحياء مبدأ الحياة الدنيا والإماتة مبدأ ما يكون في الآخرة، فقال ذلك المحاج: ( أنا أحيي وأميت ) ولم يقل أنا الذي أحيي وأميت، لأنه لم يدع الاستقلال بالتصرف، وإنما زعم أنه يفعل كفعل الله ويصنع صنعه، فزعم أنه يقتل شخصا فيكون قد أماته، ويستبقي شخصا فيكون قد أحياه، فلما رآه إبراهيم يغالط في مجادلته ويتكلم بشيء لا يصلح أن يكون شبهة فضلا عن كونه حجة، اطرد معه في الدليل فقال إبراهيم: ( فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ) أي: عيانا يقر به كل أحد حتى ذلك الكافر ( فأت بها من المغرب ) وهذا إلزام له بطرد دليله إن كان صادقا في دعواه، فلما قال له أمرا لا قوة له في شبهة تشوش دليله، ولا قادحا يقدح في سبيله ( بهت الذي كفر ) أي: تحير فلم يرجع إليه جوابا وانقطعت حجته وسقطت شبهته، وهذه حالة المبطل المعاند الذي يريد أن يقاوم الحق ويغالبه، فإنه مغلوب مقهور، فلذلك قال تعالى: ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) بل يبقيهم على كفرهم وضلالهم، وهم الذين اختاروا لأنفسهم ذلك، وإلا فلو كان قصدهم الحق والهداية لهداهم إليه ويسر لهم أسباب الوصول إليه، ففي هذه الآية برهان قاطع على تفرد الرب بالخلق والتدبير، ويلزم من ذلك أن يفرد بالعبادة والإنابة والتوكل عليه في جميع الأحوال، قال ابن القيم رحمه الله: وفي هذه المناظرة نكتة لطيفة جدا، وهي أن شرك العالم إنما هو مستند إلى عبادة الكواكب والقبور، ثم صورت الأصنام على صورها، فتضمن الدليلان اللذان استدل بهما إبراهيم إبطال إلهية تلك جملة بأن الله وحده هو الذي يحيي ويميت، ولا يصلح الحي الذي يموت للإلهية لا في حال حياته ولا بعد موته، فإن له ربا قادرا قاهرا متصرفا فيه إحياء وإماتة، ومن كان كذلك فكيف يكون إلها حتى يتخذ الصنم على < 1-112 > صورته، ويعبد من دونه، وكذلك الكواكب أظهرها وأكبرها للحس هذه الشمس وهي مربوبة مدبرة مسخرة، لا تصرف لها بنفسها بوجه ما، بل ربها وخالقها سبحانه يأتي بها من مشرقها فتنقاد لأمره ومشيئته، فهي مربوبة مسخرة مدبرة، لا إله يعبد من دون الله. " من مفتاح دار السعادة "ثم قال تعالى:

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

وهذا أيضا دليل آخر على توحد الله بالخلق والتدبير والإماتة والإحياء، فقال: ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ) أي: قد باد أهلها وفني سكانها وسقطت حيطانها على عروشها، فلم يبق بها أنيس بل بقيت موحشة من أهلها مقفرة، فوقف عليها ذلك الرجل متعجبا و ( قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) استبعادا لذلك وجهلا بقدرة الله تعالى، فلما أراد الله به خيرا أراه آية في نفسه وفي حماره، وكان معه طعام وشراب، ( فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم ) استقصارا لتلك المدة التي مات فيها لكونه قد زالت معرفته وحواسه وكان عهد حاله قبل موته، فقيل له ( بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) أي: لم يتغير بل بقي على حاله على تطاول السنين واختلاف الأوقات عليه، ففيه أكبر دليل على قدرته حيث أبقاه وحفظه عن التغير والفساد، مع أن الطعام والشراب من أسرع الأشياء فسادا ( وانظر إلى حمارك ) وكان قد مات وتمزق لحمه وجلده وانتثرت عظامه، وتفرقت أوصاله ( ولنجعلك آية للناس ) على قدرة الله وبعثه الأموات من قبورهم، لتكون أنموذجا محسوسا مشاهدا بالأبصار، فيعلموا بذلك صحة ما أخبرت به الرسل ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) أي: ندخل بعضها في بعض، ونركب بعضها ببعض ( ثم نكسوها لحما ) فنظر إليها عيانا كما وصفها الله تعالى، ( فلما تبين له ) ذلك وعلم قدرة الله تعالى ( قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ) والظاهر من سياق الآية أن هذا رجل منكر للبعث أراد الله به خيرا، وأن يجعله آية ودليلا للناس لثلاثة أوجه أحدها قوله ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) ولو كان نبيا أو عبدا صالحا لم يقل ذلك، والثاني: أن الله أراه آية في طعامه وشرابه وحماره ونفسه ليراه بعينه فيقر بما أنكره، ولم يذكر في الآية أن القرية المذكورة عمرت وعادت إلى حالتها، ولا في السياق ما يدل على ذلك، ولا في ذلك كثير فائدة، ما الفائدة الدالة على إحياء الله للموتى في قرية خربت ثم رجع إليها أهلها أو غيرهم فعمروها؟! وإنما الدليل الحقيقي في إحيائه وإحياء حماره وإبقاء طعامه وشرابه بحاله، والثالث في قوله: ( فلما تبين له ) أي: تبين له أمر كان يجهله ويخفى عليه، فعلم بذلك صحة ما ذكرناه، والله أعلم.

ابو وليد البحيرى
2019-01-19, 03:33 PM
الحلقة (44)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(260)الى الأية(264)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية

ثم قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وهذا فيه أيضا أعظم دلالة حسية على قدرة الله وإحيائه الموتى للبعث والجزاء، فأخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يريه ببصره كيف يحيي الموتى، لأنه قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى، ولكنه أحب أن يشاهده عيانا ليحصل له مرتبة عين اليقين، فلهذا قال الله له: ( أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) وذلك أنه بتوارد الأدلة اليقينية مما يزداد به الإيمان ويكمل به الإيقان ويسعى في نيله أولو العرفان، فقال له ربه ( فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ) أي: ضمهن ليكون ذلك بمرأى منك ومشاهدة وعلى يديك. ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) أي: مزقهن، اخلط أجزاءهن بعضها ببعض، واجعل على كل جبل، أي: من الجبال التي في القرب منه، جزء من تلك الأجزاء ( ثم ادعهن يأتينك سعيا ) أي: تحصل لهن حياة كاملة، ويأتينك في هذه القوة وسرعة الطيران، ففعل إبراهيم عليه السلام ذلك وحصل له ما أراد وهذا من ملكوت السماوات والأرض الذي أراه الله إياه في قوله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ثم قال: ( واعلم أن الله عزيز حكيم ) أي: ذو قوة عظيمة سخر بها المخلوقات، فلم يستعص عليه شيء منها، بل هي منقادة لعزته خاضعة لجلاله، ومع ذلك فأفعاله تعالى تابعة لحكمته، لا يفعل شيئا عبثا، ثم قال تعالى:

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . هذا بيان للمضاعفة التي ذكرها الله في < 1-113 > قوله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهنا قال: ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ) أي: في طاعته ومرضاته، وأولاها إنفاقها في الجهاد في سبيله ( كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) وهذا إحضار لصورة المضاعفة بهذا المثل، الذي كان العبد يشاهده ببصره فيشاهد هذه المضاعفة ببصيرته، فيقوى شاهد الإيمان مع شاهد العيان، فتنقاد النفس مذعنة للإنفاق سامحة بها مؤملة لهذه المضاعفة الجزيلة والمنة الجليلة، ( والله يضاعف ) هذه المضاعفة ( لمن يشاء ) أي: بحسب حال المنفق وإخلاصه وصدقه وبحسب حال النفقة وحلها ونفعها ووقوعها موقعها، ويحتمل أن يكون ( والله يضاعف ) أكثر من هذه المضاعفة ( لمن يشاء ) فيعطيهم أجرهم بغير حساب ( والله واسع ) الفضل، واسع العطاء، لا ينقصه نائل ولا يحفيه سائل، فلا يتوهم المنفق أن تلك المضاعفة فيها نوع مبالغة، لأن الله تعالى لا يتعاظمه شيء ولا ينقصه العطاء على كثرته، ومع هذا فهو ( عليم ) بمن يستحق هذه المضاعفة ومن لا يستحقها، فيضع المضاعفة في موضعها لكمال علمه وحكمته.


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله وسبيله، ولا يتبعونها بما ينقصها ويفسدها من المن بها على المنفق عليه بالقلب أو باللسان، بأن يعدد عليه إحسانه ويطلب منه مقابلته، ولا أذية له قولية أو فعلية، فهؤلاء لهم أجرهم اللائق بهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فحصل لهم الخير واندفع عنهم الشر لأنهم عملوا عملا خالصا لله سالما من المفسدات.
( قول معروف ) أي: تعرفه القلوب ولا تنكره، ويدخل في ذلك كل قول كريم فيه إدخال السرور على قلب المسلم، ويدخل فيه رد السائل بالقول الجميل والدعاء له ( ومغفرة ) لمن أساء إليك بترك مؤاخذته والعفو عنه، ويدخل فيه العفو عما يصدر من السائل مما لا ينبغي، فالقول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذى، لأن القول المعروف إحسان قولي، والمغفرة إحسان أيضا بترك المؤاخذة، وكلاهما إحسان ما فيه مفسد، فهما أفضل من الإحسان بالصدقة التي يتبعها أذى بمنّ أو غيره، ومفهوم الآية أن الصدقة التي لا يتبعها أذى أفضل من القول المعروف والمغفرة، وإنما كان المنّ بالصدقة مفسدا لها محرما، لأن المنّة لله تعالى وحده، والإحسان كله لله، فالعبد لا يمنّ بنعمة الله وإحسانه وفضله وهو ليس منه، وأيضا فإن المانّ مستعبِدٌ لمن يمنّ عليه، والذّل والاستعباد لا ينبغي إلا لله، والله غني بذاته عن جميع مخلوقاته، وكلها مفتقرة إليه بالذات في جميع الحالات والأوقات، فصدقتكم وإنفاقكم وطاعاتكم يعود مصلحتها إليكم ونفعها إليكم، ( والله غني ) عنها، ومع هذا فهو ( حليم ) على من عصاه لا يعاجله بعقوبة مع قدرته عليه، ولكن رحمته وإحسانه وحلمه يمنعه من معاجلته للعاصين، بل يمهلهم ويصرّف لهم الآيات لعلهم يرجعون إليه وينيبون إليه، فإذا علم تعالى أنه لا خير فيهم ولا تغني عنهم الآيات ولا تفيد بهم المثلات أنزل بهم عقابه وحرمهم جزيل ثوابه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ينهى عباده تعالى لطفا بهم ورحمة عن إبطال صدقاتهم بالمنّ والأذى ففيه أن المنّ والأذى يبطل الصدقة، ويستدل بهذا على أن الأعمال السيئة تبطل الأعمال الحسنة، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فكما أن الحسنات يذهبن السيئات فالسيئات تبطل ما قابلها من الحسنات، وفي هذه الآية مع قوله تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg حث على تكميل الأعمال وحفظها من كل ما يفسدها لئلا يضيع العمل سدى، وقوله: ( كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ) أي: أنتم وإن قصدتم بذلك وجه الله في ابتداء الأمر، فإن المنة والأذى مبطلان لأعمالكم، فتصير أعمالكم بمنزلة الذي يعمل لمراءاة الناس ولا يريد به الله والدار الآخرة، فهذا لا شك أن عمله من أصله مردود، لأن شرط العمل أن يكون لله وحده وهذا في الحقيقة عمل للناس لا لله، فأعماله باطلة وسعيه غير مشكور، فمثله المطابق لحاله ( كمثل صفوان ) وهو الحجر الأملس الشديد ( عليه تراب فأصابه وابل ) أي: مطر غزير ( فتركه صلدا ) أي: ليس عليه شيء من التراب، فكذلك حال هذا المرائي، قلبه غليظ قاس بمنزلة الصفوان، وصدقته ونحوها من أعماله بمنزلة التراب الذي على الصفوان، إذا رآه الجاهل بحاله ظن أنه أرض زكية قابلة للنبات، فإذا انكشفت حقيقة حاله زال ذلك التراب وتبين أن عمله بمنزلة السراب، وأن قلبه غير صالح < 1-114 > لنبات الزرع وزكائه عليه، بل الرياء الذي فيه والإرادات الخبيثة تمنع من انتفاعه بشيء من عمله، فلهذا ( لا يقدرون على شيء ) من أعمالهم التي اكتسبوها، لأنهم وضعوها في غير موضعها وجعلوها لمخلوق مثلهم، لا يملك لهم ضررا ولا نفعا وانصرفوا عن عبادة من تنفعهم عبادته، فصرف الله قلوبهم عن الهداية، فلهذا قال: ( والله لا يهدي القوم الكافرين ) .

ابو وليد البحيرى
2019-01-22, 10:58 AM
الحلقة (45)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(265)الى الأية(269)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا مثل المنفقين أموالهم على وجه تزكو عليه نفقاتهم وتقبل به صدقاتهم فقال تعالى: ( ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله ) أي: قصدهم بذلك رضى ربهم والفوز بقربه ( وتثبيتا من أنفسهم ) أي: صدر الإنفاق على وجه منشرحة له النفس سخية به، لا على وجه التردد وضعف النفس في إخراجها وذلك أن النفقة يعرض لها آفتان إما أن يقصد الإنسان بها محمدة الناس ومدحهم وهو الرياء، أو يخرجها على خور وضعف عزيمة وتردد، فهؤلاء سلموا من هاتين الآفتين فأنفقوا ابتغاء مرضات الله لا لغير ذلك من المقاصد، وتثبيتا من أنفسهم، فمثل نفقة هؤلاء ( كمثل جنة ) أي: كثيرة الأشجار غزيرة الظلال، من الاجتنان وهو الستر، لستر أشجارها ما فيها، وهذه الجنة ( بربوة ) أي: محل مرتفع ضاح للشمس في أول النهار ووسطه وآخره، فثماره أكثر الثمار وأحسنها، ليست بمحل نازل عن الرياح والشمس، فـ ( أصابها ) أي: تلك الجنة التي بربوة ( وابل ) وهو المطر الغزير ( فآتت أكلها ضعفين ) أي: تضاعفت ثمراتها لطيب أرضها ووجود الأسباب الموجبة لذلك، وحصول الماء الكثير الذي ينميها ويكملها ( فإن لم يصبها وابل فطل ) أي: مطر قليل يكفيها لطيب منبتها، فهذه حالة المنفقين أهل النفقات الكثيرة والقليلة كل على حسب حاله، وكل ينمى له ما أنفق أتم تنمية وأكملها والمنمي لها هو الذي أرحم بك من نفسك، الذي يريد مصلحتك حيث لا تريدها، فيالله لو قدر وجود بستان في هذه الدار بهذه الصفة لأسرعت إليه الهمم وتزاحم عليه كل أحد، ولحصل الاقتتال عنده، مع انقضاء هذه الدار وفنائها وكثرة آفاتها وشدة نصبها وعنائها، وهذا الثواب الذي ذكره الله كأن المؤمن ينظر إليه بعين بصيرة الإيمان، دائم مستمر فيه أنواع المسرات والفرحات، ومع هذا تجد النفوس عنه راقدة، والعزائم عن طلبه خامدة، أترى ذلك زهدا في الآخرة ونعيمها، أم ضعف إيمان بوعد الله ورجاء ثوابه؟! وإلا فلو تيقن العبد ذلك حق اليقين وباشر الإيمان به بشاشة قلبه لانبعثت من قلبه مزعجات الشوق إليه، وتوجهت همم عزائمه إليه، وطوعت نفسه له بكثرة النفقات رجاء المثوبات، ولهذا قال تعالى: ( والله بما تعملون بصير ) فيعلم عمل كل عامل ومصدر ذلك العمل، فيجازيه عليه أتم الجزاء ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وهذا المثل مضروب لمن عمل عملا لوجه الله تعالى من صدقة أو غيرها ثم عمل أعمالا تفسده، فمثله كمثل صاحب هذا البستان الذي فيه من كل الثمرات، وخص منها النخل والعنب لفضلهما وكثرة منافعهما، لكونهما غذاء وقوتا وفاكهة وحلوى، وتلك الجنة فيها http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الأنهار الجارية التي تسقيها من غير مؤنة، وكان صاحبها قد اغتبط بها وسرته، ثم إنه أصابه الكبر فضعف عن العمل وزاد حرصه، وكان له ذرية ضعفاء ما فيهم معاونة له، بل هم كل عليه، ونفقته ونفقتهم من تلك الجنة، فبينما هو كذلك إذ أصاب تلك الجنة إعصار وهو الريح القوية التي تستدير ثم ترتفع في الجو، وفي ذلك الإعصار نار فاحترقت تلك الجنة، فلا تسأل عما لقي ذلك الذي أصابه الكبر من الهم والغم والحزن، فلو قدر أن الحزن يقتل صاحبه لقتله الحزن، كذلك من عمل عملا لوجه الله فإن أعماله بمنزلة البذر للزروع والثمار، ولا يزال كذلك حتى يحصل له من عمله جنة موصوفة بغاية الحسن والبهاء، وتلك المفسدات التي تفسد الأعمال بمنزلة الإعصار الذي فيه نار، والعبد أحوج ما يكون لعمله إذا مات وكان بحالة لا يقدر معها على العمل، فيجد عمله الذي يؤمل نفعه هباء منثورا، ووجد الله عنده فوفاه حسابه.
والله سريع الحساب فلو علم الإنسان وتصور هذه الحال وكان له أدنى مسكة من عقل لم يقدم على ما فيه مضرته ونهاية حسرته ولكن ضعف الإيمان والعقل وقلة البصيرة يصير صاحبه إلى هذه الحالة التي لو صدرت من مجنون لا يعقل لكان ذلك عظيما وخطره جسيما، فلهذا أمر تعالى < 1-115 > بالتفكر وحثَّ عليه، فقال: ( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ) .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالنفقة من طيبات ما يسر لهم من المكاسب، ومما أخرج لهم من الأرض فكما منَّ عليكم بتسهيل تحصيله فأنفقوا منه شكرا لله وأداء لبعض حقوق إخوانكم عليكم، وتطهيرا لأموالكم، واقصدوا في تلك النفقة الطيب الذي تحبونه لأنفسكم، ولا تيمموا الرديء الذي لا ترغبونه ولا تأخذونه إلا على وجه الإغماض والمسامحة ( واعلموا أن الله غني حميد ) فهو غني عنكم ونفع صدقاتكم وأعمالكم عائد إليكم، ومع هذا فهو حميد على ما يأمركم به من الأوامر الحميدة والخصال السديدة، فعليكم أن تمتثلوا أوامره لأنها قوت القلوب وحياة النفوس ونعيم الأرواح، وإياكم أن تتبعوا عدوكم الشيطان الذي يأمركم بالإمساك، ويخوفكم بالفقر والحاجة إذا أنفقتم، وليس هذا نصحا لكم، بل هذا غاية الغش http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg بل أطيعوا ربكم الذي يأمركم بالنفقة على وجه يسهل عليكم ولا يضركم، ومع هذا فهو ( يعدكم مغفرة ) لذنوبكم وتطهيرا لعيوبكم ( وفضلا ) وإحسانا إليكم في الدنيا والآخرة، من الخلف العاجل، وانشراح الصدر ونعيم القلب والروح والقبر، وحصول ثوابها وتوفيتها يوم القيامة، وليس هذا عظيما عليه لأنه ( واسع ) الفضل عظيم الإحسان ( عليم ) بما يصدر منكم من النفقات قليلها وكثيرها، سرها وعلنها، فيجازيكم عليها من سعته وفضله وإحسانه، فلينظر العبد نفسه إلى أي الداعيين يميل، فقد تضمنت هاتان الآيتان أمورا عظيمة منها: الحث على الإنفاق، ومنها: بيان الأسباب الموجبة لذلك، ومنها: وجوب الزكاة من النقدين وعروض التجارة كلها، لأنها داخلة في قوله: ( من طيبات ما كسبتم ) ومنها: وجوب الزكاة في الخارج من الأرض من الحبوب والثمار والمعادن، ومنها: أن الزكاة على من له الزرع والثمر لا على صاحب الأرض، لقوله ( أخرجنا لكم ) فمن أخرجت له وجبت عليه ومنها: أن الأموال المعدة للاقتناء من العقارات والأواني ونحوها ليس فيها زكاة، وكذلك الديون والغصوب ونحوهما إذا كانت مجهولة، أو عند من لا يقدر ربها على استخراجها منه، ليس فيها زكاة، لأن الله أوجب النفقة من الأموال التي يحصل فيها النماء الخارج من الأرض، وأموال التجارة مواساة من نمائها، وأما الأموال التي غير معدة لذلك ولا مقدورا عليها فليس فيها هذا المعنى، ومنها: أن الرديء ينهى عن إخراجه ولا يجزئ في الزكاة ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ (269) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما أمر تعالى بهذه الأوامر العظيمة المشتملة على الأسرار والحكم وكان ذلك لا يحصل لكل أحد، بل لمن منَّ عليه وآتاه الله الحكمة، وهي العلم النافع والعمل الصالح ومعرفة أسرار الشرائع وحكمها، وإن من آتاه الله الحكمة فقد آتاه خيرا كثيرا وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدارين والنجاة من شقاوتهما! وفيه التخصيص بهذا الفضل وكونه من ورثة الأنبياء، فكمال العبد متوقف على الحكمة، إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية فتكميل قوته العلمية بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به، وتكميل قوته العملية بالعمل بالخير وترك الشر، وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك، ولما كان الله تعالى قد فطر عباده على عبادته ومحبة الخير والقصد للحق، فبعث الله الرسل مذكرين لهم بما ركز في فطرهم وعقولهم، ومفصلين لهم ما لم يعرفوه، انقسم الناس قسمين قسم أجابوا دعوتهم فتذكروا ما ينفعهم ففعلوه، وما يضرهم فتركوه، وهؤلاء هم أولو الألباب الكاملة، والعقول التامة، وقسم لم يستجيبوا لدعوتهم، بل أجابوا ما عرض لفطرهم من الفساد، وتركوا طاعة رب العباد، فهؤلاء ليسوا من أولي الألباب، فلهذا قال تعالى: ( وما يذكر إلا أولو الألباب ) .

ابو وليد البحيرى
2019-01-22, 11:01 AM
الحلقة (46)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(270)الى الأية(274)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وهذا فيه المجازاة على النفقات، واجبها ومستحبها، قليلها وكثيرها، التي أمر الله بها، والنذور التي ألزمها المكلف نفسه، وإن الله تعالى يعلمها فلا يخفى عليه منها شيء، ويعلم ما صدرت عنه، هل هو الإخلاص أو غيره، فإن صدرت عن إخلاص وطلب لمرضاة الله جازى عليها بالفضل العظيم والثواب الجسيم، وإن لم ينفق العبد ما وجب عليه من النفقات ولم يوف ما أوجبه على نفسه من المنذورات، أو قصد بذلك رضى المخلوقات، فإنه ظالم قد وضع الشيء في غير موضعه، واستحق < 1-116 > العقوبة البليغة، ولم ينفعه أحد من الخلق ولم ينصره، فلهذا قال: ( وما للظالمين من أنصار ) .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( إن تبدوا الصدقات ) فتظهروها وتكون علانية حيث كان القصد بها وجه الله ( فنعما هي ) أي: فنعم الشيء ( هي ) لحصول المقصود بها ( وإن تخفوها ) أي: تسروها ( وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) ففي هذا أن صدقة السر على الفقير أفضل من صدقة العلانية، وأما إذا لم تؤت الصدقات الفقراء فمفهوم الآية أن السر ليس خيرا من العلانية، فيرجع في ذلك إلى المصلحة، فإن كان في إظهارها إظهار شعائر الدين وحصول الاقتداء ونحوه، فهو أفضل من الإسرار، ودل قوله: ( وتؤتوها الفقراء ) على أنه ينبغي للمتصدق أن يتحرى بصدقته المحتاجين، ولا يعطي محتاجا وغيره أحوج منه، ولما ذكر تعالى أن الصدقة خير للمتصدق ويتضمن ذلك حصول الثواب قال: ( ويكفر عنكم من سيئاتكم ) ففيه دفع العقاب ( والله بما تعملون خبير ) من خير وشر، قليل وكثير والمقصود من ذلك المجازاة.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليس عليك هدي الخلق، وإنما عليك البلاغ المبين، والهداية بيد الله تعالى، ففيها دلالة على أن النفقة كما تكون على المسلم تكون على الكافر ولو لم يهتد، فلهذا قال: ( وما تنفقوا من خير ) أي: قليل أو كثير على أي شخص كان من مسلم وكافر ( فلأنفسكم ) أي: نفعه راجع إليكم ( وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ) هذا إخبار عن نفقات المؤمنين الصادرة عن إيمانهم أنها لا تكون إلا لوجه الله تعالى، لأن إيمانهم يمنعهم عن المقاصد الردية ويوجب لهم الإخلاص ( وما تنفقوا من خير يوف إليكم ) يوم القيامة تستوفون أجوركم ( وأنتم لا تظلمون ) أي: تنقصون من أعمالكم شيئا ولا مثقال ذرة، كما لا يزاد في سيئاتكم.
ثم ذكر مصرف النفقات الذين هم أولى الناس بها فوصفهم بست صفات أحدها الفقر، والثاني قوله: ( أحصروا في سبيل الله ) أي: قصروها على طاعة الله من جهاد وغيره، فهم مستعدون لذلك محبوسون له، الثالث عجزهم عن الأسفار لطلب الرزق فقال: ( لا يستطيعون ضربا في الأرض ) أي: سفرا للتكسب، الرابع قوله: ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) وهذا بيان لصدق صبرهم وحسن تعففهم. الخامس: أنه قال: ( تعرفهم بسيماهم ) أي: بالعلامة التي ذكرها الله في وصفهم، وهذا لا ينافي قوله: ( يحسبهم الجاهل أغنياء ) فإن الجاهل بحالهم ليس له فطنة يتفرس بها ما هم عليه، وأما الفطن المتفرس فمجرد ما يراهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg يعرفهم بعلامتهم، السادس قوله: ( لا يسألون الناس إلحافا ) أي: لا يسألونهم سؤال إلحاف، أي: إلحاح، بل إن صدر منهم سؤال إذا احتاجوا لذلك لم يلحوا على من سألوا، فهؤلاء أولى الناس وأحقهم بالصدقات لما وصفهم به من جميل الصفات، وأما النفقة من حيث هي على أي شخص كان، فهي خير وإحسان وبر يثاب عليها صاحبها ويؤجر، فلهذا قال: ( وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ) .
ثم ذكر حالة المتصدقين في جميع الأوقات على جميع الأحوال فقال: ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ) أي: طاعته وطريق مرضاته، لا في المحرمات والمكروهات وشهوات أنفسهم ( بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ) أي: أجر عظيم من خير عند الرب الرحيم ( ولا خوف عليهم ) إذا خاف المقصرون ( ولا هم يحزنون ) إذا حزن المفرطون، ففازوا بحصول المقصود المطلوب، ونجوا من الشرور والمرهوب، ولما كمل تعالى حالة المحسنين إلى عباده بأنواع النفقات ذكر حالة الظالمين المسيئين إليهم غاية الإساءة.

ابو وليد البحيرى
2019-01-30, 12:15 AM
الحلقة (47)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(275)الى الأية(281)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية


فقال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا < 1-117 > الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.
يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم، أنهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم ( إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) أي: يصرعه الشيطان بالجنون، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين، متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال، فكما تقلبت عقولهم و ( قالوا إنما البيع مثل الربا ) وهذا لا يكون إلا من جاهل عظيم جهله، أو متجاهل عظيم عناده، جازاهم الله من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم أحوال المجانين، ويحتمل أن يكون قوله: ( لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) أنه لما انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفت أحلامهم وضعفت آراؤهم، وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلاخ العقل الأدبي عنهم، قال الله تعالى رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة ( وأحل الله البيع ) أي: لما فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه، وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما يدل على المنع ( وحرم الربا ) لما فيه من الظلم وسوء العاقبة، والربا نوعان: ربا نسيئة كبيع الربا بما يشاركه في العلة نسيئة، ومنه جعل ما في الذمة رأس مال، سلم، وربا فضل، وهو بيع ما يجري فيه الربا بجنسه متفاضلا وكلاهما محرم بالكتاب والسنة، والإجماع على ربا النسيئة، وشذ من أباح ربا الفضل وخالف النصوص المستفيضة، بل الربا من كبائر الذنوب وموبقاتها ( فمن جاءه موعظة من ربه ) أي: وعظ وتذكير وترهيب عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمة من الله بالموعوظ، وإقامة للحجة عليه ( فانتهى ) عن فعله وانزجر عن تعاطيه ( فله ما سلف ) أي: ما تقدم من المعاملات التي فعلها قبل أن تبلغه الموعظة جزاء لقبوله للنصيحة، دل مفهوم الآية أن من لم ينته جوزي بالأول والآخر ( وأمره إلى الله ) في مجازاته وفيما يستقبل من أموره ( ومن عاد ) إلى تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة، بل أصر على ذلك ( فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) اختلف العلماء رحمهم الله في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي دون الشرك بالله، والأحسن فيها أن يقال هذه الأمور التي رتب الله عليها الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك، ولكن الموجب إن لم يوجد ما يمنعه ترتب عليه مقتضاه، وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن التوحيد والإيمان مانع من الخلود في النار، فلولا ما مع الإنسان من التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره.
ثم قال تعالى: ( يمحق الله الربا ) أي: يذهبه ويذهب بركته ذاتا ووصفا، فيكون سببا لوقوع الآفات فيه ونزع البركة عنه، وإن أنفق منه لم يؤجر عليه بل يكون زادا له إلى النار ( ويربي الصدقات ) أي: ينميها وينزل البركة في المال الذي أخرجت منه وينمي أجر صاحبها وهذا لأن الجزاء من جنس العمل، فإن المرابي قد ظلم الناس وأخذ أموالهم على وجه غير شرعي، فجوزي بذهاب ماله، والمحسن إليهم بأنواع الإحسان ربه أكرم منه، فيحسن عليه كما أحسن على عباده ( والله لا يحب كل كفار ) لنعم الله، لا يؤدي ما أوجب عليه من الصدقات، ولا يسلم منه ومن شره عباد الله ( أثيم ) أي: قد فعل ما هو سبب لإثمه وعقوبته.
لما ذكر أكلة الربا وكان من المعلوم أنهم لو كانوا مؤمنين إيمانا ينفعهم لم يصدر منهم ما صدر ذكر حالة المؤمنين وأجرهم، وخاطبهم بالإيمان، ونهاهم عن أكل الربا إن كانوا مؤمنين، وهؤلاء هم الذين يقبلون موعظة ربهم وينقادون لأمره، وأمرهم أن يتقوه، ومن جملة تقواه أن يذروا ما بقي من الربا أي: المعاملات الحاضرة الموجودة، وأما ما سلف، فمن اتعظ عفا الله عنه ما سلف، وأما من لم ينزجر بموعظة الله ولم يقبل نصيحته فإنه مشاق لربه محارب له، وهو عاجز ضعيف ليس له يدان في محاربة العزيز الحكيم الذي يمهل للظالم ولا يهمله حتى إذا أخذه، أخذه أخذ عزيز مقتدر ( وإن تبتم ) عن الربا ( فلكم رءوس أموالكم ) أي: أنزلوا عليها ( لا تظلمون ) من عاملتموه بأخذ الزيادة التي هي الربا ( ولا تظلمون ) بنقص رءوس أموالكم.
( وإن كان ) المدين ( ذو عسرة ) لا يجد وفاء ( فنظرة إلى ميسرة ) وهذا واجب عليه أن ينظره حتى يجد ما يوفي به ( وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ) إما بإسقاطها أو بعضها.
( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) وهذه الآية من آخر ما نزل من القرآن، وجعلت خاتمة لهذه الأحكام والأوامر والنواهي، لأن فيها الوعد على الخير، والوعيد على فعل < 1-118 > الشر، وأن من علم أنه راجع إلى الله فمجازيه على الصغير والكبير والجلي والخفي، وأن الله لا يظلمه مثقال ذرة، أوجب له الرغبة والرهبة، وبدون حلول العلم في ذلك في القلب لا سبيل إلى ذلك.

ابو وليد البحيرى
2019-01-30, 12:19 AM
الحلقة (48)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(282)الى الأية(282)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذه آية الدين، وهي أطول آيات القرآن، وقد اشتملت على أحكام عظيمة جليلة المنفعة والمقدار، أحدها: أنه تجوز جميع أنواع المداينات من سلم وغيره، لأن الله أخبر عن المداينة التي عليها المؤمنون إخبار مقرر لها ذاكرا أحكامها، وذلك يدل على الجواز، الثاني والثالث أنه لا بد للسلم من أجل وأنه لا بد أن يكون معينا معلوما فلا يصح حالا ولا إلى أجل مجهول، الرابع: الأمر بكتابة جميع عقود المداينات إما وجوبا وإما استحبابا لشدة الحاجة إلى كتابتها، لأنها بدون الكتابة يدخلها من الغلط والنسيان والمنازعة والمشاجرة شر عظيم، الخامس: أمر الكاتب أن يكتب، السادس: أن يكون عدلا في نفسه لأجل اعتبار كتابته، لأن الفاسق لا يعتبر قوله ولا كتابته، السابع أنه يجب عليه العدل بينهما، فلا يميل لأحدهما لقرابة أو صداقة أو غير ذلك، الثامن: أن يكون الكاتب عارفا بكتابة الوثائق وما يلزم فيها كل واحد منهما، وما يحصل به التوثق، لأنه لا سبيل إلى العدل إلا بذلك، وهذا مأخوذ من قوله: ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) التاسع: أنه إذا وجدت وثيقة بخط المعروف بالعدالة المذكورة يعمل بها، ولو كان هو والشهود قد ماتوا، العاشر: قوله: ( ولا يأب كاتب أن يكتب ) أي: لا يمتنع من منَّ الله عليه بتعليمه الكتابة أن يكتب بين المتداينين، فكما أحسن الله إليه بتعليمه، فليحسن إلى عباد الله المحتاجين إلى كتابته، ولا يمتنع من الكتابة لهم، الحادي عشر: أمر الكاتب أن لا يكتب إلا ما أملاه من عليه الحق، الثاني عشر: أن الذي يملي من المتعاقدين من عليه الدين، الثالث عشر: أمره أن يبين جميع الحق الذي عليه ولا يبخس منه شيئا، الرابع عشر: أن إقرار الإنسان على نفسه مقبول، لأن الله أمر من عليه الحق أن يمل على الكاتب، فإذا كتب إقراره بذلك ثبت موجبه ومضمونه، وهو ما أقر به على نفسه، ولو ادعى بعد ذلك غلطا أو سهوا، الخامس عشر: أن من عليه حقا من الحقوق التي البينة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg على مقدارها وصفتها من كثرة وقلة وتعجيل وتأجيل، أن قوله هو المقبول دون قول من له الحق، لأنه تعالى لم ينهه عن بخس الحق الذي عليه، إلا أن قوله مقبول على ما يقوله من مقدار الحق وصفته، السادس عشر: أنه يحرم على من عليه حق من الحقوق أن يبخس وينقص شيئا من مقداره، أو طيبه وحسنه، أو أجله أو غير ذلك من توابعه ولواحقه، السابع عشر: أن من لا يقدر على إملاء الحق لصغره أو سفهه أو خرسه، أو نحو ذلك، فإنه ينوب وليه منابه في الإملاء والإقرار، الثامن عشر: أنه يلزم الولي من العدل ما يلزم من عليه الحق من العدل، وعدم البخس لقوله ( بالعدل ) التاسع عشر: أنه يشترط عدالة الولي، لأن الإملاء بالعدل المذكور لا يكون من فاسق، العشرون: ثبوت الولاية في الأموال، الحادي والعشرون: أن الحق يكون على الصغير والسفيه والمجنون والضعيف، لا على وليهم، الثاني والعشرون: أن إقرار الصغير والسفيه والمجنون والمعتوه ونحوهم وتصرفهم غير صحيح، لأن الله جعل الإملاء لوليهم، ولم يجعل لهم منه شيئا لطفا بهم ورحمة، خوفا من تلاف أموالهم، الثالث والعشرون: صحة تصرف الولي في مال من ذكر، الرابع والعشرون: فيه مشروعية كون الإنسان يتعلم الأمور التي يتوثق بها المتداينون كل واحد من صاحبه، لأن المقصود من ذلك التوثق والعدل، وما لا يتم المشروع إلا به فهو مشروع، الخامس والعشرون: أن تعلم الكتابة مشروع، بل هو فرض كفاية، لأن الله أمر بكتابة الديون وغيرها، ولا يحصل ذلك إلا بالتعلم، السادس والعشرون: أنه مأمور بالإشهاد على العقود، وذلك على وجه الندب، لأن المقصود من ذلك الإرشاد إلى ما يحفظ الحقوق، فهو عائد لمصلحة المكلفين، نعم إن كان < 1-119 > المتصرف ولي يتيم أو وقف ونحو ذلك مما يجب حفظه تعين أن يكون الإشهاد الذي به يحفظ الحق واجبا، السابع والعشرون: أن نصاب الشهادة في الأموال ونحوها رجلان أو رجل وامرأتان، ودلت السنة أيضا أنه يقبل الشاهد مع يمين المدعي، الثامن والعشرون: أن شهادة الصبيان غير مقبولة لمفهوم لفظ الرجل، التاسع والعشرون: أن شهادة النساء منفردات في الأموال ونحوها لا تقبل، لأن الله لم يقبلهن إلا مع الرجل، وقد يقال إن الله أقام المرأتين مقام رجل للحكمة التي ذكرها وهي موجودة سواء كن مع رجل أو منفردات والله أعلم. الثلاثون: أن شهادة العبد البالغ مقبولة كشهادة الحر لعموم قوله: ( فاستشهدوا شهيدين من رجالكم ) والعبد البالغ من رجالنا، الحادي والثلاثون: أن شهادة الكفار ذكورا كانوا أو نساء غير مقبولة، لأنهم ليسوا منا، ولأن مبنى الشهادة على العدالة وهو غير عدل، الثاني والثلاثون: فيه فضيلة الرجل على المرأة، وأن الواحد في مقابلة المرأتين لقوة حفظه ونقص حفظها، الثالث والثلاثون: أن من نسي شهادته ثم ذكرها فذكر فشهادته مقبولة لقوله: ( فتذكر إحداهما الأخرى ) الرابع والثلاثون: يؤخذ من المعنى أن الشاهد إذا خاف نسيان شهادته في الحقوق الواجبة وجب عليه كتابتها، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والخامس والثلاثون: أنه يجب على الشاهد إذا دعي للشهادة وهو غير معذور، لا يجوز له أن يأبى لقوله: ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) السادس والثلاثون: أن من لم يتصف بصفة الشهداء المقبولة شهادتهم، لم يجب عليه الإجابة لعدم الفائدة بها ولأنه ليس من الشهداء، السابع والثلاثون: النهي عن السآمة والضجر من كتابة الديون كلها من صغير وكبير وصفة الأجل وجميع ما احتوى عليه العقد من الشروط والقيود، الثامن والثلاثون: بيان الحكمة في مشروعية الكتابة والإشهاد في العقود، وأنه ( أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ) فإنها متضمنة للعدل الذي به قوام العباد والبلاد، والشهادة المقترنة بالكتابة تكون أقوم وأكمل وأبعد من الشك والريب والتنازع والتشاجر، التاسع والثلاثون: يؤخذ من ذلك أن من اشتبه وشك في شهادته لم يجز له الإقدام عليها بل لا بد من اليقين، الأربعون: قوله: ( إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها ) فيه الرخصة في ترك الكتابة إذا كانت التجارة حاضرا بحاضر، لعدم شدة الحاجة إلى الكتابة، الحادي والأربعون: أنه وإن رخص في ترك الكتابة في التجارة الحاضرة، فإنه يشرع الإشهاد لقوله: ( وأشهدوا إذا تبايعتم ) الثاني والأربعون: النهي عن مضارة الكاتب بأن يدعى وقت اشتغال وحصول مشقة عليه، الثالث والأربعون: النهي عن مضارة الشهيد أيضا بأن يدعى إلى تحمل الشهادة أو أدائها في مرض أو شغل يشق عليه، أو غير ذلك هذا على جعل قوله: ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) مبنيا للمجهول، وأما على جعلها مبنيا للفاعل ففيه نهي الشاهد والكاتب أن يضارا صاحب الحق بالامتناع أو طلب أجرة شاقة ونحو ذلك، وهذان هما الرابع والأربعون والخامس والأربعون والسادس والأربعون أن ارتكاب هذه المحرمات من خصال الفسق لقوله: ( وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ) السابع والأربعون أن الأوصاف كالفسق والإيمان والنفاق والعداوة والولاية ونحو ذلك تتجزأ في الإنسان، فتكون فيه مادة فسق وغيرها، وكذلك مادة إيمان وكفر لقوله: ( فإنه فسوق بكم ) ولم يقل فأنتم فاسقون أو فُسّاق. الثامن والأربعون: - وحقه أن يتقدم على ما هنا لتقدم موضعه- اشتراط العدالة في الشاهد لقوله: ( ممن ترضون من الشهداء ) التاسع والأربعون: أن العدالة يشترط فيها العرف في كل مكان وزمان، فكل من كان مرضيا معتبرا عند الناس قبلت شهادته، الخمسون: يؤخذ منها عدم قبول شهادة المجهول حتى يزكى، فهذه الأحكام مما يستنبط من هذه الآية الكريمة على حسب الحال الحاضرة والفهم القاصر، ولله في كلامه حكم وأسرار يخص بها من يشاء من عباده.

ابو وليد البحيرى
2019-01-30, 12:22 AM
الحلقة (49)
تفسير السعدى
فففسورة البقرةققق
من الأية(283)الى الأية(286)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة البقرة
وهي مدنية

وقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: إن كنتم مسافرين ( ولم تجدوا كاتبا ) يكتب بينكم ويحصل به التوثق ( فرهان مقبوضة ) أي: يقبضها صاحب الحق وتكون وثيقة عنده حتى يأتيه حقه، ودل هذا على أن الرهن غير المقبوضة لا يحصل منها التوثق، ودل أيضا على أن الراهن والمرتهن لو اختلفا في قدر ما رهنت به، كان القول قول المرتهن، ووجه ذلك أن الله جعل الرهن عوضا عن الكتابة في توثق صاحب الحق، فلولا أن قول المرتهن مقبول في قدر الذي رهنت به لم يحصل المعنى المقصود، ولما كان المقصود بالرهن التوثق جاز حضرا وسفرا، وإنما نص الله على السفر، لأنه في مظنة الحاجة < 1-120 > إليه لعدم الكاتب فيه، هذا كله إذا كان صاحب الحق يحب أن يتوثق لحقه، فما كان صاحب الحق آمنا من غريمه وأحب أن يعامله من دون رهن فعلى من عليه الحق أن يؤدي إليه كاملا غير ظالم له ولا باخس حقه ( وليتق الله ربه ) في أداء الحق ويجازي من أحسن به الظن بالإحسان ( ولا تكتموا الشهادة ) لأن الحق مبني عليها لا يثبت بدونها، فكتمها من أعظم الذنوب، لأنه يترك ما وجب عليه من الخبر الصدق ويخبر بضده وهو الكذب، ويترتب على ذلك فوات حق من له الحق، ولهذا قال تعالى: ( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم ) وقد اشتملت هذه الأحكام الحسنة التي أرشد الله عباده إليها على حكم عظيمة ومصالح عميمة دلت على أن الخلق لو اهتدوا بإرشاد الله لصلحت دنياهم مع صلاح دينهم، لاشتمالها على العدل والمصلحة، وحفظ الحقوق وقطع المشاجرات والمنازعات، وانتظام أمر المعاش، فلله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه لا نحصي ثناء عليه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا إخبار من الله أنه له ما في السماوات وما في الأرض، الجميع خلقهم ورزقهم ودبرهم لمصالحهم الدينية والدنيوية، فكانوا ملكا له وعبيدا، لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه، وقد أمرهم ونهاهم وسيحاسبهم على ما أسروه وأعلنوه، ( فيغفر لمن يشاء ) وهو لمن أتى بأسباب المغفرة، ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره ( والله على كل شيء قدير ) لا يعجزه شيء، بل كل الخلق طوع قهره ومشيئته وتقديره وجزائه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه، وانقيادهم وطاعتهم وسؤالهم مع ذلك المغفرة، فأخبر أنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهذا يتضمن الإيمان بجميع ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله من صفات كماله ونعوت جلاله على وجه الإجمال والتفصيل، وتنزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع صفات النقص، ويتضمن الإيمان بالملائكة الذين نصت عليهم الشرائع جملة وتفصيلا وعلى الإيمان بجميع الرسل والكتب، أي: بكل ما أخبرت به الرسل وتضمنته الكتب من الأخبار والأوامر والنواهي، وأنهم لا يفرقون بين أحد من رسله، بل يؤمنون بجميعهم، لأنهم وسائط بين الله وبين عباده، فالكفر ببعضهم كفر بجميعهم بل كفر بالله ( وقالوا سمعنا ) ما أمرتنا به ونهيتنا ( وأطعنا ) لك في ذلك، ولم يكونوا ممن قالوا سمعنا وعصينا، ولما كان العبد لا بد أن يحصل منه تقصير في حقوق الله تعالى وهو محتاج إلى مغفرته على الدوام، قالوا ( غفرانك ) أي: نسألك مغفرة لما صدر منا من التقصير والذنوب، ومحو ما اتصفنا به من العيوب ( وإليك المصير ) أي: المرجع لجميع الخلائق فتجزيهم بما عملوا من خير وشر.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما نزل قوله تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به، فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها أي: أمرا تسعه طاقتها، ولا يكلفها ويشق عليها، كما قال تعالى ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل، إما بإسقاطه عن المكلف، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم، ثم أخبر تعالى أن لكل نفس ما كسبت من الخير، وعليها ما اكتسبت من الشر، فلا تزر وازرة وزر أخرى ولا تذهب حسنات العبد لغيره، وفي الإتيان بـ " كسب "في الخير الدال على أن عمل الخير يحصل للإنسان بأدنى سعي منه بل بمجرد نية القلب وأتى بـ " اكتسب "في عمل الشر للدلالة على أن عمل الشر لا يكتب على الإنسان حتى يعمله ويحصل سعيه، ولما أخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه وأن كل عامل سيجازى بعمله، وكان الإنسان عرضة للتقصير والخطأ والنسيان، وأخبر أنه لا يكلفنا إلا ما نطيق وتسعه قوتنا، أخبر عن دعاء المؤمنين بذلك، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم < 1-121 > أن الله قال: قد فعلت. إجابة لهذا الدعاء، فقال ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) والفرق بينهما: أن النسيان: ذهول القلب عن ما أمر به فيتركه نسيانا، والخطأ: أن يقصد شيئا يجوز له قصده ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله: فهذان قد عفا الله عن هذه الأمة ما يقع بهما رحمة بهم وإحسانا، فعلى هذا من صلى في ثوب مغصوب، أو نجس، أو قد نسي نجاسة على بدنه، أو تكلم في الصلاة ناسيا، أو فعل مفطرا ناسيا، أو فعل محظورا من محظورات الإحرام التي ليس فيها إتلاف ناسيا، فإنه معفو عنه، وكذلك لا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا، وكذلك لو أخطأ فأتلف نفسا أو مالا فليس عليه إثم، وإنما الضمان مرتب على مجرد الإتلاف، وكذلك المواضع التي تجب فيها التسمية إذا تركها الإنسان ناسيا لم يضر. ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا ) أي: تكاليف مشقة ( كما حملته على الذين من قبلنا ) وقد فعل تعالى فإن الله خفف عن هذه الأمة في الأوامر من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) وقد فعل وله الحمد ( واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ) فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع المكاره والشرور، والرحمة يحصل بها صلاح الأمور ( أنت مولانا ) أي: ربنا ومليكنا وإلهنا الذي لم تزل ولايتك إيانا منذ أوجدتنا وأنشأتنا فنعمك دارة علينا متصلة عدد الأوقات، ثم أنعمت علينا بالنعمة العظيمة والمنحة الجسيمة، وهي نعمة الإسلام التي جميع النعم تبع لها، فنسألك يا ربنا ومولانا تمام نعمتك بأن تنصرنا على القوم الكافرين، الذين كفروا بك وبرسلك، وقاوموا أهل دينك ونبذوا أمرك، فانصرنا عليهم بالحجة والبيان والسيف والسنان، بأن تمكن لنا في الأرض وتخذلهم وترزقنا الإيمان والأعمال التي يحصل بها النصر، والحمد لله رب العالمين. تم تفسير سورة البقرة بعون الله وتوفيقه وصلى الله على محمد وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-02-02, 12:52 AM
الحلقة (50)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(1)الى الأية(9)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية



نزل صدرها إلى بضع وثمانين آية في مخاصمة النصارى وإبطال مذهبهم ودعوتهم إلى الدخول في الدين الحق دين الإسلام كما نزل صدر البقرة في محاجة اليهود كما تقدم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الم (1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

افتتحها تبارك وتعالى بالإخبار بألوهيته، وأنه الإله الذي لا إله إلا هو الذي لا ينبغي التأله والتعبد إلا لوجهه، فكل معبود سواه فهو باطل، والله هو الإله الحق المتصف بصفات الألوهية التي مرجعها إلى الحياة والقيومية، فالحي من له الحياة العظيمة الكاملة المستلزمة لجميع الصفات التي لا تتم ولا تكمل الحياة إلا بها كالسمع والبصر والقدرة والقوة والعظمة والبقاء والدوام والعز الذي لا يرام ( القيوم ) الذي قام بنفسه فاستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام بغيره فافتقرت إليه جميع مخلوقاته في الإيجاد والإعداد والإمداد، فهو الذي قام بتدبير الخلائق وتصريفهم، تدبير للأجسام وللقلوب والأرواح.
ومن قيامه تعالى بعباده ورحمته بهم أن نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب، الذي هو أجل الكتب وأعظمها المشتمل على الحق في إخباره وأوامره ونواهيه، فما أخبر به صدق، وما حكم به فهو العدل، وأنزله بالحق ليقوم الخلق بعبادة ربهم ويتعلموا كتابه ( مصدقا لما بين يديه ) من الكتب السابقة، فهو المزكي لها، فما شهد له فهو المقبول، وما رده فهو المردود، وهو المطابق لها في جميع المطالب التي اتفق عليها المرسلون، وهي شاهدة له بالصدق، فأهل الكتاب لا يمكنهم التصديق بكتبهم إن لم يؤمنوا به، فإن كفرهم به ينقض إيمانهم بكتبهم، ثم قال تعالى ( وأنزل التوراة ) أي: على موسى ( والإنجيل ) على عيسى.
( من قبل ) إنزال القرآن ( هدى للناس ) الظاهر أن هذا راجع لكل ما تقدم، أي: أنزل الله القرآن والتوراة والإنجيل هدى للناس من الضلال، فمن قبل هدى الله فهو المهتدي، ومن لم يقبل ذلك بقي على ضلاله ( وأنزل الفرقان ) أي: الحجج والبينات والبراهين القاطعات الدالة على جميع المقاصد والمطالب، وكذلك فصل وفسر ما يحتاج إليه الخلق حتى بقيت الأحكام جلية ظاهرة، فلم يبق لأحد عذر ولا حجة لمن لم يؤمن به وبآياته، فلهذا قال ( إن الذين كفروا بآيات الله ) أي: بعد ما بينها ووضحها وأزاح العلل ( لهم عذاب شديد ) لا يقدر قدره ولا يدرك وصفه ( والله عزيز ) أي: قوي لا يعجزه شيء ( ذو انتقام ) ممن عصاه.
( إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ) وهذا فيه تقرير إحاطة علمه بالمعلومات كلها، جليها وخفيها، ظاهرها وباطنها، ومن جملة ذلك الأجنة في البطون التي لا يدركها بصر المخلوقين، ولا ينالها علمهم، وهو تعالى يدبرها بألطف تدبير، ويقدرها بكل تقدير، فلهذا قال < 1-122 > ( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ) .
( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ) من كامل الخلق وناقصه، وحسن وقبيح، وذكر وأنثى ( لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) تضمنت هذه الآيات تقرير إلهية الله وتعينها، وإبطال إلهية ما سواه، وفي ضمن ذلك رد على النصارى الذين يزعمون إلهية عيسى ابن مريم عليه السلام، وتضمنت إثبات حياته الكاملة وقيوميته التامة، المتضمنتين جميع الصفات المقدسة كما تقدم، وإثبات الشرائع الكبار، وأنها رحمة وهداية للناس، وتقسيم الناس إلى مهتد وغيره، وعقوبة من لم يهتد بها، وتقرير سعة علم الباري ونفوذ مشيئته وحكمته.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

القرآن العظيم كله محكم كما قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فهو مشتمل على غاية الإتقان والإحكام والعدل والإحسان http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وكله متشابه في الحسن والبلاغة وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظا ومعنى، وأما الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله ( منه آيات محكمات ) أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال ( هن أم الكتاب ) أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره، ( و ) منه آيات ( أخر متشابهات ) أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان: لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة، ولكن الناس انقسموا إلى فرقتين ( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) أي: ميل عن الاستقامة بأن فسدت مقاصدهم، وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد ( فيتبعون ما تشابه منه ) أي: يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه، ويعكسون الأمر فيحملون المحكم على المتشابه ( ابتغاء الفتنة ) لمن يدعونهم لقولهم، فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع فيه، وإلا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة، لوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه، وقوله ( وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله ) للمفسرين في الوقوف على ( الله ) من قوله ( وما يعلم تأويله إلا الله ) قولان، جمهورهم يقفون عندها، وبعضهم يعطف عليها ( والراسخون في العلم ) وذلك كله محتمل، فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه كان الصواب الوقوف على ( إلا الله ) لأن المتشابه الذي استأثر الله بعلم كنهه وحقيقته، نحو حقائق صفات الله وكيفيتها، وحقائق أوصاف ما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك، فهذه لا يعلمها إلا الله، ولا يجوز التعرض للوقوف عليها، لأنه تعرض لما لا يمكن معرفته، كما سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ [اسْتَوَى ] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg فقال السائل: كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهكذا يقال في سائر الصفات لمن سأل عن كيفيتها أن يقال كما قال الإمام مالك، تلك الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، وقد أخبرنا الله بها ولم يخبرنا بكيفيتها، فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا، فأهل الزيغ يتبعون هذه الأمور المشتبهات تعرضا لما لا يعني، وتكلفا لما لا سبيل لهم إلى علمه، لأنه لا يعلمها إلا الله، وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكلون المعنى إلى الله فيسلمون ويسلمون، وإن أريد بالتأويل التفسير والكشف والإيضاح، كان الصواب عطف ( الراسخون ) على ( الله ) فيكون الله قد أخبر أن تفسير المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة لا يعلمها إلا هو تعالى والراسخون في العلم يعلمون أيضا، فيؤمنون بها ويردونها للمحكم ويقولون ( كل ) من المحكم والمتشابه ( من عند ربنا ) وما كان من عنده فليس فيه تعارض ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg وفيه تنبيه على الأصل الكبير، وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله، وأشكل عليهم مجمل المتشابه، علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم، وإن لم يفهموا وجه ذلك. ولما رغب تعالى في التسليم والإيمان بأحكامه وزجر عن اتباع المتشابه قال ( وما يذكر ) أي: يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إلا ( أولوا الألباب ) أي: أهل العقول الرزينة لب العالم وخلاصة بني آدم يصل التذكير إلى عقولهم، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه، وأما من عداهم فهم القشور الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته، لا ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم من العقول النافعة.
< 1-123 >
ثم أخبر تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يدعون ويقولون ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ) أي: لا تملها عن الحق جهلا وعنادا منا، بل اجعلنا مستقيمين هادين مهتدين، فثبتنا على هدايتك وعافنا مما http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ابتليت به الزائغين ( وهب لنا من لدنك رحمة ) أي: عظيمة توفقنا بها للخيرات وتعصمنا بها من المنكرات ( إنك أنت الوهاب ) أي: واسع العطايا والهبات، كثير الإحسان الذي عم جودك جميع البريات.
( ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إنك لا تخلف الميعاد ) فمجازيهم بأعمالهم حسنها وسيئها، وقد أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم بسبع صفات هي عنوان سعادة العبد: إحداها: العلم الذي هو الطريق الموصل إلى الله، المبين لأحكامه وشرائعه، الثانية: الرسوخ في العلم وهذا قدر زائد على مجرد العلم، فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالما محققا، وعارفا مدققا، قد علمه الله ظاهر العلم وباطنه، فرسخ قدمه في أسرار الشريعة علما وحالا وعملا الثالثة: أنه وصفهم بالإيمان بجميع كتابه ورد لمتشابهه إلى محكمه، بقوله ( يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) الرابعة: أنهم سألوا الله العفو والعافية مما ابتلي به الزائغون المنحرفون، الخامسة: اعترافهم بمنة الله عليهم بالهداية وذلك قوله ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ) السادسة: أنهم مع هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير واندفاع كل شر، وتوسلوا إليه باسمه الوهاب، السابعة: أنه أخبر عن إيمانهم وإيقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه، وهذا هو الموجب للعمل الرادع عن الزلل.

ابو وليد البحيرى
2019-02-02, 12:56 AM
الحلقة (51)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(10)الى الأية(15)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية

ثم قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ (13) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى أن الكفار به وبرسله، الجاحدين بدينه وكتابه، قد استحقوا العقاب وشدة العذاب بكفرهم وذنوبهم وأنه لا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم شيئا، وإن كانوا في الدنيا يستدفعون بذلك النكبات التي ترد عليهم، ويقولون http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فيوم القيامة يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وليس للأولاد والأموال قدر عند الله، إنما ينفع العبد إيمانه بالله وأعماله الصالحة، كما قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وأخبر هنا أن الكفار هم وقود النار، أي: حطبها، الملازمون لها دائما أبدا، وهذه الحال التي ذكر الله تعالى أنها لا تغني الأموال والأولاد عن الكفار شيئا، سنته الجارية في الأمم السابقة.

كما جرى لفرعون ومن قبله ومن بعدهم من الفراعنة العتاة الطغاة أرباب الأموال والجنود لما كذبوا بآيات الله وجحدوا ما جاءت به الرسل وعاندوا، أخذهم الله بذنوبهم عدلا منه لا ظلما والله شديد العقاب على من أتى بأسباب العقاب وهو الكفر والذنوب على اختلاف أنواعها وتعدد مراتبها.
ثم قال تعالى ( قل ) يا محمد ( للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ) وفي هذا إشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة وتحذير للكفار، وقد وقع كما أخبر تعالى، فنصر الله المؤمنين على أعدائهم من كفار المشركين واليهود والنصارى، وسيفعل هذا تعالى بعباده وجنده المؤمنين إلى يوم القيامة، ففي هذا عبرة وآية من آيات القرآن المشاهدة بالحس والعيان، وأخبر تعالى أن الكفار مع أنهم مغلوبون في الدار أنهم محشورون ومجموعون يوم القيامة لدار البوار، وهذا هو الذي مهدوه لأنفسهم فبئس المهاد مهادهم، وبئس الجزاء جزاؤهم.
( قد كان لكم آية ) أي: عبرة عظيمة ( في فئتين التقتا ) وهذا يوم بدر ( فئة تقاتل في سبيل الله ) وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ( وأخرى كافرة ) أي: كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرا وفخرا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، فجمع الله بين الطائفتين في بدر، وكان المشركون أضعاف المؤمنين، فلهذا قال ( يرونهم مثليهم رأي العين ) أي: يرى المؤمنون الكافرين يزيدون عليها زيادة كثيرة، تبلغ المضاعفة وتزيد عليها، وأكد هذا بقوله ( رأي العين ) فنصر الله المؤمنين وأيدهم بنصره فهزموهم، وقتلوا صناديدهم، وأسروا كثيرا منهم، وما ذاك إلا لأن الله ناصر من نصره، وخاذل من كفر به، ففي هذا عبرة لأولي الأبصار، أي: أصحاب البصائر النافذة والعقول الكاملة، على أن الطائفة المنصورة معها الحق، والأخرى مبطلة، وإلا فلو نظر الناظر إلى مجرد الأسباب الظاهرة والعدد والعُدد لجزم بأن غلبة هذه الفئة القليلة لتلك الفئة الكثيرة من أنواع المحالات، ولكن وراء هذا السبب المشاهد بالأبصار سبب أعظم منه لا يدركه إلا أهل البصائر والإيمان بالله والتوكل على الله والثقة بكفايته، وهو نصره وإعزازه لعباده المؤمنين على أعدائه الكافرين.
< 1-124 >

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية، وخص هذه الأمور المذكورة لأنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تبع لها، قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات، تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين: قسم: جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي: وجه حصلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فهؤلاء كانت زادا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب، والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها وأن الله جعلها ابتلاء وامتحانا لعباده، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم وطريقا يتزودون منها لآخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها كما قال الله فيها ( ذلك متاع الحياة الدنيا ) فجعلوها معبرا إلى الدار الآخرة ومتجرا يرجون بها الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زادا إلى ربهم. وفي هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذير للمغترين بها وتزهيد لأهل العقول النيرة بها، وتمام ذلك أن الله تعالى أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين الأبرار، وأخبر أنها خير من ذلكم المذكور، ألا وهي الجنات العاليات ذات المنازل الأنيقة والغرف العالية، والأشجار المتنوعة المثمرة بأنواع الثمار، والأنهار الجارية على حسب مرادهم والأزواج المطهرة من كل قذر ودنس وعيب ظاهر وباطن، مع الخلود الدائم الذي به تمام النعيم، مع الرضوان من الله الذي هو أكبر نعيم، فقس هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة، ثم اختر لنفسك أحسنهما واعرض على قلبك المفاضلة بينهما ( والله بصير بالعباد ) أي: عالم بما فيهم من الأوصاف الحسنة والأوصاف القبيحة، وما هو اللائق بأحوالهم، يوفق من شاء منهم ويخذل من شاء. فالجنة التي ذكر الله وصفها ونعتها بأكمل نعت وصف أيضا المستحقين لها وهم الذين اتقوه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وكان من دعائهم أن قالوا:

ابو وليد البحيرى
2019-02-02, 01:05 AM
الحلقة (52)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(16)الى الأية(22)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16 - 17) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg

توسلوا بمنة الله عليهم بتوفيقهم للإيمان أن يغفر لهم ذنوبهم ويقيهم شر آثارها وهو عذاب النار، ثم فصل أوصاف التقوى.

فقال http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الصَّابِرِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أنفسهم على ما يحبه الله من طاعته، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالصَّادِقِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg في إيمانهم وأقوالهم وأحوالهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالْمُنْفِقِين َ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg مما رزقهم الله بأنواع النفقات على المحاويج من الأقارب وغيرهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالأَسْحَارِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg لما بين صفاتهم الحميدة ذكر احتقارهم لأنفسهم وأنهم لا يرون لأنفسهم، حالا ولا مقاما، بل يرون أنفسهم مذنبين مقصرين فيستغفرون ربهم، ويتوقعون أوقات الإجابة وهي السحر، قال الحسن: مدوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا يستغفرون ربهم. فتضمنت هذه الآيات حالة الناس في الدنيا وأنها متاع ينقضي، ثم وصف الجنة وما فيها من النعيم وفاضل بينهما، وفضل الآخرة على الدنيا تنبيها على أنه يجب إيثارها والعمل لها، ووصف أهل الجنة وهم المتقون، ثم فصل خصال التقوى، فبهذه الخصال يزن العبد نفسه، هل هو من أهل الجنة أم لا؟
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا تقرير من الله تعالى للتوحيد بأعظم الطرق الموجبة له، وهي شهادته تعالى وشهادة خواص الخلق وهم الملائكة وأهل العلم، أما شهادته تعالى فيما أقامه من الحجج والبراهين القاطعة على توحيده، وأنه لا إله إلا هو، فنوع الأدلة في الآفاق والأنفس على هذا الأصل العظيم، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه ما قام أحد بتوحيده إلا ونصره على المشرك الجاحد المنكر للتوحيد، وكذلك إنعامه العظيم الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، والخلق كلهم عاجزون عن المنافع والمضار لأنفسهم ولغيرهم، ففي هذا برهان قاطع على وجوب التوحيد وبطلان الشرك، وأما شهادة الملائكة بذلك فنستفيدها بإخبار الله لنا بذلك وإخبار رسله، وأما شهادة أهل العلم فلأنهم هم < 1-125 > المرجع في جميع الأمور الدينية خصوصا في أعظم الأمور وأجلها وأشرفها وهو التوحيد، فكلهم من أولهم إلى آخرهم قد اتفقوا على ذلك ودعوا إليه وبينوا للناس الطرق الموصلة إليه، فوجب على الخلق التزام هذا الأمر المشهود عليه والعمل به، وفي هذا دليل على أن أشرف الأمور علم التوحيد لأن الله شهد به بنفسه وأشهد عليه خواص خلقه، والشهادة لا تكون إلا عن علم ويقين، بمنزلة المشاهدة للبصر، ففيه دليل على أن من لم يصل في علم التوحيد إلى هذه الحالة فليس من أولي العلم. وفي هذه الآية دليل على شرف العلم من وجوه كثيرة، منها: أن الله خصهم بالشهادة على أعظم مشهود عليه دون الناس، ومنها: أن الله قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وكفى بذلك فضلا ومنها: أنه جعلهم أولي العلم، فأضافهم إلى العلم، إذ هم القائمون به المتصفون بصفته، ومنها: أنه تعالى جعلهم شهداء وحجة على الناس، وألزم الناس العمل بالأمر المشهود به، فيكونون هم السبب في ذلك، فيكون كل من عمل بذلك نالهم من أجره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومنها: أن إشهاده تعالى أهل العلم يتضمن ذلك تزكيتهم وتعديلهم وأنهم أمناء على ما استرعاهم عليه، ولما قرر توحيده قرر عدله، فقال: ( قائمًا بالقسط ) أي: لم يزل متصفا بالقسط في أفعاله وتدبيره بين عباده، فهو على صراط مستقيم في ما أمر به ونهى عنه، وفيما خلقه وقدره، ثم أعاد تقرير توحيده فقال ( لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) واعلم أن هذا الأصل الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبودية قد دلت عليه الأدلة النقلية والأدلة العقلية، حتى صار لذوي البصائر أجلى من الشمس، فأما الأدلة النقلية فكل ما في كتاب الله وسنة رسوله، من الأمر به وتقريره، ومحبة أهله وبغض من لم يقم به وعقوباتهم، وذم الشرك وأهله، فهو من الأدلة النقلية على ذلك، حتى كاد القرآن أن يكون كله أدلة عليه، وأما الأدلة العقلية التي تدرك بمجرد فكر العقل وتصوره للأمور فقد أرشد القرآن إليها ونبه على كثير منها، فمن أعظمها: الاعتراف بربوبية الله، فإن من عرف أنه هو الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور أنتج له ذلك أنه هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولما كان هذا من أوضح الأشياء وأعظمها أكثر الله تعالى من الاستدلال به في كتابه. ومن الأدلة العقلية على أن الله هو الذي يؤله دون غيره انفراده بالنعم ودفع النقم، فإن من عرف أن النعم الظاهرة والباطنة القليلة والكثيرة كلها من الله، وأنه ما من نقمة ولا شدة ولا كربة إلا وهو الذي ينفرد بدفعها وإن أحدا من الخلق لا يملك لنفسه - فضلا عن غيره- جلب نعمة ولا دفع نقمة، تيقن أن عبودية ما سوى الله من أبطل الباطل وأن العبودية لا تنبغي إلا لمن انفرد بجلب المصالح ودفع المضار، فلهذا أكثر الله في كتابه من التنبيه على هذا الدليل جدا، ومن الأدلة العقلية أيضا على ذلك: ما أخبر به تعالى عن المعبودات التي عبدت من دونه، بأنها لا تملك نفعا ولا ضرا، ولا تنصر غيرها ولا تنصر نفسها، وسلبها الأسماع والأبصار، وأنها على فرض سماعها لا تغني شيئا، وغير ذلك من الصفات الدالة على نقصها غاية النقص، وما أخبر به عن نفسه العظيمة من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة، والقدرة والقهر، وغير ذلك من الصفات التي تعرف بالأدلة السمعية والعقلية، فمن عرف ذلك حق المعرفة عرف أن العبادة لا تليق ولا تحسن إلا بالرب العظيم الذي له الكمال كله، والمجد كله، والحمد كله، والقدرة كلها، والكبرياء كلها، لا بالمخلوقات المدبرات الناقصات الصم البكم الذين لا يعقلون، ومن الأدلة العقلية على ذلك ما شاهده العباد بأبصارهم من قديم الزمان وحديثه، من الإكرام لأهل التوحيد، والإهانة والعقوبة لأهل الشرك، وما ذاك إلا لأن التوحيد جعله الله موصلا إلى كل خير دافعا لكل شر ديني ودنيوي، وجعل الشرك به والكفر سببا للعقوبات الدينية والدنيوية، ولهذا إذا ذكر تعالى قصص الرسل مع أمم المطيعين والعاصين، وأخبر عن عقوبات العاصين ونجاة الرسل ومن تبعهم، قال عقب كل قصة: ( إن في ذلك لآية ) أي: لعبرة يعتبر بها المعتبرون فيعلمون أن توحيده هو الموجب للنجاة، وتركه هو الموجب للهلاك، فهذه من الأدلة الكبار العقلية النقلية الدالة على هذا الأصل العظيم، وقد أكثر الله منها في كتابه وصرفها ونوعها ليحيى من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة فله الحمد والشكر والثناء.
ولما قرر أنه الإله الحق المعبود، بين العبادة والدين الذي يتعين أن يعبد به ويدان له، وهو الإسلام الذي هو الاستسلام لله بتوحيده وطاعته التي دعت إليها رسله، وحثت عليها كتبه، وهو الذي لا يقبل من أحد دين سواه، وهو متضمن للإخلاص له في الحب والخوف والرجاء والإنابة والدعاء ومتابعة رسوله في ذلك، وهذا هو دين الرسل كلهم، وكل من تابعهم فهو على طريقهم، وإنما اختلف أهل الكتاب بعد ما جاءتهم كتبهم تحثهم على الاجتماع على دين الله، بغيا بينهم، وظلما وعدوانا من أنفسهم، وإلا فقد جاءهم السبب الأكبر الموجب أن يتبعوا < 1-126 > الحق ويتركوا الاختلاف، وهذا من كفرهم، فلهذا قال تعالى ( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ) فيجازي كل عامل بعمله، وخصوصا من ترك الحق بعد معرفته، فهذا مستحق للوعيد الشديد والعقاب الأليم، ثم أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عند محاجة النصارى وغيرهم ممن يفضل غير دين الإسلام .
عليه أن يقول لهم: قد ( أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ) أي: أنا ومن اتبعني قد أقررنا وشهدنا وأسلمنا وجوهنا لربنا، وتركنا ما سوى دين الإسلام، وجزمنا ببطلانه، ففي هذا تأييس لمن طمع فيكم، وتجديد لدينكم عند ورود الشبهات، وحجة على من اشتبه عليه الأمر، لأنه قد تقدم أن الله استشهد على توحيده بأهل العلم من عباده ليكونوا حجة على غيرهم، وسيد أهل العلم وأفضلهم وأعلمهم هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم من بعده أتباعه على اختلاف مراتبهم وتفاوت درجاتهم، فلهم من العلم الصحيح والعقل الرجيح ما ليس لأحد من الخلق ما يساويهم أو يقاربهم، فإذا ثبت وتقرر توحيد الله ودينه بأدلته الظاهرة، وقام به أكمل الخلق وأعلمهم، حصل بذلك اليقين وانتفى كل شك وريب وقادح، وعرف أن ما سواه من الأديان باطلة، فلهذا قال ( وقل للذين أوتوا الكتاب ) من النصارى واليهود ( والأميين ) مشركي العرب وغيرهم ( أأسلمتم فإن أسلموا ) أي: بمثل ما آمنتم به ( فقد اهتدوا ) كما اهتديتم وصاروا إخوانكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم ( وإن تولوا ) عن الإسلام ورضوا بالأديان التي تخالفه ( فإنما عليك البلاغ ) فقد وجب أجرك على ربك، وقامت عليهم الحجة، ولم يبق بعد هذا إلا مجازاتهم بالعقاب على جرمهم، فلهذا قال ( والله بصير بالعباد ) .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هؤلاء الذين أخبر الله عنهم في هذه الآية، أشد الناس جرما وأي: جرم أعظم من الكفر بآيات الله التي تدل دلالة قاطعة على الحق الذي من كفر بها فهو في غاية الكفر والعناد ويقتلون أنبياء الله الذين حقهم أوجب الحقوق على العباد بعد حق الله، الذين أوجب الله طاعتهم والإيمان بهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، ونصرهم وهؤلاء قابلوهم بضد ذلك، ويقتلون أيضا الذين يأمرون الناس بالقسط الذي هو العدل، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي حقيقته إحسان إلى المأمور ونصح له، فقابلوهم شر مقابلة، فاستحقوا بهذه الجنايات المنكرات أشد العقوبات، وهو العذاب المؤلم البالغ في الشدة إلى غاية لا يمكن وصفها، ولا يقدر قدرها المؤلم للأبدان والقلوب والأرواح.
وبطلت أعمالهم بما كسبت أيديهم، وما لهم أحد ينصرهم من عذاب الله ولا يدفع عنهم من نقمته مثقال ذرة، بل قد أيسوا من كل خير، وحصل لهم كل شر وضير، وهذه الحالة صفة اليهود ونحوهم، قبحهم الله ما أجرأهم على الله وعلى أنبيائه وعباده الصالحين.

ابو وليد البحيرى
2019-02-07, 05:56 PM
الحلقة (53)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(23)الى الأية(29)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب الذين أنعم الله عليهم بكتابه، فكان يجب أن يكونوا أقوم الناس به وأسرعهم انقيادا لأحكامه، فأخبر الله عنهم أنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب تولى فريق منهم وهم يعرضون، تولوا بأبدانهم، وأعرضوا بقلوبهم، وهذا غاية الذم، وفي ضمنها التحذير لنا أن نفعل كفعلهم، فيصيبنا من الذم والعقاب ما أصابهم، بل الواجب على كل أحد إذا دعي إلى كتاب الله أن يسمع ويطيع وينقاد، كما قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّمَا كَانَ (قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) والسبب الذي غر أهل الكتاب بتجرئهم على معاصي الله هو قولهم ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ) .
افتروا هذا القول فظنوه حقيقة فعملوا على ذلك ولم ينزجروا عن المحارم، لأن أنفسهم منتهم وغرتهم أن مآلهم إلى الجنة، وكذبوا في ذلك، فإن هذا مجرد كذب وافتراء، وإنما مآلهم شر مآل، وعاقبتهم عاقبة وخيمة، فلهذا قال تعالى ( فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ) .
أي: كيف يكون حالهم ووخيم ما يقدمون عليه، حالة لا يمكن وصفها ولا يتصور قبحها لأن ذلك اليوم يوم توفية النفوس ما كسبت ومجازاتها بالعدل لا بالظلم، وقد علم أن ذلك على قدر الأعمال، وقد تقدم من أعمالهم ما يبين أنهم من أشد الناس عذابا.
< 1-127 >
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ( قل اللهم مالك الملك ) أي: أنت الملك المالك لجميع الممالك، فصفة الملك المطلق لك، والمملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك، ثم فصل بعض التصاريف التي انفرد الباري تعالى بها، فقال: ( تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ) وفيه الإشارة إلى أن الله تعالى سينزع الملك من الأكاسرة والقياصرة ومن تبعهم ويؤتيه أمة محمد، وقد فعل ولله الحمد، فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى، ولا ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته من الأسباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله، فإنها كلها بمشيئة الله لا يوجد سبب يستقل بشيء، بل الأسباب كلها تابعة للقضاء والقدر، ومن الأسباب التي جعلها الله سببا لحصول الملك الإيمان والعمل الصالح، التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم، وإعدادهم الآلات التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع، قال الله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآية فأخبر أن الإيمان والعمل الصالح سبب للاستخلاف المذكور، وقال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِ ينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآية وقال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فأخبر أن ائتلاف قلوب المؤمنين وثباتهم وعدم تنازعهم سبب للنصر على الأعداء، وأنت إذا استقرأت الدول الإسلامية وجدت السبب الأعظم في زوال ملكها ترك الدين والتفرق الذي أطمع فيهم الأعداء وجعل بأسهم بينهم، ثم قال تعالى: ( وتعز من تشاء ) بطاعتك ( وتذل من تشاء ) بمعصيتك ( إنك على كل شيء قدير ) لا يمتنع عليك أمر من الأمور بل الأشياء كلها طوع مشيئتك وقدرتك .

( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ) أي: تدخل هذا على هذا، وهذا على هذا، فينشأ عن ذلك من الفصول والضياء والنور والشمس والظل والسكون والانتشار، ما هو من أكبر الأدلة على قدرة الله وعظمته وحكمته ورحمته ( وتخرج الحي من الميت ) كالفرخ من البيضة، وكالشجر من النوى، وكالزرع من بذره، وكالمؤمن من الكافر ( وتخرج الميت من الحي ) كالبيضة من الطائر وكالنوى من الشجر، وكالحب من الزرع، وكالكافر من المؤمن، وهذا أعظم دليل على قدرة الله، وأن جميع الأشياء مسخرة مدبرة لا تملك من التدبير شيئا، فخلقه تعالى الأضداد، والضد من ضده بيان أنها مقهورة ( وترزق من تشاء بغير حساب ) أي: ترزق من تشاء رزقا واسعا من حيث لا يحتسب ولا يكتسب، ثم قال تعالى:

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالاة الكافرين بالمحبة والنصرة والاستعانة بهم على أمر من أمور المسلمين، وتوعد على ذلك فقال: ( ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ) أي: فقد انقطع عن الله، وليس له في دين الله نصيب، لأن موالاة الكافرين لا تجتمع مع الإيمان، لأن الإيمان يأمر بموالاة الله وموالاة أوليائه المؤمنين المتعاونين على إقامة دين الله وجهاد أعدائه، قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فمن والى - الكافرين من دون المؤمنين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله ويفتنوا أولياءه خرج من حزب المؤمنين، وصار من حزب الكافرين، قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وفي هذه الآية دليل على الابتعاد عن الكفار وعن معاشرتهم وصداقتهم، والميل إليهم < 1-128 > والركون إليهم، وأنه لا يجوز أن يولى كافر ولاية من ولايات المسلمين، ولا يستعان به على الأمور التي هي مصالح لعموم المسلمين. قال الله تعالى: ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg أي: تخافوهم على أنفسكم فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية باللسان وإظهار ما به تحصل التقية. ثم قال تعالى: ( ويحذركم الله نفسه ) أي: فلا تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه فيعاقبكم على ذلك ( وإلى الله المصير ) أي: مرجع العباد ليوم التناد، فيحصي أعمالهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم، فإياكم أن تفعلوا من الأعمال القباح ما تستحقون به العقوبة، واعملوا ما به يحصل الأجر والمثوبة، ثم أخبر عن سعة علمه لما في النفوس خصوصا، ولما في السماء والأرض عموما، وعن كمال قدرته، ففيه إرشاد إلى تطهير القلوب واستحضار علم الله كل وقت فيستحي العبد من ربه أن يرى قلبه محلا لكل فكر رديء، بل يشغل أفكاره فيما يقرب إلى الله من تدبر آية من كتاب، أو سنة من أحاديث رسول الله، أو تصور وبحث في علم ينفعه، أو تفكر في مخلوقات الله ونعمه، أو نصح لعباد الله.

ابو وليد البحيرى
2019-02-07, 06:03 PM
الحلقة (54)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(30)الى الأية(37)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وفي ضمن إخبار الله عن علمه وقدرته الإخبار بما هو لازم ذلك من المجازاة على الأعمال، ومحل ذلك يوم القيامة، فهو الذي توفى به النفوس بأعمالها فلهذا قال ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا ) .
أي: كاملا موفرا لم ينقص مثقال ذرة، كما قال تعالى: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) والخير: اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة صغيرها وكبيرها، كما أن السوء اسم جامع لكل ما يسخط الله من الأعمال السيئة صغيرها وكبيرها ( وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا ) أي: مسافة بعيدة، لعظم أسفها وشدة حزنها، فليحذر العبد من أعمال السوء التي لا بد أن يحزن عليها أشد الحزن، وليتركها وقت الإمكان قبل أن يقول ( يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فوالله لترك كل شهوة ولذة وإن عسر تركها على النفس في هذه الدار أيسر من معاناة تلك الشدائد واحتمال تلك الفضائح، ولكن العبد من ظلمه وجهله لا ينظر إلا الأمر الحاضر، فليس له عقل كامل يلحظ به عواقب الأمور فيقدم على ما ينفعه عاجلا وآجلا ويحجم عن ما يضره عاجلا وآجلا ثم أعاد تعالى تحذيرنا نفسه رأفة بنا ورحمة لئلا يطول علينا الأمد فتقسو قلوبنا، وليجمع لنا بين الترغيب الموجب للرجاء والعمل الصالح، والترهيب الموجب للخوف وترك الذنوب، فقال ( ويحذركم الله نفسه والله رءوفٌ بالعباد ) فنسأله أن يمن علينا بالحذر منه على الدوام، حتى لا نفعل ما يسخطه ويغضبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وهذه الآية فيها وجوب محبة الله، وعلاماتها، ونتيجتها، وثمراتها، فقال ( قل إن كنتم تحبون الله ) أي: ادعيتم هذه المرتبة العالية، والرتبة التي ليس فوقها رتبة فلا يكفي فيها مجرد الدعوى، بل لا بد من الصدق فيها، وعلامة الصدق اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، في أقواله وأفعاله، في أصول الدين وفروعه، في الظاهر والباطن، فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى، وأحبه الله وغفر له ذنبه، ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته، ومن لم يتبع الرسول فليس محبا لله تعالى، لأن محبته لله توجب له اتباع رسوله، فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها، مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها، وبهذه الآية يوزن جميع الخلق، فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله، وما نقص من ذلك نقص.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وهذا أمر من الله تعالى لعباده بأعم الأوامر، وهو طاعته وطاعة رسوله التي يدخل بها الإيمان والتوحيد، وما هو من فروع ذلك من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، بل يدخل في طاعته وطاعة رسوله اجتناب ما نهى عنه، لأن اجتنابه امتثالا لأمر الله هو من طاعته، فمن أطاع الله ورسوله، فأولئك هم المفلحون ( فإن تولوا ) أي: أعرضوا عن طاعة الله ورسوله فليس ثم أمر يرجعون إليه إلا الكفر وطاعة كل شيطان مريد http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فلهذا قال: ( فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ) بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم أشد العقوبة، وكأن في هذه الآية الكريمة بيانا وتفسيرا لاتباع رسوله، وأن ذلك بطاعة الله وطاعة رسوله، هذا هو الاتباع الحقيقي، ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى باختيار من اختاره من أوليائه وأصفيائه وأحبابه، فأخبر أنه اصطفى آدم، أي: اختاره على سائر المخلوقات، فخلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له، وأسكنه جنته، وأعطاه من العلم < 1-129 > والحلم والفضل ما فاق به سائر المخلوقات، ولهذا فضل بنيه، فقال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
واصطفى نوحا فجعله أول رسول إلى أهل الأرض حين عبدت الأوثان، ووفقه من الصبر والاحتمال والشكر والدعوة إلى الله في جميع الأوقات ما أوجب اصطفاءه واجتباءه، وأغرق الله أهل الأرض بدعوته، ونجاه ومن معه في الفلك المشحون، وجعل ذريته هم الباقين، وترك عليه ثناء يذكر في جميع الأحيان والأزمان.
واصطفى آل إبراهيم وهو إبراهيم خليل الرحمن الذي اختصه الله بخلته، وبذل نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان، ودعا إلى ربه ليلا ونهارا وسرا وجهارا، وجعله الله أسوة يقتدي به من بعده، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، ويدخل في آل إبراهيم جميع الأنبياء الذين بعثوا من بعده لأنهم من ذريته، وقد خصهم بأنواع الفضائل ما كانوا به صفوة على العالمين، ومنهم سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى جمع فيه من الكمال ما تفرق في غيره، وفاق صلى الله عليه وسلم الأولين والآخرين، فكان سيد المرسلين المصطفى من ولد إبراهيم.
واصطفى الله آل عمران وهو والد مريم بنت عمران، أو والد موسى بن عمران عليه السلام، فهذه البيوت التي ذكرها الله هي صفوته من العالمين، وتسلسل الصلاح والتوفيق بذرياتهم، فلهذا قال تعالى ( ذرية بعضها من بعض ) .
أي: حصل التناسب والتشابه بينهم في الخلق والأخلاق الجميلة، كما قال تعالى لما ذكر جملة من الأنبياء الداخلين في ضمن هذه البيوت الكبار ( وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِ مْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاه ُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ( والله سميع عليم ) يعلم من يستحق الاصطفاء فيصطفيه ومن لا يستحق ذلك فيخذله ويرديه، ودل هذا على أن هؤلاء اختارهم لما علم من أحوالهم الموجبة لذلك فضلا منه وكرما، ومن الفائدة والحكمة في قصه علينا أخبار هؤلاء الأصفياء أن نحبهم ونقتدي بهم، ونسأل الله أن يوفقنا لما وفقهم، وأن لا نزال نزري ( أنفسنا بتأخرنا عنهم وعدم اتصافنا بأوصافهم ومزاياهم الجميلة، وهذا أيضا من لطفه بهم، وإظهاره الثناء عليهم في الأولين والآخرين، والتنويه بشرفهم، فلله ما أعظم جوده وكرمه وأكثر فوائد معاملته، لو لم يكن لهم من الشرف إلا أن أذكارهم مخلدة ومناقبهم مؤبدة لكفى بذلك فضلا .
ولما ذكر فضائل هذه البيوت الكريمة ذكر ما جرى لمريم والدة عيسى وكيف لطف الله بها في تربيتها ونشأتها، فقال: ( إذ قالت امرأت عمران ) أي: والدة مريم لما حملت ( رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا ) أي: جعلت ما في بطني خالصا لوجهك، محررا لخدمتك وخدمة بيتك ( فتقبل مني ) هذا العمل المبارك ( إنك أنت السميع العليم ) تسمع دعائي وتعلم نيتي وقصدي، هذا وهي في البطن قبل وضعها .
( فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى ) كأنها تشوفت أن يكون ذكرا ليكون أقدر على الخدمة وأعظم موقعا، ففي كلامها [نوع] عذر من ربها، فقال الله: ( والله أعلم بما وضعت ) أي: لا يحتاج إلى إعلامها، بل علمه متعلق بها قبل أن تعلم أمها ما هي ( وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم ) فيه دلالة على تفضيل الذكر على الأنثى، وعلى التسمية وقت الولادة، وعلى أن للأم تسمية الولد إذا لم يكره الأب ( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) دعت لها ولذريتها أن يعيذهم الله من الشيطان الرجيم.
( فتقبلها ربها بقبول حسن ) أي: جعلها نذيرة مقبولة، وأجارها وذريتها من الشيطان ( وأنبتها نباتًا حسنًا ) أي: نبتت نباتا حسنا في بدنها وخلقها وأخلاقها، لأن الله تعالى قيض لها زكريا عليه السلام ( وكفلها ) إياه، وهذا من رفقه بها ليربيها على أكمل الأحوال، فنشأت في عبادة ربها وفاقت النساء، وانقطعت لعبادة ربها، ولزمت محرابها أي: مصلاها فكان ( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا ) أي: من غير كسب ولا تعب، بل رزق ساقه الله إليها، وكرامة أكرمها الله بها، فيقول لها زكريا ( أنى لك هذا قالت هو من عند الله ) فضلا وإحسانا ( إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) أي: من غير حسبان من العبد ولا كسب، قال تعالى: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) وفي هذه الآية دليل على إثبات كرامات الأولياء الخارقة للعادة كما قد تواترت الأخبار بذلك، خلافا لمن نفى ذلك، فلما رأى زكريا عليه السلام ما من الله به على مريم، وما أكرمها به من رزقه الهنيء الذي أتاها بغير سعي منها ولا كسب، طمعت نفسه بالولد، فلهذا قال تعالى:

ابو وليد البحيرى
2019-02-07, 06:07 PM
الحلقة (55)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(38)الى الأية(44)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (41) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: دعا زكريا عليه السلام ربه أن يرزقه ذرية طيبة، أي: طاهرة الأخلاق، طيبة الآداب، لتكمل النعمة الدينية والدنيوية بهم. فاستجاب له < 1-130 > دعاءه.
وبينما هو قائم في محرابه يتعبد لربه ويتضرع نادته الملائكة ( أن الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله ) أي: بعيسى عليه السلام، لأنه كان بكلمة الله ( وسيدًا ) أي: يحصل له من الصفات الجميلة ما يكون به سيدا يرجع إليه في الأمور ( وحصورًا ) أي: ممنوعا من إتيان النساء، فليس في قلبه لهن شهوة، اشتغالا بخدمة ربه وطاعته ( ونبيًا من الصالحين ) فأي: بشارة أعظم من هذا الولد الذي حصلت البشارة بوجوده، وبكمال صفاته، وبكونه نبيا من الصالحين، فقال زكريا من شدة فرحه ( رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ) وكل واحد من الأمرين مانع من وجود الولد، فكيف وقد اجتمعا، فأخبره الله تعالى أن هذا خارق للعادة، فقال: ( كذلك الله يفعل ما يشاء ) فكما أنه تعالى قدر وجود الأولاد بالأسباب التي منها التناسل، فإذا أراد أن يوجدهم من غير ما سبب فعل، لأنه لا يستعصي عليه شيء، فقال زكريا عليه السلام استعجالا لهذا الأمر، وليحصل له كمال الطمأنينة.
( رب اجعل لي آية ) أي: علامة على وجود الولد قال ( آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا ) أي: ينحبس لسانك عن كلامهم من غير آفة ولا سوء، فلا تقدر إلا على الإشارة والرمز، وهذا آية عظيمة أن لا تقدر على الكلام، وفيه مناسبة عجيبة، وهي أنه كما يمنع نفوذ الأسباب مع وجودها، فإنه يوجدها بدون أسبابها ليدل ذلك أن الأسباب كلها مندرجة في قضائه وقدره، فامتنع من الكلام ثلاثة أيام، وأمره الله أن يشكره ويكثر من ذكره بالعشي والإبكار، حتى إذا خرج على قومه من المحراب http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: أول النهار وآخره.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ينوه تعالى بفضيلة مريم وعلو قدرها، وأن الملائكة خاطبتها بذلك فقالت ( يا مريم إن الله اصطفاك ) أي: اختارك ( وطهّرك ) من الآفات المنقصة ( واصطفاك على نساء العالمين ) الاصطفاء الأول يرجع إلى الصفات الحميدة والأفعال السديدة، والاصطفاء الثاني يرجع إلى تفضيلها على سائر نساء العالمين، إما على عالمي زمانها، أو مطلقا، وإن شاركها أفراد من النساء في ذلك كخديجة وعائشة وفاطمة، لم يناف الاصطفاء المذكور، فلما أخبرتها الملائكة باصطفاء الله إياها وتطهيرها، كان في هذا من النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ما يوجب لها القيام بشكرها، فلهذا قالت لها الملائكة: ( يا مريم اقنتي لربك )

( اقنتي لربك ) القنوت دوام الطاعة في خضوع وخشوع، ( واسجدي واركعي مع الراكعين ) خص السجود والركوع لفضلهما ودلالتهما على غاية الخضوع لله، ففعلت مريم، ما أمرت به شكرا لله تعالى وطاعة، ولما أخبر الله نبيه بما أخبر به عن مريم، وكيف تنقلت بها الأحوال التي قيضها الله لها، وكان هذا من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا بالوحي.
قال ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم ) أي: عندهم ( إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ) لما ذهبت بها أمها إلى من لهم الأمر على بيت المقدس، فتشاحوا وتخاصموا أيهم يكفل مريم، واقترعوا عليها بأن ألقوا أقلامهم في النهر، فأيهم لم يجر قلمه مع الماء فله كفالتها، فوقع ذلك لزكريا نبيهم وأفضلهم، فلما أَخْبَرتَهُم يا محمد بهذه الأخبار التي لا علم لك ولا لقومك بها دل على أنك صادق وأنك رسول الله حقا، فوجب عليهم الانقياد لك وامتثال أوامرك، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآيات.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . < 1-131 >
يخبر تعالى أن الملائكة بشرت مريم عليها السلام بأعظم بشارة، وهو كلمة الله عبده ورسوله عيسى ابن مريم، سمي كلمة الله لأنه كان بالكلمة من الله، لأن حالته خارجة عن الأسباب، وجعله الله من آياته وعجائب مخلوقاته، فأرسل الله جبريل عليه السلام إلى مريم، فنفخ في جيب درعها فولجت فيها تلك النفخة الذكية من ذلك الملك الزكي، فأنشأ الله منها تلك الروح الزكية، فكان روحانيا نشأ من مادة روحانية، فلهذا سمى روح الله ( وجيها في الدنيا والآخرة ) أي: له الوجاهة العظيمة في الدنيا، جعله الله أحد أولي العزم من المرسلين أصحاب الشرائع الكبار والأتباع، ونشر الله له من الذكر ما ملأ ما بين المشرق والمغرب، وفي الآخرة وجيها عند الله يشفع أسوة إخوانه من النبيين والمرسلين، ويظهر فضله على أكثر العالمين، فلهذا كان من المقربين إلى الله، أقرب الخلق إلى ربهم، بل هو عليه السلام من سادات المقربين.

ابو وليد البحيرى
2019-02-10, 10:29 PM
الحلقة (56)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(46)الى الأية(52)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( ويكلم الناس في المهد وكهلا ) وهذا غير التكليم المعتاد، بل المراد يكلم الناس بما فيه صلاحهم وفلاحهم، وهو تكليم المرسلين، ففي هذا إرساله ودعوته الخلق إلى ربهم، وفي تكليمهم في المهد آية عظيمة من آيات الله ينتفع بها المؤمنون، وتكون حجة على المعاندين، أنه رسول رب العالمين، وأنه عبد الله، وليكون نعمة وبراءة لوالدته مما رميت به ( ومن الصالحين ) أي: يمن عليه بالصلاح، من منَّ عليهم، ويدخله في جملتهم، وفي هذا عدة بشارات لمريم مع ما تضمن من التنويه بذكر المسيح عليه السلام.
( قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ) والولد في العادة لا يكون إلا من مس البشر، وهذا استغراب منها، لا شك في قدرة الله تعالى: ( قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) فأخبرها أن هذا أمر خارق للعادة، خلقه من يقول لكل أمر أراده: كن فيكون، فمن تيقن ذلك زال عنه الاستغراب والتعجب، ومن حكمة الباري تعالى أن تدرج بأخبار العباد من الغريب إلى ما هو أغرب منه، فذكر وجود يحيى بن زكريا بين أبوين أحدهما كبير والآخر عاقر، ثم ذكر أغرب من ذلك وأعجب، وهو وجود عيسى عليه السلام من أم بلا أب ليدل عباده أنه الفعال لما يريد وأنه ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن.
ثم أخبر تعالى عن منته العظيمة على عبده ورسوله عيسى عليه السلام، فقال ( ويعلمه الكتاب ) يحتمل أن يكون المراد جنس الكتاب، فيكون ذكر التوراة والإنجيل تخصيصا لهما، لشرفهما وفضلهما واحتوائهما على الأحكام والشرائع التي يحكم بها أنبياء بني إسرائيل والتعليم، لذلك يدخل فيه تعليم ألفاظه ومعانيه، ويحتمل أن يكون المراد بقوله ( ويعلمه الكتاب ) أي: الكتابة، لأن الكتابة من أعظم نعم الله على عباده ولهذا امتن تعالى على عباده بتعليمهم بالقلم في أول سورة أنزلها فقال http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
والمراد بالحكمة معرفة أسرار الشرع، ووضع الأشياء مواضعها، فيكون ذلك امتنانا على عيسى عليه السلام بتعليمه الكتابة والعلم والحكمة، وهذا هو الكمال للإنسان في نفسه.
ثم ذكر له كمالا آخر وفضلا زائدا على ما أعطاه الله من الفضائل، فقال ( ورسولا إلى بني إسرائيل ) فأرسله الله إلى هذا الشعب الفاضل الذين هم أفضل العالمين في زمانهم يدعوهم إلى الله، وأقام له من الآيات ما دلهم أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا ولهذا قال ( أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين ) طيرا، أي: أصوره على شكل الطير ( فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ) أي: طيرا له روح تطير بإذن الله ( وأبرئ الأكمه ) وهو الذي يولد أعمى ( والأبرص ) بإذن الله ( وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ) وأي: آية أعظم من جعل الجماد حيوانا، وإبراء ذوي العاهات التي لا قدرة للأطباء في معالجتها، وإحياء الموتى، والإخبار بالأمور الغيبية، فكل واحدة من هذه الأمور آية عظيمة بمفردها، فكيف بها إذا اجتمعت وصدق بعضها بعضها؟ فإنها موجبة للإيقان وداعية للإيمان.
( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ) أي: أتيت بجنس ما جاءت به التوراة وما جاء به موسى عليه السلام، وعلامة الصادق أن يكون خبره من جنس خبر الصادقين، يخبر بالصدق، ويأمر بالعدل من غير تخالف ولا تناقض، بخلاف من ادعى دعوى كاذبة، خصوصا أعظم الدعاوى وهي دعوى النبوة، فالكاذب فيها لا بد أن يظهر لكل أحد كذب صاحبها وتناقضه ومخالفته لأخبار الصادقين وموافقته لأخبار الكاذبين، هذا موجب السنن الماضية والحكمة الإلهية والرحمة الربانية بعباده، إذ لا يشتبه الصادق بالكاذب في دعوى النبوة أبدا، بخلاف بعض الأمور الجزئية، فإنه قد يشتبه فيها الصادق بالكاذب، وأما النبوة فإنه < 1-132 > يترتب عليها هداية الخلق أو ضلالهم وسعادتهم وشقاؤهم، ومعلوم أن الصادق فيها من أكمل الخلق، والكاذب فيها من أخس الخلق وأكذبهم وأظلمهم، فحكمة الله ورحمته بعباده أن يكون بينهما من الفروق ما يتبين لكل من له عقل، ثم أخبر عيسى عليه السلام أن شريعة الإنجيل شريعة فيها سهولة ويسرة فقال ( ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ) فدل ذلك على أن أكثر أحكام التوراة لم ينسخها الإنجيل بل كان متمما لها ومقررا ( وجئتكم بآية من ربكم ) تدل على صدقي ووجوب اتباعي، وهي ما تقدم من الآيات، والمقصود من ذلك كله قوله ( فاتقوا الله ) بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وأطيعوني فإن طاعة الرسول طاعة لله.
( إن الله ربي وربكم فاعبدوه ) استدل بتوحيد الربوبية الذي يقر به كل أحد على توحيد الإلهية الذي ينكره المشركون، فكما أن الله هو الذي خلقنا ورزقنا وأنعم علينا نعما ظاهرة وباطنة، فليكن هو معبودنا الذي نألهه بالحب والخوف والرجاء والدعاء والاستعانة وجميع أنواع العبادة، وفي هذا رد على النصارى القائلين بأن عيسى إله أو ابن الله، وهذا إقراره عليه السلام بأنه عبد مدبر مخلوق، كما قال http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وقال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى قوله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وقوله ( هذا ) أي: عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله ( صراط مستقيم ) موصل إلى الله وإلى جنته، وما عدا ذلك فهي طرق موصلة إلى الجحيم.

( فلما أحس عيسى منهم الكفر ) أي: رأى منهم عدم الانقياد له، وقالوا هذا سحر مبين، وهموا بقتله وسعوا في ذلك ( قال من أنصاري إلى الله ) من يعاونني ويقوم معي بنصرة دين الله ( قال الحواريون ) وهم الأنصار ( نحن أنصار الله ) أي: انتدبوا معه وقاموا بذلك.

ابو وليد البحيرى
2019-02-10, 10:35 PM
الحلقة (57)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(53)الى الأية(61)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وقالوا: ( آمنا بالله ) ( فاكتبنا مع الشاهدين ) أي: الشهادة النافعة، وهي الشهادة بتوحيد الله وتصديق رسوله مع القيام بذلك، فلما قاموا مع عيسى بنصر دين الله وإقامة شرعه آمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة، فاقتتلت الطائفتان فأيد الله الذين آمنوا بنصره على عدوهم فأصبحوا ظاهرين، فلهذا قال تعالى هنا ( ومكروا ) أي: الكفار بإرادة قتل نبي الله وإطفاء نوره ( ومكر الله ) بهم جزاء لهم على مكرهم ( والله خير الماكرين ) رد الله كيدهم في نحورهم، فانقلبوا خاسرين.
( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ) فرفع الله عبده ورسوله عيسى إليه، وألقي شبهه على غيره، فأخذوا من ألقي شبهه عليه فقتلوه وصلبوه، وباءوا بالإثم العظيم بنيتهم أنه رسول الله، قال الله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وفي هذه الآية دليل على علو الله تعالى واستوائه على عرشه حقيقة، كما دلت على ذلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تلقاها أهل السنة بالقبول والإيمان والتسليم، وكان الله عزيزا قويا قاهرا، ومن عزته أن كف بني إسرائيل بعد عزمهم الجازم وعدم المانع لهم عن قتل عيسى عليه السلام، كما قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg حكيم يضع الأشياء مواضعها، وله أعظم حكمة في إلقاء الشبه على بني إسرائيل، فوقعوا في الشبه كما قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ثم قال تعالى: ( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ) وتقدم أن الله أيد المؤمنين منهم على الكافرين، ثم إن النصارى المنتسبين لعيسى عليه السلام لم يزالوا قاهرين لليهود لكون النصارى أقرب إلى اتباع عيسى من اليهود، حتى بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فكان المسلمون هم المتبعين لعيسى حقيقة، فأيدهم الله ونصرهم على اليهود والنصارى وسائر الكفار، وإنما يحصل في بعض الأزمان إدالة الكفار من النصارى وغيرهم على المسلمين، حكمة من الله وعقوبة على تركهم لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ( ثم إلي مرجعكم ) أي: مصير الخلائق كلها ( فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ) كل يدعي أن الحق معه وأنه المصيب وغيره مخطئ، وهذا مجرد دعاوى تحتاج إلى برهان.
ثم أخبر عن حكمه بينهم بالقسط والعدل، فقال ( فأما الذين كفروا ) أي: بالله وآياته ورسله ( فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة ) أما عذاب الدنيا، فهو ما أصابهم الله به من القوارع والعقوبات المشاهدة والقتل والذل، وغير ذلك مما هو نموذج من عذاب الآخرة، وأما عذاب الآخرة فهو الطامة الكبرى والمصيبة العظمى، ألا وهو عذاب النار وغضب الجبار وحرمانهم ثواب الأبرار ( وما لهم من ناصرين ) ينصرونهم من عذاب الله، لا من زعموا أنهم شفعاء لهم عند الله، ولا ما اتخذوهم أولياء من دونه، ولا أصدقائهم وأقربائهم، ولا أنفسهم ينصرون.
( وأما الذين آمنوا ) بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وغير ذلك مما أمر الله بالإيمان به ( وعملوا الصالحات ) القلبية والقولية والبدنية التي جاءت بشرعها المرسلون، وقصدوا بها رضا رب العالمين ( فيوفيهم أجورهم ) دل ذلك على أنه يحصل لهم في الدنيا ثواب لأعمالهم من الإكرام والإعزاز والنصر والحياة الطيبة، وإنما توفية الأجور يوم القيامة، يجدون ما قدموه من الخيرات محضرا موفرا، فيعطي منهم كل عامل أجر عمله ويزيدهم من فضله وكرمه ( والله لا يحب الظالمين ) بل يبغضهم ويحل عليهم سخطه وعذابه.
( ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ) وهذا منة عظيمة على رسوله < 1-133 > محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته، حيث أنزل عليهم هذا الذكر الحكيم، المحكم المتقن، المفصل للأحكام والحلال والحرام وإخبار الأنبياء الأقدمين، وما أجرى الله على أيديهم من الآيات البينات والمعجزات الباهرات، فهذا القرآن يقص علينا كل ما ينفعنا من الأخبار والأحكام، فيحصل فيها العلم والعبرة وتثبيت الفؤاد ما هو من أعظم رحمة رب العباد، ثم قال تعالى:

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى محتجا على النصارى الزاعمين بعيسى عليه السلام ما ليس له بحق، بغير برهان ولا شبهة، بل بزعمهم أنه ليس له والد استحق بذلك أن يكون ابن الله أو شريكا لله في الربوبية، وهذا ليس بشبهة فضلا أن يكون حجة، لأن خلقه كذلك من آيات الله الدالة على تفرد الله بالخلق والتدبير وأن جميع الأسباب طوع مشيئته وتبع لإرادته، فهو على نقيض قولهم أدل، وعلى أن أحدا لا يستحق المشاركة لله بوجه من الوجوه أولى، ومع هذا فآدم عليه السلام خلقه الله من تراب لا من أب ولا أم، فإذا كان ذلك لا يوجب لآدم ما زعمه النصارى في المسيح، فالمسيح المخلوق من أم بلا أب من باب أولى وأحرى، فإن صح إدعاء البنوة والإلهية في المسيح، فادعاؤها في آدم من باب أولى وأحرى، فلهذا قال تعالى ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك ) أي: هذا الذي أخبرناك به من شأن المسيح عليه السلام هو الحق الذي في أعلى رتب الصدق، لكونه من ربك الذي من جملة تربيته الخاصة لك ولأمتك أن قص عليكم ما قص من أخبار الأنبياء عليهم السلام. ( فلا تكن من الممترين ) أي: الشاكين في شيء مما أخبرك به ربك، وفي هذه الآية وما بعدها دليل على قاعدة شريفة وهو أن ما قامت الأدلة على أنه حق وجزم به العبد من مسائل العقائد وغيرها، فإنه يجب أن يجزم بأن كل ما عارضه فهو باطل، وكل شبهة تورد عليه فهي فاسدة، سواء قدر العبد على حلها أم لا فلا يوجب له عجزه عن حلها القدح فيما علمه، لأن ما خالف الحق فهو باطل، قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وبهذه القاعدة الشرعية تنحل عن الإنسان إشكالات كثيرة يوردها المتكلمون ويرتبها المنطقيون، إن حلها الإنسان فهو تبرع منه، وإلا فوظيفته أن يبين الحق بأدلته ويدعو إليه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( فمن ) جادلك ( وحاجك ) في عيسى عليه السلام وزعم أنه فوق منزلة العبودية، بل رفعه فوق منزلته ( من بعد ما جاءك من العلم ) بأنه عبد الله ورسوله وبينت لمن جادلك ما عندك من الأدلة الدالة على أنه عبد أنعم الله عليه، دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني، فلم يبق في مجادلته فائدة تستفيدها ولا يستفيدها هو، لأن الحق قد تبين، فجداله فيه جدال معاند مشاق لله ورسوله، قصده اتباع هواه، لا اتباع ما أنزل الله، فهذا ليس فيه حيلة، فأمر الله نبيه أن ينتقل إلى مباهلته وملاعنته، فيدعون الله ويبتهلون إليه أن يجعل لعنته وعقوبته على الكاذب من الفريقين، هو وأحب الناس إليه من الأولاد والأبناء والنساء، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فتولوا وأعرضوا ونكلوا، وعلموا أنهم إن لاعنوه رجعوا إلى أهليهم وأولادهم فلم يجدوا أهلا ولا مالا وعوجلوا بالعقوبة، فرضوا بدينهم مع جزمهم ببطلانه، وهذا غاية الفساد والعناد، فلهذا قال تعالى:

ابو وليد البحيرى
2019-02-10, 10:43 PM
الحلقة (58)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(62)الى الأية(70)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين َ (63) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين ) فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة. وأخبر تعالى ( إن هذا ) الذي قصه الله على عباده هو ( القصص الحق ) وكل قصص يقص عليهم مما يخالفه ويناقضه فهو باطل ( وما من إله إلا الله ) فهو المألوه المعبود حقا الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولا يستحق غيره مثقال ذرة من العبادة ( وإن الله لهو العزيز ) الذي قهر كل شيء وخضع له كل شيء ( الحكيم ) الذي يضع الأشياء مواضعها، وله الحكمة التامة في ابتلاء المؤمنين بالكافرين، يقاتلونهم ويجادلونهم ويجاهدونهم بالقول والفعل http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: قل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى ( تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) أي: هلموا نجتمع عليها وهي الكلمة التي اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، ولم يخالفها إلا المعاندون والضالون، ليست مختصة بأحدنا دون الآخر، بل مشتركة بيننا وبينكم، وهذا من العدل في المقال والإنصاف في الجدال، ثم فسرها بقوله ( ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ) فنفرد الله بالعبادة ونخصه بالحب والخوف والرجاء ولا نشرك به نبيا ولا ملكا ولا وليا ولا صنما ولا وثنا ولا حيوانا ولا جمادا ( ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) بل تكون الطاعة كلها لله ولرسله، فلا نطيع المخلوقين في معصية الخالق، لأن ذلك جعل للمخلوقين في منزلة الربوبية، فإذا دعي أهل الكتاب أو غيرهم إلى ذلك، فإن أجابوا كانوا مثلكم، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وإن تولوا فهم معاندون متبعون أهواءهم فأشهدوهم < 1-134 > أنكم مسلمون، ولعل الفائدة في ذلك أنكم إذا قلتم لهم ذلك وأنتم أهل العلم على الحقيقة، كان ذلك زيادة على إقامة الحجة عليهم كما استشهد تعالى بأهل العلم حجة على المعاندين، وأيضا فإنكم إذا أسلمتم أنتم وآمنتم فلا يعبأ الله بعدم إسلام غيركم لعدم زكائهم ولخبث طويتهم، كما قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآية وأيضا فإن في ورود الشبهات على العقيدة الإيمانية مما يوجب للمؤمن أن يجدد إيمانه ويعلن بإسلامه، إخبارا بيقينه وشكرا لنعمة ربه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهوديا، والنصارى أنه نصراني، وجادلوا على ذلك، رد تعالى محاجتهم ومجادلتهم من ثلاثة أوجه، أحدها: أن جدالهم في إبراهيم جدال في أمر ليس لهم به علم، فلا يمكن لهم ولا يسمح لهم أن يحتجوا ويجادلوا في أمر هم أجانب عنه وهم جادلوا في أحكام التوراة والإنجيل سواء أخطأوا أم أصابوا فليس معهم المحاجة في شأن إبراهيم، الوجه الثاني: أن اليهود ينتسبون إلى أحكام التوراة، والنصارى ينتسبون إلى أحكام الإنجيل، والتوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعد إبراهيم، فكيف ينسبون إبراهيم إليهم وهو قبلهم متقدم عليهم، فهل هذا يعقل؟! فلهذا قال ( أفلا تعقلون ) أي: فلو عقلتم ما تقولون لم تقولوا ذلك، الوجه الثالث: أن الله تعالى برأ خليله من اليهود والنصارى والمشركين، وجعله حنيفا مسلما، وجعل أولى الناس به من آمن به من أمته، وهذا النبي وهو محمد صلى الله على وسلم ومن آمن معه، فهم الذين اتبعوه وهم أولى به من غيرهم، والله تعالى وليهم وناصرهم ومؤيدهم، وأما من نبذ ملته وراء ظهره كاليهود والنصارى والمشركين، فليسوا من إبراهيم وليس منهم، ولا ينفعهم مجرد الانتساب الخالي من الصواب. وقد اشتملت هذه الآيات على النهي عن المحاجة والمجادلة بغير علم، وأن من تكلم بذلك فهو متكلم في أمر لا يمكن منه ولا يسمح له فيه، وفيها أيضا حث على علم التاريخ، وأنه طريق لرد كثير من الأقوال الباطلة والدعاوى التي تخالف ما علم من التاريخ، ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يحذر تعالى عباده المؤمنين عن مكر هذه الطائفة الخبيثة من أهل الكتاب، وأنهم يودون أن يضلوكم، كما قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ومن المعلوم أن من ود شيئا سعى بجهده على تحصيل مراده، فهذه الطائفة تسعى وتبذل جهدها في رد المؤمنين وإدخال الشبه عليهم بكل طريق يقدرون عليه، ولكن من لطف الله أنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فلهذا قال تعالى ( وما يضلون إلا أنفسهم ) فسعيهم في إضلال المؤمنين زيادة في ضلال أنفسهم وزيادة عذاب لهم، قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ( وما يشعرون ) بذلك أنهم يسعون في ضرر أنفسهم وأنهم لا يضرونكم شيئا.

ابو وليد البحيرى
2019-02-10, 10:47 PM
الحلقة (59)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(71)الى الأية(77)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: ما الذي دعاكم إلى الكفر بآيات الله مع علمكم بأن ما أنتم عليه باطل، وأن ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا تشكون فيه، بل تشهدون به ويسر به بعضكم إلى بعض في بعض الأوقات، فهذا نهيهم عن ضلالهم.
ثم وبخهم على إضلالهم الخلق، فقال ( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) فوبخهم على لبس الحق بالباطل وعلى كتمان الحق، لأنهم بهذين الأمرين يضلون من انتسب إليهم، فإن العلماء إذا لبسوا الحق بالباطل فلم يميزوا بينهما، بل أبقوا الأمر مبهما وكتموا الحق الذي يجب عليهم إظهاره، ترتب على ذلك من خفاء الحق وظهور الباطل ما ترتب، ولم يهتد العوام الذين يريدون الحق لمعرفته حتى يؤثروه، والمقصود من أهل العلم أن يظهروا للناس الحق ويعلنوا به، ويميزوا الحق من الباطل، ويظهروا الخبيث من الطيب، والحلال والحرام ، والعقائد الصحيحة من العقائد الفاسدة، ليهتدي المهتدون < 1-135 > ويرجع الضالون وتقوم الحجة على المعاندين قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ثم أخبر تعالى عن ما همت به هذه الطائفة الخبيثة، وإرادة المكر بالمؤمنين، فقال ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره ) أي: ادخلوا في دينهم على وجه المكر والكيد أول النهار، فإذا كان آخر النهار فاخرجوا منه ( لعلهم يرجعون ) عن دينهم، فيقولون لو كان صحيحا لما خرج منه أهل العلم والكتاب، هذا الذي أرادوه عجبا بأنفهسم وظنا أن الناس سيحسنون ظنهم بهم ويتابعونهم على ما يقولونه ويفعلونه، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
( و ) قال بعضهم لبعض ( لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ) أي: لا تثقوا ولا تطمئنوا ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم، واكتموا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg أمركم، فإنكم إذا أخبرتم غيركم وغير من هو على دينكم حصل لهم من العلم ما حصل لكم فصاروا مثلكم، أو حاجوكم عند ربكم وشهدوا عليكم أنها قامت عليكم الحجة وتبين لكم الهدى فلم تتبعوه، فالحاصل أنهم جعلوا عدم إخبار المؤمنين بما معهم من العلم قاطعا عنهم العلم، لأن العلم بزعمهم لا يكون إلا عندهم وموجبا للحجة عليهم، فرد الله عليهم بأن ( الهدى هدى الله ) فمادة الهدى من الله تعالى لكل من اهتدى، فإن الهدى إما علم الحق، أو إيثارة، ولا علم إلا ما جاءت به رسل الله، ولا موفق إلا من وفقه الله، وأهل الكتاب لم يؤتوا من العلم إلا قليلا وأما التوفيق فقد انقطع حظهم منه لخبث نياتهم وسوء مقاصدهم، وأما هذه الأمة فقد حصل لهم ولله الحمد من هداية الله من العلوم والمعارف مع العمل بذلك ما فاقوا به وبرزوا على كل أحد، فكانوا هم الهداة الذين يهدون بأمر الله، وهذا من فضل الله عليها وإحسانه العظيم، فلهذا قال تعالى ( قل إن الفضل بيد الله ) أي: الله هو الذي يحسن على عباده بأنواع الإحسان ( يؤتيه من يشاء ) ممن أتى بأسبابه ( والله واسع ) الفضل كثير الإحسان ( عليم ) بمن يصلح للإحسان فيعطيه، ومن لا يستحقه فيحرمه إياه.
( يختص برحمته من يشاء ) أي: برحمته المطلقة التي تكون في الدنيا متصلة بالآخرة وهي نعمة الدين ومتمماته ( والله ذو الفضل العظيم ) الذي لا يصفه الواصفون ولا يخطر بقلب بشر، بل وصل فضله وإحسانه إلى ما وصل إليه علمه، ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب في الوفاء والخيانة في الأموال، لما ذكر خيانتهم في الدين ومكرهم وكتمهم الحق، فأخبر أن منهم الخائن والأمين، وأن منهم ( من إن تأمنه بقنطار ) وهو المال الكثير ( يؤده ) وهو على أداء ما دونه من باب أولى، ومنهم ( من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ) وهو على عدم أداء ما فوقه من باب أولى وأحرى، والذي أوجب لهم الخيانة وعدم الوفاء إليكم بأنهم زعموا أنه ( ليس ) عليهم ( في الأميين سبيل ) أي: ليس عليهم إثم في عدم أداء أموالهم إليهم، لأنهم بزعمهم الفاسد ورأيهم الكاسد قد احتقروهم غاية الاحتقار، ورأوا أنفسهم في غاية العظمة، وهم الأذلاء الأحقرون، فلم يجعلوا للأميين حرمة، وأجازوا ذلك، فجمعوا بين أكل الحرام واعتقاد حله وكان هذا كذبا على الله، لأن العالم الذي يحلل الأشياء المحرمة قد كان عند الناس معلوم أنه يخبر عن حكم الله ليس يخبر عن نفسه، وذلك هو الكذب، فلهذا قال ( ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) وهذا أعظم إثما من القول على الله بلا علم، ثم رد عليهم زعمهم الفاسد.
فقال ( بلى ) أي: ليس الأمر كما تزعمون أنه ليس عليكم في الأميين حرج، بل عليكم في ذلك أعظم الحرج وأشد الإثم.
( من أوفى بعهده واتقى ) والعهد يشمل العهد الذي بين العبد وبين ربه، وهو جميع ما أوجبه الله على العبد من حقه، ويشمل العهد الذي بينه وبين العباد، والتقوى تكون في هذا الموضع، ترجع إلى اتقاء المعاصي التي بين العبد وبين ربه، وبينه وبين الخلق، فمن كان كذلك فإنه من المتقين الذين يحبهم الله تعالى، سواء كانوا من الأميين أو غيرهم، فمن قال ليس علينا في الأميين سبيل، فلم يوف بعهده ولم يتق الله، فلم يكن ممن يحبه الله، بل ممن يبغضه الله، وإذا كان الأميون قد عرفوا بوفاء العهود وبتقوى الله وعدم < 1-136 > التجرئ على الأموال المحترمة، كانوا هم المحبوبين لله، المتقين الذين أعدت لهم الجنة، وكانوا أفضل خلق الله وأجلهم، بخلاف الذين يقولون ليس علينا في الأميين سبيل، فإنهم داخلون في قوله: ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ) ويدخل في ذلك كل من أخذ شيئا من الدنيا في مقابلة ما تركه من حق الله أو حق عباده، وكذلك من حلف على يمين يقتطع بها مال معصوم فهو داخل في هذه الآية، فهؤلاء ( لا خلاق لهم في الآخرة ) أي: لا نصيب لهم من الخير ( ولا يكلمهم الله ) يوم القيامة غضبا عليهم وسخطا، لتقديمهم هوى أنفسهم على رضا ربهم ( ولا يزكيهم ) أي: يطهرهم من ذنوبهم، ولا يزيل عيوبهم ( ولهم عذاب أليم ) أي: موجع للقلوب والأبدان، وهو عذاب السخط والحجاب، وعذاب جهنم، نسأل الله العافية.

ابو وليد البحيرى
2019-02-10, 10:51 PM
الحلقة (60)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(78)الى الأية(83)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى أن من أهل الكتاب فريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب، أي: يميلونه ويحرفونه عن المقصود به، وهذا يشمل اللي والتحريف لألفاظه ومعانيه، وذلك أن المقصود من الكتاب حفظ ألفاظه وعدم تغييرها، وفهم المراد منها وإفهامه، وهؤلاء عكسوا القضية وأفهموا غير المراد من الكتاب، إما تعريضا وإما تصريحا، فالتعريض في قوله ( لتحسبوه من الكتاب ) أي: يلوون ألسنتهم ويوهمونكم أنه هو المراد من كتاب الله، وليس هو المراد، والتصريح في قولهم: ( ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) وهذا أعظم جرما ممن يقول على الله بلا علم، هؤلاء يقولون على الله الكذب فيجمعون بين نفي المعنى الحق، وإثبات المعنى الباطل، وتنزيل اللفظ الدال على الحق على المعنى الفاسد، مع علمهم بذلك.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وهذه الآية نزلت ردا لمن قال من أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بالإيمان به ودعاهم إلى طاعته: أتريد يا محمد أن نعبدك مع الله، فقوله ( ما كان لبشر ) أي: يمتنع ويستحيل على بشر مَنَّ الله عليه بإنزال الكتاب وتعليمه ما لم يكن يعلم وإرساله للخلق ( ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ) فهذا من أمحل المحال صدوره من أحد من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام، لأن هذا أقبح الأوامر على الإطلاق، والأنبياء أكمل الخلق على الإطلاق، فأوامرهم تكون مناسبة لأحوالهم، فلا يأمرون إلا بمعالي الأمور وهم أعظم الناس نهيا عن الأمور القبيحة، فلهذا قال ( ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) أي: ولكن يأمرهم بأن يكونوا ربانيين، أي: علماء حكماء حلماء معلمين للناس ومربيهم، بصغار العلم قبل كباره، عاملين بذلك، فهم يأمرون بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة، وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل، والباء في قوله ( بما كنتم تعلمون ) إلخ، باء السببية، أي: بسبب تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه، التي بدرسها يرسخ العلم ويبقى، تكونون ربانيين.

( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ) وهذا تعميم بعد تخصيص، أي: لا يأمركم بعبادة نفسه ولا بعبادة أحد من الخلق من الملائكة والنبيين وغيرهم ( أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ) هذا ما لا يكون ولا يتصور أن يصدر من أحد مَنَّ الله عليه بالنبوة، فمن قدح في أحد منهم بشيء من ذلك فقد ارتكب إثما عظيما وكفرا وخيما.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق النبيين وعهدهم المؤكد بسبب ما أعطاهم من كتاب الله المنزل، والحكمة الفاصلة بين الحق والباطل والهدى والضلال، إنه إن بعث الله رسولا مصدقا لما معهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ويأخذوا ذلك على أممهم، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أوجب الله عليهم أن يؤمن بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضا لأن جميع ما عندهم هو من عند الله، وكل ما من عند الله يجب التصديق به والإيمان، فهم كالشيء الواحد، فعلى هذا قد علم أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتمهم، فكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لو أدركوه لوجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته، وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم، فهذه الآية الكريمة من أعظم الدلائل على علو مرتبته وجلالة قدره، وأنه أفضل الأنبياء وسيدهم صلى الله عليه وسلم لما قررهم تعالى < 1-137 > ( قالوا أقررنا ) أي: قبلنا ما أمرتنا به على الرأس والعين ( قال ) الله لهم: ( فاشهدوا ) على أنفسكم وعلى أممكم بذلك، قال ( وأنا معكم من الشاهدين * فمن تولى بعد ذلك ) العهد والميثاق المؤكد بالشهادة من الله ومن رسله ( فأولئك هم الفاسقون ) فعلى هذا كل من ادعى أنه من أتباع الأنبياء كاليهود والنصارى ومن تبعهم، فقد تولوا عن هذا الميثاق الغليظ، واستحقوا الفسق الموجب للخلود في النار إن لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: أيطلب الطالبون ويرغب الراغبون في غير دين الله؟ لا يحسن هذا ولا يليق، لأنه لا أحسن دينا من دين الله ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) أي: الخلق كلهم منقادون بتسخيره مستسلمون له طوعا واختيارا، وهم المؤمنون المسلمون المنقادون لعبادة ربهم، وكرها وهم سائر الخلق، حتى الكافرون مستسلمون لقضائه وقدره لا خروج لهم عنه، ولا امتناع لهم منه، وإليه مرجع الخلائق كلها، فيحكم بينهم ويجازيهم بحكمه الدائر بين الفضل والعدل.

ابو وليد البحيرى
2019-02-13, 12:56 PM
الحلقة (61)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(84)الى الأية(91)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

تقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة، ثم قال تعالى.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: من يدين لله بغير دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، فعمله مردود غير مقبول، لأن دين الإسلام هو المتضمن للاستسلام لله، إخلاصا وانقيادا لرسله فما لم يأت به العبد لم يأت بسبب النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه، وكل دين سواه فباطل، ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا من باب الاستبعاد، أي: من الأمر البعيد أن يهدي الله قوما اختاروا الكفر والضلال بعدما آمنوا وشهدوا أن الرسول حق بما جاءهم به من الآيات البينات والبراهين القاطعات ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) فهؤلاء ظلموا وتركوا الحق بعدما عرفوه، واتبعوا الباطل مع علمهم ببطلانه ظلما وبغيا واتباعا لأهوائهم، فهؤلاء لا يوفقون للهداية، لأن الذي يرجى أن يهتدي هو الذي لم يعرف الحق وهو حريص على التماسه، فهذا بالحري أن ييسر الله له أسباب الهداية ويصونه من أسباب الغواية.
ثم أخبر عن عقوبة هؤلاء المعاندين الظالمين الدنيوية والأخروية، فقال ( أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين * خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ) أي: لا يفتر عنهم العذاب ساعة ولا لحظة، لا بإزالته أو إزالة بعض شدته، ( ولا هم ينظرون ) أي: يمهلون، لأن زمن الإمهال قد مضى، وقد أعذر الله منهم وعمرهم ما يتذكر فيه من تذكر، فلو كان فيهم خير لوجد، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى أن من كفر بعد إيمانه، ثم ازداد كفرا إلى كفره بتماديه في الغي والضلال، واستمراره على ترك الرشد والهدى، أنه لا تقبل توبتهم، أي: لا يوفقون لتوبة تقبل بل يمدهم الله في طغيانهم يعمهون، قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فالسيئات ينتج بعضها بعضا، وخصوصا لمن أقدم على الكفر العظيم وترك الصراط المستقيم، وقد قامت عليه الحجة ووضح الله له الآيات والبراهين، فهذا هو الذي سعى في قطع أسباب رحمة ربه عنه، وهو الذي سد على نفسه باب التوبة، ولهذا حصر الضلال في هذا الصنف، فقال ( وأولئك هم الضالون ) وأي: ضلال أعظم من ضلال من ترك الطريق عن بصيرة، وهؤلاء الكفرة إذا استمروا على كفرهم إلى الممات تعين هلاكهم وشقاؤهم الأبدي، ولم ينفعهم شيء، فلو أنفق أحدهم ملء الأرض ذهبا ليفتدي به من عذاب الله ما نفعه ذلك، بل لا يزالون في العذاب الأليم، لا شافع لهم ولا ناصر ولا مغيث ولا مجير ينقذهم من عذاب الله فأيسوا من كل خير، وجزموا على الخلود الدائم في العقاب والسخط، فعياذا بالله من حالهم.

ابو وليد البحيرى
2019-02-13, 01:04 PM
الحلقة (62)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(92)الى الأية(97)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا حث من الله لعباده على الإنفاق في طرق الخيرات، فقال ( لن تنالوا) أي: تدركوا وتبلغوا البر الذي هو كل خير من أنواع الطاعات وأنواع المثوبات الموصل لصاحبه إلى الجنة، ( حتى تنفقوا مما تحبون) أي: من أموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم، فإنكم إذا قدمتم محبة الله على محبة الأموال فبذلتموها في مرضاته، دل ذلك على إيمانكم الصادق وبر قلوبكم ويقين تقواكم، فيدخل في ذلك إنفاق نفائس الأموال، والإنفاق في حال حاجة المنفق إلى ما أنفقه، والإنفاق في حال الصحة، ودلت الآية أن العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بره، وأنه ينقص من بره بحسب ما نقص من ذلك، ولما كان الإنفاق على أي: وجه كان مثابا عليه العبد، سواء كان قليلا أو كثيرا، محبوبا للنفس أم لا وكان قوله ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) مما يوهم أن إنفاق غير هذا المقيد غير نافع، احترز تعالى عن هذا الوهم بقوله ( وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) فلا يضيق عليكم، بل يثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وهذا رد على اليهود بزعمهم الباطل أن النسخ غير جائز، فكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، لأنهما قد أتيا بما يخالف بعض أحكام التوراة بالتحليل والتحريم فمن تمام الإنصاف في المجادلة إلزامهم بما في كتابهم التوراة من أن جميع أنواع الأطعمة محللة لبني إسرائيل ( إلا ما حرم إسرائيل) وهو يعقوب عليه السلام ( على نفسه) أي: من غير تحريم من الله تعالى، بل حرمه على نفسه لما أصابه عرق النسا نذر لئن شفاه الله تعالى ليحرمن أحب الأطعمة عليه، فحرم فيما يذكرون لحوم الإبل وألبانها وتبعه بنوه على ذلك وكان ذلك قبل نزول التوراة، ثم نزل في التوراة أشياء من المحرمات غير ما حرم إسرائيل مما كان حلالا لهم طيبا، كما قال تعالى ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) وأمر الله رسوله إن أنكروا ذلك أن يأمرهم بإحضار التوراة، فاستمروا بعد هذا على الظلم والعناد، فلهذا قال تعالى ( فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون) وأي ظلم أعظم من ظلم من يدعى إلى تحكيم كتابه فيمتنع من ذلك عنادا وتكبرا وتجبرا، وهذا من أعظم الأدلة على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيام الآيات البينات المتنوعات على صدقه وصدق من نبأه وأخبره بما أخبره به من الأمور التي لا يعلمها إلا بإخبار ربه له بها، فلهذا قال تعالى ( قل صدق الله) أي: فيما أخبر به وحكم، وهذا أمر من الله لرسوله ولمن يتبعه أن يقولوا بألسنتهم: صدق الله، معتقدين بذلك في قلوبهم عن أدلة يقينية، مقيمين هذه الشهادة على من أنكرها، ومن هنا تعلم أن أعظم الناس تصديقا لله أعظمهم علما ويقينا بالأدلة التفصيلية السمعية والعقلية، ثم أمرهم باتباع ملة أبيهم إبراهيم عليه السلام بالتوحيد وترك الشرك الذي هو مدار السعادة، وبتركه حصول الشقاوة، وفي هذا دليل على أن اليهود وغيرهم ممن ليس على ملة إبراهيم مشركون غير موحدين، ولما أمرهم باتباع ملة إبراهيم في التوحيد وترك الشرك أمرهم باتباعه بتعظيم بيته الحرام بالحج وغيره، فقال:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن شرف هذا البيت الحرام، وأنه أول بيت وضعه الله للناس، يتعبدون فيه لربهم فتغفر أوزارهم، وتقال عثارهم، ويحصل لهم به من الطاعات والقربات ما ينالون به رضى ربهم والفوز بثوابه والنجاة من عقابه، ولهذا قال: ( مباركا) أي: فيه البركة الكثيرة في المنافع الدينية والدنيوية كما قال تعالى ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ) ( وهدى للعالمين) والهدى نوعان: هدى في المعرفة، وهدى في العمل، فالهدى في العمل ظاهر، وهو ما جعل الله فيه من أنواع التعبدات المختصة به، وأما هدى العلم فبما يحصل لهم بسببه من العلم بالحق بسبب الآيات البينات التي ذكر الله تعالى في قوله ( فيه آيات بينات) أي: أدلة واضحات، وبراهين قاطعات على أنواع من العلوم الإلهية والمطالب العالية، كالأدلة على توحيده ورحمته وحكمته وعظمته وجلاله وكمال علمه وسعة جوده، وما مَنَّ به على أوليائه وأنبيائه، فمن الآيات < 1-139 > ( مقام إبراهيم) يحتمل أن المراد به المقام المعروف وهو الحجر الذي كان يقوم عليه الخليل لبنيان الكعبة لما ارتفع البنيان، وكان ملصقا في جدار الكعبة، فلما كان عمر رضي الله عنه وضعه في مكانه الموجود فيه الآن، والآية فيه قيل أثر قدمي إبراهيم، قد أثرت في الصخرة وبقي ذلك الأثر إلى أوائل هذه الأمة، وهذا من خوارق العادات، وقيل إن الآية فيه ما أودعه الله في القلوب من تعظيمه وتكريمه وتشريفه واحترامه، ويحتمل أن المراد بمقام إبراهيم أنه مفرد مضاف يراد به مقاماته في مواضع المناسك كلها، فيكون على هذا جميع أجزاء الحج ومفرداته آيات بينات، كالطواف والسعي ومواضعها، والوقوف بعرفة ومزدلفة، والرمي، وسائر الشعائر، والآية في ذلك ما جعله الله في القلوب من تعظيمها واحترامها وبذل نفائس النفوس والأموال في الوصول إليها وتحمل كل مشقة لأجلها، وما في ضمنها من الأسرار البديعة والمعاني الرفيعة، وما في أفعالها من الحكم والمصالح التي يعجز الخلق عن إحصاء بعضها، ومن الآيات البينات فيها أن من دخله كان آمنا شرعا وقدرا، فالشرع قد أمر الله رسوله إبراهيم ثم رسوله محمد باحترامه وتأمين من دخله، وأن لا يهاج، حتى إن التحريم في ذلك شمل صيودها وأشجارها ونباتها، وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء أن من جنى جناية خارج الحرم ثم لجأ إليه أنه يأمن ولا يقام عليه الحد حتى يخرج منه، وأما تأمينها قدرا فلأن الله تعالى بقضائه وقدره وضع في النفوس حتى نفوس المشركين به الكافرين بربهم احترامه، حتى إن الواحد منهم مع شدة حميتهم ونعرتهم وعدم احتمالهم للضيم يجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم فلا يهيجه، ومن جعله حرما أن كل من أراده بسوء فلا بد أن يعاقبه عقوبة عاجلة، كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم، وقد رأيت لابن القيم هاهنا كلاما حسنا أحببت إيراده لشدة الحاجة إليه قال فائدة: ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) "حج البيت"مبتدأ وخبره في أحد المجرورين قبله، والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله: "على الناس"لأنه وجوب، والوجوب يقتضي "على"ويجوز أن يكون في قوله: "ولله"لأنه متضمن الوجوب والاستحقاق، ويرجح هذا التقدير أن الخبر محط الفائدة وموضعها، وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير، فكان الأحسن أن يكون "ولله على الناس" .ويرجح الوجه الأول بأن يقال قوله: "حج البيت على الناس"أكثر استعمالا في باب الوجوب من أن يقال: "حج البيت لله"أي: حق واجب لله، فتأمله. وعلى هذا ففي تقديم المجرور الأول وليس بخبر فائدتان: إحداهما: أنه اسم للموجب للحج، فكان أحق بالتقديم من ذكر الوجوب، فتضمنت الآية ثلاثة أمور مرتبة بحسب الوقائع: أحدها: الموجب لهذا الفرض فبدأ بذكره، والثاني: مؤدي الواجب وهو المفترض عليه وهم الناس، والثالث: النسبة، والحق المتعلق به إيجابا وبهم وجوبا وأداء، وهو الحج.
والفائدة الثانية: أن الاسم المجرور من حيث كان اسما لله سبحانه، وجب الاهتمام بتقديمه تعظيما لحرمة هذا الواجب الذي أوجبه، وتخويفا من تضييعه، إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه بمثابة ما يوجبه غيره.
وأما قوله: "مَنْ"فهي بدل، وقد استهوى طائفة من الناس القول بأنها فاعل بالمصدر، كأنه قال: أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلا وهذا القول يضعف من وجوه، منها: أن الحج فرض عين، ولو كان معنى الآية ما ذكره لأفهم فرض الكفاية، لأنه إذا حج المستطيعون برئت ذمم غيرهم، لأن المعنى يؤل إلى: ولله على الناس حج البيت مستطيعهم، فإذا أدى المستطيعون الواجب لم يبق واجبا على غير المستطيعين، وليس الأمر كذلك، بل الحج فرض عين على كل أحد، حج المستطيعون أو قعدوا، ولكن الله سبحانه عذر غير المستطيع بعجزه عن أداء الواجب، فلا يؤاخذه به ولا يطالبه بأدائه، فإذا حج سقط الفرض عن نفسه، وليس حج المستطيعين بمسقط الفرض عن العاجزين، وإذا أردت زيادة إيضاح، فإذا قلت: واجب على أهل هذه الناحية أن يجاهد منهم الطائفة المستطيعون للجهاد، فإذا جاهدت تلك الطائفة انقطع تعلق الوجوب في غيرهم، وإذا قلت واجب على الناس كلهم أن يجاهد منهم المستطيع، كان الوجوب متعلقا بالجميع وعذر العاجز بعجزه، ففي نظم الآية على هذا الوجه دون أن يقال: ولله حج البيت على المستطيعين، هذه النكتة البديعة فتأملها.
الوجه الثاني: أن إضافة المصدر إلى الفاعل إذا وجد أولى من إضافته إلى المفعول ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل منقول، فلو كان من هو الفاعل لأضيف المصدر إليه فكان يقال: "ولله على الناس حج مَنْ استطاع"وحمله على < 1-140 > باب "يعجبني ضرب زيد عمرا"وفيما يفصل فيه بين المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول والظرف حمل على المكتوب المرجوح، وهي قراءة ابن عامر ( قتل أولادهم شركائهم )، فلا يصار إليه.وإذا ثبت أن "من"بدل بعض من كل وجب أن يكون في الكلام ضمير يعود إلى "الناس"كأنه قيل: من استطاع منهم، وحذف هذا الضمير في أكثر الكلام لا يحسن، وحسنه هاهنا أمور منها: أن "من"واقعة على من لا يعقل، كالاسم المبدل منه فارتبطت به، ومنها: أنها موصولة بما هو أخص من الاسم الأول، ولو كانت الصلة أعم لقبح حذف الضمير العائد، ومثال ذلك إذا قلت: رأيت إخوتك من ذهب إلى السوق منهم، كان قبيحا، لأن الذاهب إلى السوق أعم من الإخوة، وكذلك لو قلت: البس الثياب ما حسن وجمل، يريد منها، ولم يذكر الضمير كان أبعد في الجواز، لأن لفظ ما حسن أعم من الثياب.
وباب البعض من الكل أن يكون أخص من المبدل منه، فإذا كان أعم وأضفته إلى ضمير أو قيدته بضمير يعود إلى الأول ارتفع العموم وبقي الخصوص، ومما حسن حذف المضاف في هذه أيضا مع ما تقدم طول الكلام بالصلة والموصول.
وأما المجرور من قوله"لله"فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون في موضع من سبيل، كأنه نعت نكرة قدم عليها، لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل، والثاني: أن يكون متعلقا بسبيل، فإن قلت: كيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل؟ قيل: السبيل لما كان عبارة هاهنا عن الموصل إلى البيت من قوت وزاد ونحوهما، كان فيه رائحة الفعل، ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق، فصلح تعلق المجرور به، واقتضى حسن النظم وإعجاز اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير، لأنه ضمير يعود على البيت، والبيت هو المقصود به الاعتناء، وهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم وببيانه أعني هذا تقرير السهيلي، وهذا بعيد جدا بل الصواب في متعلق الجار والمجرور وجه آخر أحسن من هذين، ولا يليق بالآية سواه، وهو الوجوب المفهوم من قوله "على الناس"أي: يجب لله على الناس الحج، فهو حق واجب لله، وأما تعليقه بالسبيل وجعله حالا منها، ففي غاية البعد فتأمله، ولا يكاد يخطر بالبال من الآية، وهذا كما تقول: لله عليك الصلاة والزكاة والصيام.
ومن فوائد الآية وأسرارها أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه يذكره بلفظ الأمر والنهي، وهو الأكثر، وبلفظ الإيجاب والكتابة والتحريم نحو ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) وفي الحج أتى بهذا اللفظ الدال على تأكد الوجوب من عشرة أوجه، أحدها أنه قدم اسمه تعالى وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف على أبدل منه أهل الاستطاعة، ثم نكر السبيل في سياق الشرط إيذانا بأنه يجب الحج على أي: سبيل تيسرت، من قوت أو مال، فعلق الوجوب بحصول ما يسمى سبيلا ثم أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال ( ومن كفر) أي: لعدم التزامه هذا الواجب وتركه ثم عظم الشأن وأكد الوعيد بإخباره ما يستغنى به عنه، والله تعالى هو الغني الحميد، ولا حاجة به إلى حج أحد، وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقته له وسخطه عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو أعظم التهديد وأبلغه، ثم أكد ذلك بذكر اسم "العالمين"عموما، ولم يقل: فإن الله غني عنه، لأنه إذا كان غنيا عن العالمين كلهم فله الغنى الكامل التام من كل وجه بكل اعتبار، فكان أدل لعظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه، ثم أكد هذا المعنى بأداة "إن"الدالة على التأكيد، فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكد هذا الفرض العظيم.
وتأمل سر البدل في الآية المقتضي لذكر الإسناد مرتين، مرة بإسناده إلى عموم الناس، ومرة بإسناده إلى خصوص المستطيعين، وهذا من فوائد البدل تقوية المعنى وتأكيده بتكرر الإسناد ولهذا كان في نية تكرار العامل وإعادته.
ثم تأمل ما في الآية من الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال، وكيف تضمن ذلك إيراد الكلام في صورتين وخلتين، اعتناء به وتأكيد لشأنه، ثم تأمل كيف افتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت وعظم شأنه بما تدعوا النفوس إلى قصده وحجه وان لم يطلب ذلك منها، فقال: ( إن أول بيت) إلخ، فوصفه بخمس صفات: أحدها كونه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض، الثاني: أنه مبارك، والبركة كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق، الثالث: أنه هدى، ووصفه بالمصدر نفسه مبالغة، حتى كأنه نفس الهدى، الرابع ما تضمن من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية، الخامس: الأمن الحاصل لداخله، وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث النفوس على حجه وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار، ثم أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات، وهذا يدل على الاعتناء منه سبحانه لهذا البيت العظيم، والتنويه بذكره، والتعظيم لشأنه، والرفعة من قدره، ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَطَهِّرْ بَيْتِيَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg لكفى بهذه الإضافة فضلا وشرفا، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وسلبت نفوسهم حباله وشوقا إلى رؤيته، فهذه المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا أبدا، كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قيل:
< 1-141 >



أطــوف بـه والنفس بعـد مشـوقة




إليـه وهـل بعــد الطــواف تداني




وألثـم منـه الـركـن أطلـب برد ما




بقلبـي مـن شــوق ومـن هيمـان




فـواللـه مــا ازداد إلا صبــابـة




ولا القــلــب إلا كــثرة الخفقـان




فيــا جنـة المـأوى ويا غاية المنى




ويـا منيتـي مـن دون كـل أمــان




أبـت غلبــات الشــوق إلا تقـربا




إليــك فمــا لـي بالبـعـاد يـدان




ومــا كـان صـدى عنك صد ملالة




ولـي شــاهد مـن مقلتـي ولسـان




دعـوت اصطبـاري عنك بعدك والبكا




فلبـى البكـا والصـبر عنـك عصاني




وقــد زعمـوا أن المـحـب إذا نأى




سـيبلى هــواه بعـد طــول زمان




ولــو كـان هـذا الزعم حقا لكان ذا




دواء الهـوى فـي النـاس كـل زمان




بـلى إنــه يبـلـى والهـوى عـلى




حالــه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لم يبلــه الملـــوان http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg




وهـذا محــب قـاده الشوق والهوى




بغـــير زمــام قـائد وعنـــان




أتـاك عــلى بعد المـزار ولو ونت




مطيتــه جـــاءت بـه القـدمـان



انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يوبخ تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى على كفرهم بآيات الله التي أنزلها الله على رسله، التي جعلها رحمة لعباده يهتدون بها إليه، ويستدلون بها على جميع المطالب المهمة والعلوم النافعة، فهؤلاء الكفرة جمعوا بين الكفر بها وصد من آمن بالله عنها وتحريفها وتعويجها عما جعلت له، وهم شاهدون بذلك عالمون بأن ما فعلوه أعظم الكفر الموجب لأعظم العقوبة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فلهذا توعدهم هنا بقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg بل محيط بأعمالكم ونياتكم ومكركم السيء، فمجازيكم عليه أشر الجزاء لما توعدهم ووبخهم عطف برحمته وجوده وإحسانه وحذر عباده المؤمنين منهم لئلا يمكروا بهم من حيث لا يشعرون، فقال: ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) وذلك لحسدهم وبغيهم عليكم، وشدة حرصهم على ردكم عن دينكم، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-02-13, 01:11 PM
الحلقة (63)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(98)الى الأية(108)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ثم ذكر تعالى السبب الأعظم والموجب الأكبر لثبات المؤمنين على إيمانهم، وعدم تزلزلهم عن إيقانهم، وأن ذلك من أبعد الأشياء، فقال: ( وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ) أي: الرسول بين أظهركم يتلو عليكم آيات ربكم كل وقت، وهي الآيات البينات التي توجب القطع بموجبها والجزم بمقتضاها وعدم الشك فيما دلت عليه بوجه من الوجوه، خصوصا والمبين لها أفضل الخلق وأعلمهم وأفصحهم وأنصحهم وأرأفهم بالمؤمنين، الحريص على هداية الخلق وإرشادهم بكل طريق يقدر عليه، فصلوات الله وسلامه عليه، فلقد نصح وبلغ البلاغ المبين، فلم يبق في نفوس القائلين مقالا ولم يترك لجائل في طلب الخير مجالا ثم أخبر أن من اعتصم به فتوكل عليه وامتنع بقوته ورحمته عن كل شر، واستعان به على كل خير ( فقد هدي إلى صراط مستقيم ) موصل له إلى غاية المرغوب، لأنه جمع بين اتباع الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله وبين الاعتصام بالله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذا أمر من الله لعباده المؤمنين أن يتقوه حق تقواه، وأن يستمروا على ذلك ويثبتوا عليه ويستقيموا إلى الممات، فإن من عاش على شيء مات عليه، فمن كان في حال صحته ونشاطه وإمكانه مداوما لتقوى ربه وطاعته، منيبا إليه على الدوام، ثبته الله عند موته ورزقه حسن الخاتمة، وتقوى الله حق تقواه كما قال ابن مسعود: وهو أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وهذه الآية بيان لما يستحقه تعالى من التقوى، وأما ما يجب على العبد منها، فكما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وتفاصيل التقوى المتعلقة بالقلب والجوارح كثيرة جدا، يجمعها < 1-142 > فعل ما أمر الله به وترك كل ما نهى الله عنه، ثم أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها، من التعاون على البر والتقوى، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه، ولو أدى إلى الضرر العام، ثم ذكرهم تعالى نعمته وأمرهم بذكرها فقال: ( واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء ) يقتل بعضكم بعضا، ويأخذ بعضكم مال بعض، حتى إن القبيلة يعادي بعضهم بعضا، وأهل البلد الواحد يقع بينهم التعادي والاقتتال، وكانوا في شر عظيم، وهذه حالة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعثه الله وآمنوا به واجتمعوا على الإسلام وتآلفت قلوبهم على الإيمان كانوا كالشخص الواحد، من تآلف قلوبهم وموالاة بعضهم لبعض، ولهذا قال: ( فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار ) أي: قد استحقيتم النار ولم يبق بينكم وبينها إلا أن تموتوا فتدخلوها ( فأنقذكم منها ) بما مَنَّ عليكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ( كذلك يبين الله لكم آياته ) أي: يوضحها ويفسرها، ويبين لكم الحق من الباطل، والهدى من الضلال ( لعلكم تهتدون ) بمعرفة الحق والعمل به، وفي هذه الآية ما يدل أن الله يحب من عباده أن يذكروا نعمته بقلوبهم وألسنتهم ليزدادوا شكرا له ومحبة، وليزيدهم من فضله وإحسانه، وإن من أعظم ما يذكر من نعمه نعمة الهداية إلى الإسلام، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واجتماع كلمة المسلمين وعدم تفرقها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: وليكن منكم أيها المؤمنون الذين مَنَّ الله عليهم بالإيمان والاعتصام بحبله ( أمة ) أي: جماعة ( يدعون إلى الخير ) وهو اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله ويبعد من سخطه ( ويأمرون بالمعروف ) وهو ما عرف بالعقل والشرع حسنه ( وينهون عن المنكر ) وهو ما عرف بالشرع والعقل قبحه، وهذا إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة متصدية للدعوة إلى سبيله وإرشاد الخلق إلى دينه، ويدخل في ذلك العلماء المعلمون للدين، والوعاظ الذين يدعون أهل الأديان إلى الدخول في دين الإسلام، ويدعون المنحرفين إلى الاستقامة، والمجاهدون في سبيل الله، والمتصدون لتفقد أحوال الناس وإلزامهم بالشرع كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام، وكتفقد المكاييل والموازين وتفقد أهل الأسواق ومنعهم من الغش والمعاملات الباطلة، وكل هذه الأمور من فروض الكفايات كما تدل عليه الآية الكريمة في قوله ( ولتكن منكم أمة ) إلخ أي: لتكن منكم جماعة يحصل المقصود بهم في هذه الأشياء المذكورة، ومن المعلوم المتقرر أن الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به فكل ما تتوقف هذه الأشياء عليه فهو مأمور به، كالاستعداد للجهاد بأنواع العدد التي يحصل بها نكاية الأعداء وعز الإسلام، وتعلم العلم الذي يحصل به الدعوة إلى الخير وسائلها ومقاصدها، وبناء المدارس للإرشاد والعلم، ومساعدة النواب ومعاونتهم على تنفيذ الشرع في الناس بالقول والفعل والمال، وغير ذلك مما تتوقف هذه الأمور عليه، وهذه الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم خواص المؤمنين، ولهذا قال تعالى عنهم: ( وأولئك هم المفلحون ) الفائزون بالمطلوب، الناجون من المرهوب، ثم نهاهم عن التشبه بأهل الكتاب في تفرقهم واختلافهم، فقال: ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ) ومن العجائب أن اختلافهم ( من بعد ما جاءهم البينات ) الموجبة لعدم التفرق والاختلاف، فهم أولى من غيرهم بالاعتصام بالدين، فعكسوا القضية مع علمهم بمخالفتهم أمر الله، فاستحقوا العقاب البليغ، ولهذا قال تعالى: ( وأولئك لهم عذاب عظيم ) .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى عن حال يوم القيامة وما فيه من آثار الجزاء بالعدل والفضل، ويتضمن ذلك الترغيب والترهيب الموجب للخوف والرجاء فقال: ( يوم تبيض وجوه ) وهي وجوه أهل السعادة والخير، أهل الائتلاف والاعتصام بحبل الله ( وتسود وجوه ) وهي وجوه أهل الشقاوة والشر، أهل الفرقة والاختلاف، هؤلاء اسودت وجوههم بما في قلوبهم من الخزي والهوان والذلة والفضيحة، وأولئك ابيضت وجوههم، لما في قلوبهم من البهجة < 1-143 > والسرور والنعيم والحبور الذي ظهرت آثاره على وجوههم كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم، وقال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ( فأما الذين اسودت وجوههم ) فيقال لهم على وجه التوبيخ والتقريع: ( أكفرتم بعد إيمانكم ) أي: كيف آثرتم الكفر والضلال على الإيمان والهدى؟ وكيف تركتم سبيل الرشاد وسلكتم طريق الغي؟ ( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) فليس يليق بكم إلا النار، ولا تستحقون إلا الخزي والفضيحة والعار.
( وأما الذين ابيضت وجوههم ) فيهنئون أكمل تهنئة ويبشرون أعظم بشارة، وذلك أنهم يبشرون بدخول الجنات ورضى ربهم ورحمته ( ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) وإذا كانوا خالدين في الرحمة، فالجنة أثر من آثار رحمته تعالى، فهم خالدون فيها بما فيها من النعيم المقيم والعيش السليم، في جوار أرحم الراحمين، لما بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الأحكام الأمرية والأحكام الجزائية قال: ( تلك آيات الله نتلوها ) أي: نقصها ( عليك بالحق ) لأن أوامره ونواهيه مشتملة على الحكمة والرحمة وثوابها وعقابها، كذلك مشتمل على الحكمة والرحمة والعدل الخالي من الظلم، ولهذا قال: ( وما الله يريد ظلما للعالمين ) نفى إرادته ظلمهم فضلا عن كونه يفعل ذلك فلا ينقص أحدا شيئا من حسناته، ولا يزيد في ظلم الظالمين، بل يجازيهم بأعمالهم فقط، ثم قال تعالى:

ابو وليد البحيرى
2019-02-13, 01:15 PM
الحلقة (64)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(109)الى الأية(115)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (109) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: هو المالك لما في السماوات وما في الأرض، الذي خلقهم ورزقهم ويتصرف فيهم بقدره وقضائه، وفي شرعه وأمره، وإليه يرجعون يوم القيامة فيجازيهم بأعمالهم حسنها وسيئها.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يمدح تعالى هذه الأمة ويخبر أنها خير الأمم التي أخرجها الله للناس، وذلك بتكميلهم لأنفسهم بالإيمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به، وبتكميلهم لغيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى الله وجهادهم على ذلك وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالهم وغيهم وعصيانهم، فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس، لما كانت الآية السابقة وهي قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أمرا منه تعالى لهذه الأمة، والأمر قد يمتثله المأمور ويقوم به، وقد لا يقوم به، أخبر في هذه الآية أن الأمة قد قامت بما أمرها الله بالقيام به، وامتثلت أمر ربها واستحقت الفضل على سائر الأمم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وفي هذا من دعوته بلطف الخطاب ما يدعوهم إلى الإيمان، ولكن لم يؤمن منهم إلا قليل، وأكثرهم الفاسقون الخارجون عن طاعة الله المعادون لأولياء الله بأنواع العداوة، ولكن من لطف الله بعباده المؤمنين أنه رد كيدهم في نحورهم، فليس على المؤمنين منهم ضرر في أديانهم ولا أبدانهم، وإنما غاية ما يصلون إليه من الأذى أذية الكلام التي لا سبيل إلى السلامة منها من كل معادي، فلو قاتلوا المؤمنين لولوا الأدبار فرارا ثم تستمر هزيمتهم ويدوم ذلهم ولا هم ينصرون في وقت من الأوقات، ولهذا أخبر تعالى أنه عاقبهم بالذلة في بواطنهم والمسكنة على ظواهرهم، فلا يستقرون ولا يطمئنون ( إلا بحبل ) أي: عهد ( من الله وحبل من الناس ) فلا يكون اليهود إلا تحت أحكام المسلمين وعهدهم، تؤخذ منهم الجزية ويستذلون، أو تحت أحكام النصارى وقد ( باءوا ) مع ذلك ( بغضب من الله ) وهذا أعظم العقوبات، والسبب الذي أوصلهم إلى هذه الحال ذكره الله بقوله: ( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ) التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الموجبة لليقين والإيمان، فكفروا بها بغيا وعنادا ( ويقتلون الأنبياء بغير حق ) أي: يقابلون أنبياء الله الذين يحسنون إليهم أعظم إحسان بأشر مقابلة، وهو القتل، فهل بعد هذه الجراءة والجناية شيء أعظم منها، وذلك كله بسبب عصيانهم واعتدائهم، فهو الذي جرأهم على الكفر بالله وقتل أنبياء الله، ثم قال تعالى:

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما بين تعالى الفرقة الفاسقة من أهل الكتاب وبين أفعالهم وعقوباتهم، < 1-144 >
بين هاهنا الأمة المستقيمة، وبين أفعالها وثوابها، فأخبر أنهم لا يستوون عنده، بل بينهم من الفرق ما لا يمكن وصفه، فأما تلك الطائفة الفاسقة فقد مضى وصفهم، وأما هؤلاء المؤمنون، فقال تعالى منهم ( أمة قائمة ) أي: مستقيمة على دين الله، قائمة بما ألزمها الله به من المأمورات، ومن ذلك قيامها بالصلاة ( يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) وهذا بيان لصلاتهم في أوقات الليل وطول تهجدهم وتلاوتهم لكتاب ربهم وإيثارهم الخضوع والركوع والسجود له.
( يؤمنون بالله واليوم الآخر ) أي: كإيمان المؤمنين إيمانا يوجب لهم الإيمان بكل نبي أرسله، وكل كتاب أنزله الله، وخص الإيمان باليوم الآخر لأن الإيمان الحقيقي باليوم الآخر يحث المؤمن به على ما يقر به إلى الله، ويثاب عليه في ذلك اليوم، وترك كل ما يعاقب عليه في ذلك اليوم ( ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) فحصل منهم تكميل أنفسهم بالإيمان ولوازمه، وتكميل غيرهم بأمرهم بكل خير، ونهيهم عن كل شر، ومن ذلك حثهم أهل دينهم وغيرهم على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم وصفهم بالهمم العالية ( و ) أنهم ( يسارعون في الخيرات ) أي: يبادرون إليها فينتهزون الفرصة فيها، ويفعلونها في أول وقت إمكانها، وذلك من شدة رغبتهم في الخير ومعرفتهم بفوائده وحسن عوائده، فهؤلاء الذين وصفهم الله بهذه الصفات الجميلة والأفعال الجليلة ( من الصالحين ) الذين يدخلهم الله في رحمته ويتغمدهم بغفرانه وينيلهم من فضله وإحسانه، وأنهم مهما فعلوا ( من خير ) قليلا كان أو كثيرا ( فلن يكفروه ) أي: لن يحرموه ويفوتوا أجره، بل يثيبهم الله على ذلك أكمل ثواب، ولكن الأعمال ثوابها تبع لما يقوم بقلب صاحبها من الإيمان والتقوى، فلهذا قال ( والله عليم بالمتقين ) كما قال تعالى: ( إنما يتقبل الله من المتقين ) .

ابو وليد البحيرى
2019-02-16, 05:07 AM
الحلقة (65)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(116)الى الأية(121)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، أي: لا تدفع عنهم شيئا من عذاب الله، ولا تجدي عليهم شيئا من ثواب الله، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg بل تكون أموالهم وأولادهم زادا لهم إلى النار، وحجة عليهم في زيادة نعم الله عليهم، تقتضي منهم شكرها، ويعاقبون على عدم القيام بها وعلى كفرها، ولهذا قال: ( أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) .
ثم ضرب مثلا لما ينفقه الكفار من أموالهم التي يصدون بها عن سبيل الله ويستعينون بها على إطفاء نور الله، بأنها تبطل وتضمحل، كمن زرع زرعا يرجو نتيجته ويؤمل إدراك ريعه، فبينما هو كذلك إذ أصابته ريح فيها صر، أي: برد شديد محرق، فأهلكت زرعه، ولم يحصل له إلا التعب والعناء وزيادة الأسف، فكذلك هؤلاء الكفار الذين قال الله فيهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَ هَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ( وما ظلمهم الله ) بإبطال أعمالهم ( ولكن ) كانوا ( أنفسهم يظلمون ) حيث كفروا بآيات الله وكذبوا رسوله وحرصوا على إطفاء نور الله، هذه الأمور هي التي أحبطت أعمالهم وذهبت بأموالهم، ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يتخذوا بطانة من المنافقين من أهل الكتاب وغيرهم يظهرونهم على سرائرهم أو يولونهم بعض الأعمال الإسلامية وذلك أنهم هم الأعداء الذين امتلأت قلوبهم من العداوة والبغضاء فظهرت على أفواههم ( وما تخفي صدورهم أكبر ) مما يسمع منهم فلهذا ( لا يألونكم خبالا ) أي: لا يقصرون في حصول الضرر عليكم والمشقة وعمل الأسباب التي فيها ضرركم ومساعدة الأعداء عليكم قال الله للمؤمنين ( قد بينا لكم الآيات ) أي: التي فيها مصالحكم الدينية والدنيوية ( لعلكم تعقلون ) فتعرفونها وتفرقون بين الصديق والعدو، فليس كل أحد يجعل بطانة، وإنما العاقل من إذا ابتلي بمخالطة العدو أن تكون مخالطة في ظاهره ولا يطلعه من باطنه على شيء ولو تملق له وأقسم أنه من أوليائه.
قال الله مهيجا للمؤمنين على الحذر من هؤلاء المنافقين من أهل الكتاب، ومبينا شدة عداوتهم ( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله ) < 1-145 > أي: جنس الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه وهم لا يؤمنون بكتابكم، بل إذا لقوكم أظهروا لكم الإيمان ( وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل ) وهي أطراف الأصابع من شدة غيظهم عليكم ( قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور ) وهذا فيه بشارة للمؤمنين أن هؤلاء الذين قصدوا ضرركم لا يضرون إلا أنفسهم، وإن غيظهم لا يقدرون على تنفيذه، بل لا يزالون معذبين به حتى يموتوا فيتنقلوا من عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة.
( إن تمسسكم حسنة ) كالنصر على الأعداء وحصول الفتح والغنائم ( تسؤهم ) أي: تغمهم وتحزنهم ( وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط ) فإذا أتيتم بالأسباب التي وعد الله عليها النصر - وهي الصبر والتقوى- لم يضركم مكرهم، بل يجعل الله مكرهم في نحورهم لأنه محيط بهم علمه وقدرته فلا منفذ لهم عن ذلك ولا يخفى عليهم منهم شيء.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذه الآيات نزلت في وقعة "أُحد" وقصتها مشهورة في السير والتواريخ، ولعل الحكمة في ذكرها في هذا الموضع، وأدخل في أثنائها وقعة "بدر" لما أن الله تعالى قد وعد المؤمنين أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم، ورد كيد الأعداء عنهم، وكان هذا حكما عاما ووعدا صادقا لا يتخلف مع الإتيان بشرطه، فذكر نموذجا من هذا في هاتين القصتين، وأن الله نصر المؤمنين في "بدر" لما صبروا واتقوا، وأدال عليهم العدو لما صدر من بعضهم من الإخلال بالتقوى ما صدر، ومن حكمة الجمع بين القصتين أن الله يحب من عباده إذا أصابهم ما يكرهون أن يتذكروا ما يحبون، فيخف عنهم البلاء ويشكروا الله على نعمه العظيمة التي إذا قوبلت بما ينالهم من المكروه الذي هو في الحقيقة خير لهم، كان المكروه بالنسبة إلى المحبوب نزرا يسيرا، وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة في قوله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وحاصل قضية "أحد" وإجمالها أن المشركين لما رجع فلهم من "بدر" إلى مكة، وذلك في سنة اثنتين من الهجرة، استعدوا بكل ما يقدرون عليه من العدد بالأموال والرجال والعدد، حتى اجتمع عندهم من ذلك ما جزموا بحصول غرضهم وشفاء غيظهم، ثم وجهوا من مكة للمدينة في ثلاثة آلاف مقاتل، حتى نزلوا قرب المدينة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم هو وأصحابه بعد المراجعة والمشاورة حتى استقر رأيهم على الخروج، وخرج في ألف، فلما ساروا قليلا رجع عبد الله بن أبي المنافق بثلث الجيش ممن هو على مثل طريقته، وهمت طائفتان من المؤمنين أن يرجعوا وهم بنو سلمة وبنو حارثة فثبتهم الله، فلما وصلوا إلى أحد رتبهم النبي صلى الله عليه وسلم في مواضعهم وأسندوا ظهورهم إلى أحد، ورتب النبي صلى الله عليه وسلم خمسين رجلا من أصحابه في خلة في جبل "أحد" وأمرهم أن يلزموا مكانهم ولا يبرحوا منه ليأمنوا أن يأتيهم أحد من ظهورهم، فلما التقى المسلمون والمشركون انهزم المشركون هزيمة قبيحة وخلفوا معسكرهم خلف ظهورهم، واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فلما رآهم الرماة الذين جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في الجبل، قال بعضهم لبعض: الغنيمة الغنيمة، ما يقعدنا هاهنا والمشركون قد انهزموا، ووعظهم أميرهم عبد الله بن جبير عن المعصية فلم يلتفتوا إليه، فلما أخلوا موضعهم فلم يبق فيه إلا نفر يسير، منهم أميرهم عبد الله بن جبير، جاءت خيل المشركين من ذلك الموضع واستدبرت المسلمين وقاتلت ساقتهم، فجال المسلمون جولة ابتلاهم الله بها وكفر بها عنهم، وأذاقهم فيها عقوبة المخالفة، فحصل ما حصل من قتل من قتل منهم، ثم إنهم انحازوا إلى رأس جبل "أحد" وكف الله عنهم أيدي المشركين وانكفأوا إلى بلادهم، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة قال الله تعالى ( وإذ غدوت من أهلك ) والغدو هاهنا مطلق الخروج، ليس المراد به الخروج في أول النهار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يخرجوا إلا بعدما صلوا الجمعة ( تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ) أي: تنزلهم وترتبهم كل في مقعده اللائق به، وفيها أعظم مدح للنبي صلى الله عليه وسلم حيث هو الذي يباشر تدبيرهم وإقامتهم في مقاعد القتال، وما ذاك إلا لكمال علمه ورأيه، وسداد نظره وعلو همته، حيث يباشر هذه الأمور بنفسه وشجاعته الكاملة صلوات الله وسلامه عليه ( والله سميع ) لجميع المسموعات، ومنه أنه يسمع ما يقول المؤمنون والمنافقون كل يتكلم بحسب ما في قلبه ( عليم ) بنيات العبيد، فيجازيهم عليها أتم الجزاء، وأيضا فالله سميع عليم بكم، يكلؤكم، ويتولى تدبير أموركم، ويؤيدكم بنصره كما قال تعالى لموسى وهارون http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-02-16, 05:25 AM
الحلقة (66)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(122)الى الأية(132)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ومن لطفه بهم وإحسانه إليهم أنه، لما ( همت طائفتان ) من المؤمنين بالفشل وهم بنو سلمة وبنو حارثة كما تقدم ثبتهما الله تعالى نعمة عليهما وعلى سائر المؤمنين، فلهذا قال < 1-146 > ( والله وليهما ) أي: بولايته الخاصة، التي هي لطفه بأوليائه، وتوفيقهم لما فيه صلاحهم وعصمتهم عما فيه مضرتهم، فمن توليه لهما أنهما لما هما بهذه المعصية العظيمة وهي الفشل والفرار عن رسول الله عصمهما، لما معهما من الإيمان كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ثم قال ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) ففيها الأمر بالتوكل الذي هو اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة بالله، وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله، وأن المؤمنين أولى بالتوكل على الله من غيرهم، وخصوصا في مواطن الشدة والقتال، فإنهم مضطرون إلى التوكل والاستعانة بربهم والاستنصار له، والتبري من حولهم وقوتهم، والاعتماد على حول الله وقوته، فبذلك ينصرهم ويدفع عنهم البلايا والمحن، ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وهذا امتنان منه على عباده المؤمنين، وتذكير لهم بما نصرهم به يوم بدر وهم أذلة في قلة عَددهم وعُددهم مع كثرة عدد عدوهم وعُددهم، وكانت وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بثلاث مئة وبضعة عشر من أصحابه، ولم يكن معهم إلا سبعون بعيرا وفرسان لطلب عير لقريش قدمت من الشام، فسمع به المشركون فتجهزوا من مكة لفكاك عيرهم، وخرجوا في زهاء ألف مقاتل مع العدة الكاملة والسلاح العام والخيل الكثيرة، فالتقوا هم والمسلمون في ماء يقال له "بدر" بين مكة والمدينة فاقتتلوا، ونصر الله المسلمين نصرا عظيما، فقتلوا من المشركين سبعين قتيلا من صناديد المشركين وشجعانهم، وأسروا سبعين، واحتووا على معسكرهم ستأتي - إن شاء الله - القصة في سورة الأنفال، فإن ذلك موضعها، ولكن الله تعالى هنا أتى بها ليتذكر بها المؤمنون ليتقوا ربهم ويشكروه، فلهذا قال ( فاتقوا الله لعلكم تشكرون ) لأن من اتقى ربه فقد شكره، ومن ترك التقوى فلم يشكره، إذ تقول يا محمد للمؤمنين يوم بدر مبشرا لهم بالنصر.
( ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا ) أي: من مقصدهم هذا، وهو وقعة بدر ( يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) أي: معلمين بعلامة الشجعان، فشرط الله لإمدادهم ثلاثة شروط: الصبر، والتقوى، وإتيان المشركين من فورهم هذا، فهذا الوعد بإنزال الملائكة المذكورين وإمدادهم بهم، وأما وعد النصر وقمع كيد الأعداء فشرط الله له الشرطين الأولين كما تقدم في قوله: ( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ) .
( وما جعله الله ) أي: إمداده لكم بالملائكة ( إلا بشرى ) تستبشرون بها وتفرحون ( ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله ) فلا تعتمدوا على ما معكم من الأسباب، بل الأسباب فيها طمأنينة لقلوبكم، وأما النصر الحقيقي الذي لا معارض له، فهو مشيئة الله لنصر من يشاء من عباده، فإنه إن شاء نصر من معه الأسباب كما هي سنته في خلقه، وإن شاء نصر المستضعفين الأذلين ليبين لعباده أن الأمر كله بيديه، ومرجع الأمور إليه، ولهذا قال ( عند الله العزيز ) فلا يمتنع عليه مخلوق، بل الخلق كلهم أذلاء مدبرون تحت تدبيره وقهره ( الحكيم ) الذي يضع الأشياء مواضعها، وله الحكمة في إدالة الكفار في بعض الأوقات على المسلمين إدالة غير مستقرة، قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى أن نصره عباده المؤمنين لأحد أمرين: إما أن يقطع طرفا من الذين كفروا، أي: جانبا منهم وركنا من أركانهم، إما بقتل، أو أسر، أو استيلاء على بلد، أو غنيمة مال، فيقوى بذلك المؤمنون ويذل الكافرون، وذلك لأن مقاومتهم ومحاربتهم للإسلام تتألف من أشخاصهم وسلاحهم وأموالهم وأرضهم فبهذه الأمور تحصل منهم المقاومة والمقاتلة فقطع شيء من ذلك ذهاب لبعض قوتهم، الأمر الثاني أن يريد الكفار بقوتهم وكثرتهم، طمعا في المسلمين، ويمنوا أنفسهم ذلك، ويحرصوا عليه غاية الحرص، ويبذلوا قواهم وأموالهم في ذلك، فينصر الله المؤمنين عليهم ويردهم خائبين لم ينالوا مقصودهم، بل يرجعون بخسارة وغم وحسرة، وإذا تأملت الواقع رأيت نصر الله لعباده المؤمنين دائرا بين هذين الأمرين، غير خارج عنهما إما نصر عليهم أو خذل لهم. < 1-147 >
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
لما جرى يوم "أحد" ما جرى، وجرى على النبي صلى الله عليه وسلم مصائب، رفع الله بها درجته، فشج رأسه وكسرت رباعيته، قال "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم" وجعل يدعو على رؤساء من المشركين مثل أبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، أنزل الله تعالى على رسوله نهيا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد عن رحمة الله ( ليس لك من الأمر شيء ) إنما عليك البلاغ وإرشاد الخلق والحرص على مصالحهم، وإنما الأمر لله تعالى هو الذي يدبر الأمور، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، فلا تدع عليهم بل أمرهم راجع إلى ربهم، إن اقتضت حكمته ورحمته أن يتوب عليهم ويمن عليهم بالإسلام فعل، وإن اقتضت حكمته إبقاءهم على كفرهم وعدم هدايتهم، فإنهم هم الذين ظلموا أنفسهم وضروها وتسببوا بذلك، فعل، وقد تاب الله على هؤلاء المعينين وغيرهم، فهداهم للإسلام رضي الله عنهم، وفي هذه الآية مما يدل على أن اختيار الله غالب على اختيار العباد، وأن العبد وإن ارتفعت درجته وعلا قدره قد يختار شيئا وتكون الخيرة والمصلحة في غيره، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء فغيره من باب أولى ففيها أعظم رد على من تعلق بالأنبياء أو غيرهم من الصالحين وغيرهم، وأن هذا شرك في العبادة، نقص في العقل، يتركون من الأمر كله له ويدعون من لا يملك من الأمر مثقال ذرة، إن هذا لهو الضلال البعيد، وتأمل كيف لما ذكر تعالى توبته عليهم أسند الفعل إليه، ولم يذكر منهم سببا موجبا لذلك، ليدل ذلك على أن النعمة محض فضله على عبده، من غير سبق سبب من العبد ولا وسيلة، ولما ذكر العذاب ذكر معه ظلمهم، ورتبه على العذاب بالفاء المفيدة للسببية، فقال ( أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) ليدل ذلك على كمال عدل الله وحكمته، حيث وضع العقوبة موضعها، ولم يظلم عبده بل العبد هو الذي ظلم نفسه، ولما نفى عن رسوله أنه ليس له من الأمر شيء قرر من الأمر له فقال ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) من الملائكة والإنس والجن والحيوانات والأفلاك والجمادات كلها، وجميع ما في السماوات والأرض، الكل ملك لله مخلوقون مدبرون متصرف فيهم تصرف المماليك، فليس لهم مثقال ذرة من الملك، وإذا كانوا كذلك فهم دائرون بين مغفرته وتعذيبه فيغفر لمن يشاء بأن يهديه للإسلام فيغفر شركه ويمن عليه بترك العصيان فيغفر له ذنبه، ( ويعذب من يشاء ) بأن يكله إلى نفسه الجاهلة الظالمة المقتضية لعمل الشر فيعمل الشر ويعذبه على ذلك، ثم ختم الآية باسمين كريمين دالين على سعة رحمته وعموم مغفرته وسعة إحسانه وعميم إحسانه، فقال ( والله غفور رحيم ) ففيها أعظم بشارة بأن رحمته غلبت غضبه، ومغفرته غلبت مؤاخذته، فالآية فيها الإخبار عن حالة الخلق وأن منهم من يغفر الله له ومنهم من يعذبه، فلم يختمها باسمين أحدهما دال على الرحمة، والثاني دال على النقمة، بل ختمها باسمين كليهما يدل على الرحمة، فله تعالى رحمة وإحسان سيرحم بها عباده لا تخطر ببال بشر، ولا يدرك لها وصف، فنسأله تعالى أن يتغمدنا ويدخلنا برحمته في عباده الصالحين.
تم السفر الأول من هذا التفسير المبارك بيسر من الله وإعانة، فله الحمد والشكر والثناء، وأسأله المزيد من فضله وكرمه وإحسانه، ويليه المجلد الثاني، أوله قول الباري جل جلاله ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ) الآية وذلك في تسع وعشرين من شهر ربيع الأول من سنة 1343 ثلاث وأربعين وثلاث مئة وألف من الهجرة النبوية وصلى الله على محمد وسلم تسليما كثيرا بقلم جامعه عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي غفر الله له ولوالديه وإخوانه المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
المجلد الثاني من تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن لجامعه الفقير إلى الله: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن سعدي غفر الله له ولوالديه وللمسلمين آمين.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
تقدم في مقدمة هذا التفسير أن العبد ينبغي له مراعاة الأوامر والنواهي < 1-148 > في نفسه وفي غيره، وأن الله تعالى إذا أمره بأمر وجب عليه -أولا- أن يعرف حده، وما هو الذي أمر به ليتمكن بذلك من امتثاله، فإذا عرف ذلك اجتهد، واستعان بالله على امتثاله في نفسه وفي غيره، بحسب قدرته وإمكانه، وكذلك إذا نهي عن أمر عرف حده، وما يدخل فيه وما لا يدخل، ثم اجتهد واستعان بربه في تركه، وأن هذا ينبغي مراعاته في جميع الأوامر الإلهية والنواهي، وهذه الآيات الكريمات قد اشتملت عن أوامر وخصال من خصال الخير، أمر الله [بها] وحث على فعلها، وأخبر عن جزاء أهلها، وعلى نواهي حث على تركها.
ولعل الحكمة -والله أعلم- في إدخال هذه الآيات أثناء قصة "أحد" أنه قد تقدم أن الله تعالى وعد عباده المؤمنين، أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم على أعدائهم، وخذل الأعداء عنهم، كما في قوله تعالى: ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ) .
ثم قال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآيات.
فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة خصال التقوى، التي يحصل بها النصر والفلاح والسعادة، فذكر الله في هذه الآيات أهم خصال التقوى التي إذا قام العبد بها فقيامه بغيرها من باب أولى وأحرى، ويدل على ما قلنا أن الله ذكر لفظ "التقوى" في هذه الآيات ثلاث مرات: مرة مطلقة وهي قوله: ( أعدت للمتقين ) ومرتين مقيدتين، فقال: ( واتقوا الله ) ( واتقوا النار ) فقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا ) كل ما في القرآن من قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا ) افعلوا كذا، أو اتركوا كذا، يدل على أن الإيمان هو السبب الداعي والموجب لامتثال ذلك الأمر، واجتناب ذلك النهي؛ لأن الإيمان هو التصديق الكامل بما يجب التصديق به، المستلزم لأعمال الجوارح، فنهاهم عن أكل الربا أضعافا مضاعفة، وذلك هو ما اعتاده أهل الجاهلية، ومن لا يبالي بالأوامر الشرعية من أنه إذا حل الدين، على المعسر ولم يحصل منه شيء، قالوا له: إما أن تقضي ما عليك من الدين، وإما أن نزيد في المدة، ويزيد ما في ذمتك، فيضطر الفقير ويستدفع غريمه ويلتزم ذلك، اغتناما لراحته الحاضرة، ، فيزداد -بذلك- ما في ذمته أضعافا مضاعفة، من غير نفع وانتفاع.
ففي قوله: ( أضعافًا مضاعفة ) تنبيه على شدة شناعته بكثرته، وتنبيه لحكمة تحريمه، وأن تحريم الربا حكمته أن الله منع منه لما فيه من الظلم.
وذلك أن الله أوجب إنظار المعسر، وبقاء ما في ذمته من غير زيادة، فإلزامه بما فوق ذلك ظلم متضاعف، فيتعين على المؤمن المتقي تركه وعدم قربانه، لأن تركه من موجبات التقوى.
والفلاح متوقف على التقوى، فلهذا قال: ( واتقوا الله لعلكم تفلحون * واتقوا النار التي أعدت للكافرين ) بترك ما يوجب دخولها، من الكفر والمعاصي، على اختلاف درجاتها، فإن المعاصي كلها- وخصوصا المعاصي الكبار- تجر إلى الكفر، بل هي من خصال الكفر الذي أعد الله النار لأهله، فترك المعاصي ينجي من النار، ويقي من سخط الجبار، وأفعال الخير والطاعة توجب رضا الرحمن، ودخول الجنان، وحصول الرحمة، ولهذا قال: ( وأطيعوا الله والرسول ) بفعل الأوامر امتثالا واجتناب النواهي ( لعلكم ترحمون ) .
فطاعة الله وطاعة رسوله، من أسباب حصول الرحمة كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآيات.

ابو وليد البحيرى
2019-02-16, 05:29 AM
الحلقة (67)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(133)الى الأية(140)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ثم أمرهم تعالى بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها السماوات والأرض، فكيف بطولها، التي أعدها الله للمتقين، فهم أهلها وأعمال التقوى هي الموصلة إليها، ثم وصف المتقين وأعمالهم، فقال: ( الذين ينفقون في السراء والضراء ) أي: في حال عسرهم ويسرهم، إن أيسروا أكثروا من النفقة، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئا ولو قل.
( والكاظمين الغيظ ) أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم -وهو امتلاء قلوبهم من الحنق، الموجب للانتقام بالقول والفعل-، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.
( والعافين عن الناس ) يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ثم ذكر حالة أعم من غيرها، وأحسن وأعلى وأجل، وهي الإحسان، فقال [تعالى]: ( والله يحب المحسنين ) والإحسان نوعان: الإحسان في عبادة الخالق. [والإحسان إلى المخلوق، فالإحسان في عبادة < 1-149 > الخالق]. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"
وأما الإحسان إلى المخلوق، فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم، والسعي في جمع كلمتهم، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم، على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم، فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الأذى، واحتمال الأذى، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات، فمن قام بهذه الأمور، فقد قام بحق الله وحق عبيده.
ثم ذكر اعتذارهم لربهم من جناياتهم وذنوبهم، فقال: ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ) أي: صدر منهم أعمال [سيئة] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg كبيرة، أو ما دون ذلك، بادروا إلى التوبة والاستغفار، وذكروا ربهم، وما توعد به العاصين ووعد به المتقين، فسألوه المغفرة لذنوبهم، والستر لعيوبهم، مع إقلاعهم عنها وندمهم عليها، فلهذا قال: ( ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) .
( أولئك ) الموصوفون بتلك الصفات ( جزاؤهم مغفرة من ربهم ) تزيل عنهم كل محذور ( وجنات تجري من تحتها الأنهار ) فيها من النعيم المقيم، والبهجة والسرور والبهاء، والخير والسرور، والقصور والمنازل الأنيقة العاليات، والأشجار المثمرة البهية، والأنهار الجاريات في تلك المساكن الطيبات، ( خالدين فيها ) لا يحولون عنها، ولا يبغون بها بدلا ولا يغير ما هم فيه من النعيم، ( ونعم أجر العاملين ) عملوا لله قليلا فأجروا كثيرا فـ "عند الصباح يحمد القوم السرى" وعند الجزاء يجد العامل أجره كاملا موفرا.
وهذه الآيات الكريمات من أدلة أهل السنة والجماعة، على أن الأعمال تدخل في الإيمان، خلافا للمرجئة، ووجه الدلالة إنما يتم بذكر الآية، التي في سورة الحديد، نظير هذه الآيات، وهي قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فلم يذكر فيها إلا لفظ الإيمان به وبرسله، وهنا قال: ( أعدت للمتقين ) ثم وصف المتقين بهذه الأعمال المالية والبدنية، فدل على أن هؤلاء المتقين الموصوفين بهذه الصفات هم أولئك المؤمنون.
ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وهذه الآيات الكريمات، وما بعدها في قصة "أحد" يعزي تعالى عباده المؤمنين ويسليهم، ويخبرهم أنه مضى قبلهم أجيال وأمم كثيرة، امتحنوا، وابتلي المؤمنون منهم بقتال الكافرين، فلم يزالوا في مداولة ومجاولة، حتى جعل الله العاقبة للمتقين، والنصر لعباده المؤمنين، وآخر الأمر حصلت الدولة على المكذبين، وخذلهم الله بنصر رسله وأتباعهم.
( فسيروا في الأرض ) بأبدانكم وقلوبكم ( فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) فإنكم لا تجدونهم إلا معذبين بأنواع العقوبات الدنيوية، قد خوت ديارهم، وتبين لكل أحد خسارهم، وذهب عزهم وملكهم، وزال بذخهم وفخرهم، أفليس في هذا أعظم دليل، وأكبر شاهد على صدق ما جاءت به الرسل؟
وحكمة الله التي يمتحن بها عباده، ليبلوهم ويتبين صادقهم من كاذبهم، ولهذا قال تعالى: ( هذا بيان للناس ) أي: دلالة ظاهرة، تبين للناس الحق من الباطل، وأهل السعادة من أهل الشقاوة، وهو الإشارة إلى ما أوقع الله بالمكذبين.
( وهدى وموعظة للمتقين ) لأنهم هم المنتفعون بالآيات فتهديهم إلى سبيل الرشاد، وتعظهم وتزجرهم عن طريق الغي، وأما باقي الناس فهي بيان لهم، تقوم [به] عليهم الحجة من الله، ليهلك من هلك عن بينة.
ويحتمل أن الإشارة في قوله: ( هذا بيان للناس ) للقرآن العظيم، والذكر الحكيم، وأنه بيان للناس عموما، وهدى وموعظة للمتقين خصوصا، وكلا المعنيين حق.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يقول تعالى مشجعا < 1-150 > لعباده المؤمنين، ومقويا لعزائمهم ومنهضا لهممهم: ( ولا تهنوا ولا تحزنوا ) أي: ولا تهنوا وتضعفوا في أبدانكم، ولا تحزنوا في قلوبكم، عندما أصابتكم المصيبة، وابتليتم بهذه البلوى، فإن الحزن في القلوب، والوهن على الأبدان، زيادة مصيبة عليكم، وعون لعدوكم عليكم، بل شجعوا قلوبكم وصبروها، وادفعوا عنها الحزن وتصلبوا على قتال عدوكم، وذكر تعالى أنه لا ينبغي ولا يليق بهم الوهن والحزن، وهم الأعلون في الإيمان، ورجاء نصر الله وثوابه، فالمؤمن المتيقن ما وعده الله من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي منه ذلك، ولهذا قال [تعالى]: ( وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) .
ثم سلاهم بما حصل لهم من الهزيمة، وبيَّن الحكم العظيمة المترتبة على ذلك، فقال: ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) فأنتم وإياهم قد تساويتم في القرح، ولكنكم ترجون من الله ما لا يرجون كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ومن الحكم في ذلك أن هذه الدار يعطي الله منها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فيداول الله الأيام بين الناس، يوم لهذه الطائفة، ويوم للطائفة الأخرى؛ لأن هذه الدار الدنيا منقضية فانية، وهذا بخلاف الدار الآخرة، فإنها خالصة للذين آمنوا.
( وليعلم الله الذين آمنوا ) هذا أيضا من الحكم أنه يبتلي الله عباده بالهزيمة والابتلاء، ليتبين المؤمن من المنافق؛ لأنه لو استمر النصر للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في الإسلام من لا يريده، فإذا حصل في بعض الوقائع بعض أنواع الابتلاء، تبين المؤمن حقيقة الذي يرغب في الإسلام، في الضراء والسراء، واليسر والعسر، ممن ليس كذلك.
( ويتخذ منكم شهداء ) وهذا أيضا من بعض الحكم، لأن الشهادة عند الله من أرفع المنازل، ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين، أن قيَّض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس، لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم، ( والله لا يحب الظالمين ) الذين ظلموا أنفسهم، وتقاعدوا عن القتال في سبيله، وكأن في هذا تعريضا بذم المنافقين، وأنهم مبغضون لله، ولهذا ثبطهم عن القتال في سبيله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-02-16, 05:33 AM
الحلقة (68)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(141)الى الأية(148)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( وليمحص الله الذين آمنوا ) وهذا أيضا من الحكم أن الله يمحص بذلك المؤمنين من ذنوبهم وعيوبهم، يدل ذلك على أن الشهادة والقتال في سبيل الله يكفر الذنوب، ويزيل العيوب، وليمحص الله أيضا المؤمنين من غيرهم من المنافقين، فيتخلصون منهم، ويعرفون المؤمن من المنافق، ومن الحكم أيضا أنه يقدر ذلك، ليمحق الكافرين، أي: ليكون سببا لمحقهم واستئصالهم بالعقوبة، فإنهم إذا انتصروا، بغوا، وازدادوا طغيانا إلى طغيانهم، يستحقون به المعاجلة بالعقوبة، رحمة بعباده المؤمنين.
ثم قال تعالى: ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) هذا استفهام إنكاري، أي: لا تظنوا، ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة واحتمال المكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته، فإن الجنة أعلى المطالب، وأفضل ما به يتنافس المتنافسون، وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته، والعمل الموصل إليه، فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة، ولا يدرك النعيم إلا بترك النعيم، ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها، وتمرينها عليها ومعرفة ما تئول إليه، تنقلب عند أرباب البصائر منحا يسرون بها، ولا يبالون بها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ثم وبخهم تعالى على عدم صبرهم بأمر كانوا يتمنونه ويودون حصوله، فقال: ( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه ) وذلك أن كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم ممن فاته بدر يتمنون أن يحضرهم الله مشهدا يبذلون فيه جهدهم، قال الله [تعالى] لهم: ( فقد رأيتموه ) أي: رأيتم ما تمنيتم بأعينكم ( وأنتم تنظرون ) فما بالكم وترك الصبر؟ هذه حالة لا تليق ولا تحسن، خصوصا لمن تمنى ذلك، وحصل له ما تمنى، فإن الواجب عليه بذل الجهد، واستفراغ الوسع في ذلك.
وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكره تمني الشهادة، ووجه الدلالة أن الله تعالى أقرهم على أمنيتهم، ولم ينكر عليهم، وإنما أنكر عليهم عدم العمل بمقتضاها، والله أعلم.
ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يقول تعالى: ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) أي: ليس ببدع من الرسل، بل هو من جنس الرسل الذين قبله، وظيفتهم تبليغ رسالات ربهم وتنفيذ أوامره، ليسوا بمخلدين، وليس بقاؤهم شرطا في امتثال أوامر الله، بل الواجب على الأمم عبادة ربهم في كل وقت وبكل حال، ولهذا قال: ( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) بترك ما جاءكم من إيمان أو جهاد، أو غير ذلك.
قال [الله] تعالى: ( ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ) إنما يضر نفسه، وإلا فالله تعالى غني عنه، وسيقيم دينه، ويعز عباده المؤمنين، فلما وبخ تعالى من انقلب على عقبيه، مدح من ثبت مع رسوله، وامتثل أمر ربه، فقال: ( وسيجزي الله الشاكرين ) < 1-151 > والشكر لا يكون إلا بالقيام بعبودية الله تعالى في كل حال.
وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه، فقدُ رئيس ولو عظم، وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه، إذا فقد أحدهم قام به غيره، وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله، والجهاد عنه، بحسب الإمكان، لا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس، فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم، وتستقيم أمورهم.
وفي هذه الآية أيضا أعظم دليل على فضيلة الصديق الأكبر أبي بكر، وأصحابه الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هم سادات الشاكرين.
ثم أخبر تعالى أن النفوس جميعها متعلقة بآجالها بإذن الله وقدره وقضائه، فمن حتَّم عليه بالقدر أن يموت، مات ولو بغير سبب، ومن أراد بقاءه، فلو أتى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg من الأسباب كل سبب، لم يضره ذلك قبل بلوغ أجله، وذلك أن الله قضاه وقدره وكتبه إلى أجل مسمى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ثم أخبر تعالى أنه يعطي الناس من ثواب الدنيا والآخرة ما تعلقت به إراداتهم، فقال: ( ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ) .
قال الله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( وسنجزي الشاكرين ) ولم يذكر جزاءهم ليدل ذلك على كثرته وعظمته، وليعلم أن الجزاء على قدر الشكر، قلة وكثرة وحسنا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذا تسلية للمؤمنين، وحث على الاقتداء بهم، والفعل كفعلهم، وأن هذا أمر قد كان متقدما، لم تزل سنة الله جارية بذلك، فقال: ( وكأين من نبي ) أي: وكم من نبي ( قاتل معه ربيون كثير ) أي: جماعات كثيرون من أتباعهم، الذين قد ربتهم الأنبياء بالإيمان والأعمال الصالحة، فأصابهم قتل وجراح وغير ذلك.
( فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا ) أي: ما ضعفت قلوبهم، ولا وهنت أبدانهم، ولا استكانوا، أي: ذلوا لعدوهم، بل صبروا وثبتوا، وشجعوا أنفسهم، ولهذا قال: ( والله يحب الصابرين ) .
ثم ذكر قولهم واستنصارهم لربهم، فقال: ( وما كان قولهم ) أي: في تلك المواطن الصعبة ( إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ) والإسراف: هو مجاوزة الحد إلى ما حرم، علموا أن الذنوب والإسراف من أعظم أسباب الخذلان، وأن التخلي منها من أسباب النصر، فسألوا ربهم مغفرتها.
ثم إنهم لم يتكلوا على ما بذلوا جهدهم به من الصبر، بل اعتمدوا على الله، وسألوه أن يثبت أقدامهم عند ملاقاة الأعداء الكافرين، وأن ينصرهم عليهم، فجمعوا بين الصبر وترك ضده، والتوبة والاستغفار، والاستنصار بربهم، لا جرم أن الله نصرهم، وجعل لهم العاقبة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال: ( فآتاهم الله ثواب الدنيا ) من النصر والظفر والغنيمة، ( وحُسن ثواب الآخرة ) وهو الفوز برضا ربهم، والنعيم المقيم الذي قد سلم من جميع المنكدات، وما ذاك إلا أنهم أحسنوا له الأعمال، فجازاهم بأحسن الجزاء، فلهذا قال: ( والله يحب المحسنين ) في عبادة الخالق ومعاملة الخلق، ومن الإحسان أن يفعل عند جهاد الأعداء، كفعل هؤلاء الموصوفين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ثم قال تعالى:

ابو وليد البحيرى
2019-02-16, 05:37 AM
الحلقة (69)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(149)الى الأية(153)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وهذا نهي من الله للمؤمنين أن يطيعوا الكافرين من المنافقين والمشركين، فإنهم إن أطاعوهم لم يريدوا لهم إلا الشر، وهم [قصدهم] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ردهم إلى الكفر الذي عاقبته الخيبة والخسران.
ثم أخبر أنه مولاهم وناصرهم، ففيه إخبار لهم بذلك، وبشارة بأنه سيتولى أمورهم بلطفه، ويعصمهم من أنواع الشرور.
وفي ضمن ذلك الحث لهم على اتخاذه وحده وليا وناصرا من دون كل أحد، فمن ولايته ونصره لهم أنه وعدهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم من الكافرين الرعب، وهو الخوف العظيم الذي يمنعهم من كثير من مقاصدهم، وقد فعل تعالى.
وذلك أن المشركين -بعدما انصرفوا من وقعة "أحد" - تشاوروا بينهم، وقالوا: كيف ننصرف، بعد أن قتلنا منهم من قتلنا، وهزمناهم ولما نستأصلهم؟ فهموا بذلك، فألقى الله الرعب في قلوبهم، فانصرفوا خائبين، ولا شك أن هذا من أعظم النصر، لأنه قد تقدم أن نصر الله لعباده المؤمنين لا يخرج عن أحد أمرين: إما أن يقطع < 1-152 > طرفا من الذين كفروا، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين، وهذا من الثاني.
ثم ذكر السبب الموجب لإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، فقال: ( بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ) أي: ذلك بسبب ما اتخذوا من دونه من الأنداد والأصنام، التي اتخذوها على حسب أهوائهم وإرادتهم الفاسدة، من غير حجة ولا برهان، وانقطعوا من ولاية الواحد الرحمن، فمن ثم كان المشرك مرعوبا من المؤمنين، لا يعتمد على ركن وثيق، وليس له ملجأ عند كل شدة وضيق، هذا حاله في الدنيا، وأما في الآخرة فأشد وأعظم، ولهذا قال: ( ومأواهم النار ) أي: مستقرهم الذي يأوون إليه وليس لهم عنها خروج، ( وبئس مثوى الظالمين ) بسبب ظلمهم وعدوانهم صارت النار مثواهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: ( ولقد صدقكم الله وعده ) بالنصر، فنصركم عليهم، حتى ولوكم أكتافهم، وطفقتم فيهم قتلا حتى صرتم سببا لأنفسكم، وعونا لأعدائكم عليكم، فلما حصل منكم الفشل وهو الضعف والخور ( وتنازعتم في الأمر ) الذي فيه ترك أمر الله بالائتلاف وعدم الاختلاف، فاختلفتم، فمن قائل نقيم في مركزنا الذي جعلنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قائل: ما مقامنا فيه وقد انهزم العدو، ولم يبق محذور، فعصيتم الرسول، وتركتم أمره من بعد ما أراكم الله ما تحبون وهو انخذال أعدائكم؛ لأن الواجب على من أنعم الله عليه بما أحب، أعظم من غيره.
فالواجب في هذه الحال خصوصًا، وفي غيرها عموما، امتثال أمر الله ورسوله.
( منكم من يريد الدنيا ) وهم الذين أوجب لهم ذلك ما أوجب، ( ومنكم من يريد الآخرة ) وهم الذين لزموا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتوا حيث أمروا.
( ثم صرفكم عنهم ) أي: بعدما وجدت هذه الأمور منكم، صرف الله وجوهكم عنهم، فصار الوجه لعدوكم، ابتلاء من الله لكم وامتحانا، ليتبين المؤمن من الكافر، والطائع من العاصي، وليكفر الله عنكم بهذه المصيبة ما صدر منكم، فلهذا قال: ( ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين ) أي: ذو فضل عظيم عليهم، حيث منَّ عليهم بالإسلام، وهداهم لشرائعه، وعفا عنهم سيئاتهم، وأثابهم على مصيباتهم.
ومن فضله على المؤمنين أنه لا يقدّر عليهم خيرا ولا مصيبة، إلا كان خيرا لهم. إن أصابتهم سراء فشكروا جازاهم جزاء الشاكرين، وإن أصابتهم ضراء فصبروا، جازاهم جزاء الصابرين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يذكرهم تعالى حالهم في وقت انهزامهم عن القتال، ويعاتبهم على ذلك، فقال: ( إذ تصعدون ) أي: تجدون في الهرب ( ولا تلوون على أحد ) أي: لا يلوي أحد منكم على أحد، ولا ينظر إليه، بل ليس لكم هم إلا الفرار والنجاء عن القتال.
والحال أنه ليس عليكم خطر كبير، إذ لستم آخر الناس مما يلي الأعداء، ويباشر الهيجاء، بل ( الرسول يدعوكم في أخراكم ) أي: مما يلي القوم يقول: "إليَّ عباد الله" فلم تلتفتوا إليه، ولا عرجتم عليه، فالفرار نفسه موجب للوم، ودعوة الرسول الموجبة لتقديمه على النفس، أعظم لَوْمًا بتخلفكم عنها، ( فأثابكم ) أي: جازاكم على فعلكم ( غما بغم ) أي: غما يتبع غما، غم بفوات النصر وفوات الغنيمة، وغم بانهزامكم، وغم أنساكم كل غم، وهو سماعكم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل.
ولكن الله -بلطفه وحسن نظره لعباده- جعل اجتماع هذه الأمور لعباده المؤمنين خيرا لهم، فقال: ( لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ) من النصر والظفر، ( ولا ما أصابكم ) من الهزيمة والقتل والجراح، إذا تحققتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل هانت عليكم تلك المصيبات، واغتبطتم بوجوده المسلي عن كل مصيبة ومحنة، فلله ما في ضمن البلايا والمحن من الأسرار والحكم، وكل هذا صادر عن علمه وكمال خبرته بأعمالكم، وظواهركم وبواطنكم، ولهذا قال: ( والله خبير بما تعملون ) .
ويحتمل أن معنى قوله: ( لكيلا < 1-153 > تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ) يعني: أنه قدَّر ذلك الغم والمصيبة عليكم، لكي تتوطن نفوسكم، وتمرنوا على الصبر على المصيبات، ويخف عليكم تحمل المشقات.

ابو وليد البحيرى
2019-02-18, 11:33 AM
الحلقة (70)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(154)الى الأية(157)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( ثم أنزل عليكم من بعد الغم ) الذي أصابكم ( أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم ) .
ولا شك أن هذا رحمة بهم، وإحسان وتثبيت لقلوبهم، وزيادة طمأنينة؛ لأن الخائف لا يأتيه النعاس لما في قلبه من الخوف، فإذا زال الخوف عن القلب أمكن أن يأتيه النعاس.
وهذه الطائفة التي أنعم الله عليها بالنعاس هم المؤمنون الذين ليس لهم هم إلا إقامة دين الله، ورضا الله ورسوله، ومصلحة إخوانهم المسلمين.
وأما الطائفة الأخرى الذين ( قد أهمتهم أنفسهم ) فليس لهم هم في غيرها، لنفاقهم أو ضعف إيمانهم، فلهذا لم يصبهم من النعاس ما أصاب غيرهم، ( يقولون هل لنا من الأمر من شيء ) وهذا استفهام إنكاري، أي: ما لنا من الأمر -أي: النصر والظهور- شيء، فأساءوا الظن بربهم وبدينه ونبيه، وظنوا أن الله لا يتم أمر رسوله، وأن هذه الهزيمة هي الفيصلة والقاضية على دين الله، قال الله في جوابهم: ( قل إن الأمر كله لله ) الأمر يشمل الأمر القدري، والأمر الشرعي، فجميع الأشياء بقضاء الله وقدره، وعاقبة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg النصر والظفر لأوليائه وأهل طاعته، وإن جرى عليهم ما جرى.
( يخفون ) يعني المنافقين ( في أنفسهم ما لا يبدون لك ) ثم بين الأمر الذي يخفونه، فقال: ( يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ) أي: لو كان لنا في هذه الواقعة رأي ومشورة ( ما قتلنا هاهنا ) وهذا إنكار منهم وتكذيب بقدر الله، وتسفيه منهم لرأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأي أصحابه، وتزكية منهم لأنفسهم، فرد الله عليهم بقوله: ( قل لو كنتم في بيوتكم ) التي هي أبعد شيء عن مظان القتل ( لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) فالأسباب -وإن عظمت- إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء، فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئا، بل لا بد أن يمضي الله ما كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة، ( وليبتلي الله ما في صدوركم ) أي: يختبر ما فيها من نفاق وإيمان وضعف إيمان، ( وليمحص ما في قلوبكم ) من وساوس الشيطان، وما تأثر عنها من الصفات غير الحميدة.
( والله عليم بذات الصدور ) أي: بما فيها وما أكنته، فاقتضى علمه وحكمته أن قدر من الأسباب، ما به تظهر مخبآت الصدور وسرائر الأمور.
ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى عن حال الذين انهزموا يوم "أحد" وما الذي أوجب لهم الفرار، وأنه من تسويل الشيطان، وأنه تسلط عليهم ببعض ذنوبهم. فهم الذين أدخلوه على أنفسهم، ومكنوه بما فعلوا من المعاصي، لأنها مركبه ومدخله، فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان.
قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ثم أخبر أنه عفا عنهم بعدما فعلوا ما يوجب المؤاخذة، وإلا فلو واخذهم لاستأصلهم.
( إن الله غفور ) للمذنبين الخطائين بما يوفقهم له من التوبة والاستغفار، والمصائب المكفرة، ( حليم ) لا يعاجل من عصاه، بل يستأني به، ويدعوه إلى الإنابة إليه، والإقبال عليه.
ثم إن تاب وأناب قبل منه، وصيره كأنه لم يجر منه ذنب، ولم يصدر منه عيب، فلله الحمد على إحسانه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يشابهوا الكافرين، الذين لا يؤمنون بربهم، ولا بقضائه وقدره، من المنافقين وغيرهم.
ينهاهم عن مشابهتهم في كل شيء، وفي هذا الأمر الخاص وهو أنهم يقولون لإخوانهم في الدين أو في النسب: ( إذا ضربوا في الأرض ) أي: سافروا للتجارة ( أو كانوا غزى ) أي: غزاة، ثم جرى عليهم قتل أو موت، يعارضون القدر ويقولون: ( لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) وهذا كذب منهم، فقد قال تعالى: ( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) ولكن هذا التكذيب لم يفدهم، إلا أن الله يجعل هذا القول، وهذه العقيدة حسرة في قلوبهم، فتزداد مصيبتهم، وأما المؤمنون بالله فإنهم يعلمون أن ذلك بقدر الله، فيؤمنون ويسلمون، < 1-154 > فيهدي الله قلوبهم ويثبتها، ويخفف بذلك عنهم المصيبة.
قال الله ردا عليهم: ( والله يحيي ويميت ) أي: هو المنفرد http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg بذلك، فلا يغني حذر عن قدر.
( والله بما تعملون بصير ) فيجازيكم بأعمالكم وتكذيبكم.
ثم أخبر تعالى أن القتل في سبيله أو الموت فيه، ليس فيه نقص ولا محذور، وإنما هو مما ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون، لأنه سبب مفض وموصل إلى مغفرة الله ورحمته، وذلك خير مما يجمع أهل الدنيا من دنياهم.

ابو وليد البحيرى
2019-02-18, 11:38 AM
الحلقة (71)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(158)الى الأية(165)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
وأن الخلق أيضا إذا ماتوا أو قتلوا بأي حالة كانت، فإنما مرجعهم إلى الله، ومآلهم إليه، فيجازي كلا بعمله، فأين الفرار إلا إلى الله، وما للخلق عاصم إلا الاعتصام بحبل الله؟"
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ (159) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
أي: برحمة الله لك ولأصحابك، منَّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك.
( ولو كنت فظا ) أي: سيئ الخلق ( غليظ القلب ) أي: قاسيه، ( لانفضوا من حولك ) لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ.
فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين، تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره؟!
أليس من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلى الله عليه وسلم، من اللين وحسن الخلق والتأليف، امتثالا لأمر الله، وجذبا لعباد الله لدين الله.
ثم أمره الله تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى الله عليه وسلم، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله، فيجمع بين العفو والإحسان.
( وشاورهم في الأمر ) أي: الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر، فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره:
منها: أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله.
ومنها: أن فيها تسميحا لخواطرهم، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث، فإن من له الأمر على الناس -إذا جمع أهل الرأي: والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث- اطمأنت نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبد عليهم، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة، ولا يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير تامة.
ومنها: أن في الاستشارة تنور الأفكار، بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول.
ومنها: ما تنتجه الاستشارة من الرأي: المصيب، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب، فليس بملوم، فإذا كان الله يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل الناس عقلا وأغزرهم علما، وأفضلهم رأيا-: ( وشاورهم في الأمر ) فكيف بغيره؟!
ثم قال تعالى: ( فإذا عزمت ) أي: على أمر من الأمور بعد الاستشارة فيه، إن كان يحتاج إلى استشارة ( فتوكل على الله ) أي: اعتمد على حول الله وقوته، متبرئا من حولك وقوتك، ( إن الله يحب المتوكلين ) عليه، اللاجئين إليه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
أي: إن يمددكم الله بنصره ومعونته ( فلا غالب لكم ) فلو اجتمع عليكم من في أقطارها وما عندهم من العدد والعُدد، لأن الله لا مغالب له، وقد قهر العباد وأخذ بنواصيهم، فلا تتحرك دابة إلا بإذنه، ولا تسكن إلا بإذنه.
( وإن يخذلكم ) ويكلكم إلى أنفسكم ( فمن ذا الذي ينصركم من بعده ) فلا بد أن تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق.
وفي ضمن ذلك الأمر بالاستنصار بالله والاعتماد عليه، والبراءة من الحول والقوة، ولهذا قال: ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) تقديم المعمول يؤذن بالحصر، أي: على الله توكلوا لا على غيره، لأنه قد علم أنه هو الناصر وحده، فالاعتماد عليه توحيد محصل للمقصود، والاعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه، بل ضار.
وفي هذه الآية الأمر بالتوكل على الله وحده، وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
الغلول هو: الكتمان من الغنيمة، [والخيانة في كل مال يتولاه الإنسان] وهو محرم إجماعا، بل هو من الكبائر، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص، فأخبر الله تعالى أنه ما ينبغي ولا يليق بنبي أن يغل، لأن الغلول -كما علمت- من أعظم الذنوب وأشر العيوب. وقد صان الله تعالى أنبياءه عن كل ما يدنسهم ويقدح فيهم، وجعلهم أفضل العالمين أخلاقا، وأطهرهم نفوسا، وأزكاهم وأطيبهم، ونزههم عن كل عيب، وجعلهم محل رسالته، ومعدن حكمته ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .
فبمجرد علم العبد بالواحد منهم، يجزم بسلامتهم من كل أمر يقدح فيهم، ولا يحتاج إلى دليل على ما قيل فيهم من أعدائهم، لأن معرفته بنبوتهم، مستلزم لدفع ذلك، ولذلك أتى بصيغة يمتنع معها وجود الفعل منهم، فقال: ( وما كان لنبي أن يغل ) أي: يمتنع ذلك ويستحيل على من اختارهم الله لنبوته.
ثم ذكر الوعيد على من غل، فقال: ( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ) أي: يأت به حامله على ظهره، حيوانا كان أو متاعا، أو غير ذلك، ليعذب به يوم القيامة، ( ثم توفى كل نفس ما كسبت ) الغال وغيره، كل يوفى أجره ووزره على مقدار كسبه، ( وهم لا يظلمون ) أي: لا يزاد في سيئاتهم، ولا يهضمون شيئا من حسناتهم، وتأمل حسن هذا الاحتراز في هذه الآية الكريمة.
لما ذكر عقوبة الغال، وأنه يأتي يوم القيامة بما غله، ولما أراد أن يذكر توفيته وجزاءه، وكان الاقتصار على الغال يوهم -بالمفهوم- أن غيره من أنواع العاملين قد لا يوفون -أتى بلفظ عام جامع له ولغيره.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
يخبر تعالى أنه لا يستوي من كان قصده رضوان ربه، والعمل على ما يرضيه، كمن ليس كذلك، ممن هو مكب على المعاصي، مسخط لربه، هذان لا يستويان في حكم الله، وحكمة الله، وفي فطر عباد الله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg ولهذا قال هنا: ( هم درجات عند الله ) أي: كل هؤلاء متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم بحسب تفاوتهم في أعمالهم.
فالمتبعون لرضوان الله يسعون في نيل الدرجات العاليات، والمنازل والغرفات، فيعطيهم الله من فضله وجوده على قدر أعمالهم، والمتبعون لمساخط الله يسعون في النزول في الدركات إلى أسفل سافلين، كل على حسب عمله، والله تعالى بصير بأعمالهم، لا يخفى عليه منها شيء، بل قد علمها، وأثبتها في اللوح المحفوظ، ووكل ملائكته الأمناء الكرام، أن يكتبوها ويحفظوها، ويضبطونها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
هذه المنة التي امتن الله بها على عباده، أكبر النعم، بل أصلها، وهي الامتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي أنقذهم الله به من الضلالة، وعصمهم به من الهلكة، فقال: ( لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) يعرفون نسبه، وحاله، ولسانه، من قومهم وقبيلتهم، ناصحا لهم، مشفقا عليهم، يتلو عليهم آيات الله، يعلمهم ألفاظها ومعانيها.
( ويزكيهم ) من الشرك، والمعاصي، والرذائل، وسائر مساوئ الأخلاق.
و ( يعلمهم الكتاب ) إما جنس الكتاب الذي هو القرآن، فيكون قوله: ( يتلو عليهم آياته ) المراد به الآيات الكونية، أو المراد بالكتاب -هنا- الكتابة، فيكون قد امتن عليهم، بتعليم الكتاب والكتابة، التي بها تدرك العلوم وتحفظ، ( والحكمة ) هي: السنة، التي هي شقيقة القرآن، أو وضع الأشياء مواضعها، ومعرفة أسرار الشريعة.
فجمع لهم بين تعليم الأحكام، وما به تنفذ الأحكام، وما به تدرك فوائدها وثمراتها، ففاقوا بهذه الأمور العظيمة جميع المخلوقين، وكانوا من العلماء الربانيين، ( وإن كانوا من قبل ) بعثة هذا الرسول ( لفي ضلال مبين ) لا يعرفون الطريق الموصل إلى ربهم، ولا ما يزكي النفوس ويطهرها، بل ما زين لهم جهلهم فعلوه، ولو ناقض ذلك عقول العالمين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
هذا تسلية من الله تعالى لعباده المؤمنين، حين أصابهم ما أصابهم يوم "أحد" وقتل منهم نحو سبعين، فقال الله: إنكم ( قد أصبتم ) من المشركين ( مثليها ) يوم بدر فقتلتم سبعين من كبارهم وأسرتم سبعين، فليهن الأمر ولتخف المصيبة عليكم، مع أنكم لا تستوون أنتم وهم، فإن قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار.
( قلتم أنى هذا ) أي: من أين أصابنا ما أصابنا وهزمنا؟ ( قل هو من عند أنفسكم ) حين تنازعتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، فعودوا على أنفسكم باللوم، واحذروا من الأسباب المردية.
( إن الله على كل شيء قدير ) فإياكم وسوء الظن بالله، فإنه قادر على نصركم، ولكن له أتم الحكمة في ابتلائكم ومصيبتكم. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-02-18, 11:42 AM
الحلقة (72)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(166)الى الأية(173)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُم ْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ثم أخبر أن ما أصابهم يوم التقى الجمعان، جمع المسلمين وجمع المشركين في "أحد" من القتل والهزيمة، أنه بإذنه وقضائه وقدره، لا مرد له ولا بد من وقوعه. والأمر القدري -إذا نفذ، لم يبق إلا التسليم له، وأنه قدره لحكم عظيمة وفوائد جسيمة، وأنه ليتبين بذلك المؤمن من المنافق، الذين لما أمروا بالقتال، ( وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله ) أي: ذبا عن دين الله، وحماية له وطلبا لمرضاة الله، ( أو ادفعوا ) عن محارمكم وبلدكم، إن لم يكن لكم نية صالحة، فأبوا ذلك واعتذروا بأن ( قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم ) أي: لو نعلم أنكم يصير بينكم وبينهم قتال لاتبعناكم، وهم كذبة في هذا. قد علموا وتيقنوا وعلم كل أحد أن هؤلاء المشركين، قد ملئوا من الحنق والغيظ على المؤمنين بما أصابوا منهم، وأنهم قد بذلوا أموالهم، وجمعوا ما يقدرون عليه من الرجال والعدد، وأقبلوا في جيش عظيم قاصدين المؤمنين في بلدهم، متحرقين على قتالهم، فمن كانت هذه حالهم، كيف يتصور أنهم لا يصير بينهم وبين المؤمنين قتال؟ خصوصا وقد خرج المسلمون من المدينة وبرزوا لهم، هذا من المستحيل، ولكن المنافقين ظنوا أن هذا العذر، يروج على المؤمنين، قال تعالى: ( هم للكفر يومئذ ) أي: في تلك الحال التي تركوا فيها الخروج مع المؤمنين ( أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ) وهذه خاصة المنافقين، يظهرون بكلامهم وفعالهم ما يبطنون ضده في قلوبهم وسرائرهم.
ومنه قولهم: ( لو نعلم قتالا لاتبعناكم ) فإنهم قد علموا وقوع القتال.
ويستدل بهذه الآية على قاعدة "ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما، وفعل أدنى المصلحتين، للعجز عن أعلاهما" ؛ [لأن المنافقين أمروا أن يقاتلوا للدين، فإن لم يفعلوا فللمدافعة عن العيال والأوطان] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ( والله أعلم بما يكتمون ) فيبديه لعباده المؤمنين، ويعاقبهم عليه.
ثم قال تعالى: ( الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ) أي: جمعوا بين التخلف عن الجهاد، وبين الاعتراض والتكذيب بقضاء الله وقدره، قال الله ردًّا عليهم: ( قل فادرءوا ) أي: ادفعوا ( عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) إنهم لو أطاعوكم ما قتلوا، لا تقدرون على ذلك ولا تستطيعونه.
وفي هذه الآيات دليل على أن العبد قد يكون فيه خصلة كفر وخصلة إيمان، وقد يكون إلى أحدهما أقرب منه إلى الأخرى.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُو نَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذه الآيات الكريمة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg فيها فضيلة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الشهداء وكرامتهم، وما منَّ الله عليهم به من فضله وإحسانه، وفي ضمنها تسلية الأحياء عن قتلاهم وتعزيتهم، وتنشيطهم للقتال في سبيل الله والتعرض للشهادة، فقال: ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ) أي: في جهاد أعداء الدين، قاصدين بذلك إعلاء كلمة الله ( أمواتا ) أي: لا يخطر ببالك وحسبانك أنهم ماتوا وفقدوا، وذهبت عنهم لذة الحياة الدنيا والتمتع بزهرتها، < 1-157 > الذي يحذر من فواته، من جبن عن القتال، وزهد في الشهادة. ( بل ) قد حصل لهم أعظم مما يتنافس فيه المتنافسون. فهم ( أحياء عند ربهم ) في دار كرامته.
ولفظ: ( عند ربهم ) يقتضي علو درجتهم، وقربهم من ربهم، ( يرزقون ) من أنواع النعيم الذي لا يعلم وصفه، إلا من أنعم به عليهم، ومع هذا ( فرحين بما آتاهم الله من فضله ) أي: مغتبطين بذلك، قد قرت به عيونهم، وفرحت به نفوسهم، وذلك لحسنه وكثرته، وعظمته، وكمال اللذة في الوصول إليه، وعدم المنغص، فجمع الله لهم بين نعيم البدن بالرزق، ونعيم القلب والروح بالفرح بما آتاهم من فضله: فتم لهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg النعيم والسرور، وجعلوا ( يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ) أي: يبشر بعضهم بعضا، بوصول إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم، وأنهم سينالون ما نالوا، ( ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) أي: يستبشرون بزوال المحذور عنهم وعن إخوانهم المستلزم كمال السرور
( يستبشرون بنعمة من الله وفضل ) أي: يهنىء بعضهم بعضا، بأعظم مهنأ به، وهو: نعمة ربهم، وفضله، وإحسانه، ( وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ) بل ينميه ويشكره، ويزيده من فضله، ما لا يصل إليه سعيهم.
وفي هذه الآيات إثبات نعيم البرزخ، وأن الشهداء في أعلى مكان عند ربهم، وفيه تلاقي أرواح أهل الخير، وزيارة بعضهم بعضا، وتبشير بعضهم بعضا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من "أحد" إلى المدينة، وسمع أن أبا سفيان ومن معه من المشركين قد هموا بالرجوع إلى المدينة، ندب أصحابه إلى الخروج، فخرجوا -على ما بهم من الجراح- استجابة لله ولرسوله، وطاعة لله ولرسوله، فوصلوا إلى "حمراء الأسد" وجاءهم من جاءهم وقال لهم: ( إن الناس قد جمعوا لكم ) وهموا باستئصالكم، تخويفا لهم وترهيبا، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا بالله واتكالا عليه.

( وقالوا حسبنا الله ) أي: كافينا كل ما أهمنا ( ونعم الوكيل ) المفوض إليه تدبير عباده، والقائم بمصالحهم.

ابو وليد البحيرى
2019-02-23, 01:08 AM
الحلقة (73)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(174)الى الأية(180)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( فانقلبوا ) أي: رجعوا ( بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ) .
وجاء الخبر المشركين أن الرسول وأصحابه قد خرجوا إليكم، وندم من تخلف منهم، فألقى الله الرعب في قلوبهم، واستمروا راجعين إلى مكة، ورجع المؤمنون بنعمة من الله وفضل، حيث مَنَّ عليهم بالتوفيق للخروج بهذه الحالة والاتكال على ربهم، ثم إنه قد كتب لهم أجر غزاة تامة، فبسبب إحسانهم بطاعة ربهم، وتقواهم عن معصيته، لهم أجر عظيم، وهذا فضل الله عليهم.
ثم قال تعالى: ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ) أي: إن ترهيب من رهب من المشركين، وقال: إنهم جمعوا لكم، داع من دعاة الشيطان، يخوف أولياءه الذين عدم إيمانهم، أو ضعف. ( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) أي: فلا تخافوا المشركين أولياء الشيطان، فإن نواصيهم بيد الله، لا يتصرفون إلا بقدره، بل خافوا الله الذي ينصر أولياءه الخائفين منه المستجيبين لدعوته.
وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده، وأنه من لوازم الإيمان، فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله، والخوف المحمود: ما حجز العبد عن محارم الله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على الخلق، مجتهدا في هدايتهم، وكان يحزن إذا لم يهتدوا، قال الله تعالى: ( ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) من شدة رغبتهم فيه، وحرصهم عليه ( إنهم لن يضروا الله شيئا ) فالله ناصر دينه، ومؤيد رسوله، ومنفذ أمره من دونهم، فلا تبالهم ولا تحفل بهم، إنما يضرون ويسعون في ضرر أنفسهم، بفوات الإيمان في الدنيا، وحصول العذاب الأليم في الأخرى، من هوانهم على الله وسقوطهم من عينه، وإرادته أن لا يجعل لهم نصيبا في الآخرة من ثوابه. خذلهم فلم يوفقهم لما وفق له < 1-158 > أولياءه ومن أراد به خيرا، عدلا منه وحكمة، لعلمه بأنهم غير زاكين على الهدى، ولا قابلين للرشاد، لفساد أخلاقهم وسوء قصدهم.
ثم أخبر أن الذين اختاروا الكفر على الإيمان، ورغبوا فيه رغبة من بذل ما يحب من المال، في شراء ما يحب من السلع ( لن يضروا الله شيئا ) بل ضرر فعلهم يعود على أنفسهم، ولهذا قال: ( ولهم عذاب أليم ) وكيف يضرون الله شيئا، وهم قد زهدوا أشد الزهد في الإيمان، ورغبوا كل الرغبة بالكفر بالرحمن؟! فالله غني عنهم، وقد قيض لدينه من عباده الأبرار الأزكياء سواهم، وأعد له -ممن ارتضاه لنصرته- أهل البصائر والعقول، وذوي الألباب من الرجال الفحول، قال الله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآيات.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: ولا يظن الذين كفروا بربهم ونابذوا دينه، وحاربوا رسوله أن تركنا إياهم في هذه الدنيا، وعدم استئصالنا لهم، وإملاءنا لهم خير لأنفسهم، ومحبة منا لهم.
كلا ليس الأمر كما زعموا، وإنما ذلك لشر يريده الله بهم، وزيادة عذاب وعقوبة إلى عذابهم، ولهذا قال: ( إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ) فالله تعالى يملي للظالم، حتى يزداد طغيانه، ويترادف كفرانه، حتى إذا أخذه أخذه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg أخذ عزيز مقتدر، فليحذر الظالمون من الإمهال، ولا يظنوا أن يفوتوا الكبير المتعال.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: ما كان في حكمة الله أن يترك المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط وعدم التميز http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg حتى يميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب.
ولم يكن في حكمته أيضا أن يطلع عباده على الغيب الذي يعلمه من عباده، فاقتضت حكمته الباهرة أن يبتلي عباده، ويفتنهم بما به يتميز الخبيث من الطيب، من أنواع الابتلاء والامتحان، فأرسل [الله] رسله، وأمر بطاعتهم، والانقياد لهم، والإيمان بهم، ووعدهم على الإيمان والتقوى الأجر العظيم.
فانقسم الناس بحسب اتباعهم للرسل قسمين: مطيعين وعاصين، ومؤمنين ومنافقين، ومسلمين وكافرين، ليرتب على ذلك الثواب والعقاب، وليظهر عدله وفضله، وحكمته لخلقه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: ولا يظن الذين يبخلون، أي: يمنعون ما عندهم مما آتاهم الله من فضله، من المال والجاه والعلم، وغير ذلك مما منحهم الله، وأحسن إليهم به، وأمرهم ببذل ما لا يضرهم منه لعباده، فبخلوا بذلك، وأمسكوه، وضنوا به على عباد الله، وظنوا أنه خير لهم، بل هو شر لهم، في دينهم ودنياهم، وعاجلهم وآجلهم ( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) أي: يجعل ما بخلوا به طوقا في أعناقهم، يعذبون به كما ورد في الحديث الصحيح، "إن البخيل يمثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان، يأخذ بلهزمتيه يقول: أنا مالك، أنا كنزك" وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداق ذلك، هذه الآية.
فهؤلاء حسبوا أن بخلهم نافعهم، ومجد عليهم، فانقلب عليهم الأمر، وصار من أعظم مضارهم، وسبب عقابهم.
( ولله ميراث السماوات والأرض ) أي: هو تعالى مالك الملك، وترد جميع الأملاك إلى مالكها، وينقلب العباد من الدنيا ما معهم درهم ولا دينار، ولا غير ذلك من المال.
قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وتأمل كيف ذكر السبب الابتدائي والسبب الغائي، الموجب كل واحد منهما أن لا يبخل العبد بما أعطاه الله.
أخبر أولا أن الذي عنده وفي يده فضل من الله ونعمة، ليس ملكا للعبد، بل لولا فضل الله عليه وإحسانه، لم يصل إليه منه شيء، فمنعه لذلك منع لفضل الله وإحسانه؛ ولأن إحسانه موجب للإحسان إلى عبيده كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
فمن تحقق أن ما بيده، فضل من الله، لم يمنع الفضل الذي لا يضره، بل ينفعه في قلبه وماله، وزيادة إيمانه، وحفظه من الآفات.
ثم ذكر ثانيا: أن هذا الذي بيد < 1-159 > العباد كلها ترجع إلى الله، ويرثها تعالى، وهو خير الوارثين، فلا معنى للبخل بشيء هو زائل عنك منتقل إلى غيرك.
ثم ذكر ثالثا: السبب الجزائي، فقال: ( والله بما تعملون خبير ) فإذا كان خبيرا بأعمالكم جميعها -ويستلزم ذلك الجزاء الحسن على الخيرات، والعقوبات على الشر- لم يتخلف من في قلبه مثقال ذرة من إيمان عن الإنفاق الذي يجزى به الثواب، ولا يرضى بالإمساك الذي به العقاب.

ابو وليد البحيرى
2019-02-23, 01:11 AM
الحلقة (74)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(181)الى الأية(186)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (182) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى، عن قول هؤلاء المتمردين، الذين قالوا أقبح المقالة وأشنعها، وأسمجها، فأخبر أنه قد سمع ما قالوه وأنه سيكتبه ويحفظه، مع أفعالهم الشنيعة، وهو: قتلهم الأنبياء الناصحين، وأنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة، وأنه يقال لهم -بدل قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء- ( ذوقوا عذاب الحريق ) المحرق النافذ من البدن إلى الأفئدة، وأن عذابهم ليس ظلما من الله لهم، فإنه ( ليس بظلام للعبيد ) فإنه منزه عن ذلك، وإنما ذلك بما قدمت أيديهم من المخازي والقبائح، التي أوجبت استحقاقهم العذاب، وحرمانهم الثواب.
وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في قوم من اليهود، تكلموا بذلك، وذكروا منهم "فنحاص بن عازوراء" من رؤساء علماء اليهود في المدينة، وأنه لما سمع قول الله تعالى: ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg قال: -على وجه التكبر والتجرهم- هذه المقالة قبحه الله، فذكرها الله عنهم، وأخبر أنه ليس ببدع من شنائعهم، بل قد سبق لهم من الشنائع ما هو نظير ذلك، وهو: ( قتلهم الأنبياء بغير حق ) هذا القيد يراد به، أنهم تجرأوا على قتلهم مع علمهم بشناعته، لا جهلا وضلالا بل تمردا وعنادا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى عن حال هؤلاء المفترين القائلين: ( إن الله عهد إلينا ) أي: تقدم إلينا وأوصى، ( ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ) فجمعوا بين الكذب على الله، وحصر آية الرسل بما قالوه، من هذا الإفك المبين، وأنهم إن لم يؤمنوا برسول لم يأتهم بقربان تأكله النار، فهم -في ذلك- مطيعون لربهم، ملتزمون عهده، وقد علم أن كل رسول يرسله الله، يؤيده من الآيات والبراهين، ما على مثله آمن البشر، ولم يقصرها على ما قالوه، ومع هذا فقد قالوا إفكا لم يلتزموه، وباطلا لم يعملوا به، ولهذا أمر الله رسوله أن يقول لهم: ( قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات ) الدالات على صدقهم ( وبالذي قلتم ) بأن أتاكم بقربان تأكله النار ( فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ) أي: في دعواهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الإيمان برسول يأتي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg بقربان تأكله النار، فقد تبين بهذا كذبهم، وعنادهم وتناقضهم.
ثم سلَّى رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك ) أي: هذه عادة الظالمين، ودأبهم الكفر بالله، وتكذيب رسل الله وليس تكذيبهم لرسل الله، عن قصور ما أتوا به، أو عدم تبين حجة، بل قد ( جاءوا بالبينات ) أي: الحجج العقلية، والبراهين النقلية، ( والزبر ) أي: الكتب المزبورة المنزلة من السماء، التي لا يمكن أن يأتي بها غير الرسل.
( والكتاب المنير ) للأحكام الشرعية، وبيان ما اشتملت عليه من المحاسن العقلية، ومنير أيضا للأخبار الصادقة، فإذا كان هذا عادتهم في عدم الإيمان بالرسل، الذين هذا وصفهم، فلا يحزنك أمرهم، ولا يهمنك شأنهم.
ثم قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذه الآية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها وعدم بقائها، وأنها متاع الغرور، تفتن بزخرفها، وتخدع بغرورها، وتغر بمحاسنها، ثم هي منتقلة، ومنتقل عنها إلى دار القرار، التي توفى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار، من خير وشر.
( فمن زحزح ) أي: أخرج، ( عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) أي: حصل له الفوز العظيم من العذاب الأليم، والوصول إلى جنات النعيم، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ومفهوم الآية، أن من لم يزحزح عن < 1-160 > النار ويدخل الجنة، فإنه لم يفز، بل قد شقي الشقاء الأبدي، وابتلي بالعذاب السرمدي.
وفي هذه الآية إشارة لطيفة إلى نعيم البرزخ وعذابه، وأن العاملين يجزون فيه بعض الجزاء مما عملوه، ويقدم لهم أنموذج مما أسلفوه، يفهم هذا من قوله: ( وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ) أي: توفية الأعمال التامة، إنما يكون يوم القيامة، وأما ما دون ذلك فيكون في البرزخ، بل قد يكون قبل ذلك في الدنيا كقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَنُذِيقَنَّه ُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى ويخاطب المؤمنين أنهم سيبتلون في أموالهم من النفقات الواجبة والمستحبة، ومن التعريض لإتلافها في سبيل الله، وفي أنفسهم من التكليف بأعباء التكاليف الثقيلة على كثير من الناس، كالجهاد في سبيل الله، والتعرض فيه للتعب والقتل والأسر والجراح، وكالأمراض التي تصيبه في نفسه، أو فيمن يحب.
( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) من الطعن فيكم، وفي دينكم وكتابكم ورسولكم.
وفي إخباره لعباده المؤمنين بذلك، عدة فوائد:
منها: أن حكمته تعالى تقتضي ذلك، ليتميز المؤمن الصادق من غيره.
ومنها: أنه تعالى يقدر عليهم هذه الأمور، لما يريده بهم من الخير ليعلي درجاتهم، ويكفر من سيئاتهم، وليزداد بذلك إيمانهم، ويتم به إيقانهم، فإنه إذا أخبرهم بذلك ووقع كما أخبر http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ومنها: أنه أخبرهم بذلك لتتوطن نفوسهم على وقوع ذلك، والصبر عليه إذا وقع؛ لأنهم قد استعدوا لوقوعه، فيهون عليهم حمله، وتخف عليهم مؤنته، ويلجأون إلى الصبر والتقوى، ولهذا قال: ( وإن تصبروا وتتقوا ) أي: إن تصبروا على ما نالكم في أموالكم وأنفسكم، من الابتلاء والامتحان وعلى أذية الظالمين، وتتقوا الله في ذلك الصبر بأن تنووا به وجه الله والتقرب إليه، ولم تتعدوا في صبركم الحد الشرعي من الصبر في موضع لا يحل لكم فيه الاحتمال، بل وظيفتكم فيه الانتقام من أعداء الله.
( فإن ذلك من عزم الأمور ) أي: من الأمور التي يعزم عليها، وينافس فيها، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم والهمم العالية كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-02-23, 01:14 AM
الحلقة (75)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(187)الى الأية(194)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

الميثاق هو العهد الثقيل المؤكد، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى على كل من أعطاه [الله] الكتب وعلمه العلم، أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمه الله، ولا يكتمهم ذلك، ويبخل عليهم به، خصوصا إذا سألوه، أو وقع ما يوجب ذلك، فإن كل من عنده علم يجب عليه في تلك الحال أن يبينه، ويوضح الحق من الباطل.
فأما الموفقون، فقاموا بهذا أتم القيام، وعلموا الناس مما علمهم الله، ابتغاء مرضاة ربهم، وشفقة على الخلق، وخوفا من إثم الكتمان.
وأما الذين أوتوا الكتاب، من اليهود والنصارى ومن شابههم، فنبذوا هذه العهود والمواثيق وراء ظهورهم، فلم يعبأوا بها، فكتموا الحق، وأظهروا الباطل، تجرؤا على محارم الله، وتهاونا بحقوق الله، وحقوق الخلق، واشتروا بذلك الكتمان ثمنا قليلا وهو ما يحصل لهم إن حصل من بعض الرياسات، والأموال الحقيرة، من سفلتهم المتبعين أهواءهم، المقدمين شهواتهم على الحق، ( فبئس ما يشترون ) لأنه أخس العوض، والذي رغبوا عنه -وهو بيان الحق، الذي فيه السعادة الأبدية، والمصالح الدينية والدنيوية- أعظم المطالب وأجلها، فلم يختاروا الدنيء الخسيس ويتركوا العالي النفيس، إلا لسوء حظهم وهوانهم، وكونهم لا يصلحون لغير ما خلقوا له.
ثم قال تعالى: ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ) أي: من القبائح والباطل القولي والفعلي.
( ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ) أي: بالخير الذي لم يفعلوه، والحق الذي لم يقولوه، فجمعوا بين فعل الشر وقوله، والفرح بذلك ومحبة أن يحمدوا على فعل الخير الذي ما فعلوه.
( فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ) أي: بمحل نجوة منه وسلامة، بل قد استحقوه، وسيصيرون إليه، ولهذا قال: ( ولهم عذاب أليم ) .
ويدخل في هذه الآية الكريمة أهل الكتاب الذين فرحوا بما عندهم من العلم، ولم ينقادوا للرسول، وزعموا أنهم هم المحقون في حالهم ومقالهم، وكذلك كل من ابتدع بدعة قولية أو فعلية، وفرح بها، ودعا إليها، وزعم < 1-161 > أنه محق وغيره مبطل، كما هو الواقع من أهل البدع.
ودلت الآية بمفهومها على أن من أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير واتباع الحق، إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة، أنه غير مذموم، بل هذا من الأمور المطلوبة، التي أخبر الله أنه يجزي بها المحسنين له الأعمال والأقوال، وأنه جازى بها خواص خلقه، وسألوها منه، كما قال إبراهيم عليه السلام: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وقال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وقد قال عباد الرحمن: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهي من نعم الباري على عبده، ومننه التي تحتاج إلى الشكر.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: هو المالك للسماوات والأرض وما فيهما، من سائر أصناف الخلق، المتصرف فيهم بكمال القدرة، وبديع الصنعة، فلا يمتنع عليه منهم أحد، ولا يعجزه أحد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى: ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) وفي ضمن ذلك حث العباد على التفكر فيها، والتبصر بآياتها، وتدبر خلقها، وأبهم قوله: ( آيات ) ولم يقل: "على المطلب الفلاني" إشارة لكثرتها وعمومها، وذلك لأن فيها من الآيات العجيبة ما يبهر الناظرين، ويقنع المتفكرين، ويجذب أفئدة الصادقين، وينبه العقول النيرة على جميع المطالب الإلهية، فأما تفصيل ما اشتملت عليه، فلا يمكن لمخلوق أن يحصره، ويحيط ببعضه، وفي الجملة فما فيها من العظمة والسعة، وانتظام السير والحركة، يدل على عظمة خالقها، وعظمة سلطانه وشمول قدرته. وما فيها من الإحكام والإتقان، وبديع الصنع، ولطائف الفعل، يدل على حكمة الله ووضعه الأشياء مواضعها، وسعة علمه. وما فيها من المنافع للخلق، يدل على سعة رحمة الله، وعموم فضله، وشمول بره، ووجوب شكره.
وكل ذلك يدل على تعلق القلب بخالقها ومبدعها، وبذل الجهد في مرضاته، وأن لا يشرك به سواه، ممن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
وخص الله بالآيات أولي الألباب، وهم أهل العقول؛ لأنهم هم المنتفعون بها، الناظرون إليها بعقولهم لا بأبصارهم.
ثم وصف أولي الألباب بأنهم ( يذكرون الله ) في جميع أحوالهم: ( قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) وهذا يشمل جميع أنواع الذكر بالقول والقلب، ويدخل في ذلك الصلاة قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنب، وأنهم ( يتفكرون في خلق السماوات والأرض ) أي: ليستدلوا بها على المقصود منها، ودل هذا على أن التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين، فإذا تفكروا بها، عرفوا أن الله لم يخلقها عبثا، فيقولون: ( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ) عن كل ما لا يليق بجلالك، بل خلقتها بالحق وللحق، مشتملة على الحق.
( فقنا عذاب النار ) بأن تعصمنا من السيئات، وتوفقنا للأعمال الصالحات، لننال بذلك النجاة من النار.
ويتضمن ذلك سؤال الجنة، لأنهم إذا وقاهم الله عذاب النار حصلت لهم الجنة، ولكن لما قام الخوف بقلوبهم، دعوا الله بأهم الأمور عندهم، ( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) أي: لحصوله على السخط من الله، ومن ملائكته، وأوليائه، ووقوع الفضيحة التي لا نجاة منها، ولا منقذ منها، ولهذا قال: ( وما للظالمين من أنصار ) ينقذونهم من عذابه، وفيه دلالة على أنهم دخلوها بظلمهم.
( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان ) وهو محمد صلى الله عليه وسلم، أي: يدعو الناس إليه، ويرغبهم فيه، في أصوله وفروعه.
( فآمنا ) أي: أجبناه مبادرة، وسارعنا إليه، وفي هذا إخبار منهم بمنة الله عليهم، وتبجح بنعمته، وتوسل إليه بذلك، أن يغفر ذنوبهم ويكفر سيئاتهم، لأن الحسنات يذهبن السيئات، والذي من عليهم بالإيمان، سيمن عليهم بالأمان التام.
( وتوفنا مع الأبرار ) يتضمن هذا الدعاء التوفيق لفعل الخير، وترك الشر، الذي به يكون العبد من الأبرار، والاستمرار عليه، والثبات إلى الممات.
ولما ذكروا توفيق الله إياهم للإيمان، وتوسلهم به إلى تمام النعمة، سألوه الثواب على ذلك، وأن ينجز لهم ما وعدهم به على ألسنة رسله من النصر، والظهور في الدنيا، ومن الفوز < 1-162 > برضوان الله وجنته في الآخرة، فإنه تعالى لا يخلف الميعاد، فأجاب الله دعاءهم، وقبل تضرعهم، فلهذا قال:

ابو وليد البحيرى
2019-02-23, 01:17 AM
الحلقة (76)
تفسير السعدى
فففسورة آل عمرانققق
من الأية(195)الى الأية(200)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّه ُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: أجاب الله دعاءهم، دعاء العبادة، ودعاء الطلب، وقال: إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى، فالجميع سيلقون ثواب أعمالهم كاملا موفرا، ( بعضكم من بعض ) أي: كلكم على حد سواء في الثواب والعقاب، ( فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا ) فجمعوا بين الإيمان والهجرة، ومفارقة المحبوبات من الأوطان والأموال، طلبا لمرضاة ربهم، وجاهدوا في سبيل الله.
( لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله ) الذي يعطي عبده الثواب الجزيل على العمل القليل.
( والله عنده حسن الثواب ) مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فمن أراد ذلك، فليطلبه من الله بطاعته والتقرب إليه، بما يقدر عليه العبد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ (198) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وهذه الآية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا، وتنعمهم فيها، وتقلبهم في البلاد بأنواع التجارات والمكاسب واللذات، وأنواع العز، والغلبة في بعض الأوقات، فإن هذا كله ( متاع قليل ) ليس له ثبوت ولا بقاء، بل يتمتعون به قليلا ويعذبون عليه طويلا هذه أعلى حالة تكون للكافر، وقد رأيت ما تؤول إليه.
وأما المتقون لربهم، المؤمنون به- فمع ما يحصل لهم من عز الدنيا ونعيمها ( لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ) .
فلو قدر أنهم في دار الدنيا، قد حصل لهم كل بؤس وشدة، وعناء ومشقة، لكان هذا بالنسبة إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، والسرور والحبور، والبهجة نزرا يسيرا، ومنحة في صورة محنة، ولهذا قال تعالى: ( وما عند الله خير للأبرار ) وهم الذين برت قلوبهم، فبرت أقوالهم وأفعالهم، فأثابهم البر الرحيم من بره أجرا عظيما، وعطاء جسيما، وفوزا دائما.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: وإن من أهل الكتاب طائفة موفقة للخير، يؤمنون بالله، ويؤمنون بما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وهذا الإيمان النافع لا كمن يؤمن ببعض الرسل والكتب، ويكفر ببعض.
ولهذا -لما كان إيمانهم عاما حقيقيا- صار نافعا، فأحدث لهم خشية الله، وخضوعهم لجلاله الموجب للانقياد لأوامره ونواهيه، والوقوف عند حدوده.
وهؤلاء أهل الكتاب والعلم على الحقيقة، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ومن تمام خشيتهم لله، أنهم ( لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا ) فلا يقدمون الدنيا على الدين كما فعل أهل الانحراف الذين يكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمنا قليلا وأما هؤلاء فعرفوا الأمر على الحقيقة، وعلموا أن من أعظم الخسران، الرضا بالدون عن الدين، والوقوف مع بعض حظوظ النفس السفلية، وترك الحق الذي هو: أكبر حظ وفوز في الدنيا والآخرة، فآثروا الحق وبينوه، ودعوا إليه، وحذروا عن الباطل، فأثابهم الله على ذلك بأن وعدهم الأجر الجزيل، والثواب الجميل، وأخبرهم بقربه، وأنه سريع الحساب، فلا يستبطؤون ما وعدهم الله، لأن ما هو آت محقق حصوله، فهو قريب.
ثم حض المؤمنين على ما يوصلهم إلى الفلاح - وهو: الفوز والسعادة والنجاح، وأن الطريق الموصل إلى ذلك لزوم الصبر، الذي هو حبس النفس على ما تكرهه، من ترك المعاصي، ومن الصبر على المصائب، وعلى الأوامر الثقيلة على النفوس، فأمرهم بالصبر على جميع ذلك.
والمصابرة أي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الملازمة والاستمرار على ذلك، على الدوام، ومقاومة الأعداء في جميع الأحوال.
والمرابطة: وهي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لزوم المحل < 1-163 > الذي يخاف من وصول العدو منه، وأن يراقبوا أعداءهم، ويمنعوهم من الوصول إلى مقاصدهم، لعلهم يفلحون: يفوزون بالمحبوب الديني والدنيوي والأخروي، وينجون من المكروه كذلك.
فعلم من هذا أنه لا سبيل إلى الفلاح بدون الصبر والمصابرة والمرابطة المذكورات، فلم يفلح من أفلح إلا بها، ولم يفت أحدا الفلاح إلا بالإخلال بها أو ببعضها.
والله الموفق ولا حول ولا قوة إلا به.
تم تفسير "سورة آل عمران" والحمد لله على نعمته، ونسأله تمام النعمة.

ابو وليد البحيرى
2019-02-23, 01:21 AM
الحلقة (77)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(1)الى الأية(6)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
افتتح تعالى هذه السورة بالأمر بتقواه، والحث على عبادته، والأمر بصلة الأرحام، والحث على ذلك.
وبيَّن السبب الداعي الموجب لكل من ذلك، وأن الموجب لتقواه لأن ( رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) ورزقكم، ورباكم بنعمه العظيمة، التي من جملتها خلقكم ( مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) ليناسبها، فيسكن إليها، وتتم بذلك النعمة، ويحصل به السرور، وكذلك من الموجب الداعي لتقواه تساؤلكم به وتعظيمكم، حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم، توسلتم لـها بالسؤال بالله. فيقول من يريد ذلك لغيره: أسألك بالله أن تفعل الأمر الفلاني؛ لعلمه بما قام في قلبه من تعظيم الله الداعي أن لا يرد من سأله بالله، فكما عظمتموه بذلك فلتعظموه بعبادته وتقواه.
وكذلك الإخبار بأنه رقيب، أي: مطلع على العباد في حال حركاتـهم وسكونـهم، وسرهم وعلنهم، وجميع أحوالهم، مراقبا لهم فيها مما يوجب مراقبته، وشدة الحياء منه، بلزوم تقواه.
وفي الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة، وأنه بثهم في أقطار الأرض، مع رجوعهم إلى أصل واحد -ليعطف بعضهم على بعض، ويرقق بعضهم على بعض. وقرن الأمر بتقواه بالأمر ببر الأرحام والنهي عن قطيعتها، ليؤكد هذا الحق، وأنه كما يلزم القيام بحق الله، كذلك يجب القيام بحقوق الخلق، خصوصا الأقربين منهم، بل القيام بحقوقهم هو من حق الله الذي أمر به.
وتأمل كيف افتتح هذه السورة بالأمر بالتقوى، وصلة الأرحام والأزواج عموما، ثم بعد ذلك فصل هذه الأمور أتم تفصيل، من أول السورة إلى آخرها. فكأنـها مبنية على هذه الأمور المذكورة، مفصلة لما أجمل منها، موضحة لما أبهم.
وفي قوله: ( وخلق مِنْهَا زَوْجَهَا ) تنبيه على مراعاة حق الأزواج والزوجات والقيام به، لكون الزوجات مخلوقات من الأزواج، فبينهم وبينهن أقرب نسب وأشد اتصال، وأقرب http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg علاقة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
وقوله تعالى: ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا ) هذا أول ما أوصى به من حقوق الخلق في هذه السورة. وهم اليتامى الذين فقدوا آباءهم الكافلين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg لهم، وهم صغار ضعاف لا يقومون بمصالحهم.
فأمر الرءوف الرحيم عباده أن يحسنوا إليهم، وأن لا يقربوا أموالهم إلا بالتي هي أحسن، وأن يؤتوهم أموالهم إذا بلغوا ورشدوا، كاملة موفرة، وأن لا ( تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ ) الذي هو أكل مال اليتيم بغير حق. ( بِالطَّيِّبِ ) وهو الحلال الذي ما فيه حرج ولا تبعة. ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ) أي: مع أموالكم، ففيه تنبيه لقبح أكل مالهم بهذه الحالة، التي قد استغنى بها الإنسان بما جعل الله له من الرزق في ماله. فمن تجرأ على هذه الحالة، فقد أتى ( حُوبًا كَبِيرًا ) أي: إثمًا عظيمًا، ووزرًا جسيمًا.
ومن استبدال الخبيث بالطيب أن يأخذ الولي من مال اليتيم النفيس، ويجعل بدله من ماله الخسيس. وفيه الولاية على اليتيم، لأن مِنْ لازم إيتاء اليتيم ماله، ثبوت ولاية المؤتي على ماله.
وفيه الأمر بإصلاح مال اليتيم، لأن تمام إيتائه ماله حفظه والقيام به بما يصلحه وينميه وعدم تعريضه للمخاوف والأخطار.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg . أي: وإن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء اللاتي تحت حجوركم وولايتكم وخفتم أن لا تقوموا بحقهن لعدم محبتكم إياهن، فاعدلوا إلى غيرهن، وانكحوا ( مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء ) أي: ما وقع عليهن اختياركم من ذوات الدين، والمال، والجمال، والحسب، والنسب، وغير ذلك من الصفات الداعية لنكاحهن، فاختاروا على نظركم، ومن أحسن ما يختار من ذلك صفة الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يمينك"
وفي هذه الآية - أنه ينبغي للإنسان أن يختار قبل النكاح، بل وقد أباح له الشارع النظر إلى مَنْ يريد تزوجها ليكون على بصيرة من أمره. ثم ذكر العدد الذي أباحه من النساء فقال: ( مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) أي: مَنْ أحب أن يأخذ اثنتين فليفعل، أو ثلاثا فليفعل، أو أربعا فليفعل، ولا يزيد عليها، لأن الآية سيقت لبيان الامتنان، فلا يجوز الزيادة على غير ما سمى الله تعالى إجماعا.
وذلك لأن الرجل قد لا تندفع شهوته بالواحدة، فأبيح له واحدة بعد واحدة، حتى يبلغ أربعا، لأن في الأربع غنية لكل أحد، إلا ما ندر، ومع هذا فإنما يباح له ذلك إذا أمن على نفسه الجور والظلم، ووثق بالقيام بحقوقهن.
فإن خاف شيئا من هذا فليقتصر على واحدة، أو على ملك يمينه. فإنه لا يجب عليه القسم في ملك اليمين ( ذَلِك ) أي: الاقتصار على واحدة أو ما ملكت اليمين ( أَدْنَى أَلا تَعُولُوا ) أي: تظلموا.
وفي هذا أن تعرض العبد للأمر الذي يخاف منه الجور والظلم، وعدم القيام بالواجب -ولو كان مباحًا- أنه لا ينبغي له أن يتعرض له، بل يلزم السعة والعافية، فإن العافية خير ما أعطي العبد.
ولما كان كثير من الناس يظلمون النساء ويهضمونـهن حقوقهن، خصوصا الصداق الذي يكون شيئا كثيرًا، ودفعة واحدة، يشق دفعه للزوجة، أمرهم وحثهم على إيتاء النساء ( صَدُقَاتِهِنَّ ) أي: مهورهن ( نِحْلَةً ) أي: عن طيب نفس، وحال طمأنينة، فلا تمطلوهن أو تبخسوا منه شيئا. وفيه: أن المهر يدفع إلى المرأة إذا كانت مكلفة، وأنـها تملكه بالعقد، لأنه أضافه إليها، والإضافة تقتضي التمليك.
( فَإِنْ طِبْنَ لَكُم عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ ) أي: من الصداق ( نَفْسًا ) بأن سمحن لكم عن رضا واختيار بإسقاط شيء منه، أو تأخيره أو المعاوضة عنه. ( فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ) أي: لا حرج عليكم في ذلك ولا تبعة.
وفيه دليل على أن للمرأة التصرف في مالها -ولو بالتبرع- إذا كانت رشيدة، فإن لم تكن كذلك فليس لعطيتها حكم، وأنه ليس لوليها من الصداق شيء، غير ما طابت به.
وفي قوله: ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء ) دليل على أن نكاح الخبيثة غير مأمور به، بل منهي عنه كالمشركة، وكالفاجرة، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg وقال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا (5) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
وقوله تعالى: ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ) السفهاء: جمع "سفيه" وهو: من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله كالمجنون والمعتوه، ونحوهما، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد. فنهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها، لأن الله جعل الأموال قياما لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها، بل يرزقهم منها ويكسوهم، ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية، وأن يقولوا لهم قولا معروفا، بأن يعدوهم -إذا طلبوها- أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم، ونحو ذلك، ويلطفوا لهم في الأقوال جبرًا لخواطرهم.
وفي إضافته تعالى الأموال إلى الأولياء، إشارة إلى أنه يجب عليهم أن يعملوا في أموال السفهاء ما يفعلونه في أموالهم، من الحفظ والتصرف وعدم التعريض للأخطار. وفي الآية دليل على أن نفقة المجنون والصغير والسفيه في مالهم، إذا كان لهم مال، لقوله: ( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) .
وفيه دليل على أن قول الولي مقبول فيما يدعيه من النفقة الممكنة والكسوة؛ لأن الله جعله مؤتمنا على مالهم فلزم قبول قول الأمين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِف ْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
الابتلاء: هو الاختبار والامتحان، وذلك بأن يدفع لليتيم المقارب للرشد، الممكن رشده، شيئا من ماله، ويتصرف فيه التصرف اللائق بحاله، فيتبين بذلك رشده من سفهه، فإن استمر غير محسن للتصرف لم يدفع إليه ماله، بل هو باق على سفهه، ولو بلغ عمرا كثيرا.
فإن تبين رشده وصلاحه في ماله وبلغ النكاح ( فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) كاملة موفرة. ( وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا ) أي: مجاوزة للحد الحلال الذي أباحه الله لكم من أموالكم، إلى الحرام الذي حرمه الله عليكم من أموالهم.
( وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ) أي: ولا تأكلوها في حال صغرهم التي لا يمكنهم فيها أخذها منكم، ولا منعكم من أكلها، تبادرون بذلك أن يكبروا، فيأخذوها منكم ويمنعوكم منها.
وهذا من الأمور الواقعة من كثير من الأولياء، الذين ليس عندهم خوف من الله، ولا رحمة ومحبة للمولى عليهم، يرون هذه الحال حال فرصة فيغتنمونها ويتعجلون ما حرم الله عليهم، فنهى الله تعالى عن هذه الحالة بخصوصها.

ابو وليد البحيرى
2019-02-25, 11:29 AM
الحلقة (78)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(7)الى الأية(11)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
كان العرب في الجاهلية - من جبروتهم وقسوتهم لا يورثون الضعفاء كالنساء والصبيان، ويجعلون الميراث للرجال الأقوياء لأنهم -بزعمهم- أهل الحرب والقتال والنهب والسلب، فأراد الرب الرحيم الحكيم أن يشرع لعباده شرعًا، يستوي فيه رجالهم ونساؤهم، وأقوياؤهم وضعفاؤهم. وقدم بين يدي ذلك أمرا مجملا لتتوطَّن على ذلك النفوس.
فيأتي التفصيل بعد الإجمال، قد تشوفت له النفوس، وزالت الوحشة التي منشؤها العادات القبيحة، فقال: ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ ) : أي: قسط وحصة ( مِمَّا تَرَكَ ) أي: خلف ( الْوَالِدَان ) أي: الأب والأم ( وَالأقْرَبُونَ ) عموم بعد خصوص ( وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ )
فكأنه قيل: هل ذلك النصيب راجع إلى العرف والعادة، وأن يرضخوا لهم ما يشاءون؟ أو شيئا مقدرا؟ فقال تعالى: ( نَصِيبًا مَفْرُوضًا ) : أي: قد قدره العليم الحكيم. وسيأتي -إن شاء الله- تقدير ذلك.
وأيضا فهاهنا توهم آخر، لعل أحدا يتوهم أن النساء والولدان ليس لهم نصيب إلا من المال الكثير، فأزال ذلك بقوله: ( مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ) فتبارك الله أحسن الحاكمين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا (8) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
وهذا من أحكام الله الحسنة الجليلة الجابرة للقلوب فقال: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ) أي: قسمة المواريث ( أُولُو الْقُرْبَى ) أي: الأقارب غير الوارثين بقرينة قوله: ( الْقِسْمَةَ ) لأن الوارثين من المقسوم عليهم. ( وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين ) أي: المستحقون من الفقراء. ( فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ ) أي: أعطوهم ما تيسر من هذا المال الذي جاءكم بغير كد ولا تعب، ولا عناء ولا نَصَب، فإن نفوسهم متشوفة إليه، وقلوبهم متطلعة، فاجبروا خواطرهم بما لا يضركم وهو نافعهم.
ويؤخذ من المعنى أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان، ينبغي له أن يعطيه منه ما تيسر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جاء أحدَكم خادمُه بطعامه فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين" أو كما قال.
وكان الصحابة رضي الله عنهم -إذا بدأت باكورة أشجارهم- أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرَّك عليها، ونظر إلى أصغر وليد عنده فأعطاه ذلك، علما منه بشدة تشوفه لذلك، وهذا كله مع إمكان الإعطاء، فإن لم يمكن ذلك -لكونه حق سفهاء، أو ثَم أهم من ذلك- فليقولوا لهم ( قَولا مَعْرُوفًا ) يردوهم ردًّا جميلا بقول حسن غير فاحش ولا قبيح.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
قيل: إن هذا خطاب لمن يحضر مَنْ حضره الموت وأجنف في وصيته، أن يأمره بالعدل في وصيته والمساواة فيها، بدليل قوله: ( وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ) أي: سدادا، موافقا للقسط والمعروف. وأنهم يأمرون من يريد الوصية على أولاده بما يحبون معاملة أولادهم بعدهم.
وقيل: إن المراد بذلك أولياء السفهاء من المجانين والصغار والضعاف أن يعاملوهم في مصالحهم الدينية والدنيوية بما يحبون أن يعامل به مَنْ بعدهم من ذريتهم الضعاف ( فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ) في ولايتهم لغيرهم، أي: يعاملونهم بما فيه تقوى الله، من عدم إهانتهم والقيام عليهم، وإلزامهم لتقوى الله.
ولما أمرهم بذلك، زجرهم عن أكل أموال اليتامى، وتوعد على ذلك أشد العذاب فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ) أي: بغير حق. وهذا القيد يخرج به ما تقدم، من جواز الأكل للفقير بالمعروف، ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى.
فمَنْ أكلها ظلمًا فـ ( إنما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) أي: فإن الذي أكلوه نار تتأجج في أجوافهم وهم الذين أدخلوها في بطونهم. ( وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) أي: نارًا محرقة متوقدة. وهذا أعظم وعيد ورد في الذنوب، يدل على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها، وأنها موجبة لدخول النار، فدل ذلك أنها من أكبر الكبائر. نسأل الله العافية.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
هذه الآيات والآية التي هي آخر السورة هن آيات المواريث المتضمنة لها. فإنها مع حديث عبد الله بن عباس الثابت في صحيح البخاري "ألْحِقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" - مشتملات على جل أحكام الفرائض، بل على جميعها كما سترى ذلك، إلا ميراث الجدات فإنه غير مذكور في ذلك. لكنه قد ثبت في السنن عن المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس، مع إجماع العلماء على ذلك.
فقوله تعالى: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) أي: أولادكم -يا معشر الوالِدِين- عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم، لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية، فتعلمونهم وتؤدبونهم وتكفونهم عن المفاسد، وتأمرونهم بطاعة الله وملازمة التقوى على الدوام كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg فالأولاد عند والديهم موصى بهم، فإما أن يقوموا بتلك الوصية، وإما أن يضيعوها فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب.
وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين، حيث أوصى الوالدين مع كمال شفقتهم، عليهم.
ثم ذكر كيفية إرثهم فقال: ( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) أي: الأولاد للصلب، والأولاد للابن، للذكر مثل حظ الأنثيين، إن لم يكن معهم صاحب فرض، أو ما أبقت الفروض يقتسمونه كذلك، وقد أجمع العلماء على ذلك، وأنه -مع وجود أولاد الصلب- فالميراث لهم. وليس لأولاد الابن شيء، حيث كان أولاد الصلب ذكورًا وإناثا، هذا مع اجتماع الذكور والإناث. وهنا حالتان: انفراد الذكور، وسيأتي حكمها. وانفراد الإناث، وقد ذكره بقوله: ( فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ) أي: بنات صلب أو بنات ابن، ثلاثا فأكثر ( فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَة ) أي: بنتا أو بنت ابن ( فَلَهَا النِّصْفُ ) وهذا إجماع.
بقي أن يقال: من أين يستفاد أن للابنتين الثنتين الثلثين بعد الإجماع على ذلك؟
فالجواب أنه يستفاد من قوله: ( وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) فمفهوم ذلك أنه إن زادت على الواحدة، انتقل الفرض عن النصف، ولا ثَمَّ بعده إلا الثلثان. وأيضا فقوله: ( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) إذا خلَّف ابنًا وبنتًا، فإن الابن له الثلثان، وقد أخبر الله أنه مثل حظ الأنثيين، فدل ذلك على أن للبنتين الثلثين.
وأيضًا فإن البنت إذا أخذت الثلث مع أخيها - وهو أزيد ضررًا عليها من أختها، فأخذها له مع أختها من باب أولى وأحرى.
وأيضا فإن قوله تعالى في الأختين: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg نص في الأختين الثنتين.
فإذا كان الأختان الثنتان -مع بُعدهما- يأخذان الثلثين فالابنتان -مع قربهما- من باب أولى وأحرى. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنتي سعد الثلثين كما في الصحيح.
بقي أن يقال: فما الفائدة في قوله: ( فَوْقَ اثْنَتَيْن ) ؟. قيل: الفائدة في ذلك -والله أعلم- أنه ليعلم أن الفرض الذي هو الثلثان لا يزيد بزيادتهن على الثنتين بل من الثنتين فصاعدًا. ودلت الآية الكريمة أنه إذا وجد بنت صلب واحدة، وبنت ابن أو بنات ابن، فإن لبنت الصلب النصف، ويبقى من الثلثين اللذين فرضهما الله للبنات أو بنات الابن السدس، فيعطى بنت الابن، أو بنات الابن، ولهذا يسمى هذا السدس تكملة الثلثين.
ومثل ذلك بنت الابن، مع بنات الابن اللاتي أنزل منها.
وتدل الآية أنه متى استغرق البنات أو بنات الابن الثلثين، أنه يسقط مَنْ دونهن مِنْ بنات الابن لأن الله لم يفرض لهن إلا الثلثين، وقد تم. فلو لم يسقطن لزم من ذلك أن يفرض لهن أزيَد من الثلثين، وهو خلاف النص.
وكل هذه الأحكام مجمع عليها بين العلماء ولله الحمد.
ودل قوله: ( مِمَّا تَرَكَ ) أن الوارثين يرثون كل ما خلف الميت من عقار وأثاث وذهب وفضة وغير ذلك، حتى الدية التي لم تجب إلا بعد موته، وحتى الديون التي في الذمم .
ثم ذكر ميراث الأبوين فقال: ( وَلأبَوَيْهِ ) أي: أبوه وأمه ( لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ) أي: ولد صلب أو ولد ابن ذكرًا كان أو أنثى، واحدًا أو متعددًا.
فأما الأم فلا تزيد على السدس مع أحد من الأولاد.
وأما الأب فمع الذكور منهم، لا يستحق أزيد من السدس، فإن كان الولد أنثى أو إناثا ولم يبق بعد الفرض شيء -كأبوين وابنتين- لم يبق له تعصيب. وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء أخذ الأب السدس فرضًا، والباقي تعصيبًا، لأننا ألحقنا الفروض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر، وهو أولى من الأخ والعم وغيرهما.
( فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ ) أي: والباقي للأب لأنه أضاف المال إلى الأب والأم إضافة واحدة، ثم قدر نصيب الأم، فدل ذلك على أن الباقي للأب.
وعلم من ذلك أن الأب مع عدم الأولاد لا فرض له، بل يرث تعصيبا المال كله، أو ما أبقت الفروض، لكن لو وجد مع الأبوين أحد الزوجين -ويعبر عنهما بالعمريتين- فإن الزوج أو الزوجة يأخذ فرضه، ثم تأخذ الأم ثلث الباقي والأب الباقي.
وقد دل على ذلك قوله: ( وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ ) أي: ثلث ما ورثه الأبوان. وهو في هاتين الصورتين إما سدس في زوج وأم وأب، وإما ربع في زوجة وأم وأب. فلم تدل الآية على إرث الأم ثلثَ المال كاملا مع عدم الأولاد حتى يقال: إن هاتين الصورتين قد استثنيتا من هذا.
ويوضح ذلك أن الذي يأخذه الزوج أو الزوجة بمنزلة ما يأخذه الغرماء، فيكون من رأس المال، والباقي بين الأبوين.
ولأنا لو أعطينا الأم ثلث المال، لزم زيادتها على الأب في مسألة الزوج، أو أخذ الأب في مسألة الزوجة زيادة عنها نصفَ السدس، وهذا لا نظير له، فإن المعهود مساواتها للأب، أو أخذه ضعفَ ما تأخذه الأم.
( فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ ) أشقاء، أو لأب، أو لأم، ذكورًا كانوا أو إناثًا، وارثين أو محجوبين بالأب أو الجد [لكن قد يقال: ليس ظاهرُ قوله: ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) شاملا لغير الوارثين بدليل عدم تناولها للمحجوب بالنصف، فعلى هذا لا يحجبها عن الثلث من الإخوة إلا الإخوة الوارثون. ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث لأجل أن يتوفر لهم شيء من المال، وهو معدوم، والله أعلم] http://majles.alukah.net/imgcache/2019/02/46.jpg ولكن بشرط كونهم اثنين فأكثر، ويشكل على ذلك إتيان لفظ "الإخوة" بلفظ الجمع. وأجيب عن ذلك بأن المقصود مجرد التعدد، لا الجمع، ويصدق ذلك باثنين.
وقد يطلق الجمع ويراد به الاثنان، كما في قوله تعالى عن داود وسليمان http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg وقال في الإخوة للأم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
فأطلق لفظ الجمع والمراد به اثنان فأكثر بالإجماع. فعلى هذا لو خلف أمًّا وأبًا وإخوة، كان للأم السدس، والباقي للأب فحجبوها عن الثلث، مع حجب الأب إياهم [إلا على الاحتمال الآخر فإن للأم الثلث والباقي للأب] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg.
ثم قال تعالى: ( مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) أي: هذه الفروض والأنصباء والمواريث إنما ترد وتستحق بعد نزع الديون التي على الميت لله أو للآدميين، وبعد الوصايا التي قد أوصى الميت بها بعد موته، فالباقي عن ذلك هو التركة الذي يستحقه الورثة.
وقدم الوصية مع أنها مؤخرة عن الدين للاهتمام بشأنها، لكون إخراجها شاقًّا على الورثة، وإلا فالديون مقدمة عليها، وتكون من رأس المال.
وأما الوصية فإنها تصح من الثلث فأقل للأجنبي الذي هو غير وارث. وأما غير ذلك فلا ينفذ إلا بإجازة الورثة، قال تعالى: ( آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ) .
فلو ردَّ تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم لحصل من الضرر ما الله به عليم، لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن، في كل زمان ومكان. فلا يدرون أَيُّ الأولادِ أو الوالِدين أنفع لهم، وأقرب لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية.
( فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ) أي: فرضها الله الذي قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحكم ما شرعه وقدَّر ما قدَّره على أحسن تقدير لا تستطيع العقول أن تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة لكل زمان ومكان وحال.

ابو وليد البحيرى
2019-02-25, 11:38 AM
الحلقة (79)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(12)الى الأية(14)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ثم قال تعالى: ( وَلَكُمْ ) أيها الأزواج ( نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) .
ويدخل في مسمى الولد المشروط وجوده أو عدمه، ولد الصلب أو ولد الابن الذكر والأنثى، الواحد والمتعدد، الذي من الزوج أو من غيره، ويخرج عنه ولد البنات إجماعًا.
ثم قال تعالى: ( وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ ) أي: من أم، كما هي في بعض القراءات. وأجمع العلماء على أن المراد بالإخوة هنا الإخوة للأم، فإذا كان يورث كلالة أي: ليس للميت والد ولا ولد أي: لا أب ولا جد ولا ابن ولا ابن ابن ولا بنت ولا بنت ابن وإن نزلوا. وهذه هي الكلالة كما فسرها بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد حصل على ذلك الاتفاق ولله الحمد.
( فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ) أي: من الأخ والأخت ( السُّدُسُ ) ، ( فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ) أي: من واحد ( فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ) أي: لا يزيدون على الثلث ولو زادوا عن اثنين. ودل قوله: ( فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ) أن ذَكَرهم وأنثاهم سواء، لأن لفظ "التشريك" يقتضي التسوية.
ودل لفظ ( الْكَلالَةِ ) على أن الفروع وإن نزلوا، والأصولَ الذكور وإن علوا، يُسقطون أولاد الأم، لأن الله لم يورثهم إلا في الكلالة، فلو لم يكن يورث كلالة، لم يرثوا منه شيئًا اتفاقًا.
ودل قوله: ( فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ) أن الإخوة الأشقاء يَسقُطون في المسألة المسماة بالحمارية. وهى: زوج، وأم، وإخوة لأم، وإخوة أشقاء. للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخوة للأم الثلث، ويسقط الأشقاء، لأن الله أضاف الثلث للإخوة من الأم، فلو شاركهم الأشقاء لكان جمعا لما فرَّق الله حكمه. وأيضا فإن الإخوة للأم أصحاب فروض، والأشقاء عصبات. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: - "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" - وأهل الفروض هم الذين قدَّر الله أنصباءهم، ففي هذه المسألة لا يبقى بعدهم شيء، فيَسْقُط الأشقاء، وهذا هو الصواب في ذلك.
وأما ميراث الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب، فمذكور في قوله: ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) الآية.
فالأخت الواحدة شقيقة أو لأب لها النصف، والثنتان لهما الثلثان، والشقيقة الواحدة مع الأخت للأب أو الأخوات تأخذ النصف، والباقي من الثلثين للأخت أو الأخوات لأب وهو السدس تكملة الثلثين. وإذ استغرقت الشقيقات الثلثين سقط الأخوات للأب كما تقدم في البنات وبنات الابن. وإن كان الإخوة رجالا ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين.
فإن قيل: فهل يستفاد حكم ميراث القاتل، والرقيق، والمخالف في الدين، والمبعض، والخنثى، والجد مع الإخوة لغير أم، والعول، والرد، وذوي الأرحام، وبقية العصبة، والأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن من القرآن أم لا؟
قيل: نعم، فيه تنبيهات وإشارات دقيقة يعسر فهمها على غير المتأمل تدل على جميع المذكورات. فأما (القاتل والمخالف في الدين) فيعرف أنهما غير وارثين من بيان الحكمة الإلهية في توزيع المال على الورثة بحسب قربهم ونفعهم الديني والدنيوي.
وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة بقوله: ( لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ) وقد عُلم أن القاتل قد سعى لمورثه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg بأعظم الضرر، فلا ينتهض ما فيه من موجب الإرث أن يقاوم ضرر القتل الذي هو ضد النفع الذي < 1-169 > رتب عليه الإرث. فعُلم من ذلك أن القتل أكبر مانع يمنع الميراث، ويقطع الرحم الذي قال الله فيه: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg مع أنه قد استقرت القاعدة الشرعية أن "من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه"
وبهذا ونحوه يعرف أن المخالف لدين الموروث لا إرث له، وذلك أنه قد تعارض الموجب الذي هو اتصال النسب الموجب للإرث، والمانعُ الذي هو المخالفة في الدين الموجبة للمباينة من كل وجه، فقوي المانع ومنع موجب الإرث الذي هو النسب، فلم يعمل الموجب لقيام المانع. يوضح ذلك أن الله تعالى قد جعل حقوق المسلمين أولى من حقوق الأقارب الكفار الدنيوية، فإذا مات المسلم انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به. فيكون قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إذا اتفقت أديانهم، وأما مع تباينهم فالأخوة الدينية مقدمة على الأخوة النسبية المجردة.
قال ابن القيم في "جلاء الأفهام": وتأمل هذا المعنى في آية المواريث، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة دون المرأة، كما في قوله تعالى: ( وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ ) إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب، والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب، فلا يقع بينهما التوارث. وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg [انتهى].
وأما ( الرقيق ) فإنه لا يرث ولا يورث، أما كونه لا يورث فواضح، لأنه ليس له مال يورث عنه، بل كل ما معه فهو لسيده. وأما كونه لا يرث فلأنه لا يملك، فإنه لو ملك لكان لسيده، وهو أجنبي من الميت فيكون مثل قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ( وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ ) ( فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ) ونحوها لمن يتأتى منه التملك، وأما الرقيق فلا يتأتى منه ذلك، فعلم أنه لا ميراث له. وأما مَنْ بعضه حر وبعضه رقيق فإنه تتبعض أحكامه. فما فيه من الحرية يستحق بها ما رتبه الله في المواريث، لكون ما فيه من الحرية قابلا للتملك، وما فيه من الرق فليس بقابل لذلك، فإذا يكون المبعض، يرث ويورث، ويحجب بقدر ما فيه من الحرية. وإذا كان العبد يكون محمودا مذموما، مثابا ومعاقبا، بقدر ما فيه من موجبات ذلك، فهذا كذلك. وأما ( الخنثى ) فلا يخلو إما أن يكون واضحا ذكوريته أو أنوثيته، أو مشكلا. فإن كان واضحا فالأمر فيه واضح.
إن كان ذكرا فله حكم الذكور، ويشمله النص الوارد فيهم.
وإن كان أنثى فله حكم الإناث، ويشملها النص الوارد فيهن.
وإن كان مشكلا فإن كان الذكر والأنثى لا يختلف إرثهما -كالإخوة للأم- فالأمر فيه واضح، وإن كان يختلف إرثه بتقدير ذكوريته وبتقدير أنوثيته، ولم يبق لنا طريق إلى العلم بذلك، لم نعطه أكثر التقديرين، لاحتمال ظلم من معه من الورثة، ولم نعطه الأقل، لاحتمال ظلمنا له. فوجب التوسط بين الأمرين، وسلوكُ أعدل الطريقين، قال تعالى: ( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) وليس لنا طريق إلى العدل في مثل هذا أكثر من هذا الطريق المذكور. و ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) .
وأما ( ميراث الجد ) مع الإخوة الأشقاء أو لأب، وهل يرثون معه أم لا؟ فقد دل كتاب الله على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأن الجد يحجب الإخوة أشقاء أو لأب أو لأم، كما يحجبهم الأب.
وبيان ذلك: أن الجد أب في غير موضع من القرآن كقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآية. وقال يوسف عليه السلام: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
فسمى الله الجد وجد الأب أبا، فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الأب، يرث ما يرثه الأب، ويحجب من يحجبه.
وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أن الجد حكمه حكم الأب عند عدمه في ميراثه مع الأولاد وغيرهم من بني الإخوة والأعمام وبنيهم، وسائر أحكام المواريث، فينبغي أيضا أن يكون حكمُه حكمَه في حجب الإخوة لغير أم.
وإذا كان ابن الابن بمنزلة ابن الصلب فلم لا يكون الجد بمنزلة الأب؟ وإذا كان جد الأب مع ابن الأخ قد اتفق العلماء على أنه يحجبه. فلم لا يحجب جد الميت أخاه؟ فليس مع مَنْ يورِّث الإخوةَ مع الجد، نص ولا إشارة ولا تنبيه ولا قياس صحيح.
وأما مسائل (العول) فإنه يستفاد حكمها من القرآن، وذلك أن الله تعالى قد فرض وقدر لأهل المواريث أنصباء، < 1-170 > وهم بين حالتين:
إما أن يحجب بعضهم بعضًا أو لا. فإن حجب بعضهم بعضا، فالمحجوب ساقط لا يزاحِم ولا يستحق شيئا، وإن لم يحجب بعضهم بعضا فلا يخلو، إما أن لا تستغرق الفروض التركة، أو تستغرقها من غير زيادة ولا نقص، أو تزيد الفروض على التركة، ففي الحالتين الأوليين كل يأخذ فرضه كاملا. وفي الحالة الأخيرة وهي ما إذا زادت الفروض على التركة فلا يخلو من حالين:
إما أن ننقص بعضَ الورثة عن فرضه الذي فرضه الله له، ونكمل للباقين منهم فروضهم، وهذا ترجيح بغير مرجح، وليس نقصان أحدهم بأولى من الآخر، فتعينت الحال الثانية، وهي: أننا نعطي كل واحد منهم نصيبه بقدر الإمكان، ونحاصص بينهم كديون الغرماء الزائدة على مال الغريم، ولا طريق موصل إلى ذلك إلا بالعول، فعلم من هذا أن العول في الفرائض قد بينه الله في كتابه.
وبعكس هذه الطريقة بعينها يعلم ( الرد ) فإن أهل الفروض إذا لم تستغرق فروضُهم التركةَ وبقي شيء ليس له مستحق من عاصب قريب ولا بعيد، فإن رده على أحدهم ترجيح بغير مرجح، وإعطاؤه غيرَهم ممن ليس بقريب للميت جنف وميل، ومعارضة لقوله: ( وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) فتعين أن يُرَدَّ على أهل الفروض بقدر فروضهم.
ولما كان الزوجان ليسا من القرابة، لم يستحقا زيادة على فرضهم المقدر [هذا عند من لا يورِّث الزوجين بالرد، وهم جمهور القائلين بالرد، فعلى هذا تكون علة الرد كونه صاحب فرض قريبا، وعلى القول الآخر، أن الزوجين كغيرهما من ذوي الفروض يُرَدُّ عليهما؛ فكما ينقصان بالعول فإنهما يزادان بالرد كغيرهما، فالعلة على هذا كونه وارثا صاحب فرض، فهذا هو الظاهر من دلالة الكتاب والسنة، والقياس الصحيح، والله أعلم]
وبهذا يعلم أيضا ( ميراث ذوي الأرحام ) فإن الميت إذا لم يخلف صاحب فرض ولا عاصبا، وبقي الأمر دائرا بين كون ماله يكون لبيت المال لمنافع الأجانب، وبين كون ماله يرجع إلى أقاربه المدلين بالورثة المجمع عليهم، ويدل على ذلك قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فصرفه لغيرهم ترك لمن هو أولى من غيره، فتعين توريث ذوي الأرحام.
وإذا تعين توريثهم، فقد علم أنه ليس لهم نصيب مقدر بأعيانهم في كتاب الله. وأن بينهم وبين الميت وسائط، صاروا بسببها من الأقارب. فينزلون منزلة من أدلوا به من تلك الوسائط. والله أعلم.
وأما ( ميراث بقية العصبة ) كالبنوة والأخوة وبنيهم، والأعمام وبنيهم إلخ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي رجل ذكر" وقال تعالى: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ ) فإذا ألحقنا الفروض بأهلها ولم يبق شيء، لم يستحق العاصب شيئًا، وإن بقي شيء أخذه أولي العصبة، وبحسب جهاتهم ودرجاتهم.
فإن جهات العصوبة خمس: البنوة، ثم الأبوة، ثم الأخوة وبنوهم، ثم العمومة وبنوهم، ثم الولاء، فيقدم منهم الأقرب جهة. فإن كانوا في جهة واحدة فالأقرب منزلة، فإن كانوا في منزلة واحدة فالأقوى، وهو الشقيق، فإن تساووا من كل وجه اشتركوا. والله أعلم.
وأما كون الأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن عصبات، يأخذن ما فضل عن فروضهن، فلأنه ليس في القرآن ما يدل على أن الأخوات يسقطن بالبنات.
فإذا كان الأمر كذلك، وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن، فإنه يعطى للأخوات ولا يعدل عنهن إلى عصبة أبعد منهن، كابن الأخ والعم، ومن هو أبعد منهم. والله أعلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث حدود الله التي يجب الوقوف معها وعدم مجاوزتها، ولا القصور عنها، وفي ذلك دليل على أن الوصية للوارث منسوخة بتقديره تعالى أنصباء الوارثين.
ثم قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فالوصية للوارث بزيادة < 1-171 > على حقه يدخل في هذا التعدي، مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" ثم ذكر طاعة الله ورسوله ومعصيتهما عموما ليدخل في العموم لزوم حدوده في الفرائض أو ترك ذلك فقال: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) بامتثال أمرهما الذي أعظمه طاعتهما في التوحيد، ثم الأوامر على اختلاف درجاتها واجتناب نهيهما الذي أعظمُه الشرك بالله، ثم المعاصي على اختلاف طبقاتها ( يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ) فمن أدى الأوامر واجتنب النواهي فلا بد له من دخول الجنة والنجاة من النار. ( وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) الذي حصل به النجاة من سخطه وعذابه، والفوز بثوابه ورضوانه بالنعيم المقيم الذي لا يصفه الواصفون.
( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) ويدخل في اسم المعصية الكفر فما دونه من المعاصي، فلا يكون فيها شبهة للخوارج القائلين بكفر أهل المعاصي فإن الله تعالى رتب دخول الجنة على طاعته وطاعة رسوله. ورتب دخول النار على معصيته ومعصية رسوله، فمن أطاعه طاعة تامة دخل الجنة بلا عذاب.
ومن عصى الله ورسوله معصية تامة يدخل فيها الشرك فما دونه، دخل النار وخلد فيها، ومن اجتمع فيه معصية وطاعة، كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية. وقد دلت النصوص المتواترة على أن الموحدين الذين معهم طاعة التوحيد، غير مخلدين في النار، فما معهم من التوحيد مانع لهم من الخلود فيها.

ابو وليد البحيرى
2019-02-25, 11:42 AM
الحلقة (80)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(15)الى الأية(19)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنّ َ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: النساء ( اللاتي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ ) أي: الزنا، ووصفها بالفاحشة لشناعتها وقبحها.
( فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ) أي: من رجالكم المؤمنين العدول. ( فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنّ َ فِي الْبُيُوتِ ) أي: احبسوهن عن الخروج الموجب للريبة. وأيضا فإن الحبس من جملة العقوبات ( حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ ) أي: هذا منتهى الحبس. ( أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا ) أي: طريقا غير الحبس في البيوت، وهذه الآية ليست منسوخة، وإنما هي مغياة إلى ذلك الوقت، فكان الأمر في أول الإسلام كذلك حتى جعل الله لهن سبيلا وهو رجم المحصن وجلد غير المحصن.
( و ) كذلك ( الَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا ) أي: الفاحشة ( مِنْكُمْ ) من الرجال والنساء ( فَآذُوهُمَا ) بالقول والتوبيخ والتعيير والضرب الرادع عن هذه الفاحشة، فعلى هذا يكون الرجال إذا فعلوا الفاحشة يؤذون، والنساء يحبسن ويؤذين.
فالحبس غايته إلى الموت، والأذية نهايتها إلى التوبة والإصلاح، ولهذا قال: ( فَإِنْ تَابَا ) أي: رجعا عن الذنب الذي فعلاه وندما عليه، وعزما على أن لا يعودا ( وَأَصْلَحَا ) العمل الدال على صدق التوبة ( فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ) أي: عن أذاهما ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) أي: كثير التوبة على المذنبين الخطائين، عظيم الرحمة والإحسان، الذي -من إحسانه- وفقهم للتوبة وقبلها منهم، وسامحهم عن ما صدر منهم.
ويؤخذ من هاتين الآيتين أن بينة الزنا، لا بد أن تكون أربعة رجال مؤمنين، ومن باب أولى وأحرى اشتراط عدالتهم؛ لأن الله تعالى شدد في أمر هذه الفاحشة، سترًا لعباده، حتى إنه لا يقبل فيها النساء منفردات، ولا مع الرجال، ولا ما دون أربعة.
ولا بد من التصريح بالشهادة، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، وتومئ إليه هذه الآية لما قال: ( فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ) لم يكتف بذلك حتى قال: ( فَإِنْ شَهِدُوا ) أي: لا بد من شهادة صريحة عن أمر يشاهد عيانًا، من غير تعريض ولا كناية.
ويؤخذ منهما أن الأذية بالقول والفعل والحبس، قد شرعه الله تعزيرًا لجنس المعصية الذي يحصل به الزجر.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
توبة الله على عباده نوعان: توفيق منه للتوبة، وقبول لها بعد وجودها من العبد، فأخبر هنا -أن التوبة المستحقة على الله حق أحقه على نفسه، كرما منه وجودا، لمن عمل السوء أي: المعاصي ( بِجَهَالَةٍ ) أي: جهالة منه بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه، وجهل منه بنظر الله ومراقبته له، وجهل منه بما تئول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه، فكل عاص لله، فهو جاهل بهذا الاعتبار وإن كان عالما بالتحريم. بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقبا عليها ( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) يحتمل أن يكون المعنى: ثم < 1-172 > يتوبون قبل معاينة الموت، فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب قطعا. وأما بعد حضور الموت فلا يُقبل من العاصين توبة ولا من الكفار رجوع، كما قال تعالى عن فرعون: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآية. وقال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وقال هنا:
( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ) أي: المعاصي فيما دون الكفر. ( حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار. ويحتمل http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg أن يكون معنى قوله: ( مِنْ قَرِيبٍ ) أي: قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة، فيكون المعنى: أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب وأناب إلى الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه، بخلاف من استمر على ذنوبه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفاتٍ راسخةً فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة.
والغالب أنه لا يوفق للتوبة ولا ييسر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم تام http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ويقين وتهاون http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg بنظر الله إليه، فإنه سد http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg على نفسه باب الرحمة.
نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg تامة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg [التي] يمحو بها ما سلف من سيئاته وما تقدم من جناياته، ولكن الرحمة والتوفيق للأول أقرب، ولهذا ختم الآية الأولى بقوله: ( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) .
فمِن علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها فيجازي كلا منهما بحسب ما يستحق بحكمته، ومن حكمته أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته توفيقَه للتوبة، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله عدمَ توفيقه. والله أعلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
كانوا في الجاهلية إذا مات أحدهم عن زوجته، رأى قريبُه كأخيه وابن عمه ونحوهما أنه أحق بزوجته من كل أحد، وحماها عن غيره، أحبت أو كرهت.
فإن أحبها تزوجها على صداق يحبه دونها، وإن لم يرضها عضلها فلا يزوجها إلا من يختاره هو، وربما امتنع من تزويجها حتى تبذل له شيئًا من ميراث قريبه أو من صداقها، وكان الرجل أيضا يعضل زوجته التي [يكون] يكرهها ليذهب ببعض ما آتاها، فنهى الله المؤمنين عن جميع هذه الأحوال إلا حالتين: إذا رضيت واختارت نكاح قريب زوجها الأول، كما هو مفهوم قوله: ( كَرْهًا ) وإذا أتين بفاحشة مبينة كالزنا والكلام الفاحش وأذيتها لزوجها فإنه في هذه الحال يجوز له أن يعضلها، عقوبة لها على فعلها لتفتدي منه إذا كان عضلا بالعدل.
ثم قال: ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) وهذا يشمل المعاشرة القولية والفعلية، فعلى الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف، من الصحبة الجميلة، وكف الأذى وبذل الإحسان، وحسن المعاملة، ويدخل في ذلك النفقة والكسوة ونحوهما، فيجب على الزوج لزوجته المعروف من مثله لمثلها في ذلك الزمان والمكان، وهذا يتفاوت بتفاوت الأحوال.
( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) أي: ينبغي لكم -أيها الأزواج- أن تمسكوا زوجاتكم مع الكراهة لهن، فإن في ذلك خيرًا كثيرًا. من ذلك امتثال أمر الله، وقبولُ وصيته التي فيها سعادة الدنيا والآخرة.
ومنها أن إجباره نفسَه -مع عدم محبته لها- فيه مجاهدة النفس، والتخلق بالأخلاق الجميلة. وربما أن الكراهة تزول وتخلفها المحبة، كما هو الواقع في ذلك. وربما رزق منها ولدا صالحا نفع والديه في الدنيا والآخرة. وهذا كله مع الإمكان في الإمساك وعدم المحذور.

فإن كان لا بد من الفراق، وليس للإمساك محل، فليس الإمساك بلازم.

ابو وليد البحيرى
2019-02-25, 11:46 AM
الحلقة (81)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(20)الى الأية(23)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
< 1-173 > بل متى ( أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ ) أي: تطليقَ زوجة وتزوجَ أخرى. أي: فلا جناح عليكم في ذلك ولا حرج. ولكن إذا ( آتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ ) أي: المفارقة أو التي تزوجها ( قِنْطَارًا ) أي: مالا كثيرا. ( فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ) بل وفروه لهن ولا تمطلوا بهن.
وفي هذه الآية دلالة على عدم تحريم كثرة المهر، مع أن الأفضل واللائق الاقتداءُ بالنبي صلى الله عليه وسلم في تخفيف المهر. ووجه الدلالة أن الله أخبر عن أمر يقع منهم، ولم ينكره عليهم، فدل على عدم تحريمه [لكن قد ينهي عن كثرة الصداق إذا تضمن مفسدة دينية وعدم مصلحة تقاوم] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
ثم قال: ( أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) فإن هذا لا يحل ولو تحيلتم عليه بأنواع الحيل، فإن إثمه واضح.
وقد بين تعالى حكمة ذلك بقوله: ( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) وبيان ذلك: أن الزوجة قبل عقد النكاح محرمة على الزوج ولم ترض بحلها له إلا بذلك المهر الذي يدفعه لها، فإذا دخل بها وأفضى إليها وباشرها المباشرة التي كانت حراما قبل ذلك، والتي لم ترض ببذلها إلا بذلك العوض، فإنه قد استوفى المعوض فثبت عليه العوض.
فكيف يستوفي المعوض ثم بعد ذلك يرجع على العوض؟ هذا من أعظم الظلم والجور، وكذلك أخذ الله على الأزواج ميثاقا غليظا بالعقد، والقيام بحقوقها. ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا (22) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: لا تتزوجوا من النساء ما تزوجهن آباؤكم أي: الأب وإن علا. ( إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ) أي: أمرا قبيحا يفحش ويعظم قبحه ( وَمَقْتًا ) من الله لكم ومن الخلق بل يمقت بسبب ذلك الابن أباه والأب ابنه، مع الأمر ببره.
( وَسَاءَ سَبِيلا ) أي: بئس الطريق طريقا لمن سلكه لأن هذا من عوائد الجاهلية، التي جاء الإسلام بالتنزه عنها والبراءة منها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُم ُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذه الآيات الكريمات مشتملات على المحرمات بالنسب، والمحرمات بالرضاع، والمحرمات بالصهر، والمحرمات بالجمع، وعلى المحللات من النساء. فأما المحرمات في النسب فهن السبع اللاتي ذكرهن الله.
الأم يدخل فيها كل من لها عليك ولادة، وإن بعدت، ويدخل في البنت كل من لك عليها ولادة، والأخوات الشقيقات، أو لأب أو لأم. والعمة: كل أخت لأبيك أو لجدك وإن علا.
والخالة: كل أخت لأمك، أو جدتك وإن علت وارثة أم لا. وبنات الأخ وبنات الأخت أي: وإن نزلت.
فهؤلاء هن المحرمات من النسب بإجماع العلماء كما هو نص الآية الكريمة وما عداهن فيدخل في قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وذلك كبنت العمة والعم وبنت الخال والخالة.
وأما المحرمات بالرضاع فقد ذكر الله منهن الأم والأخت. وفي ذلك تحريم الأم مع أن اللبن ليس لها، إنما هو لصاحب اللبن، دل بتنبيهه على أن صاحب اللبن يكون أبا للمرتضع فإذا ثبتت الأبوة والأمومة ثبت ما هو فرع عنهما كإخوتهما وأصولهم وفروعهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" فينتشر التحريم من جهة المرضعة ومن له اللبن كما ينتشر في الأقارب، وفي الطفل المرتضع إلى ذريته فقط. لكن بشرط أن يكون الرضاع خمس رضعات في الحولين كما بينت السنة.
وأما المحرمات بالصهر فهن أربع. حلائل الآباء وإن علوا، وحلائل الأبناء وإن نزلوا، وارثين أو محجوبين. وأمهات الزوجة وإن علون، فهؤلاء الثلاث يحرمن بمجرد العقد.
والرابعة: الربيبة وهي بنت زوجته وإن نزلت، فهذه لا تحرم حتى يدخل بزوجته كما قال هنا ( وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) الآية.
وقد قال الجمهور: إن قوله: ( اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ ) قيد خرج مخرج < 1-174 > الغالب لا مفهوم له، فإن الربيبة تحرم ولو لم تكن في حجره ولكن للتقييد بذلك فائدتان:
إحداهما: فيه التنبيه على الحكمة في تحريم الربيبة وأنها كانت بمنزلة البنت فمن المستقبح إباحتها.
والثانية: فيه دلالة على جواز الخلوة بالربيبة وأنها بمنزلة من هي في حجره من بناته ونحوهن. والله أعلم.
وأما المحرمات بالجمع فقد ذكر الله الجمع بين الأختين وحرمه وحرم النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، فكل امرأتين بينهما رحم محرم لو قدر إحداهما ذكرًا والأخرى أنثى حرمت عليه فإنه يحرم الجمع بينهما، وذلك لما في ذلك من أسباب التقاطع بين الأرحام.

ابو وليد البحيرى
2019-02-25, 11:50 AM
الحلقة (82)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(24)الى الأية(26)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( وَ ) من المحرمات في النكاح ( الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ) أي: ذوات الأزواج. فإنه يحرم نكاحهن ما دمن في ذمة الزوج حتى تطلق وتنقضي عدتها. ( إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) أي: بالسبي، فإذا سبيت الكافرة ذات الزوج حلت للمسلمين بعد أن تستبرأ. وأما إذا بيعت الأمة المزوجة أو وهبت فإنه لا ينفسخ نكاحها لأن المالك الثاني نزل منزلة الأول ولقصة بريرة حين خيرها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ( كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) أي: الزموه واهتدوا به فإن فيه الشفاء والنور وفيه تفصيل الحلال من الحرام.
ودخل في قوله: ( وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ) كلُّ ما لم يذكر في هذه الآية، فإنه حلال طيب. فالحرام محصور والحلال ليس له حد ولا حصر لطفًا من الله ورحمة وتيسيرًا للعباد.
وقوله: ( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ ) أي: تطلبوا من وقع عليه نظركم واختياركم من اللاتي أباحهن الله لكم حالة كونكم ( مُحْصِنِينَ ) أي: مستعفين عن الزنا، ومعفين نساءكم.
( غَيْرَ مُسَافِحِينَ ) والسفح: سفح الماء في الحلال والحرام، فإن الفاعل لذلك لا يحصن زوجته لكونه وضع شهوته في الحرام فتضعف داعيته للحلال فلا يبقى محصنا لزوجته. وفيها دلالة على أنه لا يزوج غير العفيف لقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) أي: ممن تزوجتموها ( فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) أي: الأجور في مقابلة الاستمتاع. ولهذا إذا دخل الزوج بزوجته تقرر عليه صداقها ( فَرِيضَةً ) أي: إتيانكم إياهن أجورهن فرض فرضه الله عليكم، ليس بمنزلة التبرع الذي إن شاء أمضاه وإن شاء رده. أو معنى قوله فريضة: أي: مقدرة قد قدرتموها فوجبت عليكم، فلا تنقصوا منها شيئًا.
( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ) أي: بزيادة من الزوج أو إسقاط من الزوجة عن رضا وطيب نفس [هذا قول كثير من المفسرين، وقال كثير منهم: إنها نزلت في متعة النساء التي كانت حلالا في أول الإسلام ثم حرمها النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يؤمر بتوقيتها وأجرها، ثم إذا انقضى الأمد الذي بينهما فتراضيا بعد الفريضة فلا حرج عليهما، والله أعلم]. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ) أي: كامل العلم واسعه، كامل الحكمة: فمن علمه وحكمته شرع لكم هذه الشرائع وحد لكم هذه الحدود الفاصلة بين الحلال والحرام.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ثم قال تعالى ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا ) الآية.
أي: ومن لم يستطع الطول الذي هو المهر لنكاح المحصنات أي: الحرائر المؤمنات وخاف على نفسه العَنَت أي: الزنا والمشقة الكثيرة، فيجوز له نكاح الإماء المملوكات المؤمنات. وهذا بحسب ما يظهر، وإلا فالله أعلم بالمؤمن الصادق من غيره، فأمور الدنيا مبنية على ظواهر الأمور، وأحكام الآخرة مبنية على ما في البواطن.
( فَانْكِحُوهُنَّ ) أي: المملوكات ( بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ) أي: سيدهن واحدا أو متعددا.
( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) أي: ولو كن إماء، فإنه كما يجب المهر للحرة فكذلك يجب للأمة. ولكن لا يجوز نكاح الإماء إلا إذا كن ( مُحْصَنَاتٍ ) أي: عفيفات عن الزنا ( غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ) أي: زانيات علانية. ( وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ) أي: أخلاء في السر.
فالحاصل أنه لا يجوز للحر المسلم نكاح أمة إلا بأربعة شروط ذكرها الله: الإيمان بهن والعفة ظاهرا وباطنا، وعدم استطاعة طول الحرة، وخوف العنت، فإذا تمت هذه الشروط جاز له نكاحهن.
ومع هذا فالصبر عن نكاحهن أفضل لما فيه من تعريض الأولاد للرق، ولما فيه من الدناءة والعيب. وهذا إذا أمكن الصبر، فإن لم يمكن الصبر عن المحرم إلا بنكاحهن وجب ذلك. ولهذا قال: ( وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .
وقوله: ( فَإِذَا أُحْصِنَّ ) أي: تزوجن أو أسلمن أي: الإماء ( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ ) أي: الحرائر ( مِنَ الْعَذَابِ ) .
وذلك الذي يمكن تنصيفه وهو: < 1-175 > الجَلد فيكون عليهن خمسون جَلدة. وأما الرجم فليس على الإماء رجم لأنه لا يتنصف، فعلى القول الأول إذا لم يتزوجن فليس عليهن حد، إنما عليهن تعزير يردعهن عن فعل الفاحشة.
وعلى القول الثاني: إن الإماء غير المسلمات، إذا فعلن فاحشة أيضا عزرن.
وختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين "الغفور والرحيم" لكون هذه الأحكام رحمةً بالعباد وكرمًا وإحسانًا إليهم فلم يضيق عليهم، بل وسع غاية السعة.
ولعل في ذكر المغفرة بعد ذكر الحد إشارة إلى أن الحدود كفارات، يغفر الله بها ذنوب عباده كما ورد بذلك الحديث. وحكم العبد الذكر في الحد المذكور حكم الأمة لعدم الفارق بينهما.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة، وحسن تربيته لعباده المؤمنين وسهولة دينه فقال: ( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ) أي: جميع ما تحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل، والحلال والحرام، ( وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) أي: الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم، في سيرهم الحميدة، وأفعالهم السديدة، وشمائلهم الكاملة، وتوفيقهم التام. فلذلك نفذ ما أراده، ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم، وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل.
( وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) أي: يلطف لكم في أحوالكم وما شرعه لكم حتى تمكنوا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg من الوقوف على ما حده الله، والاكتفاء بما أحله فتقل ذنوبكم بسبب ما يسر الله عليكم فهذا من توبته على عباده.
ومن توبته عليهم أنهم إذا أذنبوا فتح لهم أبواب الرحمة وأوزع قلوبهم الإنابة إليه، والتذلل بين يديه ثم يتوب عليهم بقبول ما وفقهم له. فله الحمد والشكر على ذلك.
وقوله: ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي: كامل الحكمة، فمن علمه أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون، ومنها هذه الأشياء والحدود. ومن حكمته أنه يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته التوبة عليه، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله من لا يصلح للتوبة.

ابو وليد البحيرى
2019-02-28, 03:33 PM
الحلقة (83)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(27)الى الأية(33)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وقوله: ( وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) أي: توبة تلم شعثكم، وتجمع متفرقكم، وتقرب بعيدكم.
( وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ ) أي: يميلون معها حيث مالت ويقدمونها على ما فيه رضا محبوبهم، ويعبدون أهواءهم، من أصناف الكفرة والعاصين، المقدمين لأهوائهم على طاعة ربهم، فهؤلاء يريدون ( أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا ) أي: [أن] تنحرفوا عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم والضالين.
يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان، وعن التزام حدود من السعادة كلها في امتثال أوامره، إلى مَنْ الشقاوةُ كلها في اتباعه. فإذا عرفتم أن الله تعالى يأمركم بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم، وأن هؤلاء المتبعين لشهواتهم يأمرونكم بما فيه غاية الخسار والشقاء، فاختاروا لأنفسكم أوْلى الداعيين، وتخيّروا أحسن الطريقتين.
( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ) أي: بسهولة ما أمركم به و [ما] نهاكم عنه، ثم مع حصول المشقة في بعض الشرائع أباح لكم ما تقتضيه حاجتكم، كالميتة والدم ونحوهما للمضطر، وكتزوج الأمة للحر بتلك الشروط السابقة. وذلك لرحمته التامة وإحسانه الشامل، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه، ضعف البنية، وضعف الإرادة، وضعف العزيمة، وضعف الإيمان، وضعف الصبر، فناسب ذلك أن يخفف الله عنه، ما يضعف عنه وما لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل، وهذا يشمل أكلها بالغصوب والسرقات، وأخذها بالقمار والمكاسب الرديئة. بل لعله يدخل في ذلك أكل مال نفسك على وجه البطر والإسراف، لأن هذا من الباطل وليس من الحق.
ثم إنه -لما حرم أكلها بالباطل- أباح لهم أكلها بالتجارات والمكاسب الخالية من الموانع، المشتملة على الشروط من التراضي وغيره.
( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يقتل الإنسان نفسه. ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة، وفعلُ الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) ومن رحمته أن صان نفوسكم وأموالكم، ونهاكم عن إضاعتها وإتلافها، ورتب على ذلك ما رتبه من الحدود.
وتأمل هذا الإيجاز والجمع في قوله: ( لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ ) ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) كيف شمل أموال غيرك ومال نفسك وقتل نفسك وقتل غيرك بعبارة أخصر من قوله: "لا يأكل بعضكم مال بعض" و "لا يقتل بعضكم بعضًا" مع قصور هذه العبارة على مال الغير ونفس الغير فقط.
مع أن إضافة الأموال والأنفس إلى < 1-176 > عموم المؤمنين فيه دلالة على أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ومصالحهم كالجسد الواحد، حيث كان الإيمان يجمعهم على مصالحهم الدينية والدنيوية.
ولما نهى عن أكل الأموال بالباطل التي فيها غاية الضرر عليهم، على الآكل، ومن أخذ ماله، أباح لهم ما فيه مصلحتهم من أنواع المكاسب والتجارات، وأنواع الحرف والإجارات، فقال: ( إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) أي: فإنها مباحة لكم.
وشرط التراضي -مع كونها تجارة- لدلالة أنه يشترط أن يكون العقد غير عقد ربا لأن الربا ليس من التجارة، بل مخالف لمقصودها، وأنه لا بد أن يرضى كل من المتعاقدين ويأتي به اختيارًا.
ومن تمام الرضا أن يكون المعقود عليه معلوما، لأنه إذا لم يكن كذلك لا يتصور الرضا مقدورًا على تسليمه، لأن غير المقدور عليه شبيه ببيع القمار، فبيع الغرر بجميع أنواعه خال من الرضا فلا ينفذ عقده.
وفيها أنه تنعقد العقود بما دل عليها من قول أو فعل، لأن الله شرط الرضا فبأي طريق حصل الرضا انعقد به العقد. ثم ختم الآية بقوله: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) ومن رحمته أن عصم دماءكم وأموالكم وصانها ونهاكم عن انتهاكها.
ثم قال: ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ) أي: أكل الأموال بالباطل وقتل النفوس ( عُدْوَانًا وَظُلْمًا ) أي: لا جهلا ونسيانا ( فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ) أي: عظيمة كما يفيده التنكير ( وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ) .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا (31) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وهذا من فضل الله وإحسانه على عباده المؤمنين وعدهم أنهم إذا اجتنبوا كبائر المنهيات غفر لهم جميع الذنوب والسيئات وأدخلهم مدخلا كريما كثير الخير وهو الجنة المشتملة على ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ويدخل في اجتناب الكبائر فعل الفرائض التي يكون تاركها مرتكبا كبيرة، كالصلوات الخمس، والجمعة، وصوم رمضان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر" .
وأحسن ما حُدت به الكبائر، أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو نفي إيمان، أو ترتيب لعنة، أو غضب عليه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ينهى تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل الله به غيره من الأمور الممكنة وغير الممكنة. فلا تتمنى النساء خصائص الرجال التي بها فضلهم على النساء، ولا صاحب الفقر والنقص حالة الغنى والكمال تمنيا مجردا لأن هذا هو الحسد بعينه، تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك ويسلب إياها. ولأنه يقتضي السخط على قدر الله والإخلاد إلى الكسل والأماني الباطلة التي لا يقترن بها عمل ولا كسب. وإنما المحمود أمران: أن يسعى العبد على حسب قدرته بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية، ويسأل الله تعالى من فضله، فلا يتكل على نفسه ولا على غير ربه. ولهذا قال تعالى: ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ) أي: من أعمالهم المنتجة للمطلوب. ( وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) فكل منهم لا يناله غير ما كسبه وتعب فيه. ( وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ) أي: من جميع مصالحكم في الدين والدنيا. فهذا كمال العبد وعنوان سعادته لا من يترك العمل، أو يتكل على نفسه غير مفتقر لربه، أو يجمع بين الأمرين فإن هذا مخذول خاسر.
وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) فيعطي من يعلمه أهلا لذلك، ويمنع من يعلمه غير مستحق.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( وَلِكُلٍّ ) من الناس ( جَعَلْنَا مَوَالِيَ ) أي: يتولونه ويتولاهم بالتعزز والنصرة والمعاونة على الأمور. ( مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ) وهذا يشمل سائر الأقارب من الأصول والفروع والحواشي، هؤلاء الموالي من القرابة.
ثم ذكر نوعا آخر من الموالي فقال: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) أي: حالفتموهم بما عقدتم معهم من عقد المحالفة على النصرة والمساعدة والاشتراك بالأموال وغير ذلك. وكل هذا من نعم الله على عباده، حيث كان الموالي يتعاونون بما لا يقدر عليه بعضهم مفردا.
قال تعالى: ( فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) أي: آتوا الموالي نصيبهم الذي يجب القيام به من النصرة والمعاونة والمساعدة على غير معصية الله. والميراث للأقارب الأدنين من الموالي.
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ) أي: مطلعا على كل شيء بعلمه لجميع الأمور، وبصره لحركات عباده، وسمعه لجميع أصواتهم.

ابو وليد البحيرى
2019-02-28, 03:37 PM
الحلقة (84)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(34)الى الأية(37)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg.

يخبر تعالى أن الرِّجَال ( قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) أي: قوامون عليهن بإلزامهن بحقوق الله تعالى، من المحافظة على فرائضه وكفهن عن المفاسد، والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك، وقوامون عليهن أيضا بالإنفاق عليهن، والكسوة والمسكن، ثم ذكر السبب الموجب لقيام الرجال على النساء فقال: ( بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) أي: بسبب فضل الرجال على النساء وإفضالهم عليهن، فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة: من كون الولايات مختصة بالرجال، والنبوة، والرسالة، واختصاصهم بكثير من العبادات كالجهاد والأعياد والجمع. وبما خصهم الله به من العقل والرزانة والصبر والجلد الذي ليس للنساء مثله. وكذلك خصهم بالنفقات على الزوجات بل وكثير من النفقات يختص بها الرجال ويتميزون عن النساء.
ولعل هذا سر قوله: ( وَبِمَا أَنْفَقُوا ) وحذف المفعول ليدل على عموم النفقة. فعلم من هذا كله أن الرجل كالوالي والسيد لامرأته، وهي عنده عانية أسيرة خادمة،فوظيفته أن يقوم بما استرعاه الله به.
ووظيفتها: القيام بطاعة ربها وطاعة زوجها فلهذا قال: ( فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ ) أي: مطيعات لله تعالى ( حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ ) أي: مطيعات لأزواجهن حتى في الغيب تحفظ بعلها بنفسها وماله، وذلك بحفظ الله لهن وتوفيقه لهن، لا من أنفسهن، فإن النفس أمارة بالسوء، ولكن من توكل على الله كفاه ما أهمه من أمر دينه ودنياه.
ثم قال: ( وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ) أي: ارتفاعهن عن طاعة أزواجهن بأن تعصيه بالقول أو الفعل فإنه يؤدبها بالأسهل فالأسهل، ( فَعِظُوهُنَّ ) أي: ببيان حكم الله في طاعة الزوج ومعصيته والترغيب في الطاعة، والترهيب من معصيته، فإن انتهت فذلك المطلوب، وإلا فيهجرها الزوج في المضجع، بأن لا يضاجعها، ولا يجامعها بمقدار ما يحصل به المقصود، وإلا ضربها ضربًا غير مبرح، فإن حصل المقصود بواحد من هذه الأمور وأطعنكم ( فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا ) أي: فقد حصل لكم ما تحبون فاتركوا معاتبتها على الأمور الماضية، والتنقيب عن العيوب التي يضر ذكرها ويحدث بسببه الشر.
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ) أي: له العلو المطلق بجميع الوجوه والاعتبارات، علو الذات وعلو القدر وعلو القهر الكبير الذي لا أكبر منه ولا أجل ولا أعظم، كبير الذات والصفات.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg.

أي: وإن خفتم الشقاق بين الزوجين والمباعدة والمجانبة حتى يكون كل منهما في شق ( فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ) أي: رجلين مكلفين مسلمين عدلين عاقلين يعرفان ما بين الزوجين، ويعرفان الجمع والتفريق. وهذا مستفاد من لفظ "الحكم" لأنه لا يصلح حكما إلا من اتصف بتلك الصفات.
فينظران ما ينقم كل منهما على صاحبه، ثم يلزمان كلا منهما ما يجب، فإن لم يستطع أحدهما ذلك، قنَّعا الزوج الآخر بالرضا بما تيسر من الرزق والخلق، ومهما أمكنهما الجمع والإصلاح فلا يعدلا عنه.
فإن وصلت الحال إلى أنه لا يمكن اجتماعهما وإصلاحهما إلا على وجه المعاداة والمقاطعة ومعصية الله، ورأيا أن التفريق بينهما أصلح، فرقا بينهما. ولا يشترط رضا الزوج، كما يدل عليه أن الله سماهما حكمين، والحكم يحكم ولو http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg لم يرض المحكوم عليه، ولهذا قال: ( إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ) أي: بسبب الرأي الميمون والكلام الذي يجذب القلوب ويؤلف بين القرينين.
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ) أي: عالمًا بجميع الظواهر والبواطن، مطلعا على خفايا الأمور وأسرارها. فمن علمه وخبره أن شرع لكم هذه الأحكام الجليلة والشرائع الجميلة.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg . يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، وهو الدخول تحت رق عبوديته، والانقياد لأوامره ونواهيه، محبة وذلا وإخلاصا له، في جميع العبادات الظاهرة والباطنة.
وينهى عن الشرك به شيئا لا شركا أصغر ولا أكبر، لا ملكا ولا نبيا ولا وليا ولا غيرهم من المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، بل الواجب المتعين إخلاص العبادة لمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وله التدبير الكامل الذي لا يشركه ولا يعينه عليه أحد. ثم بعد ما أمر بعبادته والقيام بحقه أمر بالقيام بحقوق العباد الأقرب فالأقرب. فقال: ( وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا ) أي: أحسنوا إليهم بالقول الكريم والخطاب اللطيف والفعل الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما والإنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا بهما. وللإحسان ضدان، الإساءةُ وعدمُ الإحسان. وكلاهما منهي عنه.
( وَبِذِي الْقُرْبَى ) أيضا إحسانا، ويشمل ذلك جميع الأقارب، قربوا أو بعدوا، بأن يحسن إليهم بالقول والفعل، وأن لا يقطع برحمه بقوله أو فعله.
( وَالْيَتَامَى ) أي: الذين فقدوا آباءهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg وهم صغار، فلهم حق على المسلمين، سواء كانوا أقارب أو غيرهم بكفالتهم وبرهم وجبر خواطرهم وتأديبهم، وتربيتهم أحسن تربية في مصالح دينهم ودنياهم.
( وَالْمَسَاكِين ) وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر، فلم يحصلوا على كفايتهم، ولا كفاية من يمونون، فأمر الله تعالى بالإحسان إليهم، بسد خلتهم وبدفع فاقتهم، والحض على ذلك، والقيام بما يمكن منه.
( وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ) أي: الجار القريب الذي له حقان حق الجوار وحق القرابة، فله على جاره حق وإحسان راجع إلى العرف. ( وَ ) كذلك ( الْجَارِ الْجُنُبِ ) أي: الذي ليس له قرابة. وكلما كان الجار أقرب بابًا كان آكد حقًّا، فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال وعدم أذيته بقول أو فعل.
( وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ) قيل: الرفيق في السفر، وقيل: الزوجة، وقيل الصاحب مطلقا، ولعله أولى، فإنه يشمل الصاحب في الحضر والسفر ويشمل الزوجة. فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلامه، من مساعدته على أمور دينه ودنياه، والنصح له؛ والوفاء معه في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، وأن يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد.
( وَابْنِ السَّبِيلِ ) وهو: الغريب الذي احتاج في بلد الغربة أو لم يحتج، فله حق على المسلمين لشدة حاجته وكونه في غير وطنه بتبليغه إلى مقصوده أو بعض مقصوده [وبإكرامه وتأنيسه] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg.
( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) : أي: من الآدميين والبهائم بالقيام بكفايتهم وعدم تحميلهم ما يشق عليهم وإعانتهم على ما يتحملون، وتأديبهم لما فيه مصلحتهم. فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لربه، المتواضع لعباد الله، المنقاد لأمر الله وشرعه، الذي يستحق الثواب الجزيل والثناء الجميل، ومن لم يقم بذلك فإنه عبد معرض عن ربه، غير منقاد لأوامره، ولا متواضع للخلق، بل هو متكبر على عباد الله معجب بنفسه فخور بقوله، ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا ) أي: معجبا بنفسه متكبرًا على الخلق ( فَخُورًا ) يثني على نفسه ويمدحها على وجه الفخر والبطر على عباد الله، فهؤلاء ما بهم من الاختيال والفخر يمنعهم من القيام بالحقوق. ولهذا ذمهم بذلك بقوله: ( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ) أي: يمنعون ما عليهم من الحقوق الواجبة. ( وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ) بأقوالهم وأفعالهم ( وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) أي: من العلم الذي يهتدي به الضالون ويسترشد به الجاهلون فيكتمونه عنهم، ويظهرون لهم من الباطل ما يحول بينهم وبين الحق. فجمعوا بين البخل بالمال والبخل بالعلم، وبين السعي في خسارة أنفسهم وخسارة غيرهم، وهذه هي صفات الكافرين، فلهذا قال تعالى: ( وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ) أي: كما تكبروا على عباد الله ومنعوا حقوقه وتسببوا في منع غيرهم من البخل وعدم الاهتداء، أهانهم بالعذاب الأليم والخزي الدائم. فعياذًا بك اللهم من كل سوء.

ابو وليد البحيرى
2019-02-28, 03:42 PM
الحلقة (85)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(38)الى الأية(44)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

ثم أخبر عن النفقة الصادرة عن رياء وسمعة وعدم إيمان به فقال: ( وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ ) أي: ليروهم ويمدحوهم ويعظموهم ( وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ) أي: ليس إنفاقهم صادرا عن إخلاص وإيمان بالله ورجاء ثوابه. أي: فهذا من خطوات الشيطان وأعماله التي يدعو حزبه إليها ليكونوا من أصحاب السعير. وصدرت منهم بسبب مقارنته لهم وأزهم إليها فلهذا قال: ( وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ) أي: بئس المقارن والصاحب الذي يريد إهلاك من قارنه ويسعى فيه أشد السعي.
فكما أن من بخل بما آتاه الله، وكتم ما مَنَّ به الله عليه عاص آثم مخالف لربه، فكذلك من أنفق وتعبد لغير الله فإنه آثم عاص لربه مستوجب للعقوبة، لأن الله إنما أمر بطاعته وامتثال أمره على وجه الإخلاص، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg فهذا العمل المقبول الذي يستحق صاحبه المدح والثواب فلهذا حث تعالى عليه بقوله:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

أي: أي شيء عليهم وأي حرج ومشقة تلحقهم لو حصل منهم الإيمان بالله الذي هو الإخلاص، وأنفقوا من أموالهم التي رزقهم الله وأنعم بها عليهم فجمعوا بين الإخلاص والإنفاق، ولما كان الإخلاص سرًّا بين العبد وبين ربه، لا يطلع عليه إلا الله أخبر تعالى بعلمه بجميع الأحوال فقال: ( وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

يخبر تعالى عن كمال عدله وفضله وتنزهه عما يضاد ذلك من الظلم القليل والكثير فقال: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ) أي: ينقصها من حسنات عبده أو يزيدها في سيئاته، كما قال تعالى: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )
( وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ) أي إلى عشرة أمثالها إلى أكثر من ذلك بحسب حالها ونفعها وحال صاحبها إخلاصا ومحبة وكمالا
( وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) أي زيادة على ثواب العمل بنفسه من التوفيق لأعمال أخر وإعطاء البر الكثير والخير الغزير
ثم قال تعالى ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) أي كيف تكون تلك الأحوال وكيف يكون ذلك الحكم العظيم الذي جمع أن من حكم به كاملُ العلم كاملُ العدل كامل الحكمة بشهادة أزكى الخلق وهم الرسل على أممهم مع إقرار المحكوم عليه؟" فهذا -والله- الحكم الذي هو أعم الأحكام وأعدلها وأعظمها.
وهناك يبقى المحكوم عليهم مقرين له لكمال الفضل والعدل والحمد والثناء وهناك يسعد أقوام بالفوز والفلاح والعز والنجاح ويشقى أقوام بالخزي والفضيحة والعذاب المهين.
ولهذا قال ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ ) أي جمعوا بين الكفر بالله وبرسوله ومعصيةِ الرسول ( لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ ) أي تبتلعهم ويكونون ترابا وعدما كما قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) أي بل يقرون له بما عملوا وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله جزاءهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين.
فأما ما ورد من أن الكفار يكتمون كفرهم وجحودهم فإن ذلك يكون في بعض مواضع القيامة حين يظنون أن جحودهم مغن عنهم من عذاب الله فإذا عرفوا الحقائق وشهدت عليهم جوارحهم حينئذ ينجلي الأمر ولا يبقى للكتمان موضع ولا نفع ولا فائدة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpgيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، حتى يعلموا ما يقولون، وهذا شامل لقربان مواضع الصلاة، كالمسجد، فإنه لا يمكَّن السكران من دخوله. وشامل لنفس الصلاة، فإنه لا يجوز للسكران صلاة ولا عبادة، لاختلاط عقله وعدم علمه بما يقول، ولهذا حدد تعالى ذلك وغياه إلى وجود العلم بما يقول السكران. وهذه الآية الكريمة منسوخة بتحريم الخمر مطلقا، فإن الخمر -في أول الأمر- كان غير محرم، ثم إن الله تعالى عرض لعباده بتحريمه بقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg
ثم إنه تعالى نهاهم عن الخمر عند حضور الصلاة كما في هذه الآية، ثم إنه تعالى حرمه على الإطلاق في جميع الأوقات في قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg الآية.
ومع هذا فإنه يشتد تحريمه وقت حضور الصلاة لتضمنه هذه المفسدة العظيمة، بعد حصول مقصود الصلاة الذي هو روحها ولبها وهو الخشوع وحضور القلب، فإن الخمر يسكر القلب، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ويؤخذ من المعنى منع الدخول في الصلاة في حال النعاس المفرط، الذي لا يشعر صاحبه بما يقول ويفعل، بل لعل فيه إشارة إلى أنه ينبغي لمن أراد الصلاة أن يقطع عنه كل شاغل يشغل فكره، كمدافعة الأخبثين والتوق لطعام ونحوه كما ورد في ذلك الحديث الصحيح.
ثم قال: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ ) أي: لا تقربوا الصلاة حالة كون أحدكم جنبا، إلا في هذه الحال وهو عابر السبيل أي: تمرون في المسجد ولا تمكثون فيه، ( حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) أي: فإذا اغتسلتم فهو غاية المنع من قربان الصلاة للجنب، فيحل للجنب المرور في المسجد فقط.
( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ) .
فأباح التيمم للمريض مطلقًا مع وجود الماء وعدمه، والعلة المرض الذي يشق معه استعمال الماء، وكذلك السفر فإنه مظنة فقد الماء، فإذا فقده المسافر أو وجد ما يتعلق بحاجته من شرب ونحوه، جاز له التيمم.
وكذلك إذا أحدث الإنسان ببول أو غائط أو ملامسة النساء، فإنه يباح له التيمم إذا لم يجد الماء، حضرًا وسفرًا كما يدل على ذلك عموم الآية. والحاصل: أن الله تعالى أباح التيمم في حالتين:
حال عدم الماء، وهذا مطلقا في الحضر والسفر، وحال المشقة باستعماله بمرض ونحوه.
واختلف المفسرون في معنى قوله: ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ) هل المراد بذلك: الجماع فتكون الآية نصا في جواز التيمم للجنب، كما تكاثرت بذلك الأحاديث الصحيحة؟ أو المراد بذلك مجرد اللمس باليد، ويقيد ذلك بما إذا كان مظنة خروج المذي، وهو المس الذي يكون لشهوة فتكون الآية دالة على نقض الوضوء بذلك؟
واستدل الفقهاء بقوله: ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ) بوجوب طلب الماء عند دخول الوقت، قالوا: لأنه لا يقال: "لم يجد" لمن لم يطلب، بل لا يكون ذلك إلا بعد الطلب، واستدل بذلك أيضا على أن الماء المتغير بشيء من الطاهرات يجوز بل يتعين التطهر به لدخوله في قوله: ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ) وهذا ماء. ونوزع في ذلك أنه ماء غير مطلق وفي ذلك نظر.
وفي هذه الآية الكريمة مشروعية هذا الحكم العظيم الذي امتن به الله على هذه الأمة، وهو مشروعية التيمم، وقد أجمع على ذلك العلماء ولله الحمد، وأن التيمم يكون بالصعيد الطيب، وهو كل ما تصاعد على وجه الأرض سواء كان له غبار أم لا ويحتمل أن يختص ذلك بذي الغبار لأن الله قال: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) وما لا غبار له لا يمسح به.
وقوله: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ) هذا محل المسح في التيمم: الوجه جميعه واليدان إلى الكوعين، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، ويستحب أن يكون ذلك بضربة واحدة، كما دل على ذلك حديث عمار، وفيه أن تيمم الجنب كتيمم غيره، بالوجه واليدين.
فائدة :
اعلم أن قواعد الطب تدور على ثلاث قواعد: حفظ الصحة عن المؤذيات، والاستفراغ منها، والحمية عنها. وقد نبه تعالى عليها في كتابه العزيز.
أما حفظ الصحة والحمية عن المؤذي، فقد أمر بالأكل والشرب وعدم الإسراف في ذلك، وأباح للمسافر والمريض الفطر حفظا لصحتهما، باستعمال ما يصلح البدن على وجه العدل، وحماية للمريض عما يضره.
وأما استفراغ المؤذي فقد أباح تعالى للمحْرِم المتأذي برأسه أن يحلقه لإزالة الأبخرة المحتقنة فيه، ففيه تنبيه على استفراغ ما هو أولى منها من البول والغائط والقيء والمني والدم، وغير ذلك، نبه على ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى.
وفي الآية وجوب تعميم مسح الوجه واليدين، وأنه يجوز التيمم ولو لم يضق الوقت، وأنه لا يخاطب بطلب الماء إلا بعد وجود سبب الوجوب والله أعلم.
ثم ختم الآية بقوله: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ) أي: كثير العفو والمغفرة لعباده المؤمنين، بتيسير ما أمرهم به، وتسهيله غاية التسهيل، بحيث لا يشق على العبد امتثاله، فيحرج بذلك.

ومن عفوه ومغفرته أن رحم هذه الأمة بشرع طهارة التراب بدل الماء، عند تعذر استعماله. ومن عفوه ومغفرته أن فتح للمذنبين باب التوبة والإنابة ودعاهم إليه ووعدهم بمغفرة ذنوبهم. ومن عفوه ومغفرته أن المؤمن لو أتاه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه لا يشرك به شيئا، لأتاه بقرابها مغفرة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpgأَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

هذا ذم لمن ( أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ) وفي ضمنه تحذير عباده عن الاغترار بهم، والوقوع في أشراكهم، فأخبر أنهم في أنفسهم ( يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ ) أي: يحبونها محبة عظيمة ويؤثرونها إيثار من يبذل المال الكثير في طلب ما يحبه. فيؤثرون الضلال على الهدى، والكفر على الإيمان، والشقاء على السعادة، ومع هذا ( يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ) .

ابو وليد البحيرى
2019-02-28, 03:48 PM
الحلقة (86)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(45)الى الأية(51)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِم ْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا (46) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

فهم حريصون على إضلالكم غاية الحرص، باذلون جهدهم في ذلك. ولكن لما كان الله ولي عباده المؤمنين وناصرهم، بيَّن لهم ما اشتملوا عليه من الضلال والإضلال، ولهذا قال: ( وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا ) أي: يتولى أحوال عباده ويلطف بهم في جميع أمورهم، < 1-181 > وييسر لهم ما به سعادتهم وفلاحهم. ( وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ) ينصرهم على أعدائهم ويبين لهم ما يحذرون منهم ويعينهم عليهم. فولايته تعالى فيها حصول الخير، ونصره فيه زوال الشر.
ثم بين كيفية ضلالهم وعنادهم وإيثارهم الباطل على الحق فقال: ( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا ) أي: اليهود وهم علماء الضلال منهم.
( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ) إما بتغيير اللفظ أو المعنى، أو هما جميعا. فمن تحريفهم تنزيل الصفات التي ذكرت في كتبهم التي لا تنطبق ولا تصدق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم على أنه غير مراد بها، ولا مقصود بها بل أريد بها غيره، وكتمانهم ذلك.
فهذا حالهم في العلم أشر حال، قلبوا فيه الحقائق، ونزلوا الحق على الباطل، وجحدوا لذلك الحق، وأما حالهم في العمل والانقياد فإنهم ( يَقُولون سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) أي: سمعنا قولك وعصينا أمرك، وهذا غاية الكفر والعناد والشرود عن الانقياد، وكذلك يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم بأقبح خطاب وأبعده عن الأدب فيقولون: ( اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) قصدهم: اسمع منا غير مسمع ما تحب، بل مسمع ما تكره، ( وَرَاعِنَا ) قصدهم بذلك الرعونة، بالعيب القبيح، ويظنون أن اللفظ -لما كان محتملا لغير ما أرادوا من الأمور- أنه يروج على الله وعلى رسوله، فتوصلوا بذلك اللفظِ الذي يلوون به ألسنتهم إلى الطعن في الدين والعيب للرسول، ويصرحون بذلك فيما بينهم، فلهذا قال: ( لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِم ْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ) .
ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ ) وذلك لما تضمنه هذا الكلام من حسن الخطاب والأدب اللائق في مخاطبة الرسول، والدخول تحت طاعة الله والانقياد لأمره، وحسن التلطف في طلبهم العلم بسماع سؤالهم، والاعتناء بأمرهم، فهذا هو الذي ينبغي لهم سلوكه. ولكن لما كانت طبائعهم غير زكية، أعرضوا عن ذلك، وطردهم الله بكفرهم وعنادهم، ولهذا قال: ( وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا ) .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا (47) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يأمر تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن يؤمنوا بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله عليه من القرآن العظيم، المهيمن على غيره من الكتب السابقة التي قد صدقها، فإنها أخبرت به فلما وقع المخبر به كان تصديقا لذلك الخبر.
وأيضا فإنهم إن لم يؤمنوا بهذا القرآن فإنهم لم يؤمنوا بما في أيديهم من الكتب، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا، ويوافق بعضها بعضًا. فدعوى الإيمان ببعضها دون بعض دعوى باطلة لا يمكن صدقها.
وفي قوله: ( آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ) حث لهم وأنهم ينبغي أن يكونوا قبل غيرهم مبادرين إليه بسبب ما أنعم الله عليهم به من العلم، والكتاب الذي يوجب أن يكون ما عليهم أعظم من غيرهم، ولهذا توعدهم على عدم الإيمان فقال: ( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ) وهذا جزاء من جنس ما عملوا، كما تركوا الحق، وآثروا الباطل وقلبوا الحقائق، فجعلوا الباطل حقا والحق باطلا جوزوا من جنس ذلك بطمس وجوههم كما طمسوا الحق، وردها على أدبارها، بأن تجعل في أقفائهم وهذا أشنع ما يكون ( أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ) بأن يطردهم من رحمته، ويعاقبهم بجعلهم قردة، كما فعل بإخوانهم الذين اعتدوا في السبت ( فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا ) كقوله: ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى: أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين، ويغفر ما دون الشرك من الذنوب صغائرها وكبائرها، وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك، إذا اقتضت حكمتُه مغفرتَه.
فالذنوب التي دون الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسبابا كثيرة، كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا، والبرزخ ويوم القيامة، وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وبشفاعة الشافعين. ومن فوق ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد.
وهذا بخلاف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة، وأغلق دونه أبواب الرحمة، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد، ولا تفيده المصائب شيئا، وما لهم يوم القيامة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
< 1-182 >
ولهذا قال تعالى ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ) أي افترى جرما كبيرا وأي ظلم أعظم ممن سوى المخلوق -من تراب الناقص من جميع الوجوه الفقير بذاته من كل وجه الذي لا يملك لنفسه- فضلا عمن عبده -نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا- بالخالق لكل شيء الكامل من جميع الوجوه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع الذي ما من نعمة بالمخلوقين إلا فمنه تعالى فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟
ولهذا حتم على صاحبه بالخلود بالعذاب وحرمان الثواب ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ) وهذه الآية الكريمة في حق غير التائب وأما التائب فإنه يغفر له الشرك فما دونه كما قال تعالى ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) أي لمن تاب إليه وأناب.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا تعجيب من الله لعباده، وتوبيخ للذين يزكون أنفسهم من اليهود والنصارى، ومن نحا نحوهم من كل من زكى نفسه بأمر ليس فيه. وذلك أن اليهود والنصارى يقولون: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ويقولون: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهذا مجرد دعوى لا برهان عليها، وإنما البرهان ما أخبر به في القرآن في قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فهؤلاء هم الذين زكاهم الله ولهذا قال هنا: ( بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ) أي: بالإيمان والعمل الصالح بالتخلي عن الأخلاق الرذيلة، والتحلي بالصفات الجميلة.
وأما هؤلاء فهم -وإن زكوا أنفسهم بزعمهم أنهم على شيء، وأن الثواب لهم وحدهم- فإنهم كذبة في ذلك، ليس لهم من خصال الزاكين نصيب، بسبب ظلمهم وكفرهم لا بظلم من الله لهم، ولهذا قال: ( وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا ) وهذا لتحقيق العموم أي: لا يظلمون شيئا ولا مقدار الفتيل الذي في شق النواة أو الذي يفتل من وسخ اليد وغيرها.
قال تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ) أي: بتزكيتهم أنفسهم، لأن هذا من أعظم الافتراء على الله. لأن مضمون تزكيتهم لأنفسهم الإخبار بأن الله جعل ما هم عليه حقا وما عليه المؤمنون المسلمون باطلا. وهذا أعظم الكذب وقلب الحقائق بجعل الحق باطلا والباطلِ حقًّا. ولهذا قال: ( وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ) أي: ظاهرا بينا موجبا للعقوبة البليغة والعذاب الأليم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا (51) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهذا من قبائح اليهود وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أن أخلاقهم الرذيلة وطبعهم الخبيث، حملهم على ترك الإيمان بالله ورسوله، والتعوض عنه بالإيمان بالجبت والطاغوت، وهو الإيمان بكل عبادة لغير الله، أو حكم بغير شرع الله. فدخل في ذلك السحر والكهانة، وعبادة غير الله، وطاعة الشيطان، كل هذا من الجبت والطاغوت، وكذلك حَمَلهم الكفر والحسد على أن فضلوا طريقة الكافرين بالله -عبدة الأصنام- على طريق المؤمنين فقال: ( وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: لأجلهم تملقا لهم ومداهنة، وبغضا للإيمان: (هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا ) أي: طريقا. فما أسمجهم وأشد عنادهم وأقل عقولهم! كيف سلكوا هذا المسلك الوخيم والوادي الذميم؟ هل ظنوا أن هذا يروج على أحد من العقلاء، أو يدخل عقلَ أحد من الجهلاء، فهل يُفَضَّل دين قام على عبادة الأصنام والأوثان، واستقام على تحريم الطيبات، وإباحة الخبائث، وإحلال كثير من المحرمات، وإقامة الظلم بين الخلق، وتسوية الخالق بالمخلوقين، والكفر بالله ورسله وكتبه، على دين قام على عبادة الرحمن، والإخلاص لله في السر والإعلان، والكفر بما يعبد من دونه من الأوثان والأنداد والكاذبين، وعلى صلة الأرحام والإحسان إلى جميع الخلق، حتى البهائم، وإقامة العدل والقسط بين الناس، وتحريم كل خبيث وظلم، والصدق في جميع الأقوال والأعمال، فهل هذا إلا من الهذيان، وصاحب هذا القول إما من أجهل الناس وأضعفهم عقلا وإما من أعظمهم عنادا وتمردا ومراغمة للحق، < 1-183 > وهذا هو الواقع .

ابو وليد البحيرى
2019-02-28, 03:52 PM
الحلقة (87)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(52)الى الأية(59)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا (57) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ولهذا قال تعالى عنهم: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ) أي: طردهم عن رحمته وأحل عليهم نقمته. ( وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ) أي: يتولاه ويقوم بمصالحه ويحفظه عن المكاره، وهذا غاية الخذلان.
( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ) أي: فيفضِّلون من شاءوا على من شاءوا بمجرد أهوائهم، فيكونون شركاء لله في تدبير المملكة، فلو كانوا كذلك لشحوا وبخلوا أشد البخل، ولهذا قال: ( فَإِذًا ) أي: لو كان لهم نصيب من الملك ( لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ) أي: شيئًا ولا قليلا. وهذا وصف لهم بشدة البخل على تقدير وجود ملكهم المشارك لملك الله. وأخرج هذا مخرج الاستفهام المتقرر إنكاره عند كل أحد.
( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) أي: هل الحامل لهم على قولهم كونهم شركاءَ لله فيفضلون من شاءوا؟ أم الحامل لهم على ذلك الحسدُ للرسول وللمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله؟ وذلك ليس ببدع ولا غريب على فضل الله. ( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ) وذلك ما أنعم الله به على إبراهيم وذريته من النبوة والكتاب والملك الذي أعطاه من أعطاه من أنبيائه كـ "داود" و "سليمان" . فإنعامه لم يزل مستمرًا على عباده المؤمنين. فكيف ينكرون إنعامه بالنبوة والنصر والملك لمحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأجلهم وأعظمهم معرفة بالله وأخشاهم له؟
( فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ ) أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم فنال بذلك السعادة الدنيوية والفلاح الأخروي. ( وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ) عنادًا وبغيًا وحسدًا فحصل لهم من شقاء الدنيا ومصائبها ما هو بعض آثار معاصيهم ( وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ) تسعر على من كفر بالله، وجحد نبوة أنبيائه من اليهود والنصارى وغيرهم من أصناف الكفرة.
ولهذا قال: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا ) أي: عظيمة الوقود شديدة الحرارة ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ) أي: احترقت ( بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) أي: ليبلغ العذاب منهم كل مبلغ. وكما تكرر منهم الكفر والعناد وصار وصفا لهم وسجية؛ كرر عليهم العذاب جزاء وِفاقا، ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ) أي: له العزة العظيمة والحكمة في خلقه وأمره، وثوابه وعقابه.
( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) أي: بالله وما أوجب الإيمانَ به ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) من الواجبات والمستحبات ( سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ) أي: من الأخلاق الرذيلة، والخلْق الذميم، ومما يكون من نساء الدنيا من كل دنس وعيب ( وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا ) .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (59) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

الأمانات كل ما ائتمن عليه الإنسان وأمر بالقيام به. فأمر الله عباده بأدائها أي: كاملة موفرة، لا منقوصة ولا مبخوسة، ولا ممطولا بها، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار؛ والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله. وقد ذكر الفقهاء على أن من اؤتمن أمانة وجب عليه حفظها في حرز مثلها. قالوا: لأنه لا يمكن أداؤها إلا بحفظها؛ فوجب ذلك.
وفي قوله: ( إِلَى أَهْلِهَا ) دلالة على أنها لا تدفع وتؤدى لغير المؤتمِن، ووكيلُه بمنزلته؛ فلو دفعها لغير ربها لم يكن مؤديا لها.
( وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأموال والأعراض، القليل من ذلك والكثير، على القريب والبعيد، والبر والفاجر، والولي والعدو.
والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به هو ما شرعه الله على لسان رسوله من الحدود والأحكام، وهذا يستلزم معرفة العدل ليحكم به. ولما كانت هذه أوامر حسنة عادلة قال: ( إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) وهذا مدح من الله لأوامره ونواهيه، لاشتمالها على مصالح الدارين ودفع مضارهما، لأن شارعها السميع البصير الذي لا تخفى عليه خافية، ويعلم بمصالح العباد ما لا يعلمون.
ثم أمر بطاعته وطاعة رسوله وذلك بامتثال أمرهما، الواجب والمستحب، واجتناب نهيهما. وأمر بطاعة أولي الأمر وهم: الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، طاعة لله ورغبة فيما عنده، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في < 1-184 > معصية الخالق. ولعل هذا هو السر في حذف الفعل عند الأمر بطاعتهم وذكره مع طاعة الرسول، فإن الرسول لا يأمر إلا بطاعة الله، ومن يطعه فقد أطاع الله، وأما أولو الأمر فشرط الأمر بطاعتهم أن لا يكون معصية.
ثم أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى رسوله أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما؛ أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه، لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما.

فالرد إليهما شرط في الإيمان فلهذا قال: ( إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت، كما ذكر في الآية بعدها ( ذَلِكَ ) أي: الرد إلى الله ورسوله ( خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ) فإن حكم الله ورسوله أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم.

ابو وليد البحيرى
2019-03-03, 10:03 PM
الحلقة (88)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(60)الى الأية(65)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا (63) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يعجب تعالى عباده من حالة المنافقين. ( الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ) مؤمنون بما جاء به الرسول وبما قبله، ومع هذا ( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ) وهو كل من حكم بغير شرع الله فهو طاغوت.
والحال أنهم ( قد أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) فكيف يجتمع هذا والإيمان؟ فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه في كل أمر من الأمور، فمَنْ زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم الله، فهو كاذب في ذلك. وهذا من إضلال الشيطان إياهم، ولهذا قال: ( وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا ) عن الحق.
( فَكَيْفَ ) يكون حال هؤلاء الضالين ( إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) من المعاصي ومنها تحكيم الطاغوت؟!
( ثُمَّ جَاءُوكَ ) معتذرين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لما صدر منهم، ويقولون: ( إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ) أي: ما قصدنا في ذلك إلا الإحسان إلى المتخاصمين والتوفيق بينهم، وهم كَذَبة في ذلك. فإن الإحسان كل الإحسان تحكيم الله ورسوله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ولهذا قال: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) أي: من النفاق والقصد السيئ. ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) أي: لا تبال بهم ولا تقابلهم على ما فعلوه واقترفوه. ( وَعِظْهُمْ ) أي: بين لهم حكم الله تعالى مع الترغيب في الانقياد لله، والترهيب من تركه ( وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا ) أي: انصحهم سرا بينك وبينهم، فإنه أنجح لحصول المقصود، وبالغ في زجرهم وقمعهم عمَّا كانوا عليه، وفي هذا دليل على أن مقترف المعاصي وإن أعرض عنه فإنه ينصح سرًا، ويبالغ في وعظه بما يظن حصول المقصود به.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يخبر تعالى خبرا في ضمنه الأمر والحث على طاعة الرسول والانقياد له. وأن الغاية من إرسال الرسل أن يكونوا مطاعين ينقاد لهم المرسلُ إليهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه، وأن يكونوا معظمين تعظيم المطيع http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg للمطاع.
وفي هذا إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله، وفيما يأمرون به وينهون عنه؛ لأن الله أمر بطاعتهم مطلقا، فلولا أنهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ، لما أمر بذلك مطلقا.
وقوله: ( بِإِذْنِ اللَّهِ ) أي: الطاعة من المطيع صادرة بقضاء الله وقدره. ففيه إثبات القضاء والقدر، والحث على الاستعانة بالله، وبيان أنه لا يمكن الإنسان -إن لم يعنه الله- أن يطيع الرسول.
ثم أخبر عن كرمه العظيم وجوده، ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن يعترفوا ويتوبوا ويستغفروا الله فقال: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ ) أي: معترفين بذنوبهم باخعين بها.
< 1-185 > ( فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) أي: لتاب عليهم بمغفرته ظلْمَهم، ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها والثواب عليها، وهذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مختص بحياته؛ لأن السياق يدل على ذلك لكون الاستغفار من الرسول لا يكون إلا في حياته، وأما بعد موته فإنه لا يطلب منه شيء بل ذلك شرك.
ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله فيما شجر بينهم، أي: في كل شيء يحصل فيه اختلاف، بخلاف مسائل الإجماع، فإنها لا تكون إلا مستندة للكتاب والسنة، ثم لا يكفي هذا التحكيم حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق، وكونهم يحكمونه على وجه الإغماض، ثم لا يكفي ذلك http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg حتى يسلموا لحكمه تسليمًا بانشراح صدر، وطمأنينة نفس، وانقياد بالظاهر والباطن.
فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان. فمَن استكمل هذه المراتب وكملها، فقد استكمل مراتب الدين كلها. فمَن ترك هذا التحكيم المذكور غير ملتزم له فهو كافر، ومَن تركه، مع التزامه فله حكم أمثاله من العاصين.

ابو وليد البحيرى
2019-03-03, 10:07 PM
الحلقة (89)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(66)الى الأية(74)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُ مْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى أنه لو كتب على عباده الأوامر الشاقة على النفوس من قتل النفوس والخروج من الديار لم يفعله إلا القليل منهم والنادر، فليحمدوا ربهم وليشكروه على تيسير ما أمرهم به من الأوامر التي تسهل على كل أحد، ولا يشق فعلها، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يلحظ العبد ضد ما هو فيه من المكروهات، لتخف عليه العبادات، ويزداد حمدًا وشكرًا لربه.
ثم أخبر أنهم لو فعلوا ما يوعظون به أي: ما وُظِّف عليهم في كل وقت بحسبه، فبذلوا هممهم، ووفروا نفوسهم للقيام به وتكميله، ولم تطمح نفوسهم لما لم يصلوا إليه، ولم يكونوا بصدده، وهذا هو الذي ينبغي للعبد، أن ينظر إلى الحالة التي يلزمه القيام بها فيكملها، ثم يتدرج شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى ما قدر له من العلم والعمل في أمر الدين والدنيا، وهذا بخلاف من طمحت نفسه إلى أمر لم يصل إليه ولم يؤمر به بعد، فإنه لا يكاد يصل إلى ذلك بسبب تفريق الهمة، وحصول الكسل وعدم النشاط.
ثم رتب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به، وهو أربعة أمور:
(أحدها) الخيرية في قوله: ( لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) أي: لكانوا من الأخيار المتصفين بأوصافهم من أفعال الخير التي أمروا بها، أي: وانتفى عنهم بذلك صفة الأشرار، لأن ثبوت الشيء يستلزم نفي ضده.
(الثاني) حصول التثبيت والثبات وزيادته، فإن الله يثبت الذين آمنوا بسبب ما قاموا به من الإيمان، الذي هو القيام بما وعظوا به، فيثبتهم في الحياة الدنيا عند ورود الفتن في الأوامر والنواهي والمصائب، فيحصل لهم ثبات يوفقون لفعل الأوامر وترك الزواجر التي تقتضي النفس فعلها، وعند حلول المصائب التي يكرهها العبد. فيوفق للتثبيت بالتوفيق للصبر أو للرضا أو للشكر. فينزل عليه معونة من الله للقيام بذلك، ويحصل له الثبات على الدين، عند الموت وفي القبر.
وأيضا فإن العبد القائم بما أمر به، لا يزال يتمرن على الأوامر الشرعية حتى يألفها ويشتاق إليها وإلى أمثالها، فيكون ذلك معونة له على الثبات على الطاعات.
(الثالث) قوله: ( وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ) أي: في العاجل والآجل الذي يكون للروح والقلب والبدن، ومن النعيم المقيم مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
(الرابع) الهداية إلى صراط مستقيم. وهذا عموم بعد خصوص، لشرف الهداية إلى الصراط المستقيم، من كونها متضمنة للعلم بالحق، ومحبته وإيثاره والعمل به، وتوقف السعادة والفلاح على ذلك، فمن هُدِيَ إلى صراط مستقيم، فقد وُفِّقَ لكل خير واندفع عنه كل شر وضير.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: كل مَنْ أطاع الله ورسوله على حسب حاله وقدر الواجب عليه من ذكر وأنثى وصغير وكبير، ( فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) أي: النعمة العظيمة التي تقتضي الكمال والفلاح والسعادة ( مِنَ النَّبِيِّينَ ) الذين فضلهم الله بوحيه، واختصهم بتفضيلهم بإرسالهم إلى الخلق، < 1-186 > ودعوتهم إلى الله تعالى ( وَالصِّدِّيقِين َ ) وهم: الذين كمل تصديقهم بما جاءت به الرسل، فعلموا الحق وصدقوه بيقينهم، وبالقيام به قولا وعملا وحالا ودعوة إلى الله، ( وَالشُّهَدَاءِ ) الذين قاتلوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله فقتلوا، ( وَالصَّالِحِينَ ) الذين صلح ظاهرهم وباطنهم فصلحت أعمالهم، فكل من أطاع الله تعالى كان مع هؤلاء في صحبتهم ( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) بالاجتماع بهم في جنات النعيم والأنْس بقربهم في جوار رب العالمين.
( ذَلِكَ الْفَضْلُ ) الذي نالوه ( مِنَ اللَّهِ ) فهو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه، وأعطاهم من الثواب ما لا تبلغه أعمالهم.
( وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ) يعلم أحوال عباده ومن يستحق منهم الثواب الجزيل، بما قام به من الأعمال الصالحة التي تواطأ عليها القلب والجوارح.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يأمر تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم من أعدائهم الكافرين. وهذا يشمل الأخذ بجميع الأسباب، التي بها يستعان على قتالهم ويستدفع مكرهم وقوتهم، من استعمال الحصون والخنادق، وتعلم الرمي والركوب، وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك، وما به يعرف مداخلهم، ومخارجهم، ومكرهم، والنفير في سبيل الله.
ولهذا قال: ( فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ ) أي: متفرقين بأن تنفر سرية أو جيش، ويقيم غيرهم ( أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ) وكل هذا تبع للمصلحة والنكاية، والراحة للمسلمين في دينهم، وهذه الآية نظير قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ثم أخبر عن ضعفاء الإيمان المتكاسلين عن الجهاد فقال: ( وَإِنَّ مِنْكُمْ ) أي: أيها المؤمنون ( لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ) أي: يتثاقل عن الجهاد في سبيل الله ضعفا وخورا وجبنا، هذا الصحيح.
وقيل معناه: ليبطئن غيرَه أي: يزهده عن القتال، وهؤلاء هم المنافقون، ولكن الأول أَولى لوجهين:
أحدهما: قوله ( مِنْكُمْ ) والخطاب للمؤمنين.
والثاني: قوله في آخر الآية: ( كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ) فإن الكفار من المشركين والمنافقين قد قطع الله بينهم وبين المؤمنين المودة. وأيضا فإن هذا هو الواقع، فإن المؤمنين على قسمين:
صادقون في إيمانهم أوجب لهم ذلك كمال التصديق والجهاد.
وضعفاء دخلوا في الإسلام فصار معهم إيمان ضعيف لا يقوى على الجهاد.
كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر الآيات. ثم ذكر غايات هؤلاء المتثاقلين ونهاية مقاصدهم، وأن معظم قصدهم الدنيا وحطامها فقال: ( فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ) أي: هزيمة وقتل، وظفر الأعداء عليكم في بعض الأحوال لما لله في ذلك من الحكم. ( قَالَ ) ذلك المتخلف ( قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ) رأى من ضعف عقله وإيمانه أن التقاعد عن الجهاد الذي فيه تلك المصيبة نعمة. ولم يدر أن النعمة الحقيقية هي التوفيق لهذه الطاعة الكبيرة، التي بها يقوى الإيمان، ويسلم بها العبد من العقوبة والخسران، ويحصل له فيها عظيم الثواب ورضا الكريم الوهاب.
وأما القعود فإنه وإن استراح قليلا فإنه يعقبه تعب طويل وآلام عظيمة، ويفوته ما يحصل للمجاهدين.
ثم قال: ( وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ ) أي: نصر وغنيمة ( لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ) أي: يتمنى أنه حاضر لينال من المغانم، ليس له رغبة ولا قصد في غير ذلك، كأنه ليس منكم يا معشر المؤمنين ولا بينكم وبينه المودة الإيمانية التي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg من مقتضاها أن المؤمنين مشتركون في جميع مصالحهم ودفع مضارهم، يفرحون بحصولها ولو على يد غيرهم من إخوانهم المؤمنين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ويألمون بفقدها، ويسعون جميعا في كل أمر يصلحون به دينهم ودنياهم، فهذا الذي يتمنى الدنيا فقط، ليست معه الروح الإيمانية المذكورة.
ومن لطف الله بعباده أن لا يقطع عنهم رحمته، ولا يغلق عنهم أبوابها. بل من حصل منه غير ما يليق أمره ودعاه إلى جبر نقصه وتكميل نفسه، < 1-187 > فلهذا أمر هؤلاء بالإخلاص والخروج في سبيله فقال: ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ) هذا أحد الأقوال في هذه الآية وهو أصحها.
وقيل: إن معناه: فليقاتل في سبيل الله المؤمنون الكاملو الإيمان، الصادقون في إيمانهم ( الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ) أي: يبيعون الدنيا رغبة عنها بالآخرة رغبة فيها.
فإن هؤلاء الذين يوجه إليهم الخطاب لأنهم الذين قد أعدوا أنفسهم ووطَّنوها على جهاد الأعداء، لما معهم من الإيمان التام المقتضي لذلك.
وأما أولئك المتثاقلون، فلا يعبأ بهم خرجوا أو قعدوا، فيكون هذا نظير قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر الآيات. وقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وقيل: إن معنى الآية: فليقاتل المقاتل والمجاهد للكفار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، فيكون على هذا الوجه "الذين" في محل نصب على المفعولية.
( وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) بأن يكون جهادا قد أمر الله به ورسوله، ويكون العبد مخلصا لله فيه قاصدا وجه الله. ( فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) زيادة في إيمانه ودينه، وغنيمة، وثناء حسنا، وثواب المجاهدين في سبيل الله الذين أعد الله لهم في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ابو وليد البحيرى
2019-03-03, 10:13 PM
الحلقة (90)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(75)الى الأية(79)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَ فِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا حث من الله لعباده المؤمنين وتهييج لهم على القتال في سبيله، وأن ذلك قد تعين عليهم، وتوجه اللوم العظيم عليهم بتركه، فقال: ( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) والحال أن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ومع هذا فقد نالهم أعظم الظلم من أعدائهم، فهم يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها لأنفسهم بالكفر والشرك، وللمؤمنين بالأذى والصد عن سبيل الله، ومنعهم من الدعوة لدينهم والهجرة.
ويدعون الله أن يجعل لهم وليًّا ونصيرًا يستنقذهم من هذه القرية الظالم أهلها، فصار جهادكم على هذا الوجه من باب القتال والذب عن عيلاتكم وأولادكم ومحارمكم، لا من باب الجهاد الذي هو الطمع في الكفار، فإنه وإن كان فيه فضل عظيم ويلام المتخلف عنه أعظم اللوم، فالجهاد الذي فيه استنقاذ المستضعفين منكم أعظم أجرًا وأكبر فائدة، بحيث يكون من باب دفع الأعداء.

ثم قال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا إخبار من الله بأن المؤمنين يقاتلون في سبيله ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ) الذي هو الشيطان. في ضمن ذلك عدة فوائد:
منها: أنه بحسب إيمان العبد يكون جهاده في سبيل الله، وإخلاصه ومتابعته. فالجهاد في سبيل الله من آثار الإيمان ومقتضياته ولوازمه، كما أن القتال في سبيل الطاغوت من شعب الكفر ومقتضياته.
ومنها: أن الذي يقاتل في سبيل الله ينبغي له ويحسن منه من الصبر والجلد ما لا يقوم به غيره، فإذا كان أولياء الشيطان يصبرون ويقاتلون وهم على باطل، فأهل الحق أولى بذلك، كما قال تعالى في هذا المعنى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآية.
ومنها: أن الذي يقاتل في سبيل الله معتمد على ركن وثيق، وهو الحق، والتوكل على الله. فصاحب القوة والركن الوثيق يطلب منه من الصبر والثبات والنشاط ما لا يطلب ممن يقاتل عن الباطل، الذي لا حقيقة له ولا عاقبة حميدة. فلهذا قال تعالى: ( فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ) .
والكيد: سلوك الطرق الخفية في ضرر العدو، فالشيطان وإن بلغ مَكْرُهُ مهما بلغ فإنه في غاية الضعف، الذي لا يقوم لأدنى شيء من الحق ولا لكيد الله لعباده المؤمنين.


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ (78) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . كان المسلمون -إذ كانوا بمكة- مأمورين بالصلاة والزكاة أي: مواساة الفقراء، لا الزكاة المعروفة ذات النصب والشروط، فإنها لم تفرض إلا بالمدينة، ولم يؤمروا بجهاد الأعداء لعدة فوائد:
منها: أن من حكمة الباري تعالى أن يشرع لعباده الشرائع على وجه لا يشق < 1-188 > عليهم؛ ويبدأ بالأهم فالأهم، والأسهل فالأسهل.
ومنها: أنه لو فرض عليهم القتال -مع قلة عَدَدِهِم وعُدَدِهِم وكثرة أعدائهم- لأدى ذلك إلى اضمحلال الإسلام، فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها ولغير ذلك من الحِكَم.
وكان بعض المؤمنين يودون أن لو فرض عليهم القتال في تلك الحال، غير اللائق فيها ذلك، وإنما اللائق فيها القيام بما أمروا به في ذلك الوقت من التوحيد والصلاة والزكاة ونحو ذلك كما قال تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ) فلما هاجروا إلى المدينة وقوي الإسلام، كُتب عليهم القتال في وقته المناسب لذلك، فقال فريق من الذين يستعجلون القتال قبل ذلك خوفا من الناس وضعفا وخورا: ( رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ ) ؟ وفي هذا تضجرهم واعتراضهم على الله، وكان الذي ينبغي لهم ضد هذه الحال، التسليم لأمر الله والصبر على أوامره، فعكسوا الأمر المطلوب منهم فقالوا: ( لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ) أي: هلا أخرت فرض القتال مدة متأخرة عن الوقت الحاضر، وهذه الحال كثيرًا ما تعرض لمن هو غير رزين واستعجل في الأمور قبل وقتها، فالغالب عليه أنه لا يصبر عليها وقت حلولها ولا ينوء بحملها، بل يكون قليل الصبر. ثم إن الله وعظهم عن هذه الحال التي فيها التخلف عن القتال فقال: ( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى ) أي: التمتع بلذات الدنيا وراحتها قليل، فتحمل الأثقال في طاعة الله في المدة القصيرة مما يسهل على النفوس ويخف عليها؛ لأنها إذا علمت أن المشقة التي تنالها لا يطول لبثها هان عليها ذلك، فكيف إذا وازنت بين الدنيا والآخرة، وأن الآخرة خير منها، في ذاتها، ولذاتها وزمانها، فذاتها -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه- "أن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها" .ولذاتها صافية عن المكدرات، بل كل ما خطر بالبال أو دار في الفكر من تصور لذة، فلذة الجنة فوق ذلك كما قال تعالى: ( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) وقال الله على لسان نبيه: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" .
وأما لذات الدنيا فإنها مشوبة بأنواع التنغيص الذي لو قوبل بين لذاتها وما يقترن بها من أنواع الآلام والهموم والغموم، لم يكن لذلك نسبة بوجه من الوجوه.
وأما زمانها، فإن الدنيا منقضية، وعمر الإنسان بالنسبة إلى الدنيا شيء يسير، وأما الآخرة فإنها دائمة النعيم وأهلها خالدون فيها، فإذا فكّر العاقل في هاتين الدارين وتصور حقيقتهما حق التصور، عرف ما هو أحق بالإيثار، والسعي له والاجتهاد لطلبه، ولهذا قال: ( وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى ) أي: اتقى الشرك، وسائر المحرمات. ( وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا ) أي: فسعيكم للدار الآخرة ستجدونه كاملا موفرًا غير منقوص منه شيئًا.
ثم أخبر أنه لا يغني حذر عن قدر، وأن القاعد لا يدفع عنه قعوده شيئًا، فقال: ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُّمُ الْمَوْتُ ) أي: في أي زمان وأي مكان. ( وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) أي: قصور منيعة ومنازل رفيعة، وكل هذا حث على الجهاد في سبيل الله تارة بالترغيب في فضله وثوابه، وتارة بالترهيب من عقوبة تركه، وتارة بالإخبار أنه لا ينفع القاعدين قعودُهم، وتارة بتسهيل الطريق في ذلك وقصرها.
ثم قال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن الذين لا يعلمون المعرضين عما جاءت به الرسل، المعارضين لهم أنهم إذا جاءتهم حسنة أي: خصب وكثرة أموال، وتوفر أولاد وصحة، قالوا: ( هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) وأنهم إن أصابتهم سيئة أي: جدب وفقر، ومرض وموت أولاد وأحباب قالوا: ( هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ) أي: بسبب ما جئتنا به يا محمد، تطيروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما تطير أمثالهم برسل الله، كما أخبر الله عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وقال قوم صالح: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وقال قوم ياسين لرسلهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُ مْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآية. فلما تشابهت قلوبهم بالكفر تشابهت أقوالهم وأعمالهم. وهكذا كل من نسب حصول الشر أو زوال الخير لما جاءت به الرسل أو لبعضه فهو داخل في هذا الذم الوخيم.
قال الله في جوابهم: ( قُلْ كُلٌّ ) أي: من الحسنة والسيئة والخير والشر. ( مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) أي: بقضائه < 1-189 > وقدره وخلقه. ( فَمَا لهَؤُلاءِ الْقَوْم ) أي: الصادر منهم تلك المقالة الباطلة. ( لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ) أي: لا يفهمون حديثا بالكلية ولا يقربون من فهمه، أو لا يفهمون منه إلا فهمًا ضعيفًا، وعلى كل فهو ذم لهم وتوبيخ على عدم فهمهم وفقههم عن الله وعن رسوله، وذلك بسبب كفرهم وإعراضهم.
وفي ضمن ذلك مدْح من يفهم عن الله وعن رسوله، والحث على ذلك، وعلى الأسباب المعينة على ذلك، من الإقبال على كلامهما وتدبره، وسلوك الطرق الموصلة إليه. فلو فقهوا عن الله لعلموا أن الخير والشر والحسنات والسيئات كلها بقضاء الله وقدره، لا يخرج منها شيء عن ذلك.
وأن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكونون سببا لشر يحدث، هم ولا ما جاءوا به لأنهم بعثوا بصلاح الدنيا والآخرة والدين.
ثم قال تعالى: ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ ) أي: في الدين والدنيا ( فَمِنَ اللَّهِ ) هو الذي مَنَّ بها ويسرها بتيسير أسبابها. ( وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ ) في الدين والدنيا ( فَمِنْ نَفْسِكَ ) أي: بذنوبك وكسبك، وما يعفو الله عنه أكثر.
فالله تعالى قد فتح لعباده أبواب إحسانه وأمرهم بالدخول لبره وفضله، وأخبرهم أن المعاصي مانعة من فضله، فإذا فعلها العبد فلا يلومن إلا نفسه فإنه المانع لنفسه عن وصول فضل الله وبره.
ثم أخبر عن عموم رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) على أنك رسول الله حقا بما أيدك بنصره والمعجزات الباهرة والبراهين الساطعة، فهي أكبر شهادة على الإطلاق، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فإذا علم أن الله تعالى كامل العلم، تام القدرة عظيم الحكمة، وقد أيد الله رسوله بما أيده، ونصره نصرا عظيما، تيقن بذلك أنه رسول الله، وإلا فلو تقول عليه بعض الأقاويل لأخذ منه باليمين، ثم لقطع منه الوتين.

ابو وليد البحيرى
2019-03-03, 10:19 PM
الحلقة (91)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(80)الى الأية(86)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (81) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: كل مَنْ أطاع رسول الله في أوامره ونواهيه ( فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) تعالى لكونه لا يأمر ولا ينهى إلا بأمر الله وشرعه ووحيه وتنزيله، وفي هذا عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله أمر بطاعته مطلقا، فلولا أنه معصوم في كل ما يُبَلِّغ عن الله لم يأمر بطاعته مطلقا، ويمدح على ذلك. وهذا من الحقوق المشتركة فإن الحقوق ثلاثة:
حق لله تعالى لا يكون لأحد من الخلق، وهو عبادة الله والرغبة إليه، وتوابع ذلك.
وقسم مختص بالرسول، وهو التعزير والتوقير والنصرة.
وقسم مشترك، وهو الإيمان بالله ورسوله ومحبتهما وطاعتهما، كما جمع الله بين هذه الحقوق في قوله: ( لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ) فمَنْ أطاع الرسول فقد أطاع الله، وله من الثواب والخير ما رتب على طاعة الله ( وَمَنْ تَوَلَّى ) عن طاعة الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئًا ( فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ) أي: تحفظ أعمالهم وأحوالهم، بل أرسلناك مبلغا ومبينا وناصحا، وقد أديت وظيفتك، ووجب أجرك على الله، سواء اهتدوا أم لم يهتدوا. كما قال تعالى: ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) الآيات
ولا بد أن تكون طاعة الله ورسوله ظاهرًا وباطنًا في الحضرة والمغيب فأما مَنْ يظهر في الحضرة والطاعة والالتزام فإذا خلا بنفسه أو أبناء جنسه ترك الطاعة وأقبل على ضدها فإن الطاعة التي أظهرها غير نافعة ولا مفيدة وقد أشبه من قال الله فيهم ( وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ ) أي يظهرون الطاعة إذا كانوا عندك ( فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ ) أي خرجوا وخلوا في حالة لا يطلع فيها عليهم ( بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) أي بيتوا ودبروا غير طاعتك ولا ثَمَّ إلا المعصية
وفي قوله ( بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) دليل على أن الأمر الذي استقروا عليه غير الطاعة؛ لأن التبييت تدبير الأمر ليلا على وجه يستقر عليه الرأي ثم توعدهم على ما فعلوا فقال ( وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ) أي يحفظه عليهم وسيجازيهم عليه أتم الجزاء ففيه وعيد لهم
ثم أمر رسوله بمقابلتهم بالإعراض وعدم التعنيف فإنهم لا يضرونه شيئا إذا توكل على الله واستعان به في نصر دينه وإقامة شرعه ولهذا قال ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ).
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا (82) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
يأمر تعالى بتدبر كتابه، وهو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم، < 1-190 > ذلك فإن تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته. فإنه يعرِّف بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال; وما ينزه عنه من سمات النقص، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب.
وكلما ازداد العبد تأملا فيه ازداد علما وعملا وبصيرة، لذلك أمر الله بذلك وحث عليه وأخبر أنه [هو] المقصود بإنزال القرآن، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وقال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضا، ويوافق بعضه بعضا. فترى الحكم والقصة والإخبارات تعاد في القرآن في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضا، فبذلك يعلم كمال القرآن وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور، فلذلك قال تعالى: ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) أي: فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلا.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا (83) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق. وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك. وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: ( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ ) أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لافيحجم عنه؟
ثم قال تعالى: ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ) أي: في توفيقكم وتأديبكم، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون، ( لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا ) لأن الإنسان بطبعه ظالم جاهل، فلا تأمره نفسه إلا بالشر. فإذا لجأ إلى ربه واعتصم به واجتهد في ذلك، لطف به ربه ووفقه لكل خير، وعصمه من الشيطان الرجيم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا (84) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذه الحالة أفضل أحوال العبد، أن يجتهد في نفسه على امتثال أمر الله من الجهاد وغيره، ويحرض غيره عليه، وقد يعدم في العبد الأمران أو أحدهما فلهذا قال لرسوله: ( فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ ) أي: ليس لك http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg قدرة على غير نفسك، فلن تكلف بفعل غيرك. ( وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ) على القتال، وهذا يشمل كل أمر يحصل به نشاط المؤمنين وقوة قلوبهم، من تقويتهم والإخبار بضعف الأعداء وفشلهم، وبما أُعد للمقاتلين من الثواب، وما على المتخلفين من العقاب، فهذا وأمثاله كله يدخل في التحريض على القتال.
( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: بقتالكم في سبيل الله، وتحريض بعضكم بعضًا. ( وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا ) أي: قوة وعزة ( وَأَشَدُّ تَنْكِيلا ) بالمذنب في نفسه، وتنكيلا لغيره، فلو شاء تعالى لانتصر من الكفار بقوته ولم يجعل لهم باقية.
ولكن من حكمته يبلو بعض عباده ببعض ليقوم سوق الجهاد، ويحصل الإيمان النافع، إيمان الاختيار، لا إيمان الاضطرار والقهر الذي لا يفيد شيئا.
< 1-191 >
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . المراد بالشفاعة هنا: المعاونة على أمر من الأمور، فمن شفع غيره وقام معه على أمر من أمور الخير -ومنه الشفاعة للمظلومين لمن ظلمهم- كان له نصيب من شفاعته بحسب سعيه وعمله ونفعه، ولا ينقص من أجر الأصيل والمباشر شيء، ومَنْ عاون غيره على أمر من الشر كان عليه كفل من الإثم بحسب ما قام به وعاون عليه. ففي هذا الحث العظيم على التعاون على البر والتقوى، والزجر العظيم عن التعاون على الإثم والعدوان، وقرر ذلك بقوله: ( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ) أي: شاهدًا حفيظًا حسيبًا على هذه الأعمال، فيجازي كُلا ما يستحقه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

التحية هي: اللفظ الصادر من أحد المتلاقيين على وجه الإكرام والدعاء، وما يقترن بذلك اللفظ من البشاشة ونحوها.
وأعلى أنواع التحية ما ورد به الشرع، من السلام ابتداء وردًّا. فأمر تعالى المؤمنين أنهم إذا حُيّوا بأي تحية كانت، أن يردوها بأحسن منها لفظا وبشاشة، أو مثلها في ذلك. ومفهوم ذلك النهي عن عدم الرد بالكلية أو ردها بدونها.

ويؤخذ من الآية الكريمة الحث على ابتداء السلام والتحية من وجهين:
أحدهما: أن الله أمر بردها بأحسن منها أو مثلها، وذلك يستلزم أن التحية مطلوبة شرعًا.
الثاني: ما يستفاد من أفعل التفضيل وهو "أحسن" الدال على مشاركة التحية وردها بالحسن، كما هو الأصل في ذلك.
ويستثنى من عموم الآية الكريمة من حيَّا بحال غير مأمور بها، كـ "على مشتغل بقراءة، أو استماع خطبة، أو مصلٍ ونحو ذلك" فإنه لا يطلب إجابة تحيته، وكذلك يستثنى من ذلك من أمر الشارع بهجره وعدم تحيته، وهو العاصي غير التائب الذي يرتدع بالهجر، فإنه يهجر ولا يُحيّا، ولا تُرد تحيته، وذلك لمعارضة المصلحة الكبرى.
ويدخل في رد التحية كل تحية اعتادها الناس وهي غير محظورة شرعًا، فإنه مأمور بردّها وبأحسن منها، ثم أوعد تعالى وتوعد على فعل الحسنات والسيئات بقوله: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ) فيحفظ على العباد أعمالهم، حسنها وسيئها، صغيرها وكبيرها، ثم يجازيهم بما اقتضاه فضله وعدله وحكمه المحمود.

ابو وليد البحيرى
2019-03-03, 10:27 PM
الحلقة (92)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(87)الى الأية(91)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُ مْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن انفراده بالوحدانية وأنه لا معبود ولا مألوه إلا هو، لكماله في ذاته وأوصافه ولكونه المنفرد بالخلق والتدبير، والنعم الظاهرة والباطنة.
وذلك يستلزم الأمر بعبادته والتقرب إليه بجميع أنواع العبودية. لكونه المستحق لذلك وحده والمجازي للعباد بما قاموا به من عبوديته أو تركوه منها، ولذلك أقسم على وقوع محل الجزاء وهو يوم القيامة، فقال: ( لَيَجْمَعَنَّكُ مْ ) أي: أولكم وآخِركم في مقام واحد.
في ( يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) أي: لا شك ولا شبهة بوجه من الوجوه، بالدليل العقلي والدليل السمعي، فالدليل العقلي ما نشاهده من إحياء الأرض بعد موتها، ومن وجود النشأة الأولى التي وقوع الثانية أَوْلى منها بالإمكان، ومن الحكمة التي تجزم بأن الله لم يخلق خلقه عبثًا، يحيون ثم يموتون. وأما الدليل السمعي فهو إخبار أصدق الصادقين بذلك، بل إقسامه عليه ولهذا قال: ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ) كذلك أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم عليه في غير موضع من القرآن، كقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وفي قوله: ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إخبار بأن حديثه وأخباره وأقواله في أعلى مراتب الصدق، بل أعلاها. فكل ما قيل في العقائد [والعلوم] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg والأعمال مما يناقض ما أخبر الله به، فهو باطل لمناقضته للخبر الصادق اليقين، فلا يمكن أن يكون حقًّا.
< 1-192 >
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (89) إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُم ْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg المراد بالمنافقين المذكورين في هذه الآيات: المنافقون المظهرون إسلامهم، ولم يهاجروا مع كفرهم، وكان قد وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم فيهم اشتباه، فبعضهم تحرج عن قتالهم، وقطع موالاتهم بسبب ما أظهروه من الإيمان، وبعضهم علم أحوالهم بقرائن أفعالهم فحكم بكفرهم. فأخبرهم الله تعالى أنه لا ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا، بل أمرهم واضح غير مشكل، إنهم منافقون قد تكرر كفرهم، وودوا مع ذلك كفركم وأن تكونوا مثلهم. فإذا تحققتم ذلك منهم ( فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ ) وهذا يستلزم عدم محبتهم لأن الولاية فرع المحبة.
ويستلزم أيضا بغضهم وعداوتهم لأن النهي عن الشيء أمر بضده، وهذا الأمر موقت بهجرتهم فإذا هاجروا جرى عليهم ما جرى على المسلمين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجري أحكام الإسلام لكل مَنْ كان معه وهاجر إليه، وسواء كان مؤمنا حقيقة أو ظاهر الإيمان.
وأنهم إن لم يهاجروا وتولوا عنها ( فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) أي: في أي وقت وأي محل كان، وهذا من جملة الأدلة الدالة على نسخ القتال في الأشهر الحرم، كما هو قول جمهور العلماء، والمنازعون يقولون: هذه نصوص مطلقة، محمولة على تقييد التحريم في الأشهر الحرم.
ثم إن الله استثنى من قتال هؤلاء المنافقين ثلاث فِرَق:
فرقتين أمر بتركهم وحتَّم [على] ذلك، إحداهما http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg : من يصل إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق بترك القتال فينضم إليهم، فيكون له حكمهم في حقن الدم والمال.
والفرقة الثانية: قوم ( حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ) أي: بقوا، لا تسمح أنفسهم بقتالكم، ولا بقتال قومهم، وأحبوا ترك قتال الفريقين، فهؤلاء أيضا أمر بتركهم، وذكر الحكمة في ذلك في قوله: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُم ْ ) فإن الأمور الممكنة ثلاثة أقسام:
إما أن يكونوا معكم ويقاتلوا أعداءكم، وهذا متعذر من هؤلاء، فدار الأمر بين قتالكم مع قومهم وبين ترك قتال الفريقين، وهو أهون الأمرين عليكم، والله قادر على تسليطهم عليكم، فاقبلوا العافية، واحمدوا ربكم الذي كف أيديهم عنكم مع التمكن من ذلك.
(فَـ) هؤلاء ( إن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا ) .
الفرقة الثالثة: قوم يريدون مصلحة أنفسهم بقطع النظر عن احترامكم، وهم الذين قال الله فيهم: ( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ ) أي: من هؤلاء المنافقين. ( يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ ) أي: خوفا منكم ( وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا ) أي: لا يزالون مقيمين على كفرهم ونفاقهم، وكلما عرض لهم عارض من عوارض الفتن أعماهم ونكسهم على رءوسهم، وازداد كفرهم ونفاقهم، وهؤلاء في الصورة كالفرقة الثانية، وفي الحقيقة مخالفة لها.
فإن الفرقة الثانية تركوا قتال المؤمنين احترامًا لهم لا خوفا على أنفسهم، وأما هذه الفرقة فتركوه خوفا لا احتراما، بل لو وجدوا فرصة في قتال المؤمنين، فإنهم مستعدون http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لانتهازها، فهؤلاء إن لم يتبين منهم ويتضح اتضاحًا عظيمًا اعتزال المؤمنين وترك قتالهم، فإنهم يقاتلون، ولهذا قال: ( فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ) أي: المسالمة والموادعة ( وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ) أي: حجة بينة واضحة، لكونهم معتدين ظالمين لكم تاركين للمسالمة، فلا يلوموا إلا أنفسهم.

ابو وليد البحيرى
2019-03-08, 09:46 PM
الحلقة (93)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(92)الى الأية(94)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

هذه الصيغة من صيغ الامتناع، أي: يمتنع ويستحيل أن يصدر من مؤمن قتل مؤمن، أي: متعمدا، وفي هذا الإخبارُ بشدة تحريمه وأنه مناف للإيمان أشد منافاة، وإنما يصدر ذلك إما من كافر، أو من فاسق قد نقص إيمانه نقصا عظيما، ويخشى عليه ما هو أكبر من ذلك، فإن الإيمان الصحيح يمنع المؤمن من قتل أخيه الذي قد عقد الله بينه وبينه الأخوة الإيمانية التي من مقتضاها محبته وموالاته، وإزالة ما يعرض لأخيه من الأذى، وأي أذى أشد من القتل؟ وهذا يصدقه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"
< 1-193 > فعلم أن القتل من الكفر العملي وأكبر الكبائر بعد الشرك بالله. ولما كان قوله: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا ) لفظا عاما لجميع الأحوال، وأنه لا يصدر منه قتل أخيه بوجه من الوجوه، استثنى تعالى قتل الخطأ فقال: ( إِلا خَطَأً ) فإن المخطئ الذي لا يقصد القتل غير آثم، ولا مجترئ على محارم الله، ولكنه لما كان قد فعل فعلا شنيعًا وصورته كافية في قبحه وإن لم يقصده أمر تعالى بالكفارة والدية فقال: ( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً ) سواء كان القاتل ذكرًا أو أنثى حرًّا أو عبدًا، صغيرًا أو كبيرًا، عاقلا أو مجنونًا، مسلمًا أو كافرًا، كما يفيده لفظ "مَنْ" الدالة على العموم وهذا من أسرار الإتيان بـ "مَنْ" في هذا الموضع، فإن سياق الكلام يقتضي أن يقول: فإن قتله، ولكن هذا لفظ لا يشمل ما تشمله "مَنْ"
وسواء كان المقتول ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، كما يفيده التنكير في سياق الشرط، فإن على القاتل ( تحرير رقبة مؤمنة ) كفارة لذلك، تكون في ماله، ويشمل ذلك الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والصحيح والمعيب، في قول بعض العلماء.
ولكن الحكمة تقتضي أن لا يجزئ عتق المعيب في الكفارة؛ لأن المقصود بالعتق نفع العتيق، وملكه منافع نفسه، فإذا كان يضيع بعتقه، وبقاؤه في الرق أنفع له فإنه لا يجزئ عتقه، مع أن في قوله: ( تحرير رقبة ) ما يدل على ذلك؛ فإن التحرير: تخليص من استحقت منافعه لغيره أن تكون له، فإذا لم يكن فيه منافع لم يتصور وجود التحرير. فتأمل ذلك فإنه واضح.
وأما الدية فإنها تجب على عاقلة القاتل في الخطأ وشبه العمد. ( مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ) جبرًا لقلوبهم، والمراد بأهله هنا هم ورثته، فإن الورثة يرثون ما ترك، الميت، فالدية داخلة فيما ترك وللدية تفاصيل كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
وقوله: ( إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا ) أي: يتصدق ورثة القتيل بالعفو عن الدية، فإنها تسقط، وفي ذلك حث لهم على العفو لأن الله سماها صدقة، والصدقة مطلوبة في كل وقت. ( فَإِنْ كَانَ ) المقتول ( مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ ) أي: من كفار حربيين ( وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) أي: وليس عليكم لأهله دية، لعدم احترامهم في دمائهم وأموالهم.
( وَإِنْ كَانَ ) المقتول ( مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) وذلك لاحترام أهله بما لهم من العهد والميثاق.
( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ) الرقبة ولا ثمنها، بأن كان معسرا بذلك، ليس عنده ما يفضل عن مؤنته وحوائجه الأصلية شيء يفي بالرقبة، ( فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ) أي: لا يفطر بينهما من غير عذر، فإن أفطر لعذر فإن العذر لا يقطع التتابع، كالمرض والحيض ونحوهما. وإن كان لغير عذر انقطع التتابع ووجب عليه استئناف الصوم.
( تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ ) أي: هذه الكفارات التي أوجبها الله على القاتل توبة من الله على عباده ورحمة بهم، وتكفير لما عساه أن يحصل منهم من تقصير وعدم احتراز، كما هو واقع كثيرًا للقاتل خطأ.
( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) أي: كامل العلم كامل الحكمة، لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، في أي وقت كان وأي محل كان.
ولا يخرج عن حكمته من المخلوقات والشرائع شيء، بل كل ما خلقه وشرعه فهو متضمن لغاية الحكمة، ومن علمه وحكمته أن أوجب على القاتل كفارة مناسبة لما صدر منه، فإنه تسبب لإعدام نفس محترمة، وأخرجها من الوجود إلى العدم، فناسب أن يعتق رقبة ويخرجها من رق العبودية للخلق إلى الحرية التامة، فإن لم يجد هذه الرقبة صام شهرين متتابعين، فأخرج نفسه من رق الشهوات واللذات الحسية القاطعة للعبد عن سعادته الأبدية إلى التعبد لله تعالى بتركها تقربا إلى الله.
ومدها تعالى بهذه المدة الكثيرة الشاقة في عددها ووجوب التتابع فيها، ولم يشرع الإطعام في هذا الموضع لعدم المناسبة. بخلاف الظهار، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومن حكمته أن أوجب في القتل الدية ولو كان خطأ، لتكون رادعة وكافة عن كثير من القتل باستعمال الأسباب العاصمة عن ذلك.
ومن حكمته أن وجبت على العاقلة في قتل الخطأ، بإجماع العلماء، لكون القاتل لم يذنب فيشق عليه أن يحمل هذه الدية الباهظة، فناسب أن يقوم بذلك من بينه وبينهم المعاونة والمناصرة والمساعدة على تحصيل المصالح وكف المفاسد [ولعل ذلك من أسباب منعهم لمن يعقلون عنه من القتل حذرًا من تحميلهم] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ويخف عنهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg بسبب توزيعه عليهم بقدر أحوالهم وطاقتهم، وخففت أيضا بتأجيلها عليهم ثلاث سنين.

ومن حكمته وعلمه أن جبر أهل القتيل عن مصيبتهم، بالدية التي أوجبها على أولياء القاتل.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

تقدم أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن، وأن القتل من الكفر العملي، وذكر هنا وعيد القاتل عمدا، وعيدا ترجف له القلوب وتنصدع له الأفئدة، وتنزعج منه أولو العقول.
فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو < 1-194 > الإخبار بأن جزاءه جهنم، أي: فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم، بما فيها من العذاب العظيم، والخزي المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار. فعياذًا بالله من كل سبب يبعد عن رحمته.
وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد، على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار، أو حرمان الجنة.
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في تأويلها مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين. والصواب في تأويلها ما قاله الإمام المحقق: شمس الدين بن القيم رحمه الله في "المدارج" فإنه قال - بعدما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال: وقالت فِرقَة: هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه.
وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها، وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع، وبعضها بالنص. فالتوبة مانع بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها، والحسنات العظيمة الماحية مانعة، والمصائب الكبار المكفرة مانعة، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين.
ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات، اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه، وإعمالا لأرجحها.
قالوا: وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما. وعلى هذا بناء الأحكام الشرعية والأحكام القدرية، وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا، وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ويقاومه، ويكون الحكم للأغلب منهما.
فالقوة مقتضية للصحة والعافية، وفساد الأخلاط وبغيها مانع من عمل الطبيعة، وفعل القوة والحكم للغالب منهما، وكذلك قوى الأدوية والأمراض. والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب، وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه، فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له.
ومِنْ هنا يعلم انقسام الخلق إلى مَنْ يدخل الجنة ولا يدخل النار، وعكسه، ومَنْ يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه. ومن له بصيرة منورة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله، حتى كأنه يشاهده رأي عين.
ويعلم أن هذا هو مقتضى إلهيته سبحانه، وربوبيته وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك، ونسبة ذلك إليه نسبة ما لا يليق به إليه، فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره.
وهذا يقين الإيمان، وهو الذي يحرق السيئات، كما تحرق النار الحطب، وصاحب هذا المقام من الإيمان يستحيل إصراره على السيئات، وإن وقعت منه وكثرت، فإن ما معه من نور الإيمان يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه، وهذا من أحب الخلق إلى الله. انتهى كلامه قدس الله روحه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة. فإن الأمور قسمان: واضحة وغير واضحة. فالواضحة البيِّنة لا تحتاج إلى تثبت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل. وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين، ليعرف هل يقدم عليها أم لا؟
فإن التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف لشرور عظيمة، ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg قبل أن يتبين له حكمها، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي، كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية لمـَّا لم يتثبتوا وقتلوا من سلم عليهم، وكان معه غنيمة له أو مال غيره، ظنًّا أنه يستكفي بذلك قتلَهم، وكان هذا خطأ في نفس الأمر، فلهذا عاتبهم بقوله: ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ) أي: فلا يحملنكم العرض الفاني القليل على ارتكاب ما لا ينبغي فيفوتكم ما عند الله من الثواب الجزيل الباقي، فما عند الله خير وأبقى.
وفي هذا إشارة إلى أن العبد ينبغي له إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى حالة له فيها هوى وهي مضرة له، أن يُذَكِّرها ما أعد الله لمن نهى نفسه عن هواها، وقدَّم مرضاة الله على رضا نفسه، فإن في ذلك ترغيبًا للنفس في امتثال أمر الله، وإن شق ذلك عليها.

ثم قال تعالى مذكرًا لهم بحالهم الأولى، قبل هدايتهم إلى الإسلام: ( كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) أي: فكما هداكم بعد ضلالكم فكذلك يهدي غيركم، < 1-195 > وكما أن الهداية حصلت لكم شيئًا فشيئًا، فكذلك غيركم. فنظر الكامل لحاله الأولى الناقصة، ومعاملته لمن كان - على مثلها بمقتضى ما يعرف من حاله الأولى، ودعاؤه له بالحكمة والموعظة الحسنة - من أكبر الأسباب لنفعه وانتفاعه، ولهذا أعاد الأمر بالتبين فقال: ( فَتَبَيَّنُوا ) .
فإذا كان من خرج للجهاد في سبيل الله، ومجاهدة أعداء الله، وقد استعد بأنواع الاستعداد للإيقاع بهم، مأمورًا بالتبين لمن ألقى إليه السلام، وكانت القرينة قوية في أنه إنما سلم تعوذا من القتل وخوفا على نفسه - فإن ذلك يدل على الأمر بالتبين والتثبت في كل الأحوال التي يقع فيها نوع اشتباه، فيتثبت فيها العبد، حتى يتضح له الأمر ويتبين الرشد والصواب.
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) فيجازي كُلا ما عمله ونواه، بحسب ما علمه من أحوال عباده ونياتهم.

ابو وليد البحيرى
2019-03-08, 09:51 PM
الحلقة (94)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(95)الى الأية(101)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُو نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: لا يستوي من جاهد من المؤمنين بنفسه وماله ومن لم يخرج للجهاد ولم يقاتل أعداء الله، ففيه الحث على الخروج للجهاد، والترغيب في ذلك، والترهيب من التكاسل والقعود عنه من غير عذر.
وأما أهل الضرر كالمريض والأعمى والأعرج والذي لا يجد ما يتجهز به، فإنهم ليسوا بمنزلة القاعدين من غير عذر، فمن كان من أولي الضرر راضيًا بقعوده لا ينوي الخروج في سبيل الله لولا [وجود] المانع، ولا يُحَدِّث نفسه بذلك، فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر.
ومن كان عازمًا على الخروج في سبيل الله لولا وجود المانع يتمنى ذلك ويُحَدِّث به نفسه، فإنه بمنزلة من خرج للجهاد، لأن النية الجازمة إذا اقترن بها مقدورها من القول أو الفعل ينزل صاحبها منزلة الفاعل.
ثم صرَّح تعالى بتفضيل المجاهدين على القاعدين بالدرجة، أي: الرفعة، وهذا تفضيل على وجه الإجمال، ثم صرح بذلك على وجه التفصيل، ووعدهم بالمغفرة الصادرة من ربهم، والرحمة التي تشتمل على حصول كل خير، واندفاع كل شر.
والدرجات التي فصلها النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الثابت عنه في "الصحيحين" أن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله.
وهذا الثواب الذي رتبه الله على الجهاد، نظير الذي في سورة الصف في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) إلى آخر السورة
وتأمل حسن هذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها فإنه نفى التسوية أولا بين المجاهد وغيره ثم صرَّح بتفضيل المجاهد على القاعد بدرجة ثم انتقل إلى تفضيله بالمغفرة والرحمة والدرجات
وهذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها عند التفضيل والمدح أو النزول من حالة إلى ما دونها عند القدح والذم - أحسن لفظا وأوقع في النفس
وكذلك إذا فضَّل تعالى شيئا على شيء وكل منهما له فضل احترز بذكر الفضل الجامع للأمرين لئلا يتوهم أحد ذم المفضل عليه كما قال هنا ( وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ).
وكما قال تعالى في الآيات المذكورة في الصف في قوله ( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) وكما في قوله تعالى ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ) أي ممن لم يكن كذلك
ثم قال ( وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ) وكما قال تعالى ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ) فينبغي لمن بحث في التفضيل بين الأشخاص والطوائف والأعمال أن يتفطن لهذه النكتة
وكذلك لو تكلم في ذم الأشخاص والمقالات ذكر ما تجتمع فيه عند تفضيل بعضها على بعض لئلا يتوهم أن المفضَّل قد حصل له الكمال كما إذا قيل النصارى خير من المجوس فليقل مع ذلك وكل منهما كافر

والقتل أشنع من الزنا وكل منهما معصية كبيرة حرمها الله ورسوله وزجر عنها

ولما وعد المجاهدين بالمغفرة والرحمة الصادرَيْن عن اسميه الكريمين ( الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ختم هذا الآية بهما فقال ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ).

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلا الْمُسْتَضْعَفِ ينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم: ( فِيمَ كُنْتُمْ ) أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير، والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على أعدائهم.
( قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْض ) أي: ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قدرة على الهجرة. وهم غير صادقين في ذلك لأن الله وبخهم < 1-196 > وتوعدهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، واستثنى المستضعفين حقيقة.
ولهذا قالت لهم الملائكة: ( أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ) وهذا استفهام تقرير، أي: قد تقرر عند كل أحد أن أرض الله واسعة، فحيثما كان العبد في محل لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم: ( فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) وهذا كما تقدم، فيه ذكر بيان السبب الموجِب، فقد يترتب عليه مقتضاه، مع اجتماع شروطه وانتفاء موانعه، وقد يمنع من ذلك مانع.
وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من الكبائر، وفي الآية دليل على أن كل مَن توفي فقد استكمل واستوفى ما قدر له من الرزق والأجل والعمل، وذلك مأخوذ من لفظ "التوفي" فإنه يدل على ذلك، لأنه لو بقي عليه شيء من ذلك لم يكن متوفيًا.
وفيه الإيمان بالملائكة ومدحهم، لأن الله ساق ذلك الخطاب لهم على وجه التقرير والاستحسان منهم، وموافقته لمحله.
ثم استثنى المستضعفين على الحقيقة، الذين لا قدرة لهم على الهجرة بوجه من الوجوه ( وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا ) .
فهؤلاء قال الله فيهم: ( فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) و "عسى" ونحوها واجب وقوعها من الله تعالى بمقتضى كرمه وإحسانه، وفي الترجية بالثواب لمن عمل بعض الأعمال فائدة، وهو أنه قد لا يوفيه حق توفيته، ولا يعمله على الوجه اللائق الذي ينبغي، بل يكون مقصرًا فلا يستحق ذلك الثواب. والله أعلم.
وفي الآية الكريمة دليل على أن من عجز عن المأمور من واجب وغيره فإنه معذور، كما قال تعالى في العاجزين عن الجهاد: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وقال في عموم الأوامر: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ولكن لا يعذر الإنسان إلا إذا بذل جهده وانسدت عليه أبواب الحيل لقوله: ( لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ) وفي الآية تنبيه على أن الدليل في الحج والعمرة ونحوهما مما يحتاج إلى سفر من شروط الاستطاعة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته، أنه يجد مراغما في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا.
وذلك أن كثيرًا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاتًا بعد الألفة، وفقرًا بعد الغنى، وذلا بعد العز، وشدة بعد الرخاء.
والأمر ليس كذلك، فإن المؤمن ما دام بين أظهر المشركين فدينه في غاية النقص، لا في العبادات القاصرة عليه كالصلاة ونحوها، ولا في العبادات المتعدية كالجهاد بالقول والفعل، وتوابع ذلك، لعدم تمكنه من ذلك، وهو بصدد أن يفتن عن دينه، خصوصا إن كان مستضعفًا.
فإذا هاجر في سبيل الله تمكن من إقامة دين الله وجهاد أعداء الله ومراغمتهم، فإن المراغمة اسم جامع لكل ما يحصل به إغاظة لأعداء الله من قول وفعل، وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه، وقد وقع كما أخبر الله تعالى.
واعتبر ذلك بالصحابة رضي الله عنهم فإنهم لما هاجروا في سبيل الله وتركوا ديارهم وأولادهم وأموالهم لله، كمل بذلك إيمانهم وحصل لهم من الإيمان التام والجهاد العظيم والنصر لدين الله، ما كانوا به أئمة لمن بعدهم، وكذلك حصل لهم مما يترتب على ذلك من الفتوحات والغنائم، ما كانوا به أغنى الناس، وهكذا كل من فعل فعلهم، حصل له ما حصل لهم إلى يوم القيامة.
ثم قال: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) أي: قاصدا ربه ورضاه، ومحبة لرسوله ونصرًا لدين الله، لا لغير ذلك من المقاصد ( ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ ) بقتل أو غيره، ( فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) أي: فقد حصل له أجر المهاجر الذي أدرك مقصوده بضمان الله تعالى، وذلك لأنه نوى وجزم، وحصل منه ابتداء وشروع في العمل، فمن رحمة الله به وبأمثاله أن أعطاهم أجرهم كاملا ولو لم يكملوا العمل، وغفر لهم ما حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها.
ولهذا ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال: ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) يغفر للمؤمنين ما اقترفوه من الخطيئات، خصوصا التائبين المنيبين إلى ربهم.
< 1-197 > ( رَحِيمًا ) بجميع الخلق رحمة أوجدتهم وعافتهم ورزقتهم من المال والبنين والقوة، وغير ذلك. رحيمًا بالمؤمنين حيث وفقهم للإيمان، وعلمهم من العلم ما يحصل به الإيقان، ويسر لهم أسباب السعادة والفلاح وما به يدركون غاية الأرباح، وسيرون من رحمته وكرمه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فنسأل الله أن لا يحرمنا خيره بشر ما عندنا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هاتان الآيتان أصل في رخصة القصر، وصلاة الخوف، يقول تعالى: ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ ) أي: في السفر، وظاهر الآية [أنه] يقتضي الترخص http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg في أي سفر كان ولو كان سفر معصية، كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وخالف في ذلك الجمهور، وهم الأئمة الثلاثة وغيرهم، فلم يجوزوا الترخص http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg في سفر المعصية، تخصيصا للآية بالمعنى والمناسبة، فإن الرخصة سهولة من الله لعباده إذا سافروا أن يقصروا ويفطروا، والعاصي بسفره لا يناسب حاله التخفيف.
وقوله: ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) أي: لا حرج ولا إثم عليكم في ذلك، ولا ينافي ذلك كون القصر هو الأفضل، لأن نفي الحرج إزالة لبعض الوهم الواقع في كثير من النفوس، بل ولا ينافي الوجوب كما تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر الآية.
وإزالة الوهم في هذا الموضع ظاهرة، لأن الصلاة قد تقرر عند المسلمين وجوبها على هذه الصفة التامة، ولا يزيل هذا عن نفوس أكثرهم إلا بذكر ما ينافيه.
ويدل على أفضلية القصر على الإتمام أمران:
أحدهما: ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم على القصر في جميع أسفاره.
والثاني: أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته.
وقوله: ( أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) ولم يقل أن تقصروا الصلاة فيه فائدتان:
إحداهما: أنه لو قال أن تقصروا الصلاة لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود، فربما ظن أنه لو قصر معظم الصلاة وجعلها ركعة واحدة لأجزأ، فإتيانه بقوله: ( مِنَ الصَّلاةِ ) ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط، مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
الثانية: أن ( من ) تفيد التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات لا جميعها، فإن الفجر والمغرب لا يقصران وإنما الذي يقصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين.
فإذا تقرر أن القصر في السفر رخصة، فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد، وهو قوله: ( إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) الذي يدل ظاهره أن القصر لا يجوز إلا بوجود الأمرين كليهما، السفر مع الخوف.
ويرجع حاصل اختلافهم إلى أنه هل المراد بقوله: ( أَنْ تَقْصُرُوا ) قصر العدد فقط؟ أو قصر العدد والصفة؟ فالإشكال إنما يكون على الوجه الأول.
وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لنا نقصر الصلاة وقد أمِنَّا؟ أي: والله يقول: ( إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" أو كما قال.
فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظرا لغالب الحال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليها، فإن غالب أسفاره أسفار جهاد.
وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة والمصلحة في مشروعية رخصة القصر، فبيَّن في هذه الآية أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة، وهي اجتماع السفر والخوف، ولا يستلزم ذلك أن لا يقصر مع السفر وحده، الذي هو مظنة المشقة.

وأما على الوجه الثاني، وهو أن المراد بالقصر: قصر العدد والصفة فإن القيد على بابه، فإذا وجد السفر والخوف، جاز قصر العدد، وقصر الصفة، وإذا وجد السفر وحده جاز < 1-198 > قصر العدد فقط، أو الخوف وحده جاز قصر الصفة ولذلك أتى بصفة صلاة الخوف بعدها بقوله:

ابو وليد البحيرى
2019-03-08, 09:56 PM
الحلقة (95)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(102الى الأية(105)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُم ْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُم ْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) أي: صليت بهم صلاة تقيمها وتتم ما يجب فيها ويلزم، فعلمهم ما ينبغي لك ولهم فعله.
ثم فسَّر ذلك بقوله: ( فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ) أي: وطائفة قائمة بإزاء العدو كما يدل على ذلك ما يأتي: ( فَإِذَا سَجَدُوا ) أي: الذين معك أي: أكملوا صلاتهم وعبر عن الصلاة بالسجود ليدل على فضل السجود، وأنه ركن من أركانها، بل هو أعظم أركانها.
( فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا ) وهم الطائفة الذين قاموا إزاء العدو ( فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ) ودل ذلك على أن الإمام يبقى بعد انصراف الطائفة الأولى منتظرا للطائفة الثانية، فإذا حضروا صلى بهم ما بقي من صلاته ثم جلس ينتظرهم حتى يكملوا صلاتهم، ثم يسلم بهم وهذا أحد الوجوه في صلاة الخوف.
فإنها صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة كلها جائزة، وهذه الآية تدل على أن صلاة الجماعة فرض عين من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى أمر بها في هذه الحالة الشديدة، وقت اشتداد الخوف من الأعداء وحذر مهاجمتهم، فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة فإيجابها في حالة الطمأنينة والأمن من باب أَوْلَى وأحرى.
والثاني: أن المصلين صلاة الخوف يتركون فيها كثيرا من الشروط واللوازم، ويعفى فيها عن كثير من الأفعال المبطلة في غيرها، وما ذاك إلا لتأكد وجوب الجماعة، لأنه لا تعارض بين واجب ومستحب، فلولا وجوب الجماعة لم تترك هذه الأمور اللازمة لأجلها.
وتدل الآية الكريمة على أن الأولى والأفضل أن يصلوا بإمام واحد. ولو تضمن ذلك الإخلال بشيء لا يخل به لو صلوها بعدة أئمة، وذلك لأجل اجتماع كلمة المسلمين واتفاقهم وعدم تفرق كلمتهم، وليكون ذلك أوقع هيبة في قلوب أعدائهم، وأمر تعالى بأخذ السلاح والحذر في صلاة الخوف، وهذا وإن كان فيه حركة واشتغال عن بعض أحوال الصلاة فإن فيه مصلحة راجحة وهو الجمع بين الصلاة والجهاد، والحذر من الأعداء الحريصين غاية الحرص على الإيقاع بالمسلمين والميل عليهم وعلى أمتعتهم، ولهذا قال تعالى: ( وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُم ْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً ) .
ثم إن الله عذر من له عذر من مرض أو مطر أن يضع سلاحه، ولكن مع أخذ الحذر فقال: ( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ) .
ومن العذاب المهين ما أمر الله به حزبه المؤمنين وأنصار دينه الموحدين من قتلهم وقتالهم حيثما ثقفوهم، ويأخذوهم ويحصروهم، ويقعدوا لهم كل مرصد، ويحذروهم في جميع الأحوال، ولا يغفلوا عنهم، خشية أن ينال الكفار بعض مطلوبهم فيهم.
فلله أعظم حمد وثناء على ما مَنَّ به على المؤمنين، وأيَّدَهم بمعونته وتعاليمه التي لو سلكوها على وجه الكمال لم تهزم لهم راية، ولم يظهر عليهم عدو في وقت من الأوقات.
وفي قوله: ( فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ ) يدل على أن هذه الطائفة تكمل جميع صلاتها قبل ذهابهم إلى موضع الحارسين. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يثبت منتظرا للطائفة الأخرى قبل السلام، لأنه أولا ذكر أن الطائفة تقوم معه، فأخبر عن مصاحبتهم له. ثم أضاف الفعل بعْدُ إليهم دون الرسول، فدل ذلك على ما ذكرناه.
وفي قوله: ( وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ) دليل على أن الطائفة الأولى قد صلوا، وأن جميع صلاة الطائفة الثانية تكون مع الإمام حقيقة في ركعتهم الأولى، وحكما في ركعتهم الأخيرة، فيستلزم ذلك انتظار الإمام إياهم حتى يكملوا صلاتهم، ثم يسلم بهم، وهذا ظاهر للمتأمل.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: فإذا فرغتم من صلاتكم، صلاة الخوف وغيرها، فاذكروا الله في جميع أحوالكم وهيئاتكم، ولكن خصت صلاة الخوف بذلك لفوائد. منها: أن القلب صلاحه وفلاحه وسعادته بالإنابة إلى الله تعالى في المحبة وامتلاء القلب من ذكره والثناء عليه.
وأعظم ما يحصل به هذا المقصود الصلاة، التي حقيقتها أنها صلة بين العبد وبين ربه.
ومنها: أن فيها من حقائق الإيمان ومعارف الإيقان ما أوجب أن يفرضها الله على عباده كل يوم وليلة. ومن المعلوم أن صلاة الخوف لا تحصل فيها هذه المقاصد الحميدة بسبب اشتغال القلب والبدن والخوف فأمر بجبرها بالذكر بعدها.
ومنها: أن الخوف يوجب من قلق القلب وخوفه ما هو مظنة لضعفه، وإذا ضعف القلب ضعف البدن عن مقاومة العدو، والذكر لله والإكثار منه من أعظم مقويات القلب.
< 1-199 > ومنها: أن الذكر لله تعالى مع الصبر والثبات سبب للفلاح والظفر بالأعداء، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فأمر بالإكثار منه في هذه الحال إلى غير ذلك من الحِكَم.
وقوله: ( فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاة ) أي: إذا أمنتم من الخوف واطمأنت قلوبكم وأبدانكم فأتموا صلاتكم على الوجه الأكمل ظاهرا وباطنا، بأركانها وشروطها وخشوعها وسائر مكملاتها.
( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ) أي: مفروضا في وقته، فدل ذلك على فرضيتها، وأن لها وقتا لا تصح إلا به، وهو هذه الأوقات التي قد تقررت عند المسلمين صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وجاهلهم، وأخذوا ذلك عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ودل قوله: ( عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) على أن الصلاة ميزان الإيمان وعلى حسب إيمان العبد تكون صلاته وتتم وتكمل، ويدل ذلك على أن الكفار وإن كانوا ملتزمين لأحكام المسلمين كأهل الذمة - أنهم لا يخاطبون بفروع الدين كالصلاة، ولا يؤمرون بها، بل ولا تصح منهم ما داموا على كفرهم، وإن كانوا يعاقبون عليها وعلى سائر الأحكام في الآخرة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: لا تضعفوا ولا تكسلوا في ابتغاء عدوكم من الكفار، أي: في جهادهم والمرابطة على ذلك، فإن وَهَن القلب مستدع لوَهَن البدن، وذلك يضعف عن مقاومة الأعداء. بل كونوا أقوياء نشيطين في قتالهم.
ثم ذكر ما يقوي قلوب المؤمنين، فذكر شيئين:
الأول: أن ما يصيبكم من الألم والتعب والجراح ونحو ذلك فإنه يصيب أعداءكم، فليس من المروءة الإنسانية والشهامة الإسلامية أن تكونوا أضعف منهم، وأنتم وإياهم قد تساويتم فيما يوجب ذلك، لأن العادة الجارية لا يضعف إلا من توالت عليه الآلام وانتصر عليه الأعداء على الدوام، لا من يدال مرة، ويدال عليه أخرى.
الأمر الثاني: أنكم ترجون من الله ما لا يرجون، فترجون الفوز بثوابه والنجاة من عقابه، بل خواص المؤمنين لهم مقاصد عالية وآمال رفيعة من نصر دين الله، وإقامة شرعه، واتساع دائرة الإسلام، وهداية الضالين، وقمع أعداء الدين، فهذه الأمور توجب للمؤمن المصدق زيادة القوة، وتضاعف النشاط والشجاعة التامة؛ لأن من يقاتل ويصبر على نيل عزه الدنيوي إن ناله، ليس كمن يقاتل لنيل السعادة الدنيوية والأخروية، والفوز برضوان الله وجنته، فسبحان من فاوت بين العباد وفرق بينهم بعلمه وحكمته، ولهذا قال: ( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) كامل العلم كامل الحكمة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى أنه أنزل على عبده ورسوله الكتاب بالحق، أي: محفوظًا في إنزاله من الشياطين، أن يتطرق إليه منهم باطل، بل نزل بالحق، ومشتملا أيضا على الحق، فأخباره صدق، وأوامره ونواهيه عدل http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وأخبر أنه أنزله ليحكم بين الناس.
وفي الآية الأخرى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .فيحتمل أن هذه الآية في الحكم بين الناس في مسائل النزاع والاختلاف، وتلك في تبيين جميع الدين وأصوله وفروعه، ويحتمل أن الآيتين كلتيهما معناهما واحد، فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد وفي جميع مسائل الأحكام.
وقوله: ( بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ) أي: لا بهواك بل بما علَّمك الله وألهمك، كقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وفي هذا دليل على عصمته صلى الله عليه وسلم فيما يُبَلِّغ عن الله من جميع الأحكام < 1-200 > وغيرها، وأنه يشترط في الحاكم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg العلم والعدل لقوله: ( بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ) ولم يقل: بما رأيت. ورتب أيضا الحكم بين الناس على معرفة الكتاب، ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط نهاه عن الجور والظلم الذي هو ضد العدل فقال: ( وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) أي: لا تخاصم عن مَن عرفت خيانته، من مدع ما ليس له، أو منكرٍ حقا عليه، سواء علم ذلك أو ظنه. ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل، والنيابة عن المبطل في الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية.
ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم.

ابو وليد البحيرى
2019-03-08, 10:01 PM
الحلقة (96)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(106الى الأية(113)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ) مما صدر منك إن صدر.
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ) أي: يغفر الذنب العظيم لمن استغفره، وتاب إليه وأناب ويوفقه للعمل الصالح بعد ذلك الموجِب لثوابه وزوال عقابه.
( وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ) "الاختيان" و "الخيانة" بمعنى الجناية والظلم والإثم، وهذا يشمل النهي عن المجادلة، عن من أذنب وتوجه عليه عقوبة من حد أو تعزير، فإنه لا يجادل عنه بدفع ما صدر منه من الخيانة، أو بدفع ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية. ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ) أي: كثير الخيانة والإثم، وإذا انتفى الحب ثبت ضده وهو البُغْض، وهذا كالتعليل، للنهي المتقدم.
ثم ذكر عن هؤلاء الخائنين أنهم ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ) وهذا من ضعف الإيمان، ونقصان اليقين، أن تكون مخافة الخلق عندهم أعظم من مخافة الله، فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة على عدم الفضيحة عند الناس، وهم مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم.
وهو معهم بالعلم في جميع أحوالهم، خصوصًا في حال تبييتهم ما لا يرضيه من القول، من تبرئة الجاني، ورمي البريء بالجناية، والسعي في ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم ليفعل ما بيتوه.
فقد جمعوا بين عدة جنايات، ولم يراقبوا رب الأرض والسماوات، المطلع على سرائرهم وضمائرهم، ولهذا توعدهم تعالى بقوله: ( وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ) أي: قد أحاط بذلك علما، ومع هذا لم يعاجلهم بالعقوبة بل استأنى بهم، وعرض عليهم التوبة وحذرهم من الإصرار على ذنبهم الموجب للعقوبة البليغة.
( هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا ) أي: هبكم جادلتم عنهم في هذه الحياة الدنيا، ودفع عنهم جدالُكم بعض ما تحذرون من العار والفضيحة عند الخَلْق، فماذا يغني عنهم وينفعهم؟ ومن يجادل الله عنهم يوم القيامة حين تتوجه عليهم الحجة، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون؟ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
فمن يجادل عنهم من يعلم السر وأخفى ومن أقام عليهم من الشهود ما لا يمكن معه الإنكار؟ وفي هذه الآية إرشاد http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg إلى المقابلة بين ما يتوهم من مصالح الدنيا المترتبة على ترك أوامر الله أو فعل مناهيه، وبين ما يفوت من ثواب الآخرة أو يحصل من عقوباتها.
فيقول من أمرته نفسه بترك أمر الله ها أنت تركت أمره كسلا وتفريطا فما النفع الذي انتفعت به؟ وماذا فاتك من ثواب الآخرة؟ وماذا ترتب على هذا الترك من الشقاء والحرمان والخيبة والخسران؟
وكذلك إذا دعته نفسه إلى ما تشتهيه من الشهوات المحرمة قال لها: هبك فعلت ما اشتهيت فإن لذته تنقضي ويعقبها من الهموم والغموم والحسرات، وفوات الثواب وحصول العقاب - ما بعضه يكفي العاقل في الإحجام عنها. وهذا من أعظم ما ينفع العبدَ تدبرُه، وهو خاصة العقل الحقيقي. بخلاف الذي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg يدعي العقل، وليس كذلك، فإنه بجهله وظلمه يؤثر اللذة الحاضرة والراحة الراهنة، ولو ترتب عليها ما ترتب. والله المستعان.
ثم قال تعالى: ( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ) أي: من تجرأ على المعاصي واقتحم على الإثم ثم استغفر الله استغفارا تاما يستلزم الإقرار بالذنب والندم عليه والإقلاع والعزم على أن لا يعود. فهذا قد وعده من لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة.
فيغفر له ما صدر منه من الذنب، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة، ويوفقه فيما يستقبله من عمره، ولا يجعل ذنبه حائلا عن توفيقه، لأنه قد غفره، وإذا غفره غفر ما يترتب عليه.
واعلم أن عمل السوء عند الإطلاق يشمل سائر المعاصي، الصغيرة والكبيرة، وسمي "سوءًا" لكونه يسوء عامله بعقوبته، ولكونه في نفسه سيئًا غير حسن.
وكذلك ظلم النفس عند الإطلاق يشمل ظلمها بالشرك فما دونه. ولكن < 1-201 > عند اقتران أحدهما بالآخر قد يفسر كل واحد منهما بما يناسبه، فيفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس، وهو ظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
ويفسر ظلم النفس بالظلم والمعاصي التي بين الله وبين عبده، وسمي ظلم النفس "ظلما" لأن نفس العبد ليست ملكا له يتصرف فيها بما يشاء، وإنما هي ملك لله تعالى قد جعلها أمانة عند العبد وأمره أن يقيمها على طريق العدل، بإلزامها للصراط المستقيم علمًا وعملا فيسعى في تعليمها ما أمر به ويسعى في العمل بما يجب، فسعيه في غير هذا الطريق ظلم لنفسه وخيانة وعدول بها عن العدل، الذي ضده الجور والظلم.
ثم قال: ( وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ) وهذا يشمل كل ما يؤثم من صغير وكبير، فمن كسب سيئة فإن عقوبتها الدنيوية والأخروية على نفسه، لا تتعداها إلى غيرها، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg لكن إذا ظهرت السيئات فلم تنكر عمت عقوبتها وشمل إثمها، فلا تخرج أيضا عن حكم هذه الآية الكريمة، لأن من ترك الإنكار الواجب فقد كسب سيئة.
وفي هذا بيان عدل الله وحكمته، أنه لا يعاقب أحدا بذنب أحد، ولا يعاقب أحدا أكثر من العقوبة الناشئة عن ذنبه، ولهذا قال: ( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) أي: له العلم الكامل والحكمة التامة.
ومن علمه وحكمته أنه يعلم الذنب وما صدر منه، والسبب الداعي لفعله، والعقوبة المترتبة على فعله، ويعلم حالة المذنب، أنه إن صدر منه الذنب بغلبة دواعي نفسه الأمارة بالسوء مع إنابته إلى ربه في كثير من أوقاته، أنه سيغفر له ويوفقه للتوبة.
وإن صدر منه بتجرئه على المحارم استخفافا بنظر ربه، وتهاونا بعقابه، فإن هذا بعيد من المغفرة بعيد من التوفيق للتوبة.
ثم قال: ( وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً ) أي: ذنبا كبيرا ( أَوْ إِثْمًا ) ما دون ذلك. ( ثُمَّ يَرْمِ بِهِ ) أي: يتهم بذنبه ( بَرِيئًا ) من ذلك الذنب، وإن كان مذنبا. ( فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) أي: فقد حمل فوق ظهره بهتا للبريء وإثمًا ظاهرًا بينًا، وهذا يدل على أن ذلك من كبائر الذنوب وموبقاتها، فإنه قد جمع عدة مفاسد: كسب الخطيئة والإثم، ثم رَمْي مَن لم يفعلها بفعلها، ثم الكذب الشنيع بتبرئة نفسه واتهام البريء، ثم ما يترتب على ذلك من العقوبة الدنيوية، تندفع عمن وجبت عليه، وتقام على من لا يستحقها.
ثم ما يترتب على ذلك أيضا من كلام الناس في البريء إلى غير ذلك من المفاسد التي نسأل الله العافية منها ومن كل شر.
ثم ذكر منته على رسوله بحفظه وعصمته ممن أراد أن يضله فقال: ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ) وذلك أن هذه الآيات الكريمات قد ذكر المفسرون أن سبب نزولها: أن أهل بيت سرقوا في المدينة، فلما اطلع على سرقتهم خافوا الفضيحة، وأخذوا سرقتهم فرموها ببيت من هو بريء من ذلك.
واستعان السارق بقومه أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه أن يبرئ صاحبهم على رءوس الناس، وقالوا: إنه لم يسرق وإنما الذي سرق من وجدت السرقة ببيته وهو البريء. فهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرئ صاحبهم، فأنزل الله هذه الآيات تذكيرا وتبيينا لتلك الواقعة وتحذيرا للرسول صلى الله عليه وسلم من المخاصمة عن الخائنين، فإن المخاصمة عن المبطل من الضلال، فإن الضلال نوعان:
ضلال في العلم، وهو الجهل بالحق. وضلال في العمل، وهو العمل بغير ما يجب. فحفظ الله رسوله عن هذا النوع من الضلال [كما حفظه عن الضلال في الأعمال] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
وأخبر أن كيدهم ومكرهم يعود على أنفسهم، كحالة كل ماكر، فقال: ( وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ ) لكون ذلك المكر وذلك التحيل لم يحصل لهم فيه مقصودهم، ولم يحصل لهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg إلا الخيبة والحرمان والإثم والخسران. وهذه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg نعمة كبيرة على رسوله صلى الله عليه وسلم تتضمن النعمة بالعمل، وهو التوفيق لفعل ما يجب، والعصمة له عن كل محرم.
ثم ذكر نعمته عليه بالعلم فقال: ( وَأَنزلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) أي: أنزل عليك هذا القرآن العظيم والذكر الحكيم الذي فيه تبيان كل شيء وعلم الأولين والآخِرين.
والحكمة: إما السُّنَّة التي قد قال فيها بعض السلف: إن السُّنَّة تنزل عليه كما ينزل القرآن.
وإما معرفة أسرار الشريعة الزائدة على معرفة أحكامها، وتنزيل الأشياء منازلها وترتيب كل شيء بحسبه.
( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) وهذا يشمل جميع ما علمه الله تعالى. فإنه صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله قبل النبوة بقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ثم لم يزل يوحي الله إليه ويعلمه ويكمله حتى ارتقى مقاما من العلم يتعذر وصوله على الأولين والآخرين، < 1-202 > فكان أعلم الخلق على الإطلاق، وأجمعهم لصفات الكمال، وأكملهم فيها، ولهذا قال: ( وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) ففضله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من فضله على كل مخلوق http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.

وأجناس الفضل الذي قد فضله الله به لا يمكن استقصاؤها http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ولا يتيسر إحصاؤها http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-03-08, 10:09 PM
الحلقة (97)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(114الى الأية(121)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه.
ثم استثنى تعالى فقال: ( إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ) من مال أو علم أو أي نفع كان، بل لعله يدخل فيه العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة" الحديث.
( أَوْ مَعْرُوفٍ ) وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه، وإذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر دخل فيه النهي عن المنكر، وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف، وأيضا لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر. وأما عند الاقتران فيفسر المعروف بفعل المأمور، والمنكر بترك المنهي.
( أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره، فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض، بل وفي الأديان كما قال تعالى: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ) وقال تعالى: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) الآية.
وقال تعالى: ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله.
كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) .فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير، كما دل على ذلك الاستثناء.
ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص، ولهذا قال: ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل جزء من أجزاء الخير، ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين، وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا (116) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

أي: ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ويعانده فيما جاء به ( مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ) بالدلائل القرآنية والبراهين النبوية.
( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم ( نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ) أي: نتركه وما اختاره لنفسه، ونخذله فلا نوفقه للخير، لكونه رأى الحق وعلمه وتركه، فجزاؤه من الله عدلا أن يبقيه في ضلاله حائرا ويزداد ضلالا إلى ضلاله.
كما قال تعالى: ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) وقال تعالى: ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .
ويدل مفهومها على أن من لم يشاقق الرسول، ويتبع غير سبيل المؤمنين، بأن كان قصده وجه الله واتباع رسوله ولزوم جماعة المسلمين، ثم صدر منه من الذنوب أو الهّم بها ما هو من مقتضيات النفوس، وغلبات الطباع، فإن الله لا يوليه نفسه وشيطانه بل يتداركه بلطفه، ويمن عليه بحفظه ويعصمه من السوء، كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام: ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) أي: بسبب إخلاصه صرفنا عنه السوء، وكذلك كل مخلص، كما يدل عليه عموم التعليل.
وقوله: ( وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ) أي: نعذبه فيها عذابا عظيما. ( وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) أي: مرجعا له ومآلا.
وهذا الوعيد المرتب على الشقاق ومخالفة المؤمنين مراتب لا يحصيها إلا الله بحسب حالة الذنب صغرا وكبرا، فمنه ما يخلد في النار ويوجب جميع الخذلان. ومنه ما هو دون ذلك، فلعل الآية الثانية كالتفصيل لهذا المطلق.
وهو: أن الشرك لا يغفره الله تعالى لتضمنه القدح في رب العالمين وفي وحدانيته وتسوية المخلوق الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا بمن هو مالك النفع والضر، الذي ما من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه، والغنى التام بجميع وجوه الاعتبارات.
فمن أعظم الظلم وأبعد الضلال عدم إخلاص العبادة لمن هذا شأنه وعظمته، وصرف شيء منها للمخلوق الذي ليس له من صفات الكمال شيء، ولا له من صفات الغنى شيء بل ليس له إلا العدم. عدم الوجود وعدم الكمال وعدم الغنى، والفقر من جميع الوجوه.
وأما ما دون الشرك من الذنوب والمعاصي فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفره برحمته وحكمته، وإن شاء عذب عليه وعاقب بعدله وحكمته، وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أن إجماع هذه الأمة حجة وأنها معصومة من الخطأ.
ووجه ذلك: أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين بالخذلان والنار، و ( سبيل المؤمنين ) مفرد مضاف يشمل سائر ما المؤمنون عليه من العقائد والأعمال. فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه، أو تحريمه أو كراهته، أو إباحته - فهذا سبيلهم، فمن خالفهم في شيء من ذلك بعد انعقاد إجماعهم عليه، فقد اتبع غير سبيلهم. ويدل على ذلك قوله تعالى: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) .
ووجه الدلالة منها: أن الله تعالى أخبر أن المؤمنين من هذه الأمة لا يأمرون إلا بالمعروف، فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه فهو مما أمروا به، فيتعين بنص الآية أن يكون معروفا ولا شيء بعد المعروف غير المنكر، وكذلك إذا اتفقوا على النهي عن شيء فهو مما نهوا عنه فلا يكون إلا منكرا، ومثل ذلك قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) فأخبر تعالى أن هذه الأمة جعلها الله وسطا أي: عدلا خيارا ليكونوا شهداء على الناس أي: في كل شيء، فإذا شهدوا على حكم بأن الله أمر به أو نهى عنه أو أباحه، فإن شهادتهم معصومة لكونهم عالمين بما شهدوا به عادلين في شهادتهم، فلو كان الأمر بخلاف ذلك لم يكونوا عادلين في شهادتهم ولا عالمين بها.
ومثل ذلك قوله تعالى: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) يفهم منها أن ما لم يتنازعوا فيه بل اتفقوا عليه أنهم غير مأمورين برده إلى الكتاب والسنة، وذلك لا يكون إلا موافقا للكتاب والسنة فلا يكون مخالفا.

فهذه الأدلة ونحوها تفيد القطع أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة، ولهذا بيَّن الله قبح ضلال المشركين بقوله:

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلأُضِلَّنَّهُ مْ وَلأُمَنِّيَنَّ هُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنّ َ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنّ َ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

أي: ما يدعو هؤلاء المشركون من دون الله إلا إناثا، أي: أوثانا وأصناما مسميات بأسماء الإناث كـ "العزى" و "مناة" ونحوهما، ومن المعلوم أن الاسم دال على المسمى. فإذا كانت أسماؤها أسماء مؤنثة ناقصة، دل ذلك على نقص المسميات بتلك الأسماء، وفقدها لصفات الكمال، كما أخبر الله تعالى في غير موضع من كتابه، أنها لا تخلق ولا ترزق ولا تدفع عن عابديها بل ولا عن نفسها؛ نفعا ولا ضرا ولا تنصر أنفسها ممن يريدها بسوء، وليس لها أسماع ولا أبصار ولا أفئدة، فكيف يُعبد من هذا وصفه ويترك الإخلاص لمن له الأسماء الحسنى والصفات العليا والحمد والكمال، والمجد والجلال، والعز والجمال، والرحمة والبر والإحسان، والانفراد بالخلق والتدبير، والحكمة العظيمة في الأمر والتقدير؟" هل هذا إلا من أقبح القبيح الدال على نقص صاحبه، وبلوغه من الخسة والدناءة أدنى ما يتصوره متصور، أو يصفه واصف؟"
ومع ذلك فعبادتهم إنما صورتها فقط لهذه الأوثان الناقصة. وبالحقيقة ما عبدوا غير الشيطان الذي هو عدوهم الذي يريد إهلاكهم ويسعى في ذلك بكل ما يقدر عليه، الذي هو في غاية البعد من الله، لعنه الله وأبعده عن رحمته، فكما أبعده الله من رحمته يسعى في إبعاد العباد عن رحمة الله. ( إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) ولهذا أخبر الله عن سعيه في إغواء العباد، وتزيين الشر لهم والفساد وأنه قال لربه مقسما: ( لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ) أي: مقدرا. علم اللعين أنه لا يقدر على إغواء جميع عباد الله، وأن عباد الله المخلصين ليس له عليهم سلطان، وإنما سلطانه على من تولاه، وآثر طاعته على طاعة مولاه.
وأقسم في موضع آخر ليغوينهم ( لأُغْوِيَنَّهُم ْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) فهذا الذي ظنه الخبيث وجزم به، أخبر الله تعالى بوقوعه بقوله: ( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .
وهذا النصيب المفروض الذي أقسم لله إنه يتخذهم ذكر ما يريد بهم وما يقصده لهم بقوله: ( وَلأضِلَّنَّهُم ْ ) أي: عن الصراط المستقيم ضلالا في العلم، وضلالا في العمل.
( وَلأمَنِّيَنَّه ُمْ ) أي: مع الإضلال، لأمنينهم أن ينالوا ما ناله المهتدون. وهذا هو الغرور بعينه، فلم يقتصر على مجرد إضلالهم حتى زين لهم ما هم فيه من الضلال. وهذا زيادة شر إلى شرهم حيث عملوا أعمال أهل النار الموجبة للعقوبة وحسبوا أنها موجبة للجنة، واعتبر ذلك باليهود والنصارى ونحوهم فإنهم كما حكى الله عنهم، ( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ) ( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
وقال تعالى عن المنافقين إنهم يقولون يوم القيامة للمؤمنين: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
وقوله: ( وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنّ َ آذَانَ الأنْعَامِ ) أي: بتقطيع آذانها، وذلك كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فنبه ببعض ذلك على جميعه، وهذا نوع من الإضلال يقتضي تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، ويلتحق بذلك من الاعتقادات الفاسدة والأحكام الجائرة ما هو من أكبر الإضلال. ( وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنّ َ خَلْقَ اللَّهِ ) وهذا يتناول تغيير الخلقة الظاهرة بالوشم، والوشر والنمص والتفلج للحسن، ونحو ذلك مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن.
وذلك يتضمن التسخط من خلقته والقدح في حكمته، واعتقاد أن ما يصنعون بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن، وعدم الرضا بتقديره وتدبيره، ويتناول أيضا تغيير الخلقة الباطنة، فإن الله تعالى خلق عباده حنفاء مفطورين على قبول الحق وإيثاره، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل، وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان.
فإن كل مولود يولد على الفطرة ولكن أبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، ونحو ذلك مما يغيرون به ما فطر الله عليه العباد من توحيده وحبه ومعرفته. فافترستهم الشياطين في هذا الموضع افتراس السبع والذئاب للغنم المنفردة. لولا لطف الله وكرمه بعباده المخلصين لجرى عليهم ما جرى على هؤلاء المفتونين، وهذا الذي جرى عليهم من توليهم عن ربهم وفاطرهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg وتوليهم لعدوهم المريد لهم الشر من كل وجه، فخسروا الدنيا والآخرة، ورجعوا بالخيبة والصفقة الخاسرة، ولهذا قال: ( وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ) وأي خسار أبين وأعظم ممن خسر دينه ودنياه وأوبقته معاصيه وخطاياه؟!! فحصل له الشقاء الأبدي، وفاته النعيم السرمدي.
كما أن من تولى مولاه وآثر رضاه، ربح كل الربح، وأفلح كل الفلاح، وفاز بسعادة الدارين، وأصبح قرير العين، فلا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، اللهم تولنا فيمن توليت، وعافنا فيمن عافيت.
ثم قال: ( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ) أي: يعد الشيطان من يسعى في إضلالهم، والوعد يشمل حتى الوعيد كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg فإنه يعدهم إذا أنفقوا في سبيل الله افتقروا، ويخوفهم إذا جاهدوا بالقتل وغيره، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg الآية. ويخوفهم عند إيثار مرضاة الله بكل ما يمكن وما لا يمكن مما يدخله في عقولهم حتى يكسلوا عن فعل الخير، وكذلك يمنيهم الأماني الباطلة التي هي عند التحقيق كالسراب الذي لا حقيقة له، ولهذا قال: ( وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ) أي: من انقاد للشيطان وأعرض عن ربه، وصار من أتباع إبليس وحزبه، مستقرهم النار. ( وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ) أي: مخلصا ولا ملجأ بل هم خالدون فيها أبد الآباد.

ابو وليد البحيرى
2019-03-17, 02:24 PM
الحلقة (98)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(122الى الأية(127)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

ولما بين مآل الأشقياء أولياء الشيطان ذكر مآل السعداء أوليائه فقال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا (122) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg . http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg.


أي: ( آمَنُوا ) بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشره على الوجه الذي أمروا به علما وتصديقا وإقرارا. ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) الناشئة عن الإيمان؟
وهذا يشمل سائر المأمورات من واجب ومستحب، الذي على القلب، والذي على اللسان، والذي على بقية الجوارح. كل له من الثواب المرتب على ذلك بحسب حاله ومقامه، وتكميله للإيمان والعمل الصالح.
ويفوته ما رتب على ذلك بحسب ما أخل به من الإيمان والعمل، وذلك بحسب ما علم من حكمة الله ورحمته، وكذلك وعده الصادق الذي يعرف من تتبع كتاب الله وسنة رسوله.
ولهذا ذكر الثواب المرتب على ذلك بقوله: ( سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من أنواع المآكل والمشارب اللذيذة، والمناظر العجيبة، والأزواج الحسنة، والقصور، والغرف المزخرفة، والأشجار المتدلية، والفواكه المستغربة، والأصوات الشجية، والنعم السابغة، وتزاور الإخوان، وتذكرهم ما كان منهم في رياض الجنان، وأعلى من ذلك كله وأجلّ رضوان الله عليهم وتمتع الأرواح بقربه، والعيون برؤيته، والأسماع بخطابه الذي ينسيهم كل نعيم وسرور، ولولا الثبات من الله لهم لطاروا وماتوا من الفرح والحبور، فلله ما أحلى ذلك النعيم وما أعلى ما أنالهم الرب الكريم، وماذا حصل لهم من كل خير وبهجة لا يصفه الواصفون، وتمام ذلك وكماله الخلود الدائم في تلك المنازل العاليات، ولهذا قال: ( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا ) .
فصدق الله العظيم الذي بلغ قولُه وحديثُه في الصدق أعلى ما يكون، ولهذا لما كان كلامه صدقا وخبره حقا، كان ما يدل عليه مطابقةً وتضمنًا وملازمةً كل ذلك مراد من كلامه، وكذلك كلام رسوله صلى الله عليه وسلم لكونه لا يخبر إلا بأمره ولا ينطق إلا عن وحيه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpgلَيْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

أي: ( لَيْسَ ) الأمر والنجاة والتزكية ( بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ) والأماني: أحاديث النفس المجردة عن العمل، المقترن بها دعوى مجردة لو عورضت بمثلها لكانت من جنسها. وهذا عامّ في كل أمر، فكيف بأمر الإيمان والسعادة الأبدية؟!
فإن أماني أهل الكتاب قد أخبر الله بها أنهم قالوا: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg وغيرهم ممن ليس ينتسب لكتاب ولا رسول من باب أولى وأحرى.
وكذلك أدخل الله في ذلك من ينتسب إلى الإسلام لكمال العدل والإنصاف، فإن مجرد الانتساب إلى أي دين كان، لا يفيد شيئا إن لم يأت الإنسان ببرهان على صحة دعواه، فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها ولهذا قال تعالى: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) وهذا شامل لجميع العاملين، لأن السوء شامل لأي ذنب كان http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg من صغائر الذنوب وكبائرها، وشامل أيضا لكل جزاء قليل أو كثير، دنيوي أو أخروي.
والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله، فمستقل ومستكثر، فمن كان عمله كله سوءا وذلك لا يكون إلا كافرا. فإذا مات من دون توبة جوزي بالخلود في العذاب الأليم.
ومن كان عمله صالحا، وهو مستقيم في غالب أحواله، وإنما يصدر منه بعض الأحيان بعض الذنوب الصغار فما يصيبه من الهم والغم والأذى و [بعض] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg الآلام في بدنه أو قلبه أو حبيبه أو ماله ونحو ذلك - فإنها مكفرات للذنوب، وهي مما يجزى به على عمله، قيضها الله لطفا بعباده، وبين هذين الحالين مراتب كثيرة.
وهذا الجزاء على عمل السوء العام مخصوص في غير التائبين، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما دلت على ذلك النصوص.
وقوله: ( وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) لإزالة بعض ما لعله يتوهم أن من استحق المجازاة على عمله قد يكون له ولي أو ناصر أو شافع يدفع عنه ما استحقه، فأخبر تعالى بانتفاء ذلك، فليس له ولي يحصل له المطلوب، ولا نصير يدفع عنه المرهوب، إلا ربه ومليكه.
( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ ) دخل في ذلك سائر الأعمال القلبية والبدنية، ودخل أيضا كل عامل من إنس أو جن، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى. ولهذا قال: ( مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) وهذا شرط لجميع الأعمال، لا تكون صالحة ولا تقبل ولا يترتب عليها الثواب ولا يندفع بها العقاب إلا بالإيمان.
فالأعمال بدون الإيمان كأغصان شجرة قطع أصلها وكبناء بني على موج الماء، فالإيمان هو الأصل والأساس والقاعدة التي يبنى عليه كل شيء، وهذا القيد ينبغي التفطن له في كل عمل أطلق، فإنه مقيد به.
( فَأُولَئِكَ ) أي: الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ( يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ) المشتملة على ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ( وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) أي: لا قليلا ولا كثيرا مما عملوه من الخير، بل يجدونه كاملا موفرا، مضاعفا أضعافا كثيرة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا (125) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

أي: لا أحد أحسن من دين من جمع بين الإخلاص للمعبود، وهو إسلام الوجه لله الدال على استسلام القلب وتوجهه وإنابته وإخلاصه، وتوجه الوجه وسائر الأعضاء لله.
( وَهُوَ ) مع هذا الإخلاص والاستسلام ( مُحْسِنٌ ) أي: متبع لشريعة الله التي أرسل بها رسله، وأنزل كتبه، وجعلها طريقا لخواص خلقه وأتباعهم.
( وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ) أي: دينه وشرعه ( حَنِيفًا ) أي: مائلا عن الشرك إلى التوحيد، وعن التوجه للخلق إلى الإقبال على الخالق، ( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا ) والخُلة أعلى أنواع المحبة، وهذه المرتبة حصلت للخليلين محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وأما المحبة من الله فهي لعموم المؤمنين، وإنما اتخذ الله إبراهيم خليلا لأنه وفَّى بما أُمر به وقام بما ابْتُلي به، فجعله الله إماما للناس، واتخذه خليلا ونوه بذكره في العالمين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

وهذه الآية الكريمة فيها بيان إحاطة الله تعالى بجميع الأشياء، فأخبر أن له ( مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) أي: الجميع ملكه وعبيده، فهم المملوكون وهو المالك المتفرد بتدبيرهم، وقد أحاط علمه بجميع المعلومات، وبصره بجميع المبصرات، وسمعه بجميع المسموعات، ونفذت مشيئته وقدرته بجميع الموجودات، ووسعت رحمته أهل الأرض والسماوات، وقهر بعزه وقهره كل مخلوق، ودانت له جميع الأشياء.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpgوَيَسْتَفْت ونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَ فِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

الاستفتاء: طلب السائل من المسئول بيان الحكم الشرعي في ذلك المسئول عنه. فأخبر عن المؤمنين أنهم يستفتون الرسول صلى الله عليه وسلم في حكم النساء المتعلق بهم، فتولى الله هذه الفتوى بنفسه فقال: ( قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ) فاعملوا على ما أفتاكم به في جميع شئون النساء، من القيام بحقوقهن وترك ظلمهن عموما وخصوصا.
وهذا أمر عام يشمل جميع ما شرع الله أمرا ونهيا في حق النساء الزوجات وغيرهن، الصغار والكبار، ثم خص -بعد التعميم- الوصية بالضعاف من اليتامى والولدان اهتماما بهم وزجرا عن التفريط في حقوقهم فقال: ( وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ ) أي: ويفتيكم أيضا بما يتلى عليكم في الكتاب في شأن اليتامى من النساء. ( اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ ) وهذا إخبار عن الحالة الموجودة الواقعة في ذلك الوقت، فإن اليتيمة إذا كانت تحت ولاية الرجل بخسها حقها وظلمها، إما بأكل مالها الذي لها أو بعضه، أو منعها من التزوج لينتفع بمالها، خوفا من استخراجه من يده إنْ زوَّجها، أو يأخذ من مهرها الذي تتزوج به بشرط أو غيره، هذا إذا كان راغبا عنها، أو يرغب فيها وهي ذات جمال ومال ولا يقسط في مهرها، بل يعطيها دون ما تستحق، فكل هذا ظلم يدخل تحت هذا النص ولهذا قال: ( وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ) أي: ترغبون عن نكاحهن أو في نكاحهن كما ذكرنا تمثيله.
( وَالْمُسْتَضْعَ فِينَ مِنَ الْوِلْدَان ) أي: ويفتيكم في المستضعفين من الولدان الصغار، أن تعطوهم حقهم من الميراث وغيره وأن لا تستولوا على أموالهم على وجه الظلم والاستبداد. ( وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ) أي: بالعدل التام، وهذا يشمل القيام عليهم بإلزامهم أمر الله وما أوجبه على عباده، فيكون الأولياء مكلفين بذلك، يلزمونهم بما أوجبه الله.
ويشمل القيام عليهم في مصالحهم الدنيوية بتنمية أموالهم وطلب الأحظ لهم فيها، وأن لا يقربوها إلا بالتي هي أحسن، وكذلك لا يحابون فيهم صديقا ولا غيره، في تزوج وغيره، على وجه الهضم لحقوقهم. وهذا من رحمته تعالى بعباده، حيث حثّ غاية الحث على القيام بمصالح من لا يقوم بمصلحة نفسه لضعفه وفقد أبيه.
ثم حثّ على الإحسان عموما فقال: ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ) لليتامى ولغيرهم سواء كان الخير متعديا أو لازما ( فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ) أي: قد أحاط علمه بعمل العاملين للخير، قلة وكثرة، حسنا وضده، فيجازي كُلا بحسب عمله.

ابو وليد البحيرى
2019-03-17, 02:29 PM
الحلقة (99)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(128الى الأية(134)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: إذا خافت المرأة نشوز زوجها أي: ترفعه عنها وعدم رغبته فيها وإعراضه عنها، فالأحسن في هذه الحالة أن يصلحا بينهما صلحا بأن تسمح المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها، إما أن ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن، أو القسم بأن تسقط حقها منه، أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها.
فإذا اتفقا على هذه الحالة فلا جناح ولا بأس عليهما فيها، لا عليها ولا على الزوج، فيجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحال، وهي خير من الفرقة، ولهذا قال: ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) .
< 1-207 > ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى أن الصلح بين مَن بينهما حق أو منازعة في جميع الأشياء أنه خير من استقصاء كل منهما على كل حقه، لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح.
وهو جائز في جميع الأشياء إلا إذا أحلّ حراما أو حرّم حلالا فإنه لا يكون صلحا وإنما يكون جورا.
واعلم أن كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه، فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح، فذكر تعالى المقتضي لذلك ونبه على أنه خير، والخير كل عاقل يطلبه ويرغب فيه، فإن كان -مع ذلك- قد أمر الله به وحثّ عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه.
وذكر المانع بقوله: ( وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحّ ) أي: جبلت النفوس على الشح، وهو: عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا، أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك.
فمتى وفق الإنسان لهذا الخُلُق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب. بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر.
ثم قال: ( وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا ) أي: تحسنوا في عبادة الخالق بأن يعبد العبد ربه كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه، وتحسنوا إلى المخلوقين بجميع طرق الإحسان، من نفع بمال، أو علم، أو جاه، أو غير ذلك. ( وَتَتَّقُوا ) الله بفعل جميع المأمورات، وترك جميع المحظورات. أو تحسنوا بفعل المأمور، وتتقوا بترك المحظور ( فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) قد أحاط به علما وخبرا، بظاهره وباطنه، فيحفظه لكم، ويجازيكم عليه أتم الجزاء.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة ِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى: أن الأزواج لا يستطيعون وليس في قدرتهم العدل التام بين النساء، وذلك لأن العدل يستلزم وجود المحبة على السواء، والداعي على السواء، والميل في القلب إليهن على السواء، ثم العمل بمقتضى ذلك. وهذا متعذر غير ممكن، فلذلك عفا الله عما لا يستطاع، ونهى عما هو ممكن بقوله: ( فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة ِ ) أي: لا تميلوا ميلا كثيرا بحيث لا تؤدون حقوقهن الواجبة، بل افعلوا ما هو باستطاعتكم من العدل.
فالنفقة والكسوة والقسم ونحوها عليكم أن تعدلوا بينهن فيها، بخلاف الحب والوطء ونحو ذلك، فإن الزوجة إذا ترك زوجها ما يجب لها، صارت كالمعلقة التي لا زوج لها فتستريح وتستعد للتزوج، ولا ذات زوج يقوم بحقوقها.
( وَإِنْ تُصْلِحُوا ) ما بينكم وبين زوجاتكم، بإجبار أنفسكم على فعل ما لا تهواه النفس، احتسابا وقياما بحق الزوجة، وتصلحوا أيضا فيما بينكم وبين الناس، وتصلحوا أيضا بين الناس فيما تنازعوا فيه، وهذا يستلزم الحث على كل طريق يوصل إلى الصلح مطلقا كما تقدم.
( وَتَتَّقُوا ) الله بفعل المأمور وترك المحظور، والصبر على المقدور. ( فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ) يغفر ما صدر منكم من الذنوب والتقصير في الحق الواجب، ويرحمكم كما عطفتم على أزواجكم ورحمتموهن.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذه الحالة الثالثة بين الزوجين، إذا تعذر الاتفاق فإنه لا بأس بالفراق، فقال: ( وَإِنْ يَتَفَرَّقَا ) أي: بطلاق أو فسخ أو خلع أو غير ذلك ( يُغْنِ اللَّهُ كُلا ) من الزوجين ( مِنْ سَعَتِهِ ) أي: من فضله وإحسانه الواسع الشامل. فيغني الزوج بزوجة خير له منها، ويغنيها من فضله وإن انقطع نصيبها من زوجها، فإن رزقها على المتكفل بأرزاق جميع الخلق، القائم بمصالحهم، ولعل الله يرزقها زوجا خيرا منه، ( وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا ) أي: كثير الفضل واسع الرحمة، وصلت رحمته وإحسانه إلى حيث وصل إليه علمه.
ولكنه مع ذلك ( حَكِيمًا ) أي: يعطي بحكمة، ويمنع لحكمة. فإذا اقتضت حكمته منع بعض عباده من إحسانه، بسبب من العبد لا يستحق معه الإحسان، حرمه عدلا وحكمة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (132) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن عموم ملكه العظيم الواسع المستلزم تدبيره بجميع أنواع التدبير، وتصرفه بأنواع التصريف قدرا وشرعا، فتصرفه الشرعي أن وصى الأولين والآخرين أهل الكتب السابقة واللاحقة بالتقوى المتضمنة للأمر والنهي، وتشريع الأحكام، والمجازاة لمن قام بهذه الوصية بالثواب، والمعاقبة لمن أهملها وضيعها بأليم العذاب، ولهذا قال: ( وَإِنْ تَكْفُرُوا ) بأن تتركوا تقوى الله، وتشركوا بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا، فإنكم لا تضرون بذلك إلا أنفسكم، ولا تضرون الله شيئا ولا تنقصون ملكه، وله عبيد خير منكم وأعظم وأكثر، مطيعون له خاضعون لأمره. ولهذا رتب على ذلك قوله: ( وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ) له الجود الكامل والإحسان < 1-208 > الشامل الصادر من خزائن رحمته التي لا ينقصها الإنفاق ولا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، لو اجتمع أهل السماوات وأهل الأرض أولهم وآخرهم، فسأل كل [واحد] منهم ما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه شيئا، ذلك بأنه جواد واجد ماجد، عطاؤه كلام وعذابه كلام، إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له كن فيكون.
ومن تمام غناه أنه كامل الأوصاف، إذ لو كان فيه نقص بوجه من الوجوه، لكان فيه نوع افتقار إلى ذلك الكمال، بل له كل صفة كمال، ومن تلك الصفة كمالها، ومن تمام غناه أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولا شريكا في ملكه ولا ظهيرا، ولا معاونا له على شيء من تدابير ملكه.
ومن كمال غناه افتقار العالم العلوي والسفلي في جميع أحوالهم وشئونهم إليه وسؤالهم إياه جميع حوائجهم الدقيقة والجليلة، فقام تعالى بتلك المطالب والأسئلة وأغناهم وأقناهم، ومَنَّ عليهم بلطفه وهداهم.
وأما الحميد فهو من أسماء الله تعالى الجليلة الدال على أنه [هو] المستحق لكل حمد ومحبة وثناء وإكرام، وذلك لما اتصف به من صفات الحمد، التي هي صفة الجمال والجلال، ولما أنعم به على خلقه من النِّعم الجزال، فهو المحمود على كل حال.
وما أحسن اقتران هذين الاسمين الكريمين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg !! فإنه غني محمود، فله كمال من غناه، وكمال من حمده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر.
ثم كرر إحاطة ملكه لما في السماوات وما في الأرض، وأنه على كل شيء وكيل، أي: عالم قائم بتدبير الأشياء على وجه الحكمة، فإن ذلك من تمام الوكالة، فإن الوكالة تستلزم العلم بما هو وكيل عليه، والقوة والقدرة على تنفيذه وتدبيره، وكون ذلك التدبير على وجه الحكمة والمصلحة، فما نقص من ذلك فهو لنقص بالوكيل، والله تعالى منزه عن كل نقص.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: هو الغني الحميد الذي له القدرة الكاملة والمشيئة النافذة فيكم ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ) غيركم هم أطوع لله منكم وخير منكم، وفي هذا تهديد للناس على إقامتهم على كفرهم وإعراضهم عن ربهم، فإن الله لا يعبأ بهم شيئا إن لم يطيعوه، ولكنه يمهل ويملي ولا يهمل.
ثم أخبر أن مَن كانت همته وإرادته دنية غير متجاوزة ثواب الدنيا، وليس له إرادة في الآخرة فإنه قد قصر سعيه ونظره، ومع ذلك فلا يحصل له من ثواب الدنيا سوى ما كتب الله له منها، فإنه تعالى هو المالك لكل شيء الذي عنده ثواب الدنيا والآخرة، فليطلبا منه ويستعان به عليهما، فإنه لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تدرك الأمور الدينية والدنيوية إلا بالاستعانة به، والافتقار إليه على الدوام.
وله الحكمة تعالى في توفيق من يوفقه، وخذلان من يخذله وفي عطائه ومنعه، ولهذا قال: ( وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) .

ابو وليد البحيرى
2019-03-17, 02:36 PM
الحلقة (100)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(135الى الأية(140)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

ثم قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا ( قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ) والقوَّام صيغة مبالغة، أي: كونوا في كل أحوالكم قائمين بالقسط الذي هو العدل في حقوق الله وحقوق عباده، فالقسط في حقوق الله أن لا يستعان بنعمه على معصيته، بل تصرف في طاعته.
والقسط في حقوق الآدميين أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك كما تطلب حقوقك. فتؤدي النفقات الواجبة، والديون، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، من الأخلاق والمكافأة وغير ذلك.
ومن أعظم أنواع القسط القسط في المقالات والقائلين، فلا يحكم لأحد القولين أو أحد المتنازعين لانتسابه أو ميله لأحدهما، بل يجعل وجهته العدل بينهما، ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان، حتى على الأحباب بل على النفس، ولهذا قال: ( شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ) أي: فلا تراعوا الغني لغناه، ولا الفقير بزعمكم رحمة له، بل اشهدوا بالحق على من كان.
والقيام بالقسط من أعظم الأمور وأدل على دين القائم به، وورعه ومقامه في الإسلام، فيتعين على من نصح نفسه وأراد نجاتها أن يهتم له غاية الاهتمام، وأن يجعله نُصْب عينيه، < 1-209 > ومحل إرادته، وأن يزيل عن نفسه كل مانع وعائق يعوقه عن إرادة القسط أو العمل به.
وأعظم عائق لذلك اتباع الهوى، ولهذا نبه تعالى على إزالة هذا المانع بقوله: ( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ) أي: فلا تتبعوا شهوات أنفسكم المعارضة للحق، فإنكم إن اتبعتموها عدلتم عن الصواب، ولم توفقوا للعدل، فإن الهوى إما أن يعمي بصيرة صاحبه حتى يرى الحق باطلا والباطل حقا، وإما أن يعرف الحق ويتركه لأجل هواه، فمن سلم من هوى نفسه وفق للحق وهدي إلى الصراط المستقيم.
ولما بيَّن أن الواجب القيام بالقسط نهى عن ما يضاد ذلك، وهو لي اللسان عن الحق في الشهادات وغيرها، وتحريف النطق عن الصواب المقصود من كل وجه، أو من بعض الوجوه، ويدخل في ذلك تحريف الشهادة وعدم تكميلها، أو تأويل الشاهد على أمر آخر، فإن هذا من اللي لأنه الانحراف عن الحق. ( أَوْ تُعْرِضُوا ) أي: تتركوا القسط المنوط بكم، كترك الشاهد لشهادته، وترك الحاكم لحكمه الذي يجب عليه القيام به.
( فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) أي: محيط بما فعلتم، يعلم أعمالكم خفيها وجليها، وفي هذا تهديد شديد للذي يلوي أو يعرض. ومن باب أولى وأحرى الذي يحكم بالباطل أو يشهد بالزور، لأنه أعظم جرما، لأن الأولين تركا الحق، وهذا ترك الحق وقام بالباطل.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا (136) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
اعلم أن الأمر إما أن يوجه إلى من لم يدخل في الشيء ولم يتصف بشيء منه، فهذا يكون أمرا له في الدخول فيه، وذلك كأمر من ليس بمؤمن بالإيمان، كقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُ)مْ الآية.
وإما أن يوجه إلى من دخل في الشيء فهذا يكون أمره ليصحح ما وجد منه ويحصل ما لم يوجد، ومنه ما ذكره الله في هذه الآية من أمر المؤمنين بالإيمان، فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم من الإخلاص والصدق، وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات.
ويقتضي أيضا الأمر بما لم يوجد من المؤمن من علوم الإيمان وأعماله، فإنه كلما وصل إليه نص وفهم معناه واعتقده فإن ذلك من الإيمان المأمور به.
وكذلك سائر الأعمال الظاهرة والباطنة، كلها من الإيمان كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة، وأجمع عليه سلف الأمة.
ثم الاستمرار على ذلك والثبات عليه إلى الممات كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وأمر هنا بالإيمان به وبرسوله، وبالقرآن وبالكتب المتقدمة، فهذا كله من الإيمان الواجب الذي لا يكون العبد مؤمنا إلا به، إجمالا فيما لم يصل إليه تفصيله وتفصيلا فيما علم من ذلك بالتفصيل، فمن آمن هذا الإيمان المأمور به، فقد اهتدى وأنجح. ( وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا ) وأي ضلال أبعد من ضلال من ترك طريق الهدى المستقيم، وسلك الطريق الموصلة له إلى العذاب الأليم؟"
واعلم أن الكفر بشيء من هذه المذكورات كالكفر بجميعها، لتلازمها وامتناع وجود الإيمان ببعضها دون بعض، ثم قال:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا (137) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: من تكرر منه الكفر بعد الإيمان فاهتدى ثم ضل، وأبصر ثم عمي، وآمن ثم كفر واستمر على كفره وازداد منه، فإنه بعيد من التوفيق والهداية لأقوم الطريق، وبعيد من المغفرة لكونه أتى بأعظم مانع يمنعه من حصولها. فإن كفره يكون عقوبة وطبعًا لا يزول كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) ودلت الآية: أنهم إن لم يزدادوا كفرا بل رجعوا إلى الإيمان، وتركوا ما هم عليه من الكفران، فإن الله يغفر لهم، ولو تكررت منهم الردة.
وإذا كان هذا الحكم في الكفر فغيره من المعاصي التي دونه من باب أولى أن العبد لو تكررت منه ثم عاد إلى التوبة، عاد الله له بالمغفرة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

البشارة تستعمل في الخير، وتستعمل في الشر بقيد كما في هذه الآية. يقول تعالى: ( بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ ) أي: الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، بأقبح بشارة وأسوئها، وهو العذاب الأليم، وذلك بسبب محبتهم الكفار وموالاتهم ونصرتهم، وتركهم لموالاة المؤمنين، فأي شيء حملهم على ذلك؟ أيبتغون عندهم العزة؟
وهذا هو الواقع من أحوال < 1-210 > المنافقين، ساء ظنهم بالله وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين، ولحظوا بعض الأسباب التي عند الكافرين، وقصر نظرهم عمّا وراء ذلك، فاتخذوا الكافرين أولياء يتعززون بهم ويستنصرون.
والحال أن العزة لله جميعا، فإن نواصي العباد بيده، ومشيئته نافذة فيهم. وقد تكفل بنصر دينه وعباده المؤمنين، ولو تخلل ذلك بعض الامتحان لعباده المؤمنين، وإدالة العدو عليهم إدالة غير مستمرة، فإن العاقبة والاستقرار للمؤمنين، وفي هذه الآية الترهيب العظيم من موالاة الكافرين؛ وترك موالاة المؤمنين، وأن ذلك من صفات المنافقين، وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: وقد بيَّن الله لكم فيما أنزل عليكم حكمه الشرعي عند حضور مجالس الكفر والمعاصي ( أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا ) أي: يستهان بها. وذلك أن الواجب على كل مكلف في آيات الله الإيمان بها وتعظيمها وإجلالها وتفخيمها، وهذا المقصود بإنزالها، وهو الذي خَلَق الله الخَلْق لأجله، فضد الإيمان الكفر بها، وضد تعظيمها الاستهزاء بها واحتقارها، ويدخل في ذلك مجادلة الكفار والمنافقين لإبطال آيات الله ونصر كفرهم.
وكذلك المبتدعون على اختلاف أنواعهم، فإن احتجاجهم على باطلهم يتضمن الاستهانة بآيات الله لأنها لا تدل إلا على حق، ولا تستلزم إلا صدقا، بل وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتقتحم حدوده التي حدها لعباده ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم ( حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) أي: غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها.
( إِنَّكُمْ إِذًا ) أي: إن قعدتم معهم في الحال المذكورة ( مِثْلُهُمْ ) لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها، والحاصل أن من حضر مجلسا يعصى الله به، فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة، أو القيام مع عدمها.

( إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) كما اجتمعوا على الكفر والموالاة ولا ينفع الكافرين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg مجرد كونهم في الظاهر مع المؤمنين كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَا تُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر الآيات.

ابو وليد البحيرى
2019-03-20, 12:06 AM
الحلقة (101)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(141الى الأية(147)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا (141) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

ثم ذكر تحقيق موالاة المنافقين للكافرين ومعاداتهم للمؤمنين فقال: ( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ) أي: ينتظرون الحالة التي تصيرون عليها، وتنتهون إليها من خير أو شر، قد أعدوا لكل حالة جوابا بحسب نفاقهم. ( فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ) فيظهرون أنهم مع المؤمنين ظاهرا وباطنا ليسلموا من القدح والطعن عليهم، وليشركوهم في الغنيمة والفيء ولينتصروا بهم.
( وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ ) ولم يقل فتح؛ لأنه لا يحصل لهم فتح، يكون مبدأ لنصرتهم المستمرة، بل غاية ما يكون أن يكون لهم نصيب غير مستقر، حكمة من الله. فإذا كان ذلك ( قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ) أي: نستولي عليكم ( وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي: يتصنعون عندهم بكف أيديهم عنهم مع القدرة، ومنعهم من المؤمنين بجميع وجوه المنع من تقيدهم وتزهيدهم في القتال، ومظاهرة الأعداء عليهم، وغير ذلك مما هو معروف منهم.
( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) فيجازي المؤمنين ظاهرا وباطنا بالجنة، ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات.
( وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا ) أي: تسلطا واستيلاء عليهم، بل لا تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، ولا يزال الله يحدث من أسباب النصر للمؤمنين، ودفعٍ لتسلط الكافرين، ما هو مشهود بالعيان. حتى إن [بعض] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg المسلمين الذين تحكمهم الطوائف الكافرة، قد بقوا محترمين لا يتعرضون لأديانهم ولا يكونون مستصغرين عندهم، بل لهم العز التام من الله، فله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg الحمد أوّلا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا.


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا (143) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg . يخبر تعالى عن المنافقين بما كانوا عليه، من قبيح الصفات وشنائع السمات، وأن طريقتهم مخادعة الله تعالى، أي: بما أظهروه من الإيمان وأبطنوه من الكفران، ظنوا أنه يروج على الله ولا يعلمه ولا يبديه لعباده، والحال أن الله خادعهم، فمجرد وجود هذه الحال منهم ومشيهم عليها، خداع لأنفسهم. وأي خداع أعظم ممن يسعى سعيًا يعود عليه بالهوان والذل والحرمان؟
ويدل بمجرده على نقص عقل صاحبه، حيث جمع بين المعصية، ورآها حسنة، وظنها من العقل والمكر، فلله ما يصنع الجهل والخذلان بصاحبه.
ومن خداعه لهم يوم القيامة ما ذكره الله في قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَا تُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg... إلى آخر الآيات.
" وَ " من صفاتهم أنهم ( إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ ) -إن قاموا- التي هي أكبر الطاعات العملية ( قَامُوا كُسَالَى ) متثاقلين لها متبرمين من فعلها، والكسل لا يكون إلا من فقد الرغبة من قلوبهم، فلولا أن قلوبهم فارغة من الرغبة إلى الله وإلى ما عنده، عادمة للإيمان، لم يصدر منهم الكسل، ( يُرَاءُونَ النَّاسَ ) أي: هذا الذي انطوت عليه سرائرهم وهذا مصدر أعمالهم، مراءاة الناس، يقصدون رؤية الناس وتعظيمهم واحترامهم ولا يخلصون لله، فلهذا ( لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا ) لامتلاء قلوبهم من الرياء، فإن ذكر الله تعالى وملازمته لا يكون إلا من مؤمن ممتلئ قلبه بمحبة الله وعظمته.
( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ) أي: مترددين بين فريق المؤمنين وفريق الكافرين. فلا من المؤمنين ظاهرا وباطنا، ولا من الكافرين ظاهرا وباطنا. أعطوا باطنهم للكافرين وظاهرهم للمؤمنين، وهذا أعظم ضلال يقدر. ولهذا قـال: ( وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلا ) أي: لن تجد طريقا لهدايته ولا وسيلة لترك غوايته، لأنه انغلق عنه باب الرحمة، وصار بدله كل نقمة.
فهذه الأوصاف المذمومة تدل بتنبيهها على أن المؤمنين متصفون بضدها، من الصدق ظاهرا وباطنا، والإخلاص، وأنهم لا يجهل ما عندهم، ونشاطهم في صلاتهم وعباداتهم، وكثرة ذكرهم لله تعالى. وأنهم قد هداهم الله ووفقهم للصراط المستقيم. فليعرض العاقل نفسه على هذين الأمرين وليختر أيهما أولى به، وبالله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg المستعان.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

لما ذكر أن من صفات المنافقين اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، نهى عباده المؤمنين أن يتصفوا بهذه الحالة القبيحة، وأن يشابهوا المنافقين، فإن ذلك موجب لأن ( تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ) أي: حجة واضحة على عقوبتكم، فإنه قد أنذرنا وحذرنا منها، وأخبرنا بما فيها من المفاسد، فسلوكها بعد هذا موجِب للعقاب.
وفي هذه الآية دليل على كمال عدل الله، وأن الله لا يُعَذِّب أحدا قبل قيام الحجة عليه، وفيه التحذير من المعاصي؛ فإن فاعلها يجعل لله عليه سلطانا مبينا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

يخبر تعالى عن مآل المنافقين أنهم في أسفل الدركات من العذاب، وأشر الحالات من العقاب. فهم تحت سائر الكفار لأنهم شاركوهم بالكفر بالله ومعاداة رسله، وزادوا عليهم المكر والخديعة والتمكن من كثير من أنواع العداوة للمؤمنين، على وجه لا يشعر به ولا يحس. ورتبوا على ذلك جريان أحكام الإسلام عليهم، واستحقاق ما لا يستحقونه، فبذلك ونحوه استحقوا أشد العذاب، وليس لهم منقذ من عذابه ولا ناصر يدفع عنهم بعض عقابه، وهذا عام لكل منافق إلا مَنْ مَنَّ الله عليهم بالتوبة من السيئات. ( وَأَصْلَحُوا ) له الظواهر والبواطن ( وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ ) والتجأوا إليه في جلب منافعهم ودفع المضار عنهم. ( وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ ) الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان ( لِلَّهِ ) .
فقصدوا وجه الله بأعمالهم الظاهرة والباطنة وسلِمُوا من الرياء والنفاق، فمن اتصف بهذه الصفات ( فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي: في الدنيا، والبرزخ، ويوم القيامة ( وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) لا يعلم كنهه إلا الله، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وتأمل كيف خص الاعتصام والإخلاص بالذكر، مع دخولهما في قوله: ( وَأَصْلَحُوا ) لأن الاعتصام والإخلاص من جملة الإصلاح، لشدة الحاجة إليهما خصوصا في هذا المقام الحرج الذي يمكن من القلوب النفاق، فلا يزيله إلا شدة الاعتصام بالله، ودوام اللجأ والافتقار إليه في دفعه، وكون الإخلاص منافيا كل المنافاة للنفاق، فذكرهما لفضلهما وتوقفِ الأعمال الظاهرة والباطنة عليهما، ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما.
وتأمل كيف لما ذكر أن هؤلاء مع المؤمنين لم يقل: وسوف يؤتيهم أجرا عظيما، مع أن السياق فيهم. بل قال: ( وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) لأن هذه القاعدة الشريفة -لم يزل الله يبدئ فيها ويعيد، إذا كان السياق في بعض الجزئيات، وأراد أن يرتب http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg عليه ثوابًا أو عقابا وكان ذلك مشتركًا بينه وبين الجنس الداخل فيه، رتب الثواب في مقابلة الحكم العام الذي تندرج تحته تلك القضية وغيرها، ولئلا يتوهم اختصاص الحكم بالأمر الجزئي، فهذا من أسرار القرآن البديعة، فالتائب من المنافقين مع المؤمنين وله ثوابهم.
ثم أخبر تعالى عن كمال غناه وسعة حلمه ورحمته وإحسانه فقال: ( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ) والحال أن الله شاكر عليم. يعطي المتحملين لأجله الأثقال، الدائبين في الأعمال، جزيل الثواب وواسع الإحسان. ومن ترك شيئًا لله أعطاه الله خيرًا منه.
ومع هذا يعلم ظاهركم وباطنكم، وأعمالكم وما تصدر عنه من إخلاص وصدق، وضد ذلك. وهو يريد منكم التوبة والإنابة والرجوع إليه، فإذا أنبتم إليه، فأي شيء يفعل بعذابكم؟ فإنه لا يتشفى بعذابكم، ولا ينتفع بعقابكم، بل العاصي لا يضر إلا نفسه، كما أن عمل المطيع لنفسه.

والشكر هو خضوع القلب واعترافه بنعمة الله، وثناء اللسان على المشكور، وعمل الجوارح بطاعته وأن لا يستعين بنعمه على معاصيه.

ابو وليد البحيرى
2019-03-20, 12:11 AM
الحلقة (102)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(148الى الأية(154)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، أي: يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه، ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن، كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي يبغضه الله. ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من القول كالذكر والكلام الطيب اللين.
وقوله: ( إِلا مَن ظُلِمَ ) أي: فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ويتشكى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg منه، ويجهر بالسوء لمن جهر له به، من غير أن يكذب عليه ولا يزيد على مظلمته، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه، ومع ذلك فعفوه وعـدم مقابلته أولى، كما قـال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ) ولما كانت الآية قد اشتملت على الكلام السيئ والحسن والمباح، أخبر تعالى أنه ( سميع ) فيسمع أقوالكم، فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم على ذلك. وفيه أيضا ترغيب على القول الحسن. ( عَلِيمٌ ) بنياتكم ومصدر أقوالكم.
ثم قال تعالى: ( إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ ) وهذا يشمل كل خير قوليّ وفعليّ، ظاهر وباطن، من واجب ومستحب.
( أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ ) أي: عمن ساءكم في أبدانكم وأموالكم وأعراضكم، فتسمحوا عنه، فإن الجزاء من جنس العمل. فمن عفا لله عفا الله عنه، ومن أحسن أحسن الله إليه، فلهذا قال: ( فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ) أي: يعفو عن زلات عباده وذنوبهم العظيمة فيسدل عليهم ستره، ثم يعاملهم بعفوه التام الصادر عن قدرته.
وفي هذه الآية إرشاد إلى التفقه في معاني أسماء الله وصفاته، وأن الخلق والأمر صادر عنها، وهي مقتضية له، ولهذا يعلل الأحكام بالأسماء الحسنى، كما في هذه الآية.
لما ذكر عمل الخير والعفو عن المسيء رتب على ذلك، بأن أحالنا على معرفة أسمائه وأن ذلك يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هنا قسمان قد وضحا لكل أحد: مؤمنٌ بالله وبرسله كلِّهم وكتبه، وكافرٌ بذلك كله.
وبقي قسم ثالث: وهو الذي يزعم أنه يؤمن ببعض الرسل دون بعض، وأن هذا سبيل ينجيه من عذاب الله، إنْ هذا إلا مجرد أماني. فإن هؤلاء يريدون التفريق بين الله وبين رسله.
فإن من تولى الله حقيقة تولى جميع رسله لأن ذلك من تمام توليه، ومن عادى أحدا من رسله فقد عادى الله وعادى جميع رسله، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآيات.
وكذلك مَنْ كفر برسول فقد كفر بجميع الرسل، بل بالرسول الذي يزعم أنه به مؤمن، ولهذا قال: ( أُولَئِكَ هُـمُ الْكَـافِرُونَ حَقًّا ) وذلك لئلا يتوهم أن مرتبتهم متوسطة بين الإيمان والكفر.
< 1-213 > ووجه كونهم كافرين - حتى بما زعموا الإيمان به- أن كل دليل دلهم على الإيمان بمن آمنوا به موجود هو أو مثله أو ما فوقه للنبي الذي كفروا به، وكل شبهة يزعمون أنهم يقدحون بها في النبي الذي كفروا به موجود مثلها أو أعظم منها فيمن آمنوا به.
فلم يبق بعد ذلك إلا التشهي والهوى ومجرد الدعوى التي يمكن كل أحد أن يقابلها بمثلها، ولما ذكر أن هؤلاء هم الكافرون حقا ذكر عقابا شاملا لهم ولكل كافر فقال: ( وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ) كما تكبروا عن الإيمان بالله، أهانهم بالعذاب الأليم المخزي.
( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ) وهذا يتضمن الإيمان بكل ما أخبر الله به عن نفسه وبكل ما جاءت به الرسل من الأخبار والأحكام. ( وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ ) من رسله، بل آمنوا بهم كلهم، فهذا هو الإيمان الحقيقي، واليقين المبني على البرهان.

( أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ) أي: جزاء إيمانهم وما ترتب عليه من عمل صالح، وقول حسن، وخلق جميل، كُلٌّ على حسب حاله. ولعل هذا هو السر في إضافة الأجور إليهم، ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) يغفر السيئات ويتقبل الحسنات.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على وجه العناد والاقتراح، وجعلهم هذا السؤال يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم. وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل، وهذا غاية الظلم منهم والجهل، فإن الرسول بشر عبد مدبر، ليس في يده من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده كما قال تعالى عن الرسول، لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وكذلك جعلهم الفارق بين الحق والباطل مجرد إنزال الكتاب جملة أو مفرقا، مجرد دعوى لا دليل عليها ولا مناسبة، بل ولا شبهة، فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب نزل مفرقا فلا تؤمنوا به ولا تصدقوه؟
بل نزول هذا القرآن مفرقا بحسب الأحوال مما يدل على عظمته واعتناء الله بمن أنزل عليه، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
فلما ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم، بل سبق لهم من المقدمات القبيحة ما هو أعظم مما سلكوه مع الرسول الذي يزعمون أنهم آمنوا به. من سؤالهم له رؤية الله عيانا، واتخاذهم العجل إلهًا يعبدونه، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم يره غيرهم.
ومن امتناعهم من قبول أحكام كتابهم وهو التوراة، حتى رفع الطور من فوق رءوسهم وهددوا أنهم إن لم يؤمنوا أسقط عليهم، فقبلوا ذلك على وجه الإغماض والإيمان الشبيه بالإيمان الضروري.

ومن امتناعهم من دخول أبواب القرية التي أمروا بدخولها سجدا مستغفرين، فخالفوا القول والفعل. ومن اعتداء من اعتدى منهم في السبت فعاقبهم الله تلك العقوبة الشنيعة.
وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم فنبذوه وراء ظهورهم.

ابو وليد البحيرى
2019-03-20, 12:14 AM
الحلقة (103)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(155الى الأية(162)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وكفروا بآيات الله وقتلوا رسله بغير حق. ومن قولهم: إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه، والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه بل شُبِّه لهم غيره، فقتلوا غيره وصلبوه.
وادعائهم أن قلوبهم غلف لا تفقه ما تقول لهم ولا تفهمه، وبصدهم الناس عن سبيل الله، فصدوهم عن الحق، ودعوهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي. وبأخذهم السحت والربا مع نهي الله لهم عنه والتشديد فيه.
فالذين فعلوا هذه الأفاعيل لا يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وهذه الطريقة من أحسن الطرق لمحاجة الخصم المبطل، وهو أنه إذا صدر منه من الاعتراض الباطل ما جعله شبهة له ولغيره في رد الحق أن يبين من حاله الخبيثة وأفعاله الشنيعة ما هو من أقبح ما صدر منه، ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك الوادي الخسيس، وأن له مقدمات يُجعل هذا معها.
وكذلك كل اعتراض يعترضون به على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقابل بمثله أو ما هو أقوى منه في نبوة من يدعون إيمانهم به ليكتفى بذلك شرهم وينقمع باطلهم، وكل حجة سلكوها في تقريرهم لنبوة من آمنوا < 1-214 > به فإنها ونظيرها وما هو أقوى منها، دالة ومقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة لم يبسطها في هذا الموضع، بل أشار إليها، وأحال على مواضعها وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللائق ببسطها.
وقوله: ( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) يحتمل أن الضمير هنا في قوله: ( قَبْلَ مَوْتِهِ ) يعود إلى أهل الكتاب، فيكون على هذا كل كتابي يحضره الموت ويعاين الأمر حقيقة، فإنه يؤمن بعيسى عليه السلام ولكنه إيمان لا ينفع، إيمان اضطرار، فيكون مضمون هذا التهديد لهم والوعيد، وأن لا يستمروا على هذه الحال التي سيندمون عليها قبل مماتهم، فكيف يكون حالهم يوم حشرهم وقيامهم؟
ويحتمل أن الضمير في قوله: ( قَبْلَ مَوْتِهِ ) راجع إلى عيسى عليه السلام، فيكون المعنى: وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالمسيح عليه السلام قبل موت المسيح، وذلك يكون عند اقتراب الساعة وظهور علاماتها الكبار.
فإنه تكاثرت الأحاديث الصحيحة في نزوله عليه السلام في آخر هذه الأمة. يقتل الدجال، ويضع الجزية، ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين. ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا، يشهد عليهم بأعمالهم، وهل هي موافقة لشرع الله أم لا؟
وحينئذ لا يشهد إلا ببطلان كل ما هم عليه، مما هو مخالف لشريعة القرآن وَلِمَا دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، علمنا بذلك، لِعِلْمِنَا بكمال عدالة المسيح عليه السلام وصدقه، وأنه لا يشهد إلا بالحق، إلا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وما عداه فهو ضلال وباطل.
ثم أخبر تعالى أنه حرم على أهل الكتاب كثيرا من الطيبات التي كانت حلالا عليهم، وهذا تحريم عقوبة بسبب ظلمهم واعتدائهم، وصدهم الناس عن سبيل الله، ومنعهم إياهم من الهدى، وبأخذهم الربا وقد نهوا عنه، فمنعوا المحتاجين ممن يبايعونه عن العدل، فعاقبهم الله من جنس فعلهم فمنعهم من كثير من الطيبات التي كانوا بصدد حلها، لكونها طيبة، وأما التحريم الذي على هذه الأمة فإنه تحريم تنزيه لهم عن الخبائث التي تضرهم في دينهم ودنياهم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُون َ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُون َ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما ذكر معايب أهل الكتاب، ذكر الممدوحين منهم فقال: ( لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) أي: الذين ثبت العلم في قلوبهم ورسخ الإيقان في أفئدتهم فأثمر لهم الإيمان التام العام ( بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِن قَبْلِكَ ) .

وأثمر لهم الأعمال الصالحة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة اللذين هما أفضل الأعمال، وقد اشتملتا على الإخلاص للمعبود والإحسان إلى العبيد. وآمنوا باليوم الآخر فخافوا الوعيد ورجوا الوعد.

( أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ) لأنهم جمعوا بين العلم والإيمان والعمل الصالح، والإيمان بالكتب والرسل السابقة واللاحقة.

ابو وليد البحيرى
2019-03-20, 12:23 AM
الحلقة (104)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(163الى الأية(170)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (163) وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله من الشرع العظيم والأخبار الصادقة ما أوحى إلى هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفي هذا عدة فوائد:
منها: أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل، بل أرسل الله قبله من المرسلين العدد الكثير والجم الغفير فاستغراب رسالته لا وجه له إلا الجهل والعناد.
ومنها: أنه أوحى إليه كما أوحى إليهم من الأصول والعدل الذي اتفقوا عليه، وأن بعضهم يصدق بعضا ويوافق بعضهم بعضا.
ومنها: أنه من جنس هؤلاء الرسل، فليعتبره المعتبر بإخوانه المرسلين، فدعوته دعوتهم؛ وأخلاقهم متفقة؛ ومصدرهم واحد؛ وغايتهم واحدة، فلم يقرنه بالمجهولين؛ ولا بالكذابين ولا بالملوك الظالمين.

ومنها: أن في ذكر هؤلاء الرسل وتعدادهم من التنويه بهم، والثناء الصادق عليهم، وشرح أحوالهم مما يزداد به المؤمن إيمانا بهم ومحبة لهم، واقتداء بهديهم، واستنانا بسنتهم ومعرفة بحقوقهم، ويكون ذلك مصداقا لقوله: ( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) ( سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) ( سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ) ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
فكل محسن له من الثناء الحسن بين الأنام بحسب إحسانه والرسل -خصوصا هؤلاء المسمون- في المرتبة العليا من الإحسان.
ولما ذكر اشتراكهم بوحيه ذكر تخصيص بعضهم فذكر أنه آتى داود الزبور وهو الكتاب المعروف المزبور < 1-215 > الذي خص الله به داود عليه السلام لفضله وشرفه وأنه كلم موسى تكليما أي مشافهة منه إليه لا بواسطة حتى اشتهر بهذا عند العالمين فيقال "موسى كليم الرحمن".
وذكر أن الرسل منهم من قصه الله على رسوله ومنهم من لم يقصصه عليه وهذا يدل على كثرتهم وأن الله أرسلهم مبشرين لمن أطاع الله واتبعهم بالسعادة الدنيوية والأخروية ومنذرين من عصى الله وخالفهم بشقاوة الدارين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فيقولوا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
فلم يبق للخَلْق على الله حجة لإرساله الرسل تترى يبينون لهم أمر دينهم ومراضي ربهم ومساخطه وطرق الجنة وطرق النار فمن كفر منهم بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
وهذا من كمال عزته تعالى وحكمته أن أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب وذلك أيضا من فضله وإحسانه حيث كان الناس مضطرين إلى الأنبياء أعظم ضرورة تقدر فأزال هذا الاضطرار فله الحمد وله الشكر ونسأله كما ابتدأ علينا نعمته بإرسالهم أن يتمها بالتوفيق لسلوك طريقهم إنه جواد كريم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما ذكر أن الله أوحى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى إخوانه من المرسلين، أخبر هنا بشهادته تعالى على رسالته وصحة ما جاء به، وأنه ( أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ ) يحتمل أن يكون المراد أنزله مشتملا على علمه، أي: فيه من العلوم الإلهية والأحكام الشرعية والأخبار الغيبية ما هو من علم الله تعالى الذي علم به عباده.
ويحتمل أن يكون المراد: أنزله صادرا عن علمه، ويكون في ذلك إشارة وتنبيه على وجه شهادته، وأن المعنى: إذا كان تعالى أنزل هذا القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي، وهو يعلم ذلك ويعلم حالة الذي أنزله عليه، وأنه دعا الناس إليه، فمن أجابه وصدقه كان وليه، ومن كذبه وعاداه كان عدوه واستباح ماله ودمه، والله تعالى يمكنه ويوالي نصره ويجيب دعواته، ويخذل أعداءه وينصر أولياءه، فهل توجد شهادة أعظم من هذه الشهادة وأكبر؟ ولا يمكن القدح في هذه الشهادة إلا بعد القدح بعلم الله وقدرته وحكمته وإخباره تعالى بشهادة الملائكة على ما أنزل على رسوله، لكمال إيمانهم ولجلالة هذا المشهود عليه.
فإن الأمور العظيمة لا يستشهد عليها إلا الخواص، كما قال تعالى في الشهادة على التوحيد: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وكفى بالله شهيدا.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما أخبر عن رسالة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وأخبر برسالة خاتمهم محمد، وشهد بها وشهدت ملائكته -لزم من ذلك ثبوت الأمر المقرر والمشهود به، فوجب تصديقهم، والإيمان بهم واتباعهم.
ثم توعد من كفر بهم فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ) أي: جمعوا بين الكفر بأنفسهم وصدِّهم الناس عن سبيل الله. وهؤلاء هم أئمة الكفر ودعاة الضلال ( قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا ) وأي ضلال أعظم من ضلال من ضل بنفسه وأضل غيره، فباء بالإثمين ورجع بالخسارتين وفاتته الهدايتان، ولهذا قال: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا ) وهذا الظلم هو زيادة على كفرهم، وإلا فالكفر عند إطلاق الظلم يدخل فيه.
والمراد بالظلم هنا أعمال الكفر والاستغراق فيه، فهؤلاء بعيدون من المغفرة والهداية للصراط المستقيم. ولهذا قال: ( لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ ).
وإنما تعذرت المغفرة لهم والهداية لأنهم استمروا في طغيانهم وازدادوا في كفرانهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg فطبع على قلوبهم وانسدت عليهم طرق الهداية بما كسبوا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ) أي لا يبالي الله بهم ولا يعبأ لأنهم لا يصلحون للخير ولا يليق بهم إلا الحالة التي اختاروها لأنفسهم

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يأمر تعالى جميع الناس أن يؤمنوا بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وذكر السبب الموجب للإيمان به، والفائدة في الإيمان به، والمضرة من عدم الإيمان به، فالسبب الموجب هو إخباره < 1-216 > بأنه جاءهم بالحق.أي: فمجيئه نفسه حق، وما جاء به من الشرع حق، فإن العاقل يعرف أن بقاء الخلق في جهلهم يعمهون، وفي كفرهم يترددون، والرسالة قد انقطعت عنهم غير لائق بحكمة الله ورحمته، فمن حكمته ورحمته العظيمة نفس إرسال الرسول إليهم، ليعرفهم الهدى من الضلال، والغي من الرشد، فمجرد النظر في رسالته دليل قاطع على صحة نبوته.
وكذلك النظر إلى ما جاء به من الشرع العظيم والصراط المستقيم. فإن فيه من الإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة، والخبر عن الله وعن اليوم الآخر -ما لا يعرف إلا بالوحي والرسالة. وما فيه من الأمر بكل خير وصلاح، ورشد وعدل وإحسان، وصدق وبر وصلة وحسن خلق، ومن النهي عن الشر والفساد والبغي والظلم وسوء الخلق، والكذب والعقوق، مما يقطع به أنه من عند الله.
وكلما ازداد به العبد بصيرة، ازداد إيمانه ويقينه، فهذا السبب الداعي للإيمان. وأما الفائدة في الإيمان فأخبر أنه خير لكم والخير ضد الشر. فالإيمان خير للمؤمنين في أبدانهم وقلوبهم وأرواحهم ودنياهم وأخراهم. وذلك لما يترتب عليه من المصالح والفوائد، فكل ثواب عاجل وآجل فمن ثمرات الإيمان، فالنصر والهدى والعلم والعمل الصالح والسرور والأفراح، والجنة وما اشتملت عليه من النعيم كل ذلك مسبب عن الإيمان.

كما أن الشقاء الدنيوي والأخروي من عدم الإيمان أو نقصه. وأما مضرة عدم الإيمان به صلى الله عليه وسلم فيعرف بضد ما يترتب على الإيمان به. وأن العبد لا يضر إلا نفسه، والله تعالى غني عنه لا تضره معصية العاصين، ولهذا قال: ( فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي: الجميع خلقه وملكه، وتحت تدبيره وتصريفه ( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا ) بكل شيء ( حَكِيمًا ) في خلقه وأمره. فهو العليم بمن يستحق الهداية والغواية، الحكيم في وضع الهداية والغواية موضعهما.

ابو وليد البحيرى
2019-03-20, 12:28 AM
الحلقة (105)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(171الى الأية(175)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (171) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد والقدر المشروع إلى ما ليس بمشروع. وذلك كقول النصارى في غلوهم بعيسى عليه السلام، ورفعه عن مقام النبوة والرسالة إلى مقام الربوبية الذي لا يليق بغير الله، فكما أن التقصير والتفريط من المنهيات، فالغلو كذلك، ولهذا قال: ( وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ ) وهذا الكلام يتضمن ثلاثة أشياء:
أمرين منهي عنهما، وهما قول الكذب على الله، والقول بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه ورسله، والثالث: مأمور به وهو قول الحق في هذه الأمور.
ولما كانت هذه قاعدة عامة كلية، وكان السياق في شأن عيسى عليه السلام نصَّ على قول الحق فيه، المخالف لطريقة اليهودية والنصرانية فقال: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ ) أي: غاية المسيح عليه السلام ومنتهى ما يصل إليه من مراتب الكمال أعلى حالة تكون للمخلوقين، وهي درجة الرسالة التي هي أعلى الدرجات وأجلّ المثوبات.
وأنه ( كَلِمَتُهُ ) التي ( أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ) أي: كلمة تكلم الله بها فكان بها عيسى، ولم يكن تلك الكلمة، وإنما كان بها، وهذا من باب إضافة التشريف والتكريم.
وكذلك قوله: ( وَرُوحٌ مّنْهُ ) أي: من الأرواح التي خلقها وكملها بالصفات الفاضلة والأخلاق الكاملة، أرسل الله روحه جبريل عليه السلام فنفخ في فرج مريم عليها السلام، فحملت بإذن الله بعيسى عليه السلام.
فلما بيّن حقيقة عيسى عليه السلام، أمر أهل الكتاب بالإيمان به وبرسله، ونهاهم أن يجعلوا الله ثالث ثلاثة أحدهم عيسى، والثاني مريم، فهذه مقالة النصارى قبحهم الله.
فأمرهم أن ينتهوا، وأخبر أن ذلك خير لهم، لأنه الذي يتعين أنه سبيل النجاة، وما سواه فهو طريق الهلاك، ثم نزه نفسه عن الشريك والولد فقال: ( إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) أي: هو المنفرد بالألوهية، الذي لا تنبغي العبادة إلا له. ( سُبْحَانَهُ ) أي: تنزه وتقدس ( أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) لأن ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) فالكل مملوكون له مفتقرون إليه، فمحال أن يكون له شريك منهم أو ولد.

ولما أخبر أنه المالك للعالم العلوي والسفلي أخبر أنه قائم بمصالحهم الدنيوية والأخروية وحافظها، ومجازيهم عليها تعالى.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُم ْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (173) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما ذكر تعالى غلو النصارى في عيسى عليه السلام، وذكر أنه عبده ورسوله، ذكر هنا أنه لا يستنكف عن عبادة ربه، أي: لا يمتنع عنها رغبة عنها، لا هو ( وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) فنزههم عن الاستنكاف وتنزيههم عن الاستكبار من باب أولى، ونفي الشيء فيه إثبات ضده.
أي: فعيسى والملائكة المقربون قد رغبوا في عبادة ربهم، وأحبوها وسعوا فيها بما يليق بأحوالهم، فأوجب لهم ذلك الشرف العظيم والفوز العظيم، < 1-217 > فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته ولا لإلهيته، بل يرون افتقارهم لذلك فوق كل افتقار.
ولا يظن أن رفع عيسى أو غيره من الخلق فوق مرتبته التي أنزله الله فيها وترفعه عن العبادة كمالا بل هو النقص بعينه، وهو محل الذم والعقاب، ولهذا قال: ( وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُم ْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ) أي: فسيحشر الخلق كلهم إليه، المستنكفين والمستكبرين وعباده المؤمنين، فيحكم بينهم بحكمه العدل، وجزائه الفصل.
ثم فصل حكمه فيهم فقال: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) أي: جمعوا بين الإيمان المأمور به، وعمل الصالحات من واجبات ومستحبات، من حقوق الله وحقوق عباده.
( فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ) أي: الأجور التي رتبها على الأعمال، كُلٌّ بحسب إيمانه وعمله.
( وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ ) من الثواب الذي لم تنله أعمالهم ولم تصل إليه أفعالهم، ولم يخطر على قلوبهم. ودخل في ذلك كل ما في الجنة من المآكل والمشارب، والمناكح، والمناظر والسرور، ونعيم القلب والروح، ونعيم البدن، بل يدخل في ذلك كل خير ديني ودنيوي رتب على الإيمان والعمل الصالح.
( وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا ) أي: عن عبادة الله تعالى ( فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) وهو سخط الله وغضبه، والنار الموقدة التي تطلع على الأفئدة.
( وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) أي: لا يجدون أحدا من الخلق يتولاهم فيحصل لهم المطلوب، ولا مَن ينصرهم فيدفع عنهم المرهوب، بل قد تخلى عنهم أرحم الراحمين، وتركهم في عذابهم خالدين، وما حكم به تعالى فلا رادّ لحكمه ولا مغيّر لقضائه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُم ْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يمتن تعالى على سائر الناس بما أوصل إليهم من البراهين القاطعة والأنوار الساطعة، ويقيم عليهم الحجة، ويوضح لهم المحجة، فقال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَّبِّكُمْ ) أي: حجج قاطعة على الحق تبينه وتوضحه، وتبين ضده.
وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية، الآيات الأفقية والنفسية http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وفي قوله: ( مِن رَّبِّكُمْ ) ما يدل على شرف هذا البرهان وعظمته، حيث كان من ربكم الذي رباكم التربية الدينية والدنيوية، فمن تربيته لكم التي يحمد عليها ويشكر، أن أوصل إليكم البينات، ليهديكم بها إلى الصراط المستقيم، والوصول إلى جنات النعيم.
( وَأَنزلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) وهو هذا القرآن العظيم، الذي قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين والأخبار الصادقة النافعة، والأمر بكل عدل وإحسان وخير، والنهي عن كل ظلم وشر، فالناس في ظلمة إن لم يستضيئوا بأنواره، وفي شقاء عظيم إن لم يقتبسوا من خيره.
ولكن انقسم الناس -بحسب الإيمان بالقرآن والانتفاع به- قسمين:

( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ) أي: اعترفوا بوجوده واتصافه بكل وصف كامل، وتنزيهه من كل نقص وعيب. ( وَاعْتَصَمُوا بِهِ ) أي: لجأوا إلى الله واعتمدوا عليه وتبرؤوا من حولهم وقوتهم واستعانوا بربهم. ( فَسَيُدْخِلُهُم ْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ ) أي: فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة، فيوفقهم للخيرات ويجزل لهم المثوبات، ويدفع عنهم البليات والمكروهات.
( وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) أي: يوفقهم للعلم والعمل، معرفة الحق والعمل به.
أي: ومن لم يؤمن بالله ويعتصم به ويتمسك بكتابه، منعهم من رحمته، وحرمهم من فضله، وخلى بينهم وبين أنفسهم، فلم يهتدوا، بل ضلوا ضلالا مبينا، عقوبة لهم على تركهم الإيمان فحصلت لهم الخيبة والحرمان، نسأله تعالى العفو والعافية والمعافاة.

ابو وليد البحيرى
2019-03-20, 12:35 AM
الحلقة (106)
تفسير السعدى
فففسورة النساء ققق
من الأية(176الى الأية(/)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة النساء
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أخبر تعالى أن الناس استفتوا رسوله صلى الله عليه وسلم أي: في الكلالة بدليل قوله: ( قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) وهي الميت يموت وليس له ولد صلب ولا ولد ابن، ولا أب، ولا جد، ولهذا قال: ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ) أي: لا ذكر ولا أنثى، لا ولد صلب ولا ولد ابن.
وكذلك ليس له والد، بدليل أنه ورث فيه الإخوة، والأخوات بالإجماع لا يرثون مع الوالد، فإذا هلك وليـس لـه ولـد ولا والـد ( وَلَهُ أُخْتٌ ) أي: شقيقة أو لأب، لا لأم، فإنه قد تقدم حكمها. ( فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) أي نصف متروكات أخيها، من نقود وعقار وأثاث وغير ذلك، وذلك من بعد الدين والوصية كما تقدم.
( وَهُوَ ) أي: أخوها الشقيق أو الذي للأب ( يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَهَا وَلَدٌ ) ولم يقدر له إرثا لأنه عاصب فيأخذ مالها كله، إن لم يكن صاحب فرض ولا عاصب يشاركه، أو ما أبقت الفروض.
( فَإِن كَانَتَا ) أي: الأختان ( اثْنَتَيْنِ ) أي: فما فوق ( فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً ) أي: اجتمع الذكور من الإخوة لغير أم مع الإناث ( فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) فيسقط فرض الإناث ويعصبهن إخوتهن.
( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ) أي: < 1-218 > يبين لكم أحكامه التي تحتاجونها، ويوضحها ويشرحها لكم فضلا منه وإحسانا لكي تهتدوا ببيانه، وتعملوا بأحكامه، ولئلا تضلوا عن الصراط المستقيم بسبب جهلكم وعدم علمكم.
( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أي: عالم بالغيب والشهادة والأمور الماضية والمستقبلة، ويعلم حاجتكم إلى بيانه وتعليمه، فيعلمكم من علمه الذي ينفعكم على الدوام في جميع الأزمنة والأمكنة.
آخر تفسير سورة النساء فلله الحمد والشكر.


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود، أي: بإكمالها، وإتمامها، وعدم نقضها ونقصها. وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه، من التزام عبوديته، والقيام بها أتم قيام، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا، والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب، ببرهم وصلتهم، وعدم قطيعتهم.
والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر، واليسر والعسر، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات، كالبيع والإجارة، ونحوهما، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها، بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg بالتناصر على الحق، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع.
فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه، فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg.
ثم قال ممتنا على عباده: ( أُحِلَّتْ لَكُمْ ) أي: لأجلكم، رحمة بكم ( بَهِيمَةُ الأنْعَامِ ) من الإبل والبقر والغنم، بل ربما دخل في ذلك الوحشي منها، والظباء وحمر الوحش، ونحوها من الصيود.
واستدل بعض الصحابة بهذه الآية على إباحة الجنين الذي يموت في بطن أمه بعدما تذبح.
( إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) تحريمه منها في قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر الآية. فإن هذه المذكورات وإن كانت من بهيمة الأنعام فإنها محرمة.
ولما كانت إباحة بهيمة الأنعام عامة في جميع الأحوال والأوقات، استثنى منها الصيد في حال الإحرام فقال: ( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ) أي: أحلت لكم بهيمة الأنعام في كل حال، إلا حيث كنتم متصفين بأنكم غير محلي الصيد وأنتم حرم، أي: متجرئون على قتله في حال الإحرام، وفي الحرم، فإن ذلك لا يحل لكم إذا كان صيدا، كالظباء ونحوه.
والصيد هو الحيوان المأكول المتوحش.
( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ) أي: فمهما أراده تعالى حكم به حكما موافقا لحكمته، كما أمركم بالوفاء بالعقود لحصول مصالحكم ودفع المضار عنكم.
وأحل لكم بهيمة الأنعام رحمة بكم، وحرم عليكم ما استثنى منها من ذوات العوارض، من الميتة ونحوها، صونا لكم واحتراما، ومن صيد الإحرام احتراما للإحرام وإعظاما.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) أي: محرماته التي أمركم بتعظيمها، وعدم فعلها، والنهي يشمل النهي عن فعلها، والنهي عن اعتقاد حلها؛ فهو يشمل النهي، عن فعل القبيح، وعن اعتقاده.
ويدخل في ذلك النهي عن محرمات الإحرام، ومحرمات الحرم. ويدخل في ذلك ما نص عليه بقوله: ( وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ) أي: لا تنتهكوه بالقتال فيه وغيره من أنواع الظلم كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
والجمهور من العلماء على أن القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى: ( فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وغير ذلك من العمومات التي فيها الأمر بقتال الكفار مطلقا، والوعيد في التخلف عن قتالهم مطلقا.
< 1-219 >
وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف في ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم.
وقال آخرون: إن النهي عن القتال في الأشهر الحرم غير منسوخ لهذه الآية وغيرها، مما فيه النهي عن ذلك بخصوصه، وحملوا النصوص المطلقة الواردة على ذلك، وقالوا: المطلق يحمل على المقيد.
وفصل بعضهم فقال: لا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم، وأما استدامته وتكميله إذا كان أوله في غيرها، فإنه يجوز.
وحملوا قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف على ذلك، لأن أول قتالهم في "حنين" في "شوال". وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود منه الدفع.

فأما قتال الدفع إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال، فإنه يجوز للمسلمين القتال، دفعا عن أنفسهم في الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء.
وقوله: ( وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ ) أي: ولا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت الله في حج أو عمرة، أو غيرهما، من نعم وغيرها، فلا تصدوه عن الوصول إلى محله، ولا تأخذوه بسرقة أو غيرها، ولا تقصروا به، أو تحملوه ما لا يطيق، خوفا من تلفه قبل وصوله إلى محله، بل عظموه وعظموا من جاء به.
( وَلا الْقَلائِدَ ) هذا نوع خاص من أنواع الهدي، وهو الهدي الذي يفتل له قلائد أو عرى، فيجعل في أعناقه إظهارا لشعائر الله، وحملا للناس على الاقتداء، وتعليما لهم للسنة، وليعرف أنه هدي فيحترم، ولهذا كان تقليد الهدي من السنن والشعائر المسنونة.
( وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ) أي: قاصدين له ( يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ) أي: من قصد هذا البيت الحرام، وقصده فضل الله بالتجارة والمكاسب المباحة، أو قصده رضوان الله بحجه وعمرته والطواف به، والصلاة، وغيرها من أنواع العبادات، فلا تتعرضوا له بسوء، ولا تهينوه، بل أكرموه، وعظموا الوافدين الزائرين لبيت ربكم.
ودخل في هذا الأمر الأمرُ بتأمين الطرق الموصلة إلى بيت الله وجعل القاصدين له مطمئنين مستريحين، غير خائفين على أنفسهم من القتل فما دونه، ولا على أموالهم من المكس والنهب ونحو ذلك.
وهذه الآية الكريمة مخصوصة بقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فالمشرك لا يُمَكَّن من الدخول إلى الحرم.
والتخصيص في هذه الآية بالنهي عن التعرض لمن قصد البيت ابتغاء فضل الله أو رضوانه -يدل على أن من قصده ليلحد فيه بالمعاصي، فإن من تمام احترام الحرم صد من هذه حاله عن الإفساد ببيت الله، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ولما نهاهم عن الصيد في حال الإحرام قال: ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ) أي: إذا حللتم من الإحرام بالحج والعمرة، وخرجتم من الحرم حل لكم الاصطياد، وزال ذلك التحريم. والأمر بعد التحريم يرد الأشياء إلى ما كانت عليه من قبل.
( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ) أي: لا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم واعتداؤهم عليكم، حيث صدوكم عن المسجد، على الاعتداء عليهم، طلبا للاشتفاء منهم، فإن العبد عليه أن يلتزم أمر الله، ويسلك طريق العدل، ولو جُنِي عليه أو ظلم واعتدي عليه، فلا يحل له أن يكذب على من كذب عليه، أو يخون من خانه.
( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) أي: ليعن بعضكم بعضا على البر. وهو: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأعمال الظاهرة والباطنة، من حقوق الله وحقوق الآدميين.
والتقوى في هذا الموضع: اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله، من الأعمال الظاهرة والباطنة. وكلُّ خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها، أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه، وبمعاونة غيره من إخوانه المؤمنين عليها، بكل قول يبعث عليها وينشط لها، وبكل فعل كذلك.
( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ ) وهو التجرؤ على المعاصي التي يأثم صاحبها، ويحرج. ( وَالْعُدْوَانِ ) وهو التعدي على الخَلْق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه، ثم إعانة غيره على تركه.
( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) على من عصاه وتجرأ على محارمه، فاحذروا المحارم لئلا يحل بكم عقابه العاجل والآجل.

ابو وليد البحيرى
2019-03-20, 12:45 AM
الحلقة (107)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(3 الى الأية(5)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَ ةُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّي َةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا الذي حولنا الله عليه في قوله: ( إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) واعلم أن الله تبارك وتعالى لا يحرّم ما يحرّم إلا صيانة لعباده، وحماية لهم من الضرر الموجود في المحرمات، وقد يبين للعباد ذلك وقد لا يبين.
فأخبر أنه حرم ( الْمَيْتَة ) والمراد < 1-220 > بالميتة: ما فُقِدَت حياتُهُ بغير ذكاة شرعية، فإنها تحرم لضررها، وهو احتقان الدم في جوفها ولحمها المضر بآكلها. وكثيرا ما تموت بعلة تكون سببا لهلاكها، فتضر بالآكل.
ويستثنى من ذلك ميتة الجراد والسمك، فإنه حلال.
( وَالدَّم ) أي: المسفوح، كما قيد في الآية الأخرى. ( وَلَحْم الْخِنزيرِ ) وذلك شامل لجميع أجزائه، وإنما نص الله عليه من بين سائر الخبائث من السباع، لأن طائفة من أهل الكتاب من النصارى يزعمون أن الله أحله لهم. أي: فلا تغتروا بهم، بل هو محرم من جملة الخبائث.
( وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) أي: ذُكر عليه اسم غير الله تعالى، من الأصنام والأولياء والكواكب وغير ذلك من المخلوقين. فكما أن ذكر الله تعالى يطيب الذبيحة، فذكر اسم غيره عليها، يفيدها خبثا معنويا، لأنه شرك بالله تعالى.
( وَالْمُنْخَنِقَ ةُ ) أي: الميتة بخنق، بيد أو حبل، أو إدخالها رأسها بشيء ضيق، فتعجز عن إخراجه حتى تموت.
( وَالْمَوْقُوذَة ُ ) أي: الميتة بسبب الضرب بعصا أو حصى أو خشبة، أو هدم شيء عليها، بقصد أو بغير قصد.
( وَالْمُتَرَدِّي َةُ ) أي: الساقطة من علو، كجبل أو جدار أو سطح ونحوه، فتموت بذلك.
( وَالنَّطِيحَةُ ) وهي التي تنطحها غيرها فتموت.
( وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ) من ذئب أو أسد أو نمر، أو من الطيور التي تفترس الصيود، فإنها إذا ماتت بسبب أكل السبع، فإنها لا تحل.
وقوله: ( إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ ) راجع لهذه المسائل، من منخنقة، وموقوذة، ومتردية، ونطيحة، وأكيلة سبع، إذا ذكيت وفيها حياة مستقرة لتتحقق الذكاة فيها، ولهذا قال الفقهاء: " لو أبان السبع أو غيره حشوتها، أو قطع حلقومها، كان وجود حياتها كعدمه، لعدم فائدة الذكاة فيها " [وبعضهم لم يعتبر فيها إلا وجود الحياة فإذا ذكاها وفيها حياة حلت ولو كانت مبانة الحشوة وهو ظاهر الآية الكريمة]
( وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ) أي: وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام. ومعنى الاستقسام: طلب ما يقسم لكم ويقدر بها، وهي قداح ثلاثة كانت تستعمل في الجاهلية، مكتوب على أحدها "افعل" وعلى الثاني "لا تفعل" والثالث غفل لا كتابة فيه.
فإذا هَمَّ أحدهم بسفر أو عرس أو نحوهما، أجال تلك القداح المتساوية في الجرم، ثم أخرج واحدا منها، فإن خرج المكتوب عليه "افعل" مضى في أمره، وإن ظهر المكتوب عليه"لا تفعل" لم يفعل ولم يمض في شأنه، وإن ظهر الآخر الذي لا شيء عليه، أعادها حتى يخرج أحد القدحين فيعمل به. فحرمه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الله عليهم، الذي في هذه الصورة وما يشبهه, وعوضهم عنه بالاستخارة لربهم في جميع أمورهم.
( ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) الإشارة لكل ما تقدم من المحرمات، التي حرمها الله صيانة لعباده، وأنها فسق، أي: خروج عن طاعته إلى طاعة الشيطان.
ثم امتن على عباده بقوله:
( .... الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَة غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .
واليوم المشار إليه يوم عرفة، إذ أتم الله دينه، ونصر عبده ورسوله، وانخذل أهل الشرك انخذالا بليغا، بعد ما كانوا حريصين على رد المؤمنين عن دينهم، طامعين في ذلك.
فلما رأوا عز الإسلام وانتصاره وظهوره، يئسوا كل اليأس من المؤمنين، أن يرجعوا إلى دينهم، وصاروا يخافون منهم ويخشون، ولهذا في هذه السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع - لم يحج فيها مشرك، ولم يطف بالبيت عريان.
ولهذا قال: ( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ) أي: فلا تخشوا المشركين، واخشوا الله الذي نصركم عليهم وخذلهم، ورد كيدهم في نحورهم.
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) بتمام النصر، وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة، الأصول والفروع، ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية، في أحكام الدين أصوله وفروعه.
فكل متكلف يزعم أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى علوم غير علم الكتاب والسنة، من علم الكلام وغيره، فهو جاهل، مبطل في دعواه، قد زعم أن الدين لا يكمل إلا بما قاله ودعا إليه، وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله.
( وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) الظاهرة والباطنة ( وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا ) أي: اخترته واصطفيته لكم دينا، كما ارتضيتكم له، فقوموا به شكرا لربكم، واحمدوا الذي مَنَّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها.
( فَمَنِ اضْطُرَّ ) أي: ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من المحرمات < 1-221 > السابقة، في قوله: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) ( فِي مَخْمَصَةٍ ) أي: مجاعة ( غَيْرَ مُتَجَانِفٍ ) أي: مائل ( لإثْمٍ ) بأن لا يأكل حتى يضطر، ولا يزيد في الأكل على كفايته ( فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) حيث أباح له الأكل في هذه الحال، ورحمه بما يقيم به بنيته من غير نقص يلحقه في دينه.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُن َّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ) من الأطعمة؟ ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) وهي كل ما فيه نفع أو لذة, من غير ضرر بالبدن ولا بالعقل، فدخل في ذلك جميع الحبوب والثمار التي في القرى والبراري، ودخل في ذلك جميع حيوانات البحر وجميع حيوانات البر، إلا ما استثناه الشارع، كالسباع والخبائث منها.
ولهذا دلت الآية بمفهومها على تحريم الخبائث، كما صرح به في قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ ) أي: أحل لكم ما علمتم من الجوارح إلى آخر الآية. دلت هذه الآية على أمور:
أحدها: لطف الله بعباده ورحمته لهم، حيث وسع عليهم طرق الحلال، وأباح لهم ما لم يذكوه مما صادته الجوارح، والمراد بالجوارح: الكلاب، والفهود، والصقر، ونحو ذلك، مما يصيد بنابه أو بمخلبه.
الثاني: أنه يشترط أن تكون معلمة، بما يعد في العرف تعليما، بأن يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر، وإذا أمسك لم يأكل، ولهذا قال: ( تُعَلِّمُونَهُن َّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) أي: أمسكن من الصيد لأجلكم.
وما أكل منه الجارح فإنه لا يعلم أنه أمسكه على صاحبه، ولعله أن يكون أمسكه على نفسه.
الثالث: اشتراط أن يجرحه الكلب أو الطير ونحوهما، لقوله: ( مِنَ الْجَوَارِحِ ) مع ما تقدم من تحريم المنخنقة. فلو خنقه الكلب أو غيره، أو قتله بثقله لم يبح [هذا بناء على أن الجوارح اللاتي يجرحن الصيد بأنيابها أو مخالبها، والمشهور أن الجوارح بمعنى الكواسب أي: المحصلات للصيد والمدركات لها فلا يكون فيها على هذا دلالة - والله أعلم-] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
الرابع: جواز اقتناء كلب الصيد، كما ورد في الحديث الصحيح، مع أن اقتناء الكلب محرم، لأن من لازم إباحة صيده وتعليمه جواز اقتنائه.
الخامس: طهارة ما أصابه فم الكلب من الصيد، لأن الله أباحه ولم يذكر له غسلا فدل على طهارته.
السادس: فيه فضيلة العلم، وأن الجارح المعلم -بسبب العلم- يباح صيده، والجاهل بالتعليم لا يباح صيده.
السابع: أن الاشتغال بتعليم الكلب أو الطير أو نحوهما، ليس مذموما، وليس من العبث والباطل. بل هو أمر مقصود، لأنه وسيلة لحل صيده والانتفاع به.
الثامن: فيه حجة لمن أباح بيع كلب الصيد، قال: لأنه قد لا يحصل له إلا بذلك.
التاسع: فيه اشتراط التسمية عند إرسال الجارح، وأنه إن لم يسم الله متعمدا، لم يبح ما قتل الجارح.
العاشر: أنه يجوز أكل ما صاده الجارح، سواء قتله الجارح أم لا. وأنه إن أدركه صاحبه، وفيه حياة مستقرة فإنه لا يباح إلا بها.
ثم حث تعالى على تقواه، وحذر من إتيان الحساب في يوم القيامة، وأن ذلك أمر قد دنا واقترب، فقال: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

كرر تعالى إحلال الطيبات لبيان الامتنان، ودعوة للعباد إلى شكره والإكثار من ذكره، حيث أباح لهم ما تدعوهم الحاجة إليه، ويحصل لهم الانتفاع به من الطيبات.
( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ) أي: ذبائح اليهود والنصارى حلال لكم -يا معشر المسلمين- دون باقي الكفار، فإن ذبائحهم لا تحل للمسلمين، وذلك لأن أهل الكتاب ينتسبون إلى الأنبياء والكتب.
وقد اتفق الرسل كلهم على تحريم الذبح لغير الله، لأنه شرك، فاليهود والنصارى يتدينون بتحريم الذبح لغير الله، فلذلك أبيحت ذبائحهم دون غيرهم.
والدليل على أن المراد بطعامهم ذبائحهم، أن الطعام الذي ليس من الذبائح كالحبوب والثمار ليس لأهل الكتاب فيه خصوصية، بل يباح ذلك ولو كان من طعام غيرهم. وأيضا فإنه أضاف الطعام إليهم.
فدل ذلك، على أنه كان طعاما، بسبب ذبحهم. ولا يقال: إن ذلك للتمليك، وأن المراد: الطعام الذي يملكون. لأن هذا، لا يباح على وجه الغصب، ولا من المسلمين.
( وَطَعَامُكُمْ ) أيها المسلمون ( حِلٌّ لَهُمْ ) أي: يحل لكم أن تطعموهم إياه ( وَ ) أحل لكم ( الْمُحْصَنَاتِ ) أي: الحرائر العفيفات ( مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ ) والحرائر العفيفات ( مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ) أي: من اليهود والنصارى.
وهذا مخصص لقوله تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg < 1-222 > ومفهوم الآية، أن الأرقاء من المؤمنات لا يباح نكاحهن للأحرار, وهو كذلك.
وأما الكتابيات فعلى كل حال لا يبحن، ولا يجوز نكاحهن للأحرار مطلقا، لقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وأما المسلمات إذا كن رقيقات فإنه لا يجوز للأحرار نكاحهن إلا بشرطين، عدم الطول وخوف العنت.
وأما الفاجرات غير العفيفات عن الزنا فلا يباح نكاحهن، سواء كن مسلمات أو كتابيات، حتى يتبن لقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآية.

وقوله: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) أي: أبحنا لكم نكاحهن، إذا أعطيتموهن مهورهن، فمن عزم على أن لا يؤتيها مهرها فإنها لا تحل له.
وأمر بإيتائها إذا كانت رشيدة تصلح للإيتاء، وإلا أعطاه الزوج لوليها.
وإضافة الأجور إليهن دليل على أن المرأة تملك جميع مهرها، وليس لأحد منه شيء، إلا ما سمحت به لزوجها أو وليها أو غيرهما. ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ) أي: حالة كونكم -أيها الأزواج- محصنين لنسائكم، بسبب حفظكم لفروجكم عن غيرهن.
( غَيْرَ مُسَافِحِينَ ) أي: زانين مع كل أحد ( وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ) .

وهو: الزنا مع العشيقات، لأن الزناة في الجاهلية، منهم من يزني مع من كان، فهذا المسافح. ومنهم من يزني مع خدنه ومحبه. فأخبر الله تعالى أن ذلك كله ينافي العفة، وأن شرط التزوج أن يكون الرجل عفيفا عن الزنا.
وقوله تعالى: ( وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) أي: ومن كفر بالله تعالى، وما يجب الإيمان به من كتبه ورسله أو شيء من الشرائع، فقد حبط عمله، بشرط أن يموت على كفره، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ( وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) أي: الذين خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم يوم القيامة، وحصلوا على الشقاوة الأبدية.

ابو وليد البحيرى
2019-03-27, 04:47 AM
الحلقة (108)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(6 الى الأية(9)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

هذه آية عظيمة قد اشتملت على أحكام كثيرة، نذكر منها ما يسره الله وسهله.
أحدها: أن هذه المذكورات فيها امتثالها والعمل بها من لوازم الإيمان الذي لا يتم إلا به، لأنه صدرها بقوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلى آخرها. أي: يا أيها الذين آمنوا، اعملوا بمقتضى إيمانكم بما شرعناه لكم.
الثاني: الأمر بالقيام بالصلاة لقوله: ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) .
الثالث: الأمر بالنية للصلاة، لقوله: ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) أي: بقصدها ونيتها.
الرابع: اشتراط الطهارة لصحة الصلاة، لأن الله أمر بها عند القيام إليها، والأصل في الأمر الوجوب.
الخامس: أن الطهارة لا تجب بدخول الوقت، وإنما تجب عند إرادة الصلاة.
السادس: أن كل ما يطلق عليه اسم الصلاة، من الفرض والنفل، وفرض الكفاية، وصلاة الجنازة، تشترط له الطهارة، حتى السجود المجرد عند كثير من العلماء، كسجود التلاوة والشكر.
السابع: الأمر بغسل الوجه، وهو: ما تحصل به المواجهة من منابت شعر الرأس المعتاد، إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولا. ومن الأذن إلى الأذن عرضا.
ويدخل فيه المضمضة والاستنشاق، بالسنة، ويدخل فيه الشعور التي فيه. لكن إن كانت خفيفة فلا بد من إيصال الماء إلى البشرة، وإن كانت كثيفة اكتفي بظاهرها.
الثامن: الأمر بغسل اليدين، وأن حدهما إلى المرفقين و"إلى" كما قال جمهور المفسرين بمعنى "مع" كقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg ولأن الواجب لا يتم إلا بغسل جميع المرفق.
التاسع: الأمر بمسح الرأس.
العاشر: أنه يجب مسح جميعه، لأن الباء ليست للتبعيض، وإنما هي للملاصقة، وأنه يعم المسح بجميع الرأس.
الحادي عشر: أنه يكفي المسح كيفما كان، بيديه أو إحداهما، أو خرقة أو خشبة أو نحوهما، لأن الله أطلق المسح ولم يقيده بصفة، فدل ذلك على إطلاقه.
الثاني عشر: أن الواجب المسح. فلو غسل رأسه ولم يمر يده عليه لم يكف، لأنه لم يأت بما أمر الله به.
الثالث عشر: الأمر بغسل الرجلين إلى الكعبين، ويقال فيهما ما يقال في اليدين.
الرابع عشر: فيها الرد على الرافضة، على قراءة الجمهور بالنصب، وأنه لا يجوز مسحهما ما دامتا مكشوفتين.
الخامس عشر: فيه الإشارة إلى مسح الخفين، على قراءة الجر في ( وأرجلكم ) .
وتكون كل من القراءتين، محمولة على معنى، فعلى قراءة النصب فيها، غسلهما إن كانتا مكشوفتين، وعلى قراءة الجر فيها، مسحهما إذا كانتا مستورتين بالخف.
السادس عشر: الأمر بالترتيب في الوضوء، لأن الله تعالى ذكرها مرتبة.
ولأنه أدخل ممسوحا -وهو الرأس- بين مغسولين، ولا يعلم لذلك فائدة غير الترتيب.
السابع عشر: أن الترتيب مخصوص بالأعضاء الأربعة المسميات في هذه الآية.
وأما الترتيب بين المضمضة والاستنشاق والوجه، أو بين اليمنى واليسرى من اليدين والرجلين، فإن ذلك غير واجب، بل يستحب تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه، وتقديم اليمنى على اليسرى من اليدين والرجلين، وتقديم مسح الرأس على مسح الأذنين.
الثامن عشر: الأمر بتجديد الوضوء عند كل صلاة، لتوجد صورة المأمور به.
التاسع عشر: الأمر بالغسل من الجنابة.
العشرون: أنه يجب تعميم الغسل للبدن، لأن الله أضاف التطهر للبدن، ولم يخصصه بشيء دون شيء.
الحادي والعشرون: الأمر بغسل ظاهر الشعر وباطنه في الجنابة.
الثاني والعشرون: أنه يندرج الحدث الأصغر في الحدث الأكبر، ويكفي من هما عليه أن ينوي، ثم يعمم بدنه، لأن الله لم يذكر إلا التطهر، ولم يذكر أنه يعيد الوضوء.
الثالث والعشرون: أن الجنب يصدق على من أنزل المني يقظة أو مناما، أو جامع ولو لم ينزل.
الرابع والعشرون: أن من ذكر أنه احتلم ولم يجد بللا فإنه لا غسل عليه، لأنه لم تتحقق منه الجنابة.
الخامس والعشرون: ذكر مِنَّة الله تعالى على العباد، بمشروعية التيمم.
السادس والعشرون: أن من أسباب جواز التيمم وجود المرض الذي يضره غسله بالماء، فيجوز له التيمم.
السابع والعشرون: أن من جملة أسباب جوازه، السفر والإتيان من البول والغائط إذا عدم الماء، فالمرض يجوز التيمم مع وجود الماء لحصول التضرر به، وباقيها يجوزه العدم للماء ولو كان في الحضر.
الثامن والعشرون: أن الخارج من السبيلين من بول وغائط، ينقض الوضوء.
التاسع والعشرون: استدل بها من قال: لا ينقض الوضوء إلا هذان الأمران، فلا ينتقض بلمس الفرج ولا بغيره.
الثلاثون: استحباب التكنية عما يستقذر التلفظ به http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg لقوله تعالى: ( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِّنَ الْغَائِطِ ) .
الحادي والثلاثون: أن لمس المرأة بلذة وشهوة ناقض للوضوء.
الثاني والثلاثون: اشتراط عدم الماء لصحة التيمم.
الثالث والثلاثون: أن مع وجود الماء ولو في الصلاة، يبطل التيمم لأن الله إنما أباحه مع عدم الماء.
الرابع والثلاثون: أنه إذا دخل الوقت وليس معه ماء، فإنه يلزمه طلبه في رحله وفيما قرب منه، لأنه لا يقال "لم يجد" لمن لم يطلب.
الخامس والثلاثون: أن من وجد ماء لا يكفي بعض طهارته، فإنه يلزمه استعماله، ثم يتيمم بعد ذلك.
السادس والثلاثون: أن الماء المتغير بالطاهرات، مقدم على التيمم، أي: يكون طهورا، لأن الماء المتغير ماء، فيدخل في قوله: ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ) .
السابع والثلاثون: أنه لا بد من نية التيمم لقوله: ( فَتَيَمَّمُوا ) أي: اقصدوا.
الثامن والثلاثون: أنه يكفي التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من تراب وغيره. فيكون على هذا، قوله: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِنْهُ ) إما من باب التغليب، وأن الغالب أن يكون له غبار يمسح منه ويعلق بالوجه واليدين، وإما أن يكون إرشادا للأفضل، وأنه إذا أمكن التراب الذي فيه غبار فهو أولى.
التاسع والثلاثون: أنه لا يصح التيمم بالتراب النجس، لأنه لا يكون طيبا بل خبيثا.
الأربعون: أنه يمسح في التيمم الوجه واليدان فقط، دون بقية الأعضاء.
الحادي والأربعون: أن قوله: ( بِوُجُوهِكُمْ ) شامل لجميع الوجه وأنه يعممه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg بالمسح، إلا أنه معفو عن إدخال التراب في الفم والأنف، وفيما تحت الشعور، ولو خفيفة.
الثاني والأربعون: أن اليدين تمسحان إلى الكوعين فقط، لأن اليدين عند الإطلاق كذلك.
فلو كان يشترط إيصال المسح إلى الذراعين لقيده الله بذلك، كما قيده في الوضوء.

الثالث والأربعون: أن الآية عامة في جواز التيمم، لجميع الأحداث كلها، الحدث الأكبر والأصغر، بل ولنجاسة البدن، لأن الله جعلها بدلا عن طهارة الماء، وأطلق في الآية فلم يقيد [وقد يقال أن نجاسة البدن لا تدخل في حكم التيمم لأن السياق في الأحداث وهو قول جمهور العلماء] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg.
الرابع والأربعون: أن محل التيمم في الحدث الأصغر والأكبر واحد، وهو الوجه واليدان.
الخامس والأربعون: أنه لو نوى مَنْ عليه حدثان التيمم عنهما، فإنه يجزئ أخذا من عموم الآية وإطلاقها.
السادس والأربعون: أنه يكفي المسح بأي شيء كان، بيده أو غيرها، لأن الله قال ( فامسحوا ) ولم يذكر الممسوح به، فدل على جوازه بكل شيء.
السابع والأربعون: اشتراط الترتيب في طهارة التيمم، كما يشترط ذلك في الوضوء، ولأن الله بدأ بمسح الوجه قبل مسح اليدين.
الثامن والأربعون: أن الله تعالى -فيما شرعه لنا من الأحكام- لم يجعل علينا في ذلك من حرج ولا مشقة ولا عسر، وإنما هو رحمة منه بعباده ليطهرهم، وليتم نعمته عليهم.
وهذا هو التاسع والأربعون: أن طهارة الظاهر بالماء والتراب، تكميل لطهارة الباطن بالتوحيد، والتوبة النصوح.
الخمسون: أن طهارة التيمم، وإن لم يكن فيها نظافة وطهارة تدرك بالحس والمشاهدة، فإن فيها طهارة معنوية ناشئة عن امتثال أمر الله تعالى.
الحادي والخمسون: أنه ينبغي للعبد أن يتدبر الحِكَم والأسرار في شرائع الله، في الطهارة وغيرها ليزداد معرفة وعلما، ويزداد شكرا لله ومحبة له، على ما شرع من الأحكام التي توصل العبد إلى المنازل العالية الرفيعة.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

يأمر تعالى عباده بذكر نعمه الدينية والدنيوية، بقلوبهم وألسنتهم. فإن في استدامة ذكرها داعيا لشكر الله تعالى ومحبته، وامتلاء القلب من إحسانه. وفيه زوال للعجب من النفس بالنعم الدينية، وزيادة لفضل الله وإحسانه. و ( مِيثَاقَه ) أي: واذكروا ميثاقه ( الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ ) أي: عهده الذي أخذه عليكم.
وليس المراد بذلك أنهم لفظوا ونطقوا بالعهد والميثاق، وإنما المراد بذلك أنهم بإيمانهم بالله ورسوله قد التزموا طاعتهما، ولهذا قال: ( إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) أي: سمعنا ما دعوتنا به من آياتك القرآنية والكونية، سمع فهم وإذعان وانقياد. وأطعنا ما أمرتنا به بالامتثال، وما نهيتنا عنه بالاجتناب. وهذا شامل لجميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة.
وأن المؤمنين يذكرون في ذلك عهد الله وميثاقه عليهم، وتكون منهم على بال، ويحرصون على أداء ما أُمِرُوا به كاملا غير ناقص.
( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) في جميع أحوالكم ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) أي: بما تنطوي عليه من الأفكار والأسرار والخواطر. فاحذروا أن يطلع من قلوبكم على أمر لا يرضاه، أو يصدر منكم ما يكرهه، واعمروا قلوبكم بمعرفته ومحبته والنصح لعباده. فإنكم -إن كنتم كذلك- غفر لكم السيئات، وضاعف لكم الحسنات، لعلمه بصلاح قلوبكم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

أي ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) بما أُمِرُوا بالإيمان به، قوموا بلازم إيمانكم، بأن تكونوا ( قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ) بأن تنشط للقيام بالقسط حركاتكم الظاهرة والباطنة.
وأن يكون ذلك القيام لله وحده، لا لغرض من الأغراض الدنيوية، وأن تكونوا قاصدين للقسط، الذي هو العدل، لا الإفراط ولا التفريط، في أقوالكم ولا أفعالكم، وقوموا بذلك على القريب والبعيد، والصديق والعدو.
( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ ) أي: يحملنكم بغض ( قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا ) كما يفعله من لا عدل عنده ولا قسط، بل كما تشهدون لوليكم، فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، ولو كان كافرا أو مبتدعا، فإنه يجب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق، لأنه حق لا لأنه قاله، ولا يرد الحق لأجل قوله، فإن هذا ظلم للحق.
( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) أي: كلما حرصتم على العدل واجتهدتم في العمل به، كان ذلك أقرب لتقوى قلوبكم، فإن تم العدل كملت التقوى.

( إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) فمجازيكم بأعمالكم، خيرها وشرها، صغيرها وكبيرها، جزاء عاجلا وآجلا.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
أي ( وَعَدَ اللَّهُ ) الذي لا يخلف الميعاد وهو أصدق القائلين -المؤمنين به وبكتبه ورسله واليوم الآخر، ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) من واجبات ومستحبات- بالمغفرة لذنوبهم، بالعفو عنها وعن عواقبها، وبالأجر العظيم الذي لا يعلم عظمه إلا الله تعالى.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-03-27, 04:52 AM
الحلقة (109)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(10 الى الأية(13)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) الدالة على الحق المبين، فكذبوا بها بعد ما أبانت الحقائق. ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه.
< 1-225 >
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يُذَكِّر تعالى عباده المؤمنين بنعمه العظيمة، ويحثهم على تذكرها بالقلب واللسان، وأنهم -كما أنهم يعدون قتلهم لأعدائهم، وأخذ أموالهم وبلادهم وسبيهم نعمةً - فليعدوا أيضا إنعامه عليهم بكف أيديهم عنهم، ورد كيدهم في نحورهم نعمة. فإنهم الأعداء، قد هموا بأمر، وظنوا أنهم قادرون عليه.

فإذا لم يدركوا بالمؤمنين مقصودهم، فهو نصر من الله لعباده المؤمنين ينبغي لهم أن يشكروا الله على ذلك، ويعبدوه ويذكروه، وهذا يشمل كل من هَمَّ بالمؤمنين بشر، من كافر ومنافق وباغ، كف الله شره عن المسلمين، فإنه داخل في هذه الآية.
ثم أمرهم بما يستعينون به على الانتصار على عدوهم، وعلى جميع أمورهم، فقال: ( وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) أي: يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية، وتبرؤوا من حولهم وقوتهم، ويثقوا بالله تعالى في حصول ما يحبون. وعلى حسب إيمان العبد يكون توكله، وهو من واجبات القلب المتفق عليها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوه ُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّك ُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى أنه أخذ على بني إسرائيل الميثاق الثقيل المؤكد، وذكر صفة الميثاق وأجرهم إن قاموا به، وإثمهم إن لم يقوموا به، ثم ذكر أنهم ما قاموا به، وذكر ما عاقبهم به، فقال: ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي: عهدهم المؤكد الغليظ، ( وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ) أي: رئيسا وعريفا على من تحته، ليكون ناظرا عليهم، حاثا لهم على القيام بما أُمِرُوا به، مطالبا يدعوهم.
( وَقَالَ اللَّهُ ) للنقباء الذين تحملوا من الأعباء ما تحملوا: ( إِنِّي مَعَكُمْ ) أي: بالعون والنصر، فإن المعونة بقدر المؤنة.
ثم ذكر ما واثقهم عليه فقال: ( لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ ) ظاهرا وباطنا، بالإتيان بما يلزم وينبغي فيها، والمداومة على ذلك ( وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ ) لمستحقيها ( وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ) جميعهم، الذين أفضلهم وأكملهم محمد صلى الله عليه وسلم، ( وَعَزَّرْتُمُوه ُمْ ) أي: عظمتموهم، وأديتم ما يجب لهم من الاحترام والطاعة ( وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) وهو الصدقة والإحسان، الصادر عن الصدق والإخلاص وطيب المكسب، فإذا قمتم بذلك ( لأكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُ مْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) فجمع لهم بين حصول المحبوب بالجنة وما فيها من النعيم، واندفاع المكروه بتكفير السيئات، ودفع ما يترتب عليها من العقوبات.
( فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ) العهد والميثاق المؤكد بالأيمان والالتزامات، المقرون بالترغيب بذكر ثوابه.
( فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) أي: عن عمد وعلم، فيستحق ما يستحقه الضالون من حرمان الثواب، وحصول العقاب. فكأنه قيل: ليت شعري ماذا فعلوا؟ وهل وفوا بما عاهدوا الله عليه أم نكثوا؟
فبين أنهم نقضوا ذلك فقال: ( فَبِمَا نَقْضِهِم مِيثَاقَهُمْ ) .
أي: بسببه عاقبناهم بعدة عقوبات: الأولى: أنا ( لَعَنَّاهُمْ ) أي: طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا، حيث أغلقوا على أنفسهم أبواب الرحمة، ولم يقوموا بالعهد الذي أخذ عليهم، الذي هو سببها الأعظم.
الثانية: قوله: ( وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ) أي: غليظة لا تجدي فيها المواعظ، ولا تنفعها الآيات والنذر، فلا يرغبهم تشويق، ولا يزعجهم تخويف، وهذا من أعظم العقوبات على العبد، أن يكون قلبه بهذه الصفة التي لا يفيده الهدى, والخير إلا شرا.
الثالثة: أنهم ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ ) أي: ابتلوا بالتغيير والتبديل، فيجعلون للكلم الذي أراد الله معنى غير ما أراده الله ولا رسوله.
الرابعة: أنهم ( نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) فإنهم ذكروا بالتوراة، وبما أنزل الله على موسى، فنسوا حظا منه، وهذا شامل لنسيان علمه، وأنهم نسوه وضاع عنهم، ولم يوجد كثير مما أنساهم الله إياه عقوبة منه لهم.
وشامل لنسيان العمل الذي هو الترك، فلم يوفقوا للقيام بما أمروا به، ويستدل بهذا على أهل الكتاب بإنكارهم بعض الذي قد ذكر في كتابهم، أو وقع في زمانهم، أنه مما نسوه.
الخامسة: الخيانة المستمرة التي ( لا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ ) أي: خيانة لله ولعباده المؤمنين.
ومن أعظم الخيانة منهم، كتمهم [عن] من يعظهم ويحسن فيهم الظن الحق، وإبقاؤهم على كفرهم، فهذه خيانة عظيمة. وهذه الخصال الذميمة، حاصلة لكل من اتصف بصفاتهم.
فكل من لم يقم بما أمر الله به، وأخذ به عليه الالتزام، كان له نصيب من اللعنة وقسوة القلب، والابتلاء بتحريف الكلم، وأنه لا يوفق للصواب، ونسيان حظ مما ذُكِّر به، وأنه لا بد أن يبتلى بالخيانة، نسأل الله العافية.
وسمى الله تعالى ما ذكروا به حظا، لأنه هو أعظم الحظوظ، وما عداه فإنما هي حظوظ دنيوية، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg < 1-226 > وقال في الحظ النافع: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg
وقوله: ( إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ ) أي: فإنهم وفوا بما عاهدوا الله عليه فوفقهم وهداهم للصراط المستقيم.
( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ) أي: لا تؤاخذهم بما يصدر منهم من الأذى، الذي يقتضي أن يعفى عنهم، واصفح، فإن ذلك من الإحسان ( إن اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) والإحسان: هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه، فإنه يراك. وفي حق المخلوقين: بذل النفع الديني والدنيوي لهم.

ابو وليد البحيرى
2019-03-27, 04:55 AM
الحلقة (110)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(14 الى الأية(17)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: وكما أخذنا على اليهود العهد والميثاق، فكذلك أخذنا على ( الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ) لعيسى ابن مريم، وزكوا أنفسهم بالإيمان بالله ورسله وما جاءوا به، فنقضوا العهد، ( فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) نسيانا علميا، ونسيانا عمليا. ( فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) أي: سلطنا بعضهم على بعض، وصار بينهم من الشرور والإحن ما يقتضي بغض بعضهم بعضا ومعاداة بعضهم بعضا إلى يوم القيامة، وهذا أمر مشاهد، فإن النصارى لم يزالوا ولا يزالون في بغض وعداوة وشقاق. ( وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) فيعاقبهم عليه.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما ذكر تعالى ما أخذه الله على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وأنهم نقضوا ذلك إلا قليلا منهم، أمرهم جميعا أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، واحتج عليهم بآية قاطعة دالة على صحة نبوته، وهي: أنه بين لهم كثيرا مما يُخْفُون عن الناس، حتى عن العوام من أهل ملتهم، فإذا كانوا هم المشار إليهم في العلم ولا علم عند أحد في ذلك الوقت إلا ما عندهم، فالحريص على العلم لا سبيل له إلى إدراكه إلا منهم، فإتيان الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن العظيم الذي بيَّن به ما كانوا يتكاتمونه بينهم، وهو أُمِّيّ لا يقرأ ولا يكتب - من أدل الدلائل على القطع برسالته، وذلك مثل صفة محمد في كتبهم، ووجود البشائر به في كتبهم، وبيان آية الرجم ونحو ذلك.
( وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) أي: يترك بيان ما لا تقتضيه الحكمة.
( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ ) وهو القرآن، يستضاء به في ظلمات الجهالة وعماية الضلالة.
( وَكِتَابٌ مُبِينٌ ) لكل ما يحتاج الخلق إليه من أمور دينهم ودنياهم. من العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن العلم بأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية.
ثم ذكر مَنْ الذي يهتدي بهذا القرآن، وما هو السبب الذي من العبد لحصول ذلك، فقال: ( يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ) أي: يهدي به من اجتهد وحرص على بلوغ مرضاة الله، وصار قصده حسنا -سبل السلام التي تسلم صاحبها من العذاب، وتوصله إلى دار السلام، وهو العلم بالحق والعمل به، إجمالا وتفصيلا.
( وَيُخْرِجُهُم مِنَ ) ظلمات الكفر والبدعة والمعصية، والجهل والغفلة، إلى نور الإيمان والسنة والطاعة والعلم، والذكر. وكل هذه الهداية بإذن الله، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. ( وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما ذكر تعالى أخذ الميثاق على أهل الكتابين، وأنهم لم يقوموا به بل نقضوه، ذكر أقوالهم الشنيعة.
فذكر قول النصارى، القول الذي ما قاله أحد غيرهم، بأن الله هو المسيح ابن مريم، ووجه شبهتهم أنه ولد من غير أب، فاعتقدوا فيه هذا الاعتقاد الباطل مع أن حواء نظيره، خُلِقَت بلا أم، وآدم أولى منه، خلق بلا أب ولا أم، فهلا ادعوا فيهما الإلهية كما ادعوها في المسيح؟
فدل على أن قولهم اتباع هوى من غير برهان ولا شبهة. فرد الله عليهم بأدلة عقلية واضحة فقال: ( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرْضِ جَمِيعًا ) .
فإذا كان المذكورون لا امتناع عندهم يمنعهم لو أراد الله أن يهلكهم، < 1-227 > ولا قدرة لهم على ذلك - دل على بطلان إلهية من لا يمتنع من الإهلاك، ولا في قوته شيء من الفكاك.
ومن الأدلة أن ( لِلَّهِ ) وحده ( مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يتصرف فيهم بحكمه الكوني والشرعي والجزائي، وهم مملوكون مدبرون، فهل يليق أن يكون المملوك العبد الفقير، إلها معبودا غنيا من كل وجه؟ هذا من أعظم المحال.
ولا وجه لاستغرابهم لخلق المسيح عيسى ابن مريم من غير أب، فإن الله ( يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ) إن شاء من أب وأم، كسائر بني آدم، وإن شاء من أب بلا أم، كحواء. وإن شاء من أم بلا أب، كعيسى. وإن شاء من غير أب ولا أم [كآدم] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-03-27, 05:01 AM
الحلقة (111)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(18 الى الأية(23)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

فنوع خليقته تعالى بمشيئته النافذة، التي لا يستعصي عليها شيء، ولهذا قال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ومن مقالات اليهود والنصارى أن كلا منهما ادعى دعوى باطلة، يزكون بها أنفسهم، بأن قال كل منهما: ( نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) .
والابن في لغتهم هو الحبيب، ولم يريدوا البنوة الحقيقية، فإن هذا ليس من مذهبهم إلا مذهب النصارى في المسيح.
قال الله ردا عليهم حيث ادعوا بلا برهان: ( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ) ؟
فلو كنتم أحبابه ما عذبكم [لكون الله لا يحب إلا من قام بمراضيه] .
( بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ) تجري عليكم أحكام العدل والفضل ( يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ) إذا أتوا بأسباب المغفرة أو أسباب العذاب، ( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) أي: فأي شيء خصكم بهذه الفضيلة، وأنتم من جملة المماليك ومن جملة من يرجع إلى الله في الدار الآخرة، فيجازيكم بأعمالكم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يدعو تبارك وتعالى أهل الكتاب -بسبب ما من عليهم من كتابه- أن يؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويشكروا الله تعالى الذي أرسله إليهم على حين ( فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ ) وشدة حاجة إليه.
وهذا مما يدعو إلى الإيمان به، وأنه يبين لهم جميع المطالب الإلهية والأحكام الشرعية.
وقد قطع الله بذلك حجتهم، لئلا يقولوا: ( مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ) يبشر بالثواب العاجل والآجل، وبالأعمال الموجبة لذلك، وصفة العاملين بها. وينذر بالعقاب العاجل والآجل، وبالأعمال الموجبة لذلك، وصفة العاملين بها.
( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) انقادت الأشياء طوعا وإذعانا لقدرته، فلا يستعصي عليه شيء منها، ومن قدرته أن أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأنه يثيب من أطاعهم ويعاقب من عصاهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ (21 - 26) إلى آخر القصة .

لما امتن الله على موسى وقومه بنجاتهم من فرعون وقومه وأسرهم واستبعادهم، ذهبوا قاصدين لأوطانهم ومساكنهم، وهي بيت المقدس وما حواليه، وقاربوا وصول بيت المقدس، وكان الله قد فرض عليهم جهاد عدوهم ليخرجوه من ديارهم. فوعظهم موسى عليه السلام؛ وذكرهم ليقدموا على الجهاد فقال لهم: ( اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) بقلوبكم وألسنتكم. فإن ذكرها داع إلى محبته تعالى ومنشط على العبادة، ( إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ ) يدعونكم إلى الهدى، ويحذرونكم من الردى، ويحثونكم على سعادتكم الأبدية، ويعلمونكم ما لم تكونوا تعلمون ( وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) تملكون أمركم، بحيث إنه زال عنكم استعباد عدوكم لكم، فكنتم تملكون أمركم، وتتمكنون من إقامة دينكم.
( وَآتَاكُمْ ) من النعم الدينية والدنيوية ( مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ) فإنهم في ذلك الزمان خيرة الخلق، وأكرمهم على الله تعالى. وقد أنعم عليهم بنعم ما كانت لغيرهم.
فذكرهم بالنعم الدينية والدنيوية، الداعي ذلك لإيمانهم وثباته، وثباتهم على الجهاد، وإقدامهم عليه، ولهذا قال: ( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ) .
أي: المطهرة ( الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) فأخبرهم خبرا تطمئن به أنفسهم، إن كانوا مؤمنين مصدقين بخبر الله، وأنه قد كتب الله لهم دخولها، وانتصارهم على عدوهم. ( وَلا تَرْتَدُّوا ) أي: ترجعوا ( عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ) قد < 1-228 > خسرتم دنياكم بما فاتكم من النصر على الأعداء وفتح بلادكم. وآخرتكم بما فاتكم من الثواب، وما استحققتم -بمعصيتكم- من العقاب، فقالوا قولا يدل على ضعف قلوبهم، وخور نفوسهم، وعدم اهتمامهم بأمر الله ورسوله.
(يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ ) شديدي القوة والشجاعة، أي: فهذا من الموانع لنا من دخولها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهذا من الجبن وقلة اليقين، وإلا فلو كان معهم رشدهم، لعلموا أنهم كلهم من بني آدم، وأن القوي من أعانه الله بقوة من عنده، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولعلموا أنهم سينصرون عليهم، إذ وعدهم الله بذلك، وعدا خاصا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الله تعالى، مشجعين لقومهم، منهضين لهم على قتال عدوهم واحتلال بلادهم. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg بالتوفيق، وكلمة الحق في هذا الموطن المحتاج إلى مثل كلامهم، وأنعم عليهم بالصبر واليقين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: ليس بينكم وبين نصركم عليهم إلا أن تجزموا عليهم، وتدخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه عليهم فإنهم سينهزمون، ثم أمَرَاهم بعدة هي أقوى العدد، فقالا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فإن في التوكل على الله -وخصوصا في هذا الموطن- تيسيرا للأمر، ونصرا على الأعداء. ودل هذا على وجوب التوكل، وعلى أنه بحسب إيمان العبد يكون توكله، فلم ينجع فيهم هذا الكلام، ولا نفع فيهم الملام.

ابو وليد البحيرى
2019-03-27, 05:12 AM
الحلقة (112)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(23 الى الأية(31)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

فقالوا قول الأذلين: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg(24) .

فما أشنع هذا الكلام منهم، ومواجهتهم لنبيهم في هذا المقام الحرج الضيق، الذي قد دعت الحاجة والضرورة إلى نصرة نبيهم، وإعزاز أنفسهم.
وبهذا وأمثاله يظهر التفاوت بين سائر الأمم، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم -حين شاورهم في القتال يوم "بدر" مع أنه لم يحتم عليهم: يا رسول الله، لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ولو بلغت بنا برك الغماد ما تخلف عنك أحد. ولا نقول كما قال قوم موسى لموسى: ( اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن يسارك.
فلما رأى موسى عليه السلام عتوهم عليه ( قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي ) أي: فلا يدان لنا بقتالهم، ولست بجبار على هؤلاء. ( فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) أي: احكم بيننا وبينهم، بأن تنزل فيهم من العقوبة ما اقتضته حكمتك، ودل ذلك على أن قولهم وفعلهم من الكبائر العظيمة الموجبة للفسق.
(قَالَ ) الله مجيبا لدعوة موسى: ( فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ ) أي: إن من عقوبتهم أن نحرم عليهم دخول هذه القرية التي كتبها الله لهم، مدة أربعين سنة، وتلك المدة أيضا يتيهون في الأرض، لا يهتدون إلى طريق ولا يبقون مطمئنين، وهذه عقوبة دنيوية، لعل الله تعالى كفر بها عنهم، ودفع عنهم عقوبة أعظم منها، وفي هذا دليل على أن العقوبة على الذنب قد تكون بزوال نعمة موجودة، أو دفع نقمة قد انعقد سبب وجودها أو تأخرها إلى وقت آخر.
ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات، بل قد ألفت الاستعباد لعدوها، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها، ولتظهر ناشئة جديدة تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء، وعدم الاستعباد، والذل المانع من السعادة.
ولما علم الله تعالى أن عبده موسى في غاية الرحمة على الخلق، خصوصا قومه، وأنه ربما رق لهم، واحتملته الشفقة على الحزن عليهم في هذه العقوبة، أو الدعاء لهم بزوالها، مع أن الله قد حتمها، قال: ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) أي: لا تأسف عليهم ولا تحزن، فإنهم قد فسقوا، وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل بهم لا ظلما منا.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ (27 - 31) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . إلى آخر القصة

أي: قص على الناس وأخبرهم بالقضية التي جرت على ابني آدم بالحق، تلاوة يعتبر بها المعتبرون، صدقا لا كذبا، وجدا لا لعبا، والظاهر أن ابني آدم هما ابناه لصلبه، كما يدل عليه ظاهر الآية والسياق، وهو قول جمهور المفسرين.
أي: اتل عليهم نبأهما في حال تقريبهما للقربان، الذي أداهما إلى الحال < 1-229 > المذكورة.
(إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا ) أي: أخرج كل منهما شيئا من ماله لقصد التقرب إلى الله، ( فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ ) بأن علم ذلك بخبر من السماء، أو بالعادة السابقة في الأمم، أن علامة تقبل الله لقربان، أن تنزل نار من السماء فتحرقه.
(قَالَ ) الابن، الذي لم يتقبل منه للآخر حسدا وبغيا ( لأَقْتُلَنَّكَ ) فقال له الآخر -مترفقا له في ذلك- ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) فأي ذنب لي وجناية توجب لك أن تقتلني؟ إلا أني اتقيت الله تعالى، الذي تقواه واجبة عليّ وعليك، وعلى كل أحد، وأصح الأقوال في تفسير المتقين هنا، أي: المتقين لله في ذلك العمل، بأن يكون عملهم خالصا لوجه الله، متبعين فيه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال له مخبرا أنه لا يريد أن يتعرض لقتله، لا ابتداء ولا مدافعة فقال:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وليس ذلك جبنا مني ولا عجزا. وإنما ذلك لأني http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg والخائف لله لا يقدم على الذنوب، خصوصا الذنوب الكبار. وفي هذا تخويف لمن يريد القتل، وأنه ينبغي لك أن تتقي الله وتخافه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: ترجع http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: إنه إذا دار الأمر بين أن أكون قاتلا أو تقتلني فإني أوثر أن تقتلني، فتبوء بالوزرين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg دل هذا على أن القتل من كبائر الذنوب، وأنه موجب لدخول النار.
فلم يرتدع ذلك الجاني ولم ينزجر، ولم يزل يعزم نفسه ويجزمها، حتى طوعت له قتل أخيه الذي يقتضي الشرع والطبع احترامه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg دنياهم وآخرتهم، وأصبح قد سن هذه السنة لكل قاتل.
"ومن سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". ولهذا ورد في الحديث الصحيح أنه "ما من نفس تقتل إلا كان على ابن آدم الأول شطر من دمها، لأنه أول من سن القتل".
فلما قتل أخاه لم يدر كيف يصنع به؛ لأنه أول ميت مات من بني آدم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: يثيرها ليدفن غرابا آخر ميتا. ( لِيُرِيَهُ ) بذلك ( كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ) أي: بدنه، لأن بدن الميت يكون عورة ( فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) وهكذا عاقبة المعاصي الندامة والخسارة.

ابو وليد البحيرى
2019-03-27, 05:15 AM
الحلقة (113)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(32 الى الأية(36)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ ) الذي ذكرناه في قصة ابني آدم، وقتل أحدهما أخاه، وسنه القتل لمن بعده، وأن القتل عاقبته وخيمة وخسارة في الدنيا والآخرة. ( كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أهل الكتب السماوية ( أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ ) أي: بغير حق ( فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ) ؛ لأنه ليس معه داع يدعوه إلى التبيين، وأنه لا يقدم على القتل إلا بحق، فلما تجرأ على قتل النفس التي لم تستحق القتل علم أنه لا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره، وإنما ذلك بحسب ما تدعوه إليه نفسه الأمارة بالسوء. فتجرؤه على قتله، كأنه قتل الناس جميعا.
وكذلك من أحيا نفسا أي: استبقى أحدا، فلم يقتله مع دعاء نفسه له إلى قتله، فمنعه خوف الله تعالى من قتله، فهذا كأنه أحيا الناس جميعا، لأن ما معه من الخوف يمنعه من قتل من لا يستحق القتل.
ودلت الآية على أن القتل يجوز بأحد أمرين:
إما أن يقتل نفسا بغير حق متعمدا في ذلك، فإنه يحل قتله، إن كان مكلفا مكافئا، ليس بوالد للمقتول.
وإما أن يكون مفسدا في الأرض، بإفساده لأديان الناس أو أبدانهم أو أموالهم، كالكفار المرتدين والمحاربين، والدعاة إلى البدع الذين لا ينكف شرهم إلا بالقتل.
وكذلك قطاع الطريق ونحوهم، ممن يصول على الناس لقتلهم، أو أخذ أموالهم.
( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ) التي لا يبقى معها حجة لأحد. ( ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ ) أي: من الناس ( بَعْدِ ذَلِكَ ) البيان القاطع للحجة، الموجب للاستقامة ( فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ) في العمل بالمعاصي، ومخالفة الرسل الذين جاءوا بالبينات والحجج.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

المحاربون لله ولرسوله، هم الذين بارزوه بالعداوة، وأفسدوا في الأرض < 1-230 > بالكفر والقتل، وأخذ الأموال، وإخافة السبل.
والمشهور أن هذه الآية الكريمة في أحكام قطاع الطريق، الذين يعرضون للناس في القرى والبوادي، فيغصبونهم أموالهم، ويقتلونهم، ويخيفونهم، فيمتنع الناس من سلوك الطريق التي هم بها، فتنقطع بذلك.
فأخبر الله أن جزاءهم ونكالهم -عند إقامة الحد عليهم- أن يفعل بهم واحد من هذه الأمور.
واختلف المفسرون: هل ذلك على التخيير، وأن كل قاطع طريق يفعل به الإمام أو نائبه ما رآه المصلحة من هذه الأمور المذكورة؟ وهذا ظاهر اللفظ، أو أن عقوبتهم تكون بحسب جرائمهم، فكل جريمة لها قسط يقابلها، كما تدل عليه الآية بحكمتها وموافقتها لحكمة الله تعالى. وأنهم إن قتلوا وأخذوا مالا تحتم قتلُهم وصلبهم، حتى يشتهروا ويختزوا ويرتدع غيرهم.
وإن قتلوا ولم يأخذوا مالا تحتم قتلهم فقط. وإن أخذوا مالا ولم يقتلوا تحتم أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، اليد اليمنى والرجل اليسرى. وإن أخافوا الناس ولم يقتلوا، ولا أخذوا مالا نفوا من الأرض، فلا يتركون يأوون في بلد حتى تظهر توبتهم. وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه وكثير من الأئمة، على اختلاف في بعض التفاصيل.
( ذَلِكَ ) النكال ( لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ) أي: فضيحة وعار ( وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) فدل هذا أن قطع الطريق من أعظم الذنوب، موجب لفضيحة الدنيا وعذاب الآخرة، وأن فاعله محارب لله ولرسوله.
وإذا كان هذا شأن عظم هذه الجريمة، علم أن تطهير الأرض من المفسدين، وتأمين السبل والطرق، عن القتل، وأخذ الأموال، وإخافة الناس، من أعظم الحسنات وأجل الطاعات، وأنه إصلاح في الأرض، كما أن ضده إفساد في الأرض.
( إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) أي: من هؤلاء المحاربين، ( فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) أي: فيسقط عنه ما كان لله، من تحتم القتل والصلب والقطع والنفي، ومن حق الآدمي أيضا، إن كان المحارب كافرا ثم أسلم، فإن كان المحارب مسلما فإن حق الآدمي، لا يسقط عنه من القتل وأخذ المال. ودل مفهوم الآية على أن توبة المحارب -بعد القدرة عليه- أنها لا تسقط عنه شيئا، والحكمة في ذلك ظاهرة.
وإذا كانت التوبة قبل القدرة عليه، تمنع من إقامة الحد في الحرابة، فغيرها من الحدود -إذا تاب من فعلها، قبل القدرة عليه- من باب أولى.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا أمر من الله لعباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان من تقوى الله والحذر من سخطه وغضبه، وذلك بأن يجتهد العبد، ويبذل غاية ما يمكنه من المقدور في اجتناب ما يَسخطه الله، من معاصي القلب واللسان والجوارح، الظاهرة والباطنة. ويستعين بالله على تركها، لينجو بذلك من سخط الله وعذابه. ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) أي: القرب منه، والحظوة لديه، والحب له، وذلك بأداء فرائضه القلبية، كالحب له وفيه، والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل. والبدنية: كالزكاة والحج. والمركبة من ذلك كالصلاة ونحوها، من أنواع القراءة والذكر، ومن أنواع الإحسان إلى الخلق بالمال والعلم والجاه، والبدن، والنصح لعباد الله، فكل هذه الأعمال تقرب إلى الله. ولا يزال العبد يتقرب بها إلى الله حتى يحبه الله، فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي [بها] ويستجيب الله له الدعاء.

ثم خص تبارك وتعالى من العبادات المقربة إليه، الجهاد في سبيله، وهو: بذل الجهد في قتال الكافرين بالمال، والنفس، والرأي، واللسان، والسعي في نصر دين الله بكل ما يقدر عليه العبد، لأن هذا النوع من أجل الطاعات وأفضل القربات.
ولأن من قام به، فهو على القيام بغيره أحرى وأولى ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) إذا اتقيتم الله بترك المعاصي، وابتغيتم الوسيلة إلى الله، بفعل الطاعات، وجاهدتم في سبيله ابتغاء مرضاته.
والفلاح هو الفوز والظفر بكل مطلوب مرغوب، والنجاة من كل مرهوب، فحقيقته السعادة الأبدية والنعيم المقيم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن شناعة حال الكافرين بالله يوم القيامة ومآلهم الفظيع، وأنهم لو افتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا ومثله معه ما تقبل منهم، ولا أفاد، لأن محل الافتداء قد فات.

ابو وليد البحيرى
2019-03-27, 05:19 AM
الحلقة (114)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(37 الى الأية(41)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ولم يبق إلا العذاب الأليم، الموجع الدائم الذي لا يخرجون منه أبدا، بل هم ماكثون فيه سرمدا.

< 1-231 >
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

السارق: هو من أخذ مال غيره المحترم خفية، بغير رضاه. وهو من كبائر الذنوب الموجبة لترتب العقوبة الشنيعة، وهو قطع اليد اليمنى، كما هو في قراءة بعض الصحابة.
وحد اليد عند الإطلاق من الكوع، فإذا سرق قطعت يده من الكوع، وحسمت في زيت لتنسد العروق فيقف الدم، ولكن السنة قيدت عموم هذه الآية من عدة أوجه:
منها: الحرز، فإنه لا بد أن تكون السرقة من حرز، وحرز كل مال: ما يحفظ به عادة. فلو سرق من غير حرز فلا قطع عليه.
ومنها: أنه لا بد أن يكون المسروق نصابا، وهو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما يساوي أحدهما، فلو سرق دون ذلك فلا قطع عليه.
ولعل هذا يؤخذ من لفظ السرقة ومعناها، فإن لفظ "السرقة" أخذ الشيء على وجه لا يمكن الاحتراز منه، وذلك أن يكون المال محرزا، فلو كان غير محرز لم يكن ذلك سرقة شرعية.
ومن الحكمة أيضا أن لا تقطع اليد في الشيء النزر التافه، فلما كان لا بد من التقدير، كان التقدير الشرعي مخصصا للكتاب.
والحكمة في قطع اليد في السرقة، أن ذلك حفظ للأموال، واحتياط لها، وليقطع العضو الذي صدرت منه الجناية، فإن عاد السارق قطعت رجله اليسرى، فإن عاد، فقيل: تقطع يده اليسرى، ثم رجله اليمنى، وقيل: يحبس حتى يموت. وقوله: ( جَزَاءً بِمَا كَسَبَا ) أي: ذلك القطع جزاء للسارق بما سرقه من أموال الناس.
( نَكَالا مِّنَ اللَّهِ ) أي: تنكيلا وترهيبا للسارق ولغيره، ليرتدع السراق -إذا علموا- أنهم سيقطعون إذا سرقوا.
( وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) أي: عَزَّ وحكم فقطع السارق.
( فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فيغفر لمن تاب فترك الذنوب، وأصلح الأعمال والعيوب.
وذلك أن لله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ملك السماوات والأرض، يتصرف فيهما بما شاء من التصاريف القدرية والشرعية، والمغفرة والعقوبة، بحسب ما اقتضته حكمته ورحمته الواسعة ومغفرته.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

كان الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على الخلق يشتد حزنه لمن يظهر الإيمان، ثم يرجع إلى الكفر، فأرشده الله تعالى، إلى أنه لا يأسى ولا يحزن على أمثال هؤلاء. فإن هؤلاء لا في العير ولا في النفير. إن حضروا لم ينفعوا، وإن غابوا لم يفقدوا، ولهذا قال مبينا للسبب الموجب لعدم الحزن عليهم - فقال: ( مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ) فإن الذين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg يؤسى ويحزن عليهم، من كان معدودا من المؤمنين، وهم المؤمنون ظاهرا وباطنا, وحاشا لله أن يرجع هؤلاء عن دينهم ويرتدوا، فإن الإيمان -إذا خالطت بشاشته القلوب- لم يعدل به صاحبه غيره، ولم يبغ به بدلا.
( وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ) أي: اليهود ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ) أي: مستجيبون ومقلدون لرؤسائهم، المبني أمرهم على الكذب والضلال والغي. وهؤلاء الرؤساء المتبعون ( لَمْ يَأْتُوكَ ) بل أعرضوا عنك، وفرحوا بما عندهم من الباطل وهو تحريف الكلم عن مواضعه، أي: جلب معان للألفاظ ما أرادها الله ولا قصدها، لإضلال الخلق ولدفع الحق، فهؤلاء المنقادون للدعاة إلى الضلال، المتبعين للمحال، الذين يأتون بكل كذب، لا عقول لهم ولا < 1-232 > همم. فلا تبال أيضا إذا لم يتبعوك، لأنهم في غاية النقص، والناقص لا يؤبه له ولا يبالى به.
( يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) أي: هذا قولهم عند محاكمتهم إليك، لا قصد لهم إلا اتباع الهوى.
يقول بعضهم لبعض: إن حكم لكم محمد بهذا الحكم الذي يوافق أهواءكم، فاقبلوا حكمه، وإن لم يحكم لكم به، فاحذروا أن تتابعوه على ذلك، وهذا فتنة واتباع ما تهوى الأنفس.
( وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) كقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) أي: فلذلك صدر منهم ما صدر. فدل ذلك على أن من كان مقصوده بالتحاكم إلى الحكم الشرعي اتباع هواه، وأنه إن حكم له رضي، وإن لم يحكم له سخط، فإن ذلك من عدم طهارة قلبه، كما أن من حاكم وتحاكم إلى الشرع ورضي به، وافق هواه أو خالفه، فإنه من طهارة القلب، ودل على أن طهارة القلب، سبب لكل خير، وهو أكبر داع إلى كل قول رشيد وعمل سديد.
( لَهُم فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ) أي: فضيحة وعار ( وَلَهُم فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) هو: النار وسخط الجبار.

ابو وليد البحيرى
2019-03-27, 05:22 AM
الحلقة (115)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(42 الى الأية(45)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين َ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيّ ُونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ) والسمع هاهنا سمع استجابة، أي: من قلة دينهم وعقلهم، أن استجابوا لمن دعاهم إلى القول الكذب.
( أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) أي: المال الحرام، بما يأخذونه على سفلتهم وعوامهم من المعلومات والرواتب، التي بغير الحق، فجمعوا بين اتباع الكذب وأكل الحرام.
( فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) فأنت مخير في ذلك. وليست هذه منسوخة، فإنه-عند تحاكم هذا الصنف إليه- يخير بين أن يحكم بينهم، أو يعرض عن الحكم بينهم، بسبب أنه لا قصد لهم في الحكم الشرعي إلا أن يكون موافقا لأهوائهم، وعلى هذا فكل مستفت ومتحاكم إلى عالم، يعلم من حاله أنه إن حكم عليه لم يرض، لم يجب الحكم ولا الإفتاء لهم، فإن حكم بينهم وجب أن يحكم بالقسط، ولهذا قال: ( وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) حتى ولو كانوا ظلمة وأعداء، فلا يمنعك ذلك من العدل في الحكم بينهم.
وفي هذا بيان فضيلة العدل والقسط في الحكم بين الناس، وأن الله تعالى يحبه.
ثم قال متعجبا لهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين َ ) فإنهم -لو كانوا مؤمنين عاملين بما يقتضيه الإيمان ويوجبه- لم يصدفوا عن حكم الله الذي في التوراة التي بين أيديهم، لعلهم أن يجدوا عندك ما يوافق أهواءهم.
وحين حكمت بينهم بحكم الله الموافق لما عندهم أيضا، لم يرضوا بذلك بل أعرضوا عنه، فلم يرتضوه أيضا.
قال تعالى: ( وَمَا أُولَئِكَ ) الذين هذا صنيعهم ( بِالْمُؤْمِنِين َ ) أي: ليس هذا دأب المؤمنين، وليسوا حريين بالإيمان. لأنهم جعلوا آلهتهم أهواءهم، وجعلوا أحكام الإيمان تابعة لأهوائهم.
( إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ ) على موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام. ( فِيهَا هُدًى ) يهدي إلى الإيمان والحق، ويعصم من الضلالة ( وَنُورٌ ) يستضاء به في ظلم الجهل والحيرة والشكوك، والشبهات والشهوات، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ( يَحْكُمُ بِهَا ) بيـن الذيـن هـادوا، أي: اليـهود فـي القضايـا والفتـاوى ( النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ) لله وانقادوا لأوامره، الذين إسلامهم أعظم من إسلام غيرهم، وهم صفوة الله من العباد. فإذا كان هؤلاء النبيون الكرام والسادة للأنام قد اقتدوا بها وائتموا ومشوا خلفها، فما الذي منع هؤلاء الأراذل من اليهود من الاقتداء بها؟ وما الذي أوجب لهم أن ينبذوا أشرف ما فيها من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي لا يقبل عمل ظاهر وباطن، إلا بتلك العقيدة؟ هل لهم إمام في ذلك؟ نعم لهم أئمة دأبهم التحريف، وإقامة رياستهم ومناصبهم بين الناس، والتأكل بكتمان الحق، وإظهار الباطل، أولئك أئمة الضلال الذين يدعون إلى النار.
وقوله: ( وَالرَّبَّانِيّ ُونَ وَالأحْبَارُ ) أي: وكذلك يحكم بالتوراة للذين هادوا أئمة الدين من الربانيين، أي: العلماء العاملين المعلمين الذين يربون الناس بأحسن تربية، ويسلكون معهم مسلك الأنبياء المشفقين.
والأحبار أي: العلماء الكبار الذين يقتدى بأقوالهم، وترمق آثارهم، ولهم لسان الصدق بين أممهم.
< 1-233 >
وذلك الحكم الصادر منهم الموافق للحق ( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) أي: بسبب أن الله استحفظهم على كتابه، وجعلهم أمناء عليه، وهو أمانة عندهم، أوجب عليهم حفظه من الزيادة والنقصان والكتمان، وتعليمه لمن لا يعلمه.
وهم شهداء عليه، بحيث إنهم المرجوع إليهم فيه، وفيما اشتبه على الناس منه، فالله تعالى قد حمل أهل العلم، ما لم يحمله الجهال، فيجب عليهم القيام بأعباء ما حملوا.
وأن لا يقتدوا بالجهال، بالإخلاد إلى البطالة والكسل، وأن لا يقتصروا على مجرد العبادات القاصرة، من أنواع الذكر، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، ونحو ذلك من الأمور، التي إذا قام بها غير أهل العلم سلموا ونجوا.
وأما أهل العلم فكما أنهم مطالبون بالقيام بما عليهم أنفسهم، فإنهم مطالبون أن يعلموا الناس وينبهوهم على ما يحتاجون إليه من أمور دينهم، خصوصا الأمور الأصولية والتي يكثر وقوعها وأن لا يخشوا الناس بل يخشون ربهم، ولهذا قال: ( فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا ) فتكتمون الحق، وتظهرون الباطل، لأجل متاع الدنيا القليل، وهذه الآفات إذا سلم منها العالم فهو من توفيقه وسعادته، بأن يكون همه الاجتهاد في العلم والتعليم، ويعلم أن الله قد استحفظه ما http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg أودعه من العلم واستشهده عليه، وأن يكون خائفا من ربه، ولا يمنعه خوف الناس وخشيتهم من القيام بما هو لازم له، وأن لا يؤثر الدنيا على الدين.
كما أن علامة شقاوة العالم أن يكون مخلدا للبطالة، غير قائم بما أمر به، ولا مبال بما استحفظ عليه، قد أهمله وأضاعه، قد باع الدين بالدنيا، قد ارتشى في أحكامه، وأخذ المال على فتاويه، ولم يعلم عباد الله إلا بأجرة وجعالة.
فهذا قد من الله عليه بمنة عظيمة، كفرها ودفع حظا جسيما، محروما منه غيره، فنسألك اللهم علما نافعا، وعملا متقبلا وأن ترزقنا العفو والعافية من كل بلاء يا كريم.
( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ) من الحق المبين، وحكم بالباطل الذي يعلمه، لغرض من أغراضه الفاسدة ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر، وقد يكون كفرا ينقل عن الملة، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه. وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذه الأحكام من جملة الأحكام التي في التوراة، يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار. إن الله أوجب عليهم فيها أن النفس -إذا قتلت- تقتل بالنفس بشرط العمد والمكافأة، والعين تقلع بالعين، والأذن تؤخذ بالأذن، والسن ينزع بالسن.
ومثل هذه ما أشبهها من الأطراف التي يمكن الاقتصاص منها بدون حيف. ( وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ) والاقتصاص: أن يفعل به كما فعل. فمن جرح غيره عمدا اقتص من الجارح جرحا مثل جرحه للمجروح، حدا، وموضعا، وطولا وعرضا وعمقا، وليعلم أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه.
( فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ ) أي: بالقصاص في النفس، وما دونها من الأطراف والجروح، بأن عفا عمن جنى، وثبت له الحق قبله.
( فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ) أي: كفارة للجاني، لأن الآدمي عفا عن حقه. والله تعالى أحق وأولى بالعفو عن حقه، وكفارة أيضا عن العافي، فإنه كما عفا عمن جنى عليه، أو على من يتعلق به، فإن الله يعفو عن زلاته وجناياته.
( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) قال ابن عباس: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، فهو ظلم أكبر، عند استحلاله، وعظيمة كبيرة عند فعله غير مستحل له.

ابو وليد البحيرى
2019-03-27, 05:25 AM
الحلقة (116)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(46 الى الأية(50)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: وأتبعنا هؤلاء الأنبياءَ والمرسلين، الذين يحكمون بالتوراة، بعبدنا ورسولنا عيسى ابن مريم، روحِ الله وكلمتِه التي ألقاها إلى مريم.
بعثه الله مصدقا لما بين يديه من التوراة، فهو شاهد لموسى ولما جاء به من التوراة بالحق والصدق، ومؤيد لدعوته، وحاكم بشريعته، وموافق له في أكثر الأمور الشرعية.
وقد يكون عيسى عليه السلام أخف في بعض الأحكام، كما قال تعالى عنه < 1-234 > أنه قال لبني إسرائيل: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ ) الكتاب العظيم المتمم للتوراة. ( فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ) يهدي إلى الصراط المستقيم، ويبين الحق من الباطل. ( وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ) بتثبيتها والشهادة لها والموافقة. ( وَهُدًى وَمَوْعِظَة لِلْمُتَّقِينَ ) فإنهم الذين ينتفعون بالهدى، ويتعظون بالمواعظ، ويرتدعون عما لا يليق.

( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجِيلِ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فِيهِ ) أي: يلزمهم التقيد بكتابهم، ولا يجوز لهم العدول عنه. ( وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ) الذي هو القرآن العظيم، أفضل الكتب وأجلها.
( بِالْحَقِّ ) أي: إنزالا بالحق، ومشتملا على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه. ( مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ) لأنه شهد لها ووافقها، وطابقت أخباره أخبارها، وشرائعه الكبار شرائعها، وأخبرت به، فصار وجوده مصداقا لخبرها.
( وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) أي: مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية. فهو الكتاب الذي تتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه.
وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة، والأحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما شهد له بالرد فهو مردود، قد دخله التحريف والتبديل، وإلا فلو كان من عند الله، لم يخالفه.
( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ) من الحكم الشرعي الذي أنزله الله عليك. ( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) أي: لا تجعل اتباع أهوائهم الفاسدة المعارضة للحق بدلا عما جاءك من الحق فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ ) أيها الأمم جعلنا ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) أي: سبيلا وسنة، وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم، هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال، وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها، وأما الأصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان، فإنها لا تختلف، فتشرع في جميع الشرائع. ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) تبعا لشريعة واحدة، لا يختلف متأخرها و[لا] متقدمها.
( وَلَكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) فيختبركم وينظر كيف تعملون، ويبتلي كل أمة بحسب ما تقتضيه حكمته، ويؤتي كل أحد ما يليق به، وليحصل التنافس بين الأمم فكل أمة تحرص على سبق غيرها، ولهذا قال: ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) أي: بادروا إليها وأكملوها، فإن الخيرات الشاملة لكل فرض ومستحب، من حقوق الله وحقوق عباده، لا يصير فاعلها سابقا لغيره مستوليا على الأمر، إلا بأمرين:
المبادرة إليها، وانتهاز الفرصة حين يجيء وقتها ويعرض عارضها، والاجتهاد في أدائها كاملة على الوجه المأمور به. ويستدل بهذه الآية، على المبادرة لأداء الصلاة وغيرها في أول وقتها، وعلى أنه ينبغي أن لا يقتصر العبد على مجرد ما يجزئ في الصلاة وغيرها من العبادات من الأمور الواجبة، بل ينبغي أن يأتي بالمستحبات، التي يقدر عليها لتتم وتكمل، ويحصل بها السبق.
( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ) الأمم السابقة واللاحقة، كلهم سيجمعهم الله ليوم لا ريب فيه. ( فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) من الشرائع والأعمال، فيثيب أهل الحق والعمل الصالح، ويعاقب أهل الباطل والعمل السيئ.
( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ) هذه الآية هي التي قيل: إنها ناسخة لقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

والصحيح: أنها ليست بناسخة، وأن تلك الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم مخير بين الحكم بينهم وبين عدمه، وذلك لعدم قصدهم بالتحاكم للحق. وهذه الآية تدل على أنه إذا حكم، فإنه يحكم بينهم بما أنزل الله من الكتاب والسنة، وهو القسط الذي تقدم أن الله قال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ودل هذا على بيان القسط، وأن مادته هو ما شرعه الله من الأحكام، فإنها المشتملة على غاية العدل والقسط، وما خالف ذلك فهو جور وظلم.
( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) كرر النهي عن اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها. ولأن ذلك في مقام الحكم والفتوى، وهو أوسع، وهذا في مقام الحكم وحده، وكلاهما يلزم فيه أن لا يتبع أهواءهم المخالفة للحق، ولهذا قال: ( وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) أي: إياك والاغترار بهم، وأن يفتنوك فيصدوك عن بعض ما أنزل [الله] إليك، فصار اتباع أهوائهم سببا موصلا إلى ترك الحق الواجب، والفرض اتباعه.
( فَإِن تَوَلَّوْا ) عن اتباعك واتباع الحق ( فَاعْلَمْ ) أن ذلك عقوبة عليهم وأن الله يريد ( أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ) < 1-235 > فإن للذنوب عقوبات عاجلة وآجلة، ومن أعظم العقوبات أن يبتلى العبد ويزين له ترك اتباع الرسول، وذلك لفسقه.
( وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ) أي: طبيعتهم الفسق والخروج عن طاعة الله واتباع رسوله.
( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) أي: أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية، وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله. فلا ثم إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية. فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي، ولهذا أضافه الله للجاهلية، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم، والعدل والقسط، والنور والهدى.
( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز -بإيقانه- ما في حكم الله من الحسن والبهاء، وأنه يتعين -عقلا وشرعا- اتباعه. واليقين، هو العلم التام الموجب للعمل.

ابو وليد البحيرى
2019-03-27, 05:29 AM
الحلقة (117)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(51 الى الأية(57)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يرشد تعالى عباده المؤمنين حين بيَّن لهم أحوال اليهود والنصارى وصفاتهم غير الحسنة، أن لا يتخذوهم أولياء. فإن بَعْضهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يتناصرون فيما بينهم ويكونون يدا على من سواهم، فأنتم لا تتخذوهم أولياء، فإنهم الأعداء على الحقيقة ولا يبالون بضركم، بل لا يدخرون من مجهودهم شيئا على إضلالكم، فلا يتولاهم إلا من هو مثلهم، ولهذا قال: ( وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) لأن التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم. والتولي القليل يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئا فشيئا، حتى يكون العبد منهم.
( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) أي: الذين وصْفُهم الظلم، وإليه يَرجعون، وعليه يعولون. فلو جئتهم بكل آية ما تبعوك، ولا انقادوا لك.
ولما نهى الله المؤمنين عن توليهم، أخبر أن ممن يدعي الإيمان طائفةً تواليهم، فقال: ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) أي: شك ونفاق، وضعف إيمان، يقولون: إن تولينا إياهم للحاجة، فإننا ( نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ) أي: تكون الدائرة لليهود والنصارى، فإذا كانت الدائرة لهم، فإذا لنا معهم يد يكافؤننا عنها، وهذا سوء ظن منهم بالإسلام، قال تعالى -رادا لظنهم السيئ-: ( فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ ) الذي يعز الله به الإسلام على اليهود والنصارى، ويقهرهم المسلمون ( أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِندِهِ ) ييأس به المنافقون من ظفر الكافرين من اليهود وغيرهم ( فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا ) أي: أضمروا ( فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ ) على ما كان منهم وضرهم بلا نفع حصل لهم، فحصل الفتح الذي نصر الله به الإسلام والمسلمين، وأذل به الكفر والكافرين، فندموا وحصل لهم من الغم ما الله به عليم.
( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ) متعجبين من حال هؤلاء الذين في قلوبهم مرض: ( أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ) أي: حلفوا وأكدوا حلفهم، وغلظوه بأنواع التأكيدات: إنهم لمعكم في الإيمان، وما يلزمه من النصرة والمحبة والموالاة، ظهر ما أضمروه، وتبين ما أسروه، وصار كيدهم الذي كادوه، وظنهم الذي ظنوه بالإسلام وأهله -باطلا فبطل كيدهم وبطلت ( أَعْمَالُهُمْ ) في الدنيا ( فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ) حيث فاتهم مقصودهم، وحضرهم الشقاء والعذاب.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى أنه الغني عن العالمين، وأنه من يرتد عن دينه فلن يضر الله شيئا، وإنما يضر نفسه. وأن لله عبادا مخلصين، ورجالا صادقين، قد تكفل الرحمن الرحيم بهدايتهم، ووعد بالإتيان بهم، وأنهم أكمل الخلق أوصافا، وأقواهم نفوسا، وأحسنهم أخلاقا، أجلُّ صفاتهم أن الله ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) فإن محبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه، وأفضل فضيلة، تفضل الله بها عليه، وإذا أحب الله عبدا يسر له الأسباب، وهون عليه كل عسير، ووفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات، وأقبل بقلوب عباده إليه بالمحبة والوداد.
ومن لوازم محبة العبد لربه، أنه لا بد أن يتصف بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، في أقواله وأعماله وجميع أحواله، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
كما أن من لازم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg محبة الله للعبد، أن يكثر العبد من التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن الله: "وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، ولا يزال [عبدي] يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
< 1-236 >
ومن لوازم محبة الله معرفته تعالى، والإكثار من ذكره، فإن المحبة بدون معرفة بالله ناقصة جدا، بل غير موجودة وإن وجدت دعواها، ومن أحب الله أكثر من ذكره، وإذا أحب الله عبدا قبل منه اليسير من العمل، وغفر له الكثير من الزلل.
ومن صفاتهم أنهم ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) فهم للمؤمنين أذلة من محبتهم لهم، ونصحهم لهم، ولينهم ورفقهم ورأفتهم، ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم، وقرب الشيء الذي يطلب منهم وعلى الكافرين بالله، المعاندين لآياته، المكذبين لرسله - أعزة، قد اجتمعت هممهم وعزائمهم على معاداتهم، وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم، قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وقال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فالغلظة والشدة على أعداء الله مما يقرب العبد إلى الله، ويوافق العبد ربه في سخطه عليهم، ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة دعوتهم إلى الدين الإسلامي بالتي هي أحسن. فتجتمع الغلظة عليهم، واللين في دعوتهم، وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم.
( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) بأموالهم وأنفسهم، بأقوالهم وأفعالهم. ( وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) بل يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين، وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم، فإن ضعيف القلب ضعيف الهمة، تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين، وتفتر قوته عند عذل العاذلين. وفي قلوبهم تعبد لغير الله، بحسب ما فيها من مراعاة الخلق وتقديم رضاهم ولومهم على أمر الله، فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله، حتى لا يخاف في الله لومة لائم.
ولما مدحهم تعالى بما من به عليهم منَ الصفات الجليلة والمناقب العالية، المستلزمة لما لم يذكر من أفعال الخير -أخبر أن هذا من فضله عليهم وإحسانه لئلا يعجبوا بأنفسهم، وليشكروا الذي مَنَّ عليهم بذلك ليزيدهم من فضله، وليعلم غيرُهم أن فضل الله تعالى ليس عليه حجاب، فقال: ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) أي: واسع الفضل والإحسان، جزيل المنن، قد عمت رحمته كل شيء، ويوسع على أوليائه من فضله، ما لا يكون لغيرهم، ولكنه عليم بمن يستحق الفضل فيعطيه، فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلا وفرعا.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما نهى عن ولاية الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، وذكر مآل توليهم أنه الخسران المبين، أخبر تعالى مَن يجب ويتعين توليه، وذكر فائدة ذلك ومصلحته فقال: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) فولاية الله تدرك بالإيمان والتقوى. فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا، ومن كان وليا لله فهو ولي لرسوله، ومن تولى الله ورسوله كان تمام ذلك تولي من تولاه، وهم المؤمنون الذين قاموا بالإيمان ظاهرا وباطنا، وأخلصوا للمعبود، بإقامتهم الصلاة بشروطها وفروضها ومكملاتها، وأحسنوا للخلق، وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم.
وقوله: ( وَهُمْ رَاكِعُونَ ) أي: خاضعون لله ذليلون. فأداة الحصر في قوله ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) تدل على أنه يجب قصر الولاية على المذكورين، والتبري من ولاية غيرهم.
ثم ذكر فائدة هذه الولاية فقال: ( وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) أي: فإنه من الحزب المضافين إلى الله إضافة عبودية وولاية، وحزبه هم الغالبون الذين لهم العاقبة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وهذه بشارة عظيمة، لمن قام بأمر الله وصار من حزبه وجنده، أن له الغلبة، وإن أديل عليه في بعض الأحيان لحكمة يريدها الله تعالى، فآخر أمره الغلبة والانتصار، ومن أصدق من الله قيلا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ينهى عباده المؤمنين عن اتخاذ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن سائر الكفار أولياء يحبونهم ويتولونهم، ويبدون لهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg أسرار المؤمنين، ويعاونونهم على بعض أمورهم التي تضر الإسلام والمسلمين، وأن ما معهم من الإيمان يوجب عليهم ترك موالاتهم، ويحثهم على معاداتهم، وكذلك التزامهم لتقوى الله التي هي امتثال أوامره واجتناب زواجره مما < 1-237 > تدعوهم إلى معاداتهم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 04:02 AM
الحلقة (118)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(58 الى الأية(64)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وكذلك ما كان عليه المشركون والكفار المخالفون للمسلمين، من قدحهم في دين المسلمين، واتخاذهم إياه هزوا ولعبا، واحتقاره واستصغاره، خصوصا الصلاة التي هي أظهر شعائر المسلمين، وأجلُّ عباداتهم، إنهم إذا نادوا إليها اتخذوها هزوا ولعبا، وذلك لعدم عقلهم ولجهلهم العظيم، وإلا فلو كان لهم عقول لخضعوا لها، ولعلموا أنها أكبر من جميع الفضائل التي تتصف بها النفوس.

فإذا علمتم -أيها المؤمنون- حال الكفار وشدة معاداتهم لكم ولدينكم، فمن لم يعادهم بعد هذا دل على أن الإسلام عنده رخيص، وأنه لا يبالي بمن قدح فيه أو قدح بالكفر والضلال، وأنه ليس عنده من المروءة والإنسانية شيء.
فكيف تدعي لنفسك دينا قيما، وأنه الدين الحق وما سواه باطل، وترضى بموالاة من اتخذه هزوا ولعبا، وسخر به وبأهله، من أهل الجهل والحمق؟! وهذا فيه من التهييج على عداوتهم ما هو معلوم لكل من له أدنى مفهوم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّو نَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( قُلْ ) يا أيها الرسول ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ) ملزما لهم، إن دين الإسلام هو الدين الحق، وإن قدحهم فيه قدح بأمر ينبغي المدح عليه: ( هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ) أي: هل لنا عندكم من العيب إلا إيماننا بالله، وبكتبه السابقة واللاحقة، وبأنبيائه المتقدمين والمتأخرين، وبأننا نجزم أن من لم يؤمن كهذا الإيمان فإنه كافر فاسق؟
فهل تنقمون منا بهذا الذي هو أوجب الواجبات على جميع المكلفين؟
ومع هذا فأكثركم فاسقون، أي: خارجون عن طاعة الله، متجرئون على معاصيه، فأولى لكم -أيها الفاسقون- السكوت، فلو كان عيبكم وأنتم سالمون من الفسق، وهيهات ذلك - لكان الشر أخف من قدحكم فينا مع فسقكم.
ولما كان قدحهم في المؤمنين يقتضي أنهم يعتقدون أنهم على شر، قال تعالى: ( قُلْ ) لهم مخبرا عن شناعة ما كانوا عليه: ( هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ ) الذي نقمتم فيه علينا، مع التنزل معكم. ( مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ ) أي: أبعده عن رحمته ( وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) وعاقبه في الدنيا والآخرة ( وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) وهو الشيطان، وكل ما عبد من دون الله فهو طاغوت. ( أُولَئِكَ ) المذكورون بهذه الخصال القبيحة ( شَرٌّ مَّكَانًا ) من المؤمنين الذين رحمة الله قريب منهم، ورضي الله عنهم وأثابهم في الدنيا والآخرة، لأنهم أخلصوا له الدين.
وهذا النوع من باب استعمال أفعل التفضيل في غير بابه وكذلك قوله: ( وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ) أي: وأبعد عن قصد السبيل.
( وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا ) نفاقا ومكرا ( و ) هم ( قد دَخَلُوا ) مشتملين على الكفر ( وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) فمدخلهم ومخرجهم بالكفر -وهم يزعمون أنهم مؤمنون، فهل أشر من هؤلاء وأقبح حالا منهم؟
( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ) فيجازيهم بأعمالهم خيرها وشرها.
ثم استمر تعالى يعدد معايبهم، انتصارا لقدحهم في عباده المؤمنين، فقال: ( وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ ) أي: من اليهود ( يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) أي: يحرصون، ويبادرون المعاصي المتعلقة في حق الخالق والعدوان على المخلوقين.
( وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) الذي هو الحرام. فلم يكتف بمجرد الإخبار أنهم يفعلون ذلك، حتى أخبر أنهم يسارعون فيه، وهذا يدل على خبثهم وشرهم، وأن أنفسهم مجبولة على حب المعاصي والظلم. هذا وهم يدعون لأنفسهم المقامات العالية. ( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) وهذا في غاية الذم لهم والقدح فيهم.
( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّو نَ وَالأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) أي: هلا ينهاهم العلماء المتصدون لنفع الناس، الذين من الله عليهم بالعلم والحكمة -عن المعاصي التي تصدر منهم، ليزول ما عندهم من الجهل، وتقوم حجة الله عليهم، فإن العلماء عليهم أمر الناس ونهيهم، وأن يبينوا لهم الطريق الشرعي، ويرغبونهم في الخير ويرهبونهم من الشر ( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) .
< 1-238 >

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن مقالة اليهود الشنيعة، وعقيدتهم الفظيعة، فقال: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) أي: عن الخير والإحسان والبر.
( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ) وهذا دعاء عليهم بجنس مقالتهم. فإن كلامهم متضمن لوصف الله الكريم، بالبخل وعدم الإحسان. فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم.
فكانوا أبخل الناس وأقلهم إحسانا، وأسوأهم ظنا بالله، وأبعدهم الله عن رحمته التي وسعت كل شيء، وملأت أقطار العالم العلوي والسفلي. ولهذا قال: ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) لا حجر عليه، ولا مانع يمنعه مما أراد، فإنه تعالى قد بسط فضله وإحسانه الديني والدنيوي، وأمر العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده، وأن لا يسدوا على أنفسهم أبواب إحسانه بمعاصيهم.
فيداه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg سحاء الليل والنهار، وخيره في جميع الأوقات مدرارا، يفرج كربا، ويزيل غما، ويغني فقيرا، ويفك أسيرا ويجبر كسيرا, ويجيب سائلا ويعطي فقيرا عائلا ويجيب المضطرين، ويستجيب للسائلين. وينعم على من لم يسأله، ويعافي من طلب العافية، ولا يحرم من خيره عاصيا، بل خيره يرتع فيه البر والفاجر، ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال ثم يحمدهم عليها، ويضيفها إليهم، وهي من جوده ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والآجل ما لا يدركه الوصف، ولا يخطر على بال العبد، ويلطف بهم في جميع أمورهم، ويوصل إليهم من الإحسان، ويدفع عنهم من النقم ما لا يشعرون بكثير منه، فسبحان من كل النعم التي بالعباد فمنه، وإليه يجأرون في دفع المكاره، وتبارك من لا يحصي أحد ثناء عليه, بل هو كما أثنى على نفسه، وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين، بل لا وجود لهم ولا بقاء إلا بجوده.
وقبَّح الله من استغنى بجهله عن ربه، ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله، بل لو عامل الله اليهود القائلين تلك المقالة، ونحوهم ممن حاله كحالهم ببعض قولهم، لهلكوا، وشقوا في دنياهم، ولكنهم يقولون تلك الأقوال، وهو تعالى, يحلم عنهم، ويصفح، ويمهلهم ولا يهملهم.
وقوله ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُم مَّا أُنزلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) وهذا أعظم العقوبات على العبد، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg أن يكون الذكر الذي أنزله الله على رسوله، الذي فيه حياة القلب والروح، وسعادة الدنيا والآخرة, وفلاح الدارين، الذي هو أكبر منة امتن الله بها على عباده, توجب عليهم المبادرة إلى قبولها, والاستسلام لله بها, وشكرا لله عليها, أن تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه، وطغيان إلى طغيانه، وكفر إلى كفره، وذلك بسبب إعراضه عنها، ورده لها، ومعاندته إياها، ومعارضته لها بالشبه الباطلة. ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) فلا يتآلفون، ولا يتناصرون, ولا يتفقون على حالة فيها مصلحتهم، بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم, متعادين بأفعالهم, إلى يوم القيامة ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ ) ليكيدوا بها الإسلام وأهله، وأبدوا وأعادوا، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم ( أَطْفَأَهَا اللَّهُ ) بخذلانهم وتفرق جنودهم, وانتصار المسلمين عليهم.
( وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا ) أي: يجتهدون ويجدون، ولكن بالفساد في الأرض، بعمل المعاصي، والدعوة إلى دينهم الباطل، والتعويق عن الدخول في الإسلام. ( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) بل يبغضهم أشد البغض، وسيجازيهم على ذلك.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 04:05 AM
الحلقة (119)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(65 الى الأية(70)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاه ُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

[ثم قال تعالى]: ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُ مْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) وهذا من كرمه وجوده، حيث ذكر قبائح أهل الكتاب ومعايبهم وأقوالهم الباطلة، دعاهم إلى التوبة، وأنهم لو آمنوا بالله وملائكته، وجميع كتبه، وجميع رسله، واتقوا المعاصي، لكفر عنهم سيئاتهم ولو كانت ما كانت، ولأدخلهم جنات النعيم التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِن رََّبِّهِمْ ) أي: قاموا بأوامرهما ونواهيهما، كما ندبهم الله وحثهم.
ومن إقامتهما الإيمان بما دعيا إليه، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، فلو قاموا بهذه النعمة العظيمة التي أنزلها ربهم إليهم، أي: لأجلهم وللاعتناء بهم ( لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) أي: لأدر الله عليهم < 1-239 > الرزق، ولأمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( مِنْهُمْ ) أي: من أهل الكتاب ( أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ) أي: عاملة بالتوراة والإنجيل، عملا غير قوي ولا نشيط، ( وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ) أي: والمسيء منهم الكثير. وأما السابقون منهم فقليل ما هم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا أمر من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم الأوامر وأجلها، وهو التبليغ لما أنزل الله إليه، ويدخل في هذا كل أمر تلقته الأمة عنه صلى الله عليه وسلم من العقائد والأعمال والأقوال، والأحكام الشرعية والمطالب الإلهية. فبلغ صلى الله عليه وسلم أكمل تبليغ، ودعا وأنذر، وبشر ويسر، وعلم الجهال الأميين حتى صاروا من العلماء الربانيين، وبلغ بقوله وفعله وكتبه ورسله. فلم يبق خير إلا دل أمته عليه، ولا شر إلا حذرها عنه، وشهد له بالتبليغ أفاضل الأمة من الصحابة، فمن بعدهم من أئمة الدين ورجال المسلمين.
( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ ) أي: لم تبلغ ما أنزل إليك من ربك ( فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) أي: فما امتثلت أمره.
( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) هذه حماية وعصمة من الله لرسوله من الناس، وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ، ولا يثنيك عنه خوف من المخلوقين فإن نواصيهـم بيد الله وقد تكفل بعصمتك، فأنت إنما عليك البلاغ المبين، فمن اهتدى فلنفسه، وأما الكافرون الذين لا قصد لهم إلا اتباع أهوائهم فإن الله لا يهديهم ولا يوفقهم للخير، بسبب كفرهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: قل لأهل الكتاب، مناديا على ضلالهم، ومعلنا بباطلهم: ( لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ ) من الأمور الدينية، فإنكم لا بالقرآن ومحمد آمنتم، ولا بنبيكم وكتابكم صدقتم، ولا بحق تمسكتم، ولا على أصل اعتمدتم ( حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ ) أي: تجعلوهما قائمين بالإيمان بهما واتباعهما، والتمسك بكل ما يدعوان إليه.
( و ) تقيموا ( ما أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِن رَبِّكُمْ ) الذي رباكم، وأنعم عليكم، وجعل أجلَّ إنعامه إنزالَ الكتب إليكم. فالواجب عليكم، أن تقوموا بشكر الله، وتلتزموا أحكام الله، وتقوموا بما حملتم من أمانة الله وعهده.
( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَّا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن أهل الكتب http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg من أهل القرآن والتوراة والإنجيل، أن سعادتهم ونجاتهم في طريق واحد، وأصل واحد، وهو الإيمان بالله واليوم الآخر [والعمل الصالح] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg فمن آمن منهم بالله واليوم الآخر، فله النجاة، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من الأمور المخوفة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا منها. وهذا الحكم المذكور يشمل سائر الأزمنة.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي: عهدهم الثقيل بالإيمان بالله، والقيام بواجباته التي تقدم الكلام عليها في قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر الآيات. ( وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا ) يتوالون عليهم بالدعوة، ويتعاهدونهم بالإرشاد، ولكن ذلك لم ينجع فيهم، ولم يفد ( كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ ) من الحق كذبوه وعاندوه، وعاملوه أقبح المعاملة ( فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ) .

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 04:08 AM
الحلقة (120)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(71 الى الأية(76)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) أي: ظنوا أن معصيتهم وتكذيبهم لا يجر عليهم عذابا ولا عقوبة، فاستمروا على باطلهم. ( فَعَمُوا وَصَمُّوا ) عن الحق ( ثُمَّ ) نعشهم و ( تاب الله عَلَيْهِمْ ) حين تابوا إليه وأنابوا ( ثُمَّ ) لم يستمروا على ذلك حتى انقلب أكثرهم إلى الحال القبيحة. فَـ ( عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ) بهذا الوصف، والقليل استمروا على توبتهم وإيمانهم. ( وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) فيجازي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي < 1-240 > وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن كفر النصارى بقولهم: ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) بشبهة أنه خرج من أم بلا أب، وخالف المعهود من الخلقة الإلهية، والحال أنه عليه الصلاة والسلام قد كذبهم في هذه الدعوى، وقال لهم: ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) فأثبت لنفسه العبودية التامة، ولربه الربوبية الشاملة لكل مخلوق.
( إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ ) أحدا من المخلوقين، لا عيسى ولا غيره. ( فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ) وذلك لأنه سوى الخلق بالخالق، وصرف ما خلقه الله له - وهو العبادة الخالصة - لغير من هي له، فاستحق أن يخلد في النار.
( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) ينقذونهم من عذاب الله، أو يدفعون عنهم بعض ما نزل بهم.
( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ) وهذا من أقوال النصارى المنصورة عندهم، زعموا أن الله ثالث ثلاثة: الله، وعيسى، ومريم، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
وهذا أكبر دليل على قلة عقول النصارى، كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء، والعقيدة القبيحة؟! كيف اشتبه عليهم الخالق بالمخلوقين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ؟! كيف خفي عليهم رب العالمين؟! قال تعالى -رادا عليهم وعلى أشباههم -: ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ ) متصف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص، منفرد بالخلق والتدبير، ما بالخلق من نعمة إلا منه. فكيف يجعل معه إله غيره؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ثم توعدهم بقوله: ( وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
ثم دعاهم إلى التوبة عما صدر منهم، وبين أنه يقبل التوبة عن عباده فقال: ( أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ ) أي: يرجعون إلى ما يحبه ويرضاه من الإقرار لله بالتوحيد، وبأن عيسى عبد الله ورسوله، عما كانوا يقولونه ( وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ ) عن ما صدر منهم ( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) أي: يغفر ذنوب التائبين، ولو بلغت عنان السماء، ويرحمهم بقبول توبتهم، وتبديل سيئاتهم حسنات.
وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين في قوله: ( أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ ) .
ثم ذكر حقيقة المسيح وأُمِّه، الذي هو الحق، فقال: ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) أي: هذا غايته ومنتهى أمره، أنه من عباد الله المرسلين، الذين ليس لهم من الأمر ولا من التشريع، إلا ما أرسلهم به الله، وهو من جنس الرسل قبله، لا مزية له عليهم تخرجه عن البشرية إلى مرتبة الربوبية.
( وَأُمَّهُ ) مريم ( صِدِّيقَةٌ ) أي: هذا أيضا غايتها، أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء. والصديقية، هي العلم النافع المثمر لليقين، والعمل الصالح. وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية، بل أعلى أحوالها الصديقية، وكفى بذلك فضلا وشرفا. وكذلك سائر النساء لم يكن منهن نبية، لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين، في الرجال كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فإذا كان عيسى عليه السلام من جنس الأنبياء والرسل من قبله، وأمه صديقة، فلأي شيء اتخذهما النصارى إلهين مع الله؟

وقوله: ( كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ) دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران، محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب، فلو كانا إلهين لاستغنيا عن الطعام والشراب، ولم يحتاجا إلى شيء، فإن الإله هو الغني الحميد.
ولما بين تعالى البرهان قال: ( انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ) الموضحة للحق، الكاشفة لليقين، ومع هذا لا تفيد فيهم شيئا، بل لا يزالون على إفكهم وكذبهم وافترائهم، وذلك ظلم وعناد منهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( قُلْ ) لهم أيها الرسول: ( أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) من المخلوقين الفقراء المحتاجين، ( ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا ) وتدعون من انفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع، ( وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ) لجميع الأصوات باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات.

( الْعَلِيمُ ) بالظواهر والبواطن، والغيب والشهادة، والأمور الماضية والمستقبلة، فالكامل تعالى الذي هذه أوصافه هو الذي يستحق أن يفرد بجميع أنواع العبادة، ويخلص له الدين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 04:11 AM
الحلقة (121)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(77 الى الأية(82)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ < 1-241 > سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ) أي: لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل، وذلك كقولهم في المسيح، ما تقدم حكايته عنهم.
وكغلوهم في بعض المشايخ، اتباعا لـ ( أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ ) أي: تقدم ضلالهم.
( وَأَضَلُّوا كَثِيرًا ) من الناس بدعوتهم إياهم إلى الدين، الذي هم عليه. ( وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) أي: قصد الطريق، فجمعوا بين الضلال والإضلال، وهؤلاء هم أئمة الضلال الذين حذر الله عنهم وعن اتباع أهوائهم المردية، وآرائهم المضلة. ثم قال تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي: طردوا وأبعدوا عن رحمة الله ( عَلَى لِسَـانِ دَاوُدَ وَعِيسَـى ابْنِ مَرْيَــمَ ) أي: بشهادتهما وإقرارهما، بأن الحجة قد قامت عليهم، وعاندوها. ( ذَلِكَ ) الكفر واللعن ( بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) أي: بعصيانهم لله، وظلمهم لعباد الله، صار سببا لكفرهم وبعدهم عن رحمة الله، فإن للذنوب والظلم عقوبات.
ومن معاصيهم التي أحلت بهم المثلات، وأوقعت بهم العقوبات أنهم: ( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ) أي: كانوا يفعلون المنكر، ولا ينهى بعضهم بعضا، فيشترك بذلك المباشر، وغيره الذي سكت عن النهي عن المنكر مع قدرته على ذلك.
وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله، وأن معصيته خفيفة عليهم، فلو كان لديهم تعظيم لربهم لغاروا لمحارمه، ولغضبوا لغضبه، وإنما كان السكوت عن المنكر -مع القدرة- موجبا للعقوبة، لما فيه من المفاسد العظيمة:
منها: أن مجرد السكوت، فعل معصية، وإن لم يباشرها الساكت. فإنه -كما يجب اجتناب المعصية- فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية.
ومنها: ما تقدم أنه يدل على التهاون بالمعاصي، وقلة الاكتراث بها.
ومنها: أن ذلك يجرئ العصاة والفسقة على الإكثار من المعاصي إذا لم يردعوا عنها، فيزداد الشر، وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية، ويكون لهم الشوكة والظهور، ثم بعد ذلك يضعف أهل الخير عن مقاومة أهل الشر، حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أوَّلا.
ومنها: أن - في ترك http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الإنكار للمنكر- يندرس العلم، ويكثر الجهل، فإن المعصية- مع تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص، وعدم إنكار أهل الدين والعلم لها - يظن أنها ليست بمعصية، وربما ظن الجاهل أنها عبادة مستحسنة، وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ما حرَّم الله حلالا؟ وانقلاب الحقائق على النفوس ورؤية الباطل حقا؟
ومنها: أن السكوت http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg على معصية العاصين، ربما تزينت المعصية في صدور الناس، واقتدى بعضهم ببعض، فالإنسان مولع بالاقتداء بأضرابه وبني جنسه، ومنها ومنها.
فلما كان السكوت عن الإنكار بهذه المثابة، نص الله تعالى أن بني إسرائيل الكفار منهم لعنهم بمعاصيهم واعتدائهم، وخص من ذلك هذا المنكر العظيم.
( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) بالمحبة والموالاة والنصرة.
( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) هذه البضاعةَ الكاسدة، والصفقةَ الخاسرة، وهي سخط الله الذي يسخط لسخطه كل شيء، والخلود الدائم في العذاب العظيم، فقد ظلمتهم أنفسهم حيث قدمت لهم هذا النزل غير الكريم، وقد ظلموا أنفسهم إذ فوتوها النعيم المقيم.
( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ) فإن الإيمان بالله وبالنبي وما أنزل إليه، يوجب على العبد موالاة ربه، وموالاة أوليائه، ومعاداة من كفر به وعاداه، وأوضع في معاصيه، فشرط ولايةِ الله والإيمانِ به، أن لا يتخذ أعداء الله أولياء، وهؤلاء لم يوجد منهم الشرط، فدل على انتفاء المشروط. ( وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) أي: خارجون عن طاعة الله والإيمان به وبالنبي. ومن فسقهم موالاةُ أعداء الله.
ثم قال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى في بيان أقرب الطائفتين إلى المسلمين، وإلى ولايتهم ومحبتهم، وأبعدهم من ذلك: ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) فهؤلاء الطائفتان على الإطلاق أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين، وأكثرهم سعيا في إيصال الضرر إليهم، وذلك لشدة بغضهم لهم، بغيا وحسدا وعنادا وكفرا.
( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ) وذكر تعالى لذلك عدة أسباب:

منها: أن ( مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا ) أي: علماء متزهدين، وعُبَّادًا في < 1-242 > الصوامع متعبدين. والعلم مع الزهد وكذلك العبادة مما يلطف القلب ويرققه، ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة، فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود، وشدة المشركين.
ومنها: ( أنهم لا يَسْتَكْبِرُونَ ) أي: ليس فيهم تكبر ولا عتو عن الانقياد للحق، وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومن محبتهم، فإن المتواضع أقرب إلى الخير من المستكبر.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 04:17 AM
الحلقة (122)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(83 الى الأية(89)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ومنها: أنهم ( إذا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ ) محمد صلى الله عليه وسلم، أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا له، وفاضت أعينهم بسبب ما سمعوا من الحق الذي تيقنوه، فلذلك آمنوا وأقروا به فقالوا: ( رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يشهدون لله بالتوحيد، ولرسله بالرسالة وصحة ما جاءوا به، ويشهدون على الأمم السابقة بالتصديق والتكذيب.
وهم عدول، شهادتهم مقبولة، كما قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) .
فكأنهم ليموا على إيمانهم ومسارعتهم فيه، فقالوا: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ) أي: وما الذي يمنعنا من الإيمان بالله، والحال أنه قد جاءنا الحق من ربنا، الذي لا يقبل الشك والريب، ونحن إذا آمنا واتبعنا الحق طمعنا أن يدخلنا الله الجنة مع القوم الصالحين، فأي مانع يمنعنا؟ أليس ذلك موجبا للمسارعة والانقياد للإيمان وعدم التخلف عنه.
قال الله تعالى: ( فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا ) أي: بما تفوهوا به من الإيمان ونطقوا به من التصديق بالحق ( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ) وهذه الآيات نزلت في النصارى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كالنجاشي وغيره ممن آمن منهم. وكذلك لا يزال يوجد فيهم من يختار دين الإسلام، ويتبين له بطلان ما كانوا عليه، وهم أقرب من اليهود والمشركين إلى دين الإسلام.
ولما ذكر ثواب المحسنين، ذكر عقاب المسيئين قال: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) لأنهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg كفروا بالله، وكذبوا بآياته المبينة للحق.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ) من المطاعم والمشارب، فإنها نعم أنعم الله بها عليكم، فاحمدوه إذ أحلها لكم، واشكروه ولا تردوا نعمته بكفرها أو عدم قبولها، أو اعتقاد تحريمها، فتجمعون بذلك بين القول على الله الكذب، وكفر النعمة، واعتقاد الحلال الطيب حراما خبيثا، فإن هذا من الاعتداء.
والله قد نهى عن الاعتداء فقال: ( وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم على ذلك.
ثم أمر بضد ما عليه المشركون، الذين يحرمون ما أحل الله فقال: ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا ) أي: كلوا من رزقه الذي ساقه إليكم، بما يسره من الأسباب، إذا كان حلالا لا سرقة ولا غصبا ولا غير ذلك من أنواع الأموال التي تؤخذ بغير حق، وكان أيضا طيبا، وهو الذي لا خبث فيه، فخرج بذلك الخبيث من السباع والخبائث.
( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) في امتثال أوامره، واجتناب نواهيه. ( الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) فإن إيمانكم بالله يوجب عليكم تقواه ومراعاة حقه، فإنه لا يتم إلا بذلك.
ودلت الآية الكريمة على أنه إذا حرم حلالا عليه من طعام وشراب، وسرية وأمة، ونحو ذلك، فإنه لا يكون حراما بتحريمه، لكن لو فعله فعليه كفارة يمين، كما قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) الآية.
إلا أن تحريم الزوجة فيه كفارة ظهار، ويدخل في هذه الآية أنه لا ينبغي للإنسان أن يتجنب الطيبات ويحرمها على نفسه، بل يتناولها مستعينا بها على طاعة ربه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ (89) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: في أيمانكم التي صدرت على وجه اللغو، وهي الأيمان التي حلف بها المقسم من غير نية ولا قصد، أو عقدها يظن صدق نفسه، فبان بخلاف ذلك. ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ) أي: بما عزمتم عليه، وعقدت عليه قلوبكم. كما قال في الآية الأخرى: ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) ( فَكَفَّارَتُهُ ) أي: كفارة اليمين الذي عقدتموها بقصدكم ( إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ) .
وذلك الإطعام http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: كسوة عشرة مساكين، والكسوة هي التي تجزئ في الصلاة. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: عتق رقبة مؤمنة كما قيدت في غير هذا الموضع، فمتى فعل واحدا من هذه الثلاثة فقد انحلت يمينه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَمَنْ لَمْ يَجِدْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg واحدا من هذه الثلاثة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg المذكور http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg تكفرها وتمحوها وتمنع من الإثم.

(وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ) عن الحلف بالله كاذبا، وعن كثرة الأيمان، واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيهـا، إلا إذا كان الحنث خيرا، فتمام الحفظ: أن يفعل الخير، ولا يكون يمينه عرضة لذلك الخير.
(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ) المبينة للحلال من الحرام، الموضحة للأحكام. ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) اللهَ حيث علمكم ما لم تكونوا تعلمون. فعلى العباد شكر الله تعالى على ما منَّ به < 1-243 > عليهم، من معرفة الأحكام الشرعية وتبيينها.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 04:20 AM
الحلقة (123)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(90 الى الأية(95)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يذم تعالى هذه الأشياء القبيحة، ويخبر أنها من عمل الشيطان، وأنها رجس. ( فَاجْتَنِبُوهُ ) أي: اتركوه ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) فإن الفلاح لا يتم إلا بترك ما حرم الله، خصوصا هذه الفواحش المذكورة، وهي الخمر وهي: كل ما خامر العقل أي: غطاه بسكره، والميسر، وهو: جميع المغالبات التي فيها عوض من الجانبين، كالمراهنة ونحوها، والأنصاب التي هي: الأصنام والأنداد ونحوها، مما يُنصب ويُعبد من دون الله، والأزلام التي يستقسمون بها، فهذه الأربعة نهى الله عنها وزجر، وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها واجتنابها. فمنها: أنها رجس، أي: خبث، نجس معنى، وإن لم تكن نجسة حسا.
والأمور الخبيثة مما ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بأوضارها. ومنها: أنها من عمل الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان.
ومن المعلوم أن العدو يحذر منه، وتحذر مصايده وأعماله، خصوصا الأعمال التي يعملها ليوقع فيها عدوه، فإنها فيها هلاكه، فالحزم كل الحزم البعد عن عمل العدو المبين، والحذر منهـا، والخوف من الوقوع فيها.
ومنها: أنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها، فإن الفلاح هو: الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المرهوب، وهذه الأمور مانعة من الفلاح ومعوقة له.
ومنها: أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس، والشيطان حريص على بثها، خصوصا الخمر والميسر، ليوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء.
فإن في الخمر من انغلاب العقل وذهاب حجاه، ما يدعو إلى البغضاء بينه وبين إخوانه المؤمنين، خصوصا إذا اقترن بذلك من السباب ما هو من لوازم شارب الخمر، فإنه ربما أوصل إلى القتل. وما في الميسر من غلبة أحدهما للآخر، وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة، ما هو من أكبر الأسباب للعداوة والبغضاء.
ومنها: أن هذه الأشياء تصد القلب، ويتبعه البدن عن ذكر الله وعن الصلاة، اللذين خلق لهما العبد، وبهما سعادته، فالخمر والميسر، يصدانه عن ذلك أعظم صد، ويشتغل قلبه، ويذهل لبه في الاشتغال بهما، حتى يمضي عليه مدة طويلة وهو لا يدري أين هو.
فأي معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها، وتجعله من أهل الخبث، وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه، فينقاد له كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها، وتحول بين العبد وبين فلاحه، وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة؟ !! فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر منها؟ !!
ولهذا عرض تعالى على العقول السليمة النهي عنها، عرضا بقوله: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) لأن العاقل -إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد- انزجر عنها وكفت نفسه، ولم يحتج إلى وعظ كثير ولا زجر بليغ.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

طاعة الله وطاعة رسوله واحدة، فمن أطاع الله، فقد أطاع الرسول، ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله. وذلك شامل للقيام بما أمر الله به ورسوله من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة، الواجبة والمستحبة، المتعلقة بحقوق الله وحقوق خلقه والانتهاء عما نهى الله ورسوله عنه كذلك.
وهذا الأمر أعم الأوامر، فإنه كما ترى يدخل فيه كل أمر ونهي، ظاهر وباطن، وقوله: ( وَاحْذَرُوا ) أي: من معصية الله ومعصية رسوله، فإن في ذلك الشر والخسران المبين. ( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) عما أمرتم به ونهيتم عنه. ( فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) وقد أدى ذلك. فإن اهتديتم فلأنفسكم، وإن أسأتم فعليها، والله هو الذي يحاسبكم، والرسول قد أدى ما عليه وما حمل به.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما نزل تحريم الخمر والنهي الأكيد والتشديد فيه، تمنى أناس من المؤمنين أن يعلموا حال إخوانهم الذين ماتوا على الإسلام قبل تحريم الخمر وهم يشربونها.
فأنزل الله هذه الآية، وأخبر تعالى أنه ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ ) أي: حرج وإثم ( فِيمَا طَعِمُوا ) من الخمر والميسر قبل تحريمهما.
ولما كان نفي الجناح يشمل المذكورات وغيرها، قيد ذلك بقوله: ( إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) أي: بشرط أنهم تاركون للمعاصي، مؤمنون بالله إيمانا صحيحا، موجبا لهم عمل الصالحات، ثم استمروا على ذلك. وإلا فقد يتصف العبد بذلك في وقت دون آخر. فلا يكفي حتى يكون كذلك حتى يأتيه أجله، ويدوم على إحسانه، فإن الله يحب المحسنين في عبادة الخالق، المحسنين في نفع العبيد، ويدخل في هذه الآية الكريمة، من طعم المحرم، أو فعل غيره بعد التحريم، ثم اعترف بذنبه وتاب إلى الله، واتقى وآمن وعمل صالحا، فإن الله يغفر له، ويرتفع عنه الإثم في ذلك.
< 1-244 >
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُ مُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا من منن الله على عباده، أن أخبرهم بما سيفعل قضاء وقدرا، ليطيعوه ويقدموا على بصيرة، ويهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) لا بد أن يختبر الله إيمانكم.
( لَيَبْلُوَنَّكُ مُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ ) أي: بشيء غير كثير، فتكون محنة يسيرة، تخفيفا منه تعالى ولطفا، وذلك الصيد الذي يبتليكم الله به ( تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ) أي: تتمكنون من صيده، ليتم بذلك الابتلاء، لا غير مقدور عليه بيد ولا رمح، فلا يبقى للابتلاء فائدة.
ثم ذكر الحكمة في ذلك الابتلاء، فقال: ( لِيَعْلَمَ اللَّهُ ) علما ظاهرا للخلق يترتب عليه الثواب والعقاب ( مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ) فيكف عما نهى الله عنه مع قدرته عليه وتمكنه، فيثيبه الثواب الجزيل، ممن لا يخافه بالغيب، فلا يرتدع عن معصية تعرض له فيصطاد ما تمكن منه ( فَمَنِ اعْتَدَى ) منكم ( بَعْدَ ذَلِكَ ) البيان، الذي قطع الحجج، وأوضح السبيل. ( فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي: مؤلم موجع، لا يقدر على وصفه إلا الله، لأنه لا عذر لذلك المعتدي، والاعتبار بمن يخافه بالغيب، وعدم حضور الناس عنده. وأما إظهار مخافة الله عند الناس، فقد يكون ذلك لأجل مخافة الناس، فلا يثاب على ذلك.
ثم صرح بالنهي عن قتل الصيد في حال الإحرام، فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) أي: محرمون في الحج والعمرة، والنهي عن قتله يشمل النهي عن مقدمات القتل، وعن المشاركة في القتل، والدلالة عليه، والإعانة على قتله، حتى إن من تمام ذلك أنه ينهى المحرم عن أكل ما قُتل أو صيد لأجله، وهذا كله تعظيم لهذا النسك العظيم، أنه يحرم على المحرم قتل وصيد ما كان حلالا له قبل الإحرام.
وقوله: ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا ) أي: قتل صيدا عمدا ( فـ ) عليه ( جزاء مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ) أي: الإبل، أو البقر، أو الغنم، فينظر ما يشبه شيئا من ذلك، فيجب عليه مثله، يذبحه ويتصدق به. والاعتبار بالمماثلة أن ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) أي: عدلان يعرفان الحكم، ووجه الشبه، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم، حيث قضوا بالحمامة شاة، وفي النعامة بدنة، وفي بقر الوحش -على اختلاف أنواعه- بقرة، وهكذا كل ما يشبه شيئا من النعم، ففيه مثله، فإن لم يشبه شيئا ففيه قيمته، كما هو القاعدة في المتلفات، وذلك الهدي لا بد أن يكون ( هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ) أي: يذبح في الحرم.
( أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ) أي: كفارة ذلك الجزاء طعام مساكين، أي: يجعل مقابلة المثل من النعم، طعام يطعم المساكين.

قال كثير من العلماء: يقوم الجزاء، فيشترى بقيمته طعام، فيطعم كل مسكين مُدَّ بُرٍّ أو نصفَ صاع من غيره. ( أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ ) الطعام ( صِيَامًا ) أي: يصوم عن إطعام كل مسكين يوما. ( لِيَذُوقَ ) بإيجاب الجزاء المذكور عليه ( وَبَالَ أَمْرِهِ ) ( وَمَنْ عَادَ ) بعد ذلك ( فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ) وإنما نص الله على المتعمد لقتل الصيد، مع أن الجزاء يلزم المتعمد والمخطئ، كما هو القاعدة الشرعية -أن المتلف للنفوس والأموال المحترمة، فإنه يضمنها على أي حال كان، إذا كان إتلافه بغير حق، لأن الله رتب عليه الجزاء والعقوبة والانتقام، وهذا للمتعمد. وأما المخطئ فليس عليه عقوبة، إنما عليه الجزاء، [هذا جواب الجمهور من هذا القيد الذي ذكره الله. وطائفة من أهل العلم يرون تخصيص الجزاء بالمتعمد وهو ظاهر الآية. والفرق بين هذا وبين التضمين في الخطأ في النفوس والأموال في هذا الموضع الحق فيه لله، فكما لا إثم لا جزاء لإتلافه نفوس الآدميين وأموالهم] .

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 04:23 AM
الحلقة (124)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(96 الى الأية(103)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ولما كان الصيد يشمل الصيد البري والبحري، استثنى تعالى الصيد البحري فقال: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ) أي: أحل لكم -في حال إحرامكم- صيد البحر، وهو الحي من حيواناته، وطعامه، وهو الميت منها، فدل ذلك على حل ميتة البحر. ( مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ ) أي: الفائدة في إباحته < 1-245 > لكم أنه لأجل انتفاعكم وانتفاع رفقتكم الذين يسيرون معكم. ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ) ويؤخذ من لفظ "الصيد" أنه لا بد أن يكون وحشيا، لأن الإنسي ليس بصيد. ومأكولا فإن غير المأكول لا يصاد ولا يطلق عليه اسم الصيد. ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) أي: اتقوه بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، واستعينوا على تقواه بعلمكم أنكم إليه تحشرون. فيجازيكم، هل قمتم بتقواه فيثيبكم الثواب الجزيل، أم لم تقوموا بها فيعاقبكم؟.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . يخبر تعالى أنه جعل ( الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ) يقوم بالقيام بتعظيمه دينُهم ودنياهم، فبذلك يتم إسلامهم، وبه تحط أوزارهم، وتحصل لهم - بقصده - العطايا الجزيلة، والإحسان الكثير، وبسببه تنفق الأموال، وتتقحم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg - من أجله - الأهوال.
ويجتمع فيه من كل فج عميق جميع أجناس المسلمين، فيتعارفون ويستعين بعضهم ببعض، ويتشاورون على المصالح العامة، وتنعقد بينهم الروابط في مصالحهم الدينية والدنيوية.
قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ومن أجل كون البيت قياما للناس قال من قال من العلماء: إن حج بيت الله فرض كفاية في كل سنة. فلو ترك الناس حجه لأثم كل قادر، بل لو ترك الناس حجه لزال ما به قوامهم، وقامت القيامة.
وقوله: ( وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ) أي: وكذلك جعل الهدي والقلائد -التي هي أشرف أنواع الهدي- ( قياما للناس) ينتفعون بهما ويثابون عليهما. ( ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) فمن علمه أن جعل لكم هذا البيت الحرام، لما يعلمه من مصالحكم الدينية والدنيوية.
( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي: ليكن هذان العلمان موجودين في قلوبكم على وجه الجزم واليقين، تعلمون أنه شديد العقاب العاجل والآجل على من عصاه، وأنه غفور رحيم لمن تاب إليه وأطاعه.فيثمر لكم هذا العلمُ الخوفَ من عقابه، والرجاءَ لمغفرته وثوابه، وتعملون على ما يقتضيه الخوف والرجاء.
ثم قال تعالى: ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ ) وقد بلَّغ كما أُمِر، وقام بوظيفته، وما سـوى ذلك فليـس لـه مـن الأمـر شـيء. ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ) فيجازيكم بما يعلمه تعالى منكم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( قُلْ ) للناس محذرا عن الشر ومرغبا في الخير: ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ) من كل شيء، فلا يستوي الإيمان والكفر، ولا الطاعة والمعصية، ولا أهل الجنة وأهل النار، ولا الأعمال الخبيثة والأعمال الطيبة، ولا المال الحرام بالمال الحلال.
( وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ) فإنه لا ينفع صاحبه شيئا، بل يضره في دينه ودنياه.
( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) فأمر أُولي الألباب، أي: أهل العقول الوافية، والآراء الكاملة، فإن الله تعالى يوجه إليهم الخطاب. وهم الذين يؤبه لهم، ويرجى أن يكون فيهم خير.
ثم أخبر أن الفلاح متوقف على التقوى التي هي موافقة الله في أمره ونهيه، فمن اتقاه أفلح كل الفلاح، ومن ترك تقواه حصل له الخسران وفاتته الأرباح.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ينهى عباده المؤمنين عن سؤال الأشياء التي إذا بينت لهم ساءتهم وأحزنتهم، وذلك كسؤال بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم، وعن حالهم في الجنة أو النار، فهذا ربما أنه لو بين للسائل لم يكن له فيه خير، وكسؤالهم للأمور غير الواقعة.
وكالسؤال الذي يترتب عليه تشديدات في الشرع ربما أحرجت الأمة، وكالسؤال عما لا يعني، فهذه الأسئلة، وما أشبهها هي المنهي عنها، وأما السؤال الذي لا يترتب عليه شيء < 1-246 > من ذلك فهذا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg مأمور به، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) أي: وإذا وافق سؤالكم محله فسألتم عنها حين ينزل عليكم القرآن، فتسألون عن آية أشكلت، أو حكم خفي وجهه عليكم، في وقت يمكن فيه نزول الوحي من السماء، تبد لكم، أي: تبين لكم وتظهر، وإلا فاسكتوا عمّا سكت الله عنه.
( عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ) أي: سكت معافيا لعباده منها، فكل ما سكت الله عنه فهو مما أباحه وعفا عنه. ( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) أي: لم يزل بالمغفرة موصوفا، وبالحلم والإحسان معروفا، فتعرضوا لمغفرته وإحسانه، واطلبوه من رحمته ورضوانه.
وهذه المسائل التي نهيتم عنها ( قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) أي: جنسها وشبهها، سؤال تعنت لا استرشاد. فلما بينت لهم وجاءتهم ( أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم".

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما أحله الله، فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئا من مواشيهم محرما، على حسب اصطلاحاتهم التي عارضت ما أنزل الله فقال: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ) وهي: ناقة يشقون أذنها، ثم يحرمون ركوبها ويرونها محترمة.
( وَلا سَائِبَةٍ ) وهي: ناقة، أو بقرة، أو شاة، إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه، سيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تؤكل، وبعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة.

( وَلا حَامٍ ) أي: جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل، إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم.

فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ولا برهان. وإنما ذلك افتراء على الله، وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم، ولهذا قال: ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) فلا نقل فيها ولا عقل، ومع هذا فقد أعجبوا بآرائهم التي بنيت على الجهالة والظلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 04:26 AM
الحلقة (125)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(104 الى الأية(108)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (104) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

فإذا دعوا ( إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ ) أعرضوا فلم يقبلوا، و ( قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) من الدين، ولو كان غير سديد، ولا دينًا ينجي من عذاب الله.
ولو كان في آبائهم كفاية ومعرفة ودراية لهان الأمر. ولكن آباءهم لا يعقلون شيئا، أي: ليس عندهم من المعقول شيء، ولا من العلم والهدى شيء. فتبا لمن قلد من لا علم عنده صحيح، ولا عقل رجيح، وترك اتباع ما أنزل الله، واتباع رسله الذي يملأ القلوب علما وإيمانا, وهدى, وإيقانا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) أي: اجتهدوا في إصلاحها وكمالها وإلزامها سلوك الصراط المستقيم، فإنكم إذا صلحتم لا يضركم من ضل عن الصراط المستقيم، ولم يهتد إلى الدين القويم، وإنما يضر نفسه.
ولا يدل هذا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يضر العبدَ تركُهما وإهمالُهما، فإنه لا يتم هداه, إلا بالإتيان بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
نعم، إذا كان عاجزا عن إنكار المنكر بيده ولسانه وأنكره بقلبه، فإنه لا يضره ضلال غيره.
وقوله: ( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ) أي: مآلكم يوم القيامة، واجتماعكم بين يدي الله تعالى. ( فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) من خير وشر.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَ ا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى خبرا متضمنا للأمر بإشهاد اثنين على الوصية، إذا حضر الإنسان مقدماتُ الموت وعلائمه. فينبغي له أن < 1-247 > يكتب وصيته، ويشهد عليها اثنين ذوي عدل ممن تعتبر شهادتهما.
( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) أي: من غير أهل دينكم، من اليهود أو النصارى أو غيرهم، وذلك عند الحاجة والضرورة وعدم غيرهما من المسلمين.
( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ ) أي: سافرتم فيها ( فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ) أي: فأشهدوهما، ولم يأمر بشهادتهما إلا لأن قولهما في تلك الحال مقبول، ويؤكد عليهما، بأن يحبسا ( مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ) التي يعظمونها.
( فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ ) أنهما صدقا، وما غيرا ولا بدلا هذا ( إِنِ ارْتَبْتُمْ ) في شهادتهما، فإن صدقتموهما، فلا حاجة إلى القسم بذلك.
ويقولان: ( لا نَشْتَرِي بِهِ ) أي: بأيماننا ( ثَمَنًا ) بأن نكذب فيها، لأجل عرض من الدنيا. ( وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) فلا نراعيه لأجل قربه منا ( وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ ) بل نؤديها على ما سمعناها ( إِنَّا إِذًا ) أي: إن كتمناها ( لَمِنَ الآثِمِينَ ) .
( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا ) أي: الشاهدين ( اسْتَحَقَّا إِثْمًا ) بأن وجد من القرائن ما يدل على كذبهما وأنهما خانا ( فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان ) .
أي: فليقم رجلان من أولياء الميت، وليكونا من أقرب الأولياء إليه. ( فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا ) أي: أنهما كذبا، وغيرا وخانا. ( وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) أي: إن ظلمنا واعتدينا، وشهدنا بغير الحق.
قال الله تعالى في بيان حكمة تلك الشهادة وتأكيدها، وردها على أولياء الميت حين تظهر من الشاهدين الخيانة: ( ذَلِكَ أَدْنَى ) أي: أقرب ( أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا ) حين تؤكد عليهما تلك التأكيدات. ( أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ) أي: أن لا تقبل أيمانهم، ثم ترد على أولياء الميت.
( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) أي: الذين وصْفُهم الفسق، فلا يريدون الهدى والقصد إلى الصراط المستقيم.
وحاصل هذا، أن الميت - إذا حضره الموت في سفر ونحوه، مما هو مظنة قلة الشهود المعتبرين- أنه ينبغي أن يوصي شاهدين مسلمين عدلين.
فإن لم يجد إلا شاهدين كافرين، جاز أن يوصي إليهما، ولكن لأجل كفرهما فإن الأولياء إذا ارتابوا بهما فإنهم يحلفونهما http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg بعد الصلاة، أنهما ما خانا، ولا كذبا، ولا غيرا، ولا بدلا فيبرآن بذلك من حق يتوجه إليهما.
فإن لم يصدقوهما ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين، فإن شاء أولياء الميت، فليقم منهم اثنان، فيقسمان بالله: لشهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين، وأنهما خانا وكذبا، فيستحقون منهما ما يدعون.
وهذه الآيات الكريمة نزلت في قصة "تميم الداري" و "عدي بن بداء" المشهورة حين أوصى لهما العدوي، والله أعلم.
ويستدل بالآيات الكريمات على عدة أحكام:
منها: أن الوصية مشروعة، وأنه ينبغي لمن حضره الموت أن يوصي.
ومنها: أنها معتبرة، ولو كان الإنسان وصل إلى مقدمات الموت وعلاماته، ما دام عقله ثابتا.
ومنها: أن شهادة الوصية لا بد فيها من اثنين عدلين.
ومنها: أن شهادة الكافرين في هذه الوصية ونحوها مقبولة لوجود الضرورة، وهذا مذهب الإمام أحمد. وزعم كثير من أهل العلم: أن هذا الحكم منسوخ، وهذه دعوى لا دليل عليها.
ومنها: أنه ربما استفيد من تلميح الحكم ومعناه، أن شهادة الكفار -عند عدم غيرهم، حتى في غير هذه المسألة- مقبولة، كما ذهب إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
ومنها: جواز سفر المسلم مع الكافر إذا لم يكن محذور.
ومنها: جواز السفر للتجارة.
ومنها: أن الشاهدين -إذا ارتيب منهما، ولم تبد قرينة تدل على خيانتهما، وأراد الأولياء- أن يؤكدوا عليهم اليمين، ويحبسوهما من بعد الصلاة، فيقسمان بصفة ما ذكر الله تعالى.
ومنها: أنه إذا لم تحصل تهمة ولا ريب لم يكن حاجة إلى حبسهما، وتأكيد اليمين عليهما.

ومنها: تعظيم أمر الشهادة حيث أضافها تعالى إلى نفسه، وأنه يجب الاعتناء بها والقيام بها بالقسط.
ومنها: أنه يجوز امتحان الشاهدين عند الريبة منهما، وتفريقهما لينظر عن شهادتهما.
ومنها: أنه إذا وجدت القرائن الدالة على كذب الوصيين في هذه المسألة - قام اثنان من أولياء الميت فأقسما بالله: أن أيماننا أصدق من أيمانهما، ولقد خانا وكذبا.
ثم يدفع إليهما ما ادعياه، فتكون < 1-248 > القرينة -مع أيمانهما- قائمة مقام البينة.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 04:30 AM
الحلقة (126)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(109 الى الأية(120)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن يوم القيامة وما فيه من الأهوال العظام، وأن الله يجمع به جميع الرسل فيسألهم: ( مَاذَا أُجِبْتُمْ ) أي: ماذا أجابتكم به أممكم.
فـ ( قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا ) وإنما العلم لك يا ربنا، فأنت أعلم منا. ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ) أي: تعلم الأمور الغائبة والحاضرة.
( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ ) أي: اذكرها بقلبك ولسانك، وقم بواجبها شكرا لربك، حيث أنعم عليك نعما ما أنعم بها على غيرك.
( إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) أي: إذ قويتك بالروح والوحي، الذي طهرك وزكاك، وصار لك قوة على القيام بأمر الله والدعوة إلى سبيله. وقيل: إن المراد "بروح القدس" جبريل عليه السلام، وأن الله أعانه به وبملازمته له، وتثبيته في المواطن المشقة.
( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا ) المراد بالتكليم هنا، غير التكليم المعهود الذي هو مجرد الكلام، وإنما المراد بذلك التكليم الذي ينتفع به المتكلم والمخاطب، وهو الدعوة إلى الله.
ولعيسى عليه السلام من ذلك، ما لإخوانه من أولي العزم من المرسلين، من التكليم في حال الكهولة، بالرسالة والدعوة إلى الخير، والنهي عن الشر، وامتاز عنهم بأنه كلم الناس في المهد، فقال: ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) الآيات
( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) فالكتاب يشمل الكتب السابقة وخصوصا التوراة فإنه من أعلم أنبياء بني إسرائيل -بعد موسى- بها ويشمل الإنجيل الذي أنزله الله عليه
والحكمة هي معرفة أسرار الشرع وفوائده وحكمه وحسن الدعوة والتعليم ومراعاة ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي
( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) أي طيرا مصورا لا روح فيه فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله (وتبرئ الأكمه) الذي لا بصر له ولا عين ( وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ) فهذه آيات بيِّنَات ومعجزات باهرات يعجز عنها الأطباء وغيرهم أيد الله بها عيسى وقوى بها دعوته ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ ) لما جاءهم الحق مؤيدا بالبينات الموجبة للإيمان به ( إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) وهموا بعيسى أن يقتلوه وسعوا في ذلك فكفَّ الله أيديهم عنه وحفظه منهم وعصمه
فهذه مِنَنٌ امتَنَّ الله بها على عبده ورسوله عيسى ابن مريم ودعاه إلى شكرها والقيام بها فقام بها عليه السلام أتم القيام وصبر كما صبر إخوانه من أولي العزم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّين َ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا (111-120) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر الآيات .

أي: واذكر نعمتي عليك إذ يسرت لك أتباعا وأعوانا. فأوحيت إلى الحواريين أي: ألهمتهم، وأوزعت قلوبهم الإيمان بي وبرسولي، أو أوحيت إليهم على لسانك، أي: أمرتهم بالوحي الذي جاءك من عند الله، فأجابوا لذلك وانقادوا، وقالوا: (آمنا بالله واشهد بأننا مسلمون) ، فجمعوا بين الإسلام الظاهر، والانقياد بالأعمال الصالحة، والإيمان الباطن المخرج لصاحبه من النفاق ومن ضعف الإيمان.
والحواريون هم: الأنصار، كما قال تعالى كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: ( مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ) .

(إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ) أي: مائدة فيها طعام، وهذا ليس منهم عن شك في قدرة الله، واستطاعته على ذلك. وإنما ذلك من باب العرض والأدب منهم.
ولما كان سؤال آيات الاقتراح منافيا للانقياد للحق، وكان هذا الكلام الصادر من الحواريين ربما أوهم ذلك، وعظهم عيسى عليه السلام فقال: < 1-249 > http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فإن المؤمن يحمله ما معه من الإيمان على ملازمة التقوى، وأن ينقاد لأمر الله، ولا يطلب من آيات الاقتراح التي لا يدري ما يكون بعدها شيئا.
فأخبر الحواريون أنهم ليس مقصودهم هذا المعنى، وإنما لهم مقاصد صالحة، ولأجل الحاجة إلى ذلك فـ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهذا دليل على أنهم محتاجون لها، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg بالإيمان حين نرى الآيات العيانية، فيكون http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الإيمان عين اليقين، كما كان قبل ذلك علم اليقين. كما سأل الخليل عليه الصلاة والسلام ربه أن يريه كيف يحيي الموتى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فالعبد محتاج إلى زيادة العلم واليقين والإيمان كل وقت، ولهذا قال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: نعلم صدق ما جئت به، أنه حق وصدق، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فتكون مصلحة لمن بعدنا، نشهدها لك، فتقوم الحجة، ويحصل زيادة البرهان بذلك.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 04:37 AM
الحلقة (127)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(109 الى الأية(120)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي


تفسير سورة المائدة
وهي مدنية

فلما سمع عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك، وعلم مقصودهم، أجابهم إلى طلبهم في ذلك، فقال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: يكون وقت نزولها عيدا وموسما، يتذكر به هذه الآية العظيمة، فتحفظ ولا تنسى على مرور الأوقات وتكرر السنين.
كما جعل الله تعالى أعياد المسلمين ومناسكهم مذكرا لآياته، ومنبها على سنن المرسلين وطرقهم القويمة، وفضله وإحسانه عليهم. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: اجعلها لنا رزقا، فسأل عيسى عليه السلام نزولها وأن تكون لهاتين المصلحتين، مصلحة الدين بأن تكون آية باقية، ومصلحة الدنيا، وهي أن تكون رزقا.

(قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) لأنه شاهد الآية الباهرة وكفر عنادا وظلما، فاستحق العذاب الأليم والعقاب الشديد. واعلم أن الله تعالى وعد أنه سينزلها، وتوعدهم -إن كفروا- بهذا الوعيد، ولم يذكر أنه أنزلها، فيحتمل أنه لم ينزلها بسبب أنهم لم يختاروا ذلك، ويدل على ذلك، أنه لم يذكر في الإنجيل الذي بأيدي النصارى، ولا له وجود. ويحتمل أنها نزلت كما وعد الله، والله لا يخلف الميعاد، ويكون عدم ذكرها في الأناجيل التي بأيديهم من الحظ الذي ذكروا به فنسوه.
أو أنه لم يذكر في الإنجيل أصلا وإنما ذلك كان متوارثا بينهم، ينقله الخلف عن السلف، فاكتفى الله بذلك عن ذكره في الإنجيل، ويدل على هذا المعنى قوله: ( وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ) والله أعلم بحقيقة الحال.
(وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) وهذا توبيخ للنصارى الذين قالوا: ( إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ) ، فيقول الله هذا الكلام لعيسى. فيتبرأ عيسى ويقول: ( سُبْحَانَكَ ) عن هذا الكلام القبيح، وعمّا لا يليق بك.
(مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) أي: ما ينبغي لي، ولا يليق أن أقول شيئا ليس من أوصافي ولا من حقوقي، فإنه ليس أحد من المخلوقين، لا الملائكة المقربون ولا الأنبياء المرسلون ولا غيرهم له حق ولا استحقاق لمقام الإلهية وإنما الجميع عباد، مدبرون، وخلق مسخرون، وفقراء عاجزون ( إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ) فأنت أعلم بما صدر مني و ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ) وهذا من كمال أدب المسيح عليه الصلاة والسلام في خطابه لربه، فلم يقل عليه السلام: "لم أقل شيئا من ذلك" وإنما أخبر بكلام ينفي عن نفسه أن يقول كل مقالة تنافي منصبه الشريف، وأن هذا من الأمور المحالة، ونزه ربه عن ذلك أتم تنزيه، ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة.
ثم صرح بذكر ما أمر به بني إسرائيل، فقال: ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ) فأنا عبد متبع لأمرك، لا متجرئ على عظمتك، ( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) أي: ما أمرتهم إلا بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له، المتضمن للنهي عن اتخاذي وأمي إلهين من دون الله، وبيان أني عبد مربوب، فكما أنه ربكم فهو ربي.
(وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ) أشهد على من قام بهذا الأمر، ممن لم يقم به. ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) أي: المطلع على سرائرهم وضمائرهم. ( وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) علما وسمعا وبصرا، فعلمك قد أحاط بالمعلومات، وسمعك بالمسموعات، وبصرك بالمبصرات، فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر.
< 1-250 >
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وأنت أرحم بهم من أنفسهم وأعلم بأحوالهم، فلولا أنهم عباد متمردون لم تعذبهم. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: فمغفرتك صادرة عن تمام عزة وقدرة، لا كمن يغفر ويعفو عن عجز وعدم قدرة.
الحكيم حيث كان من مقتضى حكمتك أن تغفر لمن أتى بأسباب المغفرة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ اللَّهُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg مبينا لحال عباده يوم القيامة، ومَن الفائز منهم ومَن الهالك، ومَن الشقي ومَن السعيد، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg والصادقون هم الذين استقامت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم على الصراط المستقيم والهدْي القويم، فيوم القيامة يجدون ثمرة ذلك الصدق، إذا أحلهم الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ولهذا قال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg والكاذبون بضدهم، سيجدون ضرر كذبهم وافترائهم، وثمرة أعمالهم الفاسدة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg لأنه الخالق لهما والمدبر لذلك بحكمه القدري، وحكمه الشرعي، وحكمه الجزائي، ولهذا قال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فلا يعجزه شيء، بل جميع الأشياء منقادة لمشيئته، ومسخرة بأمره.

تم تفسير سورة المائدة بفضل من الله وإحسان، والحمد لله رب العالمين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 04:40 AM
الحلقة (128)
تفسير السعدى
فففسورة المائدة ققق
من الأية(1 الى الأية(8)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا إخبار عن حمده والثناء عليه بصفات الكمال، ونعوت العظمة والجلال عموما، وعلى هذه المذكورات خصوصا. فحمد نفسه على خلقه السماوات والأرض، الدالة على كمال قدرته، وسعة علمه ورحمته، وعموم حكمته،وانفراده بالخلق والتدبير، وعلى جعله الظلمات والنور، وذلك شامل للحسي من ذلك، كالليل والنهار، والشمس والقمر. والمعنوي، كظلمات الجهل، والشك، والشرك، والمعصية، والغفلة، ونور العلم والإيمان، واليقين، والطاعة، وهذا كله، يدل دلالة قاطعة أنه تعالى هو المستحق للعبادة، وإخلاص الدين له، ومع هذا الدليل ووضوح البرهان ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) أي يعدلون به سواه، يسوونهم به في العبادة والتعظيم، مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال، وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه.
( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ) وذلك بخلق مادتكم وأبيكم آدم عليه السلام. ( ثُمَّ قَضَى أَجَلا ) أي: ضرب لمدة إقامتكم في هذه الدار أجلا تتمتعون به وتمتحنون، وتبتلون بما يرسل إليكم به رسله. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ويعمركم ما يتذكر فيه من تذكر. ( وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) وهي: الدار الآخرة، التي ينتقل العباد إليها من هذه الدار، فيجازيهم بأعمالهم من خير وشر.
( ثُمَّ ) مع هذا البيان التام وقطع الحجة ( أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ) أي: تشكون في وعد اللهو ووعيده، ووقوع الجزاء يوم القيامة.
وذكر الله الظلمات بالجمع، لكثرة موادها وتنوع طرقها. ووحد النور لكون الصراط الموصلة إلى الله واحدة لا تعدد فيها، وهي: الصراط المتضمنة للعلم بالحق والعمل به، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . أي: وهو المألوه المعبود في السماوات وفي الأرض، فأهل السماء والأرض متعبدون لربهم، خاضعون لعظمته، مستكينون لعزه وجلاله، الملائكة المقربون، والأنبياء والمرسلون، والصديقون، والشهداء والصالحون.
وهو تعالى يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون، فاحذروا معاصيه وارغبوا في الأعمال التي تقربكم منه، وتدنيكم من رحمته، واحذروا من كل عمل يبعدكم منه ومن رحمته.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُ مْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . هذا إخبار منه تعالى عن إعراض المشركين، وشدة تكذيبهم وعداوتهم، وأنهم لا تنفع فيهم الآيات حتى تحل بهم المثلات، فقال: ( وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِم ) الدالة على الحق دلالة قاطعة، الداعية لهم إلى اتباعه وقبوله ( إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِين ) لا يلقون لها بالا ولا يصغون لها سمعا، قد انصرفت قلوبهم إلى غيرها، وولوها أدبارَهم.
( فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ) والحق حقه أن يتبع، ويشكر الله على تيسيره لهم، وإتيانهم به، فقابلوه بضد ما يجب مقابلته به فاستحقوا العقاب الشديد. ( فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) أي: فسوف يرون ما استهزؤوا به، أنه الحق والصدق، ويبين الله للمكذبين كذبهم وافتراءهم، وكانوا يستهزؤون بالبعث والجنة والنار، فإذا كان يوم القيامة قيل للمكذبين: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
< 1-251 > وقال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ثم أمرهم أن يعتبروا بالأمم السالفة فقال ( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ) أي كم تتابع إهلاكنا للأمم المكذبين وأمهلناهم قبل ذلك الإهلاك بأن ( مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ ) لهؤلاء من الأموال والبنين والرفاهية ( وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ ) فينبت لهم بذلك ما شاء الله من زروع وثمار يتمتعون بها ويتناولون منها ما يشتهون فلم يشكروا الله على نعمه بل أقبلوا على الشهوات وألهتهم أنواع اللذات فجاءتهم رسلهم بالبينات فلم يصدقوها بل ردوها وكذبوها فأهلكهم الله بذنوبهم وأنشأ ( مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ).

فهذه سنة الله ودأبه في الأمم السابقين واللاحقين فاعتبروا بمن قص الله عليكم نبأهم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . هذا إخبار من الله لرسوله عن شدة عناد الكافرين، وأنه ليس تكذيبهم لقصور فيما جئتهم به، ولا لجهل منهم بذلك، وإنما ذلك ظلم وبغي، لا حيلة لكم فيه،فقال: ( وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ) وتيقنوه ( لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ظلما وعلوا ( إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .
فأي بينة أعظم من هذه البينة، وهذا قولهم الشنيع فيها، حيث كابروا المحسوس الذي لا يمكن مَن له أدنى مسكة مِن عقل دفعه؟
( وَقَالُوا ) أيضا تعنتا مبنيا على الجهل، وعدم العلم بالمعقول. ( لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) أي: هلا أنزل مع محمد ملك، يعاونه ويساعده على ما هو عليه بزعمهم أنه بشر، وأن رسالة الله، لا تكون إلا على أيدي الملائكة.
قال الله في بيان رحمته ولطفه بعباده، حيث أرسل إليهم بشرا منهم يكون الإيمان بما جاء به، عن علم وبصيرة، وغيب. ( وَلَوْ أَنزلْنَا مَلَكًا ) برسالتنا، لكان الإيمان لا يصدر عن معرفة بالحق، ولكان إيمانا بالشهادة، الذي لا ينفع شيئا وحده، هذا إن آمنوا، والغالب أنهم لا يؤمنون بهذه الحالة، فإذا لم يؤمنوا قضي الأمر بتعجيل الهلاك عليهم وعدم إنظارهم، لأن هذه سنة الله، فيمن طلب الآيات المقترحة فلم يؤمن بها، فإرسال الرسول البشري إليهم بالآيات البينات، التي يعلم الله أنها أصلح للعباد، وأرفق بهم، مع إمهال الله للكافرين والمكذبين خير لهم وأنفع، فطلبُهم لإنزال الملك شر لهم لو كانوا يعلمون، ومع ذلك، فالملك لو أنزل عليهم، وأرسل، لم يطيقوا التلقي عنه، ولا احتملوا ذلك، ولا أطاقته قواهم الفانية.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 04:11 AM
الحلقة (129)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية(9 الى الأية(18)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا ) لأن الحكمة لا تقتضي سوى ذلك. ( وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ) أي: ولكان الأمر، مختلطا عليهم، وملبوسا وذلك بسبب ما لبسوه على أنفسهم، فإنهم بنوا أمرهم على هذه القاعدة التي فيها اللبس، وبها عدم بيان الحق.

فلما جاءهم الحق، بطرقه الصحيحة، وقواعده التي هي قواعده، لم يكن ذلك هداية لهم، إذا اهتدى بذلك غيرهم، والذنب ذنبهم، حيث أغلقوا على أنفسهم باب الهدى، وفتحوا أبواب الضلال.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . يقول تعالى مسليا لرسوله ومصبرا، ومتهددا أعداءه ومتوعدا. ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ) لما جاءوا أممهم بالبينات، كذبوهم واستهزأوا بهم وبما جاءوا به. فأهلكهم الله بذلك الكفر والتكذيب، ووفى لهم من العذاب أكمل نصيب. ( فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) فاحذروا -أيها المكذبون- أن تستمروا على تكذيبكم، فيصيبكم ما أصابهم.
فإن شككتم في ذلك، أو ارتبتم، فسيروا في الأرض، ثم انظروا، كيف كان عاقبة المكذبين، فلن تجدوا إلا قوما مهلكين، وأمما في المثلات تالفين، قد أوحشت منهم المنازل، وعدم من تلك الربوع كل متمتع بالسرور نازل، أبادهم الملك الجبار، وكان بناؤهم عبرة لأولي الأبصار. وهذا السير المأمور به، سير القلوب والأبدان، الذي يتولد منه الاعتبار. وأما مجرد النظر من غير اعتبار، فإن ذلك لا يفيد شيئا.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُ مْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ( قُلْ ) لهؤلاء المشركين بالله، مقررا لهم وملزما بالتوحيد: ( لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي: مَن الخالق لذلك، المالك له، المتصرف فيه؟
( قُلْ ) لهم: ( لِلَّهِ ) وهم مقرون بذلك لا ينكرونه، أفلا حين اعترفوا بانفراد الله بالملك والتدبير، أن يعترفوا له بالإخلاص والتوحيد؟.
وقوله ( كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) أي: العالم العلوي والسفلي تحت ملكه وتدبيره، وهو تعالى قد بسط عليهم رحمته وإحسانه، وتغمدهم برحمته وامتنانه، وكتب على نفسه كتابا أن رحمته تغلب غضبه، وأن العطاء أحب إليه من المنع، وأن الله قد فتح لجميع العباد أبواب الرحمة، إن لم يغلقوا عليهم أبوابها بذنوبهم، ودعاهم إليها، إن لم تمنعهم من طلبها معاصيهم وعيوبهم، وقوله ( لَيَجْمَعَنَّكُ مْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) وهذا قسم منه، < 1-252 > وهو أصدق المخبرين، وقد أقام على ذلك من الحجج والبراهين، ما يجعله حق اليقين، ولكن أبى الظالمون إلا جحودا، وأنكروا قدرة الله على بعث الخلائق، فأوضعوا في معاصيه، وتجرءوا على الكفر به، فخسروا دنياهم وأخراهم، ولهذا قال: ( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . اعلم أن هذه السورة الكريمة، قد اشتملت على تقرير التوحيد، بكل دليل عقلي ونقلي، بل كادت أن تكون كلها في شأن التوحيد ومجادلة المشركين بالله المكذبين لرسوله.
فهذه الآيات، ذكر الله فيها ما يتبين به الهدى، وينقمع به الشرك. فذكر أن ( لَهُ ) تعالى ( مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) وذلك هو المخلوقات كلها، من آدميها،وجِنِّها ، وملائكتها، وحيواناتها وجماداتها، فالكل خلق مدبرون، وعبيد مسخرون لربهم العظيم، القاهر المالك، فهل يصح في عقل ونقل، أن يعبد مِن هؤلاء المماليك، الذي لا نفع عنده ولا ضر؟ ويترك الإخلاص للخالق، المدبر المالك، الضار النافع؟! أم العقول السليمة، والفطر المستقيمة، تدعو إلى إخلاص العبادة، والحب، والخوف، والرجاء لله رب العالمين؟!.
( السَّمِيعُ ) لجميع الأصوات، على اختلاف اللغات، بتفنن الحاجات. ( الْعَلِيمُ ) بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، المطلع على الظواهر والبواطن؟!.
( قُلْ ) لهؤلاء المشركين بالله: ( أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ) من هؤلاء المخلوقات العاجزة يتولاني، وينصرني؟!.
فلا أتخذ من دونه تعالى وليا، لأنه فاطر السماوات والأرض، أي: خالقهما ومدبرهما. ( وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ) أي: وهو الرزاق لجميع الخلق، من غير حاجة منه تعالى إليهم، فكيف يليق أن أتخذ وليا غير الخالق الرزاق، الغني الحميد؟ ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) لله بالتوحيد، وانقاد له بالطاعة، لأني أولى من غيري بامتثال أوامر ربي.
( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) أي: ونهيت أيضا، عن أن أكون من المشركين، لا في اعتقادهم، ولا في مجالستهم، ولا في الاجتماع بهم، فهذا أفرض الفروض عليَّ، وأوجب الواجبات.
( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) فإن المعصية في الشرك توجب الخلود في النار، وسخطَ الجبار.وذلك اليوم هو اليوم الذي يُخاف عذابه، ويُحذر عقابه؛ لأنه مَن صُرف عنه العذاب يومئذ فهو المرحوم، ومن نجا فيه فهو الفائز حقا، كما أن من لم ينجمنه فهو الهالك الشقي.
ومن أدلة توحيده، أنه تعالى المنفرد بكشف الضراء، وجلب الخير والسراء. ولهذا قال: ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ) من فقر، أو مرض، أو عسر، أو غم، أوهم أو نحوه. ( فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فإذا كان وحده النافع الضار، فهو الذي يستحق أن يفرد بالعبودية والإلهية.
( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) فلا يتصرف منهم متصرف، ولا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن، إلا بمشيئته، وليس للملوك وغيرهم الخروج عن ملكه وسلطانه، بل هم مدبرون مقهورون، فإذا كان هو القاهر وغيره مقهورا، كان هو المستحق للعبادة.
( وَهُوَ الْحَكِيمُ ) فيما أمر به ونهى، وأثاب، وعاقب، وفيما خلق وقدر. ( الْخَبِيرُ ) المطلع على السرائر والضمائر وخفايا الأمور، وهذا كله من أدلة التوحيد.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 04:16 AM
الحلقة (130)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية(19 الى الأية(27)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

( قُلْ ) لهم -لما بينا لهم الهدى، وأوضحنا لهم المسالك-: ( أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ) على هذا الأصل العظيم. ( قُلِ اللَّهُ ) أكبر شهادة، فهو ( شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) فلا أعظم منه شهادة، ولا أكبر، وهو يشهد لي بإقراره وفعله، فيقرني على ما قلت لكم، كما قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg فالله حكيم قدير فلا يليق بحكمته وقدرته أن يقر كاذبا عليه زاعما أن الله أرسله ولم يرسله وأن الله أمره بدعوة الخلق ولم يأمره وأن الله أباح له دماء من خالفه وأموالهم ونساءهم وهو مع ذلك يصدقه بإقراره وبفعله فيؤيده على ما قال بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة وينصره ويخذل من خالفه وعاداه فأي شهادة أكبر من هذه الشهادة؟.
وقوله ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) أي وأوحى الله إليَّ هذا القرآن الكريم لمنفعتكم ومصلحتكم لأنذركم به من العقاب الأليم والنذارة إنما تكون بذكر ما ينذرهم به من الترغيب والترهيب وببيان الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة التي مَن قام بها فقد قبل النذارة فهذا القرآن فيه النذارة لكم أيها المخاطبون وكل من بلغه القرآن إلى يوم القيامة فإن فيه بيان كل ما يحتاج إليه من المطالب الإلهية.
لما بيّن تعالى شهادته التي هي أكبر الشهادات على توحيده قال قل لهؤلاء المعارضين لخبر الله والمكذبين لرسله ( أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ ) أي إن شهدوا فلا تشهد معهم.
فوازِنْ بين شهادة أصدق القائلين ورب العالمين وشهادة أزكى الخلق المؤيدة بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة على توحيد الله وحده لا شريك له وشهادة أهل الشرك الذين مرجت عقولهم وأديانهم وفسدت آراؤهم وأخلاقهم وأضحكوا على أنفسهم العقلاء.
بل خالفوا بشهادة فطرهم وتناقضت أقوالهم على إثبات أن مع الله آلهة أخرى مع أنه لا يقوم على ما قالوه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg أدنى شبهة فضلا عن الحجج واختر لنفسك أي الشهادتين إن كنت تعقل ونحن نختار لأنفسنا ما اختاره الله لنبيه الذي أمرنا الله بالاقتداء به فقال ( قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) أي منفرد لا يستحق العبودية والإلهية سواه كما أنه المنفرد بالخلق والتدبير.
( وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) به من الأوثان والأنداد وكل ما أشرك به مع الله فهذا حقيقة التوحيد إثبات الإلهية لله ونفيها عما عداه.
لما بيَّن شهادته وشهادة رسوله على التوحيد وشهادةَ المشركين الذين لا علم لديهم على ضده ذكر أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ( يَعْرِفُونَهُ ) أي يعرفون صحة التوحيد ( كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ) أي لا شك عندهم فيه بوجه كما أنهم لا يشتبهون بأولادهم خصوصا البنين الملازمين في الغالب لآبائهم.
ويحتمل أن الضمير عائد إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأن أهل الكتاب لا يشتبهون بصحة رسالته ولا يمترون بها لما عندهم من البشارات به ونعوته التي تنطبق عليه ولا تصلح لغيره والمعنيان متلازمان.
قوله ( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) أي فوتوها ما خلقت له من الإيمان والتوحيد وحرموها الفضل من الملك المجيد ( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) فإذا لم يوجد الإيمان منهم فلا تسأل عن الخسار والشر الذي يحصل لهم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

أي: لا أعظم ظلما وعنادا، ممن كان فيه أحد الوصفين، فكيف لو اجتمعا، افتراء الكذب على الله، أو التكذيب بآياته، التي جاءت بها المرسلون، فإن هذا أظلم الناس، والظالم لا يفلح أبدا.
ويدخل في هذا، كل من كذب على الله، بادعاء http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg الشريك له والعوين، أو [زعم] أنه ينبغي أن يعبد غيره أو اتخذ له صاحبة أو ولدا، وكل من رد الحق الذي جاءت به الرسل أو مَنْ قام مقامهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg . يخبر تعالى عن مآل أهل الشرك يوم القيامة، وأنهم يسألون ويوبخون فيقال لهم ( أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) أي إن الله ليس له شريك، وإنما ذلك على وجه الزعم منهم والافتراء. ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ) أي: لم يكن جوابهم حين يفتنون ويختبرون بذلك السؤال إلا إنكارهم لشركهم وحلفهم أنهم ما كانوا مشركين. ( انْظُرْ ) متعجبا منهم ومن أحوالهم ( كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) أي: كذبوا كذبا عاد بالخسار على أنفسهم وضرهم -والله- غاية الضرر ( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) من الشركاء الذين زعموهم مع الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg . أي: ومن هؤلاء المشركين، قوم يحملهم بعضَ الأوقات، بعضُ الدواعي إلى الاستماع لما تقول، ولكنه استماع خال من قصد الحق واتباعه، ولهذا لا ينتفعون بذلك الاستماع، لعدم إرادتهم للخير ( وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ) أي: أغطية وأغشية، لئلا يفقهوا كلام الله، فصان كلامه عن أمثال هؤلاء. ( وَفِي آذَانِهِمْ ) جعلنا ( وَقْرًا ) أي: صمما، فلا يستمعون ما ينفعهم.
( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ) وهذا غاية الظلم والعناد، أن الآيات البينات الدالة على الحق، لا ينقادون لها، ولا يصدقون بها، بل يجادلون بالباطل الحقَّ ليدحضوه.
ولهذا قال: ( حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) أي: مأخوذ من صحف الأولين المسطورة، التي ليست عن الله، ولاعن رسله. وهذا من كفرهم، وإلا فكيف يكون هذا الكتاب الحاوي لأنباء السابقين واللاحقين، والحقائق التي جاءت بها الأنبياء والمرسلون، والحق،والقسط، والعدل التام من كل وجه، أساطيرَ الأولين؟.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg . وهم: أي المشركون بالله، المكذبون لرسوله، يجمعون بين الضلال والإضلال، ينهون الناس عن اتباع الحق، ويحذرونهم منه، ويبعدون بأنفسهم عنه، ولن يضروا الله ولا عباده المؤمنين، بفعلهم هذا، شيئا. ( وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) بذلك.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg . يقول تعالى -مخبرا عن حال المشركين يوم القيامة، وإحضارهم النارَ: ( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ) ليوبخوا ويقرعوا، لرأيت أمرا هائلا وحالا مفظعة.ولرأيتهم كيف أقروا على أنفسهم بالكفر والفسوق، وتمنوا أن لو يردون إلى الدنيا. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg فإنهم كانوا يخفون في أنفسهم، أنهم كانوا كاذبين، ويَبدو في قلوبهم في كثير من الأوقات. ولكن الأغراض الفاسدة، صدتهم عن ذلك، وصرفت قلوبهم عن الخير، وهم كذبة في هذه الأمنية، وإنما قصدهم، أن يدفعوا بها عن أنفسهم العذاب.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 04:19 AM
الحلقة (131)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية(28 الى الأية(35)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُوا ) منكرين للبعث ( إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ) أي ما حقيقة الحال والأمر وما المقصود من إيجادنا إلا الحياة الدنيا وحدها ( وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ).
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . أي: ( وَلَوْ تَرَى ) الكافرين ( إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ ) لرأيت أمرا عظيما، وهَوْلا جسيما، ( قَالَ ) لهم موبخا ومقرعا: ( أَلَيْسَ هَذَا ) الذي ترون من العذاب ( بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا ) فأقروا، واعترفوا حيث لا ينفعهم ذلك، ( قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . أي: قد خاب وخسر، وحرم الخير كله، من كذب بلقاء الله، فأوجب له هذا التكذيب، الاجتراء على المحرمات، واقتراف الموبقات ( حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ ) وهم على أقبح حال وأسوئه، فأظهروا غاية الندم. و ( قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ) ولكن هذا تحسر ذهب وقته، ( وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) فإن وزرهم وزر يثقلهم، ولا يقدرون على التخلص منه، ولهذا خلدوا في النار، واستحقوا التأبيد في غضب الجبار.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . هذه حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، أما حقيقة الدنيا فإنها لعب ولهو، لعب في الأبدان ولهو في القلوب، فالقلوب لها والهة، والنفوس لها عاشقة، والهموم فيها متعلقة، والاشتغال بها كلعب الصبيان.
وأما الآخرة، فإنها ( خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) في ذاتها وصفاتها، وبقائها ودوامها، وفيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، من نعيم القلوب والأرواح، وكثرة السرور والأفراح، ولكنها ليست لكل أحد، وإنما هي للمتقين الذين يفعلون أوامر الله، ويتركون نواهيه وزواجره ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) أي: أفلا يكون لكم عقول، بها تدركون، أيّ الدارين أحق بالإيثار.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . أي: قد نعلم أن الذي يقول المكذبون فيك يحزنك ويسوءك، ولم < 1-255 > نأمرك بما أمرناك به من الصبر إلا لتحصل لك المنازل العالية والأحوال الغالية. فلا تظن أن قولهم صادر عن اشتباه في أمرك، وشك فيك. ( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) لأنهم يعرفون صدقك، ومدخلك ومخرجك، وجميع أحوالك، حتى إنهم كانوا يسمونه -قبل البعثة- الأمين. ( وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) أي: فإن تكذيبهم لآيات الله التي جعلها الله على يديك http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg .
( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ) فاصبر كما صبروا، تظفر كما ظفروا. ( وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ) ما به يثبت فؤادك، ويطمئن به قلبك.
( وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ ) أي: شق عليك، من حرصك عليهم، ومحبتك لإيمانهم، فابذل وسعك في ذلك، فليس في مقدورك، أن تهدي من لم يرد الله هدايته.
( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ) أي: فافعل ذلك، فإنه لا يفيدهم شيئا، وهذا قطع لطمعه في هدايته أشباه هؤلاء المعاندين.
( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ) ولكن حكمته تعالى، اقتضت أنهم يبقون على الضلال. ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) الذين لا يعرفون حقائق الأمور، ولا ينزلونها على منازلها.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 04:23 AM
الحلقة (132)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية(36 الى الأية(44)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ) لدعوتك، ويلبي رسالتك، وينقاد لأمرك ونهيك ( الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ) بقلوبهم ما ينفعهم، وهم أولو الألباب والأسماع.
والمراد بالسماع هنا: سماع القلب والاستجابة، وإلا فمجرد سماع الأذن، يشترك فيه البر والفاجر. فكل المكلفين قد قامت عليهم حجة الله تعالى، باستماع آياته، فلم يبق لهم عذر، في عدم القبول.
( وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) يحتمل أن المعنى، مقابل للمعنى المذكور. أي: إنما يستجيب لك أحياء القلوب، وأما أموات القلوب، الذين لا يشعرون بسعادتهم، ولا يحسون بما ينجيهم، فإنهم لا يستجيبون لك، ولا ينقادون، وموعدهم القيامة، يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، ويحتمل أن المراد بالآية، على ظاهرها، وأن الله تعالى يقرر المعاد، وأنه سيبعث الأموات يوم القيامة ثم ينبئهم بما كانوا يعملون.
ويكون هذا، متضمنا للترغيب في الاستجابة لله ورسوله، والترهيب من عدم ذلك.
( وَقَالُوا ) أي: المكذبون بالرسول، تعنتا وعنادا: ( لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) يعنون بذلك آيات الاقتراح، التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة.
كقولهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآيات
( قُلْ ) مجيبا لقولهم ( إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنزلَ آيَةً ) فليس في قدرته قصور عن ذلك كيف وجميع الأشياء منقادة لعزته مذعنة لسلطانه؟
ولكن أكثر الناس لا يعلمون فهم لجهلهم وعدم علمهم يطلبون ما هو شر لهم من الآيات التي لو جاءتهم فلم يؤمنوا بها لعوجلوا بالعقاب كما هي سنة الله التي لا تبديل لها ومع هذا فإن كان قصدهم الآيات التي تبين لهم الحق وتوضح السبيل فقد أتى محمد صلى الله عليه وسلم بكل آية قاطعة وحجة ساطعة دالة على ما جاء به من الحق بحيث يتمكن العبد في كل مسألة من مسائل الدين أن يجد فيما جاء به عدة أدلة عقلية ونقلية بحيث لا تبقي في القلوب أدنى شك وارتياب فتبارك الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وأيده بالآيات البينات http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: جميع الحيوانات، الأرضية والهوائية، من البهائم والوحوش والطيور، كلها أمم أمثالكم خلقناها. كما خلقناكم، ورزقناها كما رزقناكم، ونفذت فيها مشيئتنا وقدرتنا، كما كانت نافذة فيكم.
( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) أي: ما أهملنا ولا أغفلنا، في اللوح المحفوظ شيئا من الأشياء، بل جميع الأشياء، صغيرها وكبيرها، مثبتة في اللوح المحفوظ، على ما هي عليه، فتقع جميع الحوادث طبق ما جرى به القلم.
وفي هذه الآية، دليل على أن الكتاب الأول، قد حوى جميع الكائنات، وهذا أحد مراتب القضاء والقدر، فإنها أربع مراتب: < 1-256 > علم الله الشامل لجميع الأشياء، وكتابه المحيط بجميع الموجودات، ومشيئته وقدرته النافذة العامة لكل شيء، وخلقه لجميع المخلوقات، حتى أفعال العباد.
ويحتمل أن المراد بالكتاب، هذا القرآن، وأن المعنى كالمعنى في قوله تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وقوله ( ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) أي: جميع الأمم تحشر وتجمع إلى الله في موقف القيامة، في ذلك الموقف العظيم الهائل، فيجازيهم بعدله وإحسانه، ويمضي عليهم حكمه الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، أهل السماء وأهل الأرض.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا بيان لحال المكذبين بآيات الله، المكذبين لرسله، أنهم قد سدوا على أنفسهم باب الهدى، وفتحوا باب الردى، وأنهم ( صُمٌّ ) عن سماع الحق ( وَبُكْمٌ ) عن النطق به، فلا ينطقون إلا بباطل http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg .
( فِي الظُّلُمَاتِ ) أي: منغمسون في ظلمات الجهل، والكفر، والظلم، والعناد، والمعاصي. وهذا من إضلال الله إياهم، فـ ( مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) لأنه المنفرد بالهداية والإضلال، بحسب ما اقتضاه فضله وحكمته.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لرسوله: ( قُلْ ) للمشركين بالله، العادلين به غيره: ( أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أي: إذا حصلت هذه المشقات، وهذه الكروب، التي يضطر إلى دفعها، هل تدعون آلهتكم وأصنامكم، أم تدعون ربكم الملك الحق المبين.
( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ) فإذا كانت هذه حالكم مع أندادكم عند الشدائد، تنسونهم، لعلمكم أنهم لا يملكون لكم ضرا ولا نفعا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا.

وتخلصون لله الدعاء، لعلمكم أنه هو النافع الضار، المجيب لدعوة المضطر، فما بالكم في الرخاء تشركون به، وتجعلون له شركاء؟. هل دلكم على ذلك، عقل أو نقل، أم عندكم من سلطان بهذا؟ بل http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg تفترون على الله الكذب؟
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ ) من الأمم السالفين، والقرون المتقدمين، فكذبوا رسلنا، وجحدوا بآياتنا. ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ) أي: بالفقر والمرض والآفات، والمصائب، رحمة منا بهم. ( لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ) إلينا، ويلجأون عند الشدة إلينا.

( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) أي: استحجرت فلا تلين للحق. ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) فظنوا أن ما هم عليه دين الحق، فتمتعوا في باطلهم برهة من الزمان، ولعب بعقولهم الشيطان.
( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ) من الدنيا ولذاتها وغفلاتها. ( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ) أي: آيسون من كل خير، وهذا أشد ما يكون من العذاب، أن يؤخذوا على غرة، وغفلة وطمأنينة، ليكون أشد لعقوبتهم، وأعظم لمصيبتهم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 04:28 AM
الحلقة (133)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية(45 الى الأية(52)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) أي اصطلموا بالعذاب، وتقطعت بهم الأسباب. ( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) على ما قضاه وقدره، من هلاك المكذبين. فإن بذلك، تتبين آياته، وإكرامه لأوليائه، وإهانته لأعدائه، وصدق ما جاءت به المرسلون.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى، أنه كما أنه هو المتفرد بخلق الأشياء وتدبيرها، فإنه المنفرد بالوحدانية والإلهية فقال: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ ) فبقيتم بلا سمع ولا بصر ولا عقل ( مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ) فإذا لم يكن غير الله يأتي بذلك، فلم عبدتم معه من لا قدرة له على شيء إلا إذا شاءه الله. < 1-257 >
وهذا من أدلة التوحيد وبطلان الشرك، ولهذا قال: ( انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ) أي: ننوعها، ونأتي بها في كل فن، ولتنير الحق، وتتبين سبيل المجرمين. ( ثُمَّ هُمْ ) مع هذا البيان التام ( يَصْدِفُونَ ) عن آيات الله، ويعرضون عنها.
( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ ) أي: أخبروني ( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً ) أي: مفاجأة أو قد تقدم أمامه مقدمات، تعلمون بها وقوعه. ( هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ) الذين صاروا سببا لوقوع العذاب بهم، بظلمهم وعنادهم. فاحذروا أن تقيموا على الظلم، فإنه الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يذكر تعالى، زبدة ما أرسل به المرسلين؛ أنه البشارة والنذارة، وذلك مستلزم لبيان المبشر والمبشر به، والأعمال التي إذا عملها العبد، حصلت له البشارة. والمنذر والمنذر به، والأعمال التي من عملها، حقت عليه النذارة.
ولكن الناس انقسموا -بحسب إجابتهم لدعوتهم وعدمها- إلى قسمين: ( فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ ) أي: آمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وأصلح إيمانه وأعماله ونيته ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) فيما يستقبل ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) على ما مضى.

( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ ) أي: ينالهم، ويذوقونه ( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ المقترحين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg عليه الآيات، أو القائلين له: إنما تدعونا لنتخذك إلها مع الله. ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ ) أي: مفاتيح رزقه ورحمته. ( وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) وإنما ذلك كله عند الله فهو الذي ما يفتح للناس http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ، وهو وحده عالم الغيب والشهادة فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول.
( وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ) فأكون نافذ التصرف قويا، فلست أدعي فوق منزلتي، التي أنزلني الله بها. ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ ) أي: هذا غايتي ومنتهى أمري وأعلاه، إن أتبع إلا ما يوحى إلي، فأعمل به في نفسي، وأدعو الخلق كلهم إلى ذلك.
فإذا عرفت منزلتي، فلأي شيء يبحث الباحث معي، أو يطلب مني أمرا لست أدعيه، وهل يلزم الإنسان، بغير ما هو بصدده؟.
ولأي شيء إذا دعوتكم، بما أوحي إلي أن تلزموني أني أدعي لنفسي غير مرتبتي. وهل هذا إلا ظلم منكم، وعناد، وتمرد؟ قل لهم في بيان الفرق، بين من قبل دعوتي، وانقاد لما أوحي إلي، وبين من لم يكن كذلك ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ ) فتنزلون الأشياء منازلها، وتختارون ما هو أولى بالاختيار والإيثار؟

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا القرآن نذارة للخلق كلهم، ولكن إنما ينتفع به ( الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ) فهم متيقنون للانتقال، من هذه الدار، إلى دار القرار، فلذلك يستصحبون ما ينفعهم ويدَعُون ما يضرهم. ( لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ ) أي: لا من دون الله ( وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ) أي: من يتولى أمرهم فيحصّل لهم المطلوب، ويدفع عنهم المحذور، ولا من يشفع لهم، لأن الخلق كلهم، ليس لهم من الأمر شيء. ( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) الله، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فإن الإنذار موجب لذلك، وسبب من أسبابه.
( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) أي: لا تطرد عنك، وعن مجالستك، أهل العبادة والإخلاص، رغبة في مجالسة غيرهم، من الملازمين لدعاء ربهم، دعاء العبادة بالذكر والصلاة ونحوها، ودعاء المسألة، في أول النهار وآخره، وهم قاصدون بذلك وجه الله، ليس لهم من الأغراض سوى ذلك الغرض الجليل، فهؤلاء ليسوا مستحقين للطرد والإعراض عنهم، بل مستحقون لموالاتهم ومحبتهم، وإدنائهم، وتقريبهم، لأنهم الصفوة من الخلق وإن كانوا فقراء، والأعزاء في الحقيقة وإن كانوا < 1-258 > عند الناس أذلاء.

( مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) أي: كلٌّ له حسابه، وله عمله الحسن، وعمله القبيح. ( فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) وقد امتثل صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، أشد امتثال، فكان إذا جلس الفقراء من المؤمنين صبر نفسَه معهم، وأحسن معاملتهم، وألان لهم جانبه، وحسن خلقَه، وقربهم منه، بل كانوا هم أكثر أهل مجلسه رضي الله عنهم.
وكان سبب نزول هذه الآيات، أن أناسا [من قريش، أو] من أجلاف العرب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أردت أن نؤمن لك ونتبعك، فاطرد فلانا وفلانا، أناسا من فقراء الصحابة، فإنا نستحيي أن ترانا العرب جالسين مع هؤلاء الفقراء، فحمله حبه لإسلامهم، واتباعهم له، فحدثته نفسه بذلك. فعاتبه الله بهذه الآية ونحوها.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 04:31 AM
الحلقة (134)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 53 الى الأية( 59)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ) أي: هذا من ابتلاء الله لعباده، حيث جعل بعضهم غنيا؛ وبعضهم فقيرا، وبعضهم شريفا، وبعضهم وضيعا، فإذا مَنَّ الله بالإيمان على الفقير أو الوضيع؛ كان ذلك محل محنة للغني والشريف فإن كان قصده الحق واتباعه، آمن وأسلم، ولم يمنعه من ذلك مشاركه الذي يراه دونه بالغنى أو الشرف، وإن لم يكن صادقا في طلب الحق، كانت هذه عقبة ترده عن اتباع الحق.
وقالوا محتقرين لمن يرونهم دونهم: ( أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ) فمنعهم هذا من اتباع الحق، لعدم زكائهم، قال الله مجيبا لكلامهم المتضمن الاعتراض على الله في هداية هؤلاء، وعدم هدايتهم هم. ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ) الذين يعرفون النعمة، ويقرون بها، ويقومون بما تقتضيه من العمل الصالح، فيضع فضله ومنته عليهم، دون من ليس بشاكر، فإن الله تعالى حكيم، لا يضع فضله عند من ليس له بأهل، وهؤلاء المعترضون بهذا الوصف، بخلاف من مَنَّ الله عليهم بالإيمان، من الفقراء وغيرهم فإنهم هم الشاكرون.ولما نهى الله رسولَه، عن طرد المؤمنين القانتين، أمَره بمقابلتهم بالإكرام والإعظام، والتبجيل والاحترام، فقال: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) أي: وإذا جاءك المؤمنون، فحَيِّهم ورحِّب بهم ولَقِّهم منك تحية وسلاما، وبشرهم بما ينشط عزائمهم وهممهم، من رحمة الله، وسَعة جوده وإحسانه، وحثهم على كل سبب وطريق، يوصل لذلك.
ورَهِّبْهم من الإقامة على الذنوب، وأْمُرْهم بالتوبة من المعاصي، لينالوا مغفرة ربهم وجوده، ولهذا قال: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ ) أي: فلا بد مع ترك الذنوب والإقلاع، والندم عليها، من إصلاح العمل، وأداء ما أوجب الله، وإصلاح ما فسد من الأعمال الظاهرة والباطنة.
فإذا وجد ذلك كله ( فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي: صب عليهم من مغفرته ورحمته، بحسب ما قاموا به، مما أمرهم به.
( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ) أي: نوضحها ونبينها، ونميز بين طريق الهدى من الضلال، والغي والرشاد، ليهتدي بذلك المهتدون، ويتبين الحق الذي ينبغي سلوكه. ( وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) الموصلة إلى سخط الله وعذابه، فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت، أمكن اجتنابها، والبعد منها، بخلاف ما لو كانت مشتبهة ملتبسة، فإنه لا يحصل هذا المقصود الجليل.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ ) لهؤلاء المشركين الذين يدعون مع الله آلهة أخرى: ( إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) من الأنداد والأوثان، التي لا تملك نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فإن هذا باطل، وليس لكم فيه حجة بل ولا شبهة، إلا اتباع الهوى الذي اتباعه أعظم الضلال، ولهذا قال ( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا ) أي: إن اتبعت أهواءكم ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) بوجه من الوجوه. وأما ما أنا عليه، من توحيد الله وإخلاص العمل له، فإنه هو الحق الذي تقوم عليه البراهين والأدلة القاطعة.
وأنا ( عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ) أي: على يقين مبين، بصحته، وبطلان ما عداه، وهذه شهادة من الرسول جازمة، لا تقبل التردد، وهو أعدل الشهود على الإطلاق. فصدق بها المؤمنون، وتبين لهم من صحتها وصدقها، بحسب ما مَنَّ الله به عليهم.
( وَ ) لكنكم أيها المشركون – ( كذبتم به ) وهو لا يستحق هذا منكم، ولا يليق به إلا التصديق، وإذا استمررتم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg على تكذيبكم، فاعلموا أن العذاب واقع بكم لا محالة، وهو عند الله، هو الذي ينزله عليكم، إذا شاء، وكيف شاء، وإن استعجلتم به، فليس بيدي من الأمر شيء ( إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ) فكما أنه هو الذي حكم بالحكم الشرعي، فأمر ونهى، فإنه سيحكم بالحكم الجزائي، فيثيب ويعاقب، بحسب ما تقتضيه حكمته. فالاعتراض على حكمه مطلقا مدفوع، وقد أوضح السبيل، وقص على عباده الحق قصا، قطع به معاذيرهم، وانقطعت له حجتهم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة ( وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) بين عباده، في الدنيا والآخرة، فيفصل بينهم فصلا يحمده عليه، حتى من قضى عليه، ووجه الحق نحوه.
( قُل ) للمستعجلين بالعذاب، جهلا وعنادا وظلما، ( لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) فأوقعته بكم ولا خير لكم في ذلك، ولكن الأمر، عند الحليم الصبور، الذي يعصيه العاصون، ويتجرأ عليه المتجرئون، وهو يعافيهم، ويرزقهم، ويسدي عليهم نعمه، الظاهرة والباطنة. ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ) لا يخفى عليه من أحوالهم شيء، فيمهلهم ولا يهملهم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

هذه الآية العظيمة، من أعظم الآيات تفصيلا لعلمه المحيط، وأنه شامل للغيوب كلها، التي يطلع منها ما شاء من خلقه. وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، فضلا عن غيرهم من العالمين، وأنه يعلم ما في البراري والقفار، من الحيوانات، والأشجار، والرمال والحصى، والتراب، وما في البحار من حيواناتها، ومعادنها، وصيدها، وغير ذلك مما تحتويه أرجاؤها، ويشتمل عليه ماؤها.
( وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ ) من أشجار البر والبحر، والبلدان والقفر، والدنيا والآخرة (إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ ) من حبوب الثمار والزروع، وحبوب البذور التي يبذرها الخلق؛ وبذور النوابت البرية التيينشئ منها أصناف النباتات.
( وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ ) هذا عموم بعد خصوص ( إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) وهو اللوح المحفوظ، قد حواها، واشتمل عليها، وبعض هذا المذكور، يبهر عقول العقلاء، ويذهل أفئدة النبلاء، فدل هذا على عظمة الرب العظيم وسعته، في أوصافه كلها.
وأن الخلق -من أولهم إلى آخرهم- لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفاته، لم يكن لهم قدرة ولا وسع في ذلك، فتبارك الرب العظيم، الواسع العليم، الحميد المجيد، الشهيد، المحيط.
وجل مِنْ إله، لا يحصي أحد ثناء عليه، بل كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده، فهذه الآية، دلت على علمه المحيط بجميع الأشياء، وكتابه المحيط بجميع الحوادث.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 04:34 AM
الحلقة (135)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 60 الى الأية( 68)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا كله، تقرير لألوهيته، واحتجاج على المشركين به، وبيان أنه تعالى المستحق للحب والتعظيم، والإجلال والإكرام، فأخبر أنه وحده، المتفرد بتدبير عباده، في يقظتهم ومنامهم، وأنه يتوفاهم بالليل، وفاة النوم، فتهدأ حركاتهم، وتستريح أبدانهم، ويبعثهم في اليقظة من نومهم، ليتصرفوا في مصالحهم الدينية والدنيوية وهو –تعالى- يعلم ما جرحوا وما كسبوا من تلك الأعمال. ثم لا يزال تعالى هكذا، يتصرف فيهم، حتى يستوفوا آجالهم. فيقضى بهذا التدبير، أجل مسمى، وهو: أجل الحياة، وأجل آخر فيما بعد ذلك، وهو البعث بعد الموت، ولهذا قال: ( ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ) لا إلى غيره ( ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) من خير وشر.
( وَهُوَ ) تعالى ( الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) ينفذ فيهم إرادته الشاملة، ومشيئته العامة، فليسوا يملكون من الأمر شيئا، ولا يتحركون ولا يسكنون إلا بإذنه، ومع ذلك، فقد وكل بالعباد حفظةً من الملائكة، يحفظون العبد ويحفظون عليه ما عمل، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فهذا حفظه لهم في حال الحياة
( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) أي الملائكة الموكلون بقبض الأرواح ( وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) في ذلك فلا يزيدون ساعة مما قدره الله وقضاه ولا ينقصون ولا ينفذون من ذلك إلا بحسب المراسيم الإلهية والتقادير الربانية
( ثُمَّ ) بعد الموت والحياة البرزخية وما فيها من الخير والشر ( رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ) أي الذي تولاهم بحكمه القدري فنفذ فيهم ما شاء من أنواع التدبير ثم تولاهم بأمره ونهيه وأرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب ثم ردوا إليه ليتولى الحكم فيهم بالجزاء ويثيبهم على ما عملوا من الخيرات ويعاقبهم على الشرور والسيئات وَلهذا قال ( أَلا لَهُ الْحُكْمُ ) وحده لا شريك له ( وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ) لكمال علمه وحفظه لأعمالهم بما أثبته في اللوح المحفوظ ثم أثبتته ملائكته في الكتاب الذي بأيديهم فإذا كان تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير وهو القاهر فوق عباده وقد اعتنى بهم كل الاعتناء في جميع أحوالهم وهو الذي له الحكم القدري والحكم الشرعي والحكم الجزائي فأين للمشركين العدولُ عن من هذا وصفه ونعته إلى عبادة من ليس له من الأمر شيء ولا عنده مثقال ذرة من النفع ولا له قدرة وإرادة؟
أما والله لو علموا حلم الله عليهم وعفوه ورحمته بهم وهم يبارزونه بالشرك والكفران ويتجرءون على عظمته بالإفك والبهتان وهو يعافيهم < 1-260 > ويرزقهم لانجذبت دواعيهم إلى معرفته وذهلت عقولهم في حبه ولمقتوا أنفسهم أشد المقت حيث انقادوا لداعي الشيطان الموجب للخزي والخسران ولكنهم قوم لا يعقلون.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي ( قُلْ ) للمشركين بالله، الداعين معه آلهة أخرى، ملزما لهم بما أثبتوه من توحيد الربوبية، على ما أنكروا من توحيد الإلهية ( مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) أي: شدائدهما ومشقاتهما، وحين يتعذر أو يتعسر عليكم وجه الحيلة، فتدْعون ربكم تضرعا بقلب خاضع، ولسان لا يزال يلهج بحاجته في الدعاء، وتقولون وأنتم في تلك الحال: ( لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ ) الشدة التي وقعنا فيها ( لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) لله، أي المعترفين بنعمته، الواضعين لها في طاعة ربهم، الذين حفظوها عن أن يبذلوها في معصيته.
( قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ) أي: من هذه الشدة الخاصة، ومن جميع الكروب العامة. ( ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ) لا تفون لله بما قلتم، وتنسون نعمه عليكم، فأي برهان أوضح من هذا على بطلان الشرك، وصحة التوحيد؟"

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: هو تعالى قادر على إرسال العذاب إليكم من كل جهة. ( مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ ) أي: يخلطكم ( شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) أي: في الفتنة، وقتل بعضكم بعضا.
فهو قادر على ذلك كله، فاحذروا من الإقامة على معاصيه، فيصيبكم من العذاب ما يتلفكم ويمحقكم، ومع هذا فقد أخبر أنه قادر على ذلك. ولكن من رحمته، أن رفع عن هذه الأمة العذاب من فوقهم بالرجم والحصب، ونحوه، ومن تحت أرجلهم بالخسف.
ولكن عاقب من عاقب منهم، بأن أذاق بعضهم بأس بعض، وسلط بعضهم على بعض، عقوبة عاجلة يراها المعتبرون، ويشعر بها العالمون http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
( انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ) أي: ننوعها، ونأتي بها على أوجه كثيرة وكلها دالة على الحق. ( لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) أي: يفهمون ما خلقوا من أجله، ويفقهون الحقائق الشرعية، والمطالب الإلهية.
( وَكَذَّبَ بِهِ ) أي: بالقرآن ( قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ) الذي لا مرية فيه، ولا شك يعتريه. ( قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) أحفظ أعمالكم، وأجازيكم عليها، وإنما أنا منذر ومبلغ.
( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ ) أي: وقت يستقر فيه، وزمان لا يتقدم عنه ولا يتأخر. ( وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ما توعدون به من العذاب.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

المراد بالخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق، من تحسين المقالات الباطلة، والدعوة إليها، ومدح أهلها، والإعراض عن الحق، والقدح فيه وفي أهله، فأمر الله رسوله أصلا وأمته تبعا، إذا رأوا من يخوض بآيات الله بشيء مما ذكر، بالإعراض عنهم، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل، والاستمرار على ذلك، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره، فإذا كان في كلام غيره، زال النهي المذكور.

فإن كان مصلحة كان مأمورا به، وإن كان غير ذلك، كان غير مفيد ولا مأمور به، وفي ذم الخوض بالباطل، حث على البحث، والنظر، والمناظرة بالحق. ثم قال: ( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ ) أي: بأن جلست معهم، على وجه النسيان والغفلة. ( فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) يشمل الخائضين بالباطل، وكل متكلم بمحرم، أو فاعل لمحرم، فإنه يحرم الجلوس والحضور عند حضور المنكر، الذي لا يقدر على إزالته.
هذا النهي والتحريم، لمن جلس معهم، ولم يستعمل تقوى الله، بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم، وعن الإنكار، فإن استعمل تقوى الله تعالى، بأن كان يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه، فهذا ليس عليه حرج ولا إثم، ولهذا قال:

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 04:38 AM
الحلقة (136)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 69 الى الأية( 73)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم، لعلهم يتقون الله تعالى.
< 1-261 > وفي هذا دليل على أنه ينبغي أن يستعمل المذكِّرُ من الكلام، ما يكون أقرب إلى حصول مقصود التقوى. وفيه دليل على أنه إذا كان التذكير والوعظ، مما يزيد الموعوظ شرا إلى شره، إلى أن تركه هو الواجب http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لأنه إذا ناقض المقصود، كان تركه مقصودا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

المقصود من العباد، أن يخلصوا لله الدين، بأن يعبدوه وحده لا شريك له، ويبذلوا مقدورهم في مرضاته ومحابه. وذلك متضمن لإقبال القلب على الله وتوجهه إليه، وكون سعي العبد نافعا، وجدًّا، لا هزلا وإخلاصا لوجه الله، لا رياء وسمعة، هذا هو الدين الحقيقي، الذي يقال له دين، فأما من زعم أنه على الحق، وأنه صاحب دين وتقوى، وقد اتخذ دينَه لعبا ولهوا. بأن لَهَا قلبُه عن محبة الله ومعرفته، وأقبل على كل ما يضره، ولَهَا في باطله، ولعب فيه ببدنه، لأن العمل والسعي إذا كان لغير الله، فهو لعب، فهذا أَمَر الله تعالى أن يترك ويحذر، ولا يغتر به، وتنظر حاله، ويحذر من أفعاله، ولا يغتر بتعويقه عما يقرب إلى الله.
( وَذَكِّرْ بِهِ ) أي: ذكر بالقرآن، ما ينفع العباد، أمرا، وتفصيلا وتحسينا له، بذكر ما فيه من أوصاف الحسن، وما يضر العباد نهيا عنه، وتفصيلا لأنواعه، وبيان ما فيه، من الأوصاف القبيحة الشنيعة، الداعية لتركه، وكل هذا لئلا تبسل نفس بما كسبت، أي: قبل اقتحام العبد للذنوب وتجرئه على علام الغيوب، واستمرارها على ذلك المرهوب، فذكرها، وعظها، لترتدع وتنزجر، وتكف عن فعلها.
وقوله ( لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ) أي: قبل [أن] تحيط بها ذنوبها، ثم لا ينفعها أحد من الخلق، لا قريب ولا صديق، ولا يتولاها من دون الله أحد، ولا يشفع لها شافع ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ ) أي: تفتدي بكل فداء، ولو بملء الأرض ذهبا ( لا يُؤْخَذْ مِنْهَا ) أي: لا يقبل ولا يفيد.
( أُولَئِكَ ) الموصوفون بما ذكر ( الَّذِينَ أُبْسِلُوا ) أي: أهلكوا وأيسوا من الخير، وذلك ( بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ ) أي: ماء حار قد انتهى حره، يشوي وجوههم، ويقطع أمعاءهم ( وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( قُلْ ) يا أيها الرسول للمشركين بالله، الداعين معه غيره، الذين يدعونكم إلى دينهم، مبينا وشارحا لوصف آلهتهم، التي يكتفي العاقل بذكر وصفها، عن النهي عنها، فإن كل عاقل إذا تصور مذهب المشركين جزم ببطلانه، قبل أن تقام البراهين على ذلك، فقال: ( أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا ) وهذا وصف، يدخل فيه كل مَن عُبِد مِنْ دون الله، فإنه لا ينفع ولا يضر، وليس له من الأمر شيء، إن الأمر إلا لله.
( وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ ) أي: وننقلب بعد هداية الله لنا إلى الضلال، ومن الرشد إلى الغي، ومن الصراط الموصل إلى جنات النعيم، إلى الطرق التي تفضي بسالكها إلى العذاب الأليم. فهذه حال لا يرتضيها ذو رشد، وصاحبها ( كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ ) أي: أضلته وتيهته عن طريقه ومنهجه له الموصل إلى مقصده. فبقي ( حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ) والشياطين يدعونه إلى الردى، فبقي بين الداعين حائرا وهذه حال الناس كلهم، إلا من عصمه الله تعالى، فإنهم يجدون فيهم جواذب ودواعي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg متعارضة، دواعي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الرسالة والعقل الصحيح، والفطرة المستقيمة ( يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ) والصعود إلى أعلى عليين.
ودواعي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الشيطان، ومن سلك مسلكه، والنفس الأمارة بالسوء، يدعونه إلى الضلال، والنزول إلى أسفل سافلين، فمن الناس من يكون مع داعي الهدى، في أموره كلها أو أغلبها، ومنهم من بالعكس من ذلك. ومنهم من يتساوى لديه الداعيان، ويتعارض عنده الجاذبان، وفي هذا الموضع، تعرف أهل السعادة من أهل الشقاوة.
وقوله: ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ) أي: ليس الهدى إلا الطريق < 1-262 > التي شرعها الله على لسان رسوله، وما عداه، فهو ضلال وردى وهلاك. ( وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) بأن ننقاد لتوحيده، ونستسلم لأوامره ونواهيه، وندخل تحت عبوديته، فإن هذا أفضل نعمة أنعم الله بها على العباد، وأكمل تربية أوصلها إليهم.
( وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) أي: وأمرنا أن نقيم الصلاة بأركانها وشروطها وسننها ومكملاتها. ( وَاتَّقُوهُ ) بفعل ما أمر به، واجتناب ما عنه نهى. ( وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) أي: تُجْمَعون ليوم القيامة، فيجازيكم بأعمالكم، خيرها وشرها.
( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ ) ليأمر العباد وينهاهم، ويثيبهم ويعاقبهم، ( وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ ) الذي لا مرية فيه ولا مثنوية، ولا يقول شيئا عبثا ( وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) أي: يوم القيامة، خصه بالذكر –مع أنه مالك كل شيء- لأنه تنقطع فيه الأملاك، فلا يبقى ملك إلا الله الواحد القهار. ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) الذي له الحكمة التامة، والنعمة السابغة، والإحسان العظيم، والعلم المحيط بالسرائر والبواطن والخفايا، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 04:45 AM
الحلقة (137)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 74 الى الأية( 83)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر القصة.

يقول تعالى: واذكر قصة إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، مثنيا عليه ومعظما في حال دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك، وإذ قال لأبيه ( آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ) أي: لا تنفع ولا تضر وليس لها من الأمر شيء، ( إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) حيث عبدتم من لا يستحق من العبادة شيئا، وتركتم عبادة خالقكم، ورازقكم، ومدبركم.
( وَكَذَلِكَ ) حين وفقناه للتوحيد والدعوة إليه ( نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي: ليرى ببصيرته، ما اشتملت عليه من الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة ( وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) فإنه بحسب قيام الأدلة، يحصل له الإيقان والعلم التام بجميع المطالب.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: أظلم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg رَأَى كَوْكَبًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg لعله من الكواكب المضيئة، لأن تخصيصه بالذكر، يدل على زيادته عن غيره، ولهذا -والله أعلم- قال من قال: إنه الزهرة.
(قَالَ هَذَا رَبِّي ) أي: على وجه التنزل مع الخصم أي: هذا ربي، فهلم ننظر، هل يستحق الربوبية؟ وهل يقوم لنا دليل على ذلك؟ فإنه لا ينبغي لعاقل أن يتخذ إلهه هواه، بغير حجة ولا برهان.
(فَلَمَّا أَفَلَ ) أي: غاب ذلك الكوكب ( قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ) أي: الذي يغيب ويختفي عمن عبده، فإن المعبود لا بد أن يكون قائما بمصالح من عبده، ومدبرا له في جميع شئونه، فأما الذي يمضي وقت كثير وهو غائب، فمن أين يستحق العبادة؟! وهل اتخاذه إلها إلا من أسفه السفه، وأبطل الباطل؟!
(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا ) أي: طالعا، رأى زيادته على نور الكواكب ومخالفته لها ( قَالَ هَذَا رَبِّي ) تنزلا. ( فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ) فافتقر غاية الافتقار إلى هداية ربه، وعلم أنه إن لم يهده الله فلا هادي له، وإن لم يعنه على طاعته، فلا معين له.
(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ) من الكوكب ومن القمر. ( فَلَمَّا أَفَلَتْ ) تقرر حينئذ الهدى، واضمحل الردى فـ ( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) حيث قام البرهان الصادق الواضح، على بطلانه.
(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا ) أي: لله وحده، مقبلا عليه، معرضا عن من سواه. ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) فتبرأ من الشرك، وأذعن بالتوحيد، وأقام على ذلك البرهان [وهذا الذي ذكرنا في تفسير هذه الآيات، هو الصواب، وهو أن المقام مقام مناظرة، من إبراهيم لقومه، وبيان بطلان إلهية هذه الأجرام العلوية وغيرها. وأما من قال: إنه مقام نظر في حال طفوليته، فليس عليه دليل] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ) أيُّ فائدة لمحاجة من http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لم يتبين له الهدى؟ فأما من هداه الله، ووصل إلى أعلى درجات اليقين، فإنه –هو بنفسه- يدعو الناس إلى ما هو عليه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فإنها لن تضرني، ولن تمنع عني من النفع شيئا. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فتعلمون أنه وحده المعبود المستحق للعبودية.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وحالها حال العجز، وعدم النفع، < 1-263 > http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: إلا بمجرد اتباع الهوى. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 04:48 AM
الحلقة (138)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 84 الى الأية( 90)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

قال الله تعالى فاصلا بين الفريقين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: يخلطوا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الأمن من المخاوفِ والعذاب والشقاء، والهدايةُ إلى الصراط المستقيم، فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا، لا بشرك، ولا بمعاص، حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة. وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم كمالها. ومفهوم الآية الكريمة، أن الذين لم يحصل لهم الأمران، لم يحصل لهم هداية، ولا أمن، بل حظهم الضلال والشقاء.
ولما حكم لإبراهيم عليه السلام، بما بين به من البراهين القاطعة قال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: علا بها عليهم، وفلجهم بها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg كما رفعنا درجات إبراهيم عليه السلام في الدنيا والآخرة، فإن العلم يرفع الله به صاحبه فوق العباد درجات. خصوصا العالم العامل المعلم، فإنه يجعله الله إماما للناس، بحسب حاله ترمق أفعاله، وتقتفى آثاره، ويستضاء بنوره، ويمشى بعلمه في ظلمة ديجوره.
قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فلا يضع العلم والحكمة، إلا في المحل اللائق بها، وهو أعلم بذلك المحل، وبما ينبغي له.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِ مْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاه ُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . لما ذكر الله تعالى عبده وخليله، إبراهيم عليه السلام، وذكر ما مَنَّ الله عليه به، من العلم والدعوة، والصبر، ذكر ما أكرمه الله به من الذرية الصالحة، والنسل الطيب. وأن الله جعل صفوة الخلق من نسله، وأعظم بهذه المنقبة والكرامة الجسيمة، التي لا يدرك لها نظير فقال: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) ابنه،الذي هو إسرائيل، أبو الشعب الذي فضله الله على العالمين.

( كُلا ) منهما ( هَدَيْنَا ) الصراط المستقيم، في علمه وعمله.
( وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ) وهدايته من أنواع http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الهدايات الخاصة التي لم تحصل إلا لأفراد من العالم؛ وهم أولو العزم من الرسل، الذي هو أحدهم.
( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ) يحتمل أن الضمير عائد إلى نوح، لأنه أقرب مذكور، ولأن الله ذكر مع من ذكر لوطا، وهو من ذرية نوح، لا من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه.
ويحتمل أن الضمير يعود إلى إبراهيم لأن السياق في مدحه والثناء عليه، ولوط -وإن لم يكن من ذريته- فإنه ممن آمن على يده، فكان منقبة الخليل وفضيلته بذلك، أبلغ من كونه مجرد ابن له.
( دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ) بن داود ( وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ ) بن يعقوب. ( وَمُوسَى وَهَارُونَ ) ابني عمران، ( وَكَذَلِكَ ) كما أصلحنا ذرية إبراهيم الخليل، لأنه أحسن في عبادة ربه، وأحسن في نفع الخلق ( نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) بأن نجعل لهم من الثناء الصدق، والذرية الصالحة، بحسب إحسانهم.
( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى ) ابنه ( وَعِيسَى ) ابن مريم. ( وَإِلْيَاسَ كُلٌّ ) هؤلاء ( مِنَ الصَّالِحِينَ ) في أخلاقهم وأعمالهم وعلومهم، بل هم سادة الصالحين وقادتهم وأئمتهم.
( وَإِسْمَاعِيلَ ) بن إبراهيم أبو الشعب الذي هو أفضل الشعوب، وهو الشعب العربي، ووالد سيد ولد آدم، محمد صلى الله عليه وسلم. ( وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ ) بن متى ( وَلُوطًا ) بن هاران، أخي إبراهيم. ( وَكُلا ) من هؤلاء الأنبياء والمرسلين ( فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ) لأن درجات الفضائل أربع – وهي التي ذكرها الله بقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فهؤلاء من الدرجة العليا، بل هم أفضل الرسل على الإطلاق، فالرسل الذين قصهم الله < 1-264 > في كتابه، أفضل ممن لم يقص علينا نبأهم بلا شك.
( وَمِنْ آبَائِهِمْ ) أي: آباء هؤلاء المذكورين ( وَذُرِّيَّاتِهِ مْ وَإِخْوَانِهِمْ ) أي: وهدينا من آباء هؤلاء وذرياتهم وإخوانهم. ( وَاجْتَبَيْنَاه ُمْ ) أي: اخترناهم ( وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .
( ذَلِكَ ) الهدى المذكور ( هُدَى اللَّهِ ) الذي لا هدى إلا هداه. ( يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) فاطلبوا منه الهدى فإنه إن لم يهدكم فلا هادي لكم غيره، وممن شاء هدايته هؤلاء المذكورون. ( وَلَوْ أَشْرَكُوا ) على الفرض والتقدير ( لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) فإن الشرك محبط للعمل، موجب للخلود في النار. فإذا كان هؤلاء الصفوة الأخيار، لو أشركوا -وحاشاهم- لحبطت أعمالهم فغيرهم أولى.
( أُولَئِكَ ) المذكورون ( الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ) أي: امش -أيها الرسول الكريم- خلف هؤلاء الأنبياء الأخيار، واتبع ملتهم وقد امتثل صلى الله عليه وسلم، فاهتدى بهدي الرسل قبله، وجمع كل كمال فيهم. فاجتمعت لديه فضائل وخصائص، فاق بها جميع العالمين، وكان سيد المرسلين، وإمام المتقين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وبهذا الملحظ، استدل بهذه من استدل من الصحابة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفضل الرسل كلهم.
( قُلْ ) للذين أعرضوا عن دعوتك: ( لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ) أي: لا أطلب منكم مغرما ومالا جزاء عن إبلاغي إياكم، ودعوتي لكم فيكون من أسباب امتناعكم، إن أجري إلا على الله.

( إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) يتذكرون به ما ينفعهم، فيفعلونه، وما يضرهم،فيذرونه، ويتذكرون به معرفة ربهم بأسمائه وأوصافه. ويتذكرون به الأخلاق الحميدة، والطرق الموصلة إليها، والأخلاق الرذيلة، والطرق المفضية إليها،فإذا كان ذكرى للعالمين، كان أعظم نعمة أنعم الله بها عليهم، فعليهم قبولها والشكر عليها.

ابو وليد البحيرى
2019-04-09, 04:49 AM
الحلقة (139)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 91 الى الأية( 94)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

هذا تشنيع على من نفى الرسالة، [من اليهود والمشركين] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg وزعم أن الله ما أنزل على بشر من شيء، فمن قال هذا، فما قدر الله حق قدره، ولا عظمه حق عظمته، إذ هذا قدح في حكمته، وزعم أنه يترك عباده هملا لا يأمرهم ولا ينهاهم، ونفي لأعظم منة، امتن الله بها على عباده، وهي الرسالة، التي لا طريق للعباد إلى نيل السعادة، والكرامة، والفلاح، إلا بها، فأي قدح في الله أعظم من هذا؟"
( قُلْ ) لهم –ملزما بفساد قولهم، وقرِّرْهم، بما به يقرون-: ( مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ) وهو التوراة العظيمة ( نُورًا ) في ظلمات الجهل ( وَهُدًى ) من الضلالة، وهاديا إلى الصراط المستقيم علما وعملا وهو الكتاب الذي شاع وذاع، وملأ ذكره القلوب والأسماع. حتى أنهم جعلوا يتناسخونه في القراطيس، ويتصرفون فيه بما شاءوا، فما وافق أهواءهم منه، أبدوه وأظهروه، وما خالف ذلك، أخفوه وكتموه، وذلك كثير.
( وَعُلِّمْتُمْ ) من العلوم التي بسبب ذلك الكتاب الجليل ( مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ ) فإذا سألتهم عمن أنزل هذا الكتاب الموصوف بتلك الصفات، فأجب عن هذا السؤال. و ( قل الله ) الذي أنزله، فحينئذ يتضح الحق وينجلي مثل الشمس، وتقوم عليهم الحجة، ثم إذا ألزمتهم بهذا الإلزام ( ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) أي: اتركهم يخوضوا في الباطل، ويلعبوا بما لا فائدة فيه، حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

أي: ( وَهَذَا ) القرآن الذي ( أَنزلْنَاهُ ) إليك ( مُبَارَكٌ ) أي: وَصْفُه البركة، وذلك لكثرة خيراته، وسعة مبراته. ( مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) أي: موافق للكتب السابقة، وشاهد لها بالصدق.
( وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) أي: وأنزلناه أيضا لتنذر أم القرى، وهي: مكة المكرمة، ومن حولها، من ديار العرب، بل، ومن سائر البلدان. فتحذر الناس عقوبة الله، وأخذه الأمم، وتحذرهم مما يوجب ذلك. ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) لأن الخوف إذا كان في القلب عمرت أركانه، وانقاد لمراضي الله.
( وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) أي: يداومون عليها، ويحفظون أركانها وحدودها وشروطها وآدابها، ومكملاتها. جعلنا الله منهم. < 1-265 >
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

يقول تعالى: لا أحد أعظم ظلما، ولا أكبر جرما، ممن كذب [على] الله. بأن نسب إلى الله قولا أو حكما وهو تعالى بريء منه، وإنما كان هذا أظلم الخلق، لأن فيه من الكذب، وتغيير الأديان أصولها، وفروعها، ونسبة ذلك إلى الله -ما هو من أكبر المفاسد.
ويدخل في ذلك، ادعاء النبوة، وأن الله يوحي إليه، وهو كاذب في ذلك، فإنه -مع كذبه على الله، وجرأته على عظمته وسلطانه- يوجب على الخلق أن يتبعوه، ويجاهدهم على ذلك، ويستحل دماء من خالفه وأموالهم.
ويدخل في هذه الآية، كل من ادعى النبوة، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي والمختار، وغيرهم ممن اتصف بهذا الوصف.
( وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ اللَّهُ ) أي: ومن أظلم ممن زعم. أنه يقدر على ما يقدر الله عليه ويجاري الله في أحكامه، ويشرع من الشرائع، كما شرعه الله. ويدخل في هذا، كل من يزعم أنه يقدر على معارضة القرآن، وأنه في إمكانه أن يأتي بمثله.وأي: ظلم أعظم من دعوى الفقير العاجز بالذات، الناقص من كل وجه، مشاركةَ القوي الغني، الذي له الكمال المطلق، من جميع الوجوه، في ذاته وأسمائه وصفاته؟"
ولما ذم الظالمين، ذكر ما أعد لهم من العقوبة في حال الاحتضار، ويوم القيامة فقال: ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ) أي: شدائده وأهواله الفظيعة، وكُرَبه الشنيعة –لرأيت أمرا هائلا وحالة لا يقدر الواصف أن يصفها.
( وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ) إلى أولئك الظالمين المحتضرين بالضرب والعذاب، يقولون لهم عند منازعة أرواحهم وقلقها، وتعصيها للخروج من الأبدان: ( أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ) أي: العذاب الشديد، الذي يهينكم ويذلكم والجزاء من جنس العمل، فإن هذا العذاب ( بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ) من كذبكم عليه، وردكم للحق، الذي جاءت به الرسل. ( وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) أي: تَرَفَّعون عن الانقياد لها، والاستسلام لأحكامها.وفي هذا دليل على عذاب البرزخ ونعيمه، فإن هذا الخطاب، والعذاب الموجه إليهم، إنما هو عند الاحتضار وقبيل الموت وبعده.
وفيه دليل، على أن الروح جسم، يدخل ويخرج، ويخاطب، ويساكن الجسد، ويفارقه، فهذه حالهم في البرزخ.
وأما يوم القيامة، فإنهم إذا وردوها، وردوها مفلسين فرادى بلا أهل ولا مال، ولا أولاد ولا جنود، ولا أنصار، كما خلقهم الله أول مرة، عارين من كل شيء.
فإن الأشياء، إنما تتمول وتحصل بعد ذلك، بأسبابها، التي هي أسبابها، وفي ذلك اليوم تنقطع جميع الأمور، التي كانت مع العبد في الدنيا، سوى العمل الصالح والعمل السيء، الذي هو مادة الدار الآخرة، الذي تنشأ عنه، ويكون حسنها وقبحها، وسرورها وغمومها، وعذابها ونعيمها، بحسب الأعمال. فهي التي تنفع أو تضر، وتسوء أو تسر، وما سواها من الأهل والولد، والمال والأنصار، فعواري خارجية، وأوصاف زائلة، وأحوال حائلة، ولهذا قال تعالى:
( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ ) أي: أعطيناكم، وأنعمنا به عليكم ( وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ) لا يغنون عنكم شيئا ( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ) .
فإن المشركين يشركون بالله، ويعبدون معه الملائكة، والأنبياء، والصالحين، وغيرهم، وهم كلهم لله، ولكنهم يجعلون لهذه المخلوقات نصيبا من أنفسهم، وشركة في عبادتهم، وهذا زعم منهم وظلم، فإن الجميع عبيد لله، والله مالكهم، والمستحق لعبادتهم. فشركهم في العبادة، وصرفها لبعض العبيد، تنزيل لهم منزلة الخالق المالك، فيوبخون يوم القيامة ويقال لهم هذه المقالة.

( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) أي: تقطعت الوصل والأسباب بينكم وبين شركائكم، من الشفاعة وغيرها فلم تنفع ولم تُجْد شيئا. ( وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) من الربح، والأمن والسعادة، والنجاة، التي زينها لكم الشيطان، وحسنها في قلوبكم، فنطقت بها ألسنتكم. واغتررتم بهذا الزعم الباطل، الذي لا حقيقة له، حين تبين لكم نقيض ما كنتم تزعمون، وظهر أنكم الخاسرون لأنفسكم وأهليكم وأموالكم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-09, 04:55 AM
الحلقة (140)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 95 الى الأية( 101)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى < 1-266 > تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن كماله، وعظمة سلطانه، وقوة اقتداره، وسعة رحمته، وعموم كرمه، وشدة عنايته بخلقه، فقال: ( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ ) شامل لسائر الحبوب، التي يباشر الناس زرعها، والتي لا يباشرونها، كالحبوب التي يبثها الله في البراري والقفار، فيفلق الحبوب عن الزروع والنوابت، على اختلاف أنواعها، وأشكالها، ومنافعها، ويفلق النوى عن الأشجار، من النخيل والفواكه، وغير ذلك. فينتفع الخلق، من الآدميين والأنعام، والدواب. ويرتعون فيما فلق الله من الحب والنوى، ويقتاتون، وينتفعون بجميع أنواع المنافع التي جعلها الله في ذلك. ويريهم الله من بره وإحسانه ما يبهر العقول، ويذهل الفحول، ويريهم من بدائع صنعته، وكمال حكمته، ما به يعرفونه ويوحدونه، ويعلمون أنه هو الحق، وأن عبادة ما سواه باطلة.
( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ) كما يخرج من المني حيوانا، ومن البيضة فرخا، ومن الحب والنوى زرعا وشجرا.
( وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ ) وهو الذي لا نمو فيه، أو لا روح ( مِنَ الْحَيِّ ) كما يخرج من الأشجار والزروع النوى والحب، ويخرج من الطائر بيضا ونحو ذلك.
( ذَلِكُمْ ) الذي فعل ما فعل، وانفرد بخلق هذه الأشياء وتدبيرها ( اللَّهُ ) رَبُّكُمْ أي: الذي له الألوهية والعبادة على خلقه أجمعين، وهو الذي ربى جميع العالمين بنعمه، وغذاهم بكرمه. ( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) أي: فأنى تصرفون، وتصدون عن عبادة من هذا شأنه، إلى عبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا؟"
ولما ذكر تعالى مادة خلق الأقوات، ذكر منته بتهيئة المساكن، وخلقه كل ما يحتاج إليه العباد، من الضياء والظلمة، وما يترتب على ذلك من أنواع المنافع والمصالح فقال: ( فَالِقُ الإصْبَاحِ ) أي: كما أنه فالق الحب والنوى، كذلك هو فالق ظلمة الليل الداجي، الشامل لما على وجه الأرض، بضياء الصبح الذي يفلقه شيئا فشيئا، حتى تذهب ظلمة الليل كلها، ويخلفها الضياء والنور العام، الذي يتصرف به الخلق في مصالحهم، ومعايشهم، ومنافع دينهم ودنياهم.
ولما كان الخلق محتاجين إلى السكون والاستقرار والراحة، التي لا تتم بوجود النهار والنور ( جَعَلَ ) الله ( اللَّيْلَ سَكَنًا ) يسكن فيه الآدميون إلى دورهم ومنامهم، والأنعام إلى مأواها، والطيور إلى أوكارها، فتأخذ نصيبها من الراحة، ثم يزيل الله ذلك بالضياء، وهكذا أبدا إلى يوم القيامة ( و ) جعل تعالى ( الشمس وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ) بهما تعرف الأزمنة والأوقات، فتنضبط بذلك أوقات العبادات، وآجال المعاملات، ويعرف بها مدة ما مضى من الأوقات التي لولا وجود الشمس والقمر، وتناوبهما واختلافهما - لما عرف ذلك عامة الناس، واشتركوا في علمه، بل كان لا يعرفه إلا أفراد من الناس، بعد الاجتهاد، وبذلك يفوت من المصالح الضرورية ما يفوت.
( ذَلِكَ ) التقدير المذكور ( تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) الذي من عزته انقادت له هذه المخلوقات العظيمة، فجرت مذللة مسخرة بأمره، بحيث لا تتعدى ما حده الله لها، ولا تتقدم عنه ولا تتأخر ( الْعَلِيم) الذي أحاط علمه، بالظواهر والبواطن، والأوائل والأواخر.
ومن الأدلة العقلية على إحاطة علمه، تسخير هذه المخلوقات العظيمة، على تقدير، ونظام بديع، تحيُّرُ العقول في حسنه وكماله، وموافقته للمصالح والحكم.
( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) حين تشتبه عليكم المسالك، ويتحير في سيره السالك، فجعل الله النجوم هداية للخلق إلى السبل، التي يحتاجون إلى سلوكها لمصالحهم، وتجاراتهم، وأسفارهم.
منها: نجوم لا تزال ترى، ولا تسير عن محلها، ومنها: ما هو مستمر السير، يعرف سيرَه أهل المعرفة بذلك، ويعرفون به الجهات والأوقات.
ودلت هذه الآية ونحوها، على مشروعية تعلم سير الكواكب ومحالّها الذي يسمى علم التسيير، فإنه لا تتم الهداية ولا تمكن إلا بذلك.
( قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ ) أي بيناها، ووضحناها، وميزنا كل جنس ونوع منها عن الآخر، بحيث صارت آيات الله بادية ظاهرة ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) أي: لأهل العلم والمعرفة، فإنهم الذين يوجه إليهم الخطاب، ويطلب منهم الجواب، بخلاف أهل الجهل والجفاء، المعرضين عن آيات الله، وعن العلم الذي جاءت به الرسل، فإن البيان لا يفيدهم شيئا، والتفصيل لا يزيل عنهم ملتبسا، والإيضاح لا يكشف لهم مشكلا.
( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) وهو آدم عليه السلام. أنشأ الله منه هذا العنصر الآدمي؛ الذي قد ملأ الأرض ولم يزل في زيادة ونمو، الذي قد تفاوت في أخلاقه وخلقه، وأوصافه تفاوتا لا يمكن ضبطه، ولا يدرك وصفه، وجعل الله لهم مستقرا، أي منتهى ينتهون إليه، وغاية يساقون إليها، وهي دار القرار، التي لا مستقر وراءها، ولا نهاية فوقها، فهذه الدار، هي التي خلق الخلق لسكناها، وأوجدوا في الدنيا ليسعوا في أسبابها، التي تنشأ عليها وتعمر بها، وأودعهم الله في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، ثم في دار الدنيا، ثم في البرزخ، كل ذلك، على وجه الوديعة، التي لا تستقر < 1-267 > ولا تثبت، بل ينتقل منها حتى يوصل إلى الدار التي هي المستقر، وأما هذه الدار، فإنها مستودع وممر ( قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ) عن الله آياته، ويفهمون عنه حججه، وبيناته.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وهذا من أعظم مننه العظيمة، التي يضطر إليها الخلق، من الآدميين وغيرهم، وهو أنه أنزل من السماء ماء متتابعا وقت حاجة الناس إليه، فأنبت الله به كل شيء، مما يأكل الناس والأنعام، فرتع الخلق بفضل الله، وانبسطوا برزقه، وفرحوا بإحسانه، وزال عنهم الجدب واليأس والقحط، ففرحت القلوب، وأسفرت الوجوه، وحصل للعباد من رحمة الرحمن الرحيم، ما به يتمتعون وبه يرتعون، مما يوجب لهم، أن يبذلوا جهدهم في شكر من أسدى النعم، وعبادته والإنابة إليه، والمحبة له.
ولما ذكر عموم ما ينبت بالماء، من أنواع الأشجار والنبات، ذكر الزرع والنخل، لكثرة نفعهما وكونهما قوتا لأكثر الناس فقال: ( فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ ) أي: من ذلك النبات الخضر، ( حَبًّا مُتَرَاكِبًا ) بعضه فوق بعض، من بر، وشعير، وذرة، وأرز، وغير ذلك، من أصناف الزروع، وفي وصفه بأنه متراكب، إشارة إلى أن حبوبه متعددة، وجميعها تستمد من مادة واحدة، وهي لا تختلط، بل هي متفرقة الحبوب، مجتمعة الأصول، وإشارة أيضا إلى كثرتها، وشمول ريعها وغلتها، ليبقى أصل البذر، ويبقى بقية كثيرة للأكل والادخار.
( وَمِنَ النَّخْلِ ) أخرج الله ( مِنْ طَلْعِهَا ) وهو الكفرى، والوعاء قبل ظهور القنو منه، فيخرج من ذلك الوعاء ( قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ ) أي: قريبة سهلة التناول، متدلية على من أرادها، بحيث لا يعسر التناول من النخل وإن طالت، فإنه يوجد فيها كرب ومراقي، يسهل صعودها.
( و ) أخرج تعالى بالماء ( جنات مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ ) فهذه من الأشجار الكثيرة النفع، العظيمة الوقع، فلذلك خصصها الله بالذكر بعد أن عم جميع الأشجار والنوابت.
وقوله ( مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ) يحتمل أن يرجع إلى الرمان والزيتون، أي: مشتبها في شجره وورقه، غير متشابه في ثمره.
ويحتمل أن يرجع ذلك، إلى سائر الأشجار والفواكه، وأن بعضها مشتبه، يشبه بعضه بعضا، ويتقارب في بعض أوصافه، وبعضها لا مشابهة بينه وبين غيره، والكل ينتفع به العباد، ويتفكهون، ويقتاتون، ويعتبرون، ولهذا أمر تعالى بالاعتبار به، فقال: ( انْظُرُوا ) نظر فكر واعتبار ( إِلَى ثَمَرِهِ ) أي: الأشجار كلها، خصوصا: النخل ( إذا أثمر ) .
( وَيَنْعِهِ ) أي: انظروا إليه، وقت إطلاعه، ووقت نضجه وإيناعه، فإن في ذلك عبرا وآيات، يستدل بها على رحمة الله، وسعة إحسانه وجوده، وكمال اقتداره وعنايته بعباده.
ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر وليس كل من تفكر، أدرك المعنى المقصود، ولهذا قيد تعالى الانتفاع بالآيات بالمؤمنين فقال: ( إِنَّ فِي ذَلِكَم لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) فإن المؤمنين يحملهم ما معهم من الإيمان، على العمل بمقتضياته ولوازمه، التي منها التفكر في آيات الله، والاستنتاج منها ما يراد منها، وما تدل عليه، عقلا وفطرة، وشرعا.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى: أنه مع إحسانه لعباده وتعرفه إليهم، بآياته البينات، وحججه الواضحات -أن المشركين به، من قريش وغيرهم، جعلوا له شركاء، يدعونهم، ويعبدونهم، من الجن والملائكة، الذين هم خلق من خلق الله، ليس فيهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، فجعلوها شركاء لمن له الخلق والأمر، وهو المنعم بسائر أصناف النعم، الدافع لجميع النقم، وكذلك "خرق المشركون" أي: ائتفكوا، وافتروا من تلقاء أنفسهم لله، بنين وبنات بغير علم منهم، ومن أظلم ممن قال على الله بلا علم، وافترى عليه أشنع النقص، الذي يجب تنزيه الله عنه؟!!.
ولهذا نزه نفسه عما افتراه عليه المشركون فقال: ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ) فإنه تعالى، الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، وآفة وعيب.
( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي: خالقهما، ومتقن صنعتهما، على غير مثال سبق، بأحسن خلق، ونظام وبهاء، لا تقترح عقول أولي الألباب مثله، وليس له في خلقهما مشارك.
( أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ) أي: كيف يكون لله الولد، وهو الإله السيد الصمد، الذي لا صاحبة له أي: لا زوجة له، وهو الغني عن مخلوقاته، وكلها فقيرة إليه، مضطرة في جميع أحوالها إليه، والولد لا بد أن يكون من جنس والده؛ والله خالق كل شيء وليس شيء من المخلوقات مشابها لله بوجه من الوجوه.

ولما ذكر عموم خلقه للأشياء، ذكر إحاطة علمه بها فقال: ( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) وفي ذكر العلم بعد الخلق، إشارة إلى الدليل العقلي إلى < 1-268 > ثبوت علمه، وهو هذه المخلوقات، وما اشتملت عليه من النظام التام، والخلق الباهر، فإن في ذلك دلالة على سعة علم الخالق، وكمال حكمته، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وكما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ذلكم الذي خلق ما خلق، وقدر ما قدر.

ابو وليد البحيرى
2019-04-09, 04:59 AM
الحلقة (141)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 102 الى الأية( 110)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( اللَّهُ رَبُّكُمْ ) أي: المألوه المعبود، الذي يستحق نهاية الذل، ونهاية الحب،الرب، الذي ربى جميع الخلق بالنعم، وصرف عنهم صنوف النقم. ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) أي: إذا استقر وثبت، أنه الله الذي لا إله إلا هو،فاصرفوا له جميع أنواع العبادة، وأخلصوها لله، واقصدوا بها وجهه. فإن هذا هو المقصود من الخلق، الذي خلقوا لأجله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) أي: جميع الأشياء، تحت وكالة الله وتدبيره،خلقا، وتدبيرا، وتصريفا.
ومن المعلوم، أن الأمر المتصرف فيه يكون استقامته وتمامه، وكمال انتظامه، بحسب حال الوكيل عليه. ووكالته تعالى على الأشياء، ليست من جنس وكالة الخلق، فإن وكالتهم، وكالة نيابة، والوكيل فيها تابع لموكله.
وأما الباري، تبارك وتعالى، فوكالته من نفسه لنفسه، متضمنة لكمال العلم،وحسن التدبير والإحسان فيه، والعدل، فلا يمكن لأحد أن يستدرك على الله،ولا يرى في خلقه خللا ولا فطورا، ولا في تدبيره نقصا وعيبا.
ومن وكالته: أنه تعالى، توكل ببيان دينه، وحفظه عن المزيلات والمغيرات،وأنه تولى حفظ المؤمنين وعصمتهم عما يزيل إيمانهم ودينهم.
( لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ ) لعظمته، وجلاله وكماله، أي: لا تحيط به الأبصار، وإن كانت تراه، وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم، فنفي الإدراك لا ينفي الرؤية، بل يثبتها بالمفهوم. فإنه إذا نفى الإدراك، الذي هو أخص أوصاف الرؤية، دل على أن الرؤية ثابتة.
فإنه لو أراد نفي الرؤية، لقال "لا تراه الأبصار" ونحو ذلك، فعلم أنه ليس في الآية حجة لمذهب المعطلة، الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة، بل فيها ما يدل على نقيض قولهم.
( وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ ) أي: هو الذي أحاط علمه، بالظواهر والبواطن،وسمعه بجميع الأصوات الظاهرة، والخفية، وبصره بجميع المبصرات،صغارها ، وكبارها، ولهذا قال: ( وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) الذي لطف علمه وخبرته، ودق حتى أدرك السرائر والخفايا، والخبايا والبواطن.
ومن لطفه، أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه، ويوصلها إليه بالطرق التي لا يشعر بها العبد، ولا يسعى فيها، ويوصله إلى السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي، من حيث لا يحتسب، حتى أنه يقدر عليه الأمور، التي يكرهها العبد، ويتألم منها، ويدعو الله أن يزيلها، لعلمه أن دينه أصلح، وأن كماله متوقف عليها، فسبحان اللطيف لما يشاء، الرحيم بالمؤمنين.
( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) لما بين تعالى من الآيات البينات، والأدلة الواضحات، الدالة على الحق في جميع المطالب والمقاصد، نبه العباد عليها، وأخبر أن هدايتهم وضدها لأنفسهم، فقال: ( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي: آيات تبين الحق،وتجعله للقلب بمنزلة الشمس للأبصار، لما اشتملت عليه من فصاحة اللفظ،وبيانه، ووضوحه، ومطابقته للمعاني الجليلة، والحقائق الجميلة، لأنها صادرة من الرب، الذي ربى خلقه، بصنوف نعمه الظاهرة والباطنة، التي من أفضلها وأجلها، تبيين الآيات، وتوضيح المشكلات.
( فَمَنْ أَبْصَرَ ) بتلك الآيات، مواقع العبرة، وعمل بمقتضاها ( فَلِنَفْسِهِ ) فإن الله هو الغني الحميد.
( وَمَنْ عَمِيَ ) بأن بُصِّر فلم يتبصر، وزُجِر فلم ينزجر، وبين له الحق، فما انقاد له ولا تواضع، فإنما عماه مضرته عليه.
( وَمَا أَنَا ) أي: الرسول ( عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) أحفظ أعمالكم وأرقبها على الدوام إنما عليَّ البلاغ المبين وقد أديته، وبلغت ما أنزل الله إليَّ، فهذه وظيفتي، وما عدا ذلك فلست موظفا فيه http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ينهى الله المؤمنين عن أمر كان جائزا، بل مشروعا في الأصل، وهو سب آلهة المشركين، التي اتخذت أوثانا وآلهة < 1-269 > مع الله، التي يتقرب إلى الله بإهانتها وسبها.
ولكن لما كان هذا السب طريقا إلى سب المشركين لرب العالمين، الذي يجب تنزيه جنابه العظيم عن كل عيب، وآفة، وسب، وقدح -نهى الله عن سب آلهة المشركين، لأنهم يحمون لدينهم، ويتعصبون له. لأن كل أمة، زين الله لهم عملهم، فرأوه حسنا، وذبوا عنه، ودافعوا بكل طريق، حتى إنهم، ليسبون الله رب العالمين، الذي رسخت عظمته في قلوب الأبرار والفجار، إذا سب المسلمون آلهتهم.
ولكن الخلق كلهم، مرجعهم ومآلهم، إلى الله يوم القيامة، يعرضون عليه،وتعرض أعمالهم، فينبئهم بما كانوا يعملون، من خير وشر.
وفي هذه الآية الكريمة، دليل للقاعدة الشرعية وهو أن الوسائل تعتبر بالأمور التي توصل إليها، وأن وسائل المحرم، ولو كانت جائزة تكون محرمة، إذا كانت تفضي إلى الشر.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: وأقسم المشركون المكذبون للرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ( بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ) أي: قسما اجتهدوا فيه وأكدوه. ( لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ) تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ( لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا ) وهذا الكلام الذي صدر منهم، لم يكن قصدهم فيه الرشاد، وإنما قصدهم دفع الاعتراض عليهم، ورد ما جاء به الرسول قطعا، فإن الله أيد رسوله صلى الله عليه وسلم، بالآيات البينات،والأدلة الواضحات، التي -عند الالتفات لها- لا تبقي أدنى شبهة ولا إشكال في صحة ما جاء به، فطلبهم -بعد ذلك- للآيات من باب التعنت، الذي لا يلزم إجابته، بل قد يكون المنع من إجابتهم أصلح لهم، فإن الله جرت سنته في عباده، أن المقترحين للآيات على رسلهم، إذا جاءتهم، فلم يؤمنوا بها -أنه يعاجلهم بالعقوبة، ولهذا قال: ( قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ) أي: هو الذي يرسلها إذا شاء، ويمنعها إذا شاء، ليس لي من الأمر شيء، فطلبكم مني الآيات ظلم،وطلب لما لا أملك، وإنما توجهون إلى توضيح ما جئتكم به، وتصديقه، وقد حصل، ومع ذلك، فليس معلوما، أنهم إذا جاءتهم الآيات يؤمنون ويصدقون، بل الغالب ممن هذه حاله، أنه لا يؤمن، ولهذا قال: ( وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) .
( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) أي: ونعاقبهم، إذا لم يؤمنوا أول مرة يأتيهم فيها الداعي، وتقوم عليهم الحجة، بتقليب القلوب، والحيلولة بينهم وبين الإيمان، وعدم التوفيق لسلوك الصراط المستقيم.
وهذا من عدل الله، وحكمته بعباده، فإنهم الذين جنوا على أنفسهم، وفتح لهم الباب فلم يدخلوا، وبين لهم الطريق فلم يسلكوا، فبعد ذلك إذا حرموا التوفيق، كان مناسبا لأحوالهم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-09, 05:02 AM
الحلقة (142)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 110 الى الأية( 118)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وكذلك تعليقهم الإيمان بإرادتهم، ومشيئتهم وحدهم، وعدم الاعتماد على الله من أكبر الغلط، فإنهم لو جاءتهم الآيات العظيمة، من تنزيل الملائكة إليهم،يشهدون للرسول بالرسالة، وتكليم الموتى وبعثهم بعد موتهم، وحشر كل شيء إليهم حتى يكلمهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ( قُبُلا ) ومشاهدة، ومباشرة، بصدق ما جاء به الرسول ما حصل منهم الإيمان، إذا لم يشأ الله إيمانهم، ولكن أكثرهم يجهلون. فلذلك رتبوا إيمانهم، على مجرد إتيان الآيات، وإنما العقل والعلم، أن يكون العبد مقصوده اتباع الحق، ويطلبه بالطرق التي بينها الله، ويعمل بذلك، ويستعين ربه في اتباعه، ولا يتكل على نفسه وحوله وقوته، ولا يطلب من الآيات الاقتراحية ما لا فائدة فيه.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُو ا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى -مسليا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم- وكما جعلنا لك أعداء يردون دعوتك، ويحاربونك، ويحسدونك، فهذه سنتنا، أن نجعل لكل نبي نرسله إلى الخلق أعداء، من شياطين الإنس والجن، يقومون بضد ما جاءت به الرسل.
( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) أي: يزين بعضهم لبعض الأمر الذي يدعون إليه من الباطل، ويزخرفون له العبارات حتى يجعلوه في أحسن صورة، ليغتر به السفهاء، وينقاد له الأغبياء، الذين لا يفهمون الحقائق،ولا يفقهون المعاني، بل تعجبهم الألفاظ المزخرفة، والعبارات المموهة،فيعتقدو ن الحق < 1-270 > باطلا والباطل حقا، ولهذا قال تعالى: ( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ ) أي: ولتميل إلى ذلك الكلام المزخرف ( أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) لأن عدم إيمانهم باليوم الآخر وعدم عقولهم النافعة، يحملهم على ذلك، ( وَلِيَرْضَوْهُ ) بعد أن يصغوا إليه، فيصغون إليه أولا فإذا مالوا إليه ورأوا تلك العبارات المستحسنة، رضوه، وزين في قلوبهم، وصار عقيدة راسخة،وصفة لازمة، ثم ينتج من ذلك، أن يقترفوا من الأعمال والأقوال ما هم مقترفون، أي: يأتون من الكذب بالقول والفعل، ما هو من لوازم تلك العقائد القبيحة، فهذه حال المغترين بشياطين الإنس والجن، المستجيبين لدعوتهم،وأما أهل الإيمان بالآخرة، وأولو العقول الوافية والألباب الرزينة، فإنهم لا يغترون بتلك العبارات، ولا تخلبهم تلك التمويهات، بل همتهم مصروفة إلى معرفة الحقائق، فينظرون إلى المعاني التي يدعو إليها الدعاة، فإن كانت حقا قبلوها، وانقادوا لها، ولو كسيت عبارات ردية، وألفاظا غير وافية، وإن كانت باطلا ردوها على من قالها، كائنا من كان، ولو ألبست من العبارات المستحسنة، ما هو أرق من الحرير.
ومن حكمة الله تعالى، في جعله للأنبياء أعداء، وللباطل أنصارا قائمين بالدعوة إليه، أن يحصل لعباده الابتلاء والامتحان، ليتميز الصادق من الكاذب، والعاقل من الجاهل، والبصير من الأعمى.
ومن حكمته أن في ذلك بيانا للحق، وتوضيحا له، فإن الحق يستنير ويتضح إذا قام الباطل يصارعه ويقاومه. فإنه -حينئذ- يتبين من أدلة الحق، وشواهده الدالة على صدقه وحقيقته، ومن فساد الباطل وبطلانه، ما هو من أكبر المطالب، التي يتنافس فيها المتنافسون.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: قل يا أيها الرسول ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ) أحاكم إليه، وأتقيد بأوامره ونواهيه. فإن غير الله محكوم عليه لا حاكم. وكل تدبير وحكم للمخلوق فإنه مشتمل على النقص، والعيب، والجور، وإنما الذي يجب أن يتخذ حاكما، فهو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر.
( الَّذِي أَنزلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا ) أي: موضَّحا فيه الحلال والحرام، والأحكام الشرعية، وأصول الدين وفروعه، الذي لا بيان فوق بيانه، ولا برهان أجلى من برهانه، ولا أحسن منه حكما ولا أقوم قيلا لأن أحكامه مشتملة على الحكمة والرحمة.
وأهل الكتب السابقة، من اليهود والنصارى، يعترفون بذلك ( ويَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنزلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) ولهذا، تواطأت الإخبارات ( فَلا ) تشُكَّنَّ في ذلك ولا ( تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) .
ثم وصف تفصيلها فقال: ( وَتَمَّتْ كَلِمت رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا ) أي: صدقا في الأخبار، وعدلا في الأمر والنهي. فلا أصدق من أخبار الله التي أودعها هذا الكتاب العزيز، ولا أعدل من أوامره ونواهيه ( لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) [حيث حفظها وأحكمها بأعلى أنواع الصدق، وبغاية الحق، فلا يمكن تغييرها، ولا اقتراح أحسن منها] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
( وَهُوَ السَّمِيعُ ) لسائر الأصوات، باختلاف اللغات على تفنن الحاجات. ( الْعَلِيمُ ) الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والماضي والمستقبل.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ (117) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، محذرا عن طاعة أكثر الناس: ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) فإن أكثرهم قد انحرفوا في أديانهم وأعمالهم، وعلومهم. فأديانهم فاسدة، وأعمالهم تبع لأهوائهم، وعلومهم ليس فيها تحقيق، ولا إيصال لسواء الطريق.
بل غايتهم أنهم يتبعون الظن، الذي لا يغني من الحق شيئا، ويتخرصون في القول على الله ما لا يعلمون، ومن كان بهذه المثابة، فحري أن يحذِّر الله منه عبادَه، ويصف لهم أحوالهم؛ لأن هذا –وإن كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم- فإن أمته أسوة له في سائر الأحكام، التي ليست من خصائصه.
والله تعالى أصدق قيلا وأصدق حديثا، و ( هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ ) وأعلم بمن يهتدي. ويهدي.فيجب عليكم -أيها المؤمنون- أن تتبعوا نصائحه وأوامره ونواهيه لأنه أعلم بمصالحكم، وأرحم بكم من أنفسكم.
ودلت هذه الآية، على أنه لا يستدل على الحق، بكثرة أهله، ولا يدل قلة السالكين لأمر من الأمور أن يكون غير حق، بل الواقع بخلاف ذلك، فإن أهل الحق هم الأقلون عددا، الأعظمون -عند الله- قدرا وأجرا، بل الواجب أن يستدل على الحق والباطل، بالطرق الموصلة إليه.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يأمر تعالى عباده المؤمنين، بمقتضى الإيمان، وأنهم إن كانوا مؤمنين،فليأكلوا مما ذكر اسم الله عليه من بهيمة الأنعام، وغيرها من الحيوانات المحللة، ويعتقدوا حلها، < 1-271 > ولا يفعلوا كما يفعل أهل الجاهلية من تحريم كثير من الحلال، ابتداعا من عند أنفسهم، وإضلالا من شياطينهم،فذكر الله أن علامة المؤمن مخالفة أهل الجاهلية، في هذه العادة الذميمة،المتضمن ة لتغيير شرع الله.

ابو وليد البحيرى
2019-04-13, 04:19 AM
الحلقة (143)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 119 الى الأية( 124)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِين َ (119) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

وأنه، أي شيء يمنعهم من أكل ما ذكر اسم الله عليه، وقد فصل الله لعباده ما حرم عليهم، وبينه، ووضحه؟ فلم يبق فيه إشكال ولا شبهة، توجب أن يمتنع من أكل بعض الحلال، خوفا من الوقوع في الحرام، ودلت الآية الكريمة، على أن الأصل في الأشياء والأطعمة الإباحة، وأنه إذا لم يرد الشرع بتحريم شيء منها، فإنه باق على الإباحة، فما سكت الله عنه فهو حلال، لأن الحرام قد فصله الله، فما لم يفصله الله فليس بحرام.
ومع ذلك، فالحرام الذي قد فصله الله وأوضحه، قد أباحه عند الضرورة والمخمصة، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg إلى أن قال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
ثم حذر عن كثير من الناس، فقال: ( وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ ) أي: بمجرد ما تهوى أنفسهم ( بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ولا حجة. فليحذر العبد من أمثال هؤلاء، وعلامتُهم -كما وصفهم الله لعباده- أن دعوتهم غير مبنية على برهان، ولا لهم حجة شرعية، وإنما يوجد لهم شبه بحسب أهوائهم الفاسدة، وآرائهم القاصرة، فهؤلاء معتدون على شرع الله وعلى عباد الله، والله لا يحب المعتدين، بخلاف الهادين المهتدين، فإنهم يدعون إلى الحق والهدى، ويؤيدون دعوتهم بالحجج العقلية والنقلية، ولا يتبعون في دعوتهم إلا رضا ربهم والقرب منه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

المراد بالإثم: جميع المعاصي، التي تؤثم العبد، أي: توقعه في الإثم، والحرج، من الأشياء المتعلقة بحقوق الله، وحقوق عباده. فنهى الله عباده، عن اقتراف الإثم الظاهر والباطن، أي: السر والعلانية، المتعلقة بالبدن والجوارح، والمتعلقة بالقلب، ولا يتم للعبد، ترك المعاصي الظاهرة والباطنة، إلا بعد معرفتها، والبحث عنها، فيكون البحث عنها ومعرفة معاصي القلب والبدن، والعلمُ بذلك واجبا متعينا على المكلف.
وكثير من الناس، تخفى عليه كثير من المعاصي، خصوصا معاصي القلب، كالكبر والعجب والرياء، ونحو ذلك، حتى إنه يكون به كثير منها، وهو لا يحس به ولا يشعر، وهذا من الإعراض عن العلم، وعدم البصيرة.
ثم أخبر تعالى، أن الذين يكسبون الإثم الظاهر والباطن، سيجزون على حسب كسبهم، وعلى قدر ذنوبهم، قلَّت أو كثرت، وهذا الجزاء يكون في الآخرة، وقد يكون في الدنيا، يعاقب العبد، فيخفف عنه بذلك من سيئاته.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُم ْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

ويدخل تحت هذا المنهي عنه، ما ذكر عليه اسم غير الله كالذي يذبح للأصنام، وآلهتهم، فإن هذا مما أهل لغير الله به، المحرم بالنص عليه خصوصا.
ويدخل في ذلك، متروك التسمية، مما ذبح لله، كالضحايا، والهدايا، أو للحم والأكل، إذا كان الذابح متعمدا ترك التسمية، عند كثير من العلماء.
ويخرج من هذا العموم، الناسي بالنصوص الأخر، الدالة على رفع الحرج عنه، ويدخل في هذه الآية، ما مات بغير ذكاة من الميتات، فإنها مما لم يذكر اسم الله عليه.
ونص الله عليها بخصوصها، في قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg ولعلها سبب نزول الآية، لقوله ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُم ْ ) بغير علم.
فإن المشركين -حين سمعوا تحريم الله ورسوله الميتةَ، وتحليله للمذكاة، وكانوا يستحلون أكل الميتة- قالوا -معاندة لله ورسوله، ومجادلة بغير حجة ولا برهان- أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؟ يعنون بذلك: الميتة.
وهذا رأي فاسد، لا يستند على حجة ولا دليل بل يستند إلى آرائهم الفاسدة التي لو كان الحق تبعا لها لفسدت السماوات والأرض، ومن فيهن.
فتبا لمن قدم هذه العقول على شرع الله وأحكامه، الموافقة للمصالح العامة والمنافع الخاصة. ولا يستغرب هذا منهم، فإن هذه الآراء وأشباهها، صادرة عن وحي أوليائهم من الشياطين، الذين يريدون أن يضلوا الخلق عن دينهم، ويدعوهم ليكونوا من أصحاب السعير.
( وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ ) في شركهم وتحليلهم الحرام، وتحريمهم الحلال ( إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) لأنكم اتخذتموهم أولياء من دون الله، ووافقتموهم على ما به فارقوا المسلمين، فلذلك كان طريقكم، طريقهم.
ودلت هذه الآية الكريمة على أن ما يقع في القلوب من الإلهامات والكشوف، التي يكثر وقوعها عند الصوفية ونحوهم، لا تدل –بمجردها على أنها حق، ولا تصدق حتى تعرض على كتاب الله وسنة رسوله.
فإن شهدا لها بالقبول قبلت، وإن ناقضتهما ردت، وإن لم يعلم شيء من ذلك، توقف فيها ولم تصدق ولم تكذب، لأن الوحي والإلهام، يكون من الرحمن ويكون من الشيطان، فلا بد من التمييز بينهما والفرقان، وبعدم التفريق بين الأمرين، حصل من الغلط والضلال، ما لا يحصيه إلا الله.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

يقول تعالى: ( أَوَمَنْ كَانَ ) من قبل هداية الله له ( مَيْتًا ) في ظلمات الكفر، والجهل، والمعاصي، ( فَأَحْيَيْنَاهُ ) بنور العلم والإيمان والطاعة، فصار يمشي بين الناس في النور، متبصرا في أموره، مهتديا لسبيله، عارفا للخير مؤثرا له، مجتهدا في تنفيذه في نفسه وغيره، عارفا بالشر مبغضا له، مجتهدا فيتركه وإزالته عن نفسه وعن غيره. أفيستوي هذا بمن هو في الظلمات، ظلمات الجهل والغي، والكفر والمعاصي.

( لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ) قد التبست عليه الطرق، وأظلمت عليه المسالك، فحضره الهم والغم والحزن والشقاء. فنبه تعالى العقول بما تدركه وتعرفه، أنه لا يستوي هذا ولا هذا كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلمة، والأحياء والأموات.
فكأنه قيل: فكيف يؤثر من له أدنى مسكة من عقل، أن يكون بهذه الحالة، وأن يبقى في الظلمات متحيرا: فأجاب بأنه ( زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) فلم يزل الشيطان يحسن لهم أعمالهم، ويزينها في قلوبهم، حتى استحسنوها ورأوها حقا. وصار ذلك عقيدة في قلوبهم، وصفة راسخة ملازمة لهم، فلذلك رضوا بما هم عليه من الشر والقبائح. وهؤلاء الذين في الظلمات يعمهون، وفي باطلهم يترددون، غير متساوين.
فمنهم: القادة، والرؤساء، والمتبوعون، ومنهم: التابعون المرءوسون، والأولون، منهم الذين فازوا بأشقى الأحوال، ولهذا قال:
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ) أي: الرؤساء الذين قد كبر جرمهم، واشتد طغيانهم ( لِيَمْكُرُوا فِيهَا ) بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان، ومحاربة الرسل وأتباعهم، بالقول والفعل، وإنما مكرهم وكيدهم يعود على أنفسهم، لأنهم يمكرون، ويمكر الله والله خير الماكرين.
وكذلك يجعل الله كبار أئمة الهدى وأفاضلهم، يناضلون هؤلاء المجرمين، ويردون عليهم أقوالهم ويجاهدونهم في سبيل الله، ويسلكون بذلك السبل الموصلة إلى ذلك، ويعينهم الله ويسدد رأيهم، ويثبت أقدامهم، ويداول الأيام بينهم وبين أعدائهم، حتى يدول الأمر في عاقبته بنصرهم وظهورهم، والعاقبة للمتقين.
وإنما ثبت أكابر المجرمين على باطلهم، وقاموا برد الحق الذي جاءت به الرسل، حسدا منهم وبغيا، فقالوا: ( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ) من النبوة والرسالة. وفي هذا اعتراض منهم على الله، وعجب بأنفسهم، وتكبر على الحق الذي أنزله على أيدي رسله، وتحجر على فضل الله وإحسانه.
فرد الله عليهم اعتراضهم الفاسد، وأخبر أنهم لا يصلحون للخير، ولا فيهم ما يوجب أن يكونوا من عباد الله الصالحين، فضلا أن يكونوا من النبيين والمرسلين، فقال: ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) فمن علمه يصلح لها، ويقوم بأعبائها، وهو متصف بكل خلق جميل، ومتبرئ من كل خلق دنيء، أعطاه الله ما تقتضيه حكمته أصلا وتبعا، ومن لم يكن كذلك، لم يضع أفضل مواهبه، عند من لا يستأهله، ولا يزكو عنده.

وفي هذه الآية، دليل على كمال حكمة الله تعالى، لأنه، وإن كان تعالى رحيما واسع الجود، كثير الإحسان، فإنه حكيم لا يضع جوده إلا عند أهله، ثم توعد المجرمين فقال: ( سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ ) أي: إهانة وذل، كما تكبروا على الحق، أذلهم الله. ( وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ) أي: بسبب مكرهم، لا ظلما منه تعالى.

ابو وليد البحيرى
2019-04-13, 04:22 AM
الحلقة (144)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 125 الى الأية( 131)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى -مبينا لعباده علامة سعادة العبد وهدايته، وعلامة شقاوته وضلاله-: إن من انشرح صدره للإسلام، أي: اتسع وانفسح، فاستنار بنور الإيمان، وحيي بضوء اليقين، فاطمأنت بذلك نفسه، وأحب الخير، وطوعت له نفسه فعله، متلذذا به غير مستثقل، فإن هذا علامة على أن الله قد هداه، ومَنَّ عليه بالتوفيق، وسلوك أقوم الطريق.
وأن علامة من يرد الله أن يضله، أن يجعل صدره ضيقا حرجا. أي: في غاية الضيق عن الإيمان والعلم واليقين، قد انغمس قلبه في الشبهات والشهوات، فلا يصل إليه خير، لا ينشرح قلبه لفعل الخير كأنه من ضيقه وشدته يكاد يصعد في السماء، أي: كأنه يكلف الصعود إلى السماء، الذي لا حيلة له فيه.
وهذا سببه، عدم إيمانهم، هو الذي أوجب أن يجعل الله الرجس عليهم، لأنهم سدوا على أنفسهم باب الرحمة والإحسان، وهذا ميزان لا يعول، وطريق لا يتغير، فإن من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، يسره الله لليسرى، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى، < 1-273 > فسييسره للعسرى.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: معتدلا موصلا إلى الله، وإلى دار كرامته، قد بينت أحكامه، وفصلت شرائعه، وميز الخير من الشر. ولكن هذا التفصيل والبيان، ليس لكل أحد، إنما هو ( لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ) فإنهم الذين علموا، فانتفعوا بعلمهم، وأعد الله لهم الجزاء الجزيل، والأجر الجميل، فلهذا قال: ( لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) وسميت الجنة دار السلام، لسلامتها من كل عيب وآفة وكدر، وهم وغم، وغير ذلك من المنغصات، ويلزم من ذلك، أن يكون نعيمها في غاية الكمال، ونهاية التمام، بحيث لا يقدر على وصفه الواصفون، ولا يتمنى فوقه المتمنون، من نعيم الروح والقلب والبدن، ولهم فيها، ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون.
( وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ) الذي يتولى تدبيرهم وتربيتهم، ولطف بهم في جميع أمورهم، وأعانهم على طاعته، ويسر لهم كل سبب موصل إلى محبته، وإنما تولاهم، بسبب أعمالهم الصالحة، ومقدماتهم التي قصدوا بها رضا مولاهم، بخلاف من أعرض عن مولاه، واتبع هواه، فإنه سلط عليه الشيطان فتولاه، فأفسد عليه دينه ودنياه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُ مْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ) أي: جميع الثقلين، من الإنس والجن، من ضل منهم، ومن أضل غيره، فيقول موبخا للجن الذين أضلوا الإنس، وزينوا لهم الشر، وأزُّوهم إلى المعاصي: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ ) أي: من إضلالهم، وصدهم عن سبيل الله، فكيف أقدمتم على محارمي، وتجرأتم على معاندة رسلي؟ وقمتم محاربين لله، ساعين في صد عباد الله عن سبيله إلى سبيل الجحيم؟
فاليوم حقت عليكم لعنتي، ووجبت لكم نقمتي وسنزيدكم من العذاب بحسب كفركم، وإضلالكم لغيركم. وليس لكم عذر به تعتذرون، ولا ملجأ إليه تلجأون، ولا شافع يشفع ولا دعاء يسمع، فلا تسأل حينئذ عما يحل بهم من النكال، والخزي والوبال، ولهذا لم يذكر الله لهم اعتذارا، وأما أولياؤهم من الإنس، فأبدوا عذرا غير مقبول فقالوا: ( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ) أي: تمتع كل من الجِنّي والإنسي بصاحبه، وانتفع به.
فالجنّي يستمتع بطاعة الإنسي له وعبادته، وتعظيمه، واستعاذته به. والإنسي يستمتع بنيل أغراضه، وبلوغه بسبب خدمة الجِنّي له بعض شهواته، فإن الإنسي يعبد الجِنّي، فيخدمه الجِنّي، ويحصل له منه بعض الحوائج الدنيوية، أي: حصل منا من الذنوب ما حصل، ولا يمكن رد ذلك، ( وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ) أي: وقد وصلنا المحل الذي نجازى فيه بالأعمال، فافعل بنا الآن ما تشاء، واحكم فينا بما تريد، فقد انقطعت حجتنا ولم يبق لنا عذر، والأمر أمرك، والحكم حكمك. وكأن في هذا الكلام منهم نوع تضرع وترقق، ولكن في غير أوانه. ولهذا حكم فيهم بحكمه العادل، الذي لا جور فيه، فقال: ( النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا ) .
ولما كان هذا الحكم من مقتضى حكمته وعلمه، ختم الآية بقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) فكما أن علمه وسع الأشياء كلها وعمّها، فحكمته الغائية شملت الأشياء وعمتها ووسعتها.
( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) أي: وكما ولَّيْنَا الجن المردة وسلطناهم على إضلال أوليائهم من الإنس وعقدنا بينهم عقد الموالاة والموافقة، بسبب كسبهم وسعيهم بذلك.
كذلك من سنتنا أن نولي كل ظالم ظالما مثله، يؤزه إلى الشر ويحثه عليه، ويزهده في الخير وينفره عنه، وذلك من عقوبات الله العظيمة الشنيع أثرها، البليغ خطرها.
والذنب ذنب الظالم، فهو الذي أدخل الضرر على نفسه، وعلى نفسه جنى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ومن ذلك، أن العباد إذا كثر ظلمهم وفسادهم، ومنْعهم الحقوق الواجبة، ولَّى عليهم ظلمة، يسومونهم سوء < 1-274 > العذاب، ويأخذون منهم بالظلم والجور أضعاف ما منعوا من حقوق الله، وحقوق عباده، على وجه غير مأجورين فيه ولا محتسبين.
كما أن العباد إذا صلحوا واستقاموا، أصلح الله رعاتهم، وجعلهم أئمة عدل وإنصاف، لا ولاة ظلم واعتساف. ثم وبخ الله جميع من أعرض عن الحق ورده، من الجن والإنس، وبين خطأهم، فاعترفوا بذلك، فقال:
( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ) الواضحات البينات، التي فيها تفاصيل الأمر والنهي، والخير والشر، والوعد والوعيد.
( وَيُنْذِرُونَكُ مْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ) ويعلمونكم أن النجاة فيه، والفوز إنما هو بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وأن الشقاء والخسران في تضييع ذلك، فأقروا بذلك واعترفوا، فـ ( قالوا ) بلى ( شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) بزينتها وزخرفها، ونعيمها فاطمأنوا بها ورضوا، وألهتهم عن الآخرة، ( وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) فقامت عليهم حجة الله، وعلم حينئذ كل أحد، حتى هم بأنفسهم عدل الله فيهم، فقال لهم: حاكما عليهم بالعذاب الأليم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ادْخُلُوا فِي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg جملة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg صنعوا كصنيعكم، واستمتعوا بخلاقهم كما استمعتم، وخاضوا بالباطل كما خضتم، إنهم كانوا خاسرين، أي: الأولون من هؤلاء والآخرون، وأي خسران أعظم من خسران جنات النعيم، وحرمان جوار أكرم الأكرمين؟! ولكنهم وإن اشتركوا في الخسران، فإنهم يتفاوتون في مقداره تفاوتا عظيما.

ابو وليد البحيرى
2019-04-13, 04:25 AM
الحلقة (145)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 132 الى الأية( 137)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

( وَلِكُلٍّ ) منهم ( دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) بحسب أعمالهم، لا يجعل قليل الشر منهم ككثيره، ولا التابع كالمتبوع، ولا المرءوس كالرئيس، كما أن أهل الثواب والجنة وإن اشتركوا في الربح والفلاح ودخول الجنة، فإن بينهم من الفرق ما لا يعلمه إلا الله، مع أنهم كلهم، قد رضوا بما آتاهم مولاهم، وقنعوا بما حباهم.
فنسأله تعالى أن يجعلنا من أهل الفردوس الأعلى، التي أعدها الله للمقربين من عباده، والمصطفين من خلقه، وأهل الصفوة من أهل وداده.
( وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) فيجازي كلا بحسب علمه، وبما يعلمه من مقصده، وإنما أمر الله العباد بالأعمال الصالحة، ونهاهم عن الأعمال السيئة، رحمة بهم، وقصدا لمصالحهم. وإلا فهو الغني بذاته، عن جميع مخلوقاته، فلا تنفعه طاعة الطائعين، كما لا تضره معصية العاصين.
( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ) بالإهلاك ( وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) فإذا عرفتم بأنكم لا بد أن تنتقلوا من هذه الدار، كما انتقل غيركم، وترحلون منها وتخلونها لمن بعدكم، كما رحل عنها من قبلكم وخلوها لكم، فلم اتخذتموها قرارا؟ وتوطنتم بها ونسيتم، أنها دار ممر لا دار مقر. وأن أمامكم دارًا، هي الدار التي جمعت كل نعيم وسلمت من كل آفة ونقص؟
وهي الدار التي يسعى إليها الأولون والآخرون، ويرتحل نحوها السابقون واللاحقون، التي إذا وصلوها، فثَمَّ الخلود الدائم، والإقامة اللازمة، والغاية التي لا غاية وراءها، والمطلوب الذي ينتهي إليه كل مطلوب، والمرغوب الذي يضمحل دونه كل مرغوب، هنالك والله، ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، ويتنافس فيه المتنافسون، من لذة الأرواح، وكثرة الأفراح، ونعيم الأبدان والقلوب، والقرب من علام الغيوب، فلله همة تعلقت بتلك الكرامات، وإرادة سمت إلى أعلى الدرجات" وما أبخس حظ من رضي بالدون، وأدنى همة من اختار صفقة المغبون" ولا يستبعد المعرض الغافل، سرعة الوصول إلى هذه الدار.فـ ( إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) لله، فارين من عقابه، فإن نواصيكم تحت قبضته، وأنتم تحت تدبيره وتصرفه.
( قُلْ ) يا أيها الرسول لقومك إذا دعوتهم إلى الله، وبينت لهم ما لهم وما عليهم من حقوقه، فامتنعوا من الانقياد لأمره، واتبعوا أهواءهم، واستمروا على شركهم: ( يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) أي: على حالتكم التي أنتم عليها، ورضيتموها لأنفسكم. ( إِنِّي عَامِلٌ ) على أمر الله، ومتبع لمراضي الله. ( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ) أنا أو أنتم، وهذا من الإنصاف بموضع عظيم، حيث بيَّن الأعمال وعامليها، وجعل الجزاء مقرونا بنظر البصير، ضاربا فيه صفحا عن التصريح الذي يغني عنه التلويح. وقد علم أن العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة للمتقين، وأن المؤمنين لهم عقبى الدار، وأن كل معرض عما جاءت به الرسل، عاقبته عاقبة سوء وشر، ولهذا قال: ( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) فكل ظالم، وإن تمتع في الدنيا بما تمتع به،فنهايته [فيه] الاضمحلال والتلف "إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته"
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

يخبر تعالى، عمَّا عليه المشركون المكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم، من سفاهة العقل، وخفة الأحلام، والجهل البليغ، وعدَّد تبارك وتعالى شيئا من خرافاتهم، لينبه بذلك على ضلالهم والحذر منهم، وأن معارضة أمثال هؤلاء السفهاء للحق الذي جاء به الرسول، لا تقدح فيه أصلا فإنهم لا أهلية لهم في مقابلة الحق، فذكر من ذلك أنهم ( جعلوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا ) ولشركائهم من ذلك نصيبا، والحال أن الله تعالى هو الذي ذرأه للعباد، وأوجده رزقا، فجمعوا بين محذورين محظورين، بل ثلاثة محاذير، منَّتهم على الله، في جعلهم له نصيبا، مع اعتقادهم أن ذلك منهم تبرع، وإشراك الشركاء الذين لم يرزقوهم، ولم يوجدوا لهم شيئا في ذلك، وحكمهم الجائر في أن ما كان لله لم يبالوا به، ولم يهتموا، ولو كان واصلا إلى الشركاء، وما كان لشركائهم اعتنوا به واحتفظوا به ولم يصل إلى الله منه شيء، وذلك أنهم إذا حصل لهم -من زروعهم وثمارهم وأنعامهم، التي أوجدها الله لهم- شيء، جعلوه قسمين:
قسمًا قالوا: هذا لله بقولهم وزعمهم، وإلا فالله لا يقبل إلا ما كان خالصا لوجهه، ولا يقبل عمل مَن أشرك به.
وقسمًا جعلوه حصة شركائهم من الأوثان والأنداد.
فإن وصل شيء مما جعلوه لله، واختلط بما جعلوه لغيره، لم يبالوا بذلك، وقالوا: الله غني عنه، فلا يردونه، وإن وصل شيء مما جعلوه لآلهتهم إلى ما جعلوه لله، ردوه إلى محله، وقالوا: إنها فقراء، لا بد من رد نصيبها.
فهل أسوأ من هذا الحكم. وأظلم؟" حيث جعلوا ما للمخلوق، يجتهد فيه وينصح ويحفظ، أكثر مما يفعل بحق الله.
ويحتمل أن تأويل الآية الكريمة، ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن الله تعالى أنه قال: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك معي شيئا تركته وشركه".
وأن معنى الآية أن ما جعلوه وتقربوا به لأوثانهم، فهو تقرب خالص لغير الله، ليس لله منه شيء، وما جعلوه لله -على زعمهم- فإنه لا يصل إليه لكونه شركًا، بل يكون حظ الشركاء والأنداد، لأن الله غني عنه، لا يقبل العمل الذي أُشرِك به معه أحد من الخلق.
ومن سفه المشركين وضلالهم، أنه زيَّن لكثير من المشركين شركاؤهم -أي: رؤساؤهم وشياطينهم- قتل أولادهم، وهو: الوأد، الذين يدفنون أولادهم الذكور خشية الافتقار، والإناث خشية العار.

وكل هذا من خدع الشياطين، الذين يريدون أن يُرْدُوهم بالهلاك، ويلبسوا عليهم دينهم، فيفعلون الأفعال التي في غاية القبح، ولا يزال شركاؤهم يزينونها لهم، حتى تكون عندهم من الأمور الحسنة والخصال المستحسنة، ولو شاء الله أن يمنعهم ويحول بينهم وبين هذه الأفعال، ويمنع أولادهم عن قتل الأبوين لهم، ما فعلوه، ولكن اقتضت حكمته التخلية بينهم وبين أفعالهم،استدراج ا منه لهم، وإمهالا لهم، وعدم مبالاة بما هم عليه، ولهذا قال: ( فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) أي: دعهم مع كذبهم وافترائهم، ولا تحزن عليهم، فإنهم لن يضروا الله شيئا.

ابو وليد البحيرى
2019-04-13, 04:28 AM
الحلقة (146)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 138 الى الأية( 142)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ومن أنواع سفاهتهم أن الأنعام التي أحلها الله لهم عموما، وجعلها رزقا ورحمة، يتمتعون بها وينتفعون، قد اخترعوا فيها بِدعًا وأقوالا من تلقاء أنفسهم، فعندهم اصطلاح في بعض الأنعام [والحرث] أنهم يقولون فيها: ( هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ) أي: محرم ( لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ ) أي: لا يجوز أن يطعمه أحد، إلا من أردنا أن يطعمه، أو وصفناه بوصف -من عندهم-.
وكل هذا بزعمهم لا مستند لهم ولا حجة إلا أهويتهم، وآراؤهم الفاسدة.
وأنعام ليست محرمة من كل وجه، بل يحرمون ظهورها، أي: بالركوب والحمل عليها، ويحمون ظهرها، ويسمونها الحام، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها، بل يذكرون اسم أصنامهم وما كانوا يعبدون من دون الله عليها، وينسبون تلك الأفعال إلى الله، وهم كذبة فُجَّار في ذلك.
( سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) على الله، من إحلال الشرك، وتحريم الحلال من الأكل، والمنافع. < 1-276 >
ومن آرائهم السخيفة أنهم يجعلون بعض الأنعام، ويعينونها –محرما ما في بطنها على الإناث دون الذكور، فيقولون: ( مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا ) أي: حلال لهم، لا يشاركهم فيها النساء، ( وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ) أي: نسائنا، هذا إذا ولد حيا، وإن يكن ما [في] بطنها يولد ميتا، فهم فيه شركاء، أي: فهو حلال للذكور والإناث.
( سَيَجْزِيهِمْ ) الله ( وَصْفَهُمْ ) حين وصفوا ما أحله الله بأنه حرام، ووصفوا الحرام بالحلال، فناقضوا شرع الله وخالفوه، ونسبوا ذلك إلى الله. ( إِنَّهُ حَكِيمٌ ) حيث أمهل لهم، ومكنهم مما هم فيه من الضلال. ( عَلِيمٌ ) بهم، لا تخفى عليه خافية، وهو تعالى يعلم بهم وبما قالوه عليه وافتروه، وهو يعافيهم ويرزقهم جل جلاله.
ثم بين خسرانهم وسفاهة عقولهم فقال: ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ) أي: خسروا دينهم وأولادهم وعقولهم، وصار وصْفُهم -بعد العقول الرزينة- السفه المردي، والضلال.
( وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ) أي: ما جعله رحمة لهم، وساقه رزقا لهم. فردوا كرامة ربهم، ولم يكتفوا بذلك، بل وصفوها بأنها حرام، وهي من أَحَلِّ الحلال.
وكل هذا ( افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ ) أي: كذبا يكذب به كل معاند كَفَّار. ( قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) أي: قد ضلوا ضلالا بعيدا، ولم يكونوا مهتدين في شيء من أمورهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما ذكر تعالى تصرف المشركين في كثير مما أحله الله لهم من الحروث والأنعام، ذكر تبارك وتعالى نعمته عليهم بذلك، ووظيفتهم اللازمة عليهم في الحروث والأنعام فقال: ( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ ) أي: بساتين، فيها أنواع الأشجار المتنوعة، والنباتات المختلفة.
( مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ) أي: بعض تلك الجنات، مجعول لها عرش، تنتشر عليه الأشجار، ويعاونها في النهوض عن الأرض.وبعضها خال من العروش، تنبت على ساق، أو تنفرش في الأرض، وفي هذا تنبيه على كثرة منافعها، وخيراتها، وأنه تعالى، علم العباد كيف يعرشونها، وينمونها.
( وَ ) أنشأ تعالى ( النخل وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ ) أي: كله في محل واحد، ويشرب من ماء واحد، ويفضل الله بعضه على بعض في الأكل.
وخص تعالى النخل والزرع على اختلاف أنواعه لكثرة منافعها، ولكونها هي القوت لأكثر الخلق. ( وَ ) أنشأ تعالى ( الزيتون وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا ) في شجره ( وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ) في ثمره وطعمه. كأنه قيل: لأي شيء أنشأ الله هذه الجنات، وما عطف عليها؟ فأخبر أنه أنشأها لمنافع العباد فقال: ( كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ) أي: النخل والزرع ( إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) أي: أعطوا حق الزرع، وهو الزكاة ذات الأنصباء المقدرة في الشرع، أمرهم أن يعطوها يوم حصادها، وذلك لأن حصاد الزرع بمنزلة حولان الحول، لأنه الوقت الذي تتشوف إليه نفوس الفقراء، ويسهل حينئذ إخراجه على أهل الزرع، ويكون الأمر فيها ظاهرا لمن أخرجها، حتى يتميز المخرج ممن لا يخرج.
وقوله: ( وَلا تُسْرِفُوا ) يعم النهي عن الإسراف في الأكل، وهو مجاوزة الحد والعادة، وأن يأكل صاحب الزرع أكلا يضر بالزكاة، والإسراف في إخراج حق الزرع بحيث يخرج فوق الواجب عليه، ويضر نفسه أو عائلته أوغرماءه، فكل هذا من الإسراف الذي نهى الله عنه، الذي لا يحبه الله بل يبغضه ويمقت عليه.
وفي هذه الآية دليل على وجوب الزكاة في الثمار، وأنه لا حول لها، بل حولها حصادها في الزروع، وجذاذ النخيل، وأنه لا تتكرر فيها الزكاة، لو مكثت عند العبد أحوالا كثيرة، إذا كانت لغير التجارة، لأن الله لم يأمر بالإخراج منه إلا وقت حصاده.
وأنه لو أصابها آفة قبل ذلك بغير تفريط من صاحب الزرع والثمر، أنه لا يضمنها، وأنه يجوز الأكل من النخل والزرع قبل إخراج الزكاة منه، وأنه لا يحسب ذلك من الزكاة، بل يزكي المال الذي يبقى بعده.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يبعث خارصا، يخرص للناس ثمارهم، ويأمره أن يدع لأهلها الثلث، أو الربع، بحسب ما يعتريها من الأكل وغيره، من أهلها، وغيرهم.

< 1-277 >

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( و ) خلق وأنشأ ( من الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ) أي: بعضها تحملون عليه وتركبونه، وبعضها لا تصلح للحمل والركوب عليها لصغرها كالفصلان ونحوها، وهي الفرش، فهي من جهة الحمل والركوب، تنقسم إلى هذين القسمين.
وأما من جهة الأكل وأنواع الانتفاع، فإنها كلها تؤكل وينتفع بها. ولهذا قال: ( كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) أي: طرقه وأعماله التي من جملتها أن تحرموا بعض ما رزقكم الله. ( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) فلا يأمركم إلا بما فيه مضرتكم وشقاؤكم الأبدي.

ابو وليد البحيرى
2019-04-13, 04:31 AM
الحلقة (147)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 143 الى الأية( 146)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .


وهذه الأنعام التي امتن الله بها على عباده، وجعلها كلها حلالا طيبا، فصلها بأنها: ( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ) ذكر وأنثى ( وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ) كذلك، فهذه أربعة، كلها داخلة فيما أحل الله، لا فرق بين شيء منها، فقل لهؤلاء المتكلفين، الذين يحرمون منها شيئا دون شيء، أو يحرمون بعضها على الإناث دون الذكور، ملزما لهم بعدم وجود الفرق بين ما أباحوا منها وحرموا: ( آلذَّكَرَيْنِ ) من الضأن والمعز ( حَرَّمَ ) الله، فلستم تقولون بذلك وتطردونه، ( أَمِ الأنْثَيَيْنِ ) حرم الله من الضأن والمعز، فليس هذا قولكم، لا تحريم الذكور الخلص، ولا الإناث الخلص من الصنفين.
بقي إذا كان الرحم مشتملا على ذكر وأنثى، أو على مجهول فقال: ( أَمْ ) تحرمون ( ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ ) أي: أنثى الضأن وأنثى المعز، من غير فرق بين ذكر وأنثى، فلستم تقولون أيضا بهذا القول.
فإذا كنتم لا تقولون بأحد هذه الأقوال الثلاثة، التي حصرت الأقسام الممكنة في ذلك، فإلى أي شيء تذهبون؟.
( نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) في قولكم ودعواكم، ومن المعلوم أنهم لا يمكنهم أن يقولوا قولا سائغا في العقل، إلا واحدا من هذه الأمور الثلاثة. وهم لا يقولون بشيء منها. إنما يقولون: إن بعض الأنعام التي يصطلحون عليها اصطلاحات من عند أنفسهم، حرام على الإناث دون الذكور، أو محرمة في وقت من الأوقات، أو نحو ذلك من الأقوال، التي يعلم علما لا شك فيه أن مصدرها من الجهل المركب، والعقول المختلة المنحرفة، والآراء الفاسدة، وأن الله، ما أنزل –بما قالوه- من سلطان، ولا لهم عليه حجة ولا برهان.
ثم ذكر في الإبل والبقر مثل ذلك. فلما بين بطلان قولهم وفساده، قال لهم قولا لا حيلة لهم في الخروج من تبعته، إلا في اتباع شرع الله. ( أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ ) أي: لم يبق عليكم إلا دعوى، لا سبيل لكم إلى صدقها وصحتها. وهي أن تقولوا: إن الله وصَّانا بذلك، وأوحى إلينا كما أوحى إلى رسله، بل أوحى إلينا وحيا مخالفا لما دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب، وهذا افتراء لا يجهله أحد، ولهذا قال: ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) أي: مع كذبه وافترائه على الله، قصده بذلك إضلال عباد الله عن سبيل الله، بغير بينة منه ولا برهان، ولا عقل ولا نقل. ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الذين لا إرادة لهم في غير الظلم والجور، والافتراء على الله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما ذكر تعالى ذم المشركين على ما حرموا من الحلال ونسبوه إلى الله، وأبطل قولهم. أمر تعالى رسوله أن يبين للناس ما حرمه الله عليهم، ليعلموا أن ما عدا ذلك حلال، مَنْ نسب تحريمه إلى الله فهو كاذب مبطل، لأن التحريم لا يكون إلا من عند الله على لسان رسوله، وقد قال لرسوله: ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ ) أي: محرما أكله، بقطع النظر عن تحريم الانتفاع بغير الأكل وعدمه.
( إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ) والميتة: ما مات بغير ذكاة شرعية، فإن ذلك لا يحل. كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ) وهو الدم الذي يخرج من الذبيحة عند ذكاتها، فإنه الدم الذي يضر احتباسه في البدن، فإذا خرج من البدن زال الضرر بأكل اللحم، ومفهوم هذا اللفظ، أن الدم الذي يبقى في اللحم والعروق بعد الذبح، أنه حلال طاهر.
( أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) أي: فإن هذه الأشياء الثلاثة، رجس، أي: خبث نجس مضر، حرمه الله لطفا بكم، ونزاهة لكم عن مقاربة الخبائث.
( أَوْ ) إلا أن يكون ( فسقا أهل لغير الله به ) أي: إلا أن تكون الذبيحة مذبوحة لغير الله، من الأوثان والآلهة التي يعبدها المشركون، فإن هذا من الفسق الذي هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته، أي: ومع هذا، فهذه الأشياء المحرمات، من اضطر إليها، أي: حملته الحاجة والضرورة إلى أكل < 1-278 > شيء منها، بأن لم يكن عنده شيء وخاف على نفسه التلف. ( غَيْرَ بَاغٍ ولا عاد ) أي: ( غَيْرَ بَاغٍ ) أي: مريدٍ لأكلها من غير اضطرار وَلا متعد، أي: متجاوز للحد، بأن يأكل زيادة عن حاجته. ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي: فالله قد سامح من كان بهذه الحال.
واختلف العلماء رحمهم الله في هذا الحصر المذكور في هذه الآية، مع أن ثَمَّ محرمات لم تذكر فيها، كالسباع وكل ذي مخلب من الطير ونحو ذلك، فقال بعضهم: إن هذه الآية نازلة قبل تحريم ما زاد على ما ذكر فيها، فلا ينافي هذا الحصر المذكور فيها التحريم المتأخر بعد ذلك؛ لأنه لم يجده فيما أوحي إليه في ذلك الوقت، وقال بعضهم: إن هذه الآية مشتملة على سائر المحرمات، بعضها صريحا، وبعضها يؤخذ من المعنى وعموم العلة.
فإن قوله تعالى في تعليل الميتة والدم ولحم الخنزير، أو الأخير منها فقط: ( فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) وصف شامل لكل محرم، فإن المحرمات كلها رجس وخبث، وهي من الخبائث المستقذرة التي حرمها الله على عباده، صيانة لهم، وتكرمة عن مباشرة الخبيث الرجس.
ويؤخذ تفاصيل الرجس المحرم من السُّنَّة، فإنها تفسر القرآن، وتبين المقصود منه، فإذا كان الله تعالى لم يحرم من المطاعم إلا ما ذكر، والتحريم لا يكون مصدره، إلا شرع الله -دل ذلك على أن المشركين، الذين حرموا ما رزقهم الله مفترون على الله، متقولون عليه ما لم يقل.
وفي الآية احتمال قوي، لولا أن الله ذكر فيها الخنزير، وهو: أن السياق في نقض أقوال المشركين المتقدمة، في تحريمهم لما أحله الله وخوضهم بذلك، بحسب ما سولت لهم أنفسهم، وذلك في بهيمة الأنعام خاصة، وليس منها محرم إلا ما ذكر في الآية: الميتة منها، وما أهل لغير الله به، وما سوى ذلك فحلال.
ولعل مناسبة ذكر الخنزير هنا على هذا الاحتمال، أن بعض الجهال قد يدخله في بهيمة الأنعام، وأنه نوع من أنواع الغنم، كما قد يتوهمه جهلة النصارى وأشباههم، فينمونها كما ينمون المواشي، ويستحلونها، ولا يفرقون بينها وبين الأنعام، فهذا المحرم على هذه الأمة كله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg من باب التنزيه لهم والصيانة.
وأما ما حرم على أهل الكتاب، فبعضه طيب ولكنه حرم عليهم عقوبة لهم، ولهذا قال: ( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ) وذلك كالإبل، وما أشبهها ( وَ ) حرمنا عليهم ( وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ) بعض أجزائها، وهو: ( شُحُومَهُمَا ) وليس المحرم جميع الشحوم منها، بل شحم الألية والثرب، ولهذا استثنى الشحم الحلال من ذلك فقال: ( إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا ) أي: الشحم المخالط للأمعاء ( أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ) .

( ذَلِكَ ) التحريم على اليهود ( جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ ) أي: ظلمهم وتعديهم في حقوق الله وحقوق عباده، فحرم الله عليهم هذه الأشياء عقوبة لهم ونكالا. ( وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) في كل ما نقول ونفعل ونحكم به، ومن أصدق من الله حديثا، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون.

ابو وليد البحيرى
2019-04-13, 04:34 AM
الحلقة (148)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 147 الى الأية( 151)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: فإن كذبك هؤلاء المشركون، فاستمر على دعوتهم، بالترغيب والترهيب،وأخبره م بأن الله ( ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ) أي: عامة شاملة [لجميع] المخلوقات كلها، فسارعوا إلى رحمته بأسبابها، التي رأسها وأسها ومادتها، تصديق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به.

( وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) أي: الذين كثر إجرامهم وذنوبهم.فاحذروا الجرائم الموصلة لبأس الله، التي أعظمها ورأسها تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا إخبار من الله أن المشركين سيحتجون على شركهم وتحريمهم ما أحل الله، بالقضاء والقدر، ويجعلون مشيئة الله الشاملة لكل شيء من الخير والشر حجة لهم في دفع اللوم عنهم.
وقد قالوا ما أخبر الله أنهم سيقولونه، كما قال في الآية الأخرى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآية.
فأخبر تعالى أن هذه الحجة، لم تزل الأمم المكذبة تدفع بها عنهم دعوة الرسل، ويحتجون بها، فلم تجد فيهم شيئا ولم تنفعهم، فلم يزل هذا دأبهم حتى أهكلهم الله، وأذاقهم بأسه.
فلو كانت حجة صحيحة، لدفعت عنهم العقاب، ولما أحل الله بهم العذاب، لأنه لا يحل بأسه إلا بمن استحقه، فعلم أنها حجة فاسدة، وشبهة كاسدة، من عدة أوجه:
منها: ما ذكر الله من أنها لو كانت صحيحة، لم تحل بهم العقوبة.
ومنها: أن الحجة، لا بد أن تكون حجة مستندة إلى العلم والبرهان، فأما إذا كانت مستندة إلى مجرد الظن والخرص، الذي لا يغني من الحق شيئا، فإنها باطلة، ولهذا قال: ( قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ) فلو كان لهم علم -وهم خصوم ألداء- لأخرجوه، فلما لم يخرجوه علم أنه لا علم عندهم. ( إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ ) ومَنْ بنى حججه على الخرص والظن، فهو مبطل < 1-279 > خاسر، فكيف إذا بناها على البغي والعناد والشر والفساد؟
ومنها: أن الحجة لله البالغة، التي لم تبق لأحد عذرا، التي اتفقت عليها الأنبياء والمرسلون، والكتب الإلهية، والآثار النبوية، والعقول الصحيحة، والفطر المستقيمة، والأخلاق القويمة، فعلم بذلك أن كل ما خالف هذه الأدلة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg القاطعة باطل، لأن نقيض الحق، لا يكون إلا باطلا.
ومنها: أن الله تعالى أعطى كل مخلوق قدرة، وإرادة، يتمكن بها من فعل ما كلف به، فلا أوجب الله على أحد ما لا يقدر على فعله، ولا حرم على أحد ما لا يتمكن من تركه، فالاحتجاج بعد هذا بالقضاء والقدر، ظلم محض وعناد صرف.
ومنها: أن الله تعالى لم يجبر العباد على أفعالهم، بل جعل أفعالهم تبعا لاختيارهم، فإن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا كفوا. وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من كابر، وأنكر المحسوسات، فإن كل أحد يفرق بين الحركة الاختيارية والحركة القسرية، وإن كان الجميع داخلا في مشيئة الله، ومندرجا تحت إرادته.
ومنها: أن المحتجين على المعاصي بالقضاء والقدر يتناقضون في ذلك. فإنهم لا يمكنهم أن يطردوا ذلك، بل لو أساء إليهم مسيء بضرب أو أخذ مال أو نحو ذلك، واحتج بالقضاء والقدر لما قبلوا منه هذا الاحتجاج، ولغضبوا من ذلك أشد الغضب.

فيا عجبا كيف يحتجون به على معاصي الله ومساخطه. ولا يرضون من أحد أن يحتج به في مقابلة مساخطهم؟"
ومنها: أن احتجاجهم بالقضاء والقدر ليس مقصودا، ويعلمون أنه ليس بحجة،وإنما المقصود منه دفع الحق، ويرون أن الحق بمنزلة الصائل، فهم يدفعونه بكل ما يخطر ببالهم من الكلام وإن كانوا يعتقدونه خطأ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: قل لمن حرَّم ما أحل الله، ونسب ذلك إلى الله: أحْضِروا شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا، فإذا قيل لهم هذا الكلام، فهم بين أمرين:
إما: أن لا يحضروا أحدا يشهد بهذا، فتكون دعواهم إذًا باطلة، خلية من الشهود والبرهان.
وإما: أن يحضروا أحدا يشهد لهم بذلك، ولا يمكن أن يشهد بهذا إلا كل أفاك أثيم غير مقبول الشهادة، وليس هذا من الأمور التي يصح أن يشهد بها العدول؛ ولهذا قال تعالى –ناهيا نبيه، وأتباعه عن هذه الشهادة-: ( فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) أي: يسوون به غيره من الأنداد والأوثان.
فإذا كانوا كافرين باليوم الآخر غير موحدين لله، كانت أهويتهم مناسبة لعقيدتهم، وكانت دائرة بين الشرك والتكذيب بالحق، فحري بهوى هذا شأنه،أن ينهى الله خيار خلقه عن اتباعه، وعن الشهادة مع أربابه، وعلم حينئذ أن تحريمهم لما أحل الله صادر عن تلك الأهواء المضلة.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ ) لهؤلاء الذين حرموا ما أحل الله. ( تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) تحريما عاما شاملا لكل أحد، محتويا على سائر المحرمات، من المآكل والمشارب والأقوال والأفعال. ( أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) أي: لا قليلا ولا كثيرا.
وحقيقة الشرك بالله: أن يعبد المخلوق كما يعبد الله، أو يعظم كما يعظم الله، أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية، وإذا ترك العبد الشرك كله صار موحدا، مخلصا لله في جميع أحواله، فهذا حق الله على عباده، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.
ثم بدأ بآكد الحقوق بعد حقه فقال: ( وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا ) من الأقوال الكريمة الحسنة، والأفعال الجميلة المستحسنة، فكل قول وفعل يحصل به منفعة للوالدين أو سرور لهما، فإن ذلك من الإحسان، وإذا وجد الإحسان انتفى العقوق.
( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ ) من ذكور وإناث ( مِنْ إِمْلاقٍ ) أي: بسبب الفقر وضيقكم من رزقهم، كما كان ذلك موجودا في الجاهلية القاسية الظالمة، وإذا كانوا منهيين عن قتلهم في هذه الحال، وهم أولادهم، فنهيهم عن قتلهم لغير موجب، أو قتل أولاد غيرهم، من باب أولى وأحرى.
( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) أي: قد تكفلنا برزق الجميع، فلستم الذين ترزقون أولادكم، بل ولا أنفسكم، فليس عليكم منهم ضيق. ( وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ ) وهي:الذنوب العظام المستفحشة، ( مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) < 1-280 > أي: لا تقربوا الظاهر منها والخفي، أو المتعلق منها بالظاهر، والمتعلق بالقلب والباطن.

والنهي عن قربان الفواحش أبلغ من النهي عن مجرد فعلها، فإنه يتناول النهي عن مقدماتها ووسائلها الموصلة إليها.
( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ) وهي: النفس المسلمة، من ذكر وأنثى، صغير وكبير، بر وفاجر، والكافرة التي قد عصمت بالعهد والميثاق. ( إِلا بِالْحَقِّ ) كالزاني المحصن، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.
( ذَلِكُمْ ) المذكور ( وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) عن الله وصيته، ثم تحفظونها، ثم تراعونها وتقومون بها. ودلت الآية على أنه بحسب عقل العبد يكون قيامه بما أمر الله به.

ابو وليد البحيرى
2019-04-13, 04:37 AM
الحلقة (149)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 151 الى الأية(157)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ ) بأكل، أو معاوضة على وجه المحاباة لأنفسكم، أو أخذ من غير سبب. ( إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أي: إلا بالحال التي تصلح بها أموالهم، وينتفعون بها. فدل هذا على أنه لا يجوز قربانها، والتصرف بها على وجه يضر اليتامى، أو على وجه لا مضرة فيه ولا مصلحة، ( حَتَّى يَبْلُغَ ) اليتيم ( أَشُدَّه ) أي: حتى يبلغ ويرشد، ويعرف التصرف، فإذا بلغ أشده، أُعطي حينئذ مالُه، وتصرف فيه على نظره.
وفي هذا دلالة على أن اليتيم -قبل بلوغ الأشُد- محجور عليه، وأن وليه يتصرف في ماله بالأحظ، وأن هذا الحجر ينتهي ببلوغ الأشُد.
( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ) أي: بالعدل والوفاء التام، فإذا اجتهدتم في ذلك، فـ ( لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) أي: بقدر ما تسعه، ولا تضيق عنه. فمَن حرَص على الإيفاء في الكيل والوزن، ثم حصل منه تقصير لم يفرط فيه، ولم يعلمه، فإن الله عفو غفور http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg .
وبهذه الآية ونحوها استدل الأصوليون، بأن الله لا يكلف أحدا ما لا يطيق، وعلى أن من اتقى الله فيما أمر، وفعل ما يمكنه من ذلك، فلا حرج عليه فيما سوى ذلك.
( وَإِذَا قُلْتُمْ ) قولا تحكمون به بين الناس، وتفصلون بينهم الخطاب، وتتكلمون به على المقالات والأحوال ( فَاعْدِلُوا ) في قولكم، بمراعاة الصدق في من تحبون ومن تكرهون، والإنصاف، وعدم كتمان ما يلزم بيانه، فإن الميل على من تكره بالكلام فيه أو في مقالته من الظلم المحرم.
بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع، فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، وأن يبين ما فيها من الحق والباطل، ويعتبر قربها من الحق وبُعدها منه.
وذكر الفقهاء أن القاضي يجب عليه العدل بين الخصمين، في لحظه ولفظه. ( وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ) وهذا يشمل العهد الذي عاهده عليه العباد من القيام بحقوقه والوفاء بها، ومن العهد الذي يقع التعاهد به بين الخلق. فالجميع يجب الوفاء به، ويحرم نقضه والإخلال به.
( ذَلِكُمْ ) الأحكام المذكورة ( وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ما بينه لكم من الأحكام،وتقومون بوصية الله لكم حق القيام، وتعرفون ما فيها، من الحكم والأحكام.
ولما بين كثيرا من الأوامر الكبار، والشرائع المهمة، أشار إليها وإلى ما هو أعم منها فقال: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا ) أي: هذه الأحكام وما أشبهها، مما بينه الله في كتابه، ووضحه لعباده، صراط الله الموصل إليه، وإلى دار كرامته، المعتدل السهل المختصر.
( فَاتَّبِعُوهُ ) لتنالوا الفوز والفلاح، وتدركوا الآمال والأفراح. ( وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ) أي: الطرق المخالفة لهذا الطريق ( فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) أي: تضلكم عنه وتفرقكم يمينا وشمالا فإذا ضللتم عن الصراط المستقيم، فليس ثم إلا طرق توصل إلى الجحيم.
( ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) فإنكم إذا قمتم بما بينه الله لكم علما وعملا صرتم من المتقين، وعباد الله المفلحين، ووحد الصراط وأضافه إليه لأنه سبيل واحد موصل إليه، والله هو المعين للسالكين على سلوكه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

( ثُمَّ ) في هذا الموضع، ليس المراد منها الترتيب الزماني، فإن زمن موسى عليه السلام، متقدم على تلاوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب، وإنما المراد الترتيب الإخباري. فأخبر أنه آتى ( مُوسَى الْكِتَابَ ) وهو التوراة ( تَمَامًا ) لنعمته، وكمالا لإحسانه. ( عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) من أُمة موسى، فإن الله أنعم على المحسنين منهم بنِعَم لا تحصى. من جملتها وتمامها إنزال التوراة عليهم. فتمت عليهم نعمة الله، ووجب عليهم القيام بشكرها.
( وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ ) يحتاجون إلى تفصيله، من الحلال والحرام، والأمر والنهي، والعقائد ونحوها. ( وَهُدًى وَرَحْمَةً ) أي: يهديهم إلى الخير، ويعرفهم بالشر، في الأصول والفروع. ( وَرَحْمَة ) يحصل به لهم السعادة والرحمة والخير الكثير. ( لَعَلَّهُمْ ) بسبب إنزالنا الكتاب والبينات عليهم ( بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) فإنه اشتمل من الأدلة القاطعة على البعث والجزاء بالأعمال، ما يوجب لهم الإيمان بلقاء ربهم والاستعداد له.
( وَهَذَا ) القرآن العظيم، والذكر الحكيم. ( كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) أي: فيه الخير الكثير والعلم الغزير، وهو الذي تستمد منه سائر العلوم، وتستخرج منه البركات، فما من خير إلا وقد دعا إليه ورغب فيه، وذكر الحكم والمصالح التي تحث عليه، وما من شر إلا وقد نهى عنه وحذر منه، وذكر الأسباب المنفرة عن فعله وعواقبها الوخيمة ( فَاتَّبِعُوهُ ) فيما يأمر به وينهى، وابنوا أصول دينكم وفروعه عليه ( وَاتَّقُوا ) الله تعالى أن تخالفوا له أمرا ( لَعَلَّكُمْ ) إن اتبعتموه ( تُرْحَمُونَ ) فأكبر سبب لنيل رحمة الله اتباع هذا الكتاب، علما وعملا.
( أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ) أي: أنزلنا إليكم هذا الكتاب المبارك قطعا لحجتكم، وخشية أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، أي: اليهود والنصارى.
( وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ) أي: تقولون لَمْ تنزل علينا كتابا، والكتب التي أنزلتها على الطائفتين ليس لنا بها علم ولا معرفة، فأنزلنا إليكم كتابا، لم ينزل من السماء كتاب أجمع ولا أوضح ولا أبين منه.
( أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ ) أي: إما أن تعتذروا بعدم وصول أصل الهداية إليكم، وإما أن تعتذروا، بـ[عدم] كمالها وتمامها، فحصل لكم بكتابكم أصل الهداية وكمالها، ولهذا قال: ( فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) وهذا اسم جنس، يدخل فيه كل ما يبين الحق ( وَهُدًى ) من الضلالة ( وَرَحْمَةٌ ) أي:سعادة لكم في دينكم ودنياكم، فهذا يوجب لكم الانقياد لأحكامه والإيمان بأخباره، وأن من لم يرفع به رأسا وكذب به، فإنه أظلم الظالمين، ولهذا قال: ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا ) أي: أعرض ونأى بجانبه.
( سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ ) أي: العذاب الذي يسوء صاحبه ويشق عليه. ( بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ) لأنفسهم ولغيرهم، جزاء لهم على عملهم السيء http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
وفي هذه الآيات دليل على أن علم القرآن أجل العلوم وأبركها وأوسعها، وأنه به تحصل الهداية إلى الصراط المستقيم، هداية تامة لا يحتاج معها إلى تخرص المتكلمين، ولا إلى أفكار المتفلسفين، ولا لغير ذلك من علوم الأولين والآخرين.
وأن المعروف أنه لم ينزل جنس الكتاب إلا على الطائفتين، [من] اليهود والنصارى، فهم أهل الكتاب عند الإطلاق، لا يدخل فيهم سائر الطوائف، لا المجوس ولا غيرهم.
وفيه: ما كان عليه الجاهلية قبل نزول القرآن، من الجهل العظيم وعدم العلم بما عند أهل الكتاب، الذين عندهم مادة العلم، وغفلتهم عن دراسة كتبهم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-13, 04:40 AM
الحلقة (150)
تفسير السعدى
فففسورة الانعامققق
من الأية( 158 الى الأية(165)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنعام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: هل ينظر هؤلاء الذين استمر ظلمهم وعنادهم، ( إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ ) مقدمات العذاب، ومقدمات الآخرة بأن تأتيهم ( الْمَلائِكَة ) لقبض أرواحهم، فإنهم إذا وصلوا إلى تلك الحال، لم ينفعهم الإيمان ولا صالح الأعمال. ( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ) لفصل القضاء بين العباد، ومجازاة المحسنين والمسيئين. ( أَوْ يَأْتِي َبَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ) الدالة على قرب الساعة.
( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ) الخارقة للعادة، التي يعلم بها أن الساعة قد دنت، وأن القيامة قد اقتربت. ( لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ) أي: إذا وجد بعض آيات الله لم ينفع الكافر إيمانه أن آمن، ولا المؤمنَ المقصر أن يزداد خيرُه بعد ذلك، بل ينفعه ما كان معه من الإيمان قبل ذلك، وما كان له من الخير المرجوِّ قبل أن يأتي بعض الآيات.
والحكمة في هذا ظاهرة، فإنه إنما كان الإيمان ينفع إذا كان إيمانا بالغيب، وكان اختيارا من العبد، فأما إذا وجدت الآيات صار الأمر شهادة، ولم يبق للإيمان فائدة، لأنه يشبه الإيمان الضروري، كإيمان الغريق والحريق ونحوهما، ممن إذا رأى الموت، أقلع عما هو فيه كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg < 1-282 > .
وقد تكاثرت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد ببعض آيات الله طلوع الشمس من مغربها وأن الناس إذا رأوها آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم ويُغلق حينئذ بابُ التوبة.
ولما كان هذا وعيدا للمكذبين بالرسول صلى الله عليه وسلم منتظرا وهم ينتظرون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه قوارع الدهر ومصائب الأمور قال ( قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) فستعلمون أينا أحق بالأمن.
وفي هذه الآية دليل لمذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الأفعال الاختيارية لله تعالى كالاستواء والنزول والإتيان لله تبارك وتعالى من غير تشبيه له بصفات المخلوقين.
وفي الكتاب والسنة من هذا شيء كثير وفيه أن من جملة أشراط الساعة طلوع الشمس من مغربها وأن الله تعالى حكيم قد جرت عادته وسنته أن الإيمان إنما ينفع إذا كان اختياريا لا اضطراريا كما تقدم.
وأن الإنسان يكتسب الخير بإيمانه فالطاعة والبر والتقوى إنما تنفع وتنمو إذا كان مع العبد الإيمان فإذا خلا القلب من الإيمان لم ينفعه شيء من ذلك.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يتوعد تعالى الذين فرقوا دينهم، أي: شتتوه وتفرقوا فيه، وكلٌّ أخذ لنفسه نصيبا من الأسماء التي لا تفيد الإنسان في دينه شيئا، كاليهودية والنصرانية والمجوسية. أو لا يكمل بها إيمانه، بأن يأخذ من الشريعة شيئا ويجعله دينه، ويدع مثله، أو ما هو أولى منه، كما هو حال أهل الفرقة من أهل البدع والضلال والمفرقين للأمة.
ودلت الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التفرق والاختلاف في أهل الدين، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية.
وأمره أن يتبرأ ممن فرقوا دينهم فقال: ( لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) أي لست منهم وليسوا منك، لأنهم خالفوك وعاندوك. ( إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ) يردون إليه فيجازيهم بأعمالهم ( ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) .
ثم ذكر صفة الجزاء فقال: ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ ) القولية والفعلية، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله أو حق خلقه ( فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) هذا أقل ما يكون من التضعيف.
( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا ) وهذا من تمام عدله تعالى وإحسانه، وأنه لا يظلم مثقال ذرة، ولهذا قال: ( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يقول ويعلن بما هو عليه من الهداية إلى الصراط المستقيم: الدين المعتدل المتضمن للعقائد النافعة، والأعمال الصالحة، والأمر بكل حسن، والنهي عن كل قبيح، الذي عليه الأنبياء والمرسلون، خصوصا إمام الحنفاء، ووالد من بعث من بعد موته من الأنبياء، خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو الدين الحنيف المائل عن كل دين غير مستقيم، من أديان أهل الانحراف، كاليهود والنصارى والمشركين.
وهذا عموم، ثم خصص من ذلك أشرف العبادات فقال: ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ) أي: ذبحي، وذلك لشرف هاتين العبادتين وفضلهما، ودلالتهما على محبة الله تعالى، وإخلاص الدين له، والتقرب إليه بالقلب واللسان والجوارح، وبالذبح الذي هو بذل ما تحبه النفس من المال، لما هو أحب إليها وهو الله تعالى.
ومن أخلص في صلاته ونسكه، استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله. وقوله: ( وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي ) أي: ما آتيه في حياتي، وما يجريه الله عليَّ، وما يقدر عليَّ في مماتي، الجميع ( لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( لا شَرِيكَ لَهُ ) في العبادة، كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير، وليس هذا الإخلاص لله ابتداعا مني، وبدعا أتيته من تلقاء نفسي، بل ( بِذَلِكَ أُمِرْتُ ) أمرا حتما، لا أخرج من التبعة إلا بامتثاله ( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) من هذه الأمة.
( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ ) من المخلوقين ( أَبْغِي رَبًّا ) أي: يحسن ذلك ويليق بي، أن أتخذ غيره، مربيا ومدبرا والله رب كل شيء، فالخلق كلهم داخلون تحت ربوبيته، منقادون لأمره؟".
فتعين علي وعلى غيري، أن يتخذ الله ربا، ويرضى به، وألا يتعلق بأحد من المربوبين الفقراء العاجزين.
ثم رغب ورهب بذكر http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الجزاء فقال: ( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ) من خير وشر ( إِلا عَلَيْهَا ) كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) بل كل عليه وزر نفسه، وإن كان أحد قد تسبب في ضلال غيره ووزره، فإن عليه وزر التسبب من غير أن ينقص من وزر المباشر شيء.
( ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ ) يوم < 1-283 > القيامة ( فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) من خير وشر، ويجازيكم على ذلك أوفى الجزاء.
( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ ) أي: يخلف بعضكم بعضا، واستخلفكم الله في الأرض، وسخَّر لكم جميع ما فيها، وابتلاكم، لينظر كيف تعملون.
( وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ) في القوة والعافية، والرزق والخَلْق والخُلُق. ( لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ ) فتفاوتت أعمالكم. ( إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ ) لمن عصاه وكذّب بآياته ( وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) لمن آمن به وعمل صالحا، وتاب من الموبقات.

آخر تفسير سورة الأنعام، فلله الحمد والثناء وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين] http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg .
المجلد الثالث من تيسير الرحمن في تفسير القرآن لجامعه الفقير إلى الله: عبد الرحمن بن ناصر السعدي.

ابو وليد البحيرى
2019-04-13, 04:46 AM
الحلقة (151)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(1) الى الأية(11)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية


بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الأعراف
مكية



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مبينا له عظمة القرآن: ( كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ ) أي: كتاب جليل حوى كل ما يحتاج إليه العباد، وجميع المطالب الإلهية، والمقاصد الشرعية، محكما مفصلا ( فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ) أي: ضيق وشك واشتباه، بل لتعلم أنه تنزيل من حكيم حميد ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) وأنه أصدق الكلام فلينشرح له صدرك، ولتطمئن به نفسك، ولتصدع بأوامره ونواهيه، ولا تخش لائما ومعارضا.
( لِتُنْذِرَ بِهِ ) الخلق، فتعظهم وتذكرهم، فتقوم الحجة على المعاندين.
( و ) ليكون ( َذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg يتذكرون به الصراط المستقيم، وأعماله الظاهرة والباطنة، وما يحول بين العبد، وبين سلوكه.
ثم خاطب اللّه العباد، وألفتهم إلى الكتاب فقال: ( اتَّبِعُوا مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي: الكتاب الذي أريد إنزاله لأجلكم، وهو: ( مِنْ رَبِّكُمْ ) الذي يريد أن يتم تربيته لكم، فأنزل عليكم هذا الكتاب الذي، إن اتبعتموه، كملت تربيتكم، وتمت عليكم النعمة، وهديتم لأحسن الأعمال والأخلاق ومعاليها ( وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ) أي: تتولونهم، وتتبعون أهواءهم، وتتركون لأجلها الحق.
( قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ) فلو تذكرتم وعرفتم المصلحة، لما آثرتم الضار على النافع، والعدو على الوليِّ.
ثم حذرهم عقوباته للأمم الذين كذبوا ما جاءتهم به رسلهم، لئلا يشابهوهم فقال: ( وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا ) أي: عذابنا الشديد ( بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ) أي: في حين غفلتهم، وعلى غرتهم غافلون، لم يخطر الهلاك على قلوبهم. فحين جاءهم العذاب لم يدفعوه عن أنفسهم، ولا أغنت عنهم آلهتهم التي كانوا يرجونهم، ولا أنكروا ما كانوا يفعلونه من الظلم والمعاصي.
( فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وقوله ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ) أي لنسألن الأمم الذين أرسل اللّه إليهم المرسلين عما أجابوا به رسلهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآيات .
( وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) عن تبليغهم لرسالات ربهم وعما أجابتهم به أممهم .
( فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ ) أي على الخلق كلهم ما عملوا ( بِعِلْمٍ ) منه تعالى لأعمالهم ( وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ) في وقت من الأوقات كما قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وقال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ثم ذكر الجزاء على الأعمال، فقال: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ ) أي: والوزن يوم القيامة يكون بالعدل والقسط، الذي لا جور < 1-284 > فيه ولا ظلم بوجه.
( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) بأن رجحت كفة حسناته على سيئاته ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي: الناجون من المكروه، المدركون للمحبوب، الذين حصل لهم الربح العظيم، والسعادة الدائمة.
( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ) بأن رجحت سيئاته، وصار الحكم لها، ( فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) إذ فاتهم النعيم المقيم، وحصل لهم العذاب الأليم ( بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) فلم ينقادوا لها كما يجب عليهم ذلك.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (10) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى ممتنا على عباده بذكر المسكن والمعيشة: ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ ) أي: هيأناها لكم، بحيث تتمكنون من البناء عليها وحرثها، ووجوه الانتفاع بها ( وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ) مما يخرج من الأشجار والنبات، ومعادن الأرض، وأنواع الصنائع والتجارات، فإنه هو الذي هيأها، وسخر أسبابها.

( قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ) اللّه، الذي أنعم عليكم بأصناف النعم، وصرف عنكم النقم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى مخاطبا لبني آدم: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ) بخلق أصلكم ومادتكم التي منها خرجتم: أبيكم آدم عليه السلام ( ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ) في أحسن صورة، وأحسن تقويم، وعلمه الله تعالى ما به تكمل صورته الباطنة، أسماء كل شيء.
ثم أمر الملائكة الكرام أن يسجدوا لآدم، إكراما واحتراما، وإظهارا لفضله، فامتثلوا أمر ربهم، ( فَسَجَدُوا ) كلهم أجمعون ( إِلا إِبْلِيسَ ) أبى أن يسجد له، تكبرا عليه وإعجابا بنفسه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-13, 04:49 AM
الحلقة (152)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(12) الى الأية(22)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

فوبخه اللّه على ذلك وقال: ( مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ ) لما خلقت بيديَّ، أي: شرفته وفضلته بهذه الفضيلة، التي لم تكن لغيره، فعصيت أمري وتهاونت بي؟
( قَالَ ) إبليس معارضا لربه: ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ) ثم برهن على هذه الدعوى الباطلة بقوله: ( خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) .
وموجب هذا أن المخلوق من نار أفضل من المخلوق من طين لعلو النار على الطين وصعودها، وهذا القياس من أفسد الأقيسة، فإنه باطل من عدة أوجه:
منها: أنه في مقابلة أمر اللّه له بالسجود، والقياس إذا عارض النص، فإنه قياس باطل، لأن المقصود بالقياس، أن يكون الحكم الذي لم يأت فيه نص، يقارب الأمور المنصوص عليها، ويكون تابعا لها.
فأما قياس يعارضها، ويلزم من اعتباره إلغاءُ النصوص، فهذا القياس من أشنع الأقيسة.
ومنها: أن قوله: ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ) بمجردها كافية لنقص إبليس الخبيث. فإنه برهن على نقصه بإعجابه بنفسه وتكبره، والقول على اللّه بلا علم. وأي نقص أعظم من هذا؟
ومنها: أنه كذب في تفضيل مادة النار على مادة الطين والتراب، فإن مادة الطين فيها الخشوع والسكون والرزانة، ومنها تظهر بركات الأرض من الأشجار وأنواع النبات، على اختلاف أجناسه وأنواعه، وأما النار ففيها الخفة والطيش والإحراق.
ولهذا لما جرى من إبليس ما جرى، انحط من مرتبته العالية إلى أسفل السافلين.
فقال اللّه له: ( فَاهْبِطْ مِنْهَا ) أي: من الجنة ( فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا ) لأنها دار الطيبين الطاهرين، فلا تليق بأخبث خلق اللّه وأشرهم.
( فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) أي: المهانين الأذلين، جزاء على كبره وعجبه بالإهانة والذل.
فلما أعلن عدو اللّه بعداوة اللّه، وعداوة آدم وذريته، سأل اللّهَ النَّظِرَةَ والإمهال إلى يوم البعث، ليتمكن من إغواء ما يقدر عليه من بني آدم.
ولما كانت حكمة اللّه مقتضية لابتلاء العباد واختبارهم، ليتبين الصادق من الكاذب، ومن يطيعه ممن يطيع عدوه، أجابه لما سأل، فقال: ( إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ) .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: قال إبليس - لما أبلس وأيس من رحمة اللّه - ( فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ ) أي: للخلق ( صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) أي: لألزمن الصراط ولأسعى غاية جهدي على صد الناس عنه وعدم سلوكهم إياه.
( ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) أي: من جميع الجهات والجوانب، ومن كل طريق يتمكن فيه من إدراك بعض مقصوده فيهم.
< 1-285 >
ولما علم الخبيث أنهم ضعفاء قد تغلب الغفلة على كثير منهم، وكان جازما ببذل مجهوده على إغوائهم، ظن وصدَّق ظنه فقال: ( وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) فإن القيام بالشكر من سلوك الصراط المستقيم، وهو يريد صدهم عنه، وعدم قيامهم به، قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وإنما نبهنا اللّه على ما قال وعزم على فعله، لنأخذ منه حذرنا ونستعد لعدونا، ونحترز منه بعلمنا، بالطريق التي يأتي منها، ومداخله التي ينفذ منها، فله تعالى علينا بذلك، أكمل نعمة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: قال اللّه لإبليس لما قال ما قال: ( اخْرُجْ مِنْهَا ) خروج صغار واحتقار، لا خروج إكرام بل ( مَذْءُومًا ) أي: مذموما ( مَدْحُورًا ) مبعدا عن اللّه وعن رحمته وعن كل خير.

( لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ ) منك وممن تبعك منهم ( أَجْمَعِينَ ) وهذا قسم منه تعالى، أن النار دار العصاة، لا بد أن يملأها من إبليس وأتباعه من الجن والإنس.
ثم حذر آدم شره وفتنته فقال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: أمر اللّه تعالى آدم وزوجته حواء، التي أنعم اللّه بها عليه ليسكن إليها، أن يأكلا من الجنة حيث شاءا ويتمتعا فيها بما أرادا، إلا أنه عين لهما شجرة، ونهاهما عن أكلها، واللّه أعلم ما هي، وليس في تعيينها فائدة لنا. وحرم عليهما أكلها، بدليل قوله: ( فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) .
فلم يزالا ممتثلَيْن لأمر اللّه، حتى تغلغل إليهما عدوهما إبليس بمكره، فوسوس لهما وسوسة خدعهما بها، وموه عليهما وقال: ( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ ) أي: من جنس الملائكة ( أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) ، كما قال في الآية الأخرى : http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ومع قوله هذا أقسم لهما باللّه ( إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) أي: من جملة الناصحين حيث قلت لكما ما قلت، فاغترا بذلك، وغلبت الشهوة في تلك الحال على العقل.
( فَدَلاهُمَا ) أي: نزلهما عن رتبتهما العالية، التي هي البعد عن الذنوب والمعاصي إلى التلوث بأوضارها، فأقدما على أكلها.
( فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ) أي: ظهرت عورة كل منهما بعد ما كانت مستورة، فصار للعري الباطن من التقوى في هذه الحال أثر في اللباس الظاهر، حتى انخلع فظهرت عوراتهما، ولما ظهرت عوراتهما خَجِلا وجَعَلا يخصفان على عوراتهما من أوراق شجر الجنة، ليستترا بذلك.

( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا ) وهما بتلك الحال موبخا ومعاتبا: ( أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ) فلم اقترفتما المنهي، وأطعتما عدوَّكُما؟

ابو وليد البحيرى
2019-04-13, 04:57 AM
الحلقة (153)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(23) الى الأية(30)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

فحينئذ مَنَّ اللّه عليهما بالتوبة وقبولها، فاعترفا بالذنب، وسألا من اللّه مغفرته فقالا ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) أي: قد فعلنا الذنب، الذي نهيتنا عنه، وأضررنا أنفسنا باقتراف الذنب، وقد فعلنا سبب الخسار إن لم تغفر لنا، بمحو أثر الذنب وعقوبته، وترحمنا بقبول التوبة والمعافاة من أمثال هذه الخطايا.
فغفر اللّه لهما ذلك http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
هذا وإبليس مستمر على طغيانه غير مقلع عن عصيانه فمن أشبه آدم بالاعتراف وسؤال المغفرة والندم والإقلاع - إذا صدرت منه الذنوب - اجتباه ربه وهداه.

ومن أشبه إبليس - إذا صدر منه الذنب لا يزال يزداد من المعاصي - فإنه لا يزداد من اللّه إلا بُعْدًا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: لما أهبط اللّه آدم وزوجته وذريتهما إلى الأرض، أخبرهما بحال إقامتهم فيها، وأنه جعل لهم فيها حياة يتلوها الموت، مشحونة بالامتحان والابتلاء، وأنهم لا يزالون فيها، يرسل إليهم رسله، وينزل عليهم كتبه، حتى يأتيهم الموت، فيدفنون فيها، ثم إذا استكملوا بعثهم اللّه وأخرجهم منها إلى الدار التي هي الدار حقيقة، التي هي دار المقامة.
ثم امتن عليهم بما يسر لهم من اللباس الضروري، واللباس الذي < 1-286 > المقصود منه الجمال، وهكذا سائر الأشياء، كالطعام والشراب والمراكب، والمناكح ونحوها، قد يسر اللّه للعباد ضروريها، ومكمل ذلك، و[بين لهم] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg أن هذا ليس مقصودا بالذات، وإنما أنزله اللّه ليكون معونة لهم على عبادته وطاعته، ولهذا قال: ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) من اللباس الحسي، فإن لباس التقوى يستمر مع العبد، ولا يبلى ولا يبيد، وهو جمال القلب والروح.
وأما اللباس الظاهري، فغايته أن يستر العورة الظاهرة، في وقت من الأوقات، أو يكون جمالا للإنسان، وليس وراء ذلك منه نفع.
وأيضا، فبتقدير عدم هذا اللباس، تنكشف عورته الظاهرة، التي لا يضره كشفها، مع الضرورة، وأما بتقدير عدم لباس التقوى، فإنها تنكشف عورته الباطنة، وينال الخزي والفضيحة.

وقوله: ( ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) أي: ذلك المذكور لكم من اللباس، مما تذكرون به ما ينفعكم ويضركم وتشبهون http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg باللباس الظاهر على الباطن.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى، محذرا لبني آدم أن يفعل بهم الشيطان كما فعل بأبيهم: ( يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ) بأن يزين لكم العصيان، ويدعوكم إليه، ويرغبكم فيه، فتنقادون له ( كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ) وأنزلهما من المحل العالي إلى أنزل منه، فأنتم يريد أن يفعل بكم كذلك، ولا يألو جهده عنكم، حتى يفتنكم، إن استطاع، فعليكم أن تجعلوا الحذر منه في بالكم، وأن تلبسوا لأمَةَ الحرب بينكم وبيْنه، وأن لا تغفُلوا عن المواضع التي يدخل منها إليكم.
فـ ( إِنَّهُ ) يراقبكم على الدوام، و ( يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ ) من شياطين الجن ( مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) فعدم الإيمان هو الموجب لعقد الولاية بين الإنسان والشيطان.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى مبينا لقبح حال المشركين الذين يفعلون الذنوب، وينسبون أن الله أمرهم بها. ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ) وهي: كل ما يستفحش ويستقبح، ومن ذلك طوافهم بالبيت عراة ( قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا ) وصدقوا في هذا. ( وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ) وكذبوا في هذا، ولهذا رد اللّه عليهم هذه النسبة فقال: ( قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) أي: لا يليق بكماله وحكمته أن يأمر عباده بتعاطي الفواحش لا هذا الذي يفعله المشركون ولا غيره ( أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) وأي افتراء أعظم من هذا؟.
ثم ذكر ما يأمر به، فقال: ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) أي: بالعدل في العبادات والمعاملات، لا بالظلم والجور. ( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) أي: توجهوا للّه، واجتهدوا في تكميل العبادات، خصوصا "الصلاة" أقيموها، ظاهرا وباطنا، ونقوها من كل نقص ومفسد. ( وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) أي: قاصدين بذلك وجهه وحده لا شريك له. والدعاء يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة، أي: لا تراءوا ولا تقصدوا من الأغراض في دعائكم سوى عبودية اللّه ورضاه.
( كَمَا بَدَأَكُمْ ) أول مرة ( تَعُودُونَ ) للبعث، فالقادر على بدء خلقكم، قادر على إعادته، بل الإعادة، أهون من البداءة.
( فَرِيقًا ) منكم ( هَدَى ) اللّه، أي: وفقهم للهداية، ويسر لهم أسبابها، وصرف عنهم موانعها. ( وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) أي: وجبت عليهم الضلالة بما تسببوا لأنفسهم وعملوا بأسباب الغواية.
فـ ( إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فحين انسلخوا من ولاية الرحمن، واستحبوا ولاية الشيطان، حصل لهم النصيب الوافر من الخذلان، ووكلوا إلى أنفسهم فخسروا أشد الخسران. ( وَ ) هم ( يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) لأنهم انقلبت عليهم الحقائق، فظنوا الباطل حقا والحق باطلا وفي هذه الآيات دليل على أن الأوامر والنواهي تابعة للحكمة والمصلحة، حيث ذكر تعالى أنه لا يتصور أن يأمر بما تستفحشه وتنكره العقول، وأنه لا يأمر إلا < 1-287 > بالعدل والإخلاص، وفيه دليل على أن الهداية بفضل اللّه ومَنِّه، وأن الضلالة بخذلانه للعبد، إذا تولى - بجهله وظلمه - الشيطانَ، وتسبب لنفسه بالضلال، وأن من حسب أنه مهتدٍ وهو ضالٌّ، أنه لا عذر له، لأنه متمكن من الهدى، وإنما أتاه حسبانه من ظلمه بترك الطريق الموصل إلى الهدى.

ابو وليد البحيرى
2019-04-17, 04:37 AM
الحلقة (154)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(31) الى الأية(37)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى - بعد ما أنزل على بني آدم لباسا يواري سوءاتهم وريشا: ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) أي: استروا عوراتكم عند الصلاة كلها، فرضها ونفلها، فإن سترها زينة للبدن، كما أن كشفها يدع البدن قبيحا مشوها.
ويحتمل أن المراد بالزينة هنا ما فوق ذلك من اللباس النظيف الحسن، ففي هذا الأمر بستر العورة في الصلاة، وباستعمال التجميل فيها ونظافة السترة من الأدناس والأنجاس.
ثم قال: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ) أي: مما رزقكم اللّه من الطيبات ( وَلا تُسْرِفُوا ) في ذلك، والإسراف إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي والشره في المأكولات الذي يضر بالجسم، وإما أن يكون بزيادة الترفه والتنوق في المآكل والمشارب واللباس، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام.
( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) فإن السرف يبغضه اللّه، ويضر بدن الإنسان ومعيشته، حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات، ففي هذه الآية الكريمة الأمر بتناول الأكل والشرب، والنهي عن تركهما، وعن الإسراف فيهما.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى منكرا على من تعنت، وحرم ما أحل اللّه من الطيبات ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ) من أنواع اللباس على اختلاف أصنافه، والطيبات من الرزق، من مأكل ومشرب بجميع أنواعه، أي: مَن هذا الذي يقدم على تحريم ما أنعم اللّه بها على العباد، ومن ذا الذي يضيق عليهم ما وسَّعه اللّه؟".
وهذا التوسيع من اللّه لعباده بالطيبات، جعله لهم ليستعينوا به على عبادته، فلم يبحه إلا لعباده المؤمنين، ولهذا قال: ( قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) أي: لا تبعة عليهم فيها.
ومفهوم الآية أن من لم يؤمن باللّه، بل استعان بها على معاصيه، فإنها غير خالصة له ولا مباحة، بل يعاقب عليها وعلى التنعم بها، ويُسأل عن النعيم يوم القيامة.
( كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ) أي: نوضحها ونبينها ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) لأنهم الذين ينتفعون بما فصله اللّه من الآيات، ويعلمون أنها من عند اللّه، فيعقلونها ويفهمونها.
ثم ذكر المحرمات التي حرمها اللّه في كل شريعة من الشرائع فقال: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ) أي: الذنوب الكبار التي تستفحش وتستقبح لشناعتها وقبحها، وذلك كالزنا واللواط ونحوهما.
وقوله: ( مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) أي: الفواحش التي تتعلق بحركات البدن، والتي تتعلق بحركات القلوب، كالكبر والعجب والرياء والنفاق، ونحو ذلك، ( وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) أي: الذنوب التي تؤثم وتوجب العقوبة في حقوق اللّه، والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فدخل في هذا الذنوبُ المتعلقةُ بحق اللّه، والمتعلقةُ بحق العباد.
( وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا ) أي: حجة، بل أنزل الحجة والبرهان على التوحيد. والشركُ هو أن يشرك مع اللّه في عبادته أحد من الخلق، وربما دخل في هذا الشرك الأصغر كالرياء والحلف بغير اللّه، ونحو ذلك.

( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه، فكل هذه قد حرمها اللّه، ونهى العباد عن تعاطيها، لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة، ولما فيها من الظلم والتجري على اللّه، والاستطالة على عباد اللّه، وتغيير دين اللّه وشرعه.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: وقد أخرج اللّه بني آدم إلى الأرض، وأسكنهم فيها، وجعل لهم أجلا مسمى لا تتقدم أمة من الأمم على وقتها المسمى، ولا تتأخر، لا الأمم المجتمعة ولا أفرادها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما أخرج اللّه بني آدم من الجنة، ابتلاهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم يقصون عليهم آيات اللّه ويبينون لهم < 1-288 > أحكامه، ثم ذكر فضل من استجاب لهم، وخسار من لم يستجب لهم فقال: ( فَمَنِ اتَّقَى ) ما حرم اللّه، من الشرك والكبائر والصغائر، ( وَأَصْلَحَ ) أعماله الظاهرة والباطنة ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) من الشر الذي قد يخافه غيرهم ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) على ما مضى، وإذا انتفى الخوف والحزن حصل الأمن التام، والسعادة، والفلاح الأبدي.

( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ) أي: لا آمنت بها قلوبهم، ولا انقادت لها جوارحهم، ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) كما استهانوا بآياته، ولازموا التكذيب بها، أهينوا بالعذاب الدائم الملازم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُ مْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: لا أحد أظلم ( مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) بنسبة الشريك له، أو النقص له، أو التقول عليه ما لم يقل، ( أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) الواضحة المبينة للحق المبين، الهادية إلى الصراط المستقيم، فهؤلاء وإن تمتعوا بالدنيا، ونالهم نصيبهم مما كان مكتوبا لهم في اللوح المحفوظ، فليس ذلك بمغن عنهم شيئا، يتمتعون قليلا ثم يعذبون طويلا ( حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُ مْ ) أي: الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم واستيفاء آجالهم.
( قَالُوا ) لهم في تلك الحالة توبيخا وعتابا ( أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) من الأصنام والأوثان، فقد جاء وقت الحاجة إن كان فيها منفعة لكم أو دفع مضرة. ( قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا ) أي: اضمحلوا وبطلوا، وليسوا مغنين عنا من عذاب اللّه من شيء.

( وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) مستحقين للعذاب المهين الدائم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-17, 04:46 AM
الحلقة (155)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(38) الى الأية(43)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية

فقالت لهم الملائكة ( ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ ) أي: في جملة أمم ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ ) أي: مضوا على ما مضيتم عليه من الكفر والاستكبار، فاستحق الجميع الخزي والبوار، كلما دخلت أمة من الأمم العاتية النار ) لَعَنَتْ أُخْتَهَا ) كما قال تعالى: ( ويَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ) ( حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا ) أي: اجتمع في النار جميع أهلها، من الأولين والآخرين، والقادة والرؤساء والمقلدين الأتباع.
(قَالَتْ أُخْرَاهُمْ ) أي: متأخروهم، المتبعون للرؤساء ( لأولاهُمْ ) أي: لرؤسائهم، شاكين إلى اللّه إضلالهم إياهم: ( رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ ) أي : عذبهم عذابا مضاعفا لأنهم أضلونا، وزينوا لنا الأعمال الخبيثة.
(قَالَ ) اللّه ( لِكُلٍّ ) منكم ( ضِعْفٌ ) ونصيب من العذاب.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ (39) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: الرؤساء، قالوا لأتباعهم: ( فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ) أي: قد اشتركنا جميعا في الغي والضلال، وفي فعل أسباب العذاب، فأيّ فضل لكم علينا؟ ( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) ولكنه من المعلوم أن عذاب الرؤساء وأئمة الضلال أبلغ وأشنع من عذاب الأتباع، كما أن نعيم أئمة الهدى ورؤسائه أعظم من ثواب الأتباع، قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فهذه الآيات ونحوها، دلت على أن سائر أنواع المكذبين بآيات اللّه، مخلدون في العذاب، مشتركون فيه وفي أصله، وإن كانوا متفاوتين في مقداره، بحسب أعمالهم وعنادهم وظلمهم وافترائهم، وأن مودتهم التي كانت بينهم في الدنيا تنقلب يوم القيامة عداوة وملاعنة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن عقاب من كذب بآياته فلم يؤمن بها، مع أنها آيات بينات، واستكبر عنها فلم يَنْقَد لأحكامها، بل كذب وتولى، أنهم آيسون من كل خير، فلا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا وصعدت تريد العروج إلى اللّه، فتستأذن فلا يؤذن لها، كما لم تصعد في الدنيا إلى الإيمان باللّه ومعرفته ومحبته كذلك لا تصعد بعد الموت، فإن الجزاء من جنس العمل.
ومفهوم الآية أن أرواح المؤمنين المنقادين لأمر اللّه المصدقين بآياته، تفتح لها أبواب السماء حتى تعرج إلى اللّه، وتصل إلى حيث أراد اللّه من العالم العلوي، وتبتهج بالقرب من ربها والحظوة برضوانه.
وقوله عن أهل النار ( وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ ) وهو البعير المعروف ( فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) أي: حتى يدخل البعير الذي هو من أكبر الحيوانات جسما، في خرق الإبرة، الذي هو من أضيق الأشياء، وهذا من باب تعليق الشيء بالمحال، أي: فكما أنه محال دخول الجمل في سم الخياط، فكذلك المكذبون بآيات اللّه محال دخولهم الجنة، قال تعالى: ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ) < 1-289 > وقال هنا ( وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) أي: الذين كثر إجرامهم واشتد طغيانهم.
( لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ ) أي: فراش من تحتهم ( وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ) أي: ظلل من العذاب، تغشاهم. ( وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) لأنفسهم، جزاء وفاقا، ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ )

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . لما ذكر الله تعالى عقاب العاصين الظالمين، ذكر ثواب المطيعين فقال: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) بقلوبهم ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) بجوارحهم، فجمعوا بين الإيمان والعمل، بين الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، بين فعل الواجبات وترك المحرمات، ولما كان قوله: ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) لفظا عاما يشمل جميع الصالحات الواجبة والمستحبة، وقد يكون بعضها غير مقدور للعبد، قال تعالى: ( لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) أي: بمقدار ما تسعه طاقتها، ولا يعسر على قدرتها، فعليها في هذه الحال أن تتقي اللّه بحسب استطاعتها، وإذا عجزت عن بعض الواجبات التي يقدر عليها غيرها سقطت عنها كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فلا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة.
( أُولَئِكَ ) أي: المتصفون بالإيمان والعمل الصالح ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي: لا يحولون عنها ولا يبغون بها بدلا لأنهم يرون فيها من أنواع اللذات وأصناف المشتهيات ما تقف عنده الغايات، ولا يطلب أعلى منه.
( وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ) وهذا من كرمه وإحسانه على أهل الجنة، أن الغل الذي كان موجودا في قلوبهم، والتنافس الذي بينهم، أن اللّه يقلعه ويزيله حتى يكونوا إخوانا متحابين، وأخلاء متصافين.
قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ويخلق اللّه لهم من الكرامة ما به يحصل لكل واحد منهم الغبطة والسرور، ويرى أنه لا فوق ما هو فيه من النعيم نعيم. فبهذا يأمنون من التحاسد والتباغض، لأنه قد فقدت أسبابه.
وقوله: ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ ) أي: يفجرونها تفجيرا، حيث شاءوا، وأين أرادوا، إن شاءوا في خلال القصور، أو في تلك الغرف العاليات، أو في رياض الجنات، من تحت تلك الحدائق الزاهرات.
أنهار تجري في غير أخدود، وخيرات ليس لها حد محدود ( وَ ) لهذا لما رأوا ما أنعم اللّه عليهم وأكرمهم به ( قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ) بأن من علينا وأوحى إلى قلوبنا، فآمنت به، وانقادت للأعمال الموصلة إلى هذه الدار، وحفظ اللّه علينا إيماننا وأعمالنا، حتى أوصلنا بها إلى هذه الدار، فنعم الرب الكريم، الذي ابتدأنا بالنعم، وأسدى من النعم الظاهرة والباطنة ما لا يحصيه المحصون، ولا يعده العادون، ( وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ) أي: ليس في نفوسنا قابلية للهدى، لولا أنه تعالى منَّ بهدايته واتباع رسله.
( لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) أي: حين كانوا يتمتعون بالنعيم الذي أخبرت به الرسل، وصار حق يقين لهم بعد أن كان علم يقين [لهم]، قالوا لقد تحققنا، ورأينا ما وعدتنا به الرسل، وأن جميع ما جاءوا به حق اليقين، لا مرية فيه ولا إشكال، ( وَنُودُوا ) تهنئة لهم، وإكراما، وتحية واحتراما، ( أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا ) أي: كنتم الوارثين لها، وصارت إقطاعا لكم، إذ كان إقطاع الكفار النار، أورثتموها ( بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

قال بعض السلف: أهل الجنة نجوا من النار بعفو اللّه، وأدخلوا الجنة برحمة اللّه، واقتسموا المنازل وورثوها بالأعمال الصالحة وهي من رحمته، بل من أعلى أنواع رحمته.

ابو وليد البحيرى
2019-04-17, 04:48 AM
الحلقة (156)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(44) الى الأية(51)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لما ذكر استقرار كل من الفريقين في الدارين، ووجدوا ما أخبرت به الرسل ونطقت به الكتب من الثواب والعقاب: أن أهل الجنة نادوا أصحاب النار بأن قالوا: ( أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا ) حين وعدنا على الإيمان والعمل الصالح الجنة فأدخلناها وأرانا ما وصفه لنا ( فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ ) على الكفر والمعاصي ( حَقًّا قالوا نعم ) قد وجدناه حقا، فبين للخلق كلهم بيانا لا شك فيه صدق وعد اللّه، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ، وذهبت عنهم الشكوك والشبه، وصار الأمر حق اليقين، وفرح المؤمنون بوعد اللّه واغتبطوا، وأيس الكفار من الخير، وأقروا على < 1-290 > أنفسهم بأنهم مستحقون للعذاب.
( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ) أي: بين أهل النار وأهل الجنة، بأن قال: ( أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ ) أي: بُعْدُه وإقصاؤه عن كل خير ( عَلَى الظَّالِمِينَ ) إذ فتح اللّه لهم أبواب رحمته، فصدفوا أنفسهم عنها ظلما، وصدوا عن سبيل اللّه بأنفسهم، وصدوا غيرهم، فضلوا وأضلوا.
واللّه تعالى يريد أن تكون مستقيمة، ويعتدل سير السالكين إليه، ( و ) هؤلاء يريدونها ( عِوَجًا ) منحرفة صادة عن سواء السبيل، ( وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ ) وهذا الذي أوجب لهم الانحراف عن الصراط، والإقبال على شهوات النفوس المحرمة، عدم إيمانهم بالبعث، وعدم خوفهم من العقاب ورجائهم للثواب، ومفهوم هذا النداء أن رحمة اللّه على المؤمنين، وبرَّه شامل لهم، وإحسانَه متواتر عليهم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار حجاب يقال له: ( الأعْرَاف ) لا من الجنة ولا من النار، يشرف على الدارين، وينظر مِنْ عليه حالُ الفريقين، وعلى هذا الحجاب رجال يعرفون كلا من أهل الجنة والنار بسيماهم، أي: علاماتهم، التي بها يعرفون ويميزون، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نَادَوْهم ( أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) أي: يحيونهم ويسلمون عليهم، وهم - إلى الآن - لم يدخلوا الجنة، ولكنهم يطمعون في دخولها، ولم يجعل اللّه الطمع في قلوبهم إلا لما يريد بهم من كرامته.
( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ ) ورأوا منظرا شنيعا، وهَوْلا فظيعا ( قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فأهل الجنة [إذا رآهم أهل الأعراف] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg يطمعون أن يكونوا معهم في الجنة، ويحيونهم ويسلمون عليهم، وعند انصراف أبصارهم بغير اختيارهم لأهل النار، يستجيرون بالله من حالهم هذا على وجه العموم.
ثم ذكر الخصوص بعد العموم فقال: ( وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ) وهم من أهل النار، وقد كانوا في الدنيا لهم أبهة وشرف، وأموال وأولاد، فقال لهم أصحاب الأعراف، حين رأوهم منفردين في العذاب، بلا ناصر ولا مغيث: ( مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ ) في الدنيا، الذي تستدفعون به المكاره، وتتوسلون به إلى مطالبكم في الدنيا، فاليوم اضمحل، ولا أغني عنكم شيئا، وكذلك، أي شيء نفعكم استكباركم على الحق وعلى من جاء به وعلى من اتبعه.
ثم أشاروا لهم إلى أناس من أهل الجنة كانوا في الدنيا فقراء ضعفاء يستهزئ بهم أهل النار، فقالوا لأهل النار: ( أَهَؤُلاءِ ) الذين أدخلهم اللّه الجنة ( الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ) احتقارا لهم وازدراء وإعجابا بأنفسكم، قد حنثتم في أيمانكم، وبدا لكم من اللّه ما لم يكن لكم في حساب، ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ) بما كنتم تعملون، أي: قيل لهؤلاء الضعفاء إكراما واحتراما: ادخلوا الجنة بأعمالكم الصالحة ( لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ ) فيما يستقبل من المكاره ( وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) على ما مضى، بل آمنون مطمئنون فرحون بكل خير.
وهذا كقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى أن قال http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg واختلف أهل العلم والمفسرون من هم أصحاب الأعراف وما أعمالهم؟
والصحيح من ذلك أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فلا رجحت سيئاتهم فدخلوا النار ولا رجحت حسناتهم فدخلوا الجنة فصاروا في الأعراف ما شاء اللّه ثم إن اللّه تعالى يدخلهم برحمته الجنة فإن رحمته تسبق وتغلب غضبه ورحمته وسعت كل شيء .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ينادي أصحاب النار أصحاب الجنة، حين يبلغ منهم العذاب كل مبلغ، وحين يمسهم الجوع المفرط والظمأ الموجع، يستغيثون بهم، فيقولون: ( أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ) من الطعام، فأجابهم أهل الجنة بقولهم: ( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا ) أي: ماء الجنة وطعامها ( عَلَى الْكَافِرِينَ ) وذلك جزاء لهم على كفرهم بآيات اللّه، واتخاذهم دينهم الذي أمروا أن يستقيموا عليه، ووعدوا بالجزاء الجزيل عليه.

( لَهْوًا وَلَعِبًا ) أي: لهت قلوبهم وأعرضت عنه، ولعبوا واتخذوه سخريا، أو أنهم جعلوا بدل دينهم اللهو واللعب، واستعاضوا بذلك عن < 1-291 > الدين القيم.
( وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) بزينتها وزخرفها وكثرة دعاتها، فاطمأنوا إليها ورضوا بها وفرحوا، وأعرضوا عن الآخرة ونسوها.
( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ ) أي: نتركهم في العذاب ( كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) فكأنهم لم يخلقوا إلا للدنيا، وليس أمامهم عرض ولا جزاء.
( وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) والحال أن جحودهم هذا، لا عن قصور في آيات اللّه وبيناته.

ابو وليد البحيرى
2019-04-17, 04:51 AM
الحلقة (157)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(52) الى الأية(57)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

بل قد ( جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ ) أي: بينا فيه جميع المطالب التي يحتاج إليها الخلق ( عَلَى عِلْمٍ ) من اللّه بأحوال العباد في كل زمان ومكان، وما يصلح لهم وما لا يصلح، ليس تفصيله تفصيل غير عالم بالأمور، فتجهله بعض الأحوال، فيحكم حكما غير مناسب، بل تفصيل من أحاط علمه بكل شيء، ووسعت رحمته كل شيء.
( هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) أي: تحصل للمؤمنين بهذا الكتاب الهداية من الضلال، وبيان الحق والباطل، والغيّ والرشد، ويحصل أيضا لهم به الرحمة، وهي: الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، فينتفى عنهم بذلك الضلال والشقاء.
وهؤلاء الذين حق عليهم العذاب، لم يؤمنوا بهذا الكتاب العظيم، ولا انقادوا لأوامره ونواهيه، فلم يبق فيهم حيلة إلا استحقاقهم أن يحل بهم ما أخبر به القرآن.
ولهذا قال: ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ ) أي: وقوع ما أخبر به كما قال يوسف عليه السلام حين وقعت رؤياه: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ ) متندمين متأسفين على ما مضى منهم، متشفعين في مغفرة ذنوبهم. مقرين بما أخبرت به الرسل: ( قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ ) إلى الدنيا ( فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) وقد فات الوقت عن الرجوع إلى الدنيا. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا، ليعملوا غير عملهم كذب منهم، مقصودهم به، دفع ما حل بهم، قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) حين فوتوها الأرباح، وسلكوا بها سبيل الهلاك، وليس ذلك كخسران الأموال والأثاث أو الأولاد، إنما هذا خسران لا جبران لمصابه، ( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) في الدنيا مما تمنيهم أنفسهم به، ويعدهم به الشيطان، قدموا على ما لم يكن لهم في حساب، وتبين لهم باطلهم وضلالهم، وصدق ما جاءتهم به الرسل.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى مبينا أنه الرب المعبود وحده لا شريك له: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ) وما فيهما على عظمهما وسعتهما، وإحكامهما، وإتقانهما، وبديع خلقهما.
( فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة، فلما قضاهما وأودع فيهما من أمره ما أودع ( اسْتَوَى ) تبارك وتعالى ( عَلَى الْعَرْشِ ) العظيم الذي يسع السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، استوى استواء يليق بجلاله وعظمته وسلطانه، فاستوى على العرش، واحتوى على الملك، ودبر الممالك، وأجرى عليهم أحكامه الكونية، وأحكامه الدينية، ولهذا قال: ( يُغْشِي اللَّيْلَ ) المظلم ( النَّهَارَ ) المضيء، فيظلم ما على وجه الأرض، ويسكن الآدميون، وتأوى المخلوقات إلى مساكنها، ويستريحون من التعب، والذهاب والإياب الذي حصل لهم في النهار.
( يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) كلما جاء الليل ذهب النهار، وكلما جاء النهار ذهب الليل، وهكذا أبدا على الدوام، حتى يطوي اللّه هذا العالم، وينتقل العباد إلى دار غير هذه الدار.
( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ) أي: بتسخيره وتدبيره، الدال على ما له من أوصاف الكمال، فخلْقُها وعظَمُها دالٌّ على كمال قدرته، وما فيها من الإحكام والانتظام والإتقان دال على كمال حكمته، وما فيها من المنافع والمصالح الضرورية وما دونها دال على سعة رحمته وذلك دال على سعة علمه، وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له.
( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ ) أي: له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها وسفليها، أعيانها وأوصافها وأفعالها والأمر المتضمن للشرائع والنبوات، فالخلق: يتضمن أحكامه الكونية القدرية، والأمر: يتضمن أحكامه الدينية الشرعية، وثم أحكام الجزاء، وذلك يكون في دار البقاء، ( تَبَارَكَ اللَّهُ ) أي: عظم وتعالى وكثر خيره وإحسانه، فتبارك في نفسه لعظمة أوصافه وكمالها، وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل والبر الكثير، فكل بركة في الكون، فمن آثار رحمته، ولهذا قال: فـ ( تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .
ولما ذكر من عظمته وجلاله ما يدل ذوي الألباب على أنه وحده، المعبود المقصود في الحوائج كلها أمر بما يترتب على ذلك، فقال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

الدعاء يدخل فيه دعاء المسألة، ودعاء العبادة، فأمر بدعائه ( تَضَرُّعًا ) أي: إلحاحا في المسألة، ودُءُوبا في العبادة، ( وَخُفْيَةً ) أي: لا جهرا وعلانية، يخاف منه الرياء، بل خفية وإخلاصا للّه تعالى.
( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) أي: المتجاوزين للحد في كل الأمور، ومن الاعتداء كون العبد يسأل اللّه مسائل < 1-292 > لا تصلح له، أو يتنطع في السؤال، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه.
( وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ ) بعمل المعاصي ( بَعْدَ إِصْلاحِهَا ) بالطاعات، فإن المعاصي تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg كما أن الطاعات تصلح بها الأخلاق، والأعمال، والأرزاق، وأحوال الدنيا والآخرة.
( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ) أي: خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه، طمعا في قبولها، وخوفا من ردها، لا دعاء عبد مدل على ربه قد أعجبته نفسه، ونزل نفسه فوق منزلته، أو دعاء من هو غافل لاهٍ.
وحاصل ما ذكر اللّه من آداب الدعاء: الإخلاص فيه للّه وحده، لأن ذلك يتضمنه الخفية، وإخفاؤه وإسراره، وأن يكون القلب خائفا طامعا لا غافلا ولا آمنا ولا غير مبال بالإجابة، وهذا من إحسان الدعاء، فإن الإحسان في كل عبادة بذل الجهد فيها، وأداؤها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، ولهذا قال: ( إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) في عبادة اللّه، المحسنين إلى عباد اللّه، فكلما كان العبد أكثر إحسانا، كان أقرب إلى رحمة ربه، وكان ربه قريبا منه برحمته، وفي هذا من الحث على الإحسان ما لا يخفى.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يبين تعالى أثرا من آثار قدرته، ونفحة من نفحات رحمته فقال: ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) أي: الرياح المبشرات بالغيث، التي تثيره بإذن اللّه من الأرض، فيستبشر الخلق برحمة اللّه، وترتاح لها قلوبهم قبل نزوله.
( حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ ) الرياح ( سَحَابًا ثِقَالا ) قد أثاره بعضها، وألفه ريح أخرى، وألحقه ريح أخرى ( سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ) قد كادت تهلك حيواناته، وكاد أهله أن ييأسوا من رحمة اللّه، ( فَأَنزلْنَا بِهِ ) أي: بذلك البلد الميت ( الْمَاء ) الغزير من ذلك السحاب وسخر اللّه له ريحا تدره وتفرقه بإذن اللّه.
( فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) فأصبحوا مستبشرين برحمة اللّه، راتعين بخير اللّه، وقوله: ( كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أي: كما أحيينا الأرض بعد موتها بالنبات، كذلك نخرج الموتى من قبورهم، بعد ما كانوا رفاتا متمزقين، وهذا استدلال واضح، فإنه لا فرق بين الأمرين، فمنكر البعث استبعادا له - مع أنه يرى ما هو نظيره - من باب العناد، وإنكار المحسوسات.

وفي هذا الحث على التذكر والتفكر في آلاء اللّه والنظر إليها بعين الاعتبار والاستدلال، لا بعين الغفلة والإهمال.

ابو وليد البحيرى
2019-04-17, 04:59 AM
الحلقة (158)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(58) الى الأية(72)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ثم ذكر تفاوت الأراضي، التي ينزل عليها المطر، فقال: ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ ) أي: طيب التربة والمادة، إذا نزل عليه مطر ( يَخْرُجُ نَبَاتُهُ ) الذي هو مستعد له ( بِإِذْنِ رَبِّهِ ) أي: بإرادة اللّه ومشيئته، فليست الأسباب مستقلة بوجود الأشياء، حتى يأذن اللّه بذلك.

( وَالَّذِي خَبُثَ ) من الأراضي ( لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا ) أي: إلا نباتا خاسا لا نفع فيه ولا بركة.
( كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ) أي: ننوعها ونبينها ونضرب فيها الأمثال ونسوقها لقوم يشكرون اللّه بالاعتراف بنعمه، والإقرار بها، وصرفها في مرضاة اللّه، فهم الذين ينتفعون بما فصل اللّه في كتابه من الأحكام والمطالب الإلهية، لأنهم يرونها من أكبر النعم الواصلة إليهم من ربهم، فيتلقونها مفتقرين إليها فرحين بها، فيتدبرونها ويتأملونها، فيبين لهم من معانيها بحسب استعدادهم، وهذا مثال للقلوب حين ينزل عليها الوحي الذي هو مادة الحياة، كما أن الغيث مادة الحياة، فإن القلوب الطيبة حين يجيئها الوحي، تقبله وتعلمه وتنبت بحسب طيب أصلها، وحسن عنصرها.
وأما القلوب الخبيثة التي لا خير فيها، فإذا جاءها الوحي لم يجد محلا قابلا بل يجدها غافلة معرضة، أو معارضة، فيكون كالمطر الذي يمر على السباخ والرمال والصخور، فلا يؤثر فيها شيئا، وهذا كقوله تعالى: ( أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ) الآيات.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ (59 - 64) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر القصة .

لما ذكر تعالى من أدلة توحيده جملة صالحة، أيد ذلك بذكر ما جرى للأنبياء الداعين إلى توحيده مع أممهم المنكرين لذلك، وكيف أيد اللّه أهل التوحيد، وأهلك من عاندهم ولم يَنْقَدْ لهم، وكيف اتفقت دعوة المرسلين على دين واحد < 1-293 > ومعتقد واحد، فقال عن نوح - أول المرسلين -: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ) يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده، حين كانوا يعبدون الأوثان ( فَقَالَ ) لهم: ( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) أي: وحده ( مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) لأنه الخالق الرازق المدبِّر لجميع الأمور، وما سواه مخلوق مدبَّر، ليس له من الأمر شيء، ثم خوفهم إن لم يطيعوه عذاب اللّه، فقال: ( إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) وهذا من نصحه عليه الصلاة والسلام وشفقته عليهم، حيث خاف عليهم العذاب الأبدي، والشقاء السرمدي، كإخوانه من المرسلين الذين يشفقون على الخلق أعظم من شفقة آبائهم وأمهاتهم، فلما قال لهم هذه المقالة، ردوا عليه أقبح رد.
(قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ ) أي : الرؤساء الأغنياء المتبوعون ، الذين قد جرت العادة باستكبارهم على الحق، وعدم انقيادهم للرسل ، ( إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فلم يكفهم - قبحهم اللّه - أنهم لم ينقادوا له، بل استكبروا عن الانقياد له، وقدحوا فيه أعظم قدح، ونسبوه إلى الضلال، ولم يكتفوا بمجرد الضلال حتى جعلوه ضلالا مبينا واضحا لكل أحد.
وهذا من أعظم أنواع المكابرة، التي لا تروج على أضعف الناس عقلا وإنما هذا الوصف منطبق على قوم نوح، الذين جاءوا إلى أصنام قد صوروها ونحتوها بأيديهم، من الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عنهم شيئا، فنزلوها منزلة فاطر السماوات، وصرفوا لها ما أمكنهم من أنواع القربات، فلولا أن لهم أذهانا تقوم بها حجة اللّه عليهم لحكم عليهم بأن المجانين أهدى منهم، بل هم أهدى منهم وأعقل، فرد نوح عليهم ردا لطيفا، وترقق لهم لعلهم ينقادون له فقال: ( يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ ) أي: لست ضالا في مسألة من المسائل بوجه من الوجوه، وإنما أنا هاد مهتد، بل هدايته عليه الصلاة والسلام من جنس هداية إخوانه، أولي العزم من المرسلين، أعلى أنواع الهدايات وأكملها وأتمها، وهي هداية الرسالة التامة الكاملة، ولهذا قال: ( وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي: ربي وربكم ورب جميع الخلق، الذي ربى جميع الخلق بأنواع التربية، الذي من أعظم تربيته أن أرسل إلى عباده رسلا تأمرهم بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والعقائد الحسنة وتنهاهم عن أضدادها، ولهذا قال: ( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ ) أي: وظيفتي تبليغكم، ببيان توحيده وأوامره ونواهيه، على وجه النصيحة لكم والشفقة عليكم، ( وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) فالذي يتعين أن تطيعوني وتنقادوا لأمري إن كنتم تعلمون.
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ ) أي: كيف تعجبون من حالة لا ينبغي العجب منها، وهو أن جاءكم التذكير والموعظة والنصيحة، على يد رجل منكم، تعرفون حقيقته وصدقه وحاله؟ فهذه الحال من عناية اللّه بكم وبره وإحسانه الذي يتلقى بالقبول والشكر، وقوله: ( لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) أي: لينذركم العذاب الأليم، وتفعلوا الأسباب المنجية من استعمال تقوى اللّه ظاهرا وباطنا، وبذلك تحصل عليهم وتنزل رحمة اللّه الواسعة.
فلم يفد فيهم، ولا نجح ( فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ) أي: السفينة التي أمر اللّه نوحا عليه الصلاة والسلام بصنعتها، وأوحى إليه أن يحمل من كل صنف من الحيوانات، زوجين اثنين وأهله ومن آمن معه، فحملهم فيها ونجاهم اللّه بها.

(وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ) عن الهدى، أبصروا الحق، وأراهم اللّه - على يد نوح - من الآيات البينات، ما بهم يؤمن أولو الألباب، فسخروا منه، واستهزءوا به وكفروا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا (65 - 72) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر القصة .

أي: ( و ) أرسلنا ( إِلَى عَادٍ ) الأولى، الذين كانوا في أرض اليمن ( أَخَاهُمْ ) في النسب ( هُودًا ) عليه السلام، يدعوهم إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك والطغيان في الأرض.
فـ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg لهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg سخطه وعذابه، إن أقمتم على ما أنتم عليه، فلم يستجيبوا ولا انقادوا.

فـ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg رادين لدعوته، قادحين في رأيه: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: ما نراك إلا سفيها غير رشيد، ويغلب على ظننا أنك من جملة الكاذبين، وقد انقلبت عليهم الحقيقة، واستحكم عماهم حيث رموا نبيهم عليه السلام بما هم متصفون به، وهو أبعد الناس عنه، فإنهم السفهاء حقا الكاذبون.
وأي سفه أعظم ممن قابل أحق الحق بالرد والإنكار، وتكبر عن الانقياد للمرشدين والنصحاء، وانقاد قلبه وقالبه لكل شيطان مريد، ووضع العبادة في غير موضعها، فعبد من < 1-294 > لا يغني عنه شيئا من الأشجار والأحجار؟
وأي كذب أبلغ من كذب من نسب هذه الأمور إلى اللّه تعالى؟
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg بوجه من الوجوه، بل هو الرسول المرشد الرشيد، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-04-17, 05:04 AM
الحلقة (159)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(73) الى الأية(79)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية

(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ) : فالواجب عليكم أن تتلقوا ذلك بالقبول والانقياد وطاعة رب العباد.
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ) أي: كيف تعجبون من أمر لا يتعجب منه، وهو أن اللّه أرسل إليكم رجلا منكم تعرفون أمره، يذكركم بما فيه مصالحكم، ويحثكم على ما فيه النفع لكم، فتعجبتم من ذلك تعجب المنكرين. ( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) أي: واحمدوا ربكم واشكروه، إذ مكن لكم في الأرض، وجعلكم تخلفون الأمم الهالكة الذين كذبوا الرسل، فأهلكهم اللّه وأبقاكم، لينظر كيف تعملون، واحذروا أن تقيموا على التكذيب كما أقاموا، فيصيبكم ما أصابهم، ( و ) اذكروا نعمة اللّه عليكم التي خصكم بها، وهي أن ( زَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ) في القوة وكبر الأجسام، وشدة البطش، ( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ ) أي: نعمه الواسعة، وأياديه المتكررة ( لَعَلَّكُمْ ) إذا ذكرتموها بشكرها وأداء حقها ( تُفْلِحُونَ ) أي: تفوزون بالمطلوب، وتنجون من المرهوب، فوعظهم وذكرهم، وأمرهم بالتوحيد، وذكر لهم وصف نفسه، وأنه ناصح أمين، وحذرهم أن يأخذهم اللّه كما أخذ من قبلهم، وذكرهم نعم اللّه عليهم وإدرار الأرزاق إليهم، فلم ينقادوا ولا استجابوا.
فـ ( قَالُوا ) متعجبين من دعوته، ومخبرين له أنهم من المحال أن يطيعوه: ( أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) قبحهم اللّه، جعلوا الأمر الذي هو أوجب الواجبات وأكمل الأمور، من الأمور التي لا يعارضون بها ما وجدوا عليه آباءهم، فقدموا ما عليه الآباء الضالون من الشرك وعبادة الأصنام، على ما دعت إليه الرسل من توحيد اللّه وحده لا شريك له، وكذبوا نبيهم، وقالوا: ( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) وهذا استفتاح منهم على أنفسهم.
فقَالَ لهم هود عليه السلام: ( قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ) أي: لا بد من وقوعه، فإنه قد انعقدت أسبابه، وحان وقت الهلاك.
(أَتُجَادِلُونَ ِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ ) أي: كيف تجادلون على أمور، لا حقائق لها، وعلى أصنام سميتموها آلهة، وهي لا شيء من الآلهة فيها، ولا مثقال ذرة و ( مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ) فإنها لو كانت صحيحة لأنزل اللّه بها سلطانا، فعدم إنزاله له دليل على بطلانها، فإنه ما من مطلوب ومقصود - وخصوصا الأمور الكبار - إلا وقد بين اللّه فيها من الحجج، ما يدل عليها، ومن السلطان، ما لا تخفى معه.
(فَانْتَظِرُوا ) ما يقع بكم من العقاب، الذي وعدتكم به ( إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِين َ ) وفرق بين الانتظارين، انتظار من يخشى وقوع العقاب، ومن يرجو من اللّه النصر والثواب، ولهذا فتح اللّه بين الفريقين فقال:
(فَأَنْجَيْنَاه ) أي: هودا ( وَالَّذِينَ ) آمَنُوا ( مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ) فإنه الذي هداهم للإيمان، وجعل إيمانهم سببا ينالون به رحمته فأنجاهم برحمته، ( وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) أي: استأصلناهم بالعذاب الشديد الذي لم يُبْقِ منهم أحدا ، وسلَّط اللّه عليهم ( .... الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) ، فأهلكوا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ، فانظر كيف كان عاقبة المنذرين الذين أقيمت عليهم الحجج، فلم ينقادوا لها، وأمروا بالإيمان فلم يؤمنوا فكان عاقبتهم الهلاك، والخزي والفضيحة. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وقال هنا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg بوجه من الوجوه، بل وصفهم التكذيب والعناد، ونعتهم الكبر والفساد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا (73 - 79) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر قصتهم .

أي ( و ) أرسلنا ( إِلَى ثَمُودَ ) القبيلة المعروفة الذين كانوا يسكنون الحجر وما حوله، من أرض الحجاز وجزيرة العرب، أرسل اللّه إليهم ( أَخَاهُمْ صَالِحًا ) نبيا يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد، وينهاهم عن الشرك والتنديد، فـ ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) دعوته عليه الصلاة والسلام من جنس دعوة إخوانه من المرسلين، الأمر بعبادة اللّه، وبيان أنه ليس للعباد إله غير اللّه، ( قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي: خارق من خوارق العادات، التي لا تكون إلا آية سماوية لا يقدر الناس عليها، ثم فسرها بقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: هذه ناقة شريفة فاضلة لإضافتها < 1-295 > إلى اللّه تعالى إضافة تشريف، لكم فيها آية عظيمة. وقد ذكر وجه الآية في قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وكان عندهم بئر كبيرة، وهي المعروفة ببئر الناقة، يتناوبونها هم والناقة، للناقة يوم تشربها ويشربون اللبن من ضرعها، ولهم يوم يردونها، وتصدر الناقة عنهم.

وقال لهم نبيهم صالح عليه السلام http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فلا عليكم من مئونتها شيء، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: بعقر أو غيره، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-04-17, 05:09 AM
الحلقة (160)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(80) الى الأية(84)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية


(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ ) في الأرض تتمتعون بها وتدركون مطالبكم ( مِنْ بَعْدِ عَادٍ ) الذين أهلكهم اللّه، وجعلكم خلفاء من بعدهم، ( وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ ) أي: مكن لكم فيها، وسهل لكم الأسباب الموصلة إلى ما تريدون وتبتغون ( تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا ) أي: من الأراضي السهلة التي ليست بجبال، تتخذون فيها القصور العالية والأبنية الحصينة، ( وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ) كما هو مشاهد إلى الآن من أعمالهم التي في الجبال، من المساكن والحجر ونحوها، وهي باقية ما بقيت الجبال، ( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ ) أي: نعمه، وما خولكم من الفضل والرزق والقوة، ( وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) أي: لا تخربوا الأرض بالفساد والمعاصي، فإن المعاصي تدع الديار العامرة بلاقع، وقد أخلت ديارهم منهم، وأبقت مساكنهم موحشة بعدهم.

( قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) أي: الرؤساء والأشراف الذين تكبروا عن الحق، ( لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ) ولما كان المستضعفون ليسوا كلهم مؤمنين، قالوا ( لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ) أي: أهو صادق أم كاذب؟.
فقال المستضعفون: ( إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) من توحيد اللّه والخبر عنه وأمره ونهيه.
(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) حملهم الكبر أن لا ينقادوا للحق الذي انقاد له الضعفاء.
(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ ) التي توعدهم إن مسوها بسوء أن يصيبهم عذاب أليم، ( وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ) أي: قسوا عنه، واستكبروا عن أمره الذي من عتا عنه أذاقه العذاب الشديد. لا جرم أحل اللّه بهم من النكال ما لم يحل بغيرهم ( وَقَالُوا ) مع هذه الأفعال متجرئين على اللّه، معجزين له، غير مبالين بما فعلوا، بل مفتخرين بها: ( يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ) - إن كنت من الصادقين - من العذاب فقال: ( تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) .
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) على ركبهم، قد أبادهم اللّه، وقطع دابرهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَتَوَلَّى عَنْهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg صالح عليه السلام حين أحل اللّه بهم العذاب، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg مخاطبا لهم توبيخا وعتابا بعدما أهلكهم اللّه: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: جميع ما أرسلني اللّه به إليكم، قد أبلغتكم به وحرصت على هدايتكم، واجتهدت في سلوككم الصراط المستقيم والدين القويم. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg بل رددتم قول النصحاء، وأطعتم كل شيطان رجيم.
واعلم أن كثيرا من المفسرين يذكرون في هذه القصة أن الناقة قد خرجت من صخرة صماء ملساء اقترحوها على صالح وأنها تمخضت تمخض الحامل فخرجت الناقة وهم ينظرون وأن لها فصيلا حين عقروها رغى ثلاث رغيات وانفلق له الجبل ودخل فيه وأن صالحا عليه السلام قال لهم: آية نزول العذاب بكم، أن تصبحوا في اليوم الأول من الأيام الثلاثة ووجوهكم مصفرة، واليوم الثاني: محمرة، والثالث: مسودة، فكان كما قال.
وكل هذا من الإسرائيليات التي لا ينبغي نقلها في تفسير كتاب اللّه، وليس في القرآن ما يدل على شيء منها بوجه من الوجوه، بل لو كانت صحيحة لذكرها اللّه تعالى، لأن فيها من العجائب والعبر والآيات ما لا يهمله تعالى ويدع ذكره، حتى يأتي من طريق من لا يوثق بنقله، بل القرآن يكذب بعض هذه المذكورات، فإن صالحا قال لهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: تنعموا وتلذذوا بهذا الوقت القصير جدا، فإنه ليس لكم من المتاع واللذة سوى هذا، وأي لذة وتمتع لمن وعدهم نبيهم وقوع العذاب، وذكر لهم وقوع مقدماته، فوقعت يوما فيوما، على وجه يعمهم ويشملهم [احمرار وجوههم، واصفرارها واسودادها من العذاب] .

هل هذا إلا مناقض للقرآن، ومضاد له؟. فالقرآن فيه الكفاية والهداية عن ما سواه.
نعم لو صح شيء عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مما لا يناقض كتاب اللّه، فعلى الرأس والعين، وهو مما أمر القرآن باتباعه ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) < 1-296 > وقد تقدم أنه لا يجوز تفسير كتاب اللّه بالأخبار الإسرائيلية، ولو على تجويز الرواية عنهم بالأمور التي لا يجزم بكذبها، فإن معاني كتاب اللّه يقينية، وتلك أمور لا تصدق ولا تكذب، فلا يمكن اتفاقهما.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80 - 84) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر القصة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg .

أي: ( و ) اذكر عبدنا ( لُوطًا ) عليه الصلاة والسلام، إذ أرسلناه إلى قومه يأمرهم بعبادة اللّه وحده، وينهاهم عن الفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين، فقال: ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ) أي: الخصلة التي بلغت - في العظم والشناعة - إلى أن استغرقت أنواع الفحش، ( مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ) فكونها فاحشة من أشنع الأشياء، وكونهم ابتدعوها وابتكروها، وسنوها لمن بعدهم، من أشنع ما يكون أيضا.

ثم بينها بقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: كيف تذرون النساء اللاتي خلقهن اللّه لكم، وفيهن المستمتع الموافق للشهوة والفطرة، وتقبلون على أدبار الرجال، التي هي غاية ما يكون في الشناعة والخبث، ومحل تخرج منه الأنتان والأخباث، التي يستحيي من ذكرها فضلا عن ملامستها وقربها، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: متجاوزون لما حده اللّه متجرئون على محارمه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-17, 05:21 AM
الحلقة (161)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(85) الى الأية(93)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية

(وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) أي: يتنزهون عن فعل الفاحشة. ( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) .

(فَأَنْجَيْنَاه وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) أي: الباقين المعذبين، أمره اللّه أن يسري بأهله ليلا فإن العذاب مصبح قومه فسرى بهم، إلا امرأته أصابها ما أصابهم.

(وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا ) أي: حجارة حارة شديدة، من سجيل، وجعل اللّه عاليها سافلها، ( فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) الهلاك والخزي الدائم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا (85 - 93) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر القصة .

أي: ( و ) أرسلنا إلى القبيلة المعروفة بمدين ( أَخَاهُمْ ) في النسب ( شُعَيْبًا ) يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، ويأمرهم بإيفاء المكيال والميزان، وأن لا يبخسوا الناس أشياءهم، وأن لا يعثوا في الأرض مفسدين، بالإكثار من عمل المعاصي، ولهذا قال: ( وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) فإن ترك المعاصي امتثالا لأمر اللّه وتقربا إليه خير، وأنفع للعبد من ارتكابها الموجب لسخط الجبار، وعذاب النار.
(وَلا تَقْعُدُوا ) للناس ( بِكُلِّ صِرَاطٍ ) أي: طريق من الطرق التي يكثر سلوكها، تحذرون الناس منها و http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg تُوعِدُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg من سلكها ( وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) من أراد الاهتداء به http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: تبغون سبيل اللّه تكون معوجة، وتميلونها اتباعا لأهوائكم، وقد كان الواجب عليكم وعلى غيركم الاحترام والتعظيم للسبيل التي نصبها اللّه لعباده ليسلكوها إلى مرضاته ودار كرامته، ورحمهم بها أعظم رحمة، وتصدون لنصرتها والدعوة إليها والذب عنها، لا أن تكونوا أنتم قطاع طريقها، الصادين الناس عنها، فإن هذا كفر لنعمة اللّه ومحادة للّه، وجعل أقوم الطرق وأعدلها مائلة، وتشنعون على من سلكها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاذْكُرُوا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg نعمة اللّه عليكم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: نماكم بما أنعم عليكم من الزوجات والنسل، والصحة، وأنه ما ابتلاكم بوباء أو أمراض من الأمراض المقللة لكم، ولا سلط عليكم عدوا يجتاحكم ولا فرقكم في الأرض، بل أنعم عليكم باجتماعكم، وإدرار الأرزاق وكثرة النسل.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فإنكم لا تجدون في جموعهم إلا الشتات، ولا في ربوعهم إلا الوحشة والانبتات ولم يورثوا ذكرا حسنا، بل أتبعوا في هذه الدنيا لعنة، ويوم القيامة أشد خزيا وفضيحة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهم الجمهور منهم. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فينصر المحق، ويوقع العقوبة على المبطل.

ابو وليد البحيرى
2019-04-17, 05:27 AM
الحلقة (162)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(94) الى الأية(95)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية

(قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) وهم الأشراف والكبراء منهم الذين اتبعوا أهواءهم ولهوا بلذاتهم، فلما أتاهم الحق ورأوه غير موافق لأهوائهم الرديئة، ردوه واستكبروا عنه، فقالوا لنبيهم شعيب ومن معه من المؤمنين المستضعفين: ( لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) استعملوا قوتهم السبعية، في مقابلة الحق، ولم يراعوا دينا ولا ذمة ولا حقا، وإنما راعوا واتبعوا أهواءهم وعقولهم السفيهة التي دلتهم على هذا القول الفاسد، فقالوا: إما أن ترجع أنت ومن معك إلى ديننا أو لنخرجنكم من قريتنا.
فـ ( شعيب ) عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم طامعا في إيمانهم، والآن لم يسلم من شرهم، حتى توعدوه إن لم يتابعهم - بالجلاء عن وطنه، الذي هو ومن معه أحق به منهم.
فـ ( قَالَ ) لهم شعيب عليه الصلاة والسلام متعجبا من قولهم: ( أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ) أي: أنتابعكم على دينكم وملتكم الباطلة، ولو كنا كارهين لها لعلمنا ببطلانها، فإنما يدعى إليها من له نوع رغبة فيها، أما من يعلن بالنهي عنها، والتشنيع على من اتبعها فكيف < 1-297 > يدعى إليها؟
(قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ) أي: اشهدوا علينا أننا إن عدنا إليها بعد ما نجانا اللّه منها وأنقذنا من شرها، أننا كاذبون مفترون على اللّه الكذب، فإننا نعلم أنه لا أعظم افتراء ممن جعل للّه شريكا، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يتخذ ولدا ولا صاحبة، ولا شريكا في الملك.
(وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا ) أي: يمتنع على مثلنا أن نعود فيها، فإن هذا من المحال، فآيسهم عليه الصلاة والسلام من كونه يوافقهم من وجوه متعددة، من جهة أنهم كارهون لها مبغضون لما هم عليه من الشرك. ومن جهة أنه جعل ما هم عليه كذبا، وأشهدهم أنه إن اتبعهم ومن معه فإنهم كاذبون.
ومنها: اعترافهم بمنة اللّه عليهم إذ أنقذهم اللّه منها.
ومنها: أن عودهم فيها - بعد ما هداهم اللّه - من المحالات، بالنظر إلى حالتهم الراهنة، وما في قلوبهم من تعظيم اللّه تعالى والاعتراف له بالعبودية، وأنه الإله وحده الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، وأن آلهة المشركين أبطل الباطل، وأمحل المحال.
وحيث إن اللّه منَّ عليهم بعقول يعرفون بها الحق والباطل، والهدى والضلال.
وأما من حيث النظر إلى مشيئة اللّه وإرادته النافذة في خلقه، التي لا خروج لأحد عنها، ولو تواترت الأسباب وتوافقت القوى، فإنهم لا يحكمون على أنفسهم أنهم سيفعلون شيئا أو يتركونه، ولهذا استثنى ( وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ( أي: فلا يمكننا ولا غيرنا، الخروج عن مشيئته التابعة لعلمه وحكمته، وقد http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فيعلم ما يصلح للعباد وما يدبرهم عليه. ( عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ) أي: اعتمدنا أنه سيثبتنا على الصراط المستقيم، وأن يعصمنا من جميع طرق الجحيم، فإن من توكل على اللّه، كفاه، ويسر له أمر دينه ودنياه.
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ ) أي: انصر المظلوم، وصاحب الحق، على الظالم المعاند للحق ( وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) وفتحه تعالى لعباده نوعان: فتح العلم، بتبيين الحق من الباطل، والهدى من الضلال، ومن هو من المستقيمين على الصراط، ممن هو منحرف عنه.
والنوع الثاني: فتحه بالجزاء وإيقاع العقوبة على الظالمين، والنجاة والإكرام للصالحين، فسألوا اللّه أن يفتح بينهم وبين قومهم بالحق والعدل، وأن يريهم من آياته وعبره ما يكون فاصلا بين الفريقين.
(وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) محذرين عن اتباع شعيب، ( لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ) هذا ما سولت لهم أنفسهم أن الخسارة والشقاء في اتباع الرشد والهدى، ولم يدروا أن الخسارة كل الخسارة في لزوم ما هم عليه من الضلال والإضلال، وقد علموا ذلك حين وقع بهم النكال.
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ) أي: الزلزلة الشديدة ( فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) أي: صرعى ميتين هامدين.
قال تعالى ناعيا حالهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: كأنهم ما أقاموا في ديارهم، وكأنهم ما تمتعوا في عرصاتها، ولا تفيئوا في ظلالها، ولا غنوا في مسارح أنهارها، ولا أكلوا من ثمار أشجارها، حين فاجأهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg العذاب، فنقلهم من مورد اللهو واللعب واللذات، إلى مستقر الحزن والشقاء والعقاب والدركات ولهذا قال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: الخسار محصور فيهم، لأنهم خسروا دينهم وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين، لا من قالوا لهم: ( لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ) .
فحين هلكوا تولى عنهم نبيهم شعيب عليه الصلاة والسلام http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg معاتبا وموبخا ومخاطبا بعد موتهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: أوصلتها إليكم، وبينتها حتى بلغت منكم أقصى ما يمكن أن تصل إليه، وخالطت أفئدتكم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَنَصَحْتُ لَكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فلم تقبلوا نصحي، ولا انقدتم لإرشادي، بل فسقتم وطغيتم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: فكيف أحزن على قوم لا خير فيهم، أتاهم الخير فردوه ولم يقبلوه ولا يليق بهم إلا الشر، فهؤلاء غير حقيقين أن يحزن عليهم، بل يفرح بإهلاكهم ومحقهم. فعياذا بك اللهم من الخزي والفضيحة، وأي: شقاء وعقوبة أبلغ من أن يصلوا إلى حالة يتبرأ منهم أنصح الخلق لهم؟.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ ) يدعوهم إلى عبادة اللّه، وينهاهم عن ما هم فيه من الشر، فلم ينقادوا له: إلا ابتلاهم الله ( بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ) أي: بالفقر والمرض وأنواع البلايا ( لَعَلَّهُمْ ) إذا أصابتهم، أخضعت نفوسهم فتضرعوا إلى الله واستكانوا للحق.
( ثُمَّ ) إذا لم يفد فيهم، واستمر استكبارهم، وازداد طغيانهم.
( بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ) فَأدَرَّ عليهم الأرزاق، وعافى أبدانهم، ورفع عنهم البلاء ( حَتَّى عَفَوْا ) أي: كثروا، وكثرت أرزاقهم وانبسطوا في نعمة اللّه وفضله، ونسوا ما مر عليهم من البلاء. ( وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ) أي: هذه عادة جارية لم تزل موجودة في الأولين واللاحقين، تارة < 1-298 > يكونون في سراء وتارة في ضراء، وتارة في فرح، ومرة في ترح، على حسب تقلبات الزمان وتداول الأيام، وحسبوا أنها ليست للموعظة والتذكير، ولا للاستدراج والنكير حتى إذا اغتبطوا، وفرحوا بما أوتوا، وكانت الدنيا، أسر ما كانت إليهم، أخذناهم بالعذاب ( بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أي: لا يخطر لهم الهلاك على بال، وظنوا أنهم قادرون على ما آتاهم اللّه، وأنهم غير زائلين ولا منتقلين عنه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-17, 05:30 AM
الحلقة (163)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(96) الى الأية(171)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما ذكر تعالى أن المكذبين للرسل يبتلون بالضراء موعظة وإنذارا، وبالسراء استدراجا ومكرا، ذكر أن أهل القرى، لو آمنوا بقلوبهم إيمانا صادقا صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى اللّه تعالى ظاهرا وباطنا بترك جميع ما حرم اللّه، لفتح عليهم بركات السماء والأرض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم، في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كد ولا نصب، ولكنهم لم يؤمنوا ويتقوا ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) بالعقوبات والبلايا ونزع البركات، وكثرة الآفات، وهي بعض جزاء أعمالهم، وإلا فلو آخذهم بجميع ما كسبوا، ما ترك عليها من دابة. ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .
( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى ) أي: المكذبة، بقرينة السياق ( أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ) أي: عذابنا الشديد ( بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ) أي: في غفلتهم، وغرتهم وراحتهم.
( أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) أي: أي شيء يؤمنهم من ذلك، وهم قد فعلوا أسبابه، وارتكبوا من الجرائم العظيمة، ما يوجب بعضه الهلاك؟!
( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ) حيث يستدرجهم من حيث لا يعلمون، ويملي لهم، إن كيده متين، ( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) فإن من أمن من عذاب اللّه، فهو http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لم يصدق بالجزاء على الأعمال، ولا آمن بالرسل حقيقة الإيمان.
وهذه الآية الكريمة فيها من التخويف البليغ، على أن العبد لا ينبغي له أن يكون آمنا على ما معه من الإيمان.
بل لا يزال خائفا وجلا أن يبتلى ببلية تسلب ما معه من الإيمان، وأن لا يزال داعيا بقوله: ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) وأن يعمل ويسعى، في كل سبب يخلصه من الشر، عند وقوع الفتن، فإن العبد - ولو بلغت به الحال ما بلغت - فليس على يقين من السلامة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى منبها للأمم الغابرين بعد هلاك الأمم الغابرين ( أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ) أي: أو لم يتبين ويتضح للأمم الذين ورثوا الأرض، بعد إهلاك من قبلهم بذنوبهم، ثم عملوا كأعمال أولئك المهلكين؟.
أو لم يهتدوا أن اللّه، لو شاء لأصابهم بذنوبهم، فإن هذه سنته في الأولين والآخرين.
وقوله: ( وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) أي: إذا نبههم اللّه فلم ينتبهوا، وذكرهم فلم يتذكروا، وهداهم بالآيات والعبر فلم يهتدوا، فإن اللّه تعالى يعاقبهم ويطبع على قلوبهم، فيعلوها الران والدنس، حتى يختم عليها، فلا يدخلها حق، ولا يصل إليها خير، ولا يسمعون ما ينفعهم، وإنما يسمعون ما به تقوم الحجة عليهم.
( تِلْكَ الْقُرَى ) الذين تقدم ذكرهم ( نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا ) ما يحصل به عبرة للمعتبرين، وازدجار للظالمين، وموعظة للمتقين.
( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) أي: ولقد جاءت هؤلاء المكذبين رسلهم تدعوهم إلى ما فيه سعادتهم، وأيدهم اللّه بالمعجزات الظاهرة، والبينات المبينات للحق بيانا كاملا ولكنهم لم يفدهم هذا، ولا أغنى عنهم شيئا، ( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ) أي: بسبب تكذيبهم وردهم الحق أول مرة، ما كان الله ليهديهم < 1-299 > للإيمان، جزاء لهم على ردهم الحق، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ) عقوبة منه. وما ظلمهم اللّه ولكنهم ظلموا أنفسهم.
( وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ) أي: وما وجدنا لأكثر الأمم الذين أرسل اللّه إليهم الرسل من عهد، أي: من ثبات والتزام لوصية اللّه التي أوصى بها جميع العالمين، ولا انقادوا لأوامره التي ساقها إليهم على ألسنة رسله.
( وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ) أي: خارجين عن طاعة اللّه، متبعين لأهوائهم بغير هدى من اللّه، فاللّه تعالى امتحن العباد بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وأمرهم باتباع عهده وهداه، فلم يمتثل لأمره إلا القليل من الناس، الذين سبقت لهم من اللّه سابقة السعادة.
وأما أكثر الخلق فأعرضوا عن الهدى، واستكبروا عما جاءت به الرسل، فأحل اللّه بهم من عقوباته المتنوعة ما أحل.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ (103 - 171) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر قصته http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg .

أي: ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى الكليم، الإمام العظيم، والرسول الكريم، إلى قوم عتاة جبابرة، وهم فرعون وملؤه، من أشرافهم وكبرائهم، فأراهم من آيات اللّه العظيمة ما لم يشاهد له نظير http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَظَلَمُوا بِهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg بأن لم ينقادوا لحقها الذي من لم ينقد له فهو ظالم، بل استكبروا عنها. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg كيف أهلكهم اللّه، وأتبعهم الذم واللعنة في الدنيا ويوم القيامة، بئس الرفد المرفود، وهذا مجمل فصله بقوله:

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَ مُوسَى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg حين جاء إلى فرعون يدعوه إلى الإيمان.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: إني رسول من مرسل عظيم، وهو رب العالمين، الشامل للعالم العلوي والسفلي، مربي جميع خلقه بأنواع التدابير الإلهية، التي من جملتها أنه لا يتركهم سدى، بل يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، وهو الذي لا يقدر أحد أن يتجرأ عليه، ويدعي أنه أرسله ولم يرسله.

فإذا كان هذا شأنه، وأنا قد اختارني واصطفاني لرسالته، فحقيق علي أن لا أكذب عليه، ولا أقول عليه إلا الحق. فإني لو قلت غير ذلك لعاجلني بالعقوبة، وأخذني أخذ عزيز مقتدر.
فهذا موجب لأن ينقادوا له ويتبعوه، خصوصا وقد جاءهم ببينة من اللّه واضحة على صحة ما جاء به من الحق، فوجب عليهم أن يعملوا بمقصود رسالته، ولها مقصودان عظيمان. إيمانهم به، واتباعهم له، وإرسال بني إسرائيل الشعب الذي فضله اللّه على العالمين، أولاد الأنبياء، وسلسلة يعقوب عليه السلام، الذي موسى عليه الصلاة والسلام واحد منهم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-17, 05:37 AM
الحلقة (164)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(96) الى الأية(171)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية


فقال له فرعون: ( إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .
(فَأَلْقَى ) موسى ( عَصَاهُ ) في الأرض ( فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) أي: حية ظاهرة تسعى، وهم يشاهدونها.
(وَنَزَعَ يَدَهُ ) من جيبه ( فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ) من غير سوء، فهاتان آيتان كبيرتان دالتان على صحة ما جاء به موسى وصدقه، وأنه رسول رب العالمين، ولكن الذين لا يؤمنون لو جاءتهم كل آية لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
فلهذا ( قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ ) حين بهرهم ما رأوا من الآيات، ولم يؤمنوا، وطلبوا لها التأويلات الفاسدة: ( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) أي: ماهر في سحره.
ثم خوفوا ضعفاء الأحلام وسفهاء العقول، بأنه ( يُرِيدُ ) موسى بفعله هذا ) أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ) أي: يريد أن يجليكم عن أوطانكم ( فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ) أي: إنهم تشاوروا فيما بينهم ما يفعلون بموسى، وما يندفع به ضرره بزعمهم عنهم، فإن ما جاء به إن لم يقابل بما يبطله ويدحضه، وإلا دخل في عقول أكثر الناس.
فحينئذ انعقد رأيهم إلى أن قالوا لفرعون: ( أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ) أي: احبسهما وأمهلهما، وابعث في المدائن أناسا يحشرون أهل المملكة ويأتون بكل سحار عليم، أي: يجيئون بالسحرة المهرة، ليقابلوا ما جاء به موسى، فقالوا: يا موسى اجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى.
(قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ) .
وقال هنا: ( وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ ) طالبين منه الجزاء إن غلبوا فـ ( قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ) ؟
فـ ( قَالَ ) فرعون: ( نَعَمْ ) لكم أجر ( وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) فوعدهم الأجر والتقريب، وعلو المنزلة عنده، ليجتهدوا ويبذلوا وسعهم وطاقتهم في مغالبة موسى.
فلما حضروا مع موسى بحضرة الخلق العظيم ( قَالُوا ) على وجه التألي وعدم < 1-300 > المبالاة بما جاء به موسى: ( يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ) ما معك ( وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ) .
فـ ( قَالَ ) موسى: ( أَلْقُوا ) لأجل أن يرى الناس ما معهم وما مع موسى.
(فَلَمَّا أَلْقَوْا ) حبالهم وعصيهم، إذا هي من سحرهم كأنها حيات تسعى، فـ ( سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوه ُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ) لم يوجد له نظير من السحر.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فَأَلْقَاهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَإِذَا هِيَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg حية تسعى، فـ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg تَلْقَفُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg جميع http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا يَأْفِكُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: يكذبون به ويموهون.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَوَقَعَ الْحَقُّ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: تبين وظهر، واستعلن في ذلك المجمع، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَغُلِبُوا هُنَالِكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: في ذلك المقام http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: حقيرين قد اضمحل باطلهم، وتلاشى سحرهم، ولم يحصل لهم المقصود الذي ظنوا حصوله.

وأعظم من تبين له الحق العظيم أهل الصنف والسحر، الذين يعرفون من أنواع السحر وجزئياته، ما لا يعرفه غيرهم، فعرفوا أن هذه آية عظيمة من آيات اللّه لا يدان لأحد بها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-04-17, 05:44 AM
الحلقة (165)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(96) الى الأية(171)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية

(قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ) أي: وصدقنا بما بعث به موسى من الآيات البينات.
فـ ( قَالَ ) لَهُمْ ( فِرْعَوْنُ ) متهددا على الإيمان: ( آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) كان الخبيث حاكما مستبدا على الأبدان والأقوال، قد تقرر عنده وعندهم أن قوله هو المطاع، وأمره نافذ فيهم، ولا خروج لأحد عن قوله وحكمه، وبهذه الحالة تنحط الأمم وتضعف عقولها ونفوذها، وتعجز عن المدافعة عن حقوقها، ولهذا قال اللّه عنه: ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ) وقال هنا: ( آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) أي: فهذا سوء أدب منكم وتجرؤ عَليَّ. ثم موه على قومه وقال: ( إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ) أي: إن موسى كبيركم الذي علمكم السحر، فتواطأتم أنتم وهو على أن تنغلبوا له، فيظهر فتتبعوه، ثم يتبعكم الناس أو جمهورهم فتخرجوا منها أهلها.
وهذا كذب يعلم هو ومن سبر الأحوال، أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يجتمع بأحد منهم، وأنهم جمعوا على نظر فرعون ورسله، وأن ما جاء به موسى آية إلهية، وأن السحرة قد بذلوا مجهودهم في مغالبة موسى، حتى عجزوا، وتبين لهم الحق، فاتبعوه.
ثم توعدهم فرعون بقوله: ( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ما أحل بكم من العقوبة.
(لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ) زعم الخبيث أنهم مفسدون في الأرض، وسيصنع بهم ما يصنع بالمفسدين، من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أي: اليد اليمنى والرجل اليسرى.
(ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُ مْ ) في جذوع النخل، لتختزوا بزعمه ( أَجْمَعِينَ ) أي: لا أفعل هذا الفعل بأحد دون أحد، بل كلكم سيذوق هذا العذاب.
فقال السحرة، الذين آمنوا لفرعون حين تهددهم: ( إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ) أي: فلا نبالي بعقوبتك، فاللّه خير وأبقى، فاقض ما أنت قاض.
(وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا ) أي: وما تعيب منا على إنكارك علينا وتوعدك لنا؟ فليس لنا ذنب ( إِلا أَنْ آمَنَّا ) بـ[آيَاتِ] ربنا [لما جاءتنا] فإن كان هذا ذنبا يعاب عليه، ويستحق صاحبه العقوبة، فهو ذنبنا.
ثم دعوا اللّه أن يثبتهم ويصبرهم فقالوا: ( رَبَّنَا أَفْرِغْ ) أي: أفض ( عَلَيْنَا صَبْرًا ) أي: عظيما، كما يدل عليه التنكير، لأن هذه محنة عظيمة، تؤدي إلى ذهاب النفس، فيحتاج فيها من الصبر إلى شيء كثير، ليثبت الفؤاد، ويطمئن المؤمن على إيمانه، ويزول عنه الانزعاج الكثير.
(وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ) أي: منقادين لأمرك، متبعين لرسولك، والظاهر أنه أوقع بهم ما توعدهم عليه، وأن اللّه تعالى ثبتهم على الإيمان.
هذا وفرعون وملؤه وعامتهم المتبعون للملأ قد استكبروا عن آيات اللّه، وجحدوا بها ظلما وعلوا، وقالوا لفرعون مهيجين له على الإيقاع بموسى، وزاعمين أن ما جاء باطل وفساد: ) أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ ) بالدعوة إلى اللّه، وإلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، التي هي الصلاح في الأرض، وما هم عليه هو الفساد، ولكن الظالمين لا يبالون بما يقولون.
(وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) أي: يدعك أنت وآلهتك، وينهى عنك، ويصد الناس عن اتباعك.
فـ ( قَالَ ) فرعون مجيبا لهم، بأنه سيدع بني إسرائيل مع موسى بحالة لا ينمون فيها، ويأمن http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg فرعون وقومه - بزعمه - من ضررهم: ( سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ) أي: نستبقيهن فلا نقتلهن، فإذا فعلنا ذلك أمنا من كثرتهم، وكنا مستخدمين لباقيهم، ومسخرين لهم على ما نشاء من الأعمال ( وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) لا خروج لهم عن حكمنا، ولا قدرة، وهذا نهاية الجبروت من فرعون والعتو والقسوة.
فـ ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ) موصيا لهم في هذه الحالة، - التي لا يقدرون معها على شيء، ولا مقاومة - بالمقاومة الإلهية، والاستعانة الربانية: ( اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ ) أي: اعتمدوا عليه في جلب ما ينفعكم، ودفع ما يضركم، وثقوا باللّه ، أنه سيتم أمركم ( وَاصْبِرُوا ) أي: الزموا الصبر على ما يحل بكم، منتظرين للفرج.
(إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ ) ليست لفرعون ولا لقومه حتى يتحكموا فيها ( يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) < 1-301 > أي: يداولها بين الناس على حسب مشيئته وحكمته، ولكن العاقبة للمتقين، فإنهم - وإن امتحنوا مدة ابتلاء من اللّه وحكمة، فإن النصر لهم، ( وَالْعَاقِبَةُ ) الحميدة لهم على قومهم وهذه وظيفة العبد، أنه عند القدرة، أن يفعل من الأسباب الدافعة عنه أذى الغير، ما يقدر عليه، وعند العجز، أن يصبر ويستعين اللّه، وينتظر الفرج.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالُوا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg لموسى متضجرين من طول ما مكثوا في عذاب فرعون، وأذيته: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فإنهم يسوموننا سوء العذاب، يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg كذلك فـ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg لهم موسى مرجيا [لهم] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الفرج والخلاص من شرهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَك ُمْ فِي الأَرْضِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: يمكنكم فيها، ويجعل لكم التدبير فيها http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg هل تشكرون أم تكفرون؟. وهذا وعد أنجزه اللّه لما جاء الوقت الذي أراده اللّه.

قال اللّه تعالى في بيان ما عامل به آل فرعون في هذه المدة الأخيرة، أنها على عادته وسنته في الأمم، أن يأخذهم بالبأساء والضراء، لعلهم يضرعون. الآيات: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: بالدهور والجدب، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: يتعظون أن ما حل بهم وأصابهم معاتبة من اللّه لهم، لعلهم يرجعون عن كفرهم، فلم ينجع فيهم ولا أفاد، بل استمروا على الظلم والفساد.

ابو وليد البحيرى
2019-04-22, 05:45 AM
الحلقة (166)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(96) الى الأية(171)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية


(فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ ) أي: الخصب وإدرار الرزق ( قَالُوا لَنَا هَذِهِ ) أي: نحن مستحقون لها، فلم يشكروا اللّه عليها ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ) أي: قحط وجدب ( يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ) أي: يقولوا: إنما جاءنا بسبب مجيء موسى، واتباع بني إسرائيل له.
قال اللّه تعالى: ( أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ) أي: بقضائه وقدرته، ليس كما قالوا، بل إن ذنوبهم وكفرهم هو السبب في ذلك، بل ( أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أي: فلذلك قالوا ما قالوا.
(وَقَالُوا ) مبينين لموسى أنهم لا يزالون، ولا يزولون عن باطلهم: ( مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) أي: قد تقرر عندنا أنك ساحر، فمهما جئت بآية، جزمنا أنها سحر، فلا نؤمن لك ولا نصدق، وهذا غاية ما يكون من العناد، أن يبلغ بالكافرين إلى أن تستوي عندهم الحالات، سواء نزلت عليهم الآيات أم لم تنزل.
(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ ) أي: الماء الكثير الذي أغرق أشجارهم وزروعهم، وأضر بهم ضررا كثيرا ( وَالْجَرَادَ ) فأكل ثمارهم وزروعهم، ونباتهم ( وَالْقُمَّلَ ) قيل: إنه الدباء، أي: صغار الجراد، والظاهر أنه القمل المعروف ( وَالضَّفَادِعَ ) فملأت أوعيتهم، وأقلقتهم، وآذتهم أذية شديدة ( وَالدَّمَ ) إما أن يكون الرعاف، أو كما قال كثير من المفسرين، أن ماءهم الذي يشربون انقلب دما، فكانوا لا يشربون إلا دما، ولا يطبخون إلا بدم.
(آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ ) أي: أدلة وبينات على أنهم كانوا كاذبين ظالمين، وعلى أن ما جاء به موسى، حق وصدق ( فَاسْتَكْبَرُوا ( لما رأوا الآيات ( وَكَانُوا ) في سابق أمرهم ( قَوْمًا مُجْرِمِينَ ) فلذلك عاقبهم اللّه تعالى، بأن أبقاهم على الغي والضلال.
(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ ) أي: العذاب، يحتمل أن المراد به: الطاعون، كما قاله كثير من المفسرين، ويحتمل أن يراد به ما تقدم من الآيات: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، فإنها رجز وعذاب، وأنهم كلما أصابهم واحد منها ( قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ) أي: تشفعوا بموسى بما عهد اللّه عنده من الوحي والشرع، ( لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وهم في ذلك كذبة، لا قصد لهم إلا زوال ما حل بهم من العذاب، وظنوا إذا رفع لا يصيبهم غيره.
(فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ ) أي: إلى مدة قدر اللّه بقاءهم إليها، وليس كشفا مؤبدا، وإنما هو مؤقت، ( إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ) العهد الذي عاهدوا عليه موسى، ووعدوه بالإيمان به، وإرسال بني إسرائيل، فلا آمنوا به ولا أرسلوا معه بني إسرائيل، بل استمروا على كفرهم يعمهون، وعلى تعذيب بني إسرائيل دائبين.
(فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) أي: حين جاء الوقت المؤقت لهلاكهم، أمر اللّه موسى أن يسري ببني إسرائيل ليلا وأخبره أن فرعون سيتبعهم هو وجنوده http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg يجمعون الناس ليتبعوا بني إسرائيل، وقالوا لهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُ مْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وقال هنا: ( فَأَغْرَقْنَاهُ مْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ) أي: بسبب تكذيبهم بآيات اللّه وإعراضهم عما دلت عليه من الحق.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg في الأرض، أي: بني إسرائيل الذين كانوا خدمة لآل < 1-302 > فرعون، يسومونهم سوء العذاب أورثهم اللّه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg والمراد بالأرض هاهنا، أرض مصر، التي كانوا فيها مستضعفين، أذلين، أي: ملكهم اللّه جميعا، ومكنهم فيها الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg حين قال لهم موسى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg من الأبنية الهائلة، والمساكن المزخرفة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-04-22, 05:52 AM
الحلقة (167)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(96) الى الأية(171)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية



(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ ) بعد ما أنجاهم اللّه من عدوهم فرعون وقومه، وأهلكهم اللّه، وبنو إسرائيل ينظرون.

(فَأَتَوْا ) أي: مروا ( عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ ) أي: يقيمون عندها ويتبركون بها، ويعبدونها.
فـ ( قَالُوا ) من جهلهم وسفههم لنبيهم موسى بعدما أراهم الله من الآيات ما أراهم ( يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ) أي: اشرع لنا أن نتخذ أصناما آلهة كما اتخذها هؤلاء.
فـ ( قَالَ ) لهم موسى: ( إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) وأي جهل أعظم من جهل من جهل ربه وخالقه وأراد أن يسوي به غيره، ممن لا يملك نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا؟
ولهذا قال لهم موسى ( إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) لأن دعاءهم إياها باطل، وهي باطلة بنفسها، فالعمل باطل وغايته باطلة.
(قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا ) أي: أأطلب لكم إلها غير اللّه المألوه، الكامل في ذاته، وصفاته وأفعاله. ( وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) فيقتضي أن تقابلوا فضله، وتفضيله بالشكر، وذلك بإفراده وحده بالعبادة، والكفر بما يدعي من دونه.
ثم ذكرهم بما امتن اللّه به عليهم فقال: ( وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) أي: من فرعون وآله ( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ) أي: يوجهون إليكم من العذاب أسوأه، وهو أنهم كانوا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ ) النجاة من عذابهم ( بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) أي: نعمة جليلة، ومنحة جزيلة، أو: وفي ذلك العذاب الصادر منهم لكم بلاء من ربكم عليكم عظيم، فلما ذكرهم موسى ووعظهم انتهوا عن ذلك.
ولما أتم اللّه نعمته عليهم بالنجاة من عدوهم، وتمكينهم في الأرض، أراد تبارك وتعالى أن يتم نعمته عليهم، بإنزال الكتاب الذي فيه الأحكام الشرعية، والعقائد المرضية، فواعد موسى ثلاثين ليلة، وأتمها بعشر، فصارت أربعين ليلة، ليستعد موسى، ويتهيأ لوعد اللّه، ويكون لنزولها موقع كبير لديهم، وتشوق إلى إنزالها.
ولما ذهب موسى إلى ميقات ربه قال لهارون موصيا له على بني إسرائيل من حرصه عليهم وشفقته: ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) أي: كن خليفتي فيهم، واعمل فيهم بما كنت أعمل، ( وَأَصْلِحْ ) أي: اتبع طريق الصلاح ( وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) وهم الذين يعملون بالمعاصي.
(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا ) الذي وقتناه له لإنزال الكتاب ( وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) بما كلمه من وحيه وأمره ونهيه، تشوق إلى رؤية اللّه، ونزعت نفسه لذلك، حبا لربه ومودة لرؤيته.
فـ ( قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ ) اللَّهِ ( لَنْ تَرَانِي ) أي: لن تقدر الآن على رؤيتي، فإن اللّه تبارك وتعالى أنشأ الخلق في هذه الدار على نشأة لا يقدرون بها، ولا يثبتون لرؤية اللّه، وليس في هذا دليل على أنهم لا يرونه في الجنة، فإنه قد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم، وأنه ينشئهم نشأة كاملة، يقدرون معها على رؤية اللّه تعالى، ولهذا رتب اللّه الرؤية في هذه الآية على ثبوت الجبل، فقال - مقنعا لموسى في عدم إجابته للرؤية - ( وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ ) إذا تجلى اللّه له ( فَسَوْفَ تَرَانِي ) .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الأصم الغليظ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg جَعَلَهُ دَكًّا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: انهال مثل الرمل، انزعاجا من رؤية اللّه وعدم ثبوته لها http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَخَرَّ مُوسَى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg حين رأى ما رأى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg صَعِقًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فتبين له حينئذ أنه إذا لم يثبت الجبل لرؤية اللّه، فموسى أولى أن لا يثبت لذلك، واستغفر ربه لما صدر منه من السؤال، الذي لم يوافق موضعا و[لذلك] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ سُبْحَانَكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: تنزيها لك، وتعظيما عما لا يليق بجلالك http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg تُبْتُ إِلَيْكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg من جميع الذنوب، وسوء الأدب معك http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: جدد عليه الصلاة والسلام إيمانه، بما كمل اللّه له مما كان يجهله قبل ذلك، فلما منعه اللّه من رؤيته - بعدما ما كان متشوقا إليها - أعطاه خيرا كثيرا فقال:

ابو وليد البحيرى
2019-04-22, 06:00 AM
الحلقة (168)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(96) الى الأية(171)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية

(يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ ) أي: اخترتك واجتبيتك وفضلتك < 1-303 > وخصصتك بفضائل عظيمة، ومناقب جليلة، ( بِرِسَالاتِي ) التي لا أجعلها، ولا أخص بها إلا أفضل الخلق.

(وَبِكَلامِي ) إياك من غير واسطة، وهذه فضيلة اختص بها موسى الكليم، وعرف بها من بين إخوانه من المرسلين، ( فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ ) من النعم، وخذ ما آتيتك من الأمر والنهي بانشراح صدر، وتلقه بالقبول والانقياد، ( وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) لله على ما خصك وفضلك.
(وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) يحتاج إليه العباد ( مَوْعِظَةً ) ترغب النفوس في أفعال الخير، وترهبهم من أفعال الشر، ( وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ ) من الأحكام الشرعية، والعقائد والأخلاق والآداب ( فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ) أي: بجد واجتهاد على إقامتها، ( وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ) وهي الأوامر الواجبة والمستحبة، فإنها أحسنها، وفي هذا دليل على أن أوامر اللّه - في كل شريعة - كاملة عادلة حسنة.
(سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) بعد ما أهلكهم اللّه، وأبقى ديارهم عبرة بعدهم، يعتبر بها المؤمنون الموفقون المتواضعون.
وأما غيرهم، فقال عنهم: ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ ) أي: عن الاعتبار في الآيات الأفقية والنفسية، والفهم لآيات الكتاب ( الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) أي: يتكبرون على عباد اللّه وعلى الحق، وعلى من جاء به، فمن كان بهذه الصفة، حرمه اللّه خيرا كثيرا وخذله، ولم يفقه من آيات اللّه ما ينتفع به، بل ربما انقلبت عليه الحقائق، واستحسن القبيح.
(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ) لإعراضهم واعتراضهم، ومحادتهم للّه ورسوله، ( وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ ) أي: الهدى والاستقامة، وهو الصراط الموصل إلى اللّه، وإلى دار كرامته ( لا يَتَّخِذُوهُ ) أي: لا يسلكوه ولا يرغبوا فيه ( وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ ) أي: الغواية الموصل لصاحبه إلى دار الشقاء ( يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ) والسبب في انحرافهم هذا الانحراف http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فردهم لآيات اللّه، وغفلتهم عما يراد بها واحتقارهم لها - هو الذي أوجب لهم من سلوك طريق الغي، وترك طريق الرشد ما أوجب.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg العظيمة الدالة على صحة ما أرسلنا به رسلنا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg لأنها على غير أساس، وقد فقد شرطها وهو الإيمان بآيات اللّه، والتصديق بجزائه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هَلْ يُجْزَوْنَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg في بطلان أعمالهم وحصول ضد مقصودهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فإن أعمال من لا يؤمن باليوم الآخر، لا يرجو فيها ثوابا، وليس لها غاية تنتهي إليه، فلذلك اضمحلت وبطلت.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg صاغه السامري وألقى عليه قبضة من أثر الرسول فصار http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَهُ خُوَارٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وصوت، فعبدوه واتخذوه إلها.
وقال http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg موسى، وذهب يطلبه، وهذا من سفههم، وقلة بصيرتهم، كيف اشتبه عليهم رب الأرض والسماوات، بعجل من أنقص المخلوقات؟"
ولهذا قال مبينا أنه ليس فيه من الصفات الذاتية ولا الفعلية، ما يوجب أن يكون إلها ( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ ) أي: وعدم الكلام نقص عظيم، فهم أكمل حالة من هذا الحيوان أو الجماد، الذي لا يتكلم ( وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا ) أي: لا يدلهم طريقا دينيا، ولا يحصل لهم مصلحة دنيوية، لأن من المتقرر في العقول والفطر، أن اتخاذ إله لا يتكلم ولا ينفع ولا يضر من أبطل الباطل، وأسمج السفه، ولهذا قال: ( اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ) حيث وضعوا العبادة في غير موضعها، وأشركوا باللّه ما لم ينزل به سلطانا، وفيها دليل على أن من أنكر كلام اللّه، فقد أنكر خصائص إلهية اللّه تعالى، لأن اللّه ذكر أن عدم الكلام دليل على عدم صلاحية الذي لا يتكلم للإلهية.

(وَلَمَّا ) رجع موسى إلى قومه، فوجدهم على هذه الحال، وأخبرهم بضلالهم ندموا و ( سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ) أي: من الهم والندم على فعلهم، ( وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا ) فتنصلوا، إلى اللّه وتضرعوا و ( قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا ) فيدلنا عليه، ويرزقنا عبادته، ويوفقنا لصالح الأعمال، ( وَيَغْفِرْ لَنَا ) ما صدر منا من عبادة العجل ( لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الذين خسروا الدنيا والآخرة.

ابو وليد البحيرى
2019-04-22, 06:07 AM
الحلقة (169)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(96) الى الأية(171)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية


(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ) أي: ممتلئا غضبا وغيظا عليهم، لتمام غيرته عليه الصلاة السلام، وكمال نصحه وشفقته، ) قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ( أي: بئس الحالة التي خلفتموني بها من بعد ذهابي عنكم، فإنها حالة تفضي إلى الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي.

(أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ) حيث وعدكم بإنزال الكتاب. فبادرتم - برأيكم الفاسد - إلى هذه الخصلة القبيحة ( وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ ) أي: رماها من الغضب ( وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ ) هارون ولحيته ( يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ) وقال له: ( مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) لك بقولي: ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) فـ ( قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) < 1-304 > و ( قَالَ ) هنا ( ابْنَ أُمَّ ) هذا ترقيق لأخيه، بذكر الأم وحدها، وإلا فهو شقيقه لأمه وأبيه: ( إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي ) أي: احتقروني حين قلت لهم: ( يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) ( وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) أي: فلا تظن بي تقصيرا ( فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ ) بنهرك لي، ومسك إياي بسوء، فإن الأعداء حريصون على أن يجدوا عليَّ عثرة، أو يطلعوا لي على زلة ( وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فتعاملني معاملتهم.

فندم موسى عليه السلام على ما استعجل من صنعه بأخيه قبل أن يعلم براءته، مما ظنه فيه من التقصير.
و ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي ) هارون ( وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ) أي: في وسطها، واجعل رحمتك تحيط بنا من كل جانب، فإنها حصن حصين، من جميع الشرور، وثم كل خير وسرور.
(وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) أي: أرحم بنا من كل راحم، أرحم بنا من آبائنا، وأمهاتنا وأولادنا وأنفسنا.
قال اللّه تعالى مبينا حال أهل العجل الذين عبدوه: ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ ) أي: إلها ( سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) كما أغضبوا ربهم واستهانوا بأمره.
(وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) فكل مفتر على اللّه، كاذب على شرعه، متقول عليه ما لم يقل، فإن له نصيبا من الغضب من اللّه، والذل في الحياة الدنيا، وقد نالهم غضب اللّه، حيث أمرهم أن يقتلوا أنفسهم، وأنه لا يرضى اللّه عنهم إلا بذلك، فقتل بعضهم بعضا، وانجلت المعركة عن كثير من القتلى ثم تاب اللّه عليهم بعد ذلك.
ولهذا ذكر حكما عاما يدخلون فيه هم وغيرهم، فقال: ( وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ) من شرك وكبائر، وصغائر ( ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا ) بأن ندموا على ما مضى، وأقلعوا عنها، وعزموا على أن لا يعودوا ( وَآمَنُوا ) باللّه وبما أوجب اللّه من الإيمان به، ولا يتم الإيمان إلا بأعمال القلوب، وأعمال الجوارح المترتبة على الإيمان ( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا ) أي: بعد هذه الحالة، حالة التوبة من السيئات والرجوع إلى الطاعات، ( لَغَفُورٌ ) يغفر السيئات ويمحوها، ولو كانت قراب الأرض ( رَحِيمٌ ) بقبول التوبة، والتوفيق لأفعال الخير وقبولها.
(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ) أي: سكن غضبه، وتراجعت نفسه، وعرف ما هو فيه، اشتغل بأهم الأشياء عنده، فـ ( أَخَذَ الأَلْوَاحَ ) التي ألقاها، وهي ألواح عظيمة المقدار، جليلة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَفِي نُسْخَتِهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: مشتملة ومتضمنة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هُدًى وَرَحْمَةٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: فيها الهدى من الضلالة، وبيان الحق من الباطل، وأعمال الخير وأعمال الشر، والهدى لأحسن الأعمال، والأخلاق، والآداب، ورحمة وسعادة لمن عمل بها، وعلم أحكامها ومعانيها، ولكن ليس كل أحد يقبل هدى اللّه ورحمته، وإنما يقبل ذلك وينقاد له، ويتلقاه بالقبول الذين [هم] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: يخافون منه ويخشونه، وأما من لم يخف اللّه ولا المقام بين يديه، فإنه لا يزداد بها إلا عتوا ونفورا وتقوم عليه حجة اللّه فيها.
( و ) لما تاب بنو إسرائيل وتراجعوا إلى رشدهم ( اخْتَارَ مُوسَى ) منهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg سَبْعِينَ رَجُلا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg من خيارهم، ليعتذروا لقومهم عند ربهم، ووعدهم اللّه ميقاتا يحضرون فيه، فلما حضروه، قالوا: يا موسى، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فتجرأوا على اللّه جراءة كبيرة، وأساءوا الأدب معه، فـ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فصعقوا وهلكوا.
فلم يزل موسى عليه الصلاة والسلام، يتضرع إلى اللّه ويتبتل ويقول http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أن يحضروا ويكونون في حالة يعتذرون فيها لقومهم، فصاروا هم الظالمين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: ضعفاء العقول، سفهاء الأحلام، فتضرع إلى اللّه واعتذر بأن المتجرئين على اللّه ليس لهم عقول كاملة، تردعهم عما قالوا وفعلوا، وبأنهم حصل لهم فتنة يخطر بها الإنسان، ويخاف من ذهاب دينه فقال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: أنت خير من غفر، وأولى من رحم، وأكرم من أعطى وتفضل، فكأن موسى عليه الصلاة والسلام، قال: المقصود يا رب بالقصد الأول لنا كلنا، هو التزام طاعتك والإيمان بك، وأن من حضره عقله ورشده، وتم على ما وهبته من التوفيق، فإنه لم يزل مستقيما، وأما من ضعف عقله، وسفه رأيه، وصرفته الفتنة، فهو الذي فعل ما فعل، لذينك السببين، ومع هذا فأنت أرحم الراحمين، وخير الغافرين، فاغفر لنا وارحمنا.

فأجاب اللّه سؤاله، وأحياهم من بعد موتهم، وغفر لهم < 1-305 > ذنوبهم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-22, 06:13 AM
الحلقة (170)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(96) الى الأية(171)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية


وقال موسى في تمام دعائه ( وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً ) من علم نافع، ورزق واسع، وعمل صالح.

(وَفِي الآخِرَةِ ) :حسنة وهي ما أعد اللّه لأوليائه الصالحين من الثواب.
(إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ) أي: رجعنا مقرين بتقصيرنا، منيبين في جميع أمورنا.
(قَالَ ) اللّه تعالى ( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ) ممن كان شقيا، متعرضا لأسبابه، ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) من العالم العلوي والسفلي، البر والفاجر، المؤمن والكافر، فلا مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمة اللّه، وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة، ليست لكل أحد، ولهذا قال عنها: ( فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) المعاصي، صغارها وكبارها.
(وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) الواجبة مستحقيها ( وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) ومن تمام الإيمان بآيات اللّه معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، ومن ذلك اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، في أصول الدين وفروعه.

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ) احتراز عن سائر الأنبياء، فإن المقصود بهذا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم.
والسياق في أحوال بني إسرائيل وأن الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم شرط في دخولهم في الإيمان، وأن المؤمنين به المتبعين، هم أهل الرحمة المطلقة، التي كتبها اللّه لهم، ووصفه بالأمي لأنه من العرب الأمة الأمية، التي لا تقرأ ولا تكتب، وليس عندها قبل القرآن كتاب.
(الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ) باسمه وصفته، التي من أعظمها وأجلها، ما يدعو إليه، وينهى عنه . وأنه ( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ) وهو كل ما عرف حسنه وصلاحه ونفعه.
(وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ) وهو: كل ما عرف قبحه في العقول والفطر.
فيأمرهم بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجار والمملوك، وبذل النفع لسائر الخلق، والصدق، والعفاف، والبر، والنصيحة، وما أشبه ذلك، وينهى عن الشرك باللّه، وقتل النفوس بغير حق، والزنا، وشرب ما يسكر العقل، والظلم لسائر الخلق، والكذب، والفجور، ونحو ذلك.
فأعظم دليل يدل على أنه رسول اللّه، ما دعا إليه وأمر به، ونهى عنه، وأحله وحرمه، فإنه ( يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ ) من المطاعم والمشارب، والمناكح.
(وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ) من المطاعم والمشارب والمناكح، والأقوال والأفعال.
(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) أي: ومن وصفه أن دينه سهل سمح ميسر، لا إصر فيه، ولا أغلال، ولا مشقات ولا تكاليف ثقال.
(فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ ) أي: عظموه وبجلوه ( وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ) وهو القرآن، الذي يستضاء به في ظلمات الشك والجهالات، ويقتدى به إذا تعارضت المقالات، ( أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الظافرون بخير الدنيا والآخرة، والناجون من شرهما، لأنهم أتوا بأكبر أسباب الفلاح.
وأما من لم يؤمن بهذا النبي الأمي، ويعزره، وينصره، ولم يتبع النور الذي أنزل معه، فأولئك هم الخاسرون.
ولما دعا أهل التوراة من بني إسرائيل، إلى اتباعه، وكان ربما توهم متوهم، أن الحكم مقصور عليهم، أتى بما يدل على العموم فقال:
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) أي: عربيكم، وعجميكم، أهل الكتاب منكم، وغيرهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg يتصرف فيهما بأحكامه الكونية والتدابير السلطانية، وبأحكامه الشرعية الدينية التي من جملتها: أن أرسل إليكم رسولا عظيما يدعوكم إلى اللّه وإلى دار كرامته، ويحذركم من كل ما يباعدكم منه، ومن دار كرامته.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لا إِلَهَ إِلا هُوَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: لا معبود بحق، إلا اللّه وحده لا شريك له، ولا تعرف عبادته إلا من طريق رسله، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يُحْيِي وَيُمِيتُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: من جملة تدابيره: الإحياء والإماتة، التي لا يشاركه فيها أحد، الذي جعل الموت جسرا ومعبرا يعبر منه إلى دار البقاء، التي من آمن بها صدق الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم قطعا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إيمانا في القلب، متضمنا لأعمال القلوب والجوارح. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: آمنوا بهذا الرسول المستقيم في عقائده وأعماله، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg في مصالحكم الدينية والدنيوية، فإنكم إذا لم تتبعوه ضللتم ضلالا بعيدا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ (159) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: جماعة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: يهدون به الناس في تعليمهم إياهم وفتواهم لهم، ويعدلون به بينهم في الحكم بينهم، بقضاياهم، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وفي هذا فضيلة لأمة موسى عليه الصلاة والسلام، وأن اللّه تعالى < 1-306 > جعل منهم هداة يهدون بأمره.
وكأن الإتيان بهذه الآية الكريمة فيه نوع احتراز مما تقدم، فإنه تعالى ذكر فيما تقدم جملة من معايب بني إسرائيل، المنافية للكمال المناقضة للهداية، فربما توهم متوهم أن هذا يعم جميعهم، فذكر تعالى أن منهم طائفة مستقيمة هادية مهدية.

ابو وليد البحيرى
2019-04-22, 08:57 PM
الحلقة (171)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(96) الى الأية(171)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية


(وَقَطَّعْنَاهُ ُ (160) ) أي: قسمناهم ( اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ) أي: اثنتي عشرة قبيلة متعارفة متوالفة، كل بني رجل من أولاد يعقوب قبيلة.

(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ ) أي: طلبوا منه أن يدعو اللّه تعالى، أن يسقيهم ماء يشربون منه وتشرب منه مواشيهم، وذلك لأنهم - واللّه أعلم - في محل قليل الماء.
فأوحى اللّه لموسى إجابة لطلبتهم ( أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ) يحتمل أنه حجر معين، ويحتمل أنه اسم جنس، يشمل أي حجر كان، فضربه ( فَانْبَجَسَتْ ) أي: انفجرت من ذلك الحجر ( اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ) جارية سارحة.
(قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ) أي: قد قسم على كل قبيلة من تلك القبائل الاثنتي عشرة، وجعل لكل منهم عينا، فعلموها، واطمأنوا، واستراحوا من التعب والمزاحمة، والمخاصمة، وهذا من تمام نعمة اللّه عليهم.
(وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ ) فكان يسترهم من حر الشمس ( وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ ) وهو الحلوى، ( وَالسَّلْوَى ) وهو لحم طير من أنواع الطيور وألذها، فجمع اللّه لهم بين الظلال، والشراب، والطعام الطيب، من الحلوى واللحوم، على وجه الراحة والطمأنينة.

وقيل لهم: ( كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا ) حين لم يشكروا اللّه، ولم يقوموا بما أوجب اللّه عليهم.
(وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) حيث فوتوها كل خير، وعرضوها للشر والنقمة، وهذا كان مدة لبثهم في التيه.
(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ (161) ) أي: ادخلوها لتكون وطنا لكم ومسكنا، وهي (إيلياء) ( وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ) أي: قرية كانت كثيرة الأشجار، غزيرة الثمار، رغيدة العيش، فلذلك أمرهم اللّه أن يأكلوا منها حيث شاءوا.

(وَقُولُوا ) حين تدخلون الباب: ( حِطَّةٌ ) أي: احطط عنا خطايانا، واعف عنا.
(وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) أي: خاضعين لربكم مستكينين لعزته، شاكرين لنعمته، فأمرهم بالخضوع، وسؤال المغفرة، ووعدهم على ذلك مغفرة ذنوبهم والثواب العاجل والآجل فقال: ( نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ) من خير الدنيا والآخرة، فلم يمتثلوا هذا الأمر الإلهي، بل ( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) أي: عصوا اللّه واستهانوا بأمره ( قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ) فقالوا بدل طلب المغفرة، وقولهم: ( حِطَّةٌ ) (حبة في شعيرة)، وإذا بدلوا القول - مع يسره وسهولته - فتبديلهم للفعل من باب أولى، ولهذا دخلوا وهم يزحفون على أستاههم.
(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ ) حين خالفوا أمر اللّه وعصوه ( رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ ) أي: عذابا شديدا، إما الطاعون وإما غيره من العقوبات السماوية.
وما ظلمهم اللّه بعقابه وإنما كان ذلك http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: يخرجون من طاعة الله إلى معصيته، من غير ضرورة ألجأتهم ولا داع دعاهم سوى الخبث والشر الذي كان كامنا في نفوسهم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاسْأَلْهُمْ (163) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: اسأل بني إسرائيل http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: على ساحله في حال تعديهم وعقاب اللّه إياهم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وكان اللّه تعالى قد أمرهم أن يعظموه ويحترموه ولا يصيدوا فيه صيدا، فابتلاهم اللّه وامتحنهم، فكانت الحيتان تأتيهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: كثيرة طافية على وجه البحر.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: إذا ذهب يوم السبت http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لا تَأْتِيهِمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: تذهب في البحر فلا يرون منها شيئا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ففسقهم هو الذي أوجب أن يبتليهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg اللّه، وأن تكون لهم هذه المحنة، وإلا فلو لم يفسقوا، لعافاهم اللّه، ولما عرضهم للبلاء والشر، فتحيلوا على الصيد، فكانوا يحفرون لها حفرا، وينصبون لها الشباك، فإذا جاء يوم السبت ووقعت في تلك الحفر والشباك، لم يأخذوها في ذلك اليوم، فإذا جاء يوم الأحد أخذوها، وكثر فيهم ذلك، وانقسموا ثلاث فرق:

(164) معظمهم اعتدوا وتجرؤوا، وأعلنوا بذلك.

وفرقة أعلنت بنهيهم والإنكار عليهم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-22, 09:02 PM
الحلقة (172)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(96) الى الأية(171)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية


وفرقة اكتفت بإنكار أولئك عليهم، ونهيهم لهم، وقالوا لهم: ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) كأنهم يقولون: لا فائدة في < 1-307 > وعظ من اقتحم محارم اللّه، ولم يصغ للنصيح، بل استمر على اعتدائه وطغيانه، فإنه لا بد أن يعاقبهم اللّه، إما بهلاك أو عذاب شديد.

فقال الواعظون: نعظهم وننهاهم ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ) أي: لنعذر فيهم.
(وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) أي: يتركون ما هم فيه من المعصية، فلا نيأس من هدايتهم، فربما نجع فيهم الوعظ، وأثر فيهم اللوم.
وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر ليكون معذرة، وإقامة حجة على المأمور المنهي، ولعل اللّه أن يهديه، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر، والنهي.
(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ) أي: تركوا ما ذكروا به، واستمروا على غيهم واعتدائهم.
(أَنْجَيْنَا ) من العذاب ( الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ) وهكذا سنة اللّه في عباده، أن العقوبة إذا نزلت نجا منها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
(وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا ) وهم الذين اعتدوا في السبت ( بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ) أي: شديد ( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ )
وأما الفرقة الأخرى التي قالت للناهين: ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ) فاختلف المفسرون في نجاتهم وهلاكهم، والظاهر أنهم كانوا من الناجين، لأن اللّه خص الهلاك بالظالمين، وهو لم يذكر أنهم ظالمون.
فدل على أن العقوبة خاصة بالمعتدين في السبت، ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، فاكتفوا بإنكار أولئك، ولأنهم أنكروا عليهم بقولهم: ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) فأبدوا من غضبهم عليهم، ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة لفعلهم، وأن اللّه سيعاقبهم أشد العقوبة.

(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ (166) ) أي: قسوا فلم يلينوا، ولا اتعظوا، ( قُلْنَا لَهُمْ ) قولا قدريا: ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) فانقلبوا بإذن اللّه قردة، وأبعدهم اللّه من رحمته، ثم ذكر ضرب الذلة والصغار على من بقي منهم فقال:

( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ (167) أي: أعلم إعلاما صريحا: ( لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ) أي: يهينهم، ويذلهم.

(إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ) لمن عصاه، حتى إنه يعجل له العقوبة في الدنيا. ( وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) لمن تاب إليه وأناب، يغفر له الذنوب، ويستر عليه العيوب، ويرحمه بأن يتقبل منه الطاعات، ويثيبه عليها بأنواع المثوبات، وقد فعل اللّه بهم ما أوعدهم به، فلا يزالون في ذل وإهانة، تحت حكم غيرهم، لا تقوم لهم راية، ولا ينصر لهم عَلَمٌ.

(وَقَطَّعْنَاهُ ْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا (168 - 170) ) أي: فرقناهم ومزقناهم في الأرض بعد ما كانوا مجتمعين، ( مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ ) القائمون بحقوق اللّه، وحقوق عباده، ( وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ) أي: دون الصلاح، إما مقتصدون، وإما ظالمون لأنفسهم، ( وَبَلَوْنَاهُمْ ) على عادتنا وسنتنا، ( بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ) أي: بالعسر واليسر.

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) عما هم عليه مقيمون من الردى، يراجعون ما خلقوا له من الهدى، فلم يزالوا بين صالح وطالح ومقتصد، حتى خلف من بعدهم خلف. زاد شرهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَرِثُوا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg بعدهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الْكِتَابَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وصار المرجع فيه إليهم، وصاروا يتصرفون فيه بأهوائهم، وتبذل لهم الأموال، ليفتوا ويحكموا، بغير الحق، وفشت فيهم الرشوة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg مقرين بأنه ذنب وأنهم ظلمة: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg سَيُغْفَرُ لَنَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهذا قول خال من الحقيقة، فإنه ليس استغفارا وطلبا للمغفرة على الحقيقة.
فلو كان ذلك لندموا على ما فعلوا، وعزموا على أن لا يعودوا، ولكنهم - إذا أتاهم عرض آخر، ورشوة أخرى - يأخذوه.
فاشتروا بآيات اللّه ثمنا قليلا واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، قال اللّه [تعالى] في الإنكار عليهم، وبيان جراءتهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فما بالهم يقولون عليه غير الحق اتباعا لأهوائهم، وميلا مع مطامعهم.
( و ) الحال أنهم قد ( دَرَسُوا مَا فِيهِ ) فليس عليهم فيه إشكال، بل قد أَتَوْا أمرهم متعمدين، وكانوا في أمرهم مستبصرين، وهذا أعظم للذنب، وأشد للوم، وأشنع للعقوبة، وهذا من نقص عقولهم، وسفاهة رأيهم، بإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، ولهذا قال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ما حرم اللّه عليهم، من المآكل التي تصاب، وتؤكل رشوة على الحكم بغير ما أنزل اللّه، وغير ذلك من أنواع المحرمات.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَفَلا تَعْقِلُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: أفلا يكون لكم عقول توازن بين ما ينبغي إيثاره، وما ينبغي الإيثار عليه، وما هو أولى بالسعي إليه، والتقديم له على غيره. فخاصية العقل النظر للعواقب.
وأما من نظر إلى عاجل طفيف منقطع، يفوت نعيما عظيما باقيا فأنى له العقل والرأي؟
وإنما العقلاء حقيقة من وصفهم اللّه بقوله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg < 1-308 > أي: يتمسكون به علما وعملا فيعلمون ما فيه من الأحكام والأخبار، التي علمها أشرف العلوم.
ويعلمون بما فيها من الأوامر التي هي قرة العيون وسرور القلوب، وأفراح الأرواح، وصلاح الدنيا والآخرة.
ومن أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات، إقامة الصلاة، ظاهرا وباطنا، ولهذا خصها الله بالذكر لفضلها، وشرفها، وكونها ميزان الإيمان، وإقامتها داعية لإقامة غيرها من العبادات.
ولما كان عملهم كله إصلاحا، قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم، مصلحين لأنفسهم ولغيرهم.
وهذه الآية وما أشبهها دلت على أن اللّه بعث رسله عليهم الصلاة والسلام بالصلاح لا بالفساد، وبالمنافع لا بالمضار، وأنهم بعثوا بصلاح الدارين، فكل من كان أصلح، كان أقرب إلى اتباعهم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-22, 09:02 PM
الحلقة (173)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(172) الى الأية(178)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية ثم قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ (171) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg حين امتنعوا من قبول ما في التوراة.

فألزمهم اللّه العمل ونتق فوق رءوسهم الجبل، فصار فوقهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وقيل لهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: بجد واجتهاد.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg دراسة ومباحثة، واتصافا بالعمل به http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إذا فعلتم ذلك.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) أي: أخرج من أصلابهم ذريتهم، وجعلهم يتناسلون ويتوالدون قرنا بعد قرن.
( و ) حين أخرجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم ( أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) أي: قررهم بإثبات ربوبيته، بما أودعه في فطرهم من الإقرار، بأنه ربهم وخالقهم ومليكهم.
قالوا: بلى قد أقررنا بذلك، فإن اللّه تعالى فطر عباده على الدين الحنيف القيم.
فكل أحد فهو مفطور على ذلك، ولكن الفطرة قد تغير وتبدل بما يطرأ عليها من العقائد الفاسدة، ولهذا ( قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) أي: إنما امتحناكم حتى أقررتم بما تقرر عندكم، من أن اللّه تعالى ربكم، خشية أن تنكروا يوم القيامة، فلا تقروا بشيء من ذلك، وتزعمون أن حجة اللّه ما قامت عليكم، ولا عندكم بها علم، بل أنتم غافلون عنها لاهون.
فاليوم قد انقطعت حجتكم، وثبتت الحجة البالغة للّه عليكم.
أو تحتجون أيضا بحجة أخرى، فتقولون: ( إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ) فحذونا حذوهم، وتبعناهم في باطلهم.
( أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) فقد أودع اللّه في فطركم، ما يدلكم على أن ما مع آبائكم باطل، وأن الحق ما جاءت به الرسل، وهذا يقاوم ما وجدتم عليه آباءكم، ويعلو عليه.
نعم قد يعرض للعبد من أقوال آبائه الضالين، ومذاهبهم الفاسدة ما يظنه هو الحق، وما ذاك إلا لإعراضه، عن حجج اللّه وبيناته، وآياته الأفقية والنفسية، فإعراضه عن ذلك، وإقباله على ما قاله المبطلون، ربما صيره بحالة يفضل بها الباطل على الحق، هذا هو الصواب في تفسير هذه الآيات.
وقد قيل: إن هذا يوم أخذ اللّه الميثاق على ذرية آدم، حين استخرجهم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم، فشهدوا بذلك، فاحتج عليهم بما أقروا به في ذلك الوقت على ظلمهم في كفرهم، وعنادهم في الدنيا والآخرة، ولكن ليس في الآية ما يدل على هذا، ولا له مناسبة، ولا تقتضيه حكمة اللّه تعالى، والواقع شاهد بذلك.
فإن هذا العهد والميثاق، الذي ذكروا، أنه حين أخرج اللّه ذرية آدم من ظهره، حين كانوا في عالم كالذر، لا يذكره أحد، ولا يخطر ببال آدمي، فكيف يحتج اللّه عليهم بأمر ليس عندهم به خبر، ولا له عين ولا أثر؟" ولهذا لما كان هذا أمرا واضحا جليا، قال تعالى:
( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ) أي: نبينها ونوضحها، ( وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) إلى ما أودع اللّه في فطرهم، وإلى ما عاهدوا اللّه عليه، فيرتدعون عن القبائح.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ) < 1-309 > أي: علمناه كتاب اللّه، فصار العالم الكبير والحبر النحرير.
( فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ) أي: انسلخ من الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات اللّه، فإن العلم بذلك، يصير صاحبه متصفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويرقى إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات، فترك هذا كتاب اللّه وراء ظهره، ونبذ الأخلاق التي يأمر بها الكتاب، وخلعها كما يخلع اللباس.
فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان، أي: تسلط عليه حين خرج من الحصن الحصين، وصار إلى أسفل سافلين، فأزه إلى المعاصي أزا.
( فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ) بعد أن كان من الراشدين المرشدين.
وهذا لأن اللّه تعالى خذله ووكله إلى نفسه، فلهذا قال تعالى: ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ) بأن نوفقه للعمل بها، فيرتفع في الدنيا والآخرة، فيتحصن من أعدائه.
( وَلَكِنَّهُ ) فعل ما يقتضي الخذلان، فَأَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ، أي: إلى الشهوات السفلية، والمقاصد الدنيوية. ( وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) وترك طاعة مولاه، ( فَمَثَلُهُ ) في شدة حرصه على الدنيا وانقطاع قلبه إليها، ( كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ) أي: لا يزال لاهثا في كل حال، وهذا لا يزال حريصا، حرصا قاطعا قلبه، لا يسد فاقته شيء من الدنيا.
( ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) بعد أن ساقها اللّه إليهم، فلم ينقادوا لها، بل كذبوا بها وردوها، لهوانهم على اللّه، واتباعهم لأهوائهم، بغير هدى من اللّه.
( فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) في ضرب الأمثال، وفي العبر والآيات، فإذا تفكروا علموا، وإذا علموا عملوا.
( سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ) أي: ساء وقبح، مثل من كذب بآيات اللّه، وظلم نفسه بأنواع المعاصي، فإن مثلهم مثل السوء، وهذا الذي آتاه اللّه آياته، يحتمل أن المراد به شخص معين، قد كان منه ما ذكره اللّه، فقص اللّه قصته تنبيها للعباد. ويحتمل أن المراد بذلك أنه اسم جنس، وأنه شامل لكل من آتاه اللّه آياته فانسلخ منها.
وفي هذه الآيات الترغيب في العمل بالعلم، وأن ذلك رفعة من اللّه لصاحبه، وعصمة من الشيطان، والترهيب من عدم العمل به، وأنه نزول إلى أسفل سافلين، وتسليط للشيطان عليه، وفيه أن اتباع الهوى، وإخلاد العبد إلى الشهوات، يكون سببا للخذلان.
ثم قال تعالى مبينا أنه المنفرد بالهداية والإضلال: ( مَنْ يَهْدِ اللَّهُ ) بأن يوفقه للخيرات، ويعصمه من المكروهات، ويعلمه ما لم يكن يعلم ( فَهُوَ الْمُهْتَدِي ) حقا لأنه آثر هدايته تعالى، ( وَمَنْ يُضْلِلْ ) فيخذله ولا يوفقه للخير ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) لأنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-22, 09:03 PM
الحلقة (174)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(179) الى الأية(187)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

يقول تعالى مبينا كثرة الغاوين الضالين، المتبعين إبليس اللعين: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا ) أي: أنشأنا وبثثنا ( لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ ) صارت البهائم أحسن حالة منهم.
( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا ) أي: لا يصل إليها فقه ولا علم، إلا مجرد قيام الحجة.
( وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا ) ما ينفعهم، بل فقدوا منفعتها وفائدتها.
( وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا ) سماعا يصل معناه إلى قلوبهم.
( أُولَئِكَ ) الذين بهذه الأوصاف القبيحة ( كَالأنْعَامِ ) أي: البهائم، التي فقدت العقول، وهؤلاء آثروا ما يفنى على ما يبقى، فسلبوا خاصية العقل.
( بَلْ هُمْ أَضَلُّ ) من البهائم، فإن الأنعام مستعملة فيما خلقت له، ولها أذهان، تدرك بها، مضرتها من منفعتها، فلذلك كانت أحسن حالا منهم.
( أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) الذين غفلوا عن أنفع الأشياء، غفلوا عن الإيمان باللّه وطاعته وذكره.
خلقت لهم الأفئدة والأسماع والأبصار، لتكون عونا لهم على القيام بأوامر اللّه وحقوقه، فاستعانوا بها على ضد هذا المقصود.
فهؤلاء حقيقون بأن يكونوا ممن ذرأ اللّه لجهنم وخلقهم لها، فخلقهم للنار، وبأعمال أهلها يعملون.
وأما من استعمل هذه الجوارح في عبادة اللّه، وانصبغ قلبه بالإيمان باللّه ومحبته، ولم يغفل عن اللّه، فهؤلاء، أهل الجنة، وبأعمال أهل الجنة يعملون.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا بيان لعظيم جلاله وسعة أوصافه، بأن له الأسماء الحسنى، أي: له كل اسم حسن، وضابطه: أنه كل اسم دال على صفة كمال عظيمة، وبذلك كانت حسنى، فإنها لو دلت على غير صفة، بل كانت علما محضا لم تكن حسنى، وكذلك لو دلت على صفة ليست بصفة كمال، بل إما صفة نقص أو صفة < 1-310 > منقسمة إلى المدح والقدح، لم تكن حسنى، فكل اسم من أسمائه دال على جميع الصفة التي اشتق منها، مستغرق لجميع معناها.
وذلك نحو ( العليم ) الدال على أن له علما محيطا عاما لجميع الأشياء، فلا يخرج عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
و ( كالرحيم ) الدال على أن له رحمة عظيمة، واسعة لكل شيء.
و ( كالقدير ) الدال على أن له قدرة عامة، لا يعجزها شيء، ونحو ذلك.
ومن تمام كونها "حسنى" أنه لا يدعى إلا بها، ولذلك قال: ( فَادْعُوهُ بِهَا ) وهذا شامل لدعاء العبادة، ودعاء المسألة، فيدعى في كل مطلوب بما يناسب ذلك المطلوب، فيقول الداعي مثلا اللّهم اغفر لي وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم، وتب عَلَيَّ يا تواب، وارزقني يا رزاق، والطف بي يا لطيف ونحو ذلك.
وقوله: ( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي: عقوبة وعذابا على إلحادهم في أسمائه، وحقيقة الإلحاد الميل بها عما جعلت له، إما بأن يسمى بها من لا يستحقها، كتسمية المشركين بها لآلهتهم، وإما بنفي معانيها وتحريفها، وأن يجعل لها معنى ما أراده اللّه ولا رسوله، وإما أن يشبه بها غيرها، فالواجب أن يحذر الإلحاد فيها، ويحذر الملحدون فيها، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه صلى الله عليه وسلم ( أن للّه تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة )

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ومن جملة من خلقنا أمة فاضلة كاملة في نفسها، مكملة لغيرها، يهدون أنفسهم وغيرهم بالحق، فيعلمون الحق ويعملون به، ويعلِّمونه، ويدعون إليه وإلى العمل به.
( وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) بين الناس في أحكامهم إذا حكموا في الأموال والدماء والحقوق والمقالات، وغير ذلك، وهؤلاء هم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وهم الذين أنعم اللّه عليهم بالإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهم الصديقون الذين مرتبتهم تلي مرتبة الرسالة، وهم في أنفسهم مراتب متفاوتة كل بحسب حاله وعلو منزلته، فسبحان من يختص برحمته من يشاء، واللّه ذو الفضل العظيم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُه ُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: والذين كذبوا بآيات اللّه الدالة على صحة ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، من الهدى فردوها ولم يقبلوها. ( سَنَسْتَدْرِجُه ُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) بأن يدر لهم الأرزاق.
( وَأُمْلِي لَهُمْ ) أي: أُمْهِلُهُم حتى يظنوا أنهم لا يؤخذون ولا يعاقبون، فيزدادون كفرا وطغيانا، وشرا إلى شرهم، وبذلك تزيد عقوبتهم، ويتضاعف عذابهم، فيضرون أنفسهم من حيث لا يشعرون، ولهذا قال: ( إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) أي: قوي بليغ.
( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ ) محمد صلى الله عليه وسلم ( مِنْ جِنَّةٍ ) أي: أَوَ لَمْ يُعْمِلُوا أفكارهم، وينظروا: هل في صاحبهم الذي يعرفونه ولا يخفى عليهم من حاله شيء، هل هو مجنون؟ فلينظروا في أخلاقه وهديه، ودله وصفاته، وينظروا في ما دعا إليه، فلا يجدون فيه من الصفات إلا أكملها، ولا من الأخلاق إلا أتمها، ولا من العقل والرأي إلا ما فاق به العالمين، ولا يدعو إلا لكل خير، ولا ينهى إلا عن كل شر.
أفبهذا يا أولي الألباب من جنة؟ أم هو الإمام العظيم والناصح المبين، والماجد الكريم، والرءوف الرحيم؟
ولهذا قال: ( إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) أي: يدعو الخلق إلى ما ينجيهم من العذاب، ويحصل لهم الثواب.
( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) فإنهم إذا نظروا إليها، وجدوها أدلة دالة على توحيد ربها، وعلى ما له من صفات الكمال.
( و ) كذلك لينظروا إلى جميع ( مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ) فإن جميع أجزاء العالم، يدل أعظم دلالة على اللّه وقدرته وحكمته وسعة رحمته، وإحسانه، ونفوذ مشيئته، وغير ذلك من صفاته العظيمة، الدالة على تفرده بالخلق والتدبير، الموجبة لأن يكون هو المعبود المحمود، المسبح الموحد المحبوب.
وقوله: ( وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ) أي: لينظروا في خصوص حالهم، وينظروا لأنفسهم قبل أن يقترب أجلهم، ويفجأهم الموت وهم في غفلة معرضون، فلا يتمكنون حينئذ، من استدراك الفارط.
( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) أي: إذا لم يؤمنوا بهذا الكتاب الجليل، فبأي حديث يؤمنون به؟" أبكتب الكذب والضلال؟ أم بحديث كل مفتر دجال؟ ولكن الضال لا حيلة فيه، ولا سبيل إلى هدايته.
ولهذا قال تعالى ( مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) أي: متحيرين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg يترددون، لا يخرجون منه ولا يهتدون إلى حق.

< 1-311 >
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ( يَسْأَلُونَكَ ) أي: المكذبون لك، المتعنتون ( عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ) أي: متى وقتها الذي تجيء به، ومتى تحل بالخلق؟
( قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ) أي: إنه تعالى مختص بعلمها، ( لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ) أي: لا يظهرها لوقتها الذي قدر أن تقوم فيه إلا هو.
( ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي: خفي علمها على أهل السماوات والأرض، واشتد أمرها أيضا عليهم، فهم من الساعة مشفقون.
( لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً ) أي: فجأة من حيث لا تشعرون، لم يستعدوا لها، ولم يتهيأوا لقيامها.
( يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ) أي: هم حريصون على سؤالك عن الساعة، كأنك مستحف عن السؤال عنها، ولم يعلموا أنك - لكمال علمك بربك، وما ينفع السؤال عنه - غير مبال بالسؤال عنها، ولا حريص على ذلك، فلم لا يقتدون بك، ويكفون عن الاستحفاء عن هذا السؤال الخالي من المصلحة المتعذر علمه، فإنه لا يعلمها نبي مرسل، ولا ملك مقرب.
وهي من الأمور التي أخفاها الله عن الخلق، لكمال حكمته وسعة علمه.
( قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) فلذلك حرصوا على ما لا ينبغي الحرص عليه، وخصوصا مثل حال هؤلاء الذين يتركون السؤال عن الأهم، ويدعون ما يجب عليهم من العلم، ثم يذهبون إلى ما لا سبيل لأحد أن يدركه، ولا هم مطالبون بعلمه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-22, 09:04 PM
الحلقة (175)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(188) الى الأية(195)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا ) فإني فقير مدبر، لا يأتيني خير إلا من اللّه، ولا يدفع عني الشر إلا هو، وليس لي من العلم إلا ما علمني اللّه تعالى.
( وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) أي: لفعلت الأسباب التي أعلم أنها تنتج لي المصالح والمنافع، ولحذرت من كل ما يفضي إلى سوء ومكروه، لعلمي بالأشياء قبل كونها، وعلمي بما تفضي إليه.
ولكني - لعدم علمي - قد ينالني ما ينالني من السوء، وقد يفوتني ما يفوتني من مصالح الدنيا ومنافعها، فهذا أدل دليل على أني لا علم لي بالغيب.
( إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ ) أنذر العقوبات الدينية والدنيوية والأخروية، وأبين الأعمال المفضية إلى ذلك، وأحذر منها.
( وَبَشِيرٌ ) بالثواب العاجل والآجل، ببيان الأعمال الموصلة إليه والترغيب فيها، ولكن ليس كل أحد يقبل هذه البشارة والنذارة، وإنما ينتفع بذلك ويقبله المؤمنون، وهذه الآيات الكريمات، مبينة جهل من يقصد النبي صلى الله عليه وسلم ويدعوه لحصول نفع أو دفع ضر.
فإنه ليس بيده شيء من الأمر، ولا ينفع من لم ينفعه اللّه، ولا يدفع الضر عمن لم يدفعه اللّه عنه، ولا له من العلم إلا ما علمه اللّه تعالى، وإنما ينفع من قبل ما أرسل به من البشارة والنذارة، وعمل بذلك، فهذا نفعه صلى الله عليه وسلم، الذي فاق نفع الآباء والأمهات، والأخلاء والإخوان بما حث العباد على كل خير، وحذرهم عن كل شر، وبينه لهم غاية البيان والإيضاح.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُ مْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) أيها الرجال والنساء، المنتشرون في الأرض على كثرتكم وتفرقكم. ( مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) وهو آدم أبو البشر صلى الله عليه وسلم.
( وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) أي: خلق من آدم زوجته حواء لأجل أن يسكن إليها لأنها إذا كانت منه حصل بينهما من المناسبة والموافقة ما يقتضي سكون أحدهما إلى الآخر، فانقاد كل منهما إلى صاحبه بزمام الشهوة.
( فَلَمَّا تَغَشَّاهَا ) أي: تجللها مجامعا لها قدَّر الباري أن يوجد من تلك الشهوة وذلك الجماع النسل، [وحينئذ] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا، وذلك في ابتداء الحمل، لا تحس به الأنثى، ولا يثقلها.
( فَلَمَّا ) استمرت به و ( أَثْقَلَتْ ) به حين كبر في بطنها، فحينئذ صار في قلوبهما الشفقة على الولد، وعلى خروجه حيا، صحيحا، سالما لا آفة فيه [كذلك] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg فدعوا ( اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا ) ولدا ( صَالِحًا ) أي: صالح < 1-312 > الخلقة تامها، لا نقص فيه ( لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) .
( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا ) على وفق ما طلبا، وتمت عليهما النعمة فيه ( جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ) أي: جعلا للّه شركاء في ذلك الولد الذي انفرد اللّه بإيجاده والنعمة به، وأقرَّ به أعين والديه، فَعَبَّدَاه لغير اللّه. إما أن يسمياه بعبد غير اللّه كـ "عبد الحارث" و "عبد العزيز" http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg و "عبد الكعبة" ونحو ذلك، أو يشركا باللّه في العبادة، بعدما منَّ اللّه عليهما بما منَّ من النعم التي لا يحصيها أحد من العباد.
وهذا انتقال من النوع إلى الجنس، فإن أول الكلام في آدم وحواء، ثم انتقل إلى الكلام في الجنس، ولا شك أن هذا موجود في الذرية كثيرا، فلذلك قررهم اللّه على بطلان الشرك، وأنهم في ذلك ظالمون أشد الظلم، سواء كان الشرك في الأقوال، أم في الأفعال، فإن الخالق لهم من نفس واحدة، الذي خلق منها زوجها وجعل لهم من أنفسهم أزواجا، ثم جعل بينهم من المودة والرحمة ما يسكن بعضهم إلى بعض، ويألفه ويلتذ به، ثم هداهم إلى ما به تحصل الشهوة واللذة والأولاد والنسل.
ثم أوجد الذرية في بطون الأمهات، وقتا موقوتا، تتشوف إليه نفوسهم، ويدعون اللّه أن يخرجه سويا صحيحا، فأتم اللّه عليهم النعمة وأنالهم مطلوبهم.
أفلا يستحق أن يعبدوه، ولا يشركوا به في عبادته أحدا، ويخلصوا له الدين.
ولكن الأمر جاء على العكس، فأشركوا باللّه من لا ( يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) .
( وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ ) أي: لعابديها ( نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) .
فإذا كانت لا تخلق شيئا، ولا مثقال ذرة، بل هي مخلوقة، ولا تستطيع أن تدفع المكروه عن من يعبدها، بل ولا عن أنفسها، فكيف تتخذ مع اللّه آلهة؟ إن هذا إلا أظلم الظلم، وأسفه السفه.
وإن تدعوا، أيها المشركون هذه الأصنام، التي عبدتم من دون اللّه ( إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُ مْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ) .
فصار الإنسان أحسن حالة منها، لأنها لا تسمع، ولا تبصر، ولا تهدِي ولا تُهدى، وكل هذا إذا تصوره اللبيب العاقل تصورا مجردا، جزم ببطلان إلهيتها، وسفاهة من عبدها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وهذا من نوع التحدي للمشركين العابدين للأوثان، يقول تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) أي: لا فرق بينكم وبينهم، فكلكم عبيد للّه مملوكون، فإن كنتم كما تزعمون صادقين في أنها تستحق من العبادة شيئا ( فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لَكُمْ ) فإن استجابوا لكم وحصلوا مطلوبكم، وإلا تبين أنكم كاذبون في هذه الدعوى، مفترون على اللّه أعظم الفرية، وهذا لا يحتاج إلى التبيين فيه، فإنكم إذا نظرتم إليها وجدتم صورتها دالة على أنه ليس لديها من النفع شيء،فليس لها أرجل تمشي بها، ولا أيد تبطش بها، ولا أعين تبصر بها، ولا آذان تسمع بها، فهي عادمة لجميع الآلات والقوى الموجودة في الإنسان.

فإذا كانت لا تجيبكم إذا دعوتموها، وهي عباد أمثالكم، بل أنتم أكمل منها وأقوى على كثير من الأشياء، فلأي شيء عبدتموها.
( قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ ) أي: اجتمعوا أنتم وشركاؤكم على إيقاع السوء والمكروه بي، من غير إمهال ولا إنظار http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg فإنكم غير بالغين لشيء من المكروه بي.

ابو وليد البحيرى
2019-04-29, 02:00 PM
الحلقة (176)
تفسير السعدى
فففسورة الاعرافققق
من الأية(196) الى الأية(206)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأعراف
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ ) الذي يتولاني فيجلب لي المنافع ويدفع عني المضار.

( الَّذِي نزلَ الْكِتَابَ ) الذي فيه الهدى والشفاء والنور، وهو من توليته وتربيته لعباده الخاصة الدينية.
( وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) الذين صلحت نياتهم وأعمالهم وأقوالهم، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فالمؤمنون الصالحون - لما تولوا ربهم بالإيمان والتقوى، ولم يتولوا غيره ممن لا ينفع ولا يضر - تولاهم اللّه ولطف بهم وأعانهم على ما فيه الخير والمصلحة لهم، في دينهم ودنياهم، ودفع عنهم بإيمانهم كل مكروه، كما قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) .
< 1-313 >
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وهذا أيضا في بيان عدم استحقاق هذه الأصنام التي يعبدونها من دون اللّه لشيء من العبادة، لأنها ليس لها استطاعة ولا اقتدار في نصر أنفسهم، ولا في نصر عابديها، وليس لها قوة العقل والاستجابة.
فلو دعوتها إلى الهدى لم تهتد، وهي صور لا حياة فيها، فتراهم ينظرون إليك، وهم لا يبصرون حقيقة، لأنهم صوروها على صور الحيوانات من الآدميين أو غيرهم، وجعلوا لها أبصارا وأعضاء، فإذا رأيتها قلت: هذه حية، فإذا تأملتها عرفت أنها جمادات لا حراك بها، ولا حياة، فبأي رأي اتخذها المشركون آلهة مع اللّه؟ ولأي مصلحة أو نفع عكفوا عندها وتقربوا لها بأنواع العبادات؟
فإذا عرف هذا، عرف أن المشركين وآلهتهم التي عبدوها، لو اجتمعوا، وأرادوا أن يكيدوا من تولاه فاطر الأرض والسماوات، متولي أحوال عباده الصالحين، لم يقدروا على كيده بمثقال ذرة من الشر، لكمال عجزهم وعجزها، وكمال قوة اللّه واقتداره، وقوة من احتمى بجلاله وتوكل عليه.
وقيل: إن معنى قوله ( وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) أن الضمير يعود إلى المشركين المكذبين لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فتحسبهم ينظرون إليك يا رسول اللّه نظر اعتبار يتبين به الصادق من الكاذب، ولكنهم لا يبصرون حقيقتك وما يتوسمه المتوسمون فيك من الجمال والكمال والصدق.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم، ولا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم.
( وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ) أي: بكل قول حسن وفعل جميل، وخلق كامل للقريب والبعيد، فاجعل ما يأتي إلى الناس منك، إما تعليم علم، أو حث على خير، من صلة رحم، أو بِرِّ والدين، أو إصلاح بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو رأي مصيب، أو معاونة على بر وتقوى، أو زجر عن قبيح، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية أو دنيوية، ولما كان لا بد من أذية الجاهل، أمر اللّه تعالى أن يقابل الجاهل بالإعراض عنه وعدم مقابلته بجهله، فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه، ومن حرمك لا تحرمه، ومن قطعك فَصِلْهُ، ومن ظلمك فاعدل فيه.
وأما ما ينبغي أن يعامل به العبد شياطين الإنس والجن، فقال تعالى:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: أي وقت، وفي أي حال ( يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ ) أي: تحس منه بوسوسة، وتثبيط عن الخير، أو حث على الشر، وإيعاز إليه. ( فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ) أي: التجئ واعتصم باللّه، واحتم بحماه فإنه ( سَمِيعٌ ) لما تقول. ( عَلِيمٌ ) بنيتك وضعفك، وقوة التجائك له، فسيحميك من فتنته، ويقيك من وسوسته، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر السورة.
ولما كان العبد لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطا ينتظر غرته وغفلته، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين، وأن المتقي إذا أحس بذنب، ومسه طائف من الشيطان، فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب - تذكر من أي باب أُتِيَ، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه، وتذكر ما أوجب اللّه عليه، وما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر واستغفر اللّه تعالى، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة، فرد شيطانه خاسئا حسيرا، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه.
وأما إخوان الشياطين وأولياؤهم، فإنهم إذا وقعوا في الذنوب، لا يزالون يمدونهم في الغي ذنبا بعد ذنب، ولا يقصرون عن ذلك، فالشياطين لا تقصر عنهم بالإغواء، لأنها طمعت فيهم، حين رأتهم سلسي القياد لها، وهم لا يقصرون عن فعل الشر.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي لا يزال هؤلاء المكذبون لك في تعنت وعناد، < 1-314 > ولو جاءتهم الآيات الدالة على الهدى والرشاد، فإذا جئتهم بشيء من الآيات الدالة على صدقك لم ينقادوا.
( وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ ) من آيات الاقتراح التي يعينونها ( قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا ) أي: هلا اخترت الآية، فصارت الآية الفلانية، أو المعجزة الفلانية كأنك أنت المنزل للآيات، المدبر لجميع المخلوقات، ولم يعلموا أنه ليس لك من الأمر شيء، أو أن المعنى: لولا اخترعتها من نفسك.
( قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ) فأنا عبد متبع مدبَّر، واللّه تعالى هو الذي ينزل الآيات ويرسلها على حسب ما اقتضاه حمده، وطلبتْه حكمته البالغة، فإن أردتم آية لا تضمحل على تعاقب الأوقات، وحجة لا تبطل في جميع الآنات، فـ ( هَذَا ) القرآن العظيم، والذكر الحكيم ( بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ) يستبصر به في جميع المطالب الإلهية والمقاصد الإنسانية، وهو الدليل والمدلول فمن تفكر فيه وتدبره، علم أنه تنزيل من حكيم حميد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبه قامت الحجة على كل من بلغه، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون، وإلا فمن آمن، فهو ( هُدًى ) له من الضلال ( وَرَحْمَةٌ ) له من الشقاء، فالمؤمن مهتد بالقرآن، متبع له، سعيد في دنياه وأخراه.
وأما من لم يؤمن به، فإنه ضال شقي، في الدنيا والآخرة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب اللّه يتلى، فإنه مأمور بالاستماع له والإنصات، والفرق بين الاستماع والإنصات، أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه.
وأما الاستماع له، فهو أن يلقي سمعه، ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع، فإن من لازم على هذين الأمرين حين يتلى كتاب اللّه، فإنه ينال خيرا كثيرا وعلما غزيرا، وإيمانا مستمرا متجددا، وهدى متزايدا، وبصيرة في دينه، ولهذا رتب اللّه حصول الرحمة عليهما، فدل ذلك على أن من تُلِيَ عليه الكتاب، فلم يستمع له وينصت، أنه محروم الحظ من الرحمة، قد فاته خير كثير.
ومن أوكد ما يؤمر به مستمع القرآن، أن يستمع له وينصت في الصلاة الجهرية إذا قرأ إمامه، فإنه مأمور بالإنصات، حتى إن أكثر العلماء يقولون: إن اشتغاله بالإنصات، أولى من قراءته الفاتحة، وغيرها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَه ُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

الذكر للّه تعالى يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بهما، وهو أكمل أنواع الذكر وأحواله، فأمر اللّه عبده ورسوله محمدا أصلا وغيره تبعا، بذكر ربه في نفسه، أي: مخلصا خاليا.
( تَضَرُّعًا ) أي: متضرعا بلسانك، مكررا لأنواع الذكر، ( وَخِيفَةً ) في قلبك بأن تكون خائفا من اللّه، وَجِلَ القلب منه، خوفا أن يكون عملك غير مقبول، وعلامة الخوف أن يسعى ويجتهد في تكميل العمل وإصلاحه، والنصح به.
( وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ) أي: كن متوسطا، لا تجهر بصلاتك، ولا تخافت بها، وابتغ بين ذلك سبيلا. ( بِالْغُدُوِّ ) أول النهار ( وَالآصَالِ ) آخره، وهذان الوقتان لذكر الله فيهما مزية وفضيلة على غيرهما.
( وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ) الذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم، فإنهم حرموا خير الدنيا والآخرة، وأعرضوا عمن كل السعادة والفوز في ذكره وعبوديته، وأقبلوا على من كل الشقاوة والخيبة في الاشتغال به، وهذه من الآداب التي ينبغي للعبد أن يراعيها حق رعايتها، وهي الإكثار من ذكر اللّه آناء الليل والنهار، خصوصا طَرَفَيِ النهار، مخلصا خاشعا متضرعا، متذللا ساكنا، وتواطئا عليه قلبه ولسانه، بأدب ووقار، وإقبال على الدعاء والذكر، وإحضار له بقلبه وعدم غفلة، فإن اللّه لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه.
ثم ذكر تعالى أن له عبادا مستديمين لعبادته، ملازمين لخدمته وهم الملائكة، فلتعلموا أن اللّه لا يريد أن يتكثر بعبادتكم من قلة، ولا ليتعزز بها من ذلة، وإنما يريد نفع أنفسكم، وأن تربحوا عليه أضعاف أضعاف ما عملتم، فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَه ُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ )
( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ) من الملائكة المقربين، وحملة العرش والكروبيين.
( لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ) بل يذعنون لها وينقادون لأوامر ربهم ( وَيُسَبِّحُونَه ُ ) الليل والنهار لا يفترون.
( وَلَهُ ) وحده لا شريك له ( يَسْجُدُونَ ) فليقتد العباد بهؤلاء الملائكة الكرام، وليداوموا [على] عبادة الملك العلام.
تم تفسير سورة الأعراف
وللّه الحمد والشكر والثناء. وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-29, 02:05 PM
الحلقة (177)
تفسير السعدى
فففسورة الانفالققق
من الأية(1) الى الأية(8)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنفال
وهي مكية

تفسير سورة الأنفال
وهي مدنية


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

الأنفال هي الغنائم التي ينفلها اللّه لهذه الأمة من أموال الكفار، وكانت هذه الآيات في هذه السورة قد نزلت في قصة ( بدر ) أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون من المشركين، .فحصل بين بعض المسلمين فيها نزاع، فسألوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنها، فأنزل اللّه ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَال ) كيف تقسم وعلى من تقسم؟
( قُلْ ) لهم: الأنفال لله ورسوله يضعانها حيث شاءا، فلا اعتراض لكم على حكم اللّه ورسوله،. بل عليكم إذا حكم اللّه ورسوله أن ترضوا بحكمهما، وتسلموا الأمر لهما،. وذلك داخل في قوله ( فَاتَّقُوا اللَّهَ ) بامتثال أوامره واجتناب نواهيه..
( وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) أي: أصلحوا ما بينكم من التشاحن والتقاطع والتدابر، بالتوادد والتحاب والتواصل..فبذلك تجتمع كلمتكم، ويزول ما يحصل - بسبب التقاطع -من التخاصم، والتشاجر والتنازع.
ويدخل في إصلاح ذات البين تحسين الخلق لهم، والعفو عن المسيئين منهم فإنه بذلك يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء والتدابر،.والأم الجامع لذلك كله قوله: ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) فإن الإيمان يدعو إلى طاعة اللّه ورسوله،.كما أن من لم يطع اللّه ورسوله فليس بمؤمن.
ومن نقصت طاعته للّه ورسوله، فذلك لنقص إيمانه،ولما كان الإيمان قسمين: إيمانا كاملا يترتب عليه المدح والثناء، والفوز التام، وإيمانا دون ذلك ذكر الإيمان الكامل فقال: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ) الألف واللام للاستغراق لشرائع الإيمان.
( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) أي: خافت ورهبت، فأوجبت لهم خشية اللّه تعالى الانكفاف عن المحارم، فإن خوف اللّه تعالى أكبر علاماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب.
( وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ) ووجه ذلك أنهم يلقون له السمع ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك يزيد إيمانهم،.لأن التدبر من أعمال القلوب، ولأنه لا بد أن يبين لهم معنى كانوا يجهلونه، أو يتذكرون ما كانوا نسوه،أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير، واشتياقا إلى كرامة ربهم،أو وجلا من العقوبات، وازدجارا عن المعاصي، وكل هذا مما يزداد به الإيمان.
( وَعَلَى رَبِّهِمْ ) وحده لا شريك له ( يَتَوَكَّلُونَ ) أي: يعتمدون في قلوبهم على ربهم في جلب مصالحهم ودفع مضارهم الدينية والدنيوية، ويثقون بأن اللّه تعالى سيفعل ذلك.
والتوكل هو الحامل للأعمال كلها، فلا توجد ولا تكمل إلا به.
( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) من فرائض ونوافل، بأعمالها الظاهرة والباطنة، كحضور القلب فيها، الذي هو روح الصلاة ولبها. ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) النفقات الواجبة، كالزكوات، والكفارات، والنفقة على الزوجات والأقارب، وما ملكت أيمانهم،.والمست بة كالصدقة في جميع طرق الخير.
( أُولَئِكَ ) الذين اتصفوا بتلك الصفات ( هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ) لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان، بين الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، بين العلم والعمل، بين أداء حقوق اللّه وحقوق عباده. وقدم تعالى أعمال القلوب، لأنها أصل لأعمال الجوارح وأفضل منها،.وفيها دليل على أن الإيمان، يزيد وينقص، فيزيد بفعل الطاعة وينقص بضدها.
وأنه ينبغي للعبد أن يتعاهد إيمانه وينميه،.وأن أولى ما يحصل به ذلك تدبر كتاب اللّه تعالى والتأمل لمعانيه.ثم ذكر ثواب المؤمنين حقا فقال: ( لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) أي: عالية بحسب علو أعمالهم. ( وَمَغْفِرَةٌ ) لذنوبهم ( وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) وهو ما أعد اللّه لهم في دار كرامته، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ودل هذا على أن من يصل إلى درجتهم في الإيمان - وإن دخل الجنة - فلن ينال ما نالوا من كرامة اللّه التامة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْن ِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

قدم تعالى - أمام هذه الغزوة الكبرى المباركة - الصفات التي على المؤمنين أن يقوموا بها، لأن من قام < 1-316 > بها استقامت أحواله وصلحت أعماله، التي من أكبرها الجهاد في سبيله. فكما أن إيمانهم هو الإيمان الحقيقي، وجزاءهم هو الحق الذي وعدهم اللّه به، كذلك أخرج اللّه رسوله صلى الله عليه وسلم من بيته إلى لقاء المشركين في ( بدر ) بالحق الذي يحبه اللّه تعالى، وقد قدره وقضاه.
وإن كان المؤمنون لم يخطر ببالهم في ذلك الخروج أنه يكون بينهم وبين عدوهم قتال.
فحين تبين لهم أن ذلك واقع، جعل فريق من المؤمنين يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ويكرهون لقاء عدوهم، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون.
والحال أن هذا لا ينبغي منهم، خصوصا بعد ما تبين لهم أن خروجهم بالحق، ومما أمر اللّه به ورضيه،. فبهذه الحال ليس للجدال محل [فيها] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لأن الجدال محله وفائدته عند اشتباه الحق والتباس الأمر،. فأما إذا وضح وبان، فليس إلا الانقياد والإذعان.
هذا وكثير من المؤمنين لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء، ولا كرهوا لقاء عدوهم،.وكذلك الذين عاتبهم اللّه، انقادوا للجهاد أشد الانقياد، وثبتهم اللّه، وقيض لهم من الأسباب ما تطمئن به قلوبهم كما سيأتي ذكر بعضها.
وكان أصل خروجهم يتعرضون لعير خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام، قافلة كبيرة،.فلما سمعوا برجوعها من الشام، ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس،.فخرج معه ثلاثمائة، وبضعة عشر رجلا معهم سبعون بعيرا، يعتقبون عليها، ويحملون عليها متاعهم،.فسمعت بخبرهم قريش، فخرجوا لمنع عيرهم، في عَدَدٍ كثير وعُدَّةٍ وافرة من السلاح والخيل والرجال، يبلغ عددهم قريبا من الألف.
فوعد اللّه المؤمنين إحدى الطائفتين، إما أن يظفروا بالعير، أو بالنفير،.فأحبوا العير لقلة ذات يد المسلمين، ولأنها غير ذات شوكة،.ولكن اللّه تعالى أحب لهم وأراد أمرا أعلى مما أحبوا.
أراد أن يظفروا بالنفير الذي خرج فيه كبراء المشركين وصناديدهم،. ( وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ) فينصر أهله ( وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ) أي: يستأصل أهل الباطل، ويُرِيَ عباده من نصره للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم.
( لِيُحِقَّ الْحَقَّ ) بما يظهر من الشواهد والبراهين على صحته وصدقه،. ( وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ) بما يقيم من الأدلة والشواهد على بطلانه ( وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) فلا يبالي اللّه بهم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-29, 02:10 PM
الحلقة (178)
تفسير السعدى
فففسورة الانفالققق
من الأية(9) الى الأية(16)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنفال
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: اذكروا نعمة اللّه عليكم، لما قارب التقاؤكم بعدوكم، استغثتم بربكم، وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم ( فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ) وأغاثكم بعدة أمور:.
منها: أن اللّه أمدكم ( بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) أي: يردف بعضهم بعضا.
( وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ ) أي: إنزال الملائكة ( إِلا بُشْرَى ) أي: لتستبشر بذلك نفوسكم، ( وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ) وإلا فالنصر بيد اللّه، ليس بكثرة عَدَدٍ ولا عُدَدٍ.. ( إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ) لا يغالبه مغالب، بل هو القهار، الذي يخذل من بلغوا من الكثرة وقوة العدد والآلات ما بلغوا. ( حَكِيمٌ ) حيث قدر الأمور بأسبابها، ووضع الأشياء مواضعها.
ومن نصره واستجابته لدعائكم أن أنزل عليكم نعاسا ( يُغَشِّيكُمُ ) [أي] فيذهب ما في قلوبكم من الخوف والوجل، ويكون ( أَمَنَةً ) لكم وعلامة على النصر والطمأنينة.
ومن ذلك: أنه أنزل عليكم من السماء مطرا ليطهركم به من الحدث والخبث، وليطهركم به من وساوس الشيطان ورجزه.
( وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ ) أي: يثبتها فإن ثبات القلب، أصل ثبات البدن، ( وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ ) فإن الأرض كانت سهلة دهسة فلما نزل عليها المطر تلبدت، وثبتت به الأقدام.
ومن ذلك أن اللّه أوحى إلى الملائكة ( أَنِّي مَعَكُمْ ) بالعون والنصر والتأييد، ( فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ) أي: ألقوا في قلوبهم، وألهموهم الجراءة على عدوهم، ورغبوهم في الجهاد وفضله.
( سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ) الذي هو أعظم جند لكم عليهم،فإن اللّه إذا ثبت المؤمنين وألقى الرعب في قلوب الكافرين، لم يقدر الكافرون على الثبات لهم ومنحهم اللّه أكتافهم.
( فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ ) أي: على الرقاب ( وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) أي: مفصل.
وهذا خطاب، إما للملائكة الذين أوحى الله إليهم أن يثبتوا الذين آمنوا فيكون في ذلك دليل أنهم باشروا القتال يوم بدر،أو للمؤمنين يشجعهم اللّه، ويعلمهم كيف يقتلون المشركين، وأنهم لا يرحمونهم،وذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله أي: حاربوهما وبارزوهما بالعداوة.
( وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ومن عقابه < 1-317 > تسليط أوليائه على أعدائه وتقتيلهم.
( ذَلِكُمْ ) العذاب المذكور ( فَذُوقُوهُ ) أيها المشاققون للّه ورسوله عذابا معجلا. ( وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ) .
وفي هذه القصة من آيات اللّه العظيمة ما يدل على أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم رسول اللّه حقا.
منها: أن اللّه وعدهم وعدا، فأنجزهموه.
ومنها: ما قال اللّه تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآية.
ومنها: إجابة دعوة اللّه للمؤمنين لما استغاثوه بما ذكره من الأسباب،وفيها الاعتناء العظيم بحال عباده المؤمنين، وتقييض الأسباب التي بها ثبت إيمانهم، وثبتت أقدامهم، وزال عنهم المكروه والوساوس الشيطانية.
ومنها: أن من لطف اللّه بعبده أن يسهل عليه طاعته، وييسرها بأسباب داخلية وخارجية.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يأمر اللّه تعالى عباده المؤمنين بالشجاعة الإيمانية، والقوة في أمره، والسعي في جلب الأسباب المقوية للقلوب والأبدان،ونهاهم عن الفرار إذا التقى الزحفان، فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا ) أي: في صف القتال، وتزاحف الرجال، واقتراب بعضهم من بعض، ( فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ ) بل اثبتوا لقتالهم، واصبروا على جلادهم، فإن في ذلك نصرة لدين اللّه، وقوة لقلوب المؤمنين، وإرهابا للكافرين.
( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ ) أي: رجع ( بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ ) أي: مقره ( جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .
وهذا يدل على أن الفرار من الزحف من غير عذر من أكبر الكبائر، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة وكما نص هنا على وعيده بهذا الوعيد الشديد.
ومفهوم الآية: أن المتحرف للقتال، وهو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى، ليكون أمكن له في القتال، وأنكى لعدوه، فإنه لا بأس بذلك، لأنه لم يول دبره فارا، وإنما ولى دبره ليستعلي على عدوه، أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته، أو ليخدعه بذلك، أو غير ذلك من مقاصد المحاربين، وأن المتحيز إلى فئة تمنعه وتعينه على قتال الكفار، فإن ذلك جائز،فإن كانت الفئة في العسكر، فالأمر في هذا واضح،وإن كانت الفئة في غير محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين والتجائهم إلى بلد من بلدان المسلمين أو إلى عسكر آخر من عسكر المسلمين، فقد ورد من آثار الصحابة ما يدل على أن هذا جائز،ولعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون أن الانهزام أحمد عاقبة، وأبقى عليهم.
أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم، فيبعد - في هذه الحال -أن تكون من الأحوال المرخص فيها، لأنه - على هذا - لا يتصور الفرار المنهي عنه،وهذه الآية مطلقة، وسيأتي في آخر السورة تقييدها بالعدد.

ابو وليد البحيرى
2019-04-29, 02:15 PM
الحلقة (179)
تفسير السعدى
فففسورة الانفالققق
من الأية(17) الى الأية(25)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنفال
وهي مكية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى - لما انهزم المشركون يوم بدر، وقتلهم المسلمون - ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ) بحولكم وقوتكم ( وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ) حيث أعانكم على ذلك بما تقدم ذكره.
( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت القتال دخل العريش وجعل يدعو اللّه، ويناشده في نصرته،ثم خرج منه، فأخذ حفنة من تراب، فرماها في وجوه المشركين، فأوصلها اللّه إلى وجوههم،فما بقي منهم واحد إلا وقد أصاب وجهه وفمه وعينيه منها،فحينئذ انكسر حدهم، وفتر زندهم، وبان فيهم الفشل والضعف، فانهزموا.
يقول تعالى لنبيه: لست بقوتك - حين رميت التراب - أوصلته إلى أعينهم، وإنما أوصلناه إليهم بقوتنا واقتدارنا. ( وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا ) أي: إن اللّه تعالى قادر على انتصار المؤمنين من الكافرين، من دون مباشرة قتال،ولكن اللّه أراد أن يمتحن المؤمنين، ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات، وأرفع المقامات، ويعطيهم أجرا حسنا وثوابا جزيلا.
( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) يسمع تعالى ما أسر به العبد وما أعلن، ويعلم ما في قلبه من النيات الصالحة وضدها،فيقدر على العباد أقدارا موافقة لعلمه وحكمته ومصلحة عباده، ويجزي كلا بحسب نيته وعمله.
(18) ( ذَلِكُمْ ) النصر من اللّه لكم ( وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ) أي: مضعف كل مكر وكيد يكيدون به الإسلام وأهله، وجاعل مكرهم محيقا بهم.
(19) ( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ) أيها المشركون، أي: تطلبوا من اللّه أن يوقع بأسه وعذابه على المعتدين الظالمين.
( فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ) حين أوقع اللّه بكم من عقابه، ما كان نكالا لكم وعبرة للمتقين ( وَإِنْ تَنْتَهُوا ) عن الاستفتاح ( فَهُوَ خَيْرٌ ) لأنه ربما أمهلتم، ولم يعجل لكم النقمة. ( وإن تعودوا ) إلى الاستفتاح وقتال حزب الله المؤمنين ( نَعُدْ ) في نصرهم عليكم.
( وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ ) أي: أعوانكم وأنصاركم، الذين تحاربون وتقاتلون، معتمدين عليهم، شَيئا وأن الله مع الْمؤمنين.
ومن كان اللّه معه فهو المنصور وإن كان ضعيفا قليلا عدده، وهذه المعية < 1-318 > التي أخبر اللّه أنه يؤيد بها المؤمنين، تكون بحسب ما قاموا به من أعمال الإيمان.
فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض الأوقات، فليس ذلك إلا تفريطا من المؤمنين وعدم قيام بواجب الإيمان ومقتضاه، وإلا فلو قاموا بما أمر اللّه به من كل وجه، لما انهزم لهم راية [انهزاما مستقرا] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ولا أديل عليهم عدوهم أبدا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما أخبر تعالى أنه مع المؤمنين، أمرهم أن يقوموا بمقتضى الإيمان الذي يدركون به معيته، فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) بامتثال أمرهما واجتناب نهيهما.
( وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ ) أي: عن هذا الأمر الذي هو طاعة اللّه، وطاعة رسوله. ( وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) ما يتلى عليكم من كتاب اللّه، وأوامره، ووصاياه، ونصائحه،فتوليكم في هذه الحال من أقبح الأحوال.

( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) أي: لا تكتفوا بمجرد الدعوى الخالية التي لا حقيقة لها، فإنها حالة لا يرضاها اللّه ولا رسوله،فليس الإيمان بالتمني والتحلي، ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ ) من لم تفد فيهم الآيات والنذر،وهم ( الصُّمُّ ) عن استماع الحق ( الْبُكْمُ ) عن النطق به. ( الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) ما ينفعهم، ويؤثرونه على ما يضرهم،فهؤلاء شر عند اللّه من جميع http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الدواب، لأن اللّه أعطاهم أسماعا وأبصارا وأفئدة، ليستعملوها في طاعة اللّه، فاستعملوها في معاصيه وعدموا - بذلك - الخير الكثير،فإنهم كانوا بصدد أن يكونوا من خيار البرية.
فأبوا هذا الطريق، واختاروا لأنفسهم أن يكونوا من شر البرية،والسمع الذي نفاه اللّه عنهم، سمع المعنى المؤثر في القلب،وأما سمع الحجة، فقد قامت حجة اللّه تعالى عليهم بما سمعوه من آياته،وإنما لم يسمعهم السماع النافع، لأنه لم يعلم فيهم خيرا يصلحون به لسماع آياته.
( وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ ) على الفرض والتقدير ( لَتَوَلَّوْا ) عن الطاعة ( وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) لا التفات لهم إلى الحق بوجه من الوجوه،وهذا دليل على أن اللّه تعالى لا يمنع الإيمان والخير، إلا لمن لا خير فيه، الذي لا يزكو لديه ولا يثمر عنده. .وله الحمد تعالى والحكمة في هذا.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة للّه وللرسول، أي: الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه والنهي عنه.
وقوله: ( إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) وصف ملازم لكل ما دعا اللّه ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلب والروح بعبودية اللّه تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام.
ثم حذر عن عدم الاستجابة للّه وللرسول فقال: ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) فإياكم أن تردوا أمر اللّه أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإن اللّه يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء.
فليكثر العبد من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك.
( وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) أي: تجمعون ليوم لا ريب فيه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بعصيانه.
( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) بل تصيب فاعل الظلم وغيره،وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره،وتقوى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg هذه الفتنة بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن.
( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) لمن تعرض لمساخطه، وجانب رضاه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-29, 02:19 PM
الحلقة (180)
تفسير السعدى
فففسورة الانفالققق
من الأية(26) الى الأية(33)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنفال
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى ممتنا على عباده في نصرهم بعد الذلة، وتكثيرهم بعد القلة، وإغنائهم بعد العيلة.
( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ ) أي: مقهورون تحت حكم غيركم ( تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ) أي: يأخذونكم.
( فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) فجعل لكم بلدا تأوون إليه، وانتصر من أعدائكم على أيديكم، وغنمتم من أموالهم ما كنتم به أغنياء.

( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) اللّه على منته العظيمة وإحسانه التام، بأن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يؤدوا ما ائتمنهم اللّه عليه من أوامره ونواهيه، فإن الأمانة قد عرضها اللّه على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا فمن أدى الأمانة استحق من اللّه الثواب الجزيل، ومن لم يؤدها بل خانها استحق العقاب الوبيل، وصار خائنا للّه وللرسول ولأمانته، منقصا لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات، وأقبح الشيات، وهي الخيانة مفوتا لها أكمل الصفات وأتمها، وهي الأمانة.
ولما كان العبد ممتحنا بأمواله وأولاده، فربما حمله محبة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ذلك على تقديم هوى نفسه على أداء أمانته، أخبر اللّه تعالى أن الأموال والأولاد فتنة يبتلي اللّه بهما عباده، وأنها عارية ستؤدى لمن أعطاها، وترد لمن استودعها ( وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ )
فإن كان لكم عقل ورَأْيٌ، فآثروا فضله العظيم على لذة صغيرة فانية مضمحلة، فالعاقل يوازن بين الأشياء، ويؤثر أولاها بالإيثار، وأحقها بالتقديم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

امتثال العبد لتقوى ربه عنوان السعادة، وعلامة الفلاح، وقد رتب اللّه على التقوى من خير الدنيا والآخرة شيئا كثيرا،فذكر هنا أن من اتقى اللّه حصل له أربعة أشياء، كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها:
الأول: الفرقان: وهو العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والحلال والحرام، وأهل السعادة من أهل الشقاوة.
الثاني والثالث: تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب،وكل واحد منهما داخل في الآخر عند الإطلاق وعند الاجتماع يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر، ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر.

الرابع: الأجر العظيم والثواب الجزيل لمن اتقاه وآثر رضاه على هوى نفسه. ( وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( و ) اذكر أيها الرسول، ما منَّ اللّه به http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg عليك. ( إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) حين تشاور المشركون في دار الندوة فيما يصنعون بالنبي صلى الله عليه وسلم، إما أن يثبتوه عندهم بالحبس ويوثقوه.
وإما أن يقتلوه فيستريحوا - بزعمهم - من شره.
وإما أن يخرجوه ويجلوه من ديارهم.
فكلُّ أبدى من هذه الآراء رأيا رآه،فاتفق رأيهم على رأي: رآه شريرهم أبو جهل لعنه اللّه،وهو أن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش فتى ويعطوه سيفا صارما، ويقتله الجميع قتلة رجل واحد، ليتفرق دمه في القبائل.فيرضى بنو هاشم [ثَمَّ] بديته، فلا يقدرون على مقاومة سائر http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg قريش، فترصدوا للنبي صلى الله عليه وسلم في الليل ليوقعوا به إذا قام من فراشه.
فجاءه الوحي من السماء، وخرج عليهم، فذرَّ على رءوسهم التراب وخرج، وأعمى اللّه أبصارهم عنه، حتى إذا استبطؤوه جاءهم آت وقال: خيبكم اللّه، قد خرج محمد وذَرَّ على رءوسكم التراب.
فنفض كل منهم التراب عن رأسه، ومنع اللّه رسوله منهم، وأذن له في الهجرة إلى المدينة،فهاجر إليها، وأيده اللّه بأصحابه المهاجرين والأنصار،ولم يزل أمره يعلو حتى دخل مكة عنوة، وقهر أهلها،فأذعنوا له وصاروا تحت حكمه، بعد أن خرج < 1-320 > مستخفيا منهم، خائفا على نفسه.
فسبحان اللطيف بعبده الذي لا يغالبه مغالب.
وقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى في بيان عناد المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا ) الدالة على صدق ما جاء به الرسول.
( قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) وهذا من عنادهم وظلمهم،وإلا فقد تحداهم اللّه أن يأتوا بسورة من مثله، ويدعوا من استطاعوا من دون اللّه، فلم يقدروا على ذلك، وتبين عجزهم.
فهذا القول الصادر من هذا القائل مجرد دعوى، كذبه الواقع،وقد علم أنه صلى الله عليه وسلم أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ولا رحل ليدرس من أخبار الأولين، فأتى بهذا الكتاب الجليل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
( وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا ) الذي يدعو إليه محمد ( هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) قالوه على وجه الجزم منهم بباطلهم، والجهل بما ينبغي من الخطاب.
فلو أنهم إذ أقاموا على باطلهم من الشبه والتمويهات ما أوجب لهم أن يكونوا على بصيرة ويقين منه، قالوا لمن ناظرهم وادعى أن الحق معه: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له، لكان أولى لهم وأستر لظلمهم.
فمنذ قالوا: ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية، علم بمجرد قولهم أنهم السفهاء الأغبياء، الجهلة الظالمون،فلو عاجلهم اللّه بالعقاب لما أبقى منهم باقية، ولكنه تعالى دفع عنهم العذاب بسبب وجود الرسول بين أظهرهم، فقال: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) فوجوده صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم أمنة لهم من العذاب.
وكانوا مع قولهم هذه المقالة التي يظهرونها على رءوس الأشهاد، يدرون بقبحها، فكانوا يخافون من وقوعها فيهم، فيستغفرون اللّه [تعالى فلهذا] قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )

فهذا مانع يمنع من وقوع العذاب بهم، بعد ما انعقدت أسبابه ثم قال:

ابو وليد البحيرى
2019-04-29, 02:23 PM
الحلقة (181)
تفسير السعدى
فففسورة الانفالققق
من الأية(34) الى الأية(40)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنفال
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ) أي: أي شيء يمنعهم من عذاب اللّه، وقد فعلوا ما يوجب ذلك، وهو صد الناس عن المسجد الحرام، خصوصا صدهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الذين هم أولى به منهم، ولهذا قال: ( وَمَا كَانُوا ) أي: المشركون ( أَوْلِيَاءَهُ ) يحتمل أن الضمير يعود إلى اللّه، أي: أولياء اللّه.ويحتمل أن يعود إلى المسجد الحرام، أي: وما كانوا أولى به من غيرهم. ( إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ ) وهم الذين آمنوا باللّه ورسوله، وأفردوا اللّه بالتوحيد والعبادة، وأخلصوا له الدين. ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) فلذلك ادَّعَوْا لأنفسهم أمرا غيرهم أولى به.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يعني أن اللّه تعالى إنما جعل بيته الحرام ليقام فيه دينه، وتخلص له فيه العبادة،فالمؤمن ون هم الذين قاموا بهذا الأمر،وأما هؤلاء المشركون الذين يصدون عنه، فما كان صلاتهم فيه التي هي أكبر أنواع العبادات ( إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ) أي: صفيرا وتصفيقا، فعل الجهلة الأغبياء، الذين ليس في قلوبهم تعظيم لربهم، ولا معرفة بحقوقه، ولا احترام لأفضل البقاع وأشرفها،فإذا كانت هذه صلاتهم فيه، فكيف ببقية العبادات؟".
فبأي: شيء كانوا أولى بهذا البيت من المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، إلى آخر ما وصفهم اللّه به من الصفات الحميدة، والأفعال السديدة.
لا جرم أورثهم اللّه بيته الحرام، ومكنهم منه،وقال لهم بعد ما مكن لهم فيه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وقال هنا ( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ )

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَ هَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى مبينا لعداوة المشركين وكيدهم ومكرهم، ومبارزتهم للّه ولرسوله، وسعيهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته، وأن وبال مكرهم سيعود عليهم، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) < 1-321 > أي: ليبطلوا الحق وينصروا الباطل، ويبطل توحيد الرحمن، ويقوم دين عبادة الأوثان.
( فَسَيُنْفِقُونَ هَا ) أي: فسيصدرون هذه النفقة، وتخف عليهم لتمسكهم بالباطل، وشدة بغضهم للحق، ولكنها ستكون عليهم حسرة، أي: ندامة وخزيا وذلا ويغلبون فتذهب أموالهم وما أملوا، ويعذبون في الآخرة أشد العذاب. ولهذا قال: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) أي: يجمعون إليها، ليذوقوا عذابها، وذلك لأنها دار الخبث والخبثاء، واللّه تعالى يريد أن يميز الخبيث من الطيب، ويجعل كل واحدة على حدة، وفي دار تخصه،فيجعل الخبيث بعضه على بعض، من الأعمال والأموال والأشخاص. ( فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا من لطفه تعالى بعباده لا يمنعه كفر العباد ولا استمرارهم في العناد، من أن يدعوهم إلى طريق الرشاد والهدى، وينهاهم عما يهلكهم من أسباب الغي والردى، فقال: ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا ) عن كفرهم وذلك بالإسلام للّه وحده لا شريك له.
( يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ) منهم من الجرائم ( وَإِنْ يَعُودُوا ) إلى كفرهم وعنادهم ( فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ ) بإهلاك الأمم المكذبة، فلينتظروا ما حل بالمعاندين، فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون،فهذا خطابه للمكذبين ، وأما خطابه للمؤمنين عندما أمرهم بمعاملة الكافرين، فقال: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) أي: شرك وصد عن سبيل اللّه، ويذعنوا لأحكام الإسلام، ( وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) فهذا المقصود من القتال والجهاد لأعداء الدين، أن يدفع شرهم عن الدين، وأن يذب عن دين اللّه الذي خلق الخلق له، حتى يكون هو العالي على سائر الأديان.
( فَإِنِ انْتَهَوْا ) عن ما هم عليه من الظلم ( فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) لا تخفى عليه منهم خافية.
( وَإِنْ تَوَلَّوْا ) عن الطاعة وأوضعوا في الإضاعة ( فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى ) الذي يتولى عباده المؤمنين، ويوصل إليهم مصالحهم، وييسر http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لهم منافعهم الدينية والدنيوية. ( وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) الذي ينصرهم، فيدفع عنهم كيد الفجار، وتكالب الأشرار.
ومن كان اللّه مولاه وناصره فلا خوف عليه، ومن كان اللّه عليه فلا عِزَّ له ولا قائمة له.

ابو وليد البحيرى
2019-04-29, 02:27 PM
الحلقة (182)
تفسير السعدى
فففسورة الانفالققق
من الأية(41) الى الأية(45)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنفال
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ) أي: أخذتم من مال الكفار قهرا بحق، قليلا كان أو كثيرا. ( فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ) أي: وباقيه لكم أيها الغانمون، لأنه أضاف الغنيمة إليهم، وأخرج منها خمسها.فدل على أن الباقي لهم، يقسم على ما قسمه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: للراجل سهم، وللفارس سهمان لفرسه، وسهم له.
وأما هذا الخمس، فيقسم خمسة أسهم، سهم للّه ولرسوله، يصرف في مصالح المسلمين العامة، من غير تعيين لمصلحة، لأن اللّه جعله له ولرسوله، واللّه ورسوله غنيان عنه، فعلم أنه لعباد اللّه.فإذا لم يعين اللّه له مصرفا، دل على أن مصرفه للمصالح العامة.
والخمس الثاني: لذي القربى، وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب.وأضافه اللّه إلى القرابة دليلا على أن العلة فيه مجرد القرابة، فيستوي فيه غنيهم وفقيرهم، ذكرهم وأنثاهم.
والخمس الثالث لليتامى، وهم الذين فقدت آباؤهم وهم صغار، جعل اللّه لهم خمس الخمس رحمة بهم، حيث كانوا عاجزين عن القيام بمصالحهم، وقد فقد من يقوم بمصالحهم.
والخمس الرابع للمساكين، أي: المحتاجين الفقراء من صغار وكبار، ذكور وإناث.
والخمس الخامس لابن السبيل، وهو http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الغريب المنقطع به في غير بلده، [وبعض المفسرين يقول إن خمس الغنيمة لا يخرج عن هذه الأصناف ولا يلزم أن يكونوا فيه على السواء بل ذلك < 1-322 > تبع للمصلحة وهذا هو الأولى] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg وجعل اللّه أداء الخمس على وجهه شرطا للإيمان فقال: ( إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ ) وهو يوم ( بدر ) الذي فرق اللّه به بين الحق والباطل. وأظهر الحق وأبطل الباطل.
( يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) جمع المسلمين، وجمع الكافرين،أي: إن كان إيمانكم باللّه، وبالحق الذي أنزله اللّه على رسوله يوم الفرقان، الذي حصل فيه من الآيات والبراهين، ما دل على أن ما جاء به هو الحق. ( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) لا يغالبه أحد إلا غلبه.
( إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا ) أي: بعدوة الوادي القريبة من المدينة، وهم بعدوته أي: جانبه البعيدة من المدينة، فقد جمعكم واد واحد.
( وَالرَّكْبُ ) الذي خرجتم لطلبه، وأراد اللّه غيره ( أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) مما يلي ساحل البحر.
( وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ ) أنتم وإياهم على هذا الوصف وبهذه الحال ( لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ) أي: لا بد من تقدم أو تأخر أو اختيار منزل، أو غير ذلك، مما يعرض لكم أو لهم، يصدفكم عن ميعادكم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
( وَلَكِنْ ) اللّه جمعكم على هذه الحال ( لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا ) أي: مقدرا في الأزل، لا بد من وقوعه.
( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ) أي: ليكون حجة وبينة للمعاند، فيختار الكفر على بصيرة وجزم ببطلانه، فلا يبقى له عذر عند اللّه.
( وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) أي: يزداد المؤمن بصيرة ويقينا، بما أرى اللّه الطائفتين من أدلة الحق وبراهينه، ما هو تذكرة لأولي الألباب.
( وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) سميع لجميع الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، عليم بالظواهر والضمائر والسرائر، والغيب والشهادة.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُ مْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (44) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وكان اللّه قد أرى رسوله المشركين في الرؤيا عددا قليلا فبشر بذلك أصحابه، فاطمأنت قلوبهم وتثبتت أفئدتهم.
ولو أراكهم الله إياهم كَثِيرًا فأخبرت بذلك أصحابك ( لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُ مْ فِي الأمْرِ ) فمنكم من يرى الإقدام على قتالهم، ومنكم من لا يرى ذلك فوقع من الاختلاف والتنازع ما يوجب الفشل.
( وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ) فلطف http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg بكم ( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) أي: بما فيها من ثبات وجزع، وصدق وكذب،فعلم اللّه من قلوبكم ما صار سببا للطفه وإحسانه بكم وصدق رؤيا رسوله ، فأرى اللّه المؤمنين عدوهم قليلا في أعينهم، ويقللكم - يا معشر المؤمنين - في أعينهم،فكل من الطائفتين ترى الأخرى قليلة، لتقدم كل منهما على الأخرى.
( لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا ) من نصر المؤمنين وخذلان الكافرين وقتل قادتهم ورؤساء الضلال منهم، ولم يبق منهم أحد له اسم يذكر، فيتيسر بعد ذلك انقيادهم إذا دعوا إلى الإسلام، فصار أيضا لطفا بالباقين، الذين مَنَّ اللّه عليهم بالإسلام.

( وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ) أي: جميع أمور الخلائق ترجع إلى اللّه، فيميز الخبيث من الطيب، ويحكم في الخلائق بحكمه العادل، الذي لا جور فيه ولا ظلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً ) أي: طائفة من الكفار تقاتلكم.
( فَاثْبُتُوا ) لقتالها، واستعملوا الصبر وحبس النفس على هذه الطاعة الكبيرة، التي عاقبتها العز والنصر.
واستعينوا على ذلك بالإكثار من ذكر اللّه ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) أي: تدركون ما تطلبون من الانتصار على أعدائكم،فالصبر والثبات والإكثار من ذكر اللّه من أكبر الأسباب للنصر.

ابو وليد البحيرى
2019-04-29, 02:30 PM
الحلقة (183)
تفسير السعدى
فففسورة الانفالققق
من الأية(46) الى الأية(52)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنفال
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) في استعمال ما أمرا به، والمشي خلف ذلك في جميع الأحوال.
< 1-323 >
( وَلا تَنَازَعُوا ) تنازعا يوجب تشتت القلوب وتفرقها، ( فَتَفْشَلُوا ) أي: تجبنوا ( وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) أي: تنحل عزائمكم، وتفرق قوتكم، ويرفع ما وعدتم به من النصر على طاعة اللّه ورسوله.
( وَاصْبِرُوا ) نفوسكم على طاعة اللّه ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) بالعون والنصر والتأييد، واخشعوا لربكم واخضعوا له.
( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) أي: هذا مقصدهم الذي خرجوا إليه، وهذا الذي أبرزهم من ديارهم لقصد الأشر والبطر في الأرض، وليراهم الناس ويفخروا لديهم.
والمقصود الأعظم أنهم خرجوا ليصدوا عن سبيل اللّه من أراد سلوكه، ( وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) فلذلك أخبركم بمقاصدهم، وحذركم أن تشبهوا بهم، فإنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة.
فليكن قصدكم في خروجكم وجه اللّه تعالى وإعلاء دين اللّه، والصد عن الطرق الموصلة إلى سخط اللّه وعقابه، وجذب الناس إلى سبيل اللّه القويم الموصل لجنات النعيم.
( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ) حسَّنها في قلوبهم وخدعهم. ( وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ ) فإنكم في عَدَدٍ وعُدَدٍ وهيئة لا يقاومكم فيها محمد ومن معه.
( وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ ) من أن يأتيكم أحد ممن تخشون غائلته، لأن إبليس قد تبدَّى لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكانوا يخافون من بني مدلج لعداوة كانت بينهم.
فقال لهم الشيطان: أنا جار لكم، فاطمأنت نفوسهم وأتوا على حرد قادرين.
( فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ ) المسلمون والكافرون، فرأى الشيطان جبريل عليه السلام يزع الملائكة خاف خوفا شديدا و ( نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ ) أي: ولى مدبرا. ( وَقَالَ ) لمن خدعهم وغرهم: ( إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ ) أي: أرى الملائكة الذين لا يدان لأحد بقتالهم.
( إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ) أي: أخاف أن يعاجلني بالعقوبة في الدنيا ( وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ )
ومن المحتمل أن يكون الشيطان، قد سول لهم، ووسوس في صدورهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس، وأنه جار لهم،فلما أوردهم مواردهم، نكص عنهم، وتبرأ منهم، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg
( إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) أي: شك وشبهة، من ضعفاء الإيمان، للمؤمنين حين أقدموا - مع قِلَّتهم - على قتال المشركين مع كثرتهم.
( غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ ) أي: أوردهم الدين الذي هم عليه هذه الموارد التي لا يدان لهم بها، ولا استطاعة لهم بها،يقولونه احتقارا لهم واستخفافا لعقولهم، وهم - واللّه - الأخِفَّاءُ عقولا الضعفاء أحلاما.
فإن الإيمان يوجب لصاحبه الإقدام على الأمور الهائلة التي لا يقدم عليها الجيوش العظام،فإن المؤمن المتوكل على اللّه، الذي يعلم أنه ما من حول ولا قوة ولا استطاعة لأحد إلا باللّه تعالى،وأن الخلق لو اجتمعوا كلهم على نفع شخص بمثقال ذرة لم ينفعوه،ولو اجتمعوا على أن يضروه لم يضروه إلا بشيء قد كتبه اللّه عليه، وعلم أنه على الحق، وأن اللّه تعالى حكيم رحيم في كل ما قدره وقضاه، فإنه لا يبالي بما أقدم عليه من قوة وكثرة، وكان واثقا بربه، مطمئن القلب لا فزعا ولا جبانا، .ولهذا قال ( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ) لا يغالب قوته قوة. ( حَكِيمٌ ) فيما قضاه وأجراه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ولو ترى الذين كفروا بآيات اللّه حين توفاهم الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم وقد اشتد بهم القلق وعظم كربهم، و ( الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم، ونفوسهم متمنعة مستعصية على الخروج، لعلمها ما أمامها من العذاب الأليم.
ولهذا قال: ( وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق ) أي: العذاب الشديد المحرق، ذلك العذاب حصل لكم، غير ظلم ولا جور من ربكم، وإنما هو بما قدمت أيديكم من المعاصي التي أثرت لكم ما أثرت، وهذه سنة اللّه في الأولين والآخرين، فإن دأب هؤلاء المكذبين أي: سنتهم وما أجرى اللّه عليهم من الهلاك بذنوبهم.

( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) من الأمم المكذبة. ( كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ ) بالعقاب ( بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) لا يعجزه أحد يريد أخذه < 1-324 > http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-04-29, 02:35 PM
الحلقة (184)
تفسير السعدى
فففسورة الانفالققق
من الأية(53) الى الأية(61)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنفال
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُ مْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

( ذَلِكَ ) العذاب الذي أوقعه اللّه بالأمم المكذبين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg وأزال عنهم ما هم فيه من النعم والنعيم، بسبب ذنوبهم وتغييرهم ما بأنفسهم،فإن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم من نعم الدين والدنيا، بل يبقيها ويزيدهم منها، إن ازدادوا له شكرا. ( حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) من الطاعة إلى المعصية فيكفروا نعمة اللّه ويبدلوها كفرا، فيسلبهم إياها ويغيرها عليهم كما غيروا ما بأنفسهم.
وللّه الحكمة في ذلك والعدل والإحسان إلى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg عباده، حيث لم يعاقبهم إلا بظلمهم، وحيث جذب قلوب أوليائه إليه، بما يذيق العباد من النكال إذا خالفوا أمره.
( وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) يسمع جميع ما نطق به الناطقون، سواء من أسر القول ومن جهر به،ويعلم ما تنطوي عليه الضمائر، وتخفيه السرائر، فيجري على عباده من الأقدار ما اقتضاه علمه وجرت به مشيئته.
( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ) أي: فرعون وقومه ( وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ) حين جاءتهم ( فَأَهْلَكْنَاهُ مْ بِذُنُوبِهِمْ ) كل بحسب جرمه.
( وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ ) من المهلكين المعذبين ( كَانُوا ظَالِمِينَ ) لأنفسهم، ساعين في هلاكها، لم يظلمهم اللّه، ولا أخذهم بغير جرم اقترفوه،فليحذر المخاطبون أن يشابهوهم في الظلم، فيحل اللّه بهم من عقابه ما أحل بأولئك الفاسقين.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

هؤلاء الذين جمعوا هذه الخصال الثلاث: الكفر، وعدم الإيمان، والخيانة، بحيث لا يثبتون على عهد عاهدوه ولا قول قالوه، هم شر الدواب عند الله فهم شر من الحمير والكلاب وغيرها، لأن الخير معدوم منهم، والشر متوقع فيهم ، فإذهاب هؤلاء ومحقهم هو المتعين، لئلا يسري داؤهم لغيرهم، ولهذا قال: ( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ ) أي: تجدنهم في حال المحاربة، بحيث لا يكون لهم عهد وميثاق.
( فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ) أي: نكل بهم غيرهم، وأوقع بهم من العقوبة ما يصيرون [به] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg عبرة لمن بعدهم ( لَعَلَّهُمْ ) أي من خلفهم ( يَذْكُرُونَ ) صنيعهم، لئلا يصيبهم ما أصابهم،وهذه من فوائد العقوبات والحدود المرتبة على المعاصي، أنها سبب لازدجار من لم يعمل المعاصي، بل وزجرا لمن عملها أن لا يعاودها.
ودل تقييد هذه العقوبة في الحرب أن الكافر - ولو كان كثير الخيانة سريع الغدر - أنه إذا أُعْطِيَ عهدا لا يجوز خيانته وعقوبته.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

أي: وإذا كان بينك وبين قوم عهد وميثاق على ترك القتال فخفت منهم خيانة،بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة.

( فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ ) عهدهم، أي: ارمه عليهم، وأخبرهم أنه لا عهد بينك وبينهم. ( عَلَى سَوَاءٍ ) أي: حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك، ولا يحل لك أن تغدرهم، أو تسعى في شيء مما منعه موجب العهد، حتى تخبرهم بذلك.
( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ) بل يبغضهم أشد البغض،فلا بد من أمر بيِّنٍ يبرئكم من الخيانة.
ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم، لأنه لم يخف منهم، بل علم ذلك، ولعدم الفائدة ولقوله: ( عَلَى سَوَاءٍ ) وهنا قد كان معلوما عند الجميع غدرهم.
ودل مفهومها أيضا أنه إذا لم يُخَفْ منهم خيانة، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

أي: لا يحسب الكافرون بربهم المكذبون بآياته، أنهم سبقوا اللّه وفاتوه، فإنهم لا يعجزونه، واللّه لهم بالمرصاد.
وله تعالى الحكمة البالغة في إمهالهم وعدم معاجلتهم بالعقوبة، التي من جملتها ابتلاء عباده المؤمنين وامتحانهم، وتزودهم من طاعته ومراضيه، ما يصلون به المنازل العالية، واتصافهم بأخلاق وصفات لم يكونوا بغيره بالغيها، فلهذا قال لعباده المؤمنين:

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

أي ( وَأَعِدُّوا ) لأعدائكم الكفار الساعين في هلاككم وإبطال دينكم. ( مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) أي: كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة < 1-325 > ونحو ذلك مما يعين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات، والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب البرية والبحرية، والحصون والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأْي: والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتَعَلُّم الرَّمْيِ، والشجاعة والتدبير.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا إن القوة الرَّمْيُ ) ومن ذلك: الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال،ولهذا قال تعالى: ( وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء، والحكم يدور مع علته.
فإذا كان شيء موجود http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg أكثر إرهابا منها، كالسيارات البرية والهوائية، المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد، كانت مأمورا بالاستعداد بها، والسعي لتحصيلها،حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلُّم الصناعة، وجب ذلك، لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب
وقوله: ( تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) ممن تعلمون أنهم أعداؤكم. ( وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ ) ممن سيقاتلونكم بعد هذا الوقت الذي يخاطبهم الله به ( اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ) فلذلك أمرهم بالاستعداد لهم،ومن أعظم ما يعين على قتالهم بذلك النفقات المالية في جهاد الكفار.
ولهذا قال تعالى مرغبا في ذلك: ( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) قليلا كان أو كثيرا ( يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) أجره يوم القيامة مضاعفا أضعافا كثيرة، حتى إن النفقة في سبيل اللّه، تضاعف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.

( وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) أي: لا تنقصون من أجرها وثوابها شيئا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( وَإِنْ جَنَحُوا ) أي: الكفار المحاربون، أي: مالوا ( لِلسَّلْمِ ) أي: الصلح وترك القتال.
( فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ) أي: أجبهم إلى ما طلبوا متوكلا على ربك، فإن في ذلك فوائد كثيرة.
منها: أن طلب العافية مطلوب كل وقت، فإذا كانوا هم المبتدئين في ذلك، كان أولى لإجابتهم.
ومنها: أن في ذلك إجماما لقواكم، واستعدادا منكم لقتالهم في وقت آخر، إن احتيج لذلك.
ومنها: أنكم إذا أصلحتم وأمن بعضكم بعضا، وتمكن كل من معرفة ما عليه الآخر، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فكل من له عقل وبصيرة إذا كان معه إنصاف فلا بد أن يؤثره على غيره من الأديان، لحسنه في أوامره ونواهيه، وحسنه في معاملته للخلق والعدل فيهم، وأنه لا جور فيه ولا ظلم بوجه، فحينئذ يكثر الراغبون فيه والمتبعون له،.فصار هذا السلم عونا للمسلمين على الكافرين،.ولا يخاف من السلم إلا خصلة واحدة، وهي أن يكون الكفار قصدهم بذلك خدع المسلمين، وانتهاز الفرصة فيهم،.فأخبرهم اللّه أنه حسبهم وكافيهم خداعهم، وأن ذلك يعود عليهم ضرره، فقال:

ابو وليد البحيرى
2019-04-29, 02:39 PM
الحلقة (185)
تفسير السعدى
فففسورة الانفالققق
من الأية(62) الى الأية(69)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنفال
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِ ينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ) أي: كافيك ما يؤذيك، وهو القائم بمصالحك ومهماتك، فقد سبق [لك] من كفايته لك ونصره ما يطمئن به قلبك.
فلـ ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِ ينَ ) أي: أعانك بمعونة سماوية، وهو النصر منه الذي لا يقاومه شيء، ومعونة بالمؤمنين بأن قيضهم لنصرك.
( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ) فاجتمعوا وائتلفوا، وازدادت قوتهم بسبب اجتماعهم، ولم يكن هذا بسعي أحد، ولا بقوة غير قوة اللّه،فلو أنفقت ما في الأرض جميعا من ذهب وفضة وغيرهما لتأليفهم بعد تلك النفرة والفرقة الشديدة ( مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ) لأنه لا يقدر على تقليب القلوب إلا اللّه تعالى.
( وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ومن عزته أن ألف بين قلوبهم، وجمعها بعد الفرقة كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg
ثم قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ) أي: كافيك ( وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي: وكافي أتباعك من المؤمنين،.وهذا وعد من اللّه لعباده المؤمنين المتبعين لرسوله، بالكفاية والنصرة على الأعداء.
فإذا أتوا بالسبب الذي هو الإيمان والاتباع، فلا بد أن يكفيهم ما أهمهم من أمور الدين والدنيا، وإنما تتخلف الكفاية بتخلف شرطها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ) أي: حثهم وأنهضهم إليه بكل ما يقوي عزائمهم وينشط هممهم، من الترغيب في الجهاد ومقارعة الأعداء، والترهيب من ضد ذلك، وذكر فضائل < 1-326 > الشجاعة والصبر، وما يترتب على ذلك من خير في الدنيا والآخرة، وذكر مضار الجبن، وأنه من الأخلاق الرذيلة المنقصة للدين والمروءة، وأن الشجاعة بالمؤمنين أولى من غيرهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg
( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ) أيها المؤمنون ( عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) يكون الواحد بنسبة عشرة من الكفار،.وذلك بأن الكفار ( قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) أي: لا علم عندهم بما أعد اللّه للمجاهدين في سبيله، فهم يقاتلون لأجل العلو في الأرض والفساد فيها،.وأنتم تفقهون المقصود من القتال، أنه لإعلاء كلمة اللّه وإظهار دينه، والذب عن كتاب اللّه، وحصول الفوز الأكبر عند اللّه،.وهذه كلها دواع للشجاعة والصبر والإقدام على القتال.
ثم إن هذا الحكم خففه اللّه على العباد فقال: ( الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ) فلذلك اقتضت رحمته وحكمته التخفيف،. ( فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) بعونه وتأييده.
وهذه الآيات صورتها صورة الإخبار عن المؤمنين، بأنهم إذا بلغوا هذا المقدار المعين يغلبون ذلك المقدار المعين في مقابلته من الكفار، وأن اللّه يمتن عليهم بما جعل فيهم من الشجاعة الإيمانية.
ولكن معناها وحقيقتها الأمر وأن اللّه أمر المؤمنين - في أول الأمر - أن الواحد لا يجوز له أن يفر من العشرة، والعشرة من المائة، والمائة من الألف.
ثم إن اللّه خفف ذلك، فصار لا يجوز فرار المسلمين من مثليهم من الكفار، فإن زادوا على مثليهم جاز لهم الفرار، ولكن يرد على هذا أمران:
أحدهما: أنها بصورة الخبر، والأصل في الخبر أن يكون على بابه، وأن المقصود بذلك الامتنان والإخبار بالواقع.
والثاني: تقييد ذلك العدد أن يكونوا صابرين بأن يكونوا متدربين على الصبر.
ومفهوم هذا أنهم إذا لم يكونوا صابرين، فإنه يجوز لهم الفرار، ولو أقل من مثليهم [إذا غلب على ظنهم الضرر] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg كما تقتضيه الحكمة الإلهية.
ويجاب عن الأول بأن قوله: ( الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ) إلى آخرها، دليل على أن هذا أمر http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لازم وأمر محتم، ثم إن اللّه خففه إلى ذلك العدد،. فهذا ظاهر في أنه أمر، وإن كان في صيغة الخبر.
وقد يقال: إن في إتيانه بلفظ الخبر، نكتة بديعة لا توجد فيه إذا كان بلفظ الأمر،.وهي تقوية قلوب المؤمنين، والبشارة بأنهم سيغلبون الكافرين.
ويجاب عن الثاني: أن المقصود بتقييد ذلك بالصابرين، أنه حث على الصبر، وأنه ينبغي منكم أن تفعلوا الأسباب الموجبة لذلك[فإذا فعلوها صارت الأسباب الإيمانية والأسباب المادية مبشرة بحصول ما أخبر اللّه به من النصر لهذا العدد القليل] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذه معاتبة من اللّه لرسوله وللمؤمنين يوم ( بدر ) إذ أسروا المشركين وأبقوهم لأجل الفداء،. وكان رأي: أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في هذه الحال، قتلهم واستئصالهم.
فقال تعالى: ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىَ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ ) أي: ما ينبغي ولا يليق به إذا قاتل الكفار الذين يريدون أن يطفئوا نور اللّه ويسعوا لإخماد دينه، وأن لا يبقى على وجه الأرض من يعبد اللّه، أن يتسرع إلى أسرهم وإبقائهم لأجل الفداء الذي يحصل منهم، وهو عرض قليل بالنسبة إلى المصلحة المقتضية لإبادتهم وإبطال شرهم،.فما دام لهم شر وصولة، فالأوفق أن لا يؤسروا.
فإذا أثخنوا، وبطل شرهم، واضمحل أمرهم، فحينئذ لا بأس بأخذ الأسرى منهم وإبقائهم.
يقول تعالى: ( تُرِيدُونَ ) بأخذكم الفداء وإبقائهم ( عَرَضَ الدُّنْيَا ) أي: لا لمصلحة تعود إلى دينكم.
( وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ ) بإعزاز دينه، ونصر أوليائه، وجعل كلمتهم عالية فوق غيرهم، فيأمركم بما يوصل إلى ذلك.
( وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) أي: كامل العزة، ولو شاء أن ينتصر من الكفار من دون قتال لفعل، لكنه حكيم، يبتلي بعضكم ببعض.
( لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ) به القضاء والقدر، أنه قد أحل لكم الغنائم، وأن اللّه رفع عنكم - أيها الأمة - العذاب ( لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) وفي الحديث: ( لو نزل < 1-327 > عذاب يوم بدر، ما نجا منه إلا عمر )

( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا ) وهذا من لطفه تعالى بهذه الأمة، أن أحل لها الغنائم ولم يحلها لأمة قبلها.
( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) في جميع أموركم ولازموها، شكرا لنعم اللّه عليكم. ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ) يغفر لمن تاب إليه جميع الذنوب، ويغفر لمن لم يشرك به شيئا جميع المعاصي.
( رَحِيمٌ ) بكم، حيث أباح لكم الغنائم وجعلها حلالا طيبا.

ابو وليد البحيرى
2019-05-03, 05:35 AM
الحلقة (186)
تفسير السعدى
فففسورة الانفالققق
من الأية(70) الى الأية(75)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأنفال
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وهذه نزلت في أسارى يوم بدر، وكان في جملتهم العباس عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،فلما طلب منه الفداء، ادَّعى أنه مسلم قبل ذلك، فلم يسقطوا عنه الفداء،فأنزل اللّه تعالى جبرا لخاطره ومن كان على مثل حاله.
( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ) أي: من المال، بأن ييسر لكم من فضله، خيرا وأكثر http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg مما أخذ منكم.
( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) ذنوبكم، ويدخلكم الجنة وقد أنجز اللّه وعده للعباس وغيره، فحصل له - بعد ذلك - من المال شيء كثير،حتى إنه مرة لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مال كثير، أتاه العباس فأمره أن يأخذ منه بثوبه ما يطيق حمله، فأخذ منه ما كاد أن يعجز عن حمله.
( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ ) في السعي لحربك ومنابذتك، ( فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ) فليحذروا خيانتك، فإنه تعالى قادر عليهم وهم تحت قبضته، ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي: عليم بكل شيء، حكيم يضع الأشياء مواضعها، ومن علمه وحكمته أن شرع لكم هذه الأحكام الجليلة الجميلة، وأن تكفل http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg بكفايتكم شأن الأسرى وشرهم إن أرادوا خيانة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُم ْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا عقد موالاة ومحبة، عقدها اللّه بين المهاجرين الذين آمنوا وهاجروا في سبيل اللّه، وتركوا أوطانهم للّه لأجل الجهاد في سبيل اللّه،وبين الأنصار الذين آووا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأعانوهم في ديارهم وأموالهم وأنفسهم،فهؤلاء بعضهم أولياء بعض، لكمال إيمانهم وتمام اتصال بعضهم ببعض.
( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ) فإنهم قطعوا ولايتكم بانفصالهم عنكم في وقت شدة الحاجة إلى الرجال،فلما لم يهاجروا لم يكن لهم من ولاية المؤمنين شيء، لكنهم ( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُم ْ فِي الدِّينِ ) أي: لأجل قتال من قاتلهم لأجل دينهم ( فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) والقتال معهم،وأما من قاتلوهم لغير ذلك من المقاصد فليس عليكم نصرهم.
وقوله تعالى: ( إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ) أي: عهد بترك القتال، فإنهم إذا أراد المؤمنون المتميزون الذين لم يهاجروا قتالهم، فلا تعينوهم عليهم، لأجل ما بينكم وبينهم من الميثاق.

( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) يعلم ما أنتم عليه من الأحوال، فيشرع لكم من الأحكام ما يليق بكم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما عقد الولاية بين المؤمنين، أخبر أن الكفار حيث جمعهم الكفر فبعضهم أولياء لبعض http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg فلا يواليهم إلا كافر مثلهم.
وقوله: ( إِلا تَفْعَلُوهُ ) أي: موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، بأن واليتموهم كلهم أو عاديتموهم كلهم، أو واليتم الكافرين وعاديتم المؤمنين.
( تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ) فإنه يحصل بذلك من الشر ما لا ينحصر من اختلاط الحق بالباطل، والمؤمن بالكافر، وعدم كثير من العبادات الكبار، كالجهاد والهجرة، وغير ذلك من مقاصد الشرع والدين التي تفوت إذا لم يتخذ المؤمنون وحدهم أولياء بعضهم لبعض.
< 1-328 >
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

الآيات السابقات في ذكر عقد الموالاة بين المؤمنين من المهاجرين والأنصار.
وهذه الآيات في بيان مدحهم وثوابهم، فقال: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ ) أي: المؤمنون من المهاجرين والأنصار ( هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ) لأنهم صدقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة والنصرة والموالاة بعضهم لبعض، وجهادهم لأعدائهم من الكفار والمنافقين.
( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) من اللّه تمحى بها سيئاتهم، وتضمحل بها زلاتهم، ( و ) لهم ( رِزْقٌ كَرِيمٌ ) أي: خير كثير من الرب الكريم في جنات النعيم.
وربما حصل لهم من الثواب المعجل ما تقر به أعينهم، وتطمئن به قلوبهم ، وكذلك من جاء بعد هؤلاء المهاجرين والأنصار، ممن اتبعهم بإحسان فآمن وهاجر وجاهد في سبيل اللّه. ( فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ) لهم ما لكم وعليهم ما عليكم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
فهذه الموالاة الإيمانية - وقد كانت في أول الإسلام - لها وقع كبير وشأن عظيم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار أخوة خاصة، غير الأخوة الإيمانية العامة، وحتى كانوا يتوارثون بها، فأنزل اللّه ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) فلا يرثه إلا أقاربه من العصبات وأصحاب الفروض،فإن لم يكونوا، فأقرب قراباته من ذوي الأرحام، كما دل عليه عموم هذه الآية الكريمة،وقوله: ( فِي كِتَابِ اللَّهِ ) أي: في حكمه وشرعه.

( إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ومنه ما يعلمه من أحوالكم التي يجري من شرائعه الدينية عليكم ما يناسبها.

تم تفسير سورة الأنفال وللّه الحمد.

ابو وليد البحيرى
2019-05-03, 05:40 AM
الحلقة (187)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(1) الى الأية(6)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

تفسير سورة براءة
ويقال: سورة التوبة،
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

أي: هذه براءة من اللّه ومن رسوله إلى جميع المشركين المعاهدين، أن لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض على اختيارهم، آمنين من المؤمنين، وبعد الأربعة الأشهر فلا عهد لهم، ولا ميثاق.
وهذا لمن كان له عهد مطلق غير مقدر، أو مقدر بأربعة أشهر فأقل، أما من كان له عهد مقدر بزيادة على أربعة أشهر، فإنه يتعين أن يتمم له عهده إذا لم يخف منه خيانة، ولم يبدأ بنقض العهد.
ثم أنذر المعاهدين في مدة عهدهم، أنهم وإن كانوا آمنين، فإنهم لن يعجزوا اللّه ولن يفوتوه، وأنه من استمر منهم على شركه فإن الله لا بد أن يخزيه، فكان هذا مما يجلبهم إلى الدخول في الإسلام، إلا من عاند وأصر ولم يبال بوعيد اللّه له.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpgوَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

هذا ما وعد اللّه به المؤمنين، من نصر دينه وإعلاء كلمته، وخذلان أعدائهم من المشركين الذين أخرجوا الرسول ومن معه من مكة، من بيت اللّه الحرام، وأجلوهم، مما لهم التسلط عليه من أرض الحجاز.
نصر اللّه رسوله والمؤمنين حتى افتتح مكة، وأذل المشركين، وصار للمؤمنين الحكم والغلبة على تلك الديار.
فأمر النبي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg مؤذنه أن يؤذن يوم الحج الأكبر، وهو يوم النحر، وقت اجتماع الناس مسلمهم وكافرهم، من جميع جزيرة العرب، أن يؤذن بأن اللّه بريء ورسوله من المشركين، فليس لهم عنده عهد وميثاق، فأينما وجدوا قتلوا، وقيل لهم: لا تقربوا المسجد الحرام بعد عامكم هذا، وكان ذلك سنة تسع من الهجرة.
وحج بالناس أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه، وأذن ببراءة -يوم النحر- ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
ثم رغب تعالى المشركين بالتوبة، ورهبهم من الاستمرار على الشرك فقال: ( فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ)
أي: فائتيه، بل أنتم في قبضته، قادر أن يسلط عليكم عباده المؤمنين. ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) أي: مؤلم مفظع في الدنيا بالقتل والأسر، والجلاء، وفي الآخرة، بالنار، وبئس القرار.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

أي هذه البراءة التامة المطلقة من جميع المشركين. ( إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) واستمروا على عهدهم، ولم يجر منهم ما يوجب النقض، فلا نقصوكم شيئا، ولا عاونوا عليكم أحدا، فهؤلاء أتموا لهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg عهدهم إلى مدتهم، قَلَّتْ، أو كثرت، لأن الإسلام لا يأمر بالخيانة وإنما يأمر بالوفاء.

( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الذين أدوا ما أمروا به، واتقوا الشرك والخيانة، وغير ذلك من المعاصي.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

يقول تعالى ( فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ) أي: التي حرم فيها قتال المشركين المعاهدين، وهي أشهر التسيير الأربعة، وتمام المدة لمن له مدة أكثر منها، فقد برئت منهم الذمة.
( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) في أي مكان وزمان، ( وَخُذُوهُمْ) أسرى ( وَاحْصُرُوهُمْ) أي: ضيقوا عليهم، فلا تدعوهم يتوسعون في بلاد اللّه وأرضه، التي جعلها [الله] معبدا لعباده.
فهؤلاء ليسوا أهلا لسكناها، ولا يستحقون منها شبرا، لأن الأرض أرض اللّه، وهم أعداؤه المنابذون له ولرسله، المحاربة الذين يريدون أن يخلوا الأرض من دينه، ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
( وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي: كل ثنية وموضع يمرون عليه، ورابطوا في جهادهم وابذلوا غاية مجهودكم في ذلك، ولا تزالوا على هذا الأمر حتى يتوبوا من شركهم.
ولهذا قال: ( فَإِنْ تَابُوا) من شركهم ( وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) أي: أدوها بحقوقها ( وَآتُوا الزَّكَاةَ) لمستحقيها ( فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أي: اتركوهم، وليكونوا مثلكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم.
( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر الشرك فما دونه، للتائبين، ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة، ثم قبولها منهم.
وفي هذه الآية، دليل على أن من امتنع من أداء الصلاة أو الزكاة، فإنه يقاتل حتى يؤديهما، كما استدل بذلك أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

لما كان ما تقدم من قوله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg أمرا عاما في جميع الأحوال، وفي كل الأشخاص منهم، ذكر تعالى، أن المصلحة إذا اقتضت تقريب بعضهم جاز، بل وجب ذلك فقال: ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ ) أي: طلب منك أن تجيره، وتمنعه من الضرر، لأجل أن يسمع كلام اللّه، وينظر حالة الإسلام.
( فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ) ثم إن أسلم، فذاك، وإلا فأبلغه مأمنه، أي: المحل الذي يأمن فيه، والسبب في ذلك أن الكفار قوم لا يعلمون، فربما كان استمرارهم على كفرهم لجهل منهم، إذا زال اختاروا عليه الإسلام، فلذلك أمر اللّه رسوله، وأمته أسوته في الأحكام، أن يجيروا من طلب أن يسمع كلام اللّه.

وفي هذا حجة صريحة لمذهب أهل السنة والجماعة، القائلين بأن القرآن كلام اللّه غير مخلوق، لأنه تعالى هو المتكلم به، وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها، وبطلان مذهب المعتزلة ومن أخذ بقولهم: أن القرآن مخلوق.
وكم من الأدلة الدالة على بطلان هذا القول، ليس هذا محل ذكرها.

ابو وليد البحيرى
2019-05-03, 05:45 AM
الحلقة (188)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(7) الى الأية(13)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg.

هذا بيان للحكمة الموجبة لأن يتبرأ اللّه ورسوله من المشركين، فقال: ( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) هل قاموا بواجب الإيمان، أم تركوا رسول اللّه والمؤمنين من أذيتهم؟ أما حاربوا الحق ونصروا الباطل؟
أما سعوا في الأرض فسادا؟ فيحق لهم أن يتبرأ اللّه منهم، وأن لا يكون لهم عهد عنده ولا عند رسوله.
( إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ) من المشركين ( عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) فإن لهم في العهد وخصوصا في هذا المكان الفاضل حرمة، أوجب أن يراعوا فيها.

( فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ولهذا قال:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg.

أي: ( كَيْفَ) يكون للمشركين عند اللّه عهد وميثاق ( و) الحال أنهم ( وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) بالقدرة والسلطة، لا يرحموكم، و ( لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً) أي: لا ذمة ولا قرابة، ولا يخافون اللّه فيكم، بل يسومونكم سوء العذاب، فهذه حالكم معهم لو ظهروا.
ولا يغرنكم منهم ما يعاملونكم به وقت الخوف منكم، فإنهم ( يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ) الميل والمحبة لكم، بل هم الأعداء حقا، المبغضون لكم صدقا، ( وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) لا ديانة لهم ولا مروءة.
( اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا) أي: اختاروا الحظ العاجل الخسيس في الدنيا. على الإيمان باللّه ورسوله، والانقياد لآيات اللّه.
( فَصَدُّوا) بأنفسهم، وصدوا غيرهم ( عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) أي لأجل عداوتهم للإيمان ( إِلا وَلا ذِمَّةً) أي لأجل عداوتهم للإيمان وأهله
فالوصف الذي جعلهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg يعادونكم لأجله ويبغضونكم هو الإيمان فذبوا عن دينكم وانصروه واتخذوا من عاداه لكم عدوا ومن نصره لكم وليا واجعلوا الحكم يدور معه وجودا وعدما لا تجعلوا الولاية والعداوة طبيعية http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg تميلون بهما حيثما مال الهوى وتتبعون فيهما النفس الأمارة بالسوء ولهذا ( فَإِنْ تَابُوا) عن شركهم ورجعوا إلى الإيمان ( وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) وتناسوا تلك العداوة إذ كانوا مشركين لتكونوا عباد اللّه المخلصين وبهذا يكون العبد عبدا حقيقة لما بين من أحكامه العظيمة ما بين ووضح منها ما وضح أحكاما وحِكَمًا وحُكْمًا وحكمة قال ( وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ) أي نوضحها ونميزها ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإليهم سياق الكلام وبهم تعرف الآيات والأحكام وبهم عرف دين الإسلام وشرائع الدين
اللهم اجعلنا من القوم الذين يعلمون ويعملون بما يعلمون برحمتك وجودك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُم ْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

يقول تعالى بعدما ذكر أن المعاهدين من المشركين إن استقاموا على عهدهم فاستقيموا لهم على الوفاء: ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) أي: نقضوها وحلوها، فقاتلوكم أو أعانوا على قتالكم، أو نقصوكم، ( وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي: عابوه، وسخروا منه.
ويدخل في هذا جميع أنواع الطعن الموجهة إلى الدين، أو إلى القرآن، ( فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي: القادة فيه، الرؤساء الطاعنين في دين الرحمن، الناصرين لدين الشيطان، وخصهم بالذكر لعظم جنايتهم، ولأن غيرهم تبع لهم، وليدل على أن من طعن في الدين وتصدى للرد عليه، فإنه من أئمة الكفر.
( إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ) أي: لا عهود ولا مواثيق يلازمون على الوفاء بها، بل لا يزالون خائنين، ناكثين للعهد، لا يوثق منهم.
( لَعَلَّهُمْ) في قتالكم إياهم ( يَنْتَهُونَ) عن الطعن في دينكم، وربما دخلوا فيه، ثم حث على قتالهم، وهيج المؤمنين بذكر الأوصاف، التي صدرت من هؤلاء الأعداء، والتي هم موصوفون بها، المقتضية لقتالهم فقال: ( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ) الذي يجب احترامه وتوقيره وتعظيمه؟ وهم هموا أن يجلوه ويخرجوه من وطنه وسعوا في ذلك ما أمكنهم، ( وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) حيث نقضوا العهد وأعانوا عليكم، وذلك حيث عاونت http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg قريش -وهم معاهدون- بني بكر حلفاءهم على خزاعة حلفاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقاتلوا معهم كما هو مذكور مبسوط في السيرة.

( أَتَخْشَوْنَهُم ْ) في ترك قتالهم ( فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإنه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg أمركم بقتالهم، وأكد ذلك عليكم غاية التأكيد.
فإن كنتم مؤمنين فامتثلوا لأمر اللّه، ولا تخشوهم فتتركوا أمر اللّه، ثم أمر بقتالهم وذكر ما يترتب على قتالهم من الفوائد، وكل هذا حث وإنهاض للمؤمنين على قتالهم، فقال:

ابو وليد البحيرى
2019-05-03, 05:48 AM
الحلقة (189)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(14) الى الأية(20)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ) بالقتل ( وَيُخْزِهِمْ ) إذا نصركم اللّه عليهم، وهم الأعداء الذين يطلب خزيهم ويحرص عليه، ( وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ) هذا وعد من اللّه وبشارة قد أنجزها.
( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) فإن في قلوبهم من الحنق والغيظ عليهم ما يكون قتالهم وقتلهم شفاء لما في قلوب المؤمنين من الغم والهم إذ يرون هؤلاء الأعداء محاربين للّه ولرسوله ساعين في إطفاء نور اللّه وزوالا للغيظ الذي في قلوبهم وهذا يدل على محبة اللّه لعباده المؤمنين واعتنائه بأحوالهم حتى إنه جعل -من جملة المقاصد الشرعية- شفاء ما في صدورهم وذهاب غيظهم
ثم قال ( وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ) من هؤلاء المحاربين بأن يوفقهم للدخول في الإسلام ويزينه في قلوبهم ويُكَرِّهَ إليهم الكفر والفسوق والعصيان
( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) يضع الأشياء مواضعها ويعلم من يصلح للإيمان فيهديه ومن لا يصلح فيبقيه في غيه وطغيانه

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد ما أمرهم بالجهاد: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا ) من دون ابتلاء وامتحان، وأمر بما يبين به الصادق والكاذب.
( وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ) أي: علما يظهر مما في القوة إلى الخارج، ليترتب عليه الثواب والعقاب، فيعلم الذين يجاهدون في سبيله: لإعلاء كلمته ( وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) أي: وليا من الكافرين، بل يتخذون اللّه ورسوله والمؤمنين أولياء.
فشرع اللّه الجهاد ليحصل به هذا المقصود الأعظم، وهو أن يتميز الصادقون الذين لا يتحيزون إلا لدين اللّه، من الكاذبين الذين يزعمون الإيمان وهم يتخذون الولائج والأولياء من دون اللّه ولا رسوله ولا المؤمنين.
( وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) أي: يعلم ما يصير منكم ويصدر، فيبتليكم بما يظهر به حقيقة ما أنتم عليه، ويجازيكم على أعمالكم خيرها وشرها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

يقول تعالى: ( مَا كَانَ ) أي: ما ينبغي ولا يليق ( لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ ) بالعبادة، والصلاة، وغيرها من أنواع الطاعات، والحال أنهم شاهدون ومقرون على أنفسهم بالكفر بشهادة حالهم وفطرهم، وعلم كثير منهم أنهم على الكفر والباطل.
فإذا كانوا ( شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) وعدم الإيمان، الذي هو شرط لقبول الأعمال، فكيف يزعمون أنهم عُمَّارُ مساجد اللّه، والأصل منهم مفقود، والأعمال منهم باطلة؟!!.
ولهذا قال: ( أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) أي: بطلت وضلت ( وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ) .
ثم ذكر من هم عمار مساجد اللّه فقال: ( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ ) الواجبة والمستحبة، بالقيام بالظاهر منها والباطن.
( وَآتَى الزَّكَاةَ ) لأهلها ( وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ ) أي قصر خشيته على ربه، فكف عما حرم اللّه، ولم يقصر بحقوق اللّه الواجبة.
فوصفهم بالإيمان النافع، وبالقيام بالأعمال الصالحة التي أُمُّها الصلاة والزكاة، وبخشية اللّه التي هي أصل كل خير، فهؤلاء عمار المساجد على الحقيقة وأهلها الذين هم أهلها.
( فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) و "عسى" من اللّه واجبة. وأما من لم يؤمن باللّه ولا باليوم الآخر، ولا عنده خشية للّه، فهذا ليس من عمار مساجد اللّه، ولا من أهلها الذين هم أهلها، وإن زعم ذلك وادعاه.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما اختلف بعض المسلمين، أو بعض المسلمين وبعض المشركين، في تفضيل عمارة المسجد الحرام، بالبناء والصلاة والعبادة فيه وسقاية الحاج، على الإيمان باللّه والجهاد في سبيله، أخبر اللّه تعالى بالتفاوت بينهما، فقال: ( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ) أي: سقيهم الماء من زمزم كما هو المعروف إذا أطلق هذا الاسم، أنه المراد ( وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ < 1-332 > الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ )
فالجهاد والإيمان باللّه أفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بدرجات كثيرة، لأن الإيمان أصل الدين، وبه تقبل الأعمال، وتزكو الخصال.
وأما الجهاد في سبيل اللّه فهو ذروة سنام الدين، الذي به يحفظ الدين الإسلامي ويتسع، وينصر الحق ويخذل الباطل.
وأما عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج، فهي وإن كانت أعمالا صالحة، فهي متوقفة على الإيمان، وليس فيها من المصالح ما في الإيمان والجهاد، فلذلك قال: ( لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) أي: الذين وصفهم الظلم، الذين لا يصلحون لقبول شيء من الخير، بل لا يليق بهم إلا الشر.
ثم صرح بالفضل فقال: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ ) بالنفقة في الجهاد وتجهيز الغزاة ( وَأَنْفُسِهِمْ ) بالخروج بالنفس ( أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) أي: لا يفوز بالمطلوب ولا ينجو من المرهوب، إلا من اتصف بصفاتهم، وتخلق بأخلاقهم.

ابو وليد البحيرى
2019-05-03, 05:52 AM
الحلقة (190)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(21) الى الأية(26)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ) جودا منه، وكرما وبرا بهم، واعتناء ومحبة لهم، ( بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) أزال بها عنهم الشرور، وأوصل إليهم [بها] كل خير. ( وَرِضْوَانٍ) منه تعالى عليهم، الذي هو أكبر نعيم الجنة وأجله، فيحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدا.
( وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ) من كل ما اشتهته الأنفس، وتلذ الأعين، مما لا يعلم وصفه ومقداره إلا اللّه تعالى، الذي منه أن اللّه أعد للمجاهدين في سبيله مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، ولو اجتمع الخلق في درجة واحدة منها لوسعتهم.
( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) لا ينتقلون عنها، ولا يبغون عنها حِوَلا ( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا تستغرب كثرته على فضل اللّه، ولا يتعجب من عظمه وحسنه على من يقول للشيء كن فيكون.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوه َا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) اعملوا بمقتضى الإيمان، بأن توالوا من قام به، وتعادوا من لم يقم به.
و ( لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ ) الذين هم أقرب الناس إليكم، وغيرهم من باب أولى وأحرى، فلا تتخذوهم ( أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا) أي: اختاروا على وجه الرضا والمحبة ( الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ)
( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنهم تجرؤوا على معاصي اللّه، واتخذوا أعداء اللّه أولياء، وأصل الولاية: المحبة والنصرة، وذلك أن اتخاذهم أولياء، موجب لتقديم طاعتهم على طاعة اللّه، ومحبتهم على محبة اللّه ورسوله.
ولهذا ذكر السبب الموجب لذلك، وهو أن محبة اللّه ورسوله، يتعين تقديمهما على محبة كل شيء، وجعل جميع الأشياء تابعة لهما فقال: ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ) ومثلهم الأمهات ( وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ ) في النسب والعشرة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ( وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ ) أي: قراباتكم عموما ( وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوه َا) أي: اكتسبتموها وتعبتم في تحصيلها، خصها بالذكر، لأنها أرغب عند أهلها، وصاحبها أشد حرصا عليها ممن تأتيه الأموال من غير تعب ولا كَدّ.
( وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا) أي: رخصها ونقصها، وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات، من الأثمان، والأواني، والأسلحة، والأمتعة، والحبوب، والحروث، والأنعام، وغير ذلك.
( وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا) من حسنها وزخرفتها وموافقتها لأهوائكم، فإن كانت هذه الأشياء ( أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ) فأنتم فسقة ظلمة.
( فَتَرَبَّصُوا) أي: انتظروا ما يحل بكم من العقاب ( حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) الذي لا مرد له.
( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أي: الخارجين عن طاعة اللّه، المقدمين على محبة اللّه شيئا من المذكورات.
وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة اللّه ورسوله، وعلى تقديمها على محبة كل شيء، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد، على من كان شيء من هذه المذكورات أحب إليه من اللّه ورسوله، وجهاد في سبيله.
وعلامة ذلك، أنه إذا عرض عليه أمران، أحدهما يحبه اللّه ورسوله، وليس لنفسه فيه هوى، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه، ولكنه يُفَوِّتُ عليه محبوبًا للّه ورسوله، أو ينقصه، فإنه إن قدم ما تهواه نفسه، على ما يحبه اللّه، دل ذلك على أنه ظالم، تارك لما يجب عليه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يمتن تعالى على عباده المؤمنين، بنصره إياهم في مواطن كثيرة من مواطن اللقاء، ومواضع الحروب والهيجاء، حتى في يوم"حنين"الذي اشتدت عليهم فيه الأزمة، ورأوا من التخاذل والفرار، ما ضاقت عليهم به الأرض على رحبها وسعتها.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، سمع أن هوازن اجتمعوا لحربه، فسار إليهم صلى الله عليه وسلم في أصحابه الذين فتحوا مكة، وممن أسلم من الطلقاء أهل مكة، فكانوا اثني عشر ألفا، والمشركون أربعة آلاف، فأعجب بعض المسلمين بكثرتهم، وقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة.
فلما التقوا هم وهوازن، حملوا على المسلمين حملة واحدة، فانهزموا لا يلوي أحد على أحد، ولم يبق مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، إلا نحو مائة رجل، ثبتوا معه، وجعلوا يقاتلون المشركين، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم، يركض بغلته نحو المشركين ويقول:"أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"
ولما رأى من المسلمين ما رأى، أمر العباس بن عبد المطلب أن ينادي في الأنصار وبقية المسلمين، وكان رفيع الصوت، فناداهم: يا أصحاب السمرة، يا أهل سورة البقرة.
فلما سمعوا صوته، عطفوا عطفة رجل واحد، فاجتلدوا مع المشركين، فهزم اللّه المشركين، هزيمة شنيعة، واستولوا على معسكرهم ونسائهم وأموالهم.
وذلك قوله تعالى ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) وهو اسم للمكان الذي كانت فيه الوقعة بين مكة والطائف.
( إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا) أي: لم تفدكم شيئا، قليلا ولا كثيرا ( وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ) بما أصابكم من الهم والغم حين انهزمتم ( بِمَا رَحُبَتْ) أي: على رحبها وسعتها، ( ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) أي: منهزمين.
( ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) والسكينة ما يجعله اللّه في القلوب وقت القلاقل والزلازل والمفظعات، مما يثبتها، ويسكنها ويجعلها مطمئنة، وهي من نعم اللّه العظيمة على العباد.
( وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) وهم الملائكة، أنزلهم اللّه معونة للمسلمين يوم حنين، يثبتونهم، ويبشرونهم بالنصر.
( وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالهزيمة والقتل، واستيلاء المسلمين على نسائهم وأولادهم وأموالهم.
( وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) يعذبهم اللّه في الدنيا، ثم يردهم في الآخرة إلى عذاب غليظ.

ابو وليد البحيرى
2019-05-03, 05:56 AM
الحلقة (191)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(27) الى الأية(31)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ < 1-333 > عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) فتاب اللّه على كثير ممن كانت الوقعة عليهم، وأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلمين تائبين، فرد عليهم نساءهم، وأولادهم.
( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي: ذو مغفرة واسعة، ورحمة عامة، يعفو عن الذنوب العظيمة للتائبين، ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة والطاعة، والصفح عن جرائمهم، وقبول توباتهم، فلا ييأسنَّ أحد من مغفرته ورحمته، ولو فعل من الذنوب والإجرام ما فعل.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ) باللّه الذين عبدوا معه غيره ( نَجَسٌ) أي: خبثاء في عقائدهم وأعمالهم، وأي نجاسة أبلغ ممن كان يعبد مع اللّه آلهة لا تنفع ولا تضر، ولا تغني عنه شيئا؟.
وأعمالهم ما بين محاربة للّه، وصد عن سبيل اللّه ونصر للباطل، ورد للحق، وعمل بالفساد في الأرض لا في الصلاح، فعليكم أن تطهروا أشرف البيوت وأطهرها عنهم.
( فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) وهو سنة تسع من الهجرة، حين حج بالناس أبو بكر الصديق، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه عليا، أن يؤذن يوم الحج الأكبر بـ ( براءة) فنادى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وليس المراد هنا، نجاسة البدن، فإن الكافر كغيره طاهر البدن، بدليل أن اللّه تعالى أباح وطء الكتابية ومباشرتها، ولم يأمر بغسل ما أصاب http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg منها.
والمسلمون ما زالوا يباشرون أبدان الكفار، ولم ينقل عنهم أنهم تقذروا منها، تَقَذُّرَهْم من النجاسات، وإنما المراد كما تقدم نجاستهم المعنوية، بالشرك، فكما أن التوحيد والإيمان، طهارة، فالشرك نجاسة.
وقوله: ( وَإِنْ خِفْتُمْ) أيها المسلمون ( عَيْلَةً) أي: فقرا وحاجة، من منع المشركين من قربان المسجد الحرام، بأن تنقطع الأسباب التي بينكم وبينهم من الأمور الدنيوية، ( فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) فليس الرزق مقصورا على باب واحد، ومحل واحد، بل لا ينغلق باب إلا وفتح غيره أبواب كثيرة، فإن فضل اللّه واسع، وجوده عظيم، خصوصا لمن ترك شيئا لوجهه الكريم، فإن اللّه أكرم الأكرمين.
وقد أنجز اللّه وعده، فإن اللّه قد أغنى المسلمين من فضله، وبسط لهم من الأرزاق ما كانوا به من أكبر الأغنياء والملوك.
وقوله: ( إِنْ شَاءَ) تعليق للإغناء بالمشيئة، لأن الغنى في الدنيا، ليس من لوازم الإيمان، ولا يدل على محبة اللّه، فلهذا علقه اللّه بالمشيئة.
فإن اللّه يعطي الدنيا، من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان والدين، إلا من يحب.
( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي: علمه < 1-334 > واسع، يعلم من يليق به الغنى، ومن لا يليق، ويضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها.
وتدل الآية الكريمة، وهي قوله ( فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) أن المشركين بعد ما كانوا، هم الملوك والرؤساء بالبيت، ثم صار بعد الفتح الحكم لرسول اللّه والمؤمنين، مع إقامتهم في البيت، ومكة المكرمة، ثم نزلت هذه الآية.
ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يجلوا من الحجاز، فلا يبقى فيها دينان، وكل هذا لأجل بُعْدِ كل كافر عن المسجد الحرام، فيدخل في قوله ( فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذه الآية أمر بقتال الكفار من اليهود والنصارى من ( الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) إيمانا صحيحا يصدقونه بأفعالهم وأعمالهم. ولا يحرمون ما حرم الله، فلا يتبعون شرعه في تحريم المحرمات، ( وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) أي: لا يدينون بالدين الصحيح، وإن زعموا أنهم على دين، فإنه دين غير الحق، لأنه إما بين دين مبدل، وهو الذي لم يشرعه اللّه أصلا وإما دين منسوخ قد شرعه اللّه، ثم غيره بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيبقى التمسك به بعد النسخ غير جائز.
فأمره بقتال هؤلاء وحث على ذلك، لأنهم يدعون إلى ما هم عليه، ويحصل الضرر الكثير منهم للناس، بسبب أنهم أهل كتاب.
وغيَّى ذلك القتال ( حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) أي: المال الذي يكون جزاء لترك المسلمين قتالهم، وإقامتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم، بين أظهر المسلمين، يؤخذ منهم كل عام، كلٌّ على حسب حاله، من غني وفقير ومتوسط، كما فعل ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وغيره، من أمراء المؤمنين.
وقوله: ( عَنْ يَدٍ) أي: حتى يبذلوها http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg في حال ذلهم، وعدم اقتدارهم، ويعطونها بأيديهم، فلا يرسلون بها خادما ولا غيره، بل لا تقبل إلا من أيديهم، ( وَهُمْ صَاغِرُونَ)
فإذا كانوا بهذه الحال، وسألوا المسلمين أن يقروهم بالجزية، وهم تحت أحكام المسلمين وقهرهم، وحال الأمن من شرهم وفتنتهم، واستسلموا للشروط التي أجراها عليهم المسلمون مما ينفي عزهم وتكبرهم، ويوجب ذلهم وصغارهم، وجب على الإمام أو نائبه أن يعقدها لهم.
وإلا بأن لم يفوا، ولم يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، لم يجز إقرارهم بالجزية، بل يقاتلون حتى يسلموا.
واستدل بهذه الآية الجمهور الذين يقولون: لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، لأن اللّه لم يذكر أخذ الجزية إلا منهم.
وأما غيرهم فلم يذكر إلا قتالهم حتى يسلموا، وألحق بأهل الكتاب في أخذ الجزية وإقرارهم في ديار المسلمين، المجوس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، أخذ الجزية من مجوس هجر، ثم أخذها أمير المؤمنين عمر من الفرس المجوس.
وقيل: إن الجزية تؤخذ من سائر الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، لأن هذه الآية نزلت بعد الفراغ من قتال العرب المشركين، والشروع في قتال أهل الكتاب ونحوهم، فيكون هذا القيد إخبارا بالواقع، لا مفهوما له.
ويدل على هذا أن المجوس أخذت منهم الجزية وليسوا أهل كتاب، ولأنه قد تواتر عن المسلمين من الصحابة ومن بعدهم أنهم يدعون من يقاتلونهم إلى إحدى ثلاث: إما الإسلام، أو أداء الجزية، أو السيف، من غير فرق بين كِتَابِيٍّ وغيره.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب، ذكر من أقوالهم الخبيثة، ما يهيج المؤمنين الذين يغارون لربهم ولدينه على قتالهم، والاجتهاد وبذل الوسع فيه فقال: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) وهذه المقالة وإن لم تكن مقالة لعامتهم فقد قالها فرقة منهم، فيدل ذلك على أن في اليهود من الخبث والشر ما أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة التي تجرأوا فيها على اللّه، وتنقصوا عظمته وجلاله.
وقد قيل: إن سبب ادعائهم في ( عزير) أنه ابن اللّه، أنه لما سلط الله الملوك http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg على بني إسرائيل، ومزقوهم كل ممزق، وقتلوا حَمَلَةَ التوراة، وجدوا عزيرا بعد ذلك حافظا لها أو < 1-335 > لأكثرها، فأملاها عليهم من حفظه، واستنسخوها، فادعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة.
( وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ) عيسى ابن مريم ( ابْنُ اللَّهِ) قال اللّه تعالى ( ذَلِكَ) القول الذي قالوه ( قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ) لم يقيموا عليه حجة ولا برهانا.
ومن كان لا يبالي بما يقول، لا يستغرب عليه أي قول يقوله، فإنه لا دين ولا عقل، يحجزه، عما يريد من الكلام.
ولهذا قال: ( يُضَاهِئُونَ) أي: يشابهون في قولهم هذا ( قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي: قول المشركين الذين يقولون:"الملائكة بنات اللّه"تشابهت قلوبهم، فتشابهت أقوالهم في البطلان.
( قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي: كيف يصرفون على الحق، الصرف الواضح المبين، إلى القول الباطل المبين.
وهذا -وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة، أن تتفق على قول- يدل على بطلانه أدنى تفكر وتسليط للعقل عليه، فإن لذلك سببا وهو أنهم: ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ) وهم علماؤهم ( وَرُهْبَانَهُمْ ) أي: العُبَّاد المتجردين للعبادة.
( أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) يُحِلُّون لهم ما حرم اللّه فيحلونه، ويحرمون لهم ما أحل اللّه فيحرمونه، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها.
وكانوا أيضا يغلون في مشايخهم وعبادهم ويعظمونهم، ويتخذون قبورهم أوثانا تعبد من دون اللّه، وتقصد بالذبائح، والدعاء والاستغاثة.
( وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) اتخذوه إلها من دون اللّه، والحال أنهم خالفوا في ذلك أمر اللّه لهم على ألسنة رسله فما ( أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ) فيخلصون له العبادة والطاعة، ويخصونه بالمحبة والدعاء، فنبذوا أمر اللّه وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا.

( سُبْحَانَهُ) وتعالى ( عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي: تنزه وتقدس، وتعالت عظمته عن شركهم وافترائهم، فإنهم ينتقصونه في ذلك، ويصفونه بما لا يليق بجلاله، واللّه تعالى العالي في أوصافه وأفعاله عن كل ما نسب إليه، مما ينافي كماله المقدس.

ابو وليد البحيرى
2019-05-03, 05:59 AM
الحلقة (192)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(32) الى الأية(36)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

فلما تبين أنه لا حجة لهم على ما قالوه، ولا برهان لما أصَّلوه، وإنما هو مجرد قول قالوه وافتراء افتروه أخبر أنهم ( يُرِيدُونَ ) بهذا ( أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ )
ونور اللّه: دينه الذي أرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، وسماه اللّه نورا، لأنه يستنار به في ظلمات الجهل والأديان الباطلة، فإنه علم بالحق، وعمل بالحق، وما عداه فإنه بضده، فهؤلاء اليهود والنصارى ومن ضاهوه من المشركين، يريدون أن يطفئوا نور اللّه بمجرد أقوالهم، التي ليس عليها دليل أصلا.
( وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ) لأنه النور الباهر، الذي لا يمكن لجميع الخلق لو اجتمعوا على إطفائه أن يطفئوه، والذي أنزله جميع نواصي العباد بيده، وقد تكفل بحفظه من كل من يريده بسوء، ولهذا قال: ( وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) وسعوا ما أمكنهم في رده وإبطاله، فإن سعيهم لا يضر الحق شيئا.
ثم بين تعالى هذا النور الذي قد تكفل بإتمامه وحفظه فقال: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى ) الذي هو العلم النافع ( وَدِينِ الْحَقِّ ) الذي هو العمل الصالح فكان ما بعث اللّه به محمدا صلى الله عليه وسلم مشتملا على بيان الحق من الباطل في أسماء اللّه وأوصافه وأفعاله، وفي أحكامه وأخباره، والأمر بكل مصلحة نافعة للقلوب، والأرواح والأبدان من إخلاص الدين للّه وحده، ومحبة اللّه وعبادته، والأمر بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، والأعمال الصالحة والآداب النافعة، والنهي عن كل ما يضاد ذلك ويناقضه من الأخلاق والأعمال السيئة المضرة للقلوب والأبدان والدنيا والآخرة.
فأرسله اللّه بالهدى ودين الحق ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) أي: ليعليه على سائر الأديان بالحجة والبرهان، والسيف والسنان، وإن كره المشركون ذلك، وبغوا له الغوائل، ومكروا مكرهم، فإن المكر السيئ لا يضر إلا صاحبه، فوعد اللّه لا بد أن ينجزه، وما ضمنه لا بد أن يقوم به.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا تحذير من اللّه تعالى لعباده المؤمنين عن كثير من الأحبار والرهبان، أي: العلماء والعباد الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، أي: بغير حق، ويصدون عن سبيل اللّه، فإنهم إذا كانت لهم رواتب من أموال الناس، أو بذل الناس لهم من أموالهم فإنه لأجل علمهم وعبادتهم، ولأجل هداهم وهدايتهم، وهؤلاء يأخذونها < 1-336 > ويصدون الناس عن سبيل اللّه، فيكون أخذهم لها على هذا الوجه سحتا وظلما، فإن الناس ما بذلوا لهم من أموالهم إلا ليدلوهم إلى الطريق المستقيم.
ومن أخذهم لأموال الناس بغير حق، أن يعطوهم ليفتوهم أو يحكموا لهم بغير ما أنزل اللّه، فهؤلاء الأحبار والرهبان، ليحذر منهم هاتان الحالتان: أخذهم لأموال الناس بغير حق، وصدهم الناس عن سبيل اللّه.
( وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ) أي: يمسكونها ( وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أي: طرق الخير الموصلة إلى اللّه، وهذا هو الكنز المحرم، أن يمسكها عن النفقة الواجبة، كأن يمنع منها الزكاة أو النفقات الواجبة للزوجات، أو الأقارب، أو النفقة في سبيل اللّه إذا وجبت.
( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ثم فسره بقوله: ( يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا ) أي: على أموالهم، ( فِي نَارِ جَهَنَّمَ ) فيحمى كل دينار أو درهم على حدته.
( فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ) في يوم القيامة كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ويقال لهم توبيخا ولوما: ( هَذَا مَا كَنزتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزونَ ) فما ظلمكم ولكنكم ظلمتم أنفسكم وعذبتموها بهذا الكنز.
وذكر اللّه في هاتين الآيتين، انحراف الإنسان في ماله، وذلك بأحد أمرين:
إما أن ينفقه في الباطل الذي لا يجدي عليه نفعا، بل لا يناله منه إلا الضرر المحض، وذلك كإخراج الأموال في المعاصي والشهوات التي لا تعين على طاعة اللّه، وإخراجها للصد عن سبيل اللّه.
وإما أن يمسك ماله عن إخراجه في الواجبات، و"النهي عن الشيء، أمر بضده"
وقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم ْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ ) أي: في قضائه وقدره. ( اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ) وهي هذه الشهور المعروفة ( فِي كِتَابِ اللَّهِ ) أي في حكمه القدري، ( يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ) وأجرى ليلها ونهارها، وقدر أوقاتها فقسمها على هذه الشهور الاثني عشر [شهرا].
( مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ) وهي: رجب الفرد، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وسميت حرما لزيادة حرمتها، وتحريم القتال فيها.
( فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ) يحتمل أن الضمير يعود إلى الاثنى عشر شهرا، وأن اللّه تعالى بين أنه جعلها مقادير للعباد، وأن تعمر بطاعته، ويشكر اللّه تعالى على مِنَّتِهِ بها، وتقييضها لمصالح العباد، فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها.
ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحرم، وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها، خصوصا مع النهي عن الظلم كل وقت، لزيادة تحريمها، وكون الظلم فيها أشد منه في غيرها.
ومن ذلك النهي عن القتال فيها، على قول من قال: إن القتال في الأشهر الحرام http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لم ينسخ تحريمه عملا بالنصوص العامة في تحريم القتال فيها.
ومنهم من قال: إن تحريم القتال فيها منسوخ، أخذا بعموم نحو قوله تعالى: ( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم ْ كَافَّةً ) أي: قاتلوا جميع أنواع المشركين والكافرين برب العالمين.
ولا تخصوا أحدا منهم بالقتال دون أحد، بل اجعلوهم كلهم لكم أعداء كما كانوا هم معكم كذلك، قد اتخذوا أهل الإيمان أعداء لهم، لا يألونهم من الشر شيئا.
ويحتمل أن ( كَافَّةً ) حال من الواو فيكون معنى هذا: وقاتلوا جميعكم المشركين، فيكون فيها وجوب النفير على جميع المؤمنين.

وقد نسخت على هذا الاحتمال بقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآية. ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) بعونه ونصره وتأييده، فلتحرصوا على استعمال تقوى اللّه في سركم وعلنكم والقيام بطاعته، خصوصا عند قتال الكفار، فإنه في هذه الحال، ربما ترك المؤمن العمل بالتقوى في معاملة الكفار الأعداء المحاربين.

ابو وليد البحيرى
2019-05-03, 06:03 AM
الحلقة (193)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(37) الى الأية(40)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَه ُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

النسيء: هو ما كان أهل الجاهلية يستعملونه في الأشهر الحرم، وكان من جملة بدعهم الباطلة، أنهم لما رأوا احتياجهم للقتال في بعض أوقات الأشهر الحرم، رأوا -بآرائهم الفاسدة- أن يحافظوا على عدة الأشهر الحرم، التي حرم اللّه القتال فيها، وأن يؤخروا بعض الأشهر الحرم، أو يقدموه، ويجعلوا مكانه من أشهر الحل ما أرادوا، فإذا جعلوه مكانه أحلوا < 1-337 > القتال فيه، وجعلوا الشهر الحلال حراما، فهذا -كما أخبر اللّه عنهم- أنه زيادة في كفرهم وضلالهم، لما فيه من المحاذير.
منها: أنهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، وجعلوه بمنزلة شرع اللّه ودينه، واللّه ورسوله بريئان منه.
ومنها: أنهم قلبوا الدين، فجعلوا الحلال حراما، والحرام حلالا.
ومنها: أنهم مَوَّهوا على اللّه بزعمهم وعلى عباده، ولبسوا عليهم دينهم، واستعملوا الخداع والحيلة في دين اللّه.
ومنها: أن العوائد المخالفة للشرع مع الاستمرار عليها، يزول قبحها عن النفوس، وربما ظن أنها عوائد حسنة، فحصل من الغلط والضلال ما حصل، ولهذا قال: ( يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَه ُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ) أي: ليوافقوها في العدد، فيحلوا ما حرم اللّه.
( زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ) أي: زينت لهم الشياطين الأعمال السيئة، فرأوها حسنة، بسبب العقيدة المزينة في قلوبهم.

( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) أي: الذين انصبغ الكفر والتكذيب في قلوبهم، فلو جاءتهم كل آية، لم يؤمنوا.

قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ (38 ) إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

اعلم أن كثيرا من هذه السورة الكريمة، نزلت في غزوة تبوك، إذ ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى غزو الروم، وكان الوقت حارا، والزاد قليلا والمعيشة عسرة، فحصل من بعض المسلمين من التثاقل ما أوجب أن يعاتبهم اللّه تعالى عليه ويستنهضهم، فقال تعالى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ألا تعملون بمقتضى الإيمان، وداعي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg اليقين من المبادرة لأمر اللّه، والمسارعة إلى رضاه، وجهاد أعدائه والنصرة لدينكم، فـ ( مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ ) أي: تكاسلتم، وملتم إلى الأرض والدعة والسكون فيها.
( أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ ) أي: ما حالكم إلا حال من رضي بالدنيا وسعى لها ولم يبال بالآخرة، فكأنه ما آمن بها.
( فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) التي مالت بكم، وقدمتموها على الآخرة ( إِلا قَلِيلٌ ) أفليس قد جعل اللّه لكم عقولا تَزِنُون بها الأمور، وأيها أحق بالإيثار؟.
أفليست الدنيا -من أولها إلى آخرها- لا نسبة لها في الآخرة. فما مقدار عمر الإنسان القصير جدا من الدنيا حتى يجعله الغاية التي لا غاية وراءها، فيجعل سعيه وكده وهمه وإرادته لا يتعدى حياته الدنيا القصيرة المملوءة بالأكدار، المشحونة بالأخطار.
فبأي رَأْيٍ رأيتم إيثارها على الدار الآخرة الجامعة لكل نعيم، التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون، فواللّه ما آثر الدنيا على الآخرة من وقر الإيمان في قلبه، ولا من جزل رأيه، ولا من عُدَّ من أولي الألباب، ثم توعدهم على عدم النفير فقال:
( إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) في الدنيا والآخرة، فإن عدم النفير في حال الاستنفار من كبائر الذنوب الموجبة لأشد العقاب، لما فيها من المضار الشديدة، فإن المتخلف، قد عصى اللّه تعالى وارتكب لنهيه، ولم يساعد على نصر دين اللّه، ولا ذب عن كتاب اللّه وشرعه، ولا أعان إخوانه المسلمين على عدوهم الذي يريد أن يستأصلهم ويمحق دينهم، وربما اقتدى به غيره من ضعفاء الإيمان، بل ربما فَتَّ في أعضاد من قاموا بجهاد أعداء اللّه، فحقيق بمن هذا حاله أن يتوعده اللّه بالوعيد الشديد، فقال: ( إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) ثم لا يكونوا أمثالكم ( وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ) فإنه تعالى متكفل بنصر دينه وإعلاء كلمته، فسواء امتثلتم لأمر اللّه، أو ألقيتموه، وراءكم ظهريا.
( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) لا يعجزه شيء أراده، ولا يغالبه أحد.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: إلا تنصروا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فاللّه غني عنكم، لا تضرونه شيئا، فقد نصره في أقل ما يكون وأذلة ( إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) من مكة لما هموا بقتله، وسعوا في ذلك، وحرصوا أشد الحرص، فألجؤوه إلى أن يخرج.
( ثَانِيَ اثْنَيْنِ ) أي: هو وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه. ( إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ) أي: لما هربا من مكة، لجآ إلى غار ثور http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg في أسفل مكة، فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب.
فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما، فأنزل اللّه عليهما من نصره ما لا يخطر على البال.
( إِذْ يَقُولُ ) النبي صلى الله عليه وسلم ( لِصَاحِبِهِ ) أبي بكر لما حزن واشتد قلقه، < 1-338 > ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) بعونه ونصره وتأييده.
( فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) أي: الثبات والطمأنينة، والسكون المثبتة للفؤاد، ولهذا لما قلق صاحبه سكنه وقال ( لا تحزن إن اللّه معنا ) ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) وهي الملائكة الكرام، الذين جعلهم اللّه حرسا له، ( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى ) أي: الساقطة المخذولة، فإن الذين كفروا قد كانوا على حرد قادرين، في ظنهم على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذه، حنقين عليه، فعملوا غاية مجهودهم في ذلك، فخذلهم اللّه ولم يتم لهم مقصودهم، بل ولا أدركوا شيئا منه.
ونصر اللّه رسوله بدفعه عنه، وهذا هو النصر المذكور في هذا الموضع، فإن النصر على قسمين: نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوهم بأن يتم اللّه لهم ما طلبوا، وقصدوا، ويستولوا على عدوهم ويظهروا عليهم.
والثاني نصر المستضعف الذي طمع فيه عدوه القادر، فنصر اللّه إياه، أن يرد عنه عدوه، ويدافع عنه، ولعل هذا النصر أنفع النصرين، ونصر اللّه رسوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين من هذا النوع.
وقوله ( وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) أي كلماته القدرية وكلماته الدينية، هي العالية على كلمة غيره، التي من جملتها قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فدين اللّه هو الظاهر العالي على سائر الأديان، بالحجج الواضحة، والآيات الباهرة والسلطان الناصر.
( وَاللَّهُ عَزِيزٌ ) لا يغالبه مغالب، ولا يفوته هارب، ( حَكِيمٌ ) يضع الأشياء مواضعها، وقد يؤخر نصر حزبه إلى وقت آخر، اقتضته الحكمة الإلهية.
وفي هذه الآية الكريمة فضيلة أبي بكر الصديق بخصيصة لم تكن لغيره من هذه الأمة، وهي الفوز بهذه المنقبة الجليلة، والصحبة الجميلة، وقد أجمع المسلمون على أنه هو المراد بهذه الآية الكريمة، ولهذا عدوا من أنكر صحبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، كافرا، لأنه منكر للقرآن الذي صرح بها.

وفيها فضيلة السكينة، وأنها من تمام نعمة اللّه على العبد في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش بها الأفئدة، وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه، وثقته بوعده الصادق، وبحسب إيمانه وشجاعته.
وفيها: أن الحزن قد يعرض لخواص عباد الله الصديقين، مع أن الأولى -إذا نزل بالعبد- أن يسعى في ذهابه عنه، فإنه مضعف للقلب، موهن للعزيمة.

ابو وليد البحيرى
2019-05-03, 06:07 AM
الحلقة (194)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(41) الى الأية(47)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41 ) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لعباده المؤمنين -مهيجا لهم على النفير في سبيله فقال: ( انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا ) أي: في العسر واليسر، والمنشط والمكره، والحر والبرد، وفي جميع الأحوال.
( وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أي: ابذلوا جهدكم في ذلك، واستفرغوا وسعكم في المال والنفس، وفي هذا دليل على أنه -كما يجب الجهاد في النفس- يجب الجهاد في المال، حيث اقتضت الحاجة ودعت لذلك.
ثم قال: ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي: الجهاد في النفس والمال، خير لكم من التقاعد عن ذلك، لأن فيه رضا اللّه تعالى، والفوز بالدرجات العاليات عنده، والنصر لدين اللّه، والدخول في جملة جنده وحزبه.
لو كان خروجهم لطلب العرض القريب، أي: منفعة دنيوية سهلة التناول ( وَ ) كان السفر ( وَسَفَرًا قَاصِدًا ) أي: قريبا سهلا. ( لاتَّبَعُوكَ ) لعدم المشقة الكثيرة، ( وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ) أي: طالت عليهم المسافة، وصعب عليهم السفر، فلذلك تثاقلوا عنك، وليس هذا من أمارات العبودية، بل العبد حقيقة هو المتعبد لربه في كل حال، القائم بالعبادة السهلة والشاقة، فهذا العبد للّه على كل حال.
( وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ) أي: سيحلفون أن تخلفهم عن الخروج أن لهم أعذرا وأنهم لا يستطيعون ذلك.
( يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ ) بالقعود والكذب والإخبار بغير الواقع، ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ )
وهذا العتاب إنما هو للمنافقين، الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في "غزوة تبوك"وأبدوا من الأعذار الكاذبة ما أبدوا، فعفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بمجرد اعتذارهم، من غير أن يمتحنهم، فيتبين له الصادق من الكاذب، ولهذا عاتبه اللّه على هذه المسارعة إلى عذرهم فقال:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43 ) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44 ) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ ) أي: سامحك وغفر لك ما أجريت.
( لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) في التخلف ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) بأن تمتحنهم، ليتبين لك الصادق من الكاذب، فتعذر من يستحق العذر ممن لا يستحق ذلك.
ثم أخبر أن المؤمنين باللّه واليوم الآخر، لا يستأذنون في ترك الجهاد بأموالهم وأنفسهم، لأن ما معهم من الرغبة في الخير والإيمان، يحملهم على الجهاد من غير أن يحثهم عليه حاث، < 1-339 > فضلا عن كونهم يستأذنون في تركه من غير عذر.
( وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ) فيجازيهم على ما قاموا به من تقواه، ومن علمه بالمتقين، أنه أخبر، أن من علاماتهم، أنهم لا يستأذنون في ترك الجهاد.
( إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ ) أي: ليس لهم إيمان تام، ولا يقين صادق، فلذلك قلَّتْ رغبتهم في الخير، وجبنوا عن القتال، واحتاجوا أن يستأذنوا في ترك القتال. ( فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ) أي: لا يزالون في الشك والحيرة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46 ) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى مبينا أن المتخلفين من المنافقين قد ظهر منهم من القرائن ما يبين أنهم ما قصدوا الخروج للجهاد بالكلية، وأن أعذارهم التي اعتذروها باطلة، فإن العذر هو المانع الذي يمنع إذا بذل العبد وسعه، وسعى في أسباب الخروج، ثم منعه مانع شرعي، فهذا الذي يعذر.
( و ) أما هؤلاء المنافقون فـ ( لَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ) أي: لاستعدوا وعملوا ما يمكنهم من الأسباب، ولكن لما لم يعدوا له عدة، علم أنهم ما أرادوا الخروج.
( وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ ) معكم في الخروج للغزو ( فَثَبَّطَهُمْ ) قدرا وقضاء، وإن كان قد أمرهم وحثهم على الخروج، وجعلهم مقتدرين عليه، ولكن بحكمته ما أراد إعانتهم، بل خذلهم وثبطهم ( وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ) من النساء والمعذورين.
ثم ذكر الحكمة في ذلك فقال ( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا ) أي: نقصا.
( وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ ) أي: ولسعوا في الفتنة والشر بينكم، وفرقوا جماعتكم المجتمعين، ( يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ) أي: هم حريصون على فتنتكم وإلقاء العداوة بينكم.
( وَفِيكُمْ ) أناس ضعفاء العقول ( سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) أي: مستجيبون لدعوتهم يغترون بهم، فإذا كانوا هم حريصين على خذلانكم، وإلقاء الشر بينكم، وتثبيطكم عن أعدائكم، وفيكم من يقبل منهم ويستنصحهم. فما ظنك بالشر الحاصل من خروجهم مع المؤمنين، والنقص الكثير منهم، فللّه أتم الحكمة حيث ثبطهم ومنعهم من الخروج مع عباده المؤمنين رحمة بهم، ولطفا من أن يداخلهم ما لا ينفعهم، بل يضرهم.

( وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) فيعلم عباده كيف يحذرونهم، ويبين لهم من المفاسد الناشئة من مخالطتهم.

ابو وليد البحيرى
2019-05-03, 06:10 AM
الحلقة (195)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(48) الى الأية(54)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ثم ذكر أنه قد سبق لهم سوابق في الشر فقال: ( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ ) أي: حين هاجرتم إلى المدينة، بذلوا الجهد، ( وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ ) أي: أداروا الأفكار، وأعملوا الحيل في إبطال دعوتكم وخذلان دينكم، ولم يقصروا في ذلك، ( حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) فبطل كيدهم واضمحل باطلهم، فحقيق بمثل هؤلاء أن يحذر اللّه عباده المؤمنين منهم، وأن لا يبالي المؤمنين، بتخلفهم عنهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ومن هؤلاء المنافقين من يستأذن في التخلف، ويعتذر بعذر آخر عجيب، فيقول: ( ائْذَنْ لِي ) في التخلف ( وَلا تَفْتِنِّي ) في الخروج، فإني إذا خرجت، فرأيت نساء بين الأصفر لا أصبر عنهن، كما قال ذلك "الجد بن قيس"
ومقصوده -قبحه اللّه- الرياء والنفاق بأن مقصودي مقصود حسن، فإن في خروجي فتنة وتعرضا للشر، وفي عدم خروجي عافية وكفا عن الشر.
قال اللّه تعالى مبينا كذب هذا القول: ( أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ) فإنه على تقدير صدق هذا القائل في قصده، [فإن] في التخلف مفسدة كبرى وفتنة عظمى محققة، وهي معصية اللّه ومعصية رسوله، والتجرؤ على الإثم الكبير، والوزر العظيم، وأما الخروج فمفسدة قليلة بالنسبة للتخلف، وهي متوهمة، مع أن هذا القائل قصده التخلف لا غير، ولهذا توعدهم اللّه بقوله: ( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ليس لهم عنها مفر ولا مناص، ولا فكاك، ولا خلاص.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50 ) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى مبينا أن المنافقين هم الأعداء حقا، المبغضون للدين صرفا: ( إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ ) كنصر وإدالة على العدو ( تَسُؤْهُمْ ) أي: تحزنهم وتغمهم.
( وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ ) كإدالة العدو عليك ( يَقُولُوا ) متبجحين بسلامتهم من الحضور معك.
( قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ ) أي: قد حذرنا وعملنا بما ينجينا من الوقوع في مثل هذه المصيبة.
( وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ) فيفرحون بمصيبتك، وبعدم مشاركتهم إياك فيها. قال تعالى رادا عليهم في ذلك ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ) أي: قدره وأجراه في اللوح المحفوظ.
( هُوَ مَوْلانَا ) أي: متولي أمورنا الدينية والدنيوية، فعلينا الرضا بأقداره وليس في أيدينا من الأمر شيء.
( وَعَلَى اللَّهِ ) وحده ( فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) أي: يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم ودفع المضار عنهم، ويثقوا به في تحصيل مطلوبهم، فلا خاب من توكل عليه، وأما من توكل على غيره، فإنه مخذول غير مدرك لما أمل.
< 1-340 >

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: قل للمنافقين الذين يتربصون بكم الدوائر: أي شيء تربصون بنا؟ فإنكم لا تربصون بنا إلا أمرا فيه غاية نفعنا، وهو إحدى الحسنيين، إما الظفر بالأعداء والنصر عليهم ونيل الثواب الأخروي والدنيوي. وإما الشهادة التي هي من أعلى درجات الخلق، وأرفع المنازل عند اللّه.
وأما تربصنا بكم -يا معشر المنافقين- فنحن نتربص بكم، أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده، لا سبب لنا فيه، أو بأيدينا، بأن يسلطنا عليكم فنقتلكم. ( فَتَرَبَّصُوا ) بنا الخير ( إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ) بكم الشر.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53 ) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ (54 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى مبينا بطلان نفقات المنافقين، وذاكرا السبب في ذلك ( قُلْ ) لهم ( أَنْفِقُوا طَوْعًا ) من أنفسكم ( أَوْ كَرْهًا ) على ذلك، بغير اختياركم. ( لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ) شيء من أعمالكم ( إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ) خارجين عن طاعة اللّه، ثم بين صفة فسقهم وأعمالهم، فقال: ( وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ) والأعمال كلها شرط قبولها الإيمان، فهؤلاء لا إيمان لهم ولا عمل صالح، حتى إن الصلاة التي هي أفضل أعمال البدن، إذا قاموا إليها قاموا كسالى، قال: ( وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى ) أي: متثاقلون، لا يكادون يفعلونها من ثقلها عليهم.

( وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ ) من غير انشراح صدر وثبات نفس، ففي هذا غاية الذم لمن فعل مثل فعلهم، وأنه ينبغي للعبد أن لا يأتي الصلاة إلا وهو نشيط البدن والقلب إليها، ولا ينفق إلا وهو منشرح الصدر ثابت القلب، يرجو ذخرها وثوابها من اللّه وحده، ولا يتشبه بالمنافقين.

ابو وليد البحيرى
2019-05-06, 03:09 AM
الحلقة (196)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(55) الى الأية(60)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55 ) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56 ) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: فلا تعجبك أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم، فإنه لا غبطة فيها، وأول بركاتها عليهم أن قدموها على مراضى ربهم، وعصوا اللّه لأجلها ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) والمراد بالعذاب هنا، ما ينالهم من المشقة في تحصيلها، والسعي الشديد في ذلك، وهم القلب فيها، وتعب البدن.
فلو قابلت لذاتهم فيها بمشقاتهم، لم يكن لها نسبة إليها، فهي -لما ألهتهم عن اللّه وذكره- صارت وبالا عليهم حتى في الدنيا.
ومن وبالها العظيم الخطر، أن قلوبهم تتعلق بها، وإرادتهم لا تتعداها، فتكون منتهى مطلوبهم وغاية مرغوبهم ولا يبقى في قلوبهم للآخرة نصيب، فيوجب ذلك أن ينتقلوا من الدنيا ( وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )
فأي عقوبة أعظم من هذه العقوبة الموجبة للشقاء الدائم والحسرة الملازمة.
( وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ ) قصدهم في حلفهم هذا أنهم ( قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ) أي: يخافون الدوائر، وليس في قلوبهم شجاعة تحملهم على أن يبينوا أحوالهم. فيخافون إن أظهروا حالهم منكم، ويخافون أن تتبرأوا منهم، فيتخطفهم الأعداء من كل جانب.
وأما حال قوي القلب ثابت الجنان، فإنه يحمله ذلك على بيان حاله، حسنة كانت أو سيئة، ولكن المنافقين خلع عليهم خلعة الجبن، وحلوا بحلية الكذب.
ثم ذكر شدة جبنهم فقال: ( لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً ) يلجأون إليه عندما تنزل بهم الشدائد، ( أَوْ مَغَارَاتٍ ) يدخلونها فيستقرون فيها ( أَوْ مُدَّخَلا ) أي: محلا يدخلونه فيتحصنون فيه ( لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ) أي: يسرعون ويهرعون، فليس لهم ملكة، يقتدرون بها على الثبات.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58 ) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ومن هؤلاء المنافقين من يعيبك في قسمة الصدقات، وينتقد عليك فيها، وليس انتقادهم فيها وعيبهم لقصد صحيح، ولا لرأي رجيح، وإنما مقصودهم أن يعطوا منها. ( فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ) وهذه حالة لا تنبغي للعبد أن يكون رضاه وغضبه، تابعا لهوى نفسه الدنيوي وغرضه الفاسد، بل الذي ينبغي أن يكون هواه تبعا لمرضاة ربه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"
وقال هنا: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) أي: أعطاهم من قليل وكثير. ( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ) < 1-341 > أي: كافينا اللّه، فنرضى بما قسمه لنا، وليؤملوا فضله وإحسانه إليهم بأن يقولوا: ( سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ) أي: متضرعون في جلب منافعنا، ودفع مضارنا، لسلموا من النفاق ولهدوا إلى الإيمان والأحوال العالية، ثم بين تعالى كيفية قسمة الصدقات الواجبة فقال:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ ) أي: الزكوات الواجبة، بدليل أن الصدقة المستحبة لكل أحد، لا يخص بها أحد دون أحد.
أي: إنما الصدقات لهؤلاء المذكورين دون من عداهم، لأنه حصرها فيهم، وهم ثمانية أصناف.
الأول والثاني: الفقراء والمساكين، وهم في هذا الموضع، صنفان متفاوتان، فالفقير أشد حاجة من المسكين، لأن اللّه بدأ بهم، ولا يبدأ إلا بالأهم فالأهم، ففسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئا، أو يجد بعض كفايته دون نصفها.
والمسكين: الذي يجد نصفها فأكثر، ولا يجد تمام كفايته، لأنه لو وجدها لكان غنيا، فيعطون من الزكاة ما يزول به فقرهم ومسكنتهم.
والثالث: العاملون على الزكاة، وهم كل من له عمل وشغل فيها، من حافظ لها، أو جاب لها من أهلها، أو راع، أو حامل لها، أو كاتب، أو نحو ذلك، فيعطون لأجل عمالتهم، وهي أجرة لأعمالهم فيها.
والرابع: المؤلفة قلوبهم، المؤلف قلبه: هو السيد المطاع في قومه، ممن يرجى إسلامه، أو يخشى شره أو يرجى بعطيته قوة إيمانه، أو إسلام نظيره، أو جبايتها ممن لا يعطيها، فيعطى ما يحصل به التأليف والمصلحة.
الخامس: الرقاب، وهم المكاتبون الذين قد اشتروا أنفسهم من ساداتهم، فهم يسعون في تحصيل ما يفك رقابهم، فيعانون على ذلك من الزكاة، وفك الرقبة المسلمة التي في حبس الكفار داخل في هذا، بل أولى، ويدخل في هذا أنه يجوز أن يعتق منها الرقاب استقلالا لدخوله في قوله: ( وفي الرقاب )
السادس: الغارمون، وهم قسمان:
أحدهما: الغارمون لإصلاح ذات البين، وهو أن يكون بين طائفتين من الناس شر وفتنة، فيتوسط الرجل للإصلاح بينهم بمال يبذله لأحدهم أو لهم كلهم، فجعل له نصيب من الزكاة، ليكون أنشط له وأقوى لعزمه، فيعطى ولو كان غنيا.
والثاني: من غرم لنفسه ثم أعسر، فإنه يعطى ما يُوَفِّى به دينه.
والسابع: الغازي في سبيل اللّه، وهم: الغزاة المتطوعة، الذين لا ديوان لهم، فيعطون من الزكاة ما يعينهم على غزوهم، من ثمن سلاح، أو دابة، أو نفقة له ولعياله، ليتوفر على الجهاد ويطمئن قلبه.
وقال كثير من الفقهاء: إن تفرغ القادر على الكسب لطلب العلم، أعطي من الزكاة، لأن العلم داخل في الجهاد في سبيل اللّه.
وقالوا أيضا: يجوز أن يعطى منها الفقير لحج فرضه، [وفيه نظر] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg .
والثامن: ابن السبيل، وهو الغريب المنقطع به في غير بلده، فيعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده، فهؤلاء الأصناف الثمانية الذين تدفع إليهم الزكاة وحدهم.
( فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ) فرضها وقدرها، تابعة لعلمه وحكمه ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) واعلم أن هذه الأصناف الثمانية، ترجع إلى أمرين:
أحدهما: من يعطى لحاجته ونفعه، كالفقير، والمسكين، ونحوهما.
والثاني: من يعطى للحاجة إليه وانتفاع الإسلام به، فأوجب اللّه هذه الحصة في أموال الأغنياء، لسد الحاجات الخاصة والعامة للإسلام والمسلمين، فلو أعطى الأغنياء زكاة أموالهم على الوجه الشرعي، لم يبق فقير من المسلمين، ولحصل من الأموال ما يسد الثغور، ويجاهد به الكفار وتحصل به جميع المصالح الدينية.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ومن هؤلاء المنافقين ( الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ) بالأقوال الردية، والعيب له ولدينه، ( وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ) أي: لا يبالون بما يقولون من الأذية للنبي، ويقولون: إذا بلغه عنا بعض ذلك، جئنا نعتذر إليه، فيقبل منا، لأنه أذن، أي: يقبل كل ما يقال له، لا يميز بين صادق وكاذب، < 1-342 > وقصدهم -قبحهم اللّه- فيما بينهم، أنهم غير مكترثين بذلك، ولا مهتمين به، لأنه إذا لم يبلغه فهذا مطلوبهم، وإن بلغه اكتفوا بمجرد الاعتذار الباطل.
فأساءوا كل الإساءة من أوجه كثيرة، أعظمها أذية نبيهم الذي جاء لهدايتهم، وإخراجهم من الشقاء والهلاك إلى الهدى والسعادة.
ومنها: عدم اهتمامهم أيضا بذلك، وهو قدر زائد على مجرد الأذية.
ومنها: قدحهم في عقل النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم إدراكه وتفريقه بين الصادق والكاذب، وهو أكمل الخلق عقلا وأتمهم إدراكا، وأثقبهم رأيا وبصيرة، ولهذا قال تعالى: ( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ) أي: يقبل من قال له خيرا وصدقا.

وأما إعراضه وعدم تعنيفه لكثير من المنافقين المعتذرين بالأعذار الكذب، فلسعة خلقه، وعدم اهتمامه بشأنهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ، وامتثاله لأمر اللّه في قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وأما حقيقة ما في قلبه ورأيه، فقال عنه: ( يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الصادقين المصدقين، ويعلم الصادق من الكاذب، وإن كان كثيرا ما يعرض عن الذين يعرف كذبهم وعدم صدقهم، ( وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ) فإنهم به يهتدون، وبأخلاقه يقتدون.
وأما غير المؤمنين فإنهم لم يقبلوا هذه الرحمة بل ردوها، فخسروا دنياهم وآخرتهم، ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ ) بالقول أو الفعل ( لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) في الدنيا والآخرة، ومن العذاب الأليم أنه يتحتم قتل مؤذيه وشاتمه.

ابو وليد البحيرى
2019-05-06, 03:13 AM
الحلقة (197)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(62) الى الأية(68)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62 ) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg

( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ) فيتبرأوا مما صدر منهم من الأذية وغيرها، فغايتهم أن ترضوا عليهم. ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ) لأن المؤمن لا يقدم شيئا على رضا ربه ورضا رسوله، فدل هذا على انتفاء إيمانهم حيث قدموا رضا غير اللّه ورسوله.
وهذا محادة للّه ومشاقة له، وقد توعد من حاده بقوله: ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) أي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg : يكون في حد وشق مبعد عن اللّه ورسوله بأن تهاون بأوامر اللّه، وتجرأ على محارمه.
( فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ) الذي لا خزي أشنع ولا أفظع منه، حيث فاتهم النعيم المقيم، وحصلوا على عذاب الجحيم عياذا باللّه من أحوالهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64 ) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65 ) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

كانت هذه السورة الكريمة تسمى "الفاضحة" لأنها بينت أسرار المنافقين، وهتكت أستارهم، فما زال اللّه يقول: ومنهم ومنهم، ويذكر أوصافهم، إلا أنه لم يعين أشخاصهم لفائدتين: إحداهما: أن اللّه سِتِّيرٌ يحب الستر على عباده.
والثانية: أن الذم على من اتصف بذلك الوصف من المنافقين، الذين توجه إليهم الخطاب وغيرهم إلى يوم القيامة، فكان ذكر الوصف أعم وأنسب، حتى خافوا غاية الخوف.
قال اللّه تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُون َ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg
وقال هنا ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ) أي تخبرهم وتفضحهم وتبين أسرارهم حتى تكون علانية لعباده ويكونوا عبرة للمعتبرين
( قُلِ اسْتَهْزِئُوا ) أي استمروا على ما أنتم عليه من الاستهزاء والسخرية ( إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ) وقد وفَّى تعالى بوعده فأنزل هذه السورة التي بينتهم وفضحتهم وهتكت أستارهم
( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ) عما قالوه من الطعن في المسلمين وفي دينهم يقول طائفة منهم في غزوة تبوك"ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -يعنون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- أرغب بطونا وأكذب ألسنا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg وأجبن عند اللقاء"ونحو ذلك
ولما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بكلامهم جاءوا يعتذرون إليه ويقولون ( إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ) أي نتكلم بكلام لا قصد لنا به ولا قصدنا الطعن والعيب
قال اللّه تعالى -مبينا عدم عذرهم وكذبهم في ذلك- ( قُلْ ) لهم ( أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) فإن الاستهزاء باللّه وآياته ورسوله كفر مخرج عن الدين لأن أصل الدين مبني على تعظيم اللّه وتعظيم < 1-343 > دينه ورسله والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل ومناقض له أشد المناقضة
ولهذا لما جاءوا إلى الرسول يعتذرون بهذه المقالة والرسول لا يزيدهم على قوله ( أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ )
وقوله ( إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ ) لتوبتهم واستغفارهم وندمهم ( نُعَذِّبْ طَائِفَةً ) منكم ( بِأَنَّهُمْ ) بسبب أنهم ( كَانُوا مُجْرِمِينَ ) مقيمين على كفرهم ونفاقهم
وفي هذه الآيات دليل على أن من أسر سريرة خصوصا السريرة التي يمكر فيها بدينه ويستهزئ به وبآياته ورسوله فإن اللّه تعالى يظهرها ويفضح صاحبها ويعاقبه أشد العقوبة
وأن من استهزأ بشيء من كتاب اللّه أو سنة رسوله الثابتة عنه أو سخر بذلك أو تنقصه أو استهزأ بالرسول أو تنقصه فإنه كافر باللّه العظيم وأن التوبة مقبولة من كل ذنب وإن كان عظيما
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَا تُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67 ) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَا تِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَا تُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ) لأنهم اشتركوا في النفاق، فاشتركوا في تولي بعضهم بعضا، وفي هذا قطع للمؤمنين من ولايتهم.
ثم ذكر وصف المنافقين العام، الذي لا يخرج منه صغير منهم ولا كبير، فقال: ( يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ ) وهو الكفر والفسوق والعصيان.
( وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ) وهو الإيمان، والأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة، والآداب الحسنة. ( وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ) عن الصدقة وطرق الإحسان، فوصفهم البخل.
( نَسُوا اللَّهَ ) فلا يذكرونه إلا قليلا ( فَنَسِيَهُمْ ) من رحمته، فلا يوفقهم لخير، ولا يدخلهم الجنة، بل يتركهم في الدرك الأسفل من النار، خالدين فيها مخلدين.
( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) حصر الفسق فيهم، لأن فسقهم أعظم من فسق غيرهم، بدليل أن عذابهم أشد من عذاب غيرهم، وأن المؤمنين قد ابتلوا بهم، إذ كانوا بين أظهرهم، والاحتراز منهم شديد.

( وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَا تِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) جمع المنافقين والكفار في النار، واللعنة والخلود في ذلك، لاجتماعهم في الدنيا على الكفر، والمعاداة للّه ورسوله، والكفر بآياته.

ابو وليد البحيرى
2019-05-06, 03:17 AM
الحلقة (198)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(69) الى الأية(72)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَ اتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى محذرا المنافقين أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم من الأمم المكذبة. ( قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَ اتِ ) أي: قرى قوم لوط.
فكلهم ( أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) أي: بالحق الواضح الجلي، المبين لحقائق الأشياء، فكذبوا بها، فجرى عليهم ما قص اللّه علينا، فأنتم أعمالكم شبيهة بأعمالهم، استمتعتم بخلاقكم، أي: بنصيبكم من الدنيا فتناولتموه على وجه اللذة والشهوة معرضين عن المراد منه، واستعنتم به على معاصي اللّه، ولم تتعد همتكم وإرادتكم ما خولتم من النعم كما فعل الذين من قبلكم وخضتم كالذي خاضوا، أي: وخضتم بالباطل والزور وجادلتم بالباطل لتدحضوا به الحق، فهذه أعمالهم وعلومهم، استمتاع بالخلاق وخوض بالباطل، فاستحقوا من العقوبة والإهلاك ما استحق من قبلهم ممن فعلوا كفعلهم، وأما المؤمنون فهم وإن استمتعوا بنصيبهم وما خولوا من الدنيا، فإنه على وجه الاستعانة به على طاعة اللّه، وأما علومهم فهي علوم الرسل، وهي الوصول إلى اليقين في جميع المطالب العالية، والمجادلة بالحق لإدحاض الباطل.
قوله ( فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ) إذ أوقع بهم من عقوبته ما أوقع. ( وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) حيث تجرأوا على معاصيه، وعصوا رسلهم، واتبعوا أمر كل جبار عنيد.

< 1-344 >

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما ذكر أن المنافقين بعضهم أولياء بعض http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ذكر أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، ووصفهم بضد ما وصف به المنافقين، فقال: ( وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ ) أي: ذكورهم وإناثهم ( بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) في المحبة والموالاة، والانتماء والنصرة.
( يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) وهو: اسم جامع، لكل ما عرف حسنه، من العقائد الحسنة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، وأول من يدخل في أمرهم أنفسهم، ( وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) وهو: كل ما خالف المعروف وناقضه من العقائد الباطلة، والأعمال الخبيثة، والأخلاق الرذيلة.
( وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) أي: لا يزالون ملازمين لطاعة اللّه ورسوله على الدوام.
( أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ) أي: يدخلهم في رحمته، ويشملهم بإحسانه.
( إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) أي: قوي قاهر، ومع قوته فهو حكيم، يضع كل شيء موضعه اللائق به الذي يحمد على ما خلقه وأمر به.
ثم ذكر ما أعد اللّه لهم من الثواب فقال: ( وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) جامعة لكل نعيم وفرح، خالية من كل أذى وترح، تجري من تحت قصورها ودورها وأشجارها الأنهار الغزيرة، المروية للبساتين الأنيقة، التي لا يعلم ما فيها من الخيرات والبركات إلا اللّه تعالى.
( خَالِدِينَ فِيهَا ) لا يبغون عنها حِوَلا ( وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ) قد زخرفت وحسنت وأعدت لعباد اللّه المتقين، قد طاب مرآها، وطاب منزلها ومقيلها، وجمعت من آلات المساكن العالية ما لا يتمنى فوقه المتمنون، حتى إن اللّه تعالى قد أعد لهم غرفا في غاية الصفاء والحسن، يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها.
فهذه المساكن الأنيقة، التي حقيق بأن تسكن إليها النفوس، وتنزع إليها القلوب، وتشتاق لها الأرواح، لأنها في جنات عدن، أي: إقامة لا يظعنون عنها، ولا يتحولون منها.
( وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ) يحله على أهل الجنة ( أَكْبَرُ ) مما هم فيه من النعيم، فإن نعيمهم لم يطب إلا برؤية ربهم ورضوانه عليهم، ولأنه الغاية التي أمَّها العابدون، والنهاية التي سعى نحوها المحبون، فرضا رب الأرض والسماوات، أكبر من نعيم الجنات.

( ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) حيث حصلوا على كل مطلوب، وانتفى عنهم كل محذور، وحسنت وطابت منهم جميع الأمور، فنسأل اللّه أن يجعلنا معهم بجوده.

ابو وليد البحيرى
2019-05-10, 06:04 AM
الحلقة (199)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(73) الى الأية(80)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73 ) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ ) أي: بالغ في جهادهم والغلظة عليهم حيث اقتضت الحال الغلظة عليهم.
وهذا الجهاد يدخل فيه الجهاد باليد، والجهاد بالحجة واللسان، فمن بارز منهم بالمحاربة فيجاهد باليد، واللسان والسيف والبيان.
ومن كان مذعنا للإسلام بذمة أو عهد، فإنه يجاهد بالحجة والبرهان ويبين له محاسن الإسلام، ومساوئ الشرك والكفر، فهذا ما لهم في الدنيا.
( وَ ) أما في الآخرة، فـ ( مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ) أي: مقرهم الذي لا يخرجون منها ( وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ).
( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ) أي: إذا قالوا قولا كقول من قال منهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg والكلام الذي يتكلم به الواحد بعد الواحد، في الاستهزاء بالدين، وبالرسول.
فإذا بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغه شيء من ذلك، جاءوا إليه يحلفون باللّه ما قالوا.
قال تعالى مكذبا لهم: ( وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ) فإسلامهم السابق -وإن كان ظاهره أنه أخرجهم من دائرة الكفر -فكلامهم الأخير ينقض إسلامهم، ويدخلهم بالكفر.
( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ) وذلك حين هموا بالفتك برسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقص اللّه عليه نبأهم، فأمر من يصدهم عن قصدهم.
( وَ ) الحال أنهم ( مَا نَقَمُوا ) وعابوا من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ( إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) بعد أن كانوا فقراء معوزين، وهذا من أعجب الأشياء، أن يستهينوا بمن كان سببا لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومغنيا لهم بعد الفقر، وهل حقه عليهم إلا أن يعظموه، ويؤمنوا به ويجلوه؟ فاجتمع الداعي الديني وداعي المروءة الإنسانية.
< 1-345 >
ثم عرض عليهم التوبة فقال: ( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ ) لأن التوبة، أصل لسعادة الدنيا والآخرة.
( وَإِنْ يَتَوَلَّوْا ) عن التوبة والإنابة ( يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) في الدنيا بما ينالهم من الهم والغم والحزن على نصرة اللّه لدينه، وإعزار نبيه، وعدم حصولهم على مطلوبهم، وفي الآخرة، في عذاب السعير.
( وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ ) يتولى أمورهم، ويحصل لهم المطلوب ( وَلا نَصِيرٍ ) يدفع عنهم المكروه، وإذا انقطعوا من ولاية اللّه تعالى، فَثَمَّ أصناف الشر والخسران، والشقاء والحرمان.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75 ) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76 ) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77 ) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ (78 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ومن هؤلاء المنافقين من أعطى اللّه عهده وميثاقه ( لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ ) من الدنيا فبسطها لنا ووسعها ( لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) فنصل الرحم، ونقري الضيف، ونعين على نوائب الحق، ونفعل الأفعال الحسنة الصالحة.
( فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) لم يفوا بما قالوا، بل ( بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا ) عن الطاعة والانقياد ( وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) أي: غير ملتفتين إلى الخير.
فلما لم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه، عاقبهم ( فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ ) مستمرا ( إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )
فليحذر المؤمن من هذا الوصف الشنيع، أن يعاهد ربه، إن حصل مقصوده الفلاني ليفعلن كذا وكذا، ثم لا يفي بذلك، فإنه ربما عاقبه اللّه بالنفاق كما عاقب هؤلاء.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت في الصحيحين:"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف"
فهذا المنافق الذي وعد اللّه وعاهده، لئن أعطاه اللّه من فضله، ليصدقن وليكونن من الصالحين، حدث فكذب، وعاهد فغدر، ووعد فأخلف.
ولهذا توعد من صدر منهم هذا الصنيع، بقوله: ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ ) وسيجازيهم على ما عملوا من الأعمال التي يعلمها اللّه تعالى، وهذه الآيات نزلت في رجل من المنافقين يقال له "ثعلبة" جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله أن يدعو اللّه له، أن يعطيه الله من فضله، وأنه إن أعطاه، ليتصدقن، ويصل الرحم، ويعين على النوائب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، فكان له غنم، فلم تزل تتنامى، حتى خرج بها عن المدينة، فكان لا يحضر إلا بعض الصلوات الخمس، ثم أبعد، فكان لا يحضر إلا صلاة الجمعة، ثم كثرت فأبعد بها، فكان لا يحضر جمعة ولا جماعة.
ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر بحاله، فبعث من يأخذ الصدقات من أهلها، فمروا على ثعلبة، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، فلما لم يعطهم جاءوا فأخبروا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة"ثلاثا.
فلما نزلت هذه الآية فيه، وفي أمثاله، ذهب بها بعض أهله فبلغه إياها، فجاء بزكاته، فلم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بها لأبي بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها، ثم جاء بها بعد أبي بكر لعمر فلم يقبلها، فيقال: إنه هلك في زمن عثمان http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِين َ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79 ) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وهذا أيضا من مخازي المنافقين، فكانوا -قبحهم اللّه- لا يدعون شيئا من أمور الإسلام والمسلمين يرون لهم مقالا إلا قالوا وطعنوا بغيا وعدوانا، فلما حثَّ اللّه ورسوله على الصدقة، بادر المسلمون إلى ذلك، وبذلوا من أموالهم كل على حسب حاله، منهم المكثر، ومنهم المقل، فيلمزون المكثر منهم، بأن قصده بنفقته الرياء والسمعة، وقالوا < 1-346 > للمقل الفقير: إن اللّه غني عن صدقة هذا، فأنزل اللّه تعالى: ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ ) أي: يعيبون ويطعنون ( الْمُطَّوِّعِين َ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ ) فيقولون: مراءون، قصدهم الفخر والرياء.
( و ) يلمزون ( الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ ) فيخرجون ما استطاعوا ويقولون: اللّه غني عن صدقاتهم ( فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ) .
فقابلهم الله على صنيعهم بأن ( سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) فإنهم جمعوا في كلامهم هذا بين عدة محاذير.
منها: تتبعهم لأحوال المؤمنين، وحرصهم على أن يجدوا مقالا يقولونه فيهم، واللّه يقول: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ومنها: طعنهم بالمؤمنين لأجل إيمانهم، كفر باللّه تعالى وبغض للدين.
ومنها: أن اللمز محرم، بل هو من كبائر الذنوب في أمور الدنيا، وأما اللمز في أمر الطاعة، فأقبح وأقبح.
ومنها: أن من أطاع اللّه وتطوع بخصلة من خصال الخير، فإن الذي ينبغي[هو] إعانته، وتنشيطه على عمله، وهؤلاء قصدوا تثبيطهم بما قالوا فيهم، وعابوهم عليه.
ومنها: أن حكمهم على من أنفق مالا كثيرا بأنه مراء، غلط فاحش، وحكم على الغيب، ورجم بالظن، وأي شر أكبر من هذا؟!!
ومنها: أن قولهم لصاحب الصدقة القليلة:"اللّه غني عن صدقة هذا"كلام مقصوده باطل، فإن اللّه غني عن صدقة المتصدق بالقليل والكثير، بل وغني عن أهل السماوات والأرض، ولكنه تعالى أمر العباد بما هم مفتقرون إليه، فاللّه -وإن كان غنيا عنهم- فهم فقراء إليه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وفي هذا القول من التثبيط عن الخير ما هو ظاهر بين، ولهذا كان جزاؤهم أن سخر اللّه منهم، ولهم عذاب أليم.

ابو وليد البحيرى
2019-05-10, 06:12 AM
الحلقة (200)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(80) الى الأية(87)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً (80 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

على وجه المبالغة، وإلا فلا مفهوم لها.
(فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) كما قال في الآية الأخرى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ( ثم ذكر السبب المانع لمغفرة اللّه لهم فقال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg والكافر لا ينفعه الاستغفار ولا العمل ما دام كافرا.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: الذين صار الفسق لهم وصفا، بحيث لا يختارون عليه سواه ولا يبغون به بدلا يأتيهم الحق الواضح فيردونه، فيعاقبهم اللّه تعالى بأن لا يوفقهم له بعد ذلك.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81 ) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82 ) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوك َ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى مبينا تبجح المنافقين بتخلفهم وعدم مبالاتهم بذلك، الدال على عدم الإيمان، واختيار الكفر على الإيمان.
( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ ) وهذا قدر زائد على مجرد التخلف، فإن هذا تخلف محرم، وزيادة رضا بفعل المعصية، وتبجح به.
( وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) وهذا بخلاف المؤمنين الذين إذا تخلفوا -ولو لعذر- حزنوا على تخلفهم وتأسفوا غاية الأسف، ويحبون أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه، لما في قلوبهم من الإيمان، ولما يرجون من فضل اللّه وإحسانه وبره وامتنانه.
( وَقَالُوا ) أي: المنافقون ( لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ) أي: قالوا إن النفير مشقة علينا بسبب الحر، فقدموا راحة قصيرة منقضية على الراحة الأبدية التامة.
وحذروا من الحر الذي يقي منه الظلال، ويذهبه البكر http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg والآصال، على الحر الشديد الذي لا يقادر قدره، وهو النار الحامية.
ولهذا قال: ( قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ) لما آثروا ما يفنى على ما يبقى، ولما فروا من المشقة الخفيفة المنقضية، إلى المشقة الشديدة الدائمة.
قال الله تعالى: ( فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا ) أي: فليتمتعوا في هذه الدار المنقضية، ويفرحوا بلذاتها، ويلهوا بلعبها، فسيبكون كثيرا في عذاب أليم ( جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) من الكفر والنفاق، وعدم الانقياد لأوامر ربهم.
( فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ ) وهم الذين تخلفوا من غير عذر، ولم يحزنوا على تخلفهم ( فَاسْتَأْذَنُوك َ لِلْخُرُوجِ ) لغير هذه الغزوة، إذا رأوا السهولة. ( فَقُلْ ) لهم عقوبة ( لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ) فسيغني اللّه عنكم.
( إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ) وهذا كما قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فإن المتثاقل المتخلف عن المأمور به عند انتهاز الفرصة، لا يوفق له بعد ذلك، ويحال بينه وبينه.
وفيه أيضا تعزير لهم، فإنه إذا تقرر عند المسلمين أن هؤلاء من الممنوعين من الخروج إلى الجهاد لمعصيتهم، كان < 1-347 > ذلك توبيخا لهم، وعارا عليهم ونكالا أن يفعل أحد كفعلهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبدا ) من المنافقين (وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ) بعد الدفن لتدعو له، فإن صلاته ووقوفه على قبورهم شفاعة منه لهم، وهم لا تنفع فيهم الشفاعة.

(إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ) ومن كان كافرا ومات على ذلك، فما تنفعه شفاعة الشافعين، وفي ذلك عبرة لغيرهم، وزجر ونكال لهم، وهكذا كل من علم منه الكفر والنفاق، فإنه لا يصلى عليه.
وفي هذه الآية دليل على مشروعية الصلاة على المؤمنين، والوقوف عند قبورهم للدعاء لهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، يفعل ذلك في المؤمنين، فإن تقييد النهي بالمنافقين يدل على أنه قد كان متقررا في المؤمنين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: لا تغتر بما أعطاهم اللّه في الدنيا من الأموال والأولاد، فليس ذلك لكرامتهم عليه، وإنما ذلك إهانة منه لهم. (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا ) فيتعبون في تحصيلها، ويخافون من زوالها، ولا يتهنئون بها.

بل لا يزالون يعانون الشدائد والمشاق فيها، وتلهيهم عن اللّه والدار الآخرة، حتى ينتقلوا من الدنيا (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) قد سلبهم حبها عن كل شيء، فماتوا وقلوبهم بها متعلقة، وأفئدتهم عليها متحرقة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86 ) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87 ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى في بيان استمرار المنافقين على التثاقل عن الطاعات، وأنها لا تؤثر فيهم السور والآيات: (وَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ ) يؤمرون فيها بالإيمان باللّه والجهاد في سبيل اللّه.
(اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ ) يعني: أولي الغنى والأموال، الذين لا عذر لهم، وقد أمدهم اللّه بأموال وبنين، أفلا يشكرون اللّه ويحمدونه، ويقومون بما أوجبه عليهم، وسهل عليهم أمره، ولكن أبوا إلا التكاسل والاستئذان في القعود
(وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ).

ابو وليد البحيرى
2019-05-10, 06:15 AM
الحلقة (201)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(87) الى الأية(93)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

قال تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ (87) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: كيف رضوا لأنفسهم أن يكونوا مع النساء المتخلفات عن الجهاد، هل معهم فقه أو عقل دلهم على ذلك؟ أم طبع الله على قلوبهم فلا تعي الخير، ولا يكون فيها إرادة لفعل ما فيه الخير والفلاح؟ فهم لا يفقهون مصالحهم، فلو فقهوا حقيقة الفقه، لم يرضوا لأنفسهم بهذه الحال التي تحطهم عن منازل الرجال.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: إذا تخلف هؤلاء المنافقون عن الجهاد، فاللّه سيغني عنهم، وللّه عباد وخواص من خلقه اختصهم بفضله يقومون بهذا الأمر، وهم ( الرَّسُولُ ) محمد صلى الله عليه وسلم، ( وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ) غير متثاقلين ولا كسلين، بل هم فرحون مستبشرون، ( وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ) الكثيرة في الدنيا والآخرة، ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الذين ظفروا بأعلى المطالب وأكمل الرغائب.
( أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) فتبا لمن لم يرغب بما رغبوا فيه، وخسر دينه ودنياه وأخراه، وهذا نظير قوله تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ كَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) أي: جاء الذين تهاونوا، وقصروا منهم في الخروج لأجل أن يؤذن لهم في ترك الجهاد، غير مبالين في الاعتذار لجفائهم وعدم حيائهم، وإتيانهم بسبب ما معهم من الإيمان الضعيف.
وأما الذين كذبوا اللّه ورسوله منهم، فقعدوا وتركوا الاعتذار بالكلية، ويحتمل أن معنى قوله: (الْمُعَذِّرُون ) أي: الذين لهم عذر، أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعذرهم، ومن عادته أن يعذر من له عذر.
(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) في دعواهم الإيمان، المقتضي للخروج، وعدم عملهم بذلك، ثم توعدهم بقوله: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) في الدنيا والآخرة.
لما ذكر المعتذرين، وكانوا على قسمين، قسم معذور في الشرع، وقسم غير معذور، ذكر ذلك بقوله:
(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ) في أبدانهم وأبصارهم، الذين لا قوة لهم على الخروج والقتال. (وَلا عَلَى الْمَرْضَى).
< 1-348 >
وهذا شامل لجميع أنواع المرض الذي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لا يقدر صاحبه معه على الخروج والجهاد، من عرج، وعمى، وحمى، وذات الجنب، والفالج، وغير ذلك.
(وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ) أي: لا يجدون زادا، ولا راحلة يتبلغون بها في سفرهم، فهؤلاء ليس عليهم حرج، بشرط أن ينصحوا للّه ورسوله، بأن يكونوا صادقي الإيمان، وأن يكون من نيتهم وعزمهم أنهم لو قدروا لجاهدوا، وأن يفعلوا ما يقدرون عليه من الحث والترغيب والتشجيع على الجهاد.
(مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي: من سبيل يكون عليهم فيه تبعة، فإنهم -بإحسانهم فيما عليهم من حقوق اللّه وحقوق العباد- أسقطوا توجه اللوم عليهم، وإذا أحسن العبد فيما يقدر عليه، سقط عنه ما لا يقدر عليه.
ويستدل بهذه الآية على قاعدة وهي: أن من أحسن على غيره، في [نفسه] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg أو في ماله، ونحو ذلك، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، أنه غير ضامن لأنه محسن، ولا سبيل على المحسنين، كما أنه يدل على أن غير المحسن -وهو المسيء- كالمفرط، أن عليه الضمان.
(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومن مغفرته ورحمته، عفا عن العاجزين، وأثابهم بنيتهم الجازمة ثواب القادرين الفاعلين.
(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) فلم يصادفوا عندك شيئا (قُلْتَ) لهم معتذرا: (لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) فإنهم عاجزون باذلون لأنفسهم، وقد صدر منهم من الحزن والمشقة ما ذكره اللّه عنهم.
فهؤلاء لا حرج عليهم، وإذا سقط الحرج عنهم، عاد الأمر إلى أصله، وهو أن من نوى الخير، واقترن بنيته الجازمة سَعْيٌ فيما يقدر عليه، ثم لم يقدر، فإنه ينزل منزلة الفاعل التام.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ) يتوجه واللوم يتناول الذين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg يستأذنوك وهم أغنياء قادرون على الخروج لا عذر لهم، فهؤلاء (رَضُوا) لأنفسهم ومن دينهم (بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ) كالنساء والأطفال ونحوهم.
(و) إنما رضوا بهذه الحال لأن اللّه طبع على قلوبهم أي: ختم عليها، فلا يدخلها خير، ولا يحسون بمصالحهم الدينية والدنيوية، (فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) عقوبة لهم، على ما اقترفوا.

ابو وليد البحيرى
2019-05-14, 11:33 PM
الحلقة (202)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(94) الى الأية(99)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما ذكر تخلف المنافقين الأغنياء، وأنهم لا عذر لهم، أخبر أنهم سـ ( يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ) من غزاتكم.
( قُلْ ) لهم ( لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ) أي: لن نصدقكم في اعتذاركم الكاذب.
( قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ) وهو الصادق في قيله، فلم يبق للاعتذار فائدة، لأنهم يعتذرون بخلاف ما أخبر اللّه عنهم، ومحال أن يكونوا صادقين فيما يخالف خبر اللّه الذي هو أعلى مراتب الصدق.
( وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) في الدنيا، لأن العمل هو ميزان الصدق من الكذب، وأما مجرد الأقوال، فلا دلالة فيها على شيء من ذلك.
( ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) الذي لا تخفى عليه خافية، ( فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) من خير وشر، ويجازيكم بعدله أو بفضله، من غير أن يظلمكم مثقال ذرة.
وأعلم أن المسيء المذنب له ثلاث حالات: إما [أن] يقبل قوله وعذره، ظاهرا وباطنا، ويعفى عنه بحيث يبقى كأنه لم يذنب. فهذه الحالة هي المذكورة هنا في حق المنافقين، أن عذرهم غير مقبول، وأنه قد تقررت أحوالهم الخبيثة وأعمالهم السيئة، وإما أن يعاقبوا بالعقوبة والتعزير الفعلي على ذنبهم، وإما أن يعرض عنهم، ولا يقابلوا بما فعلوا بالعقوبة الفعلية، وهذه الحال الثالثة هي التي أمر اللّه بها في حق المنافقين، ولهذا قال: ( سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ) أي: لا توبخوهم، ولا تجلدوهم أو تقتلوهم.
( إِنَّهُمْ رِجْسٌ ) أي: إنهم قذر خبثاء، ليسوا بأهل لأن يبالى بهم، وليس التوبيخ والعقوبة مفيدا فيهم، ( وَ ) تكفيهم عقوبة جهنم جزاء بما كانوا يكسبون.
وقوله: ( يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ) أي: ولهم أيضا هذا المقصد الآخر منكم، غير مجرد الإعراض، بل يحبون أن ترضوا عنهم، كأنهم ما فعلوا شيئا.
( فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) أي: فلا ينبغي لكم -أيها المؤمنون- أن ترضوا عن من لم يرض اللّه عنه، بل عليكم أن توافقوا ربكم في رضاه وغضبه.
وتأمل كيف قال: ( فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) ولم يقل: "فإن اللّه لا يرضى عنهم" < 1-349 > ليدل ذلك على أن باب التوبة مفتوح، وأنهم مهما تابوا هم أو غيرهم، فإن اللّه يتوب عليهم، ويرضى عنهم.
وأما ما داموا فاسقين، فإن اللّه لا يرضى عليهم، لوجود المانع من رضاه، وهو خروجهم عن ما رضيه اللّه لهم من الإيمان والطاعة، إلى ما يغضبه من الشرك، والنفاق، والمعاصي.
وحاصل ما ذكره اللّه أن المنافقين المتخلفين عن الجهاد من غير عذر، إذا اعتذروا للمؤمنين، وزعموا أن لهم أعذارا في تخلفهم، فإن المنافقين يريدون بذلك أن تعرضوا عنهم، وترضوا وتقبلوا عذرهم، فأما قبول العذر منهم والرضا عنهم، فلا حبا ولا كرامة لهم.
وأما الإعراض عنهم، فيعرض المؤمنون عنهم، إعراضهم عن الأمور الردية والرجس، وفي هذه الآيات، إثبات الكلام للّه تعالى في قوله: ( قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ) وإثبات الأفعال الاختيارية للّه، الواقعة بمشيئته [تعالى] وقدرته في هذا، وفي قوله: ( وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) أخبر أنه سيراه بعد وقوعه، وفيها إثبات الرضا للّه عن المحسنين، والغضب والسخط على الفاسقين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( الأعْرَابِ ) وهم سكان البادية والبراري ( أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا ) من الحاضرة الذين فيهم كفر ونفاق، وذلك لأسباب كثيرة: منها: أنهم بعيدون عن معرفة الشرائع الدينية والأعمال والأحكام، فهم أحرى ( وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ) من أصول الإيمان وأحكام الأوامر والنواهي، بخلاف الحاضرة، فإنهم أقرب لأن يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله، فيحدث لهم -بسبب هذا العلم- تصورات حسنة، وإرادات للخير، الذي يعلمون، ما لا يكون في البادية.
وفيهم من لطافة الطبع والانقياد للداعي ما ليس في البادية، ويجالسون أهل الإيمان، ويخالطونهم أكثر من أهل البادية، فلذلك كانوا أحرى للخير من أهل البادية، وإن كان في البادية والحاضرة، كفار ومنافقون، ففي البادية أشد وأغلظ مما في الحاضرة. ومن ذلك أن الأعراب أحرص على الأموال، وأشح فيها.
فمنهم ( مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ (98) ) من الزكاة والنفقة في سبيل اللّه وغير ذلك، ( مَغْرَمًا ) أي: يراها خسارة ونقصا، لا يحتسب فيها، ولا يريد بها وجه اللّه، ولا يكاد يؤديها إلا كرها.
(وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ) أي: من عداوتهم للمؤمنين وبغضهم لهم، أنهم يودون وينتظرون فيهم دوائر الدهر، وفجائع الزمان، وهذا سينعكس عليهم فعليهم دائرة السوء.
وأما المؤمنون فلهم الدائرة الحسنة على أعدائهم، ولهم العقبى الحسنة، ( وَاللَّهُ سميع عليم ) يعلم نيات العباد، وما صدرت عنه الأعمال، من إخلاص وغيره.
وليس الأعراب كلهم مذمومين، بل منهم ( مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) فيسلم بذلك من الكفر والنفاق ويعمل بمقتضى الإيمان.
( وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ ) أي: يحتسب نفقته، ويقصد بها وجه اللّه تعالى والقرب منه ( و ) يجعلها وسيلة لـ ( صَلَوَاتِ الرَّسُولِ ) أي: دعائه لهم، وتبريكه عليهم، قال تعالى مبينا لنفع صلوات الرسول: ( أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ ) تقربهم إلى اللّه، وتنمي أموالهم وتحل فيها البركة.
( سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ ) في جملة عباده الصالحين إنه غفور رحيم، فيغفر السيئات العظيمة لمن تاب إليه، ويعم عباده برحمته، التي وسعت كل شيء، ويخص عباده المؤمنين برحمة يوفقهم فيها إلى الخيرات، ويحميهم فيها من المخالفات، ويجزل لهم فيها أنواع المثوبات.
وفي هذه الآية دليل على أن الأعراب كأهل الحاضرة، منهم الممدوح ومنهم المذموم، فلم يذمهم اللّه على مجرد تعربهم وباديتهم، إنما ذمهم على ترك أوامر اللّه، وأنهم في مظنة ذلك.
ومنها: أن الكفر والنفاق يزيد وينقص ويغلظ ويخف بحسب الأحوال.
ومنها: فضيلة العلم، وأن فاقده أقرب إلى الشر ممن يعرفه، لأن اللّه ذم الأعراب، وأخبر أنهم أشد كفرا ونفاقا، وذكر السبب الموجب لذلك، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله.
ومنها: أن العلم النافع الذي هو أنفع العلوم، معرفة حدود ما أنزل اللّه على رسوله، من أصول الدين وفروعه، كمعرفة حدود الإيمان، والإسلام، والإحسان، والتقوى، والفلاح، والطاعة، والبر، والصلة، والإحسان، والكفر، والنفاق، والفسوق، والعصيان، والزنا، والخمر، والربا، ونحو ذلك. فإن في معرفتها يتمكن من فعلها -إن كانت مأمور بها، أو تركها إن كانت محظورة- ومن الأمر بها أو النهي عنها.

ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يؤدي ما عليه من الحقوق، منشرح الصدر، مطمئن النفس، ويحرص أن تكون مغنما، ولا تكون مغرما.

ابو وليد البحيرى
2019-05-14, 11:41 PM
الحلقة (203)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(100) الى الأية(106)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ < 1-350 > بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

السابقون هم الذين سبقوا هذه الأمة وبدروها إلى الإيمان والهجرة، والجهاد، وإقامة دين اللّه.
( مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( و ) من ( الأنْصَارِ ) ( الذين تبوءوا الدار والإيمان [من قبلهم] يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ).
( وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ) بالاعتقادات والأقوال والأعمال، فهؤلاء، هم الذين سلموا من الذم، وحصل لهم نهاية المدح، وأفضل الكرامات من اللّه.
( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) ورضاه تعالى أكبر من نعيم الجنة، ( وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ ) الجارية التي تساق إلى سَقْيِ الجنان، والحدائق الزاهية الزاهرة، والرياض الناضرة.
( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) لا يبغون عنها حولا ولا يطلبون منها بدلا لأنهم مهما تمنوه، أدركوه، ومهما أرادوه، وجدوه.
( ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) الذي حصل لهم فيه، كل محبوب للنفوس، ولذة للأرواح، ونعيم للقلوب، وشهوة للأبدان، واندفع عنهم كل محذور.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) أيضا منافقون ( مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ ) أي: تمرنوا عليه، واستمروا وازدادوا فيه طغيانا.
( لا تَعْلَمُهُمْ ) بأعيانهم فتعاقبهم، أو تعاملهم بمقتضى نفاقهم، لما للّه في ذلك من الحكمة الباهرة.
( نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ) يحتمل أن التثنية على بابها، وأن عذابهم عذاب في الدنيا، وعذاب في الآخرة.
ففي الدنيا ما ينالهم من الهم والحزن ، والكراهة لما يصيب المؤمنين من الفتح والنصر، وفي الآخرة عذاب النار وبئس القرار.
ويحتمل أن المراد سنغلظ عليهم العذاب، ونضاعفه عليهم ونكرره.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( وَآخَرُونَ ) ممن بالمدينة ومن حولها، بل ومن سائر البلاد الإسلامية، ( اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) أي: أقروا بها، وندموا عليها، وسعوا في التوبة منها، والتطهر من أدرانها.
( خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) ولا يكون العمل صالحا إلا إذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان، المخرج عن الكفر والشرك، الذي هو شرط لكل عمل صالح، فهؤلاء خلطوا الأعمال الصالحة، بالأعمال السيئة، من التجرؤ على بعض المحرمات، والتقصير في بعض الواجبات، مع الاعتراف بذلك والرجاء، بأن يغفر اللّه لهم، فهؤلاء ( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) وتوبته على عبده نوعان:
الأول: التوفيق للتوبة. والثاني: قبولها بعد وقوعها منهم.
( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي: وصفه المغفرة والرحمة اللتان لا يخلو مخلوق منهما، بل لا بقاء للعالم العلوي والسفلي إلا بهما، فلو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ومن مغفرته أن المسرفين على أنفسهم الذين قطعوا أعمارهم بالأعمال السيئة، إذا تابوا إليه وأنابوا ولو قبيل موتهم بأقل القليل، فإنه يعفو عنهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، فهذه الآية، دلت http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg على أن المخلط المعترف النادم، الذي لم يتب توبة نصوحا، أنه تحت الخوف والرجاء، وهو إلى السلامة أقرب.
وأما المخلط الذي لم يعترف ويندم على ما مضى منه، بل لا يزال مصرا على الذنوب، فإنه يخاف عليه أشد الخوف.
قال تعالى لرسوله ومن قام مقامه، آمرا له بما يطهر المؤمنين، ويتمم إيمانهم: ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) وهي الزكاة المفروضة، ( تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) أي: تطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة.
( وَتُزَكِّيهِمْ ) أي: تنميهم، وتزيد في أخلاقهم الحسنة، وأعمالهم الصالحة، وتزيد في ثوابهم الدنيوي والأخروي، وتنمي أموالهم.
( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ) أي: ادع لهم، أي: للمؤمنين عموما وخصوصا عندما يدفعون إليك زكاة أموالهم.
( إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) أي: طمأنينة لقلوبهم، واستبشار لهم، ( وَاللَّهُ سَمِيعٌ ) لدعائك، سمع إجابة وقبول.
( عَلِيمٌ ) بأحوال العباد ونياتهم، فيجازي كل عامل بعمله، وعلى قدر نيته، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتثل لأمر اللّه، ويأمرهم بالصدقة، ويبعث عماله لجبايتها، فإذا أتاه أحد بصدقته دعا له وبرَّك.
ففي هذه الآية، دلالة على وجوب الزكاة، في جميع الأموال، وهذا إذا كانت للتجارة ظاهرة، فإنها أموال < 1-351 > تنمى ويكتسب بها، فمن العدل أن يواسى منها الفقراء، بأداء ما أوجب اللّه فيها من الزكاة.
وما عدا أموال التجارة، فإن كان المال ينمى، كالحبوب، والثمار، والماشية المتخذة للنماء والدر والنسل، فإنها تجب فيها الزكاة، وإلا لم تجب فيها، لأنها إذا كانت للقنية، لم تكن بمنزلة الأموال التي يتخذها الإنسان في العادة، مالا يتمول، ويطلب منه المقاصد المالية، وإنما صرف عن المالية بالقنية ونحوها.
وفيها: أن العبد لا يمكنه أن يتطهر ويتزكى حتى يخرج زكاة ماله، وأنه لا يكفرها شيء سوى أدائها، لأن الزكاة والتطهير متوقف على إخراجها.
وفيها: استحباب الدعاء من الإمام أو نائبه لمن أدى زكاته بالبركة، وأن ذلك ينبغي، أن يكون جهرا، بحيث يسمعه المتصدق فيسكن إليه.
ويؤخذ من المعنى، أنه ينبغي إدخال السرور على المؤمن بالكلام اللين، والدعاء له، ونحو ذلك مما يكون فيه طمأنينة، وسكون لقلبه. وأنه ينبغي تنشيط من أنفق نفقة وعمل عملا صالحا بالدعاء له والثناء، ونحو ذلك.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: أما علموا سعة رحمة اللّه وعموم كرمه وأنه ( يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ) التائبين من أي ذنب كان، بل يفرح تعالى بتوبة عبده، إذا تاب أعظم فرح يقدر.
( وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ) منهم أي: يقبلها، ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدهم كما يربي الرجل فلوه، حتى تكون التمرة الواحدة كالجبل العظيم، فكيف بما هو أكبر وأكثر من ذلك.
( وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ ) أي: كثير التوبة على التائبين، فمن تاب إليه تاب عليه، ولو تكررت منه [المعصية http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ] مرارا. ولا يمل اللّه من التوبة على عباده، حتى يملوا هم، ويأبوا إلا النفار والشرود عن بابه، وموالاتهم عدوهم.
( الرَّحِيمُ ) الذي وسعت رحمته كل شيء، وكتبها للذين يتقون، ويؤتون الزكاة، ويؤمنون بآياته، ويتبعون رسوله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: (وَقُلْ ) لهؤلاء المنافقين: ( اعْمَلُوا ) ما ترون من الأعمال، واستمروا على باطلكم، فلا تحسبوا أن ذلك، سيخفى.
( فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ ) أي: لا بد أن يتبين عملكم ويتضح، ( وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) من خير وشر، ففي هذا التهديد والوعيد الشديد على من استمر على باطله وطغيانه وغيه وعصيانه.
ويحتمل أن المعنى: أنكم مهما عملتم من خير أو شر، فإن اللّه مطلع عليكم، وسيطلع رسوله وعباده المؤمنين على أعمالكم ولو كانت باطنة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: (وَآخَرُونَ ) من المخلفين مؤخرون ( لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) ففي هذا التخويف الشديد للمتخلفين، والحث لهم على التوبة والندم.

( وَاللَّهُ عَلِيمٌ ) بأحوال العباد ونياتهم ( حَكِيمٌ ) يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها، فإن اقتضت حكمته أن يغفر لهم ويتوب عليهم غفر لهم وتاب عليهم، وإن اقتضت حكمته أن يخذلهم ولا يوفقهم للتوبة، فعل ذلك.

ابو وليد البحيرى
2019-05-14, 11:46 PM
الحلقة (204)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(107) الى الأية(111)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

كان أناس من المنافقين من أهل قباء اتخذوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء، يريدون به المضارة والمشاقة بين المؤمنين، ويعدونه لمن يرجونه من المحاربين للّه ورسوله، يكون لهم حصنا عند الاحتياج إليه، فبين تعالى خزيهم، وأظهر سرهم فقال: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا) أي: مضارة للمؤمنين ولمسجدهم الذي يجتمعون فيه (وَكُفْرًا) أي: قصدهم فيه الكفر، إذا قصد غيرهم الإيمان.
(وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: ليتشعبوا ويتفرقوا ويختلفوا، (وَإِرْصَادًا) أي: إعدادا (لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) أي: إعانة للمحاربين للّه ورسوله، الذين تقدم حرابهم واشتدت عداوتهم، وذلك كأبي عامر الراهب، الذي كان من أهل المدينة، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة، كفر به، وكان متعبدا في الجاهلية، فذهب إلى المشركين يستعين بهم على حرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
فلما لم يدرك مطلوبه عندهم ذهب إلى قيصر بزعمه أنه ينصره، فهلك اللعين في الطريق، وكان على وعد وممالأة، هو والمنافقون. فكان مما أعدوا له مسجد الضرار، فنزل الوحي بذلك، فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم من يهدمه ويحرقه، فهدم وحرق، وصار بعد ذلك مزبلة.
قال تعالى بعدما بين من مقاصدهم < 1-352 > الفاسدة في ذلك المسجد (وَلَيَحْلِفُنّ إِنْ أَرَدْنَا) في بنائنا إياه (إِلا الْحُسْنَى) أي: الإحسان إلى الضعيف، والعاجز والضرير.
(وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) فشهادة اللّه عليهم أصدق من حلفهم.
(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) أي: لا تصل في ذلك المسجد الذي بني ضرارا أبدا. فاللّه يغنيك عنه، ولست بمضطر إليه.
(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) ظهر فيه الإسلام في "قباء" وهو مسجد"قباء"أسس على إخلاص الدين للّه، وإقامة ذكره وشعائر دينه، وكان قديما في هذا عريقا فيه، فهذا المسجد الفاضل (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) وتتعبد، وتذكر اللّه تعالى فهو فاضل، وأهله فضلاء، ولهذا مدحهم اللّه بقوله: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) من الذنوب، ويتطهروا من الأوساخ، والنجاسات والأحداث.
ومن المعلوم أن من أحب شيئا لا بد أن يسعى له ويجتهد فيما يحب، فلا بد أنهم كانوا حريصين على التطهر من الذنوب والأوساخ والأحداث، ولهذا كانوا ممن سبق إسلامه، وكانوا مقيمين للصلاة، محافظين على الجهاد، مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وإقامة شرائع الدين، وممن كانوا يتحرزون من مخالفة اللّه ورسوله.
وسألهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية في مدحهم عن طهارتهم، فأخبروه أنهم يتبعون الحجارة الماء، فحمدهم على صنيعهم.
(وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ) الطهارة المعنوية، كالتنزه من الشرك والأخلاق الرذيلة، والطهارة الحسية كإزالة الأنجاس ورفع الأحداث.
ثم فاضل بين المساجد بحسب مقاصد أهلها وموافقتها لرضاه فقال: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ) أي: على نية صالحة وإخلاص (وَرِضْوَانٍ) بأن كان موافقا لأمره، فجمع في عمله بين الإخلاص والمتابعة، (خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا) أي: على طرف (جُرُفٍ هَارٍ) أي: بال، قد تداعى للانهدام، (فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لما فيه مصالح دينهم ودنياهم.
(لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي: شكا، وريبا ماكثا في قلوبهم، (إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) بأن يندموا غاية الندم ويتوبوا إلى ربهم، ويخافوه غاية الخوف، فبذلك يعفو اللّه عنهم، وإلا فبنيانهم لا يزيدهم إلا ريبا إلى ريبهم، ونفاقا إلى نفاقهم.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ) بجميع الأشياء، ظاهرها، وباطنها، خفيها وجليها، وبما أسره العباد، وأعلنوه.
(حَكِيمٌ) لا يفعل ولا يخلق ولا يأمر ولا ينهى إلا ما اقتضته الحكمة وأمر به فللّه الحمد http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg .
وفي هذه الآيات فوائد عدة:
منها: أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه، أنه محرم، وأنه يجب هدم مسجد الضرار، الذي اطلع على مقصود أصحابه.
ومنها: أن العمل وإن كان فاضلا تغيره النية، فينقلب منهيا عنه، كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار عملهم إلى ما ترى.
ومنها: أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين، فإنها من المعاصي التي يتعين تركها وإزالتها.
كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وائتلافهم، يتعين اتباعها والأمر بها والحث عليها، لأن اللّه علل اتخاذهم لمسجد الضرار بهذا المقصد الموجب للنهي عنه، كما يوجب ذلك الكفر والمحاربة للّه ورسوله.
ومنها: النهي عن الصلاة في أماكن المعصية، والبعد عنها، وعن قربها.
ومنها: أن المعصية تؤثر في البقاع، كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار، ونهي عن القيام فيه، وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد " قباء" حتى قال اللّه فيه:
(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) .
ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره، حتى كان صلى الله عليه وسلم يزور قباء كل سبت يصلي فيه، وحث على الصلاة فيه.
ومنها: أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الآية، أربع قواعد مهمة، وهي:
كل عمل فيه مضارة لمسلم، أو فيه معصية للّه، فإن المعاصي من فروع الكفر، أو فيه تفريق بين المؤمنين، أو فيه معاونة لمن عادى اللّه ورسوله، فإنه محرم ممنوع منه، وعكسه بعكسه.
ومنها: أن الأعمال الحسية الناشئة عن معصية الله لا تزال مبعدة لفاعلها عن الله بمنزلة الإصرار على المعصية حتى يزيلها ويتوب منها توبة تامة بحيث يتقطع قلبه من الندم والحسرات.
ومنها: أنه إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس على التقوى، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أسسه بيده المباركة وعمل فيه واختاره اللّه له من باب أولى وأحرى.
ومنها: أن العمل المبني على الإخلاص والمتابعة، هو العمل المؤسس على التقوى، الموصل لعامله إلى جنات النعيم.
والعمل المبني على سوء القصد وعلى البدع والضلال، هو العمل المؤسس على شفا جرف هار، فانهار به في نار جهنم، واللّه لا يهدي القوم الظالمين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى خبرا صدقا، ويعد وعدا حقا بمبايعة < 1-353 > عظيمة، ومعاوضة جسيمة، وهو أنه (اشْتَرَى) بنفسه الكريمة (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ) فهي المثمن والسلعة المبيعة.
(بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) التي فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين من أنواع اللذات والأفراح، والمسرات، والحور الحسان، والمنازل الأنيقات.
وصفة العقد والمبايعة، بأن يبذلوا للّه نفوسهم وأموالهم في جهاد أعدائه، لإعلاء كلمته وإظهار دينه فـ (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) فهذا العقد والمبايعة، قد صدرت من اللّه مؤكدة بأنواع التأكيدات.
(وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) التي هي أشرف الكتب التي طرقت العالم، وأعلاها، وأكملها، وجاء بها أكمل الرسل أولو العزم، وكلها اتفقت على هذا الوعد الصادق.
(وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا ) أيها المؤمنون القائمون بما وعدكم اللّه، (بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ) أي: لتفرحوا بذلك، وليبشر بعضكم بعضا، ويحث بعضكم بعضا.
(وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز أكبر منه، ولا أجل، لأنه يتضمن السعادة الأبدية، والنعيم المقيم، والرضا من اللّه الذي هو أكبر من نعيم الجنات، وإذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة، فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو اللّه جل جلاله، وإلى العوض، وهو أكبر الأعواض وأجلها، جنات النعيم، وإلى الثمن المبذول فيها، وهو النفس، والمال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان.
وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع، وهو أشرف الرسل، وبأي كتاب رقم، وهي كتب اللّه الكبار المنزلة على أفضل الخلق.

ابو وليد البحيرى
2019-05-20, 10:29 AM
الحلقة (205)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(112) الى الأية(117)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

كأنه قيل: من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من اللّه بدخول الجنات ونيل الكرامات؟ فقال: هم (التَّائِبُونَ) أي: الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات.
(الْعَابِدُونَ) أي: المتصفون بالعبودية للّه، والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت، فبذلك يكون العبد من العابدين.
(الْحَامِدُونَ) للّه في السراء والضراء، واليسر والعسر، المعترفون بما للّه عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، المثنون على اللّه بذكرها وبذكره في آناء الليل وآناء النهار.
(السَّائِحُونَ) فسرت السياحة بالصيام، أو السياحة في طلب العلم، وفسرت بسياحة القلب في معرفة اللّه ومحبته، والإنابة إليه على الدوام، والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات، كالحج، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك.
(الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) أي: المكثرون من الصلاة، المشتملة على الركوع والسجود.
(الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) ويدخل فيه جميع الواجبات والمستحبات.
(وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهي جميع ما نهى اللّه ورسوله عنه.
(وَالْحَافِظُون لِحُدُودِ اللَّهِ) بتعلمهم حدود ما أنزل اللّه على رسوله، وما يدخل في الأوامر والنواهي والأحكام، وما لا يدخل، الملازمون لها فعلا وتركا.
(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) لم يذكر ما يبشرهم به، ليعم جميع ما رتب على الإيمان من ثواب الدنيا والدين والآخرة، فالبشارة متناولة لكل مؤمن.
وأما مقدارها وصفتها فإنها بحسب حال المؤمنين، وإيمانهم، قوة، وضعفا، وعملا بمقتضاه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يعني: ما يليق ولا يحسن للنبي وللمؤمنين به ( أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) أي: لمن كفر به، وعبد معه غيره ( وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) فإن الاستغفار لهم في هذه الحال غلط غير مفيد، فلا يليق بالنبي والمؤمنين، لأنهم إذا ماتوا على الشرك، أو علم أنهم يموتون عليه، فقد حقت عليهم كلمة العذاب، ووجب عليهم الخلود في النار، ولم تنفع فيهم شفاعة الشافعين، ولا استغفار المستغفرين.
وأيضا فإن النبي والذين آمنوا معه، عليهم أن يوافقوا ربهم في رضاه وغضبه، ويوالوا من والاه اللّه، ويعادوا من عاداه اللّه، والاستغفار منهم لمن تبين أنه من أصحاب النار مناف لذلك، مناقض له، ولئن وجد الاستغفار من خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لأبيه فإنه ( عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ) في قوله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وذلك قبل أن يعلم عاقبة أبيه.
فلما تبين لإبراهيم أن أباه عدو للّه، سيموت على الكفر، ولم ينفع فيه الوعظ والتذكير ( تَبَرَّأَ مِنْهُ ) موافقة لربه وتأدبا معه.
( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ ) أي: رجَّاع إلى اللّه في جميع الأمور، كثير الذكر والدعاء، والاستغفار والإنابة إلى ربه.
( حَلِيمٌ ) أي: ذو رحمة بالخلق، وصفح عما يصدر منهم إليه، من الزلات، لا يستفزه جهل الجاهلين، ولا يقابل الجاني عليه بجرمه، فأبوه قال له: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لأَرْجُمَنَّكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهو يقول له: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
فعليكم أن تقتدوا به، وتتبعوا ملة إبراهيم في كل شيء http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنّ َ لَكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg كما نبهكم اللّه عليها وعلى غيرها، ولهذا قال:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا كَانَ اللَّهُ < 1-354 > لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .


يعني أن اللّه تعالى إذا منَّ على قوم بالهداية، وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم، فإنه تعالى يتمم عليهم إحسانه، ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه، وتدعو إليه ضرورتهم، فلا يتركهم ضالين، جاهلين بأمور دينهم، ففي هذا دليل على كمال رحمته، وأن شريعته وافية بجميع ما يحتاجه العباد، في أصول الدين وفروعه.
ويحتمل أن المراد بذلك (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) فإذا بين لهم ما يتقون فلم ينقادوا له، عاقبهم بالإضلال جزاء لهم على ردهم الحق المبين، والأول أولى.
(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلكمال علمه وعمومه علمكم ما لم تكونوا تعلمون، وبين لكم ما به تنتفعون.
(إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي: هو المالك لذلك، المدبر لعباده بالإحياء والإماتة وأنواع التدابير الإلهية، فإذا كان لا يخل بتدبيره القدري فكيف يخل بتدبيره الديني المتعلق بإلهيته، ويترك عباده سدى مهملين، أو يدعهم ضالين جاهلين، وهو أعظم توليه لعباده؟".

فلهذا قال: (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي: ولي يتولاكم بجلب المنافع لكم، أو (نَصِيرٍ) يدفع عنكم المضار.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِي نَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى أنه من لطفه وإحسانه تَابَ عَلَى النَّبِيِّ محمد صلى الله عليه وسلم (وَالْمُهَاجِرِ نَ وَالأنْصَارِ) فغفر لهم الزلات، ووفر لهم الحسنات، ورقاهم إلى أعلى الدرجات، وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقات، ولهذا قال: (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) أي: خرجوا معه لقتال الأعداء في وقعة"تبوك" http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg وكانت في حر شديد، وضيق من الزاد والركوب، وكثرة عدو، مما يدعو إلى التخلف.
فاستعانوا اللّه تعالى، وقاموا بذلك (مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي: تنقلب قلوبهم، ويميلوا إلى الدعة والسكون، ولكن اللّه ثبتهم وأيدهم وقواهم. وزَيْغُ القلب هو انحرافه عن الصراط المستقيم، فإن كان الانحراف في أصل الدين، كان كفرا، وإن كان في شرائعه، كان بحسب تلك الشريعة، التي زاغ عنها، إما قصر عن فعلها، أو فعلها على غير الوجه الشرعي.

وقوله (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) أي: قبل توبتهم (إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ومن رأفته ورحمته أن مَنَّ عليهم بالتوبة، وقبلها منهم وثبتهم عليها.

ابو وليد البحيرى
2019-05-20, 10:33 AM
الحلقة (206)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(118) الى الأية(122)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

(و) كذلك لقد تاب الله (عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) عن الخروج مع المسلمين، في تلك الغزوة، وهم: "كعب بن مالك"وصاحباه، وقصتهم مشهورة معروفة، في الصحاح والسنن.

(حَتَّى إِذَا) حزنوا حزنا عظيما، و (ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) أي: على سعتها ورحبها (وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) التي هي أحب إليهم من كل شيء، فضاق عليهم الفضاء الواسع، والمحبوب الذي لم تجر العادة بالضيق منه، وذلك لا يكون إلا من أمر مزعج، بلغ من الشدة والمشقة ما لا يمكن التعبير عنه، وذلك لأنهم قدموا رضا اللّه ورضا رسوله على كل شيء.
(وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ) أي: تيقنوا وعرفوا بحالهم، أنه لا ينجي من الشدائد، ويلجأ إليه، إلا اللّه وحده لا شريك له، فانقطع تعلقهم بالمخلوقين، وتعلقوا باللّه ربهم، وفروا منه إليه، فمكثوا بهذه الشدة نحو خمسين ليلة.
(ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) أي: أذن في توبتهم ووفقهم لها (لِيَتُوبُوا) أي: لتقع منهم، فيتوب اللّه عليهم، (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ) أي: كثير التوبة والعفو، والغفران عن الزلات والعصيان، (الرَّحِيمُ) وصفه الرحمة العظيمة التي لا تزال تنزل على العباد في كل وقت وحين، في جميع اللحظات، ما تقوم به أمورهم الدينية والدنيوية.
وفي هذه الآيات دليل على أن توبة اللّه على العبد أجل الغايات، وأعلى النهايات، فإن اللّه جعلها نهاية خواص عباده، وامتن عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها.
ومنها: لطف الله بهم وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة.
ومنها: أن العبادة الشاقة على النفس، لها فضل ومزية ليست لغيرها، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر.
ومنها: أن توبة اللّه على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب ولا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، وإن زعم أنها مقبولة.
ومنها: أن علامة الخير وزوال الشدة، إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقا تاما، وانقطع عن المخلوقين.
ومنها: أن من لطف اللّه بالثلاثة، أن وسمهم بوسم، ليس بعار عليهم فقال: (خُلِّفُوا) إشارة إلى أن المؤمنين < 1-355 > خلفوهم، [أو خلفوا عن من بُتّ في قبول عذرهم، أو في رده] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير، ولهذا لم يقل: "تخلفوا".
ومنها: أن اللّه تعالى من عليهم بالصدق، ولهذا أمر بالاقتداء بهم فقال:

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) باللّه، وبما أمر اللّه بالإيمان به، قوموا بما يقتضيه الإيمان، وهو القيام بتقوى اللّه تعالى، باجتناب ما نهى اللّه عنه والبعد عنه.
( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، الذين أقوالهم صدق، وأعمالهم، وأحوالهم لا تكون إلا صدقا خلية من الكسل والفتور، سالمة من المقاصد السيئة، مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة.
قال الله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآية.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى -حاثا لأهل المدينة المنورة من المهاجرين، والأنصار، ومن حولهم من الأعراب، الذين أسلموا فحسن إسلامهم-: (مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ) أي: ما ينبغي لهم ذلك، ولا يليق بأحوالهم.
(وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ) في بقائها وراحتها، وسكونه (عَنْ نَفْسِهِ) الكريمة الزكية، بل النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فعلى كل مسلم أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم، بنفسه ويقدمه عليها، فعلامة تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته والإيمان التام به، أن لا يتخلفوا عنه، ثم ذكر الثواب الحامل على الخروج فقال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي: المجاهدين في سبيل اللّه (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ) أي: تعب ومشقة (وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي: مجاعة.
(وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ) من الخوض لديارهم، والاستيلاء على أوطانهم، (وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا) كالظفر بجيش أو سرية أو الغنيمة لمال (إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) لأن هذه آثار ناشئة عن أعمالهم.
(إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الذين أحسنوا في مبادرتهم إلى أمر الله، وقيامهم بما عليهم من حقه وحق خلقه، فهذه الأعمال آثار من آثار عملهم.
ثم قال: (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا) في ذهابهم إلى عدوهم (إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
ومن ذلك هذه الأعمال، إذا أخلصوا فيها للّه، ونصحوا فيها، ففي هذه الآيات أشد ترغيب وتشويق للنفوس إلى الخروج إلى الجهاد في سبيل اللّه، والاحتساب لما يصيبهم فيه من المشقات، وأن ذلك لهم رفعة درجات، وأن الآثار المترتبة على عمل العبد له فيها أجر كبير.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: -منبها لعباده المؤمنين على ما ينبغي لهم- (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أي: جميعا لقتال عدوهم، فإنه يحصل عليهم المشقة بذلك، وتفوت به كثير من المصالح الأخرى، (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ) أي: من البلدان، والقبائل، والأفخاذ (طَائِفَةٌ) تحصل بها الكفاية والمقصود لكان أولى.
ثم نبه على أن في إقامة المقيمين منهم وعدم خروجهم مصالح لو خرجوا لفاتتهم، فقال: (لِيَتَفَقَّهُو ) أي: القاعدون (فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) أي. ليتعلموا العلم الشرعي، ويعلموا معانيه، ويفقهوا أسراره، وليعلموا غيرهم، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
ففي هذا فضيلة العلم، وخصوصا الفقه في الدين، وأنه أهم الأمور، وأن من تعلم علما، فعليه نشره وبثه في العباد، ونصيحتهم فيه فإن انتشار العلم عن العالم، من بركته وأجره، الذي ينمى له.
وأما اقتصار العالم على نفسه، وعدم دعوته إلى سبيل اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة، وترك تعليم الجهال ما لا يعلمون، فأي منفعة حصلت للمسلمين منه؟ وأي نتيجة نتجت من علمه؟ وغايته أن يموت، فيموت علمه وثمرته، وهذا غاية الحرمان، لمن آتاه اللّه علما ومنحه فهما.

وفي هذه الآية أيضا دليل وإرشاد وتنبيه لطيف، لفائدة مهمة، وهي: أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم، وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم، ونهاية ما يقصدون قصدا واحدا، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة، والقصد واحد، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور.

ابو وليد البحيرى
2019-05-20, 10:37 AM
الحلقة (207)
تفسير السعدى
فففسورة التوبةققق
من الأية(123) الى الأية(129)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ < 1-356 > غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وهذا أيضا إرشاد آخر، بعدما أرشدهم إلى التدبير فيمن يباشر القتال، أرشدهم إلى أنهم يبدأون بالأقرب فالأقرب من الكفار، والغلظة عليهم، والشدة في القتال، والشجاعة والثبات.
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي: وليكن لديكم علم أن المعونة من اللّه تنزل بحسب التقوى، فلازموا على تقوى اللّه، يعنكم وينصركم على عدوكم.
وهذا العموم في قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) مخصوص بما إذا كانت المصلحة في قتال غير الذين يلوننا، وأنواع المصالح كثيرة جدا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: مبينا حال المنافقين، وحال المؤمنين عند نزول القرآن، وتفاوت ما بين الفريقين، فقال: (وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ) فيها الأمر، والنهي، والخبر عن نفسه الكريمة، وعن الأمور الغائبة، والحث على الجهاد.
(فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) أي: حصل الاستفهام، لمن حصل له الإيمان بها من الطائفتين.
قال تعالى -مبينا الحال الواقعة-: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) بالعلم بها، وفهمها، واعتقادها، والعمل بها، والرغبة في فعل الخير، والانكفاف عن فعل الشر.
(وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) أي: يبشر بعضهم بعضا بما من اللّه عليهم من آياته، والتوفيق لفهمها والعمل بها. وهذا دال على انشراح صدورهم لآيات اللّه، وطمأنينة قلوبهم، وسرعة انقيادهم لما تحثهم عليه.
(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي: شك ونفاق (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) أي: مرضا إلى مرضهم، وشكا إلى شكهم، من حيث إنهم كفروا بها، وعاندوها وأعرضوا عنها، فازداد لذلك مرضهم، وترامى بهم إلى الهلاك (وَ) الطبع على قلوبهم، حتى (مَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ).
وهذا عقوبة لهم، لأنهم كفروا بآيات اللّه وعصوا رسوله، فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه.
قال تعالى -موبخا لهم على إقامتهم على ما هم عليه من الكفر والنفاق-: (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) بما يصيبهم من البلايا والأمراض، وبما يبتلون من الأوامر الإلهية التي يراد بها اختبارهم.
(ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) عما هم عليه من الشر (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) ما ينفعهم، فيفعلونه، وما يضرهم، فيتركونه.
فالله تعالى يبتليهم -كما هي سنته في سائر الأمم- بالسراء والضراء وبالأوامر والنواهي ليرجعوا إليه، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
وفي هذه الآيات دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، وأنه ينبغي للمؤمن، أن يتفقد إيمانه ويتعاهده، فيجدده وينميه، ليكون دائما في صعود.

وقوله : http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يعني: أن المنافقين الذين يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، إذا نزلت سورة ليؤمنوا بها، ويعملوا بمضمونها ( نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ) جازمين على ترك العمل بها، ينتظرون الفرصة في الاختفاء عن أعين المؤمنين، ويقولون: ( هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا ) متسللين، وانقلبوا معرضين، فجازاهم اللّه بعقوبة من جنس عملهم، فكما انصرفوا عن العمل ( صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) أي: صدها عن الحق وخذلها.
( بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) فقها ينفعهم، فإنهم لو فقهوا، لكانوا إذا نزلت سورة آمنوا بها، وانقادوا لأمرها.

والمقصود من هذا بيان شدة نفورهم عن الجهاد وغيره، من شرائع الإيمان، كما قال تعالى عنهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يمتن [تعالى] على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي الذي من أنفسهم، يعرفون حاله، ويتمكنون من الأخذ عنه، ولا يأنفون عن الانقياد له، وهو صلى الله عليه وسلم في غاية النصح لهم، والسعي في مصالحهم.
(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) أي: يشق عليه الأمر الذي يشق عليكم ويعنتكم.
< 1-357 >
(حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) فيحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه. (بِالْمُؤْمِنِي َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) أي: شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم.
ولهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به، وتعظيمه، وتعزيره، وتوقيره (فَإِنْ) آمنوا، فذلك حظهم وتوفيقهم، وإن (تَوَلَّوا) عن الإيمان والعمل، فامض على سبيلك، ولا تزل في دعوتك، وقل (حَسْبِيَ اللَّهُ) أي: الله كافيَّ في جميع ما أهمني، (لا إِلَهَ إِلا هُوَ) أي: لا معبود بحق سواه.
(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي: اعتمدت ووثقت به، في جلب ما ينفع، ودفع ما يضر، (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الذي هو أعظم المخلوقات. وإذا كان رب العرش العظيم، الذي وسع المخلوقات، كان ربا لما دونه من باب أولى وأحرى.

تم تفسير سورة التوبة بعون اللّه ومنه فلله الحمد أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

ابو وليد البحيرى
2019-06-04, 12:23 PM
الحلقة (208)
تفسير السعدى
فففسورة يونسققق
من الأية(1) الى الأية(6)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يونس
مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

يقول تعالى: ( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ) وهو هذا القرآن، المشتمل على الحكمة والأحكام، الدالة آياته على الحقائق الإيمانية والأوامر والنواهي الشرعية، الذي على جميع الأمة تلقيه بالرضا والقبول والانقياد.
ومع هذا فأعرض أكثرهم، فهم لا يعلمون، فتعجبوا ( أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ) عذاب الله، وخوفهم نقم الله، وذكرهم بآيات الله.
( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا ) إيمانا صادقا ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) أي: لهم جزاء موفور http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg وثواب مذخور عند ربهم بما قدموه وأسلفوه من الأعمال الصالحة الصادقة.
فتعجب الكافرون من هذا الرجل العظيم تعجبا حملهم على الكفر به، فـ ( قَالَ الْكَافِرُونَ ) عنه: ( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ) أي: بين السحر، لا يخفى بزعمهم على أحد، وهذا من سفههم وعنادهم، فإنهم تعجبوا من أمر ليس مما يتعجب منه ويستغرب، وإنما يتعجب من جهالتهم وعدم معرفتهم بمصالحهم.
كيف لم يؤمنوا بهذا الرسول الكريم، الذي بعثه الله من أنفسهم، يعرفونه حق المعرفة، فردوا دعوته، وحرصوا على إبطال دينه، والله متم نوره ولو كره الكافرون.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

يقول تعالى مبينا لربوبيته وإلهيته وعظمته: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة، ولكن لما له في ذلك من الحكمة الإلهية، ولأنه رفيق في أفعاله.
ومن جملة حكمته فيها، أنه خلقها بالحق وللحق، ليعرف بأسمائه وصفاته ويفرد بالعبادة.
( ثُمَّ ) بعد خلق السماوات والأرض ( اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) استواء يليق بعظمته.
( يُدَبِّرُ الأمْرَ ) في العالم العلوي والسفلي من الإماتة والإحياء، وإنزال الأرزاق، ومداولة الأيام بين الناس، وكشف الضر عن المضرورين، وإجابة سؤال السائلين.
فأنواع التدابير نازلة منه وصاعدة إليه، وجميع الخلق مذعنون لعزه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg خاضعون لعظمته وسلطانه.
( مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) فلا يقدم أحد منهم على الشفاعة، ولو كان أفضل الخلق، حتى يأذن الله ولا يأذن، إلا لمن ارتضى، ولا يرتضي إلا أهل الإخلاص والتوحيد له.
( ذَلِكُمْ ) الذي هذا شأنه ( اللَّهُ رَبُّكُمْ ) أي: هو الله الذي له وصف الإلهية الجامعة لصفات الكمال، ووصف الربوبية الجامع لصفات الأفعال.
( فَاعْبُدُوهُ ) أي: أفردوه بجميع ما تقدرون عليه من أنواع العبودية، ( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) الأدلة الدالة على أنه وحده المعبود المحمود، ذو الجلال والإكرام.
فلما ذكر حكمه القدري وهو التدبير العام، وحكمه الديني وهو شرعه، الذي مضمونه ومقصوده عبادته وحده لا شريك له، ذكر الحكم الجزائي، وهو مجازاته على الأعمال بعد الموت، فقال: ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ) أي: سيجمعكم بعد موتكم، لميقات يوم معلوم.
( إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُّمَ يُعِيدُهُ ) فالقادر على ابتداء الخلق قادر على إعادته، والذي يرى ابتداءه بالخلق، ثم ينكر إعادته للخلق، فهو فاقد العقل منكر لأحد المثلين مع إثبات ما هو أولى منه، فهذا دليل عقلي واضح على المعاد. ثم ذكر الدليل النقلي فقال: ( وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ) أي: وعده صادق لا بد من إتمامه ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ) بقلوبهم بما أمرهم الله بالإيمان به.
( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) بجوارحهم، من واجبات، ومستحبات، ( بِالْقِسْطِ ) أي: بإيمانهم وأعمالهم، جزاء قد بينه لعباده، وأخبر أنه لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا ) بآيات الله وكذبوا رسل الله.
( لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ ) أي: ماء حار، يشوي الوجوه، ويقطع الأمعاء. ( وَعَذَابٌ أَلِيمٌ ) من سائر أصناف العذاب ( بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) أي: بسبب كفرهم وظلمهم، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

لما قرر ربوبيته وإلهيته، ذكر الأدلة العقلية الأفقية الدالة على ذلك وعلى كماله، في أسمائه وصفاته، من الشمس والقمر، والسماوات والأرض وجميع ما خلق فيهما من سائر أصناف المخلوقات، وأخبر أنها آيات ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) و ( لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ).
فإن العلم يهدي إلى معرفة الدلالة فيها، وكيفية استنباط الدليل http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg على أقرب وجه، والتقوى تحدث في القلب الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، الناشئين عن الأدلة والبراهين، وعن العلم واليقين.
وحاصل ذلك أن مجرد خلق هذه المخلوقات بهذه الصفة، دال على كمال قدرة الله تعالى، وعلمه، وحياته، وقيوميته، وما فيها من الأحكام والإتقان والإبداع والحسن، دال على كمال حكمة الله، وحسن خلقه وسعة علمه. وما فيها من أنواع المنافع والمصالح -كجعل الشمس ضياء، والقمر نورا، يحصل بهما من النفع الضروري وغيره ما يحصل- يدل ذلك على رحمة الله تعالى واعتنائه بعباده وسعة بره وإحسانه، وما فيها من التخصيصات دال على مشيئة الله وإرادته النافذة.
وذلك دال على أنه وحده المعبود والمحبوب المحمود، ذو الجلال والإكرام والأوصاف العظام، الذي لا تنبغي الرغبة والرهبة إلا إليه، ولا يصرف خالص الدعاء إلا له، لا لغيره من المخلوقات المربوبات، المفتقرات إلى الله في جميع شئونها.
وفي هذه الآيات الحث والترغيب على التفكر في مخلوقات الله، والنظر فيها بعين الاعتبار، فإن بذلك تنفتح البصيرة، ويزداد الإيمان والعقل، وتقوى القريحة، وفي إهمال ذلك، تهاون بما أمر الله به، وإغلاق لزيادة الإيمان، وجمود للذهن والقريحة.

ابو وليد البحيرى
2019-06-04, 12:27 PM
الحلقة (209)
تفسير السعدى
فففسورة يونسققق
من الأية(7) الى الأية(14)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يونس
مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

يقول تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ) أي: لا يطمعون بلقاء الله، الذي هو أكبر ما طمع فيه الطامعون، وأعلى ما أمله المؤملون، بل أعرضوا عن ذلك، وربما كذبوا به ( وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) بدلا عن الآخرة.
( وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ) أي: ركنوا إليها، وجعلوها غاية مرامهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg ونهاية قصدهم، فسعوا لها وأكبوا على لذاتها وشهواتها، بأي طريق حصلت حصلوها، ومن أي وجه لاحت ابتدروها، قد صرفوا إرادتهم ونياتهم وأفكارهم وأعمالهم إليها.
فكأنهم خلقوا للبقاء فيها، وكأنها ليست دار ممر، يتزود منها المسافرون إلى الدار الباقية التي إليها يرحل الأولون والآخرون، وإلى نعيمها ولذاتها شمر الموفقون.
( وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ) فلا ينتفعون بالآيات القرآنية، ولا بالآيات الأفقية والنفسية، والإعراض عن الدليل مستلزم للإعراض والغفلة، عن المدلول المقصود.
( أُولَئِكَ ) الذين هذا وصفهم ( مَأْوَاهُمُ النَّارُ ) أي: مقرهم ومسكنهم التي لا يرحلون عنها.
( بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) من الكفر والشرك وأنواع المعاصي، فلما ذكر عقابهم ذكر ثواب المطيعين فقال:

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

يقول تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) أي: جمعوا بين الإيمان، والقيام بموجبه ومقتضاه من الأعمال الصالحة، المشتملة على أعمال القلوب وأعمال الجوارح، على وجه الإخلاص والمتابعة.
( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ) أي: بسبب ما معهم من الإيمان، يثيبهم الله أعظم الثواب، وهو الهداية، فيعلمهم ما ينفعهم، ويمن عليهم بالأعمال الناشئة عن الهداية، ويهديهم للنظر في آياته، ويهديهم في هذه الدار إلى الصراط المستقيم وفي الصراط المستقيم، وفي دار الجزاء إلى الصراط الموصل إلى جنات النعيم،. ولهذا قال: ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ ) الجارية على الدوام ( فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) أضافها الله إلى النعيم، لاشتمالها على النعيم التام، نعيم القلب بالفرح والسرور، والبهجة والحبور، ورؤية الرحمن وسماع كلامه، والاغتباط برضاه وقربه، ولقاء الأحبة والإخوان، والتمتع بالاجتماع بهم، وسماع الأصوات المطربات، والنغمات المشجيات، والمناظر المفرحات. ونعيم البدن بأنواع المآكل والمشارب، والمناكح ونحو ذلك، مما لا تعلمه النفوس، ولا خطر ببال أحد، أو قدر أن يصفه الواصفون.
( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ) أي عبادتهم فيها لله، أولها تسبيح لله وتنزيه له عن النقائض، وآخرها تحميد لله، فالتكاليف سقطت عنهم في دار الجزاء، وإنما بقي لهم أكمل اللذات، الذي هو ألذ عليهم من المآكل اللذيذة، ألا وهو ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، وتفرح به الأرواح، وهو لهم بمنزلة النَّفَس، من دون كلفة ومشقة.
( و ) أما ( تَحِيَّتُهُمْ ) فيما بينهم عند التلاقي والتزاور، فهو السلام، أي: كلام سالم من اللغو والإثم، موصوف بأنه ( سَلامٌ ) وقد قيل في تفسير قوله ( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ ) إلى آخر الآية، أن أهل الجنة -إذا احتاجوا إلى الطعام والشراب ونحوهما- قالوا سبحانك اللهم، فأحضر لهم في الحال.
فإذا فرغوا قالوا: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم ْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

وهذا من لطفه وإحسانه بعباده، أنه لو عجل لهم الشر إذا أتوا بأسبابه، وبادرهم بالعقوبة على ذلك، كما يعجل لهم الخير إذا أتوا بأسبابه ( لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ) أي: لمحقتهم العقوبة، ولكنه تعالى يمهلهم ولا يهملهم، ويعفو عن كثير من حقوقه، فلو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة.
ويدخل في هذا، أن العبد إذا غضب على أولاده أو أهله أو ماله، ربما دعا عليهم دعوة لو قبلت منه لهلكوا، ولأضره ذلك غاية الضرر، ولكنه تعالى حليم حكيم.
وقوله: ( فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ) أي: لا يؤمنون بالآخرة، فلذلك لا يستعدون لها، ولا يعلمون ما ينجيهم من عذاب الله، ( فِي طُغْيَانِهِمْ ) أي: باطلهم، الذي جاوزوا به الحق والحد.
( يَعْمَهُونَ ) يترددون حائرين، لا يهتدون السبيل، ولا يوفقون لأقوم دليل، وذلك عقوبة لهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg على ظلمهم، وكفرهم بآيات الله.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

وهذا إخبار عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه إذا مسه ضر، من مرض أو مصيبة اجتهد في الدعاء، وسأل الله في جميع أحواله، قائما وقاعدا ومضطجعا، وألح في الدعاء ليكشف الله عنه ضره.
( فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ ) أي: استمر في غفلته معرضا عن ربه، كأنه ما جاءه ضره، فكشفه الله عنه، فأي ظلم أعظم من هذا الظلم؟!! يطلب من الله قضاء غرضه، فإذا أناله إياه لم ينظر إلى حق ربه، وكأنه ليس عليه لله حق. وهذا تزيين من الشيطان، زين له ما كان مستهجنا مستقبحا في العقول والفطر.
( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ) أي: المتجاوزين للحد ( مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ).
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

يخبر تعالى أنه أهلك الأمم الماضية بظلمهم وكفرهم، بعد ما جاءتهم البينات على أيدي الرسل تبين الحق فلم ينقادوا لها ولم يؤمنوا. فأحل بهم عقابه الذي لا يرد عن كل مجرم متجرئ على محارم الله، وهذه سنته في جميع الأمم.
( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ ) أيها المخاطبون ( خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) فإن أنتم اعتبرتم واتعظتم بمن قبلكم واتبعتم آيات الله وصدقتم رسله، نجوتم في الدنيا والآخرة.
وإن فعلتم كفعل الظالمين قبلكم، أحل بكم ما أحل بهم، ومن أنذر فقد أعذر.

ابو وليد البحيرى
2019-06-04, 12:31 PM
الحلقة (210)
تفسير السعدى
فففسورة يونسققق
من الأية(15) الى الأية(20)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يونس
مكية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يذكر تعالى تعنت المكذبين لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم إذا تتلى عليهم آيات الله القرآنية المبينة للحق، أعرضوا عنها، وطلبوا وجوه التعنت فقالوا، جراءة منهم وظلما: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) فقبحهم الله، ما أجرأهم على الله، وأشدهم ظلما وردا لآياته.
فإذا كان الرسول العظيم يأمره الله، أن يقول لهم: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي) أي: ما ينبغي ولا يليق (أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي) فإني رسول محض، ليس لي من الأمر شيء، (إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى < 1-360 > إِلَيَّ) أي: ليس لي غير ذلك، فإني عبد مأمور، (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فهذا قول خير الخلق وأدبه مع أوامر ربه ووحيه، فكيف بهؤلاء السفهاء الضالين، الذين جمعوا بين الجهل والضلال، والظلم والعناد، والتعنت والتعجيز لرب العالمين، أفلا يخافون عذاب يوم عظيم؟!!.

فإن زعموا أن قصدهم أن يتبين لهم الحق بالآيات التي طلبوا فهم كذبة في ذلك، فإن الله قد بين من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، وهو الذي يصرفها كيف يشاء، تابعا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لحكمته الربانية، ورحمته بعباده.
(قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا) طويلا (مِنْ قَبْلِهِ) أي: قبل تلاوته، وقبل درايتكم به، وأنا ما خطر على بالي، ولا وقع في ظني.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أني حيث لم أتقوله في مدة عمري، ولا صدر مني ما يدل على ذلك، فكيف أتقوله بعد ذلك، وقد لبثت فيكم عمرا طويلا تعرفون حقيقة حالي، بأني أمي لا أقرأ ولا أكتب، ولا أدرس ولا أتعلم من أحد؟!!
فأتيتكم بكتاب عظيم أعجز الفصحاء، وأعيا العلماء، فهل يمكن -مع هذا- أن يكون من تلقاء نفسي، أم هذا دليل قاطع أنه تنزيل من حكيم حميد؟
فلو أعملتم أفكاركم وعقولكم، وتدبرتم حالي وحال هذا الكتاب، لجزمتم جزما لا يقبل الريب بصدقه، وأنه الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، ولكن إذ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg أبيتم إلا التكذيب والعناد، فأنتم لا شك أنكم ظالمون.
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) ؟!!
فلو كنت متقولا لكنت أظلم الناس، وفاتني الفلاح، ولم تخف عليكم حالي، ولكني جئتكم بآيات الله، فكذبتم بها، فتعين فيكم الظلم، ولا بد أن أمركم سيضمحل، ولن تنالوا الفلاح، ما دمتم كذلك.
ودل قوله: (قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) الآية، أن الذي حملهم على هذا التعنت الذي صدر منهم هو عدم إيمانهم بلقاء الله وعدم رجائه، وأن من آمن بلقاء الله فلا بد أن ينقاد لهذا الكتاب ويؤمن به، لأنه حسن القصد.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( وَيَعْبُدُونَ ) أي: المشركون المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
( مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ) أي: لا تملك لهم مثقال ذرة من النفع ولا تدفع عنهم شيئا.
( وَيَقُولُونَ ) قولا خاليا من البرهان: ( هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ) أي: يعبدونهم ليقربوهم إلى الله، ويشفعوا لهم عنده، وهذا قول من تلقاء أنفسهم، وكلام ابتكروه هم، ولهذا قال تعالى -مبطلا لهذا القول-: ( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ ) أي: الله تعالى هو العالم، الذي أحاط علما بجميع ما في السماوات والأرض، وقد أخبركم بأنه ليس له شريك ولا إله معه، أفأنتم-يا معشر المشركين- تزعمون أنه يوجد له فيها شركاء؟ أفتخبرونه بأمر خفي عليه، وعلمتوه؟ أأنتم أعلم أم الله؟ فهل يوجد قول أبطل من هذا القول، المتضمن أن هؤلاء الضلال الجهال السفهاء أعلم من رب العالمين؟ فليكتف العاقل بمجرد تصور هذا القول، فإنه يجزم بفساده وبطلانه: ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) أي: تقدس وتنزه أن يكون له شريك أو نظير، بل هو الله الأحد الفرد الصمد الذي لا إله في السماوات والأرض إلا هو، وكل معبود في العالم العلوي والسفلي سواه، فإنه باطل عقلا وشرعا وفطرة.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِين َ (20) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً ) متفقين على الدين الصحيح، ولكنهم اختلفوا، فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) بإمهال العاصين وعدم معاجلتهم بذنوبهم، ( لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) بأن ننجي المؤمنين، ونهلك الكافرين المكذبين، وصار هذا فارقا بينهم ( فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ولكنه أراد امتحانهم وابتلاء بعضهم ببعض، ليتبين الصادق من الكاذب.
< 1-361 >
( وَيَقُولُونَ ) أي: المكذبون المتعنتون، ( لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) يعنون: آيات الاقتراح التي يعينونها كقولهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآيات.
وكقولهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآيات.
( فَقُلْ ) لهم إذا طلبوا منك آية ( إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ) أي: هو المحيط علما بأحوال العباد، فيدبرهم بما يقتضيه علمه فيهم وحكمته البديعة، وليس لأحد تدبير في حكم ولا دليل، ولا غاية ولا تعليل.
( فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِين َ ) أي: كل ينتظر بصاحبه ما هو أهل له، فانظروا لمن تكون العاقبة.

ابو وليد البحيرى
2019-06-09, 09:18 AM
الحلقة (211)
تفسير السعدى
فففسورة يونسققق
من الأية(21) الى الأية(25)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يونس
مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ ) كالصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر، والأمن بعد الخوف، نسوا ما أصابهم من الضراء، ولم يشكروا الله على الرخاء والرحمة، بل استمروا في طغيانهم ومكرهم.
ولهذا قال: ( إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ) أي يسعون بالباطل، ليبطلوا به الحق.
( قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ) فإن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، فمقصودهم منعكس عليهم، ولم يسلموا من التبعة، بل تكتب الملائكة عليهم ما يعملون، ويحصيه الله عليهم، ثم يجازيهم [الله] عليه أوفر الجزاء.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما ذكر تعالى القاعدة العامة في أحوال الناس عند إصابة الرحمة لهم بعد الضراء، واليسر بعد العسر، ذكر حالة، تؤيد ذلك، وهي حالهم في البحر عند اشتداده، والخوف من عواقبه، فقال: ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) بما يسر لكم من الأسباب المسيرة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لكم فيها، وهداكم إليها.
( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ) أي: السفن البحرية ( وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) موافقة لما يهوونه، من غير انزعاج ولا مشقة.
( وَفَرِحُوا بِهَا ) واطمأنوا إليها، فبينما هم كذلك، إذ ( جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ) شديدة الهبوب ( وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ) أي: عرفوا أنه الهلاك، فانقطع حينئذ تعلقهم بالمخلوقين، وعرفوا أنه لا ينجيهم من هذه الشدة إلا الله وحده، فدَعَوُه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ووعدوا من أنفسهم على وجه الإلزام، فقالوا: ( لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) ( فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) أي: نسوا تلك الشدة وذلك الدعاء، وما ألزموه أنفسهم، فأشركوا بالله، من اعترفوا بأنه لا ينجيهم من الشدائد، ولا يدفع عنهم المضايق، فهلا أخلصوا لله العبادة في الرخاء، كما أخلصوها في الشدة؟!!
ولكن هذا البغي يعود وباله عليهم، ولهذا قال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي: غاية ما تؤملون ببغيكم، وشرودكم عن الإخلاص لله، أن تنالوا شيئًا من حطام الدنيا وجاهها النزر اليسير الذي سينقضي سريعًا، ويمضي جميعًا، ثم تنتقلون عنه بالرغم.
( ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ ) في يوم القيامة ( فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) وفي هذا غاية التحذير لهم عن الاستمرار على عملهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

وهذا المثل من أحسن الأمثلة، وهو مطابق لحالة الدنيا، فإن لذاتها وشهواتها وجاهها ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتًا قصيرًا، فإذا استكمل وتم اضمحل، وزال عن صاحبه، أو زال صاحبه عنه، فأصبح صفر اليدين منها، ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها.
فذلك ( كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ ) أي: نبت فيها من كل صنف، وزوج بهيج ( مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ ) كالحبوب والثمار ( وَ ) مما تأكل ( الأنْعَامُ ) كأنواع العشب، والكلأ المختلف الأصناف.
( حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ ) أي: تزخرفت في منظرها، واكتست في زينتها، فصارت بهجة للناظرين، ونزهة للمتفرجين، وآية < 1-362 > للمتبصرين، فصرت ترى لها منظرًا عجيبًا ما بين أخضر، وأصفر، وأبيض وغيره.
( وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ) أي: حصل معهم طمع، بأن ذلك سيستمر ويدوم، لوقوف إرادتهم عنده، وانتهاء مطالبهم فيه.
فبينما هم في تلك الحالة ( أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ ) أي: كأنها ما كانت فهذه حالة الدنيا، سواء بسواء.
( كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ) أي: نبينها ونوضحها، بتقريب المعاني إلى الأذهان، وضرب الأمثال ( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) أي: يعملون أفكارهم فيما ينفعهم.
وأما الغافل المعرض، فهذا لا تنفعه الآيات، ولا يزيل عنه الشك البيان.

ولما ذكر الله حال الدنيا، وحاصل نعيمها، شوق إلى الدار الباقية فقال:

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
عم تعالى عباده بالدعوة إلى دار السلام، والحث على ذلك، والترغيب، وخص بالهداية من شاء استخلاصه واصطفاءه، فهذا فضله وإحسانه، والله يختص برحمته من يشاء، وذلك عدله وحكمته، وليس لأحد عليه حجة بعد البيان والرسل، وسمى الله الجنة "دار السلام"لسلامتها من جميع الآفات والنقائص، وذلك لكمال نعيمها وتمامه وبقائه، وحسنه من كل وجه.

ابو وليد البحيرى
2019-06-09, 09:25 AM
الحلقة (212)
تفسير السعدى
فففسورة يونسققق
من الأية(26) الى الأية(33)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يونس
مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg

ولما دعا إلى دار السلام، كأن النفوس تشوقت إلى الأعمال الموجبة لها الموصلة إليها، فأخبر عنها بقوله: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) أي: للذين أحسنوا في عبادة الخالق، بأن عبدوه على وجه المراقبة والنصيحة في عبوديته، وقاموا بما قدروا عليه منها، وأحسنوا إلى عباد الله بما يقدرون عليه من الإحسان القولي والفعلي، من بذل الإحسان المالي، والإحسان البدني، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهلين، ونصيحة المعرضين، وغير ذلك من وجوه البر والإحسان.

فهؤلاء الذين أحسنوا، لهم "الحسنى" وهي الجنة الكاملة في حسنها و "زيادة"وهي النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، والفوز برضاه والبهجة بقربه، فبهذا حصل لهم أعلى ما يتمناه المتمنون، ويسأله السائلون.
ثم ذكر اندفاع المحذور عنهم فقال: ( وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ) أي: لا ينالهم مكروه، بوجه من الوجوه، لأن المكروه، إذا وقع بالإنسان، تبين ذلك في وجهه، وتغير وتكدر.
وأما هؤلاء - فهم كما قال الله عنهم - http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ) الملازمون لها ( هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) لا يحولون ولا يزولون، ولا يتغيرون.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

لما ذكر أصحاب الجنة ذكر أصحاب النار، فذكر أن بضاعتهم التي اكتسبوها في الدنيا هي الأعمال السيئة المسخطة لله، من أنواع الكفر والتكذيب، وأصناف المعاصي، فجزاؤهم سيئة مثلها أي: جزاء يسوؤهم بحسب ما عملوا من السيئات على اختلاف أحوالهم.

( وَتَرْهَقُهُمْ ) أي: تغشاهم ( ذِلَّةٌ ) في قلوبهم وخوف من عذاب الله، لا يدفعه عنهم دافع ولا يعصمهم منه عاصم، وتسري تلك الذلة الباطنة إلى ظاهرهم، فتكون سوادًا في الوجوه .
( كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) فكم بين الفريقين من الفرق، ويا بعد ما بينهما من التفاوت؟!
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .


يقول تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ) أي: نجمع جميع الخلائق، لميعاد يوم معلوم، ونحضر المشركين، وما كانوا يعبدون من دون الله.
( ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ) أي: الزموا مكانكم ليقع التحاكم والفصل بينكم وبينهم.
( فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ) أي: فرقنا بينهم، بالبعد البدني والقلبي، وحصلت بينهم العداوة الشديدة، بعد أن بذلوا لهم في الدنيا خالص المحبة وصفو الوداد، فانقلبت تلك المحبة والولاية بغضًا وعداوة.
وتبرأ شُرَكَاؤُهُمْ منهم وقالوا: ( مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ) فإننا ننزه الله أن يكون له شريك، أو نديد.
( فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ) ما أمرناكم بها، ولا دعوناكم لذلك، وإنما عبدتم من دعاكم إلى ذلك، وهو الشيطان كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
وقال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
فالملائكة الكرام والأنبياء والأولياء ونحوهم يتبرؤون ممن عبدهم يوم القيامة ويتنصلون من دعائهم إياهم إلى عبادتهم وهم الصادقون البارون في ذلك، فحينئذ يتحسر المشركون حسرة لا يمكن وصفها، ويعلمون مقدار ما قدموا من الأعمال، وما أسلفوا من رديء الخصال، ويتبين لهم يومئذ أنهم كانوا كاذبين، وأنهم مفترون على الله، قد ضلت عبادتهم، واضمحلت معبوداتهم، وتقطعت بهم الأسباب والوسائل.
ولهذا قال تعالى: ( هُنَالِكَ ) أي: في ذلك اليوم ( تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ) أي: تتفقد أعمالها وكسبها، وتتبعه بالجزاء، وتجازي بحسبه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وضل عنهم ما كانوا يفترون من قولهم بصحة ما هم عليه من الشرك وأن ما يعبدون من دون الله تنفعهم وتدفع عنهم العذاب.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

أي: ( قُلْ ) لهؤلاء الذين أشركوا بالله، ما لم ينزل به سلطانًا - محتجًا عليهم بما أقروا به من توحيد الربوبية، على ما أنكروه من توحيد الإلهية- ( مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) بإنزال الأرزاق من السماء، وإخراج أنواعها من الأرض، وتيسير أسبابها فيها؟
( أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ ) أي: من هو الذي خلقهما وهو مالكهما؟، وخصهما بالذكر من باب التنبيه على المفضول بالفاضل، ولكمال شرفهما ونفعهما.
( وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ) كإخراج أنواع الأشجار والنبات من الحبوب والنوى، وإخراج المؤمن من الكافر، والطائر من البيضة، ونحو ذلك، ( وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) عكس هذه المذكورات، ( وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ ) في العالم العلوي والسفلي، وهذا شامل لجميع أنواع التدابير الإلهية، فإنك إذا سألتهم عن ذلك ( فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ) لأنهم يعترفون بجميع ذلك، وأن الله لا شريك له في شيء من المذكورات.
( فَقُلْ ) لهم إلزامًا بالحجة ( أَفَلا تَتَّقُونَ ) الله فتخلصون له العبادة وحده لا شريك له، وتخلعون ما تعبدون من دونه من الأنداد والأوثان.
( فَذَلِكُمُ ) الذي وصف نفسه بما وصفها به ( اللَّهُ رَبُّكُم ) أي: المألوه المعبود المحمود، المربي جميع الخلق بالنعم وهو: ( الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ ).
فإنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير لجميع الأشياء، الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو، ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العظيمة والجلال والإكرام.
( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) عن عبادة من هذا وصفه، إلى عبادة الذي ليس له من وجوده إلا العدم، ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.

فليس له من الملك مثقال ذرة، ولا شركة له بوجه من الوجوه، ولا يشفع عند الله إلا بإذنه، فتبا لمن أشرك به، وويحًا لمن كفر به، لقد عدموا عقولهم، بعد أن عدموا أديانهم، بل فقدوا دنياهم وأخراهم.
ولهذا قال تعالى عنهم: ( كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) بعد ما أراهم الله من الآيات البينات والبراهين النيرات، ما فيه عبرة لأولي الألباب، وموعظة للمتقين وهدى للعالمين.

ابو وليد البحيرى
2019-06-09, 09:28 AM
الحلقة (213)
تفسير السعدى
فففسورة يونسققق
من الأية(34) الى الأية(42)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يونس
مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg

يقول تعالى - مبينًا عجز آلهة المشركين، وعدم اتصافها بما يوجب اتخاذها آلهة مع الله- ( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ) أي: يبتديه ( ثُمَّ يُعِيدُهُ ) وهذا استفهام بمعنى النفي والتقرير، أي: ما منهم أحد يبدأ الخلق ثم يعيده، وهي أضعف من ذلك وأعجز، ( قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) من غير مشارك ولا معاون له على ذلك.
( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) أي: تصرفون، وتنحرفون عن عبادة المنفرد بالابتداء، والإعادة إلى عبادة من لا يخلق شيئًا وهم يخلقون.
( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ) ببيانه وإرشاده، أو بإلهامه وتوفيقه.
( قُلِ اللَّهُ ) وحده ( يَهْدِي لِلْحَقِّ ) بالأدلة والبراهين، وبالإلهام والتوفيق، والإعانة إلى سلوك أقوم طريق.
( أَمَّنْ لا يَهِدِّي ) أي: لا يهتدي ( إِلا أَنْ يُهْدَى ) لعدم علمه، ولضلاله، وهي شركاؤهم، التي لا تهدي ولا تهتدي إلا أن تهدى ( فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) أي: أيّ شيء جعلكم تحكمون هذا الحكم الباطل، بصحة عبادة أحد مع الله، بعد ظهور الحجة والبرهان، أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده.
فإذا تبين أنه ليس في آلهتهم التي يعبدون مع الله أوصافا معنوية، ولا أوصافا فعلية، تقتضي أن تعبد مع الله، بل هي متصفة بالنقائص الموجبة لبطلان إلهيتها، فلأي شيء جعلت مع الله آلهة؟
فالجواب: أن هذا من تزيين الشيطان للإنسان، أقبح البهتان، وأضل الضلال، حتى اعتقد ذلك وألفه، وظنه حقًا، وهو لا شيء.
ولهذا قال: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء أي: ما يتبعون في الحقيقة شركاء لله، فإنه ليس لله شريك أصلا عقلا ولا نقلا وإنما يتبعون الظن و ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) فسموها آلهة، وعبدوها مع الله، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ) وسيجازيهم على ذلك بالعقوبة البليغة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِين َ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

يقول تعالى: ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ) أي: غير ممكن ولا متصور، أن يفترى هذا القرآن على الله تعالى، لأنه الكتاب العظيم الذي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg وهو الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، وهو كتاب الله الذي تكلم به [رب العالمين]، فكيف يقدر أحد من الخلق، أن يتكلم بمثله، أو بما يقاربه، والكلام تابع لعظمة المتكلم ووصفه؟!!.
فإن كان أحد يماثل الله في عظمته، وأوصاف كماله، أمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن، ولو تنزلنا على الفرض والتقدير، فتقوله أحد على رب العالمين، لعاجله بالعقوبة، وبادره بالنكال.
( وَلَكِنْ ) الله أنزل هذا الكتاب، رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين.
أنزله ( تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) من كتب الله السماوية، بأن وافقها، وصدقها بما شهدت به، وبشرت بنزوله، فوقع كما أخبرت.
( وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ ) للحلال والحرام، والأحكام الدينية والقدرية، والإخبارات الصادقة.
( لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي: لا شك ولا مرية فيه بوجه من الوجوه، بل هو الحق اليقين: تنزيل من رب العالمين الذي ربى جميع الخلق بنعمه.
ومن أعظم أنواع تربيته أن أنزل عليهم هذا الكتاب الذي فيه مصالحهم الدينية والدنيوية، المشتمل على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.
( أَمْ يَقُولُونَ ) أي: المكذبون به عنادًا وبغيًا: ( افْتَرَاهُ ) محمد على الله، واختلقه، ( قُلْ ) لهم -ملزما لهم بشيء- إن قدروا عليه، أمكن ما ادعوه، وإلا كان قولهم باطلا.
( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) يعاونكم على الإتيان بسورة مثله، وهذا محال، ولو كان ممكنًا لادعوا قدرتهم على ذلك، ولأتوا بمثله.
ولكن لما بان عجزهم تبين أن ما قالوه باطل، لا حظ له من الحجة، والذي حملهم على التكذيب بالقرآن المشتمل على الحق الذي لا حق فوقه، أنهم لم يحيطوا به علمًا.
فلو أحاطوا به علمًا وفهموه حق فهمه، لأذعنوا بالتصديق به، وكذلك إلى الآن لم يأتهم تأويله الذي وعدهم أن ينزل بهم العذاب ويحل بهم النكال، وهذا التكذيب الصادر منهم، من جنس تكذيب من قبلهم، ولهذا قال: ( كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) وهو الهلاك الذي لم يبق منهم أحدًا.
فليحذر هؤلاء، أن يستمروا على تكذيبهم، فيحل بهم ما أحل بالأمم المكذبين والقرون المهلكين.
وفي هذا دليل على التثبت في الأمور، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يبادر بقبول شيء أو رده، قبل أن يحيط به علمًا.
( وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ) أي: بالقرآن وما جاء به، ( وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِين َ ) وهم الذين لا يؤمنون به على وجه العناد والظلم والفساد، فسيجازيهم على فسادهم بأشد العذاب.
( وَإِنْ كَذَّبُوكَ ) فاستمر على دعوتك، وليس عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء، لكل عمله. ( فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ).

كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/255.jpg وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/256.jpg .

يخبر تعالى عن بعض المكذبين للرسول، ولما جاء به، ( وَ ) أن (منهم مَنْ يَسْتَمِعُونَ) إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقت قراءته للوحي، لا على وجه الاسترشاد، بل على وجه التفرج والتكذيب وتطلب http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/257.jpg العثرات، وهذا استماع غير نافع، ولا مُجدٍ على أهله خيرًا، لا جرم انسد عليهم باب التوفيق، وحرموا من فائدة الاستماع، ولهذا قال: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ) وهذا الاستفهام، بمعنى النفي المتقرر، أي: لا تسمع الصم الذين لا يستمعون القول ولو جهرت به، وخصوصًا إذا كان عقلهم معدومًا.

فإذا كان من المحال إسماع الأصم الذي لا يعقل للكلام، فهؤلاء المكذبون، كذلك ممتنع إسماعك إياهم، إسماعًا ينتفعون به.
وأما إسماع الحجة، فقد سمعوا ما تقوم عليهم به حجة الله البالغة، فهذا طريق عظيم من طرق العلم قد انسد عليهم، وهو طريق المسموعات المتعلقة بالخير.

ابو وليد البحيرى
2019-06-09, 09:33 AM
الحلقة (214)
تفسير السعدى
فففسورة يونسققق
من الأية(43) الى الأية(53)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يونس
مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ثم ذكر انسداد الطريق الثاني، وهو: طريق النظر فقال: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ) فلا يفيده نظره إليك، ولا سبر أحوالك شيئًا، فكما أنك لا تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون، فكذلك لا تهدي هؤلاء.
فإذا فسدت عقولهم وأسماعهم وأبصارهم التي هي الطرق الموصلة إلى العلم ومعرفة الحقائق، فأين الطريق الموصل لهم إلى الحق؟
ودل قوله: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ) الآية، أن النظر إلى حالة النبي صلى الله عليه وسلم، وهديه وأخلاقه وأعماله وما يدعو إليه من أعظم الأدلة على صدقه وصحة ما جاء به، وأنه يكفي البصير عن غيره من الأدلة.
وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ) فلا يزيد في سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم.
( وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) يجيئهم الحق فلا يقبلونه، فيعاقبهم الله بعد ذلك بالطبع على قلوبهم، والختم على أسماعهم وأبصارهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى، عن سرعة انقضاء الدنيا، وأن الله تعالى إذا حشر الناس وجمعهم ليوم لا ريب فيه، كأنهم ما لبثوا إلا ساعة من نهار، وكأنه ما مر عليهم نعيم ولا بؤس، وهم يتعارفون بينهم، كحالهم في الدنيا، ففي هذا اليوم يربح المتقون، ويخسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين إلى الصراط المستقيم والدين القويم، حيث فاتهم النعيم، واستحقوا دخول النار.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّك َ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
أي: لا تحزن أيها الرسول على هؤلاء المكذبين، ولا تستعجل لهم، فإنهم لا بد أن يصيبهم الذي نعدهم من العذاب.
إما في الدنيا فتراه بعينك، وتقر به نفسك.
وإما في الآخرة بعد الوفاة، فإن مرجعهم إلى الله، وسينبئهم بما كانوا يعملون، أحصاه ونسوه، والله على كل شيء شهيد، ففيه الوعيد الشديد لهم، والتسلية للرسول الذي كذبه قومه وعاندوه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ) من الأمم الماضية ( رَسُولٌ ) يدعوهم إلى توحيد الله ودينه.

( فَإِذَا جَاءَ ) هم ( رَسُولُهُمْ ) بالآيات، صدقه بعضهم، وكذبه آخرون، فيقضي الله بينهم بالقسط بنجاة المؤمنين، وإهلاك المكذبين ( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) بأن يعذبوا قبل إرسال الرسول وبيان الحجة، أو يعذبوا بغير جرمهم، فليحذر المكذبون لك من مشابهة الأمم المهلكين، فيحل بهم ما حل بأولئك.
ولا يستبطئوا العقوبة ويقولوا: ( مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) فإن هذا ظلم منهم، حيث طلبوه من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس له من الأمر شيء، وإنما عليه البلاغ والبيان للناس.
< 1-366 >
وأما حسابهم وإنزال العذاب عليهم، فمن الله تعالى، ينزله عليهم إذا جاء الأجل الذي أجله فيه، والوقت الذي قدره فيه، الموافق لحكمته الإلهية.
فإذا جاء ذلك الوقت لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، فليحذر المكذبون من الاستعجال بالعذاب، فإنهم مستعجلون بعذاب الله الذي إذا نزل لا يرد بأسه عن القوم المجرمين، ولهذا قال:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg


يقول تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا ) وقت نومكم بالليل ( أَوْ نَهَارًا ) في وقت غفلتكم ( مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ) أي: أي بشارة استعجلوا بها؟ وأي عقاب ابتدروه؟.

( أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ) فإنه لا ينفع الإيمان حين حلول عذاب الله، ويقال لهم توبيخًا وعتابًا في تلك الحال التي زعموا أنهم يؤمنون، ( آلآنَ ) تؤمنون في حال الشدة والمشقة؟ ( وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) فإن سنة الله في عباده أنه يعتبهم إذا استعتبوه قبل وقوع العذاب، فإذا وقع العذاب لا ينفع نفسًا إيمانها، كما قال تعالى عن فرعون، لما أدركه الغرق http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وأنه يقال له: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وقال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وقال هنا: ( أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ ) تدعون الإيمان ( وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) فهذا ما عملت أيديكم، وهذا ما استعجلتم به.
( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ) حين يوفون أعمالهم يوم القيامة: ( ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ ) أي: العذاب الذي تخلدون فيه، ولا يفتر عنكم ساعة. ( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) من الكفر والتكذيب والمعاصي.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيَسْتَنْبِئُو نَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( وَيَسْتَنْبِئُو نَكَ أَحَقٌّ هُوَ ) أي: يستخبرك المكذبون على وجه التعنت والعناد، لا على وجه التبين والرشاد

( أَحَقٌّ هُوَ ) أى: أصحيح حشر العباد، وبعثهم بعد موتهم ليوم المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر؟

( قُلْ ) لهم مقسمًا على صحته، مستدلا عليه بالدليل الواضح والبرهان: ( إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ) لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه.
( وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) لله أن يبعثكم، فكما ابتدأ خلقكم ولم تكونوا شيئًا، كذلك يعيدكم مرة أخرى ليجازيكم بأعمالكم.

ابو وليد البحيرى
2019-06-09, 09:37 AM
الحلقة (215)
تفسير السعدى
فففسورة يونسققق
من الأية(54) الى الأية(61)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يونس
مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

(و) إذا كانت القيامة فـ ( لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ) بالكفر والمعاصي جميع ( مَا فِي الأرْضِ ) من ذهب وفضة وغيرهما، لتفتدي به من عذاب الله ( لافْتَدَتْ بِهِ ) ولما نفعها ذلك، وإنما النفع والضر والثواب والعقاب، على الأعمال الصالحة والسيئة.
( وَأَسَرُّوا ) [أي] الذين ظلموا ( النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ) ندموا على ما قدموا، ولات حين مناص، ( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) أي: العدل التام الذي لا ظلم ولا جور فيه بوجه من الوجوه.
( أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يحكم فيهم بحكمه الديني والقدري، وسيحكم فيهم بحكمه الجزائي. ولهذا قال: ( أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) فلذلك لا يستعدون للقاء الله، بل ربما لم يؤمنوا به، وقد تواترت عليه الأدلة القطعية والبراهين النقلية والعقلية.
( هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ) أي: هو المتصرف بالإحياء والإماتة، وسائر أنواع التدبير http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ، لا شريك له في ذلك.
( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يوم القيامة، فيجازيكم بأعمالكم خيرها وشرها.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى - مرغبًا للخلق في الإقبال على هذا الكتاب الكريم، بذكر أوصافه الحسنة الضرورية للعباد فقال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي: تعظكم، وتنذركم عن الأعمال الموجبة < 1-367 > لسخط الله، المقتضية لعقابه وتحذركم عنها ببيان آثارها ومفاسدها.
( وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ) وهو هذا القرآن، شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع وأمراض الشبهات، القادحة في العلم اليقيني، فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة.
وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن، أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه.
وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرفها الله غاية التصريف، وبينها أحسن بيان، مما يزيل الشبه القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين.
وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده. ( وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) فالهدى هو العلم بالحق والعمل به.
والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل، لمن اهتدى به، فالهدى أجل الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب، ولكن لا يهتدي به، ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين.
وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور.
ولذلك أمر تعالى بالفرح بذلك فقال: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ ) الذي هو القرآن، الذي هو أعظم نعمة ومنة، وفضل تفضل الله به على عباده ( وَبِرَحْمَتِهِ ) الدين والإيمان، وعبادة الله ومحبته ومعرفته. ( فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) من متاع الدنيا ولذاتها.
فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين، لا نسبة بينها، وبين جميع ما في الدنيا، مما هو مضمحل زائل عن قريب.
وإنما أمر الله تعالى بالفرح بفضله ورحمته، لأن ذلك مما يوجب انبساط النفس ونشاطها، وشكرها لله تعالى، وقوتها، وشدة الرغبة في العلم والإيمان الداعي للازدياد منهما، وهذا فرح محمود، بخلاف الفرح بشهوات الدنيا ولذاتها، أو الفرح بالباطل، فإن هذا مذموم كما قال [تعالى عن] قوم قارون له: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وكما قال تعالى في الذين فرحوا بما عندهم من الباطل المناقض لما جاءت به الرسل: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى - منكرًا على المشركين، الذين ابتدعوا تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم -: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ ) يعني أنواع الحيوانات المحللة، التي جعلها الله رزقا لهم ورحمة في حقهم. ( فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا ) قل لهم - موبخا على هذا القول الفاسد-: ( آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ) ومن المعلوم أن الله لم يأذن لهم، فعلم أنهم مفترون.
( وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) أن يفعل الله بهم من النكال، ويحل بهم من العقاب، قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) كثير، وذو إحسان جزيل، وَلَكِنَّ أكثر الناس لا يشكرون، إما أن لا يقوموا بشكرها، وإما أن يستعينوا بها على معاصيه، وإما أن يحرموا منها، ويردوا ما منَّ الله به على عباده، وقليل منهم الشاكر الذي يعترف بالنعمة، ويثني بها على الله، ويستعين بها على طاعته.
ويستدل بهذه الآية على أن الأصل في جميع الأطعمة الحل، إلا ما ورد الشرع بتحريمه، لأن الله أنكر على من حرم الرزق الذي أنزله لعباده.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى، عن عموم مشاهدته، واطلاعه على جميع أحوال العباد في حركاتهم، وسكناتهم، وفي ضمن هذا، الدعوة لمراقبته على الدوام فقال: ( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ) أي: حال من أحوالك الدينية والدنيوية. ( وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ) أي: وما تتلو من القرآن الذي أوحاه الله إليك.
( وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ ) صغير أو كبير ( إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) أي: وقت شروعكم فيه، واستمراركم على العمل به.
< 1-368 >
فراقبوا الله في أعمالكم، وأدوها على وجه النصيحة، والاجتهاد فيها، وإياكم، وما يكره الله تعالى، فإنه مطلع عليكم، عالم بظواهركم وبواطنكم.
( وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ ) أي: ما يغيب http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg عن علمه، وسمعه، وبصره ومشاهدته ( مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) أي: قد أحاط به علمه، وجرى به قلمه.

وهاتان المرتبتان من مراتب القضاء والقدر، كثيرًا ما يقرن الله بينهما، وهما: العلم المحيط بجميع الأشياء، وكتابته المحيطة بجميع الحوادث، كقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-06-09, 09:40 AM
الحلقة (216)
تفسير السعدى
فففسورة يونسققق
من الأية(62) الى الأية(70)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يونس
مكية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن أوليائه وأحبائه، ويذكر أعمالهم وأوصافهم، وثوابهم فقال: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) فيما يستقبلونه مما أمامهم من المخاوف والأهوال.
( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) على ما أسلفوا، لأنهم لم يسلفوا إلا صالح الأعمال، وإذا كانوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ثبت لهم الأمن والسعادة، والخير الكثير الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.
ثم ذكر وصفهم فقال: ( الَّذِينَ آمَنُوا ) بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وصدقوا إيمانهم، باستعمال التقوى، بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي.
فكل من كان مؤمنًا تقيًا كان لله [تعالى] وليًا، و ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ )
أما البشارة في الدنيا، فهي: الثناء الحسن، والمودة في قلوب المؤمنين، والرؤيا الصالحة، وما يراه العبد من لطف الله به وتيسيره لأحسن الأعمال والأخلاق، وصرفه عن مساوئ الأخلاق.
وأما في الآخرة، فأولها البشارة عند قبض أرواحهم، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg
وفي القبر ما يبشر به من رضا الله تعالى والنعيم المقيم.
وفي الآخرة تمام البشرى بدخول جنات النعيم، والنجاة من العذاب الأليم.
( لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ) بل ما وعد الله فهو حق، لا يمكن تغييره ولا تبديله، لأنه الصادق في قيله، الذي لا يقدر أحد أن يخالفه فيما قدره وقضاه.
( ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) لأنه اشتمل على النجاة من كل محذور، والظفر بكل مطلوب محبوب، وحصر الفوز فيه، لأنه لا فوز لغير أهل الإيمان والتقوى.
والحاصل أن البشرى شاملة لكل خير وثواب، رتبه الله في الدنيا والآخرة، على الإيمان والتقوى، ولهذا أطلق ذلك، فلم يقيده.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ولا يحزنك قول المكذبين فيك من الأقوال التي يتوصلون بها إلى القدح فيك، وفي دينك فإن أقوالهم لا تعزهم، ولا تضرك شيئًا. ( إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) يؤتيها من يشاء، ويمنعها ممن يشاء.
قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: فليطلبها بطاعته، بدليل قوله بعده: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg
ومن المعلوم، أنك على طاعة الله، وأن العزة لك ولأتباعك من الله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg
وقوله: ( هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي: سمعه قد أحاط بجميع الأصوات، فلا يخفى عليه شيء منها.
وعلمه قد أحاط بجميع الظواهر والبواطن، فلا يعزب عنه مثقال ذرة، في السماوات والأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
وهو تعالى يسمع قولك، وقول أعدائك فيك، ويعلم ذلك تفصيلا فاكتف بعلم الله وكفايته، فمن يتق الله، فهو حسبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى: أن له ما في السماوات والأرض، خلقًا وملكًا وعبيدًا، يتصرف فيهم بما شاء من أحكامه، فالجميع مماليك لله، مسخرون، مدبرون، لا يستحقون شيئًا من العبادة، وليسوا شركاء لله بوجه من الوجوه، ولهذا قال: ( وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ ) الذي لا يغني من الحق شيئًا ( وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ) في ذلك، خرص كذب < 1-369 > وإفك وبهتان.
فإن كانوا صادقين في أنها شركاء لله، فليظهروا من أوصافها ما تستحق به مثقال ذرة من العبادة، فلن يستطيعوا، فهل منهم أحد يخلق شيئًا أو يرزق، أو يملك شيئًا من المخلوقات، أو يدبر الليل والنهار، الذي جعله الله قياما للناس؟.
و ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ) في النوم والراحة بسبب الظلمة، التي تغشى وجه الأرض، فلو استمر الضياء، لما قروا، ولما سكنوا.
( وَ ) جعل الله ( النَّهَارَ مُبْصِرًا ) أي: مضيئًا، يبصر به الخلق، فيتصرفون في معايشهم، ومصالح دينهم ودنياهم.

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) عن الله، سمع فهم، وقبول، واسترشاد، لا سمع تعنت وعناد، فإن في ذلك لآيات، لقوم يسمعون، يستدلون بها على أنه وحده المعبود وأنه الإله الحق، وأن إلهية ما سواه باطلة، وأنه الرءوف الرحيم العليم الحكيم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى مخبرًا عن بهت المشركين لرب العالمين ( قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) فنزه نفسه عن ذلك بقوله: ( سُبْحَانَهُ ) أي: تنزه عما يقول الظالمون في نسبة النقائص إليه علوًا كبيرًا، ثم برهن على ذلك، بعدة براهين:
أحدها: قوله: ( هُوَ الْغَنِيُّ ) أي: الغنى منحصر فيه، وأنواع الغنى مستغرقة فيه، فهو الغني الذي له الغنى التام بكل وجه واعتبار من جميع الوجوه، فإذا كان غنيًا من كل وجه، فلأي شيء يتخذ الولد؟
ألحاجة منه إلى الولد، فهذا مناف لغناه فلا يتخذ أحد ولدًا إلا لنقص في غناه.
البرهان الثاني، قوله: ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) وهذه كلمة جامعة عامة لا يخرج عنها موجود من أهل السماوات والأرض، الجميع مخلوقون عبيد مماليك.
ومن المعلوم أن هذا الوصف العام ينافي أن يكون له منهم ولد، فإن الولد من جنس والده، لا يكون مخلوقًا ولا مملوكًا. فملكيته لما في السماوات والأرض عمومًا، تنافي الولادة.
البرهان الثالث، قوله: ( إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا ) أي: هل عندكم من حجة وبرهان يدل على أن لله ولدًا، فلو كان لهم دليل لأبدوه، فلما تحداهم وعجزهم عن إقامة الدليل، علم بطلان ما قالوه. وأن ذلك قول بلا علم، ولهذا قال: ( أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) فإن هذا من أعظم المحرمات.
( قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ) أي: لا ينالون مطلوبهم، ولا يحصل لهم مقصودهم، وإنما يتمتعون في كفرهم وكذبهم، في الدنيا، قليلا ثم ينتقلون إلى الله، ويرجعون إليه، فيذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون. http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-06-09, 09:49 AM
الحلقة (217)
تفسير السعدى
فففسورة يونسققق
من الأية(71) الى الأية(78)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يونس
مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لنبيه: واتل على قومك ( نَبَأَ نُوحٍ ) في دعوته لقومه، حين دعاهم إلى الله مدة طويلة، فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، فلم يزدهم دعاؤه إياهم إلا طغيانًا، فتمللوا منه وسئموا، وهو عليه الصلاة والسلام غير متكاسل، ولا متوان في دعوتهم، فقال لهم: ( يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ ) أي: إن كان مقامي عندكم، وتذكيري إياكم ما ينفعكم ( بِآيَاتِ اللَّهِ ) الأدلة الواضحة البينة، قد شق عليكم وعظم لديكم، وأردتم أن تنالوني بسوء أو تردوا الحق. ( فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ ) أي: اعتمدت على الله، في دفع كل شر يراد بي، وبما أدعو إليه، فهذا جندي، وعدتي. وأنتم، فأتوا بما قدرتم عليه، من أنواع العَدَد والعُدد.

( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ ) كلكم، بحيث لا يتخلف منكم أحد، ولا تدخروا من مجهودكم شيئًا.
( وَ ) أحضروا ( شُرَكَاءَكُمْ ) الذين كنتم تعبدونهم وتوالونهم من دون الله رب العالمين.
( ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ) أي: مشتبهًا خفيًا، بل ليكن ذلك ظاهرًا علانية.
( ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ ) أي: اقضوا علي بالعقوبة والسوء، الذي في إمكانكم، ( وَلا تُنْظِرُونِ ) أي: لا تمهلوني ساعة < 1-370 > من نهار. فهذا برهان قاطع، وآية عظيمة على صحة رسالته، وصدق ما جاء به، حيث كان وحده لا عشيرة تحميه، ولا جنود تؤويه.
وقد بادأ قومه بتسفيه آرائهم، وفساد دينهم، وعيب آلهتهم. وقد حملوا من بغضه، وعداوته ما هو أعظم من الجبال الرواسي، وهم أهل القدرة والسطوة، وهو يقول لهم: اجتمعوا أنتم وشركاؤكم ومن استطعتم، وأبدوا كل ما تقدرون عليه من الكيد، فأوقعوا بي إن قدرتم على ذلك، فلم يقدروا على شيء من ذلك.
فعلم أنه الصادق حقًا، وهم الكاذبون فيما يدعون، ولهذا قال: ( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) عن ما دعوتكم إليه، فلا موجب لتوليكم، لأنه تبين أنكم لا تولون عن باطل إلى حق، وإنما تولون عن حق قامت الأدلة على صحته، إلى باطل قامت الأدلة على فساده.
ومع هذا ( فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ) على دعوتي، وعلى إجابتكم، فتقولوا: هذا جاءنا ليأخذ أموالنا، فتمتنعون لأجل ذلك.
( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ ) أي: لا أريد الثواب والجزاء إلا منه، ( وَ ) أيضا فإني ما أمرتكم بأمر وأخالفكم إلى ضده، بل ( أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) فأنا أول داخل، وأول فاعل لما أمرتكم به.
( فَكَذَّبُوهُ ) بعد ما دعاهم ليلا ونهارًا، سرًا وجهارًا، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارًا، ( فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ) الذي أمرناه أن يصنعه بأعيننا، وقلنا له إذا فار التنور: فـ ( احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ) ففعل ذلك.
فأمر الله السماء أن تمطر بماء منهمر وفجر الأرض عيونًا، فالتقى الماء على أمر قد قدر: ( وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ) تجري بأعيننا، ( وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ ) في الأرض بعد إهلاك المكذبين.
ثم بارك الله في ذريته، وجعل ذريته، هم الباقين، ونشرهم في أقطار الأرض، ( وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) بعد ذلك البيان، وإقامة البرهان، ( فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ) وهو: الهلاك المخزي، واللعنة المتتابعة عليهم في كل قرن يأتي بعدهم، لا تسمع فيهم إلا لوما، ولا ترى إلا قدحًا وذمًا.
فليحذر هؤلاء المكذبون، أن يحل بهم ما حل بأولئك الأقوام المكذبين من الهلاك، والخزي، والنكال.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( ثُمَّ بَعَثْنَا ) من بعد نوح عليه السلام ( رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ ) المكذبين، يدعونهم إلى الهدى، ويحذرونهم من أسباب الردى.

( فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) أي: كل نبي أيد دعوته، بالآيات الدالة على صحة ما جاء به.
( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) يعني: أن الله تعالى عاقبهم حيث جاءهم الرسول، فبادروا بتكذيبه، طبع الله على قلوبهم، وحال بينهم وبين الإيمان بعد أن كانوا متمكنين منه، كما قال تعالى: ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .
ولهذا قال هنا: ( كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ) أي: نختم عليها، فلا يدخلها خير، وما ظلمهم [الله]، ولكنهم ظلموا أنفسهم بردهم الحق لما جاءهم، وتكذيبهم الأول.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ (75) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . إلى آخر القصة

أي: ( ثُمَّ بَعَثْنَا ) من بعد هؤلاء الرسل، الذين أرسلهم الله إلى القوم المكذبين المهلكين.
( مُوسَى ) بن عمران، كليم الرحمن، أحد أولي العزم من المرسلين، وأحد الكبار المقتدى بهم، المنزل عليهم الشرائع المعظمة الواسعة.
( وَ ) جعلنا معه أخاه ( هَارُونَ ) وزيرًا بعثناهما ( إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) أي: كبار دولته ورؤسائهم، لأن عامتهم، تبع للرؤساء.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg بِآيَاتِنَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الدالة على صدق ما جاءا به من توحيد الله، والنهي عن عبادة ما سوى الله تعالى، ( فَاسْتَكْبَرُوا ) عنها ظلمًا وعلوًا، بعد ما استيقنوها.

(وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ) أي: وصفهم الإجرام والتكذيب.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا (76) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الذي هو أكبر أنواع الحق وأعظمها، وهو من عند الله الذي خضعت لعظمته الرقاب، وهو رب العالمين، المربي جميع خلقه بالنعم.

فلما جاءهم الحق من عند الله على يد موسى، ردوه فلم يقبلوه، و ( قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ) لم يكفهم - قبحهم الله - إعراضهم ولا ردهم إياه، حتى جعلوه أبطل الباطل، وهو السحر: الذي حقيقته التمويه، بل جعلوه سحرًا مبينًا، ظاهرًا، وهو الحق < 1-371 > المبين. ولهذا ( قَالَ ) لهم ( مُوسَى ) - موبخا لهم عن ردهم الحق، الذي لا يرده إلا أظلم الناس:- ( أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ ) أي: أتقولون إنه سحر مبين.
(أَسِحْرٌ هَذَا ) أي: فانظروا وصفه وما اشتمل عليه، فبمجرد ذلك يجزم بأنه الحق. ( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ) لا في الدنيا، ولا في الآخرة، فانظروا لمن تكون له العاقبة، ولمن له الفلاح، وعلى يديه النجاح. وقد علموا بعد ذلك وظهر لكل أحد أن موسى عليه السلام هو الذي أفلح، وفاز بظفر الدنيا والآخرة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالُوا (78) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg لموسى رادين لقوله بما لا يرده: ( أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) أي: أجئتنا لتصدنا عما وجدنا عليه آباءنا، من الشرك وعبادة غير الله، وتأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له؟ فجعلوا قول آبائهم الضالين حجة، يردون بها الحق الذي جاءهم به موسى عليه السلام.

وقولهم : http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: وجئتمونا لتكونوا أنتم الرؤساء، ولتخرجونا من أرضنا. وهذا تمويه منهم، وترويج على جهالهم، وتهييج لعوامهم على معاداة موسى، وعدم الإيمان به.
وهذا لا يحتج به، من عرف الحقائق، وميز بين الأمور، فإن الحجج لا تدفع إلا بالحجج والبراهين.
وأما من جاء بالحق، فرد قوله بأمثال هذه الأمور، فإنها تدل على عجز موردها، عن الإتيان بما يرد القول الذي جاء خصمه، لأنه لو كان له حجة لأوردها، ولم يلجأ إلى قوله: قصدك كذا، أو مرادك كذا، سواء كان صادقًا في قوله وإخباره عن قصد خصمه، أم كاذبًا، مع أن موسى عليه الصلاة والسلام كل من عرف حاله، وما يدعو إليه، عرف أنه ليس له قصد في العلو في الأرض، وإنما قصده كقصد إخوانه المرسلين، هداية الخلق، وإرشادهم لما فيه نفعهم.
ولكن حقيقة الأمر، كما نطقوا به بقولهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: تكبرًا وعنادًا، لا لبطلان ما جاء به موسى وهارون، ولا لاشتباه فيه، ولا لغير ذلك من المعاني، سوى الظلم والعدوان، وإرادة العلو الذي رموا به موسى وهارون.

ابو وليد البحيرى
2019-06-09, 09:57 AM
الحلقة (218)
تفسير السعدى
فففسورة يونسققق
من الأية(79) الى الأية(88)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يونس
مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَ فِرْعَوْنُ (79) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg معارضًا للحق، الذي جاء به موسى، ومغالطًا لملئه وقومه: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: ماهر بالسحر، متقن له. فأرسل في مدائن مصر، من أتاه بأنواع السحرة، على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم.

(فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ ) للمغالبة مع موسى ( قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ) أي: أي شيء أردتم، لا أعين لكم شيئًا، وذلك لأنه جازم بغلبته، غير مبال بهم، وبما جاءوا به.
(فَلَمَّا أَلْقَوْا ) حبالهم وعصيهم، إذا هي كأنها حيات تسعى، فـ ( قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ) أي: هذا السحر الحقيقي العظيم، ولكن مع عظمته ( إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) فإنهم يريدون بذلك نصر الباطل على الحق، وأي فساد أعظم من هذا؟!!
وهكذا كل مفسد عمل عملا واحتال كيدًا، أو أتى بمكر، فإن عمله سيبطل ويضمحل، وإن حصل لعمله روجان في وقت ما، فإن مآله الاضمحلال والمحق.
وأما المصلحون الذين قصدهم بأعمالهم وجه الله تعالى، وهي أعمال ووسائل نافعة، مأمور بها، فإن الله يصلح أعمالهم ويرقيها، وينميها على الدوام، فألقى موسى عصاه، فتلقفت جميع ما صنعوا، فبطل سحرهم، واضمحل باطلهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فألقي السحرة سجدًا حين تبين لهم الحق. فتوعدهم فرعون بالصلب، وتقطيع الأيدي والأرجل، فلم يبالوا بذلك وثبتوا على إيمانهم.

وأما فرعون وملؤه، وأتباعهم، فلم يؤمن منهم أحد، بل استمروا في طغيانهم يعمهون.
ولهذا قال: ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ) أي: شباب من بني إسرائيل، صبروا على الخوف، لما ثبت في قلوبهم الإيمان.
(عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ) عن دينهم ( وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ ) أي: له القهر والغلبة فيها، فحقيق بهم أن يخافوا من بطشته.
( وَ ) خصوصًا ( إِنَّهُ ) كان ( لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ) أي: المتجاوزين للحد، في البغي والعدوان.
والحكمة -والله أعلم- بكونه ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، أن الذرية والشباب، أقبل للحق، وأسرع له انقيادًا، بخلاف الشيوخ ونحوهم، ممن تربى على الكفر فإنهم -بسبب ما مكث في قلوبهم من العقائد الفاسدة- أبعد من الحق من غيرهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَ مُوسَى (84) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg موصيًا لقومه بالصبر، ومذكرًا لهم ما يستعينون به على ذلك فقال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فقوموا بوظيفة < 1-372 > الإيمان.

(فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ) أي: اعتمدوا عليه، والجؤوا إليه واستنصروه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَقَالُوا (85) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ممتثلين لذلك ( عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) أي: لا تسلطهم علينا، فيفتنونا، أو يغلبونا، فيفتتنون بذلك، ويقولون: لو كانوا على حق لما غلبوا.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg لنسلم من شرهم، ولنقيم [على] ديننا على وجه نتمكن به من إقامة شرائعه، وإظهاره من غير معارض، ولا منازع.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ (87) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg حين اشتد الأمر على قومهما، من فرعون وقومه، وحرصوا على فتنتهم عن دينهم.

(أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ) أي: مروهم أن يجعلوا لهم بيوتًا، يتمكنون [به] من الاستخفاء فيها.
(وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) أي: اجعلوها محلا تصلون فيها، حيث عجزتم عن إقامة الصلاة في الكنائس، والبيع العامة.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) فإنها معونة على جميع الأمور، ( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) بالنصر والتأييد، وإظهار دينهم، فإن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا، وحين اشتد الكرب، وضاق الأمر، فرجه الله ووسعه.
فلما رأى موسى، القسوة والإعراض من فرعون وملئه ، دعا عليهم وأمن هارون على دعائه، فقال:
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً (88) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg يتزينون بها من أنواع الحلي والثياب، والبيوت المزخرفة، والمراكب الفاخرة، والخدام، ( وَأَمْوَالا ) عظيمة ( فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ) أي: إن أموالهم لم يستعينوا بها إلا على الإضلال في سبيلك، فيضلون ويضلون.

(رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ) أي: أتلفها عليهم: إما بالهلاك، وإما بجعلها حجارة، غير منتفع بها.
(وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) أي: قسها ( فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ) .
قال ذلك، غضبًا عليهم، حيث تجرؤوا على محارم الله، وأفسدوا عباد الله، وصدوا عن سبيله، ولكمال معرفته بربه بأن الله سيعاقبهم على ما فعلوا، بإغلاق باب الإيمان عليهم.

ابو وليد البحيرى
2019-06-09, 10:06 AM
الحلقة (219)
تفسير السعدى
فففسورة يونسققق
من الأية(89) الى الأية(97)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يونس
مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ (89) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الله تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg هذا دليل على أن موسى، [كان] يدعو، وهارون يؤمن على دعائه، وأن الذي يؤمن، يكون شريكا للداعي في ذلك الدعاء.

(فَاسْتَقِيمَا ) على دينكما، واستمرا على دعوتكما، ( وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) أي: لا تتبعان سبيل الجهال الضلال، المنحرفين عن الصراط المستقيم، المتبعين لطرق الجحيم، فأمر الله موسى أن يسري ببني إسرائيل ليلا وأخبره أنهم يتبعون، وأرسل فرعون في المدائن حاشرين يقولون: ( إِنَّ هَؤُلاءِ ) أي: موسى وقومه: ( لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ )
فجمع جنوده قاصيهم ودانيهم فأتبعهم بجنوده بغيًا وعدوًا أي خروجهم باغين على موسى وقومه ومعتدين في الأرض وإذا اشتد البغي واستحكم الذنب فانتظر العقوبة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ (90) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وذلك أن الله أوحى إلى موسى، لما وصل البحر، أن يضربه بعصاه، فضربه، فانفلق اثنى عشر طريقًا، وسلكه بنو إسرائيل، وساق فرعون وجنوده خلفه داخلين.

فلما استكمل موسى وقومه خارجين من البحر، وفرعون وجنوده داخلين فيه، أمر الله البحر فالتطم على فرعون وجنوده، فأغرقهم، وبنو إسرائيل ينظرون.
حتى إذا أدرك فرعون الغرق، وجزم بهلاكه ( قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ) وهو الله الإله الحق الذي لا إله إلا هو ( وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) أي: المنقادين لدين الله، ولما جاء به موسى.

(91) قال الله تعالى - مبينا أن هذا الإيمان في هذه الحالة غير نافع له-: ( آلآنَ ) تؤمن، وتقر برسول الله ( وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ) أي: بارزت بالمعاصي، والكفر والتكذيب ( وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) فلا ينفعك الإيمان كما جرت عادة الله، أن الكفار إذا وصلوا إلى هذه الحالة الاضطرارية أنه لا ينفعهم إيمانهم، لأن إيمانهم، صار إيمانًا مشاهدًا كإيمان من ورد القيامة، والذي ينفع، إنما هو الإيمان بالغيب.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً (92) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

قال المفسرون: إن بني إسرائيل لما في قلوبهم من الرعب العظيم، من فرعون، كأنهم لم يصدقوا بإغراقه، وشكوا في ذلك، فأمر الله البحر أن يلقيه على نجوة مرتفعة ببدنه، ليكون لهم عبرة وآية.
(وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ) < 1-373 > فلذلك تمر عليهم وتتكرر فلا ينتفعون بها، لعدم إقبالهم عليها.

وأما من له عقل وقلب حاضر، فإنه يرى من آيات الله ما هو أكبر دليل على صحة ما أخبرت به الرسل.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ (93) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: أنزلهم الله وأسكنهم في مساكن آل فرعون، وأورثهم أرضهم وديارهم.
(وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) من المطاعم والمشارب وغيرهما ( فَمَا اخْتَلَفُوا ) في الحق ( حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ) الموجب لاجتماعهم وائتلافهم، ولكن بغى بعضهم على بعض، وصار لكثير منهم أهوية وأغراض تخالف الحق، فحصل بينهم من الاختلاف شيء كثير.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg بحكمة العدل الناشئ عن علمه التام، وقدرته الشاملة، وهذا هو الداء، الذي يعرض لأهل الدين الصحيح.
وهو: أن الشيطان إذا أعجزوه أن يطيعوه في ترك الدين بالكلية، سعى في التحريش بينهم، وإلقاء العداوة والبغضاء، فحصل من الاختلاف ما هو موجب ذلك، ثم حصل من تضليل بعضهم لبعض، وعداوة بعضهم لبعض، ما هو قرة عين اللعين.
وإلا فإذا كان ربهم واحدًا، ورسولهم واحدًا، ودينهم واحدًا، ومصالحهم العامة متفقة، فلأي شيء يختلفون اختلافًا يفرق شملهم، ويشتت أمرهم، ويحل رابطتهم ونظامهم، فيفوت من مصالحهم الدينية والدنيوية ما يفوت، ويموت من دينهم، بسبب ذلك ما يموت؟.
فنسألك اللهم، لطفًا بعبادك المؤمنين، يجمع شملهم ويرأب صدعهم، ويرد قاصيهم على دانيهم، يا ذا الجلال والإكرام.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ ) هل هو صحيح أم غير صحيح؟.
( فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ) أي: اسأل أهل الكتب المنصفين، والعلماء الراسخين، فإنهم سيقرون لك بصدق ما أخبرت به، وموافقته لما معهم، فإن قيل: إن كثيرًا من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، بل ربما كان أكثرهم ومعظمهم كذبوا رسول الله وعاندوه، وردوا عليه دعوته.
والله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بهم، وجعل شهادتهم حجة لما جاء به، وبرهانًا على صدقه، فكيف يكون ذلك؟
فالجواب عن هذا، من عدة أوجه:
منها: أن الشهادة إذا أضيفت إلى طائفة، أو أهل مذهب، أو بلد ونحوهم، فإنها إنما تتناول العدول الصادقين منهم.
وأما من عداهم، فلو كانوا أكثر من غيرهم فلا عبرة فيهم، لأن الشهادة مبنية على العدالة والصدق، وقد حصل ذلك بإيمان كثير من أحبارهم الربانيين، كـ "عبد الله بن سلام"[وأصحابه وكثير ممن أسلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، ومن بعده] و "كعب الأحبار"وغيرهما.
ومنها: أن شهادة أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم مبنية على كتابهم التوراة الذي ينتسبون إليه.
فإذا كان موجودًا في التوراة، ما يوافق القرآن ويصدقه، ويشهد له بالصحة، فلو اتفقوا من أولهم لآخرهم على إنكار ذلك، لم يقدح بما جاء به الرسول.
ومنها: أن الله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بأهل الكتاب على صحة ما جاءه، وأظهر ذلك وأعلنه على رءوس الأشهاد.
ومن المعلوم أن كثيرًا منهم من أحرص الناس على إبطال دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فلو كان عندهم ما يرد ما ذكره الله، لأبدوه وأظهروه وبينوه، فلما لم يكن شيء من ذلك، كان عدم رد المعادي، وإقرار المستجيب من أدل الأدلة على صحة هذا القرآن وصدقه.
ومنها: أنه ليس أكثر أهل الكتاب، رد دعوة الرسول، بل أكثرهم استجاب لها، وانقاد طوعًا واختيارًا، فإن الرسول بعث وأكثر أهل الأرض المتدينين أهل كتاب .
فلم يمكث دينه مدة غير كثيرة، حتى انقاد للإسلام أكثر أهل الشام، ومصر، والعراق، وما جاورها من البلدان التي هي مقر دين أهل الكتاب، ولم يبق إلا أهل الرياسات الذين آثروا رياساتهم على الحق، ومن تبعهم من العوام الجهلة، ومن تدين بدينهم اسمًا لا معنى، كالإفرنج الذين حقيقة أمرهم < 1-374 > أنهم دهرية منحلون عن جميع أديان الرسل، وإنما انتسبوا للدين المسيحي، ترويجًا لملكهم، وتمويهًا لباطلهم، كما يعرف ذلك من عرف أحوالهم البينة الظاهرة.
وقوله: ( لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ ) أي: الذي لا شك فيه بوجه من الوجوه ولهذا قال: ( مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) كقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
( 95 ) ( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) وحاصل هذا أن الله نهى عن شيئين: الشك في هذا القرآن والامتراء فيه.

وأشد من ذلك، التكذيب به، وهو آيات الله البينات التي لا تقبل التكذيب بوجه، ورتب على هذا الخسار، وهو عدم الربح أصلا وذلك بفوات الثواب في الدنيا والآخرة، وحصول العقاب في الدنيا والآخرة، والنهي عن الشيء أمر بضده، فيكون أمرًا بالتصديق التام بالقرآن، وطمأنينة القلب إليه، والإقبال عليه، علمًا وعملا.
فبذلك يكون العبد من الرابحين الذين أدركوا أجل المطالب، وأفضل الرغائب، وأتم المناقب، وانتفى عنهم الخسار.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي: إنهم من الضالين الغاوين أهل النار، لا بد أن يصيروا إلى ما قدره الله وقضاه، فلا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية، فلا تزيدهم الآيات إلا طغيانا، وغيا إلى غيهم.
وما ظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم بردهم للحق، لما جاءهم أول مرة، فعاقبهم الله، بأن طبع على قلوبهم وأسماعهم، وأبصارهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، الذي وعدوا به.
فحينئذ يعلمون حق اليقين، أن ما هم عليه هو الضلال، وأن ما جاءتهم به الرسل هو الحق. ولكن في وقت لا يجدي عليهم إيمانهم شيئًا، فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم، ولا هم يستعتبون، وأما الآيات فإنها تنفع من له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.

ابو وليد البحيرى
2019-06-09, 10:10 AM
الحلقة (220)
تفسير السعدى
فففسورة يونسققق
من الأية(98) الى الأية(106)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يونس
مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُم ْ إِلَى حِينٍ (98) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ ) من قرى المكذبين ( آمَنَتْ ) حين رأت العذاب ( فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ) أي: لم يكن منهم أحد انتفع بإيمانه، حين رأى العذاب، كما قال تعالى عن فرعون ما تقدم قريبًا، لما قال: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) فقيل له ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ )
وكما قال تعالى: ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ )
وقال تعالى ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا )
والحكمة في هذا ظاهرة فإن الإيمان الاضطراري ليس بإيمان حقيقة ولو صرف عنه العذاب والأمر الذي اضطره إلى الإيمان لرجع إلى الكفران
وقوله ( إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا ) بعدما رأوا العذاب ( كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُم ْ إِلَى حِينٍ ) فهم مستثنون من العموم السابق
ولا بد لذلك من حكمة لعالم الغيب والشهادة لم تصل إلينا ولم تدركها أفهامنا
قال الله تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى قوله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُم ْ إِلَى حِينٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ولعل الحكمة في ذلك أن غيرهم من المهلكين لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه
وأما قوم يونس فإن الله علم أن إيمانهم سيستمر بل قد استمر فعلا وثبتوا عليه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg والله أعلم

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ) بأن يلهمهم الإيمان، ويوزع قلوبهم للتقوى، فقدرته صالحة لذلك، ولكنه اقتضت حكمته أن كان بعضهم مؤمنين، وبعضهم كافرين.
( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) أي: لا تقدر على ذلك، وليس في إمكانك، ولا قدرة لغير الله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg [على] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg شيء من ذلك.
( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ) أي: بإرادته ومشيئته، وإذنه القدري الشرعي، فمن كان من الخلق قابلا لذلك، يزكو عنده الإيمان، وفقه وهداه.

( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ ) أي: الشر والضلال ( عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) عن الله أوامره ونواهيه، ولا يلقوا بالا لنصائحه ومواعظه.
< 1-375 >
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِين َ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يدعو تعالى عباده إلى النظر لما في السماوات والأرض، والمراد بذلك: نظر الفكر والاعتبار والتأمل، لما فيها، وما تحتوي عليه، والاستبصار، فإن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون، وعبرًا لقوم يوقنون، تدل على أن الله وحده، المعبود المحمود، ذو الجلال والإكرام، والأسماء والصفات العظام.
( وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) فإنهم لا ينتفعون بالآيات لإعراضهم وعنادهم.
( فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي: فهل ينتظر هؤلاء الذين لا يؤمنون بآيات الله، بعد وضوحها، ( إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي: من الهلاك والعقاب، فإنهم صنعوا كصنيعهم وسنة الله جارية في الأولين والآخرين.
( قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِين َ ) فستعلمون من تكون له العاقبة الحسنة، والنجاة في الدنيا والآخرة، وليست إلا للرسل وأتباعهم.
ولهذا قال: ( ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) من مكاره الدنيا والآخرة، وشدائدهما.
( كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا ) أوجبناه على أنفسنا ( نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ) وهذا من دفعه عن المؤمنين، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا فإنه -بحسب ما مع العبد من الإيمان- تحصل له النجاة من المكاره.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، سيد المرسلين، وإمام المتقين وخير الموقنين: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي ) أي: في ريب واشتباه، فإني لست في شك منه، بل لدي العلم اليقيني أنه الحق، وأن ما تدعون من دون الله باطل، ولي على ذلك، الأدلة الواضحة، والبراهين الساطعة.
ولهذا قال: ( فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) من الأنداد، والأصنام وغيرها، لأنها لا تخلق ولا ترزق، ولا تدبر شيئًا من الأمور، وإنما هي مخلوقة مسخرة، ليس فيها ما يقتضي عبادتها.
( وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ) أي: هو الله الذي خلقكم، وهو الذي يميتكم، ثم يبعثكم، ليجازيكم بأعمالكم، فهو الذي يستحق أن يعبد، ويصلى له ويخضع ويسجد.
( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ) أي: أخلص أعمالك الظاهرة والباطنة لله، وأقم جميع شرائع الدين حنيفًا، أي: مقبلا على الله، معرضًا عما سواه، ( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) لا في حالهم، ولا تكن معهم.

(106)( وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ) وهذا وصف لكل مخلوق، أنه لا ينفع ولا يضر، وإنما النافع الضار، هو الله تعالى.
( فَإِنْ فَعَلْتَ ) بأن http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg دعوت من دون الله، ما لا ينفعك ولا يضرك ( فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ) أي: الضارين أنفسهم بإهلاكها، وهذا الظلم هو الشرك كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فإذا كان خير الخلق، لو دعا مع الله غيره، لكان من الظالمين المشركين فكيف بغيره؟!!

ابو وليد البحيرى
2019-06-16, 05:41 PM
الحلقة (221)
تفسير السعدى
فففسورة يونسققق
من الأية(107) الى الأية(109)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يونس
مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذا من أعظم الأدلة على أن الله وحده المستحق للعبادة، فإنه النافع الضار، المعطي المانع، الذي إذا مس بضر، كفقر ومرض، ونحوها ( فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ ) لأن الخلق، لو اجتمعوا على أن ينفعوا بشيء، لم ينفعوا إلا بما كتبه الله، ولو اجتمعوا على أن يضروا أحدا، لم يقدروا على شيء من ضرره، إذا لم يرده الله، ولهذا قال: ( وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ ) أي: لا يقدر أحد من الخلق، أن يرد فضله وإحسانه، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg

( يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) أي: يختص برحمته من شاء من خلقه، والله ذو الفضل العظيم، ( وَهُوَ الْغَفُورُ ) لجميع الزلات، الذي يوفق عبده لأسباب مغفرته، ثم إذا فعلها العبد، غفر الله ذنوبه، كبارها، وصغارها.
( الرَّحِيمُ ) الذي وسعت رحمته كل شيء، ووصل جوده إلى جميع الموجودات، بحيث لا تستغنى عن إحسانه، طرفة عين، فإذا عرف العبد بالدليل القاطع، أن الله، هو المنفرد بالنعم، وكشف النقم، وإعطاء الحسنات، وكشف السيئات والكربات، وأن أحدًا من الخلق، ليس بيده من هذا شيء إلا ما أجراه الله على يده، جزم بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل.
ولهذا -لما بين الدليل الواضح قال بعده:-
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( قُلْ) يا أيها الرسول، لما تبين البرهان ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) < 1-376 > أي: الخبر الصادق المؤيد بالبراهين، الذي لا شك فيه بوجه من الوجوه، وهو واصل إليكم من ربكم الذي من أعظم تربيته لكم، أن أنزل إليكم هذا القرآن الذي فيه تبيان لكل شيء، وفيه من أنواع الأحكام والمطالب الإلهية والأخلاق المرضية، ما فيه أعظم تربية لكم، وإحسان منه إليكم، فقد تبين الرشد من الغي، ولم يبق لأحد شبهة.

( فَمَنِ اهْتَدَى) بهدى الله بأن علم الحق وتفهمه، وآثره على غيره فلِنَفْسِهِ والله تعالى غني عن عباده، وإنما ثمرة أعمالهم راجعة إليهم.
( وَمَنْ ضَلَّ) عن الهدى بأن أعرض عن العلم بالحق، أو عن العمل به، ( فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) ولا يضر الله شيئًا، فلا يضر إلا نفسه.
( وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) فأحفظ أعمالكم وأحاسبكم عليها، وإنما أنا لكم نذير مبين، والله عليكم وكيل. فانظروا لأنفسكم، ما دمتم في مدة الإمهال.
( وَاتَّبِعْ) أيها الرسول ( مَا يُوحَى إِلَيْكَ) علمًا، وعملا وحالا ودعوة إليه، ( وَاصْبِرْ) على ذلك، فإن هذا أعلى أنواع الصبر، وإن عاقبته حميدة، فلا تكسل، ولا تضجر، بل دم على ذلك، واثبت، ( حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ) بينك وبين من كذبك ( وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) فإن حكمه، مشتمل على العدل التام، والقسط الذي يحمد عليه.
وقد امتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه، وثبت على الصراط المستقيم، حتى أظهر الله دينه على سائر الأديان، ونصره على أعدائه بالسيف والسنان، بعد ما نصره [الله] عليهم، بالحجة والبرهان، فلله الحمد، والثناء الحسن، كما ينبغي لجلاله، وعظمته، وكماله وسعة إحسانه.

تم تفسير سورة يونس
والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة هود عليه الصلاة
والسلام [وهي] مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: هذا ( كِتَابٌ) عظيم، ونزل كريم، ( أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) أي: أتقنت وأحسنت، صادقة أخبارها، عادلة أوامرها ونواهيها، فصيحة ألفاظه بهية معانيه.

( ثُمَّ فُصِّلَتْ) أي: ميزت وبينت بيانا في أعلى أنواع البيان، ( مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها، لا يأمر ولا ينهى إلا بما تقتضيه حكمته، ( خَبِيرٍ) مطلع على الظواهر والبواطن.
فإذا كان إحكامه وتفصيله من عند الله الحكيم الخبير، فلا تسأل بعد هذا، عن عظمته وجلالته واشتماله على كمال الحكمة، وسعة الرحمة . وإنما أنزل الله كتابه لـ ( أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ (2) ) أي: لأجل إخلاص الدين كله لله، وأن لا يشرك به أحد من خلقه.

( إِنَّنِي لَكُمْ) أيها الناس ( مِنْهُ) أي: من الله ربكم ( نَذِيرٌ) لمن تجرأ على المعاصي بعقاب الدنيا والآخرة، ( وَبَشِيرٌ) للمطيعين لله بثواب الدنيا والآخرة.
(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ (3) ) عن ما صدر منكم من الذنوب ( ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيما تستقبلون من أعماركم، بالرجوع إليه، بالإنابة والرجوع عما يكرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه.
ثم ذكر ما يترتب على الاستغفار والتوبة فقال: ( يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا) أي: يعطيكم من رزقه، ما تتمتعون به وتنتفعون.
( إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي: إلى وقت وفاتكم ( وَيُؤْتِ) منكم ( كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي: يعطي أهل الإحسان والبر من فضله وبره، ما هو جزاء لإحسانهم، من حصول ما يحبون، ودفع ما يكرهون.
( وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن ما دعوتكم إليه، بل أعرضتم عنه، وربما كذبتم به ( فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) وهو يوم القيامة الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين، فيجازيهم بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وفي قوله: ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كالدليل على إحياء الله الموتى، فإنه قدير على كل شيء http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ، ومن جملة الأشياء إحياء الموتى، وقد أخبر بذلك وهو أصدق القائلين، فيجب وقوع ذلك عقلا ونقلا.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن جهل المشركين، وشدة ضلالهم، أنهم ( يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) أي: يميلونها ( لِيَسْتَخْفُوا) من الله، فتقع صدورهم < 1-377 > حاجبة لعلم الله بأحوالهم، وبصره لهيئاتهم.
قال تعالى -مبينا خطأهم في هذا الظن- ( أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ) أي: يتغطون بها، يعلمهم في تلك الحال، التي هي من أخفى الأشياء.
بل ( يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ) من الأقوال والأفعال ( وَمَا يُعْلِنُونَ) منها، بل ما هو أبلغ من ذلك، وهو: ( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي: بما فيها من الإرادات، والوساوس، والأفكار، التي لم ينطقوا بها، سرا ولا جهرا، فكيف تخفى عليه حالكم، إذا ثنيتم صدوركم لتستخفوا منه.

ويحتمل أن المعنى في هذا أن الله يذكر إعراض المكذبين للرسول الغافلين عن دعوته، أنهم -من شدة إعراضهم- يثنون صدورهم، أي: يحدودبون حين يرون الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا يراهم ويسمعهم دعوته، ويعظهم بما ينفعهم، فهل فوق هذا الإعراض شيء؟"
ثم توعدهم بعلمه تعالى بجميع أحوالهم، وأنهم لا يخفون عليه، وسيجازيهم بصنيعهم.

ابو وليد البحيرى
2019-06-16, 05:47 PM
الحلقة (222)
تفسير السعدى
فففسورة هودققق
من الأية(6) الى الأية(12)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة هود عليه الصلاة
والسلام [وهي] مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَه َا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: جميع ما دب على وجه الأرض، من آدمي، أو حيوان بري أو بحري، فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم، فرزقها http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg على الله.
(وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَه َا) أي: يعلم مستقر هذه الدواب، وهو: المكان الذي تقيم فيه وتستقر فيه، وتأوي إليه، ومستودعها: المكان الذي تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها، وعوارض أحوالها.
(كُلِّ) من تفاصيل أحوالها (فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أي: في اللوح المحفوظ المحتوي على جميع الحوادث الواقعة، والتي تقع في السماوات والأرض. الجميع قد أحاط بها علم الله، وجرى بها قلمه، ونفذت فيها مشيئته، ووسعها رزقه، فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها، وأحاط علما بذواتها، وصفاتها.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى أنه ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة ( و ) حين خلق السماوات والأرض ( كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) فوق السماء السابعة.
فبعد أن خلق السماوات والأرض استوى عليه، يدبر الأمور، ويصرفها كيف شاء من الأحكام القدرية، والأحكام الشرعية. ولهذا قال: ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) أي: ليمتحنكم، إذ خلق لكم ما في السماوات والأرض بأمره ونهيه، فينظر أيكم أحسن عملا.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "أخلصه وأصوبه"
قيل يا أبا علي: "ما أخلصه وأصوبه"؟.
فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا، لم يقبل.
وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا.
والخالص: أن يكون لوجه الله، والصواب: أن يكون متبعا فيه الشرع والسنة، وهذا كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وقال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فالله تعالى خلق الخلق لعبادته ومعرفته بأسمائه وصفاته، وأمرهم بذلك، فمن انقاد، وأدى ما أمر به، فهو من المفلحين، ومن أعرض عن ذلك، فأولئك هم الخاسرون، ولا بد أن يجمعهم في دار يجازيهم فيها على ما أمرهم به ونهاهم.
ولهذا ذكر الله تكذيب المشركين بالجزاء، فقال: ( وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ).
أي: ولئن قلت لهؤلاء وأخبرتهم بالبعث بعد الموت، لم يصدقوك، بل كذبوك أشد التكذيب http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ، وقدحوا فيما جئت به، وقالوا: ( إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) ألا وهو الحق المبين.
( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ ) أي: إلى وقت مقدر فتباطأوه، لقالوا من جهلهم وظلمهم ( مَا يَحْبِسُهُ ) ومضمون هذا تكذيبهم به، فإنهم يستدلون بعدم وقوعه بهم عاجلا على كذب الرسول المخبر بوقوع العذاب، فما أبعد هذا الاستدلال"
( أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ ) العذاب ( لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ ) فيتمكنون من النظر في أمرهم.
( وَحَاقَ بِهِمْ ) أي: نزل ( مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) < 1-378 > من العذاب، حيث تهاونوا به، حتى جزموا بكذب من جاء به.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان، أنه جاهل ظالم بأن الله إذا أذاقه منه رحمة كالصحة والرزق، والأولاد، ونحو ذلك، ثم نزعها منه، فإنه يستسلم لليأس، وينقاد للقنوط، فلا يرجو ثواب الله، ولا يخطر بباله أن الله سيردها أو مثلها، أو خيرا منها عليه.
وأنه إذا أذاقه رحمة من بعد ضراء مسته، أنه يفرح ويبطر، ويظن أنه سيدوم له ذلك الخير، ويقول: (ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) أي: فرح http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg بما أوتي مما يوافق هوى نفسه، فخور بنعم الله على عباد الله، وذلك يحمله على الأشر والبطر والإعجاب بالنفس، والتكبر على الخلق، واحتقارهم وازدرائهم، وأي عيب أشد من هذا؟!!
وهذه طبيعة الإنسان من حيث هو، إلا من وفقه الله وأخرجه من هذا الخلق الذميم إلى ضده، وهم الذين صبروا أنفسهم عند الضراء فلم ييأسوا، وعند السراء فلم يبطروا، وعملوا الصالحات من واجبات ومستحبات.
(أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم، يزول بها عنهم كل محذور. (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهو: الفوز بجنات النعيم، التي فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى - مسليا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، عن تكذيب المكذبين-: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ كَنز) أي: لا ينبغي هذا لمثلك، أن قولهم يؤثر فيك، ويصدك عما أنت عليه، فتترك بعض ما يوحى إليك، ويضيق صدرك لتعنتهم بقولهم: (لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ كَنز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) فإن هذا القول ناشئ من تعنت، وظلم، وعناد، وضلال، وجهل بمواقع الحجج والأدلة، فامض على أمرك، ولا تصدك هذه الأقوال الركيكة التي لا تصدر إلا من سفيه ولا يضق لذلك صدرك.
فهل أوردوا عليك حجة لا تستطيع حلها؟ أم قدحوا ببعض ما جئت به قدحا، يؤثر فيه وينقص قدره، فيضيق صدرك لذلك؟!

أم عليك حسابهم، ومطالب بهدايتهم جبرا؟ (إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) فهو الوكيل عليهم، يحفظ أعمالهم، ويجازيهم بها أتم الجزاء.

ابو وليد البحيرى
2019-06-16, 05:51 PM
الحلقة (223)
تفسير السعدى
فففسورة هودققق
من الأية(13) الى الأية(19)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة هود عليه الصلاة
والسلام [وهي] مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) أي: افترى محمد هذا القرآن؟
فأجابهم بقوله: (قُلْ) لهم (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أنه قد افتراه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ، فإنه لا فرق بينكم وبينه في الفصاحة والبلاغة، وأنتم الأعداء حقا، الحريصون بغاية ما يمكنكم على إبطال دعوته، فإن كنتم صادقين، فأتوا بعشر سور مثله مفتريات.
(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) على شيء من ذلكم (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) [من عند الله] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لقيام الدليل والمقتضي، وانتفاء المعارض.
(وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ) أي: واعلموا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ أي: هو وحده المستحق للألوهية والعبادة، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي: منقادون لألوهيته، مستسلمون لعبوديته، وفي هذه الآيات إرشاد إلى أنه لا ينبغي للداعي إلى الله أن يصده اعتراض المعترضين، ولا قدح القادحين.
خصوصا إذا كان القدح لا مستند له، ولا يقدح فيما دعا إليه، وأنه لا يضيق صدره، بل يطمئن بذلك، ماضيا على أمره، مقبلا على شأنه، وأنه لا يجب إجابة اقتراحات المقترحين للأدلة التي يختارونها. بل يكفي إقامة الدليل السالم عن المعارض، على جميع المسائل والمطالب. وفيها أن هذا القرآن، معجز بنفسه، لا يقدر أحد من البشر أن يأتي بمثله، ولا بعشر سور من مثله، بل ولا بسورة من مثله، لأن الأعداء البلغاء الفصحاء، تحداهم الله بذلك، فلم يعارضوه، لعلمهم أنهم لا قدرة فيهم على ذلك.
وفيها: أن مما يطلب فيه العلم، ولا يكفي غلبة الظن، علم القرآن، وعلم التوحيد، لقوله تعالى: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ).

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) أي: كل إرادته مقصورة على الحياة الدنيا، وعلى زينتها < 1-379 > من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة، من الذهب، والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث. قد صرف رغبته وسعيه وعمله في هذه الأشياء، ولم يجعل لدار القرار من إرادته شيئا، فهذا لا يكون إلا كافرا، لأنه لو كان مؤمنا، لكان ما معه من الإيمان يمنعه أن تكون جميع إرادته للدار الدنيا، بل نفس إيمانه وما تيسر له من الأعمال أثر من آثار إرادته الدار الآخرة.
ولكن هذا الشقي، الذي كأنه خلق للدنيا وحدها (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) أي: نعطيهم ما قسم لهم في أم الكتاب من ثواب الدنيا.
(وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) أي: لا ينقصون شيئا مما قدر لهم، ولكن هذا منتهى نعيمهم.
(أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ) خالدين فيها أبدا، لا يفتَّر عنهم العذاب، وقد حرموا جزيل الثواب.
(وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا) أي: في الدنيا، أي: بطل واضمحل ما عملوه مما يكيدون به الحق وأهله، وما عملوه من أعمال الخير التي لا أساس لها، ولا وجود لشرطها، وهو الإيمان.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يذكر تعالى، حال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من ورثته القائمين بدينه، وحججه الموقنين بذلك، وأنهم لا يوصف بهم غيرهم ولا يكون أحد مثلهم، فقال: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) بالوحي الذي أنزل http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg الله فيه المسائل المهمة، ودلائلها الظاهرة، فتيقن تلك البينة.
(وَيَتْلُوهُ) أي: يتلو هذه البينة والبرهان برهان آخر (شَاهِدٌ مِنْهُ) وهو شاهد الفطرة المستقيمة، والعقل الصحيح، حين شهد حقيقة ما أوحاه الله وشرعه، وعلم بعقله حسنه، فازداد بذلك إيمانا إلى إيمانه.
(وَ) ثم شاهد ثالث وهو (كِتَابُ مُوسَى) التوراة التي جعلها الله (إِمَامًا) للناس (وَرَحْمَةً) لهم، يشهد لهذا القرآن بالصدق، ويوافقه فيما جاء به من الحق.
أي: أفمن كان بهذا الوصف قد تواردت عليه شواهد الإيمان، وقامت لديه أدلة اليقين، كمن هو في الظلمات والجهالات، ليس بخارج منها؟!
لا يستوون عند الله، ولا عند عباد الله، (أُولَئِكَ) أي: الذين وفقوا لقيام الأدلة عندهم، (يُؤْمِنُونَ) بالقرآن حقيقة، فيثمر لهم إيمانهم كل خير في الدنيا والآخرة.
(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) أي: القرآن (مِنَ الأحْزَابِ) أي: سائر طوائف أهل الأرض، المتحزبة على رد الحق، (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) لا بد من وروده إليها (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي: في أدنى شك (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) إما جهلا منهم وضلالا وإما ظلما وعنادا وبغيا، وإلا فمن كان قصده حسنا وفهمه مستقيما، فلا بد أن يؤمن به، لأنه يرى ما يدعوه إلى الإيمان من كل وجه.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى أنه لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) ويدخل في هذا كل من كذب على الله، بنسبة الشريك له، أو وصفه بما لا يليق بجلاله، أو الإخبار عنه، بما لم يقل، أو ادعاء النبوة، أو غير ذلك من الكذب على الله، فهؤلاء أعظم الناس ظلما (أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ) ليجازيهم بظلمهم، فعندما يحكم عليهم بالعقاب الشديد (يَقُولُ الأشْهَادُ) أي: الذين شهدوا عليهم بافترائهم وكذبهم: (هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أي: لعنة لا تنقطع، لأن ظلمهم صار وصفا لهم ملازما، لا يقبل التخفيف.
ثم وصف ظلمهم فقال: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) فصدوا بأنفسهم عن سبيل الله، وهي سبيل الرسل، التي دعوا الناس إليها، وصدوا غيرهم عنها، فصاروا أئمة يدعون إلى النار.
(وَيَبْغُونَهَا) أي: سبيل الله (عِوَجًا) أي: يجتهدون في ميلها، وتشيينها، وتهجينها، لتصير عند الناس غير مستقيمة، فيحسنون الباطل ويقبحون الحق، قبحهم الله (وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ).

ابو وليد البحيرى
2019-06-16, 05:58 PM
الحلقة (224)
تفسير السعدى
فففسورة هودققق
من الأية(20) الى الأية(29)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة هود عليه الصلاة
والسلام [وهي] مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ (22) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

(أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ) أي: ليسوا فائتين الله، لأنهم تحت قبضته وفي سلطانه.
(وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) فيدفعون عنهم المكروه، أو يحصلون لهم ما ينفعهم، بل تقطعت بهم الأسباب.
(يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ) أي: يغلظ ويزداد، لأنهم ضلوا بأنفسهم وأضلوا غيرهم.
(مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) أي: من بغضهم للحق ونفورهم عنه، ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا آيات الله سماعا ينتفعون به ( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) (وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) أي ينظرون نظر < 1-380 > عبرة وتفكر فيما ينفعهم وإنما هم كالصم البكم الذين لا يعقلون
(أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) حيث فوتوها أعظم الثواب واستحقوا أشد العذاب (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي اضمحل دينهم الذي يدعون إليه ويحسنونه ولم تغن عنهم آلهتهم التي يعبدون من دون الله لما جاء أمر ربك
(لا جَرَمَ) أي حقا وصدقا (أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ) حصر الخسار فيهم بل جعل لهم منه أشده لشدة حسرتهم وحرمانهم وما يعانون من المشقة والعذاب نستجير بالله من حالهم
ولما ذكر حال الأشقياء ذكر أوصاف السعداء وما لهم عند الله من الثواب فقال
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم، أي: صدقوا واعترفوا, لما أمر الله بالإيمان به، من أصول الدين وقواعده.
(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) المشتملة على أعمال القلوب والجوارح، وأقوال اللسان. (وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ) أي: خضعوا له، واستكانوا لعظمته، وذلوا لسلطانه، وأنابوا إليه بمحبته، وخوفه، ورجائه، والتضرع إليه.
(أُولَئِكَ) الذين جمعوا تلك الصفات (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) لأنهم لم يتركوا من الخير مطلبا، إلا أدركوه، ولا خيرا، إلا سبقوا إليه.
(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) أي: فريق الأشقياء، وفريق السعداء. (كَالأعْمَى وَالأصَمِّ) هؤلاء الأشقياء، (وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) مثل السعداء.
(هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا) لا يستوون مثلا بل بينهما من الفرق ما لا يأتي عليه الوصف، (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الأعمال، التي تنفعكم، فتفعلونها، والأعمال التي تضركم، فتتركونها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25 - 49) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg إلى آخر القصة .
أي: ولقد أرسلنا رسولنا نوحا أول المرسلين إلى قومه يدعوهم إلى الله وينهاهم عن الشرك فقال لهم: (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي: بينت لكم ما أنذرتكم به، بيانا زال به الإشكال.
(أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) أي: أخلصوا العبادة لله وحده، واتركوا كل ما يعبد من دون الله. ( إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) إن لم تقوموا بتوحيد الله وتطيعوني.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ (27) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: الأشراف والرؤساء، رادين لدعوة نوح عليه السلام، كما جرت العادة لأمثالهم، أنهم أول من رد دعوة المرسلين.

(مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا ) وهذا مانع بزعمهم عن اتباعه، مع أنه في نفس الأمر هو الصواب، الذي لا ينبغي غيره، لأن البشر يتمكن البشر، أن يتلقوا عنه، ويراجعوه في كل أمر، بخلاف الملائكة.
(وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ) أي: ما نرى اتبعك منا إلا الأراذل والسفلة، بزعمهم.
وهم في الحقيقة الأشراف، وأهل العقول، الذين انقادوا للحق ولم يكونوا كالأراذل، الذين يقال لهم الملأ الذين اتبعوا كل شيطان مريد، واتخذوا آلهة من الحجر والشجر، يتقربون إليها ويسجدون لها، فهل ترى أرذل من هؤلاء وأخس؟.
وقولهم: ( بَادِيَ الرَّأْيِ ) أي: إنما اتبعوك من غير تفكر وروية، بل بمجرد ما دعوتهم اتبعوك، يعنون بذلك، أنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم، ولم يعلموا أن الحق المبين تدعو إليه بداهة العقول، وبمجرد ما يصل إلى أولي الألباب، يعرفونه ويتحققونه، لا كالأمور الخفية، التي تحتاج إلى تأمل، وفكر طويل.
(وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ) أي: لستم أفضل منا فننقاد لكم، ( بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) وكذبوا في قولهم هذا، فإنهم رأوا من الآيات التي جعلها الله مؤيدة لنوح، ما يوجب لهم الجزم التام على صدقه.
ولهذا ( قَالَ ) لهم نوح مجاوبا ( يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ) أي: على يقين وجزم، يعني، وهو الرسول الكامل القدوة، الذي ينقاد له أولو الألباب، ويضمحل في جنب عقله، عقول الفحول من الرجال, وهو الصادق حقا، فإذا قال: إني على بينة من ربي، فحسبك بهذا القول، شهادة له وتصديقا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: أوحى إلي وأرسلني، ومنَّ علي بالهداية، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: خفيت عليكم، وبها تثاقلتم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَنُلْزِمُكُمُو هَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: أنكرهكم على ما تحققناه، وشككتم أنتم فيه؟ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg حتى حرصتم على رد ما جئت به، ليس ذلك ضارنا، وليس بقادح من يقيننا فيه، ولا قولكم < 1-381 > وافتراؤكم علينا، صادا لنا عما كنا عليه.

وإنما غايته أن يكون صادا لكم أنتم، وموجبا لعدم انقيادكم للحق الذي تزعمون أنه باطل، فإذا وصلت الحال إلى هذه الغاية، فلا نقدر على إكراهكم، على ما أمر الله، ولا إلزامكم، ما نفرتم عنه، ولهذا قال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَنُلْزِمُكُمُو هَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-06-16, 06:07 PM
الحلقة (225)
تفسير السعدى
فففسورة هودققق
من الأية(29) الى الأية(37)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة هود عليه الصلاة
والسلام [وهي] مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: على دعوتي إياكم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَالا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فستستثقلون المغرم.
(إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ ) وكأنهم طلبوا منه طرد المؤمنين الضعفاء، فقال لهم: ( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ) أي: ما ينبغي لي، ولا يليق بي ذلك، بل أتلقاهم بالرحب والإكرام، والإعزاز والإعظام ( إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ ) فمثيبهم على إيمانهم وتقواهم بجنات النعيم.
(وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ) حيث تأمرونني، بطرد أولياء الله, وإبعادهم عني. وحيث رددتم الحق، لأنهم أتباعه، وحيث استدللتم على بطلان الحق بقولكم إني بشر مثلكم وإنه ليس لنا عليكم من فضل.
(وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ ) أي: من يمنعني من عذابه، فإن طردهم موجب للعذاب والنكال، الذي لا يمنعه من دون الله مانع.
(أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ما هو الأنفع لكم والأصلح، وتدبرون الأمور.
(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ) أي: غايتي أني رسول الله إليكم، أبشركم، وأنذركم، وأما ما عدا ذلك، فليس بيدي من الأمر شيء، فليست خزائن الله عندي، أدبرها أنا، وأعطي من أشاء، وأحرم من أشاء، ( وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) فأخبركم بسرائركم وبواطنكم ( وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ) والمعنى: أني لا أدعي رتبة فوق رتبتي، ولا منزلة سوى المنزلة، التي أنزلني الله بها، ولا أحكم على الناس، بظني.
(وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ ) أي: ضعفاء المؤمنين، الذين يحتقرهم الملأ الذين كفروا ( لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ ) فإن كانوا صادقين في إيمانهم، فلهم الخير الكثير، وإن كانوا غير ذلك، فحسابهم على الله.
(إِنِّي إِذًا ) أي: إن قلت لكم شيئا مما تقدم ( لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) وهذا تأييس منه، عليه الصلاة والسلام لقومه، أن ينبذ فقراء المؤمنين, أو يمقتهم، وتقنيع لقومه، بالطرق المقنعة للمنصف.
فلما رأوه، لا ينكف عما كان عليه من دعوتهم، ولم يدركوا منه مطلوبهم ( قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ) من العذاب ( إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) فما أجهلهم وأضلهم، حيث قالوا هذه المقالة، لنبيهم الناصح.
فهلا قالوا إن كانوا صادقين: يا نوح قد نصحتنا، وأشفقت علينا, ودعوتنا إلى أمر، لم يتبين لنا، فنريد منك أن تبينه لنا لننقاد لك، وإلا فأنت مشكور في نصحك. لكان هذا الجواب المنصف، الذي قد دعي إلى أمر خفي عليه، ولكنهم في قولهم، كاذبون، وعلى نبيهم متجرئون. ولم يردوا ما قاله بأدنى شبهة، فضلا عن أن يردوه بحجة.
ولهذا عدلوا - من جهلهم وظلمهم - إلى الاستعجال بالعذاب، وتعجيز الله، ولهذا أجابهم نوح عليه السلام بقوله: ( إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ ) أي: إن اقتضت مشيئته وحكمته، أن ينزله بكم، فعل ذلك. ( وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) لله، وأنا ليس بيدي من الأمر شيء.
(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ) أي: إن إرادة الله غالبة، فإنه إذا أراد أن يغويكم، لردكم الحق، فلو حرصت غاية مجهودي، ونصحت لكم أتم النصح - وهو قد فعل عليه السلام - فليس ذلك بنافع لكم شيئا، ( هُوَ رَبُّكُمْ ) يفعل بكم ما يشاء، ويحكم فيكم بما يريد ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) فيجازيكم بأعمالكم.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ) هذا الضمير محتمل أن يعود إلى نوح، كما كان السياق في قصته مع قومه، وأن المعنى: أن قومه يقولون: افترى على الله كذبا، وكذب بالوحي الذي يزعم أنه من الله، وأن الله أمره أن يقول: ( قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ) أي: كل عليه وزره ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) .
ويحتمل أن يكون عائدا إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتكون هذه الآية معترضة، في أثناء قصة نوح وقومه، لأنها من الأمور التي لا يعلمها إلا الأنبياء، فلما شرع الله في قصها على رسوله، وكانت من جملة الآيات الدالة على صدقه ورسالته، ذكر تكذيب قومه له مع البيان التام فقال: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ) أي: هذا القرآن اختلقه محمد من تلقاء نفسه، أي: فهذا من أعجب الأقوال وأبطلها، فإنهم يعلمون أنه لم يقرأ ولم يكتب، ولم يرحل عنهم لدراسة على أهل الكتاب، فجاء بهذا الكتاب الذي تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله.
فإذا زعموا - مع هذا - أنه افتراه، علم أنهم معاندون، ولم يبق فائدة في حجاجهم، بل اللائق في هذه الحال، الإعراض عنهم، ولهذا قال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: ذنبي < 1-382 > وكذبي، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: فلم تستلجون في تكذيبي.
وقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: قد قسوا، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: فلا تحزن، ولا تبال بهم, وبأفعالهم، فإن الله قد مقتهم، وأحق عليهم عذابه الذي لا يرد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: بحفظنا، ومرأى منا, وعلى مرضاتنا، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: لا تراجعني في إهلاكهم، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: قد حق عليهم القول، ونفذ فيهم القدر.

ابو وليد البحيرى
2019-06-16, 06:14 PM
الحلقة (226)
تفسير السعدى
فففسورة هودققق
من الأية(38) الى الأية(45)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة هود عليه الصلاة
والسلام [وهي] مكية


فامتثل أمر ربه، وجعل يصنع الفلك http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ورأوا ما يصنع http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآن http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg نحن أم أنتم. وقد علموا ذلك، حين حل بهم العقاب.

(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا ) أي قدرنا بوقت نزول العذاب بهم ( وَفَارَ التَّنُّورُ ) أي: أنزل الله السماء بالماء بالمنهمر، وفجر الأرض كلها عيونا حتى التنانير التي هي محل النار في العادة، وأبعد ما يكون عن الماء، تفجرت فالتقى الماء على أمر، قد قدر.
(قُلْنَا ) لنوح: ( احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) أي: من كل صنف من أصناف المخلوقات، ذكر وأنثى، لتبقى مادة سائر الأجناس وأما بقية الأصناف الزائدة عن الزوجين، فلأن السفينة لا تطيق حملها ( وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) ممن كان كافرا، كابنه الذي غرق.
(وَمَنْ آمَنَ ) ( و ) الحال أنه ( مَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ ) .
(وَقَالَ ) نوح لمن أمره الله أن يحملهم: ( ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ) أي: تجري على اسم الله، وترسو على اسم الله، وتجري بتسخيره وأمره.
(إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) حيث غفر لنا ورحمنا، ونجانا من القوم الظالمين.
ثم وصف جريانها كأنا نشاهدها فقال: ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ ) أي: بنوح، ومن ركب معه ( فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ) والله حافظها وحافظ أهلها ( وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ) لما ركب، ليركب معه ( وَكَانَ ) ابنه ( فِي مَعْزِلٍ ) عنهم، حين ركبوا، أي: مبتعدا وأراد منه، أن يقرب ليركب، فقال له: ( يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ) فيصيبك ما يصيبهم.
فـ ( قَالَ ) ابنه، مكذبا لأبيه أنه لا ينجو إلا من ركب معه السفينة.
(سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ) أي: سأرتقي جبلا أمتنع به من الماء، فـ ( قَالَ ) نوح: ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ ) فلا يعصم أحدا، جبل ولا غيره، ولو تسبب بغاية ما يمكنه من الأسباب، لما نجا إن لم ينجه الله. ( وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ ) الابن ( مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) .
فلما أغرقهم الله ونجى نوحا ومن معه ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ) الذي خرج منك، والذي نزل إليك، أي: ابلعي الماء الذي على وجهك ( وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ) فامتثلتا لأمر الله، فابتلعت الأرض ماءها, وأقلعت السماء، فنضب الماء من الأرض، ( وَقُضِيَ الأَمْرُ ) بهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاسْتَوَتْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg السفينة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg عَلَى الْجُودِيِّ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: أرست على ذلك الجبل المعروف في أرض الموصل.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: أتبعوا بعد هلاكهم لعنة وبعدا, وسحقا لا يزال معهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: وقد قلت لي: فـ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ولن تخلف ما وعدتني به.
لعله عليه الصلاة والسلام، حملته الشفقة، وأن الله وعده بنجاة أهله، ظن أن الوعد لعمومهم، من آمن، ومن لم يؤمن، فلذلك دعا ربه بذلك الدعاء، ومع هذا، ففوض الأمر لحكمة الله البالغة.

ابو وليد البحيرى
2019-06-16, 06:23 PM
الحلقة (227)
تفسير السعدى
فففسورة هودققق
من الأية(46) الى الأية(53)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة هود عليه الصلاة
والسلام [وهي] مكية


فـ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الله له: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الذين وعدتك بإنجائهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: هذا الدعاء الذي دعوت http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg به، لنجاة كافر, لا يؤمن بالله ولا رسوله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: ما لا تعلم عاقبته، ومآله، وهل يكون خيرا، أو غير خير.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: أني أعظك وعظا تكون به من الكاملين، وتنجو به من صفات الجاهلين.
فحينئذ ندم نوح، عليه السلام، ندامة شديدة، على ما صدر منه, و http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
< 1-383 >
فبالمغفرة والرحمة ينجو العبد من أن يكون من الخاسرين، ودل هذا على أن نوحا، عليه السلام، لم يكن عنده علم، بأن سؤاله لربه، في نجاة ابنه محرم، داخل في قوله ( وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) بل تعارض عنده الأمران، وظن دخوله في قوله: (وَأَهْلَكَ).

وبعد ذلك تبين له أنه داخل في المنهي عن الدعاء لهم، والمراجعة فيهم.
(قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ) من الآدميين وغيرهم من الأزواج التي حملها معه، فبارك الله في الجميع، حتى ملأوا أقطار الأرض ونواحيها.

(وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ) في الدنيا ( ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي: هذا الإنجاء، ليس بمانع لنا من أن من كفر بعد ذلك، أحللنا به العقاب، وإن متعوا قليلا فسيؤخذون بعد ذلك.

قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بعد ما قص عليه هذه القصة المبسوطة، التي لا يعلمها إلا من منَّ عليه برسالته.
(تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) فيقولوا: إنه كان يعلمها.

فاحمد الله، واشكره، واصبر على ما أنت عليه، من الدين القويم، والصراط المستقيم، والدعوة إلى الله ( إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) الذين يتقون الشرك وسائر المعاصي، فستكون لك العاقبة على قومك، كما كانت لنوح على قومه.

(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا (50 - 60 ) ) .

إلى آخر القصة أي: ( وَ ) أرسلنا ( إِلَى عَادٍ ) وهم القبيلة المعروفة في الأحقاف, من أرض اليمن، ( أَخَاهُمْ ) في النسب ( هُودًا ) ليتمكنوا من الأخذ عنه والعلم بصدقه.

فـ ( قَالَ ) لهم ( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ ) أي: أمرهم بعبادة الله وحده، ونهاهم عما هم عليه، من عبادة غير الله، وأخبرهم أنهم قد افتروا على الله الكذب في عبادتهم لغيره, وتجويزهم لذلك، ووضح لهم وجوب عبادة الله، وفساد عبادة ما سواه.

ثم ذكر عدم المانع لهم من الانقياد فقال ( يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ) أي: غرامة من أموالكم، على ما دعوتكم إليه، فتقولوا: هذا يريد أن يأخذ أموالنا، وإنما أدعوكم وأعلمكم مجانا.

(إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ما أدعوكم إليه، وأنه موجب لقبوله، منتف المانع عن رده.

(وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) عما مضى منكم ( ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) فيما تستقبلونه، بالتوبة النصوح، والإنابة إلى الله تعالى.
فإنكم إذا فعلتم ذلك ( يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ) بكثرة الأمطار التي تخصب بها الأرض، ويكثر خيرها.
(وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ) فإنهم كانوا من أقوى الناس، ولهذا قالوا: ( مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) ؟ ، فوعدهم أنهم إن آمنوا، زادهم قوة إلى قوتهم.
(وَلا تَتَوَلَّوْا ) عنه، أي: عن ربكم ( مُجْرِمِينَ ) أي: مستكبرين عن عبادته، متجرئين على محارمه.
فـ ( قَالُوا ) رادين لقوله: ( يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ) إن كان قصدهم بالبينة البينة التي يقترحونها، فهذه غير لازمة للحق، بل اللازم أن يأتي النبي بآية تدل على صحة ما جاء به، وإن كان قصدهم أنه لم يأتهم ببينة، تشهد لما قاله بالصحة، فقد كذبوا في ذلك، فإنه ما جاء نبي لقومه، إلا وبعث الله على يديه، من الآيات ما يؤمن على مثله البشر.
ولو لم يكن له آية، إلا دعوته إياهم لإخلاص الدين لله، وحده لا شريك له، والأمر بكل عمل صالح، وخلق جميل، والنهي عن كل خلق ذميم من الشرك بالله، والفواحش، والظلم، وأنواع المنكرات، مع ما هو مشتمل عليه هود، عليه السلام، من الصفات، التي لا تكون إلا لخيار الخلق وأصدقهم، لكفى بها آيات وأدلة، على صدقه.
بل أهل العقول، وأولو الألباب، يرون أن هذه الآية، أكبر من مجرد الخوارق، التي يراها بعض الناس، هي المعجزات فقط. ومن آياته، وبيناته الدالة على صدقه، أنه شخص واحد، ليس له أنصار ولا أعوان، وهو يصرخ في قومه، ويناديهم، ويعجزهم، ويقول لهم: ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ )
(إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ) وهم الأعداء الذين لهم السطوة والغلبة، ويريدون إطفاء ما معه من النور، بأي طريق كان، وهو غير مكترث منهم، ولا مبال بهم، وهم عاجزون لا يقدرون أن ينالوه بشيء من السوء، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون.

وقولهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg < 1-384 > أي: لا نترك عبادة آلهتنا لمجرد قولك، الذي ما أقمت عليه بينة بزعمهم، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهذا تأييس منهم لنبيهم، هود عليه السلام, في إيمانهم، وأنهم لا يزالون في كفرهم يعمهون.

ابو وليد البحيرى
2019-06-16, 06:50 PM
الحلقة (228)
تفسير السعدى
فففسورة هودققق
من الأية(54) الى الأية(62)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة هود عليه الصلاة
والسلام [وهي] مكية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنْ نَقُولُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فيك http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: أصابتك بخبال وجنون، فصرت تهذي بما لا يعقل. فسبحان من طبع على قلوب الظالمين، كيف جعلوا أصدق الخلق الذي جاء بأحق الحق، بهذه المرتبة، التي يستحي العاقل من حكايتها عنهم لولا أن الله حكاها عنهم.

ولهذا بين هود، عليه الصلاة والسلام، أنه واثق غاية الوثوق، أنه لا يصيبه منهم، ولا من آلهتهم أذى، فقال: ( إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ) أي اطلبوا لي الضرر كلكم بكل طريق تتمكنون بها مني ( ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ) أي لا تمهلوني
(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ ) أي اعتمدت في أمري كله على الله ( رَبِّي وَرَبِّكُمْ ) أي هو خالق الجميع ومدبرنا وإياكم وهو الذي ربانا
(مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ) فلا تتحرك ولا تسكن إلا بإذنه فلو اجتمعتم جميعا على الإيقاع بي والله لم يسلطكم علي لم تقدروا على ذلك فإن سلطكم فلحكمة أرادها
فـ ( إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي على عدل وقسط وحكمة وحمد في قضائه وقدره في شرعه وأمره وفي جزائه وثوابه وعقابه لا تخرج أفعاله عن الصراط المستقيم التي يحمد ويثنى عليه بها
(فَإِنْ تَوَلَّوْا ) عما دعوتكم إليه ( فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ) فلم يبق عليَّ تبعة من شأنكم
(وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) يقومون بعبادته ولا يشركون به شيئا ( وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا ) فإن ضرركم إنما يعود عليكم فالله لا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة المطيعين ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ) ( إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ )
(وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) أي عذابنا بإرسال الريح العقيم التي ( مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ )
(نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُم ْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ) أي عظيم شديد أحله الله بعاد فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم
(وَتِلْكَ عَادٌ ) الذين أوقع الله بهم ما أوقع بظلم منهم لأنهم ( جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ) ولهذا قالوا لهود ( مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ) فتبين بهذا أنهم متيقنون لدعوته وإنما عاندوا وجحدوا ( وَعَصَوْا رُسُلَهُ ) لأن من عصى رسولا فقد عصى جميع المرسلين لأن دعوتهم واحدة
(وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ ) أي متسلط على عباد الله بالجبروت ( عَنِيدٍ ) أي معاند لآيات الله فعصوا كل ناصح ومشفق عليهم واتبعوا كل غاش لهم يريد إهلاكهم لا جرم أهلكهم الله
(وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) فكل وقت وجيل إلا ولأنبائهم القبيحة وأخبارهم الشنيعة ذكر يذكرون به وذم يلحقهم ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ) لهم أيضا لعنة ( أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ ) أي جحدوا من خلقهم ورزقهم ورباهم ( أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ) أي أبعدهم الله عن كل خير وقربهم من كل شر
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا (61 - 68) ) إلى آخر قصتهم .
، أي: ( و ) أرسلنا ( إِلَى ثَمُودَ ) وهم: عاد الثانية، المعروفون، الذين يسكنون الحجر، ووادي القرى، ( أَخَاهُمْ ) في النسب ( صَالِحًا ) عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فـ ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) أي: وحدوه، وأخلصوا له الدين ( مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) لا من أهل السماء، ولا من أهل الأرض.
(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ ) أي: خلقكم فيها ( وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فِيهَا ) أي: استخلفكم فيها، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة، ومكنكم في الأرض، تبنون، وتغرسون، وتزرعون، وتحرثون ما شئتم، وتنتفعون بمنافعها، وتستغلون مصالحها، فكما أنه لا شريك له في جميع ذلك، فلا تشركوا به في عبادته.
(فَاسْتَغْفِرُو ُ ) مما صدر منكم، من الكفر، والشرك، والمعاصي, وأقلعوا عنها، ( ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) أي: ارجعوا إليه بالتوبة النصوح، والإنابة، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: قريب ممن دعاه دعاء مسألة، أو دعاء عبادة، يجيبه بإعطائه سؤله، وقبول عبادته، وإثابته عليها، أجل الثواب، واعلم أن قربه تعالى نوعان: عام، وخاص، فالقرب العام: قربه بعلمه، من جميع الخلق، وهو المذكور في قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg < 1-385 > والقرب الخاص: قربه من عابديه، وسائليه، ومحبيه، وهو المذكور في قوله تعالى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
وفي هذه الآية، وفي قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهذا النوع، قرب يقتضي إلطافه تعالى، وإجابته لدعواتهم، وتحقيقه لمراداتهم، ولهذا يقرن، باسمه "القريب" اسمه "المجيب"
فلما أمرهم نبيهم صالح عليه السلام، ورغبهم في الإخلاص لله وحده, ردوا عليه دعوته، وقابلوه أشنع المقابلة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: قد كنا نرجوك ونؤمل فيك العقل والنفع، وهذا شهادة منهم، لنبيهم صالح، أنه ما زال معروفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وأنه من خيار قومه.
ولكنه، لما جاءهم بهذا الأمر، الذي لا يوافق أهواءهم الفاسدة, قالوا هذه المقالة، التي مضمونها، أنك [قد] كنت كاملا والآن أخلفت ظننا فيك، وصرت بحالة لا يرجى منك خير.
وذنبه، ما قالوه عنه، وهو قولهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وبزعمهم أن هذا من أعظم القدح في صالح، كيف قدح في عقولهم، وعقول آبائهم الضالين، وكيف ينهاهم عن عبادة، من لا ينفع ولا يضر، ولا يغني شيئا من الأحجار، والأشجار ونحوها.

وأمرهم بإخلاص الدين لله ربهم، الذي لم تزل نعمه عليهم تترى, وإحسانه عليهم دائما ينزل، الذي ما بهم من نعمة، إلا منه، ولا يدفع عنهم السيئات إلا هو.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: ما زلنا شاكين فيما دعوتنا إليه، شكا مؤثرا في قلوبنا الريب، وبزعمهم أنهم لو علموا صحة ما دعاهم إليه، لاتبعوه، وهم كذبة في ذلك، ولهذا بين كذبهم في قوله:

ابو وليد البحيرى
2019-06-16, 06:57 PM
الحلقة (229)
تفسير السعدى
فففسورة هودققق
من الأية(63) الى الأية(71)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة هود عليه الصلاة
والسلام [وهي] مكية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: برهان ويقين مني http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: منَّ علي برسالته ووحيه، أي: أفأتابعكم على ما أنتم عليه، وما تدعونني إليه؟.
(فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ) أي: غير خسار وتباب، وضرر.
(وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ) لها شرب من البئر يوما، ثم يشربون كلهم من ضرعها، ولهم شرب يوم معلوم.
(فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ) أي: ليس عليكم من مؤنتها وعلفها شيء، ( وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ ) أي: بعقر ( فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ ) لهم صالح ( تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) بل لا بد من وقوعه
(فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) بوقوع العذاب ( نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ) أي نجيناهم من العذاب والخزي والفضيحة
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) ومن قوته وعزته أن أهلك الأمم الطاغية ونجى الرسل وأتباعهم
(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ) العظيمة فقطعت قلوبهم ( فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) أي خامدين لا حراك لهم
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ) أي كأنهم لما جاءهم العذاب ما تمتعوا في ديارهم ولا أنسوا بها ولا تنعموا بها يوما من الدهر قد فارقهم النعيم وتناولهم العذاب السرمدي الذي ينقطع الذي كأنه لم يزل
(أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ ) أي جحدوه بعد أن جاءتهم الآية المبصرة ( أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ ) فما أشقاهم وأذلهم نستجير بالله من عذاب الدنيا وخزيها
(وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى (69 - 83) ) إلى آخر القصة .
أي: ( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا ) من الملائكة الكرام، رسولنا ( إِبْرَاهِيمَ ) الخليل ( بِالْبُشْرَى ) أي: بالبشارة بالولد، حين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط، وأمرهم أن يمروا على إبراهيم، فيبشروه بإسحاق، فلما دخلوا عليه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: سلموا عليه، ورد عليهم السلام.
ففي هذا مشروعية السلام، وأنه لم يزل من ملة إبراهيم عليه السلام، وأن السلام قبل الكلام، وأنه ينبغي أن يكون الرد، أبلغ من الابتداء, لأن سلامهم بالجملة الفعلية، الدالة على التجدد، ورده بالجملة الاسمية، الدالة على الثبوت والاستمرار، وبينهما فرق كبير كما هو معلوم في علم العربية.
(فَمَا لَبِثَ ) إبراهيم لما دخلوا عليه ( أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ) أي: بادر لبيته، فاستحضر لأضيافه عجلا مشويا على الرضف سمينا، فقربه إليهم فقال: ألا تأكلون؟.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: إلى تلك الضيافة http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وظن أنهم أتوه بشر ومكروه، وذلك قبل أن يعرف أمرهم.
< 1-386 >
فـ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: إنا رسل الله, أرسلنا الله إلى إهلاك قوم لوط.
وامرأة إبراهيم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَائِمَةٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg تخدم أضيافه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَضَحِكَتْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg حين سمعت بحالهم، وما أرسلوا به، تعجبا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فتعجبت من ذلك.

ابو وليد البحيرى
2019-06-16, 07:04 PM
الحلقة (230)
تفسير السعدى
فففسورة هودققق
من الأية(72) الى الأية(81)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة هود عليه الصلاة
والسلام [وهي] مكية

و http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فهذان مانعان من وجود الولد http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg

(قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) فإن أمره لا عجب فيه، لنفوذ مشيئته التامة في كل شيء، فلا يستغرب على قدرته شيء، وخصوصا فيما يدبره ويمضيه، لأهل هذا البيت المبارك.

(رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) أي: لا تزال رحمته وإحسانه وبركاته، وهي: الزيادة من خيره وإحسانه، وحلول الخير الإلهي على العبد ( عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) أي: حميد الصفات، لأن صفاته صفات كمال، حميد الأفعال لأن أفعاله إحسان، وجود، وبر، وحكمة، وعدل، وقسط.
مجيد، والمجد: هو عظمة الصفات وسعتها، فله صفات الكمال، وله من كل صفة كمال أكملها وأتمها وأعمها.
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ ) الذي أصابه من خيفة أضيافه ( وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى ) بالولد، التفت حينئذ، إلى مجادلة الرسل في إهلاك قوم لوط، وقال لهم: ( إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّه ُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ )
(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ ) أي: ذو خلق حسن وسعة صدر، وعدم غضب، عند جهل الجاهلين.
(أَوَّاهٌ ) أي: متضرع إلى الله في جميع الأوقات، ( مُنِيبٌ ) أي: رجَّاع إلى الله بمعرفته ومحبته، والإقبال عليه, والإعراض عمن سواه، فلذلك كان يجادل عمن حتَّم الله بهلاكهم.
فقيل له: ( يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) الجدال ( إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ) بهلاكهم ( وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) فلا فائدة في جدالك.
(وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا ) أي: الملائكة الذين صدروا من إبراهيم لما أتوا ( لُوطًا سِيءَ بِهِمْ ) أي: شق عليه مجيئهم، ( وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) أي: شديد حرج، لأنه علم أن قومه لا يتركونهم، لأنهم في صور شباب، جرد، مرد, في غاية الكمال والجمال، ولهذا وقع ما خطر بباله.
فـ ( وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ) أي: يسرعون ويبادرون، يريدون أضيافه بالفاحشة، التي كانوا يعملونها، ولهذا قال: ( وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ) أي: الفاحشة التي ما سبقهم عليها أحد من العالمين.
(قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) من أضيافي، [ وهذا كما عرض لسليمان صلى الله عليه وسلم، على المرأتين أن يشق الولد المختصم فيه, لاستخراج الحق ولعلمه أن بناته ممتنع منالهن، ولا حق لهم فيهن. والمقصود الأعظم، دفع هذه الفاحشة الكبرى ] .
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ) أي: إما أن تراعوا تقوى الله, وإما أن تراعوني في ضيفي، ولا تخزون عندهم.
(أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ) فينهاكم، ويزجركم، وهذا دليل على مروجهم وانحلالهم، من الخير والمروءة.
فـ ( قَالُوا ) له: ( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ) أي: لا نريد إلا الرجال، ولا لنا رغبة في النساء.
فاشتد قلق لوط عليه الصلاة والسلام، و ( قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) كقبيلة مانعة، لمنعتكم.
وهذا بحسب الأسباب المحسوسة، وإلا فإنه يأوي إلى أقوى الأركان وهو الله، الذي لا يقوم لقوته أحد، ولهذا لما بلغ الأمر منتهاه واشتد الكرب.
(قَالُوا ) له: ( إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ ) أي: أخبروه بحالهم ليطمئن قلبه، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg بسوء.
ثم قال جبريل بجناحه، فطمس أعينهم، فانطلقوا يتوعدون لوطا بمجيء الصبح، وأمر الملائكة لوطا، أن يسري بأهله http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: بجانب منه قبل الفجر بكثير، ليتمكنوا من البعد عن قريتهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: بادروا بالخروج، وليكن همكم النجاة ولا تلتفتوا إلى ما وراءكم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg من العذاب http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا أَصَابَهُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg لأنها تشارك قومها في الإثم، فتدلهم على أضياف لوط، إذا نزل به أضياف.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فكأن لوطا، استعجل ذلك، فقيل له: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-06-22, 05:27 AM
الحلقة (231)
تفسير السعدى
فففسورة هودققق
من الأية(82) الى الأية(88)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة هود عليه الصلاة
والسلام [وهي] مكية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg بنزول العذاب، وإحلاله فيهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg جَعَلْنَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ديارهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg عَالِيَهَا سَافِلَهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: قلبناها عليهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: من حجارة النار الشديدة الحرارة ( مَنْضُودٍ ) أي. متتابعة، تتبع من شذ عن القرية.
(مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ ) أي: معلمة، عليها علامة العذاب والغضب، ( وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) الذين يشابهون لفعل < 1-387 > قوم لوط ( بِبَعِيدٍ ) فليحذر العباد، أن يفعلوا كفعلهم، لئلا يصيبهم ما أصابهم.
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا (84 - 95) إلى آخر القصة .
أي: ( و ) أرسلنا ( إِلَى مَدْيَنَ ) القبيلة المعروفة، الذين يسكنون مدين في أدنى فلسطين، ( أَخَاهُمْ ) في النسب ( شُعَيْبًا ) لأنهم يعرفونه، وليتمكنوا من الأخذ عنه.
فـ ( قَالَ ) لهم ( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) أي: أخلصوا له العبادة، فإنهم كانوا يشركون به، وكانوا - مع شركهم - يبخسون المكيال والميزان، ولهذا نهاهم عن ذلك فقال: ( وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ) بل أوفوا الكيل والميزان بالقسط.
(إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ ) أي: بنعمة كثيرة، وصحة، وكثرة أموال وبنين, فاشكروا الله على ما أعطاكم، ولا تكفروا بنعمة الله، فيزيلها عنكم.
(وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ) أي: عذابا يحيط بكم, ولا يبقي منكم باقية.
(وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ) أي: بالعدل الذي ترضون أن تعطوه، ( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ) أي: لا تنقصوا من أشياء الناس، فتسرقوها بأخذها، بنقص المكيال والميزان.
(وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) فإن الاستمرار على المعاصي، يفسد الأديان، والعقائد، والدين، والدنيا، ويهلك الحرث والنسل.
(بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ ) أي: يكفيكم ما أبقى الله لكم من الخير، وما هو لكم، فلا تطمعوا في أمر لكم عنه غنية، وهو ضار لكم جدا.
(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) فاعملوا بمقتضى الإيمان، ( وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) أي: لست بحافظ لأعمالكم، ووكيل عليها، وإنما الذي يحفظها الله تعالى، وأما أنا، فأبلغكم ما أرسلت به.
(قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) أي: قالوا ذلك على وجه التهكم بنبيهم، والاستبعاد لإجابتهم له.
ومعنى كلامهم: أنه لا موجب لنهيك لنا، إلا أنك تصلي لله, وتتعبد له، أفإن كنت كذلك، أفيوجب لنا أن نترك ما يعبد آباؤنا، لقول ليس عليه دليل إلا أنه موافق لك، فكيف نتبعك، ونترك آباءنا الأقدمين أولي العقول والألباب؟!
وكذلك لا يوجب قولك لنا: ( أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا ) ما قلت لنا، من وفاء الكيل، والميزان، وأداء الحقوق الواجبة فيها، بل لا نزال نفعل فيها ما شئنا، لأنها أموالنا، فليس لك فيها تصرف.
ولهذا قالوا في تهكمهم: ( إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) أي: أئنك أنت الذي، الحلم والوقار، لك خلق، والرشد لك سجية، فلا يصدر عنك إلا رشد، ولا تأمر إلا برشد، ولا تنهى إلا عن غي، أي: ليس الأمر كذلك.
وقصدهم أنه موصوف بعكس هذين الوصفين: بالسفه والغواية، أي: أن المعنى: كيف تكون أنت الحليم الرشيد، وآباؤنا هم السفهاء الغاوون؟!!
وهذا القول الذي أخرجوه بصيغة التهكم، وأن الأمر بعكسه, ليس كما ظنوه، بل الأمر كما قالوه. إن صلاته تأمره أن ينهاهم، عما كان يعبد آباؤهم الضالون، وأن يفعلوا في أموالهم ما يشاءون، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأي فحشاء ومنكر، أكبر من عبادة غير الله، ومن منع حقوق عباد الله، أو سرقتها بالمكاييل والموازين، وهو عليه الصلاة والسلام الحليم الرشيد.
(قَالَ ) لهم شعيب: ( يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ) أي: يقين وطمأنينة، في صحة ما جئت به، ( وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ) أي: أعطاني الله من أصناف المال ما أعطاني.
( وَ ) أنا لا ( أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ )فلست أريد أن أنهاكم عن البخس، في المكيال، والميزان، وأفعله أنا، وحتى تتطرق إليَّ التهمة في ذلك بل ما أنهاكم عن أمر إلا وأنا أول مبتدر لتركه.
(إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) أي: ليس لي من المقاصد إلا أن تصلح أحوالكم، وتستقيم منافعكم، وليس لي من المقاصد الخاصة لي وحدي، شيء بحسب استطاعتي.
ولما كان هذا فيه نوع تزكية للنفس، دفع هذا بقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: وما يحصل لي من التوفيق لفعل الخير، والانفكاك عن الشر إلا بالله تعالى، لا بحولي ولا بقوتي.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: اعتمدت في أموري، ووثقت في كفايته، http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَإِلَيْهِ أُنِيبُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg في أداء ما أمرني به من أنواع العبادات، وفي [هذا] التقرب إليه بسائر أفعال الخيرات.

وبهذين الأمرين تستقيم أحوال العبد، وهما الاستعانة بربه، والإنابة إليه، كما قال تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وقال: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ابو وليد البحيرى
2019-06-22, 05:34 AM
الحلقة (232)
تفسير السعدى
فففسورة هودققق
من الأية(89) الى الأية(97)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة هود عليه الصلاة
والسلام [وهي] مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: لا تحملنكم مخالفتي ومشاقتي http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg أَنْ يُصِيبَكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg من العقوبات http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg لا في الدار ولا في الزمان.

(وَاسْتَغْفِرُو رَبَّكُمْ ) عما اقترفتم من الذنوب ( ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) فيما يستقبل من أعماركم، بالتوبة النصوح، والإنابة إليه بطاعته، وترك مخالفته.
(إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) لمن تاب وأناب، يرحمه فيغفر له، ويتقبل توبته ويحبه، ومعنى الودود، من أسمائه تعالى، أنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه، فهو "فعول" بمعنى"فاعل" وبمعنى "مفعول"
(قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ ) أي: تضجروا من نصائحه ومواعظه لهم، فقالوا: ( مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ ) وذلك لبغضهم لما يقول, ونفرتهم عنه.
(وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) أي: في نفسك، لست من الكبار والرؤساء بل من المستضعفين.
(وَلَوْلا رَهْطُكَ ) أي: جماعتك وقبيلتك ( لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ) أي: ليس لك قدر في صدورنا، ولا احترام في أنفسنا، وإنما احترمنا قبيلتك، بتركنا إياك.
فـ ( قَالَ ) لهم مترققا لهم: ( يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ) أي: كيف تراعوني لأجل رهطي، ولا تراعوني لله، فصار رهطي أعز عليكم من الله.
(وَاتَّخَذْتُمُ هُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ) أي: نبذتم أمر الله، وراء ظهوركم، ولم تبالوا به، ولا خفتم منه.
(إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) لا يخفى عليه من أعمالكم مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فسيجازيكم على ما عملتم أتم الجزاء.
(و) لما أعيوه وعجز عنهم قال: ( يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) أي: على حالتكم ودينكم.
(إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ) ويحل عليه عذاب مقيم أنا أم أنتم، وقد علموا ذلك حين وقع عليهم العذاب.
(وَارْتَقِبُوا ) ما يحل بي ( إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) ما يحل بكم.
(وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) بإهلاك قوم شعيب ( نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) لا تسمع لهم صوتا، ولا ترى منهم حركة.
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ) أي: كأنهم ما أقاموا في ديارهم، ولا تنعموا فيها حين أتاهم العذاب.
(أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ ) إذ أهلكها الله وأخزاها ( كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ) أي: قد اشتركت هاتان القبيلتان في السحق والبعد والهلاك.
وشعيب عليه السلام كان يسمى خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته لقومه، وفي قصته من الفوائد والعبر، شيء كثير.
منها: أن الكفار، كما يعاقبون، ويخاطبون، بأصل الإسلام, فكذلك بشرائعه وفروعه، لأن شعيبا دعا قومه إلى التوحيد، وإلى إيفاء المكيال والميزان، وجعل الوعيد، مرتبا على مجموع ذلك.
ومنها: أن نقص المكاييل والموازين، من كبائر الذنوب, وتخشى العقوبة العاجلة، على من تعاطى ذلك، وأن ذلك من سرقة أموال الناس، وإذا كان سرقتهم في المكاييل والموازين، موجبة للوعيد، فسرقتهم - على وجه القهر والغلبة - من باب أولى وأحرى.
ومنها: أن الجزاء من جنس العمل، فمن بخس أموال الناس، يريد زيادة ماله، عوقب بنقيض ذلك, وكان سببا لزوال الخير الذي عنده من الرزق لقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: فلا تسببوا إلى زواله بفعلكم.
ومنها: أن على العبد أن يقنع بما آتاه الله، ويقنع بالحلال عن الحرام وبالمكاسب المباحة عن المكاسب المحرمة، وأن ذلك خير له لقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ففي ذلك، من البركة، وزيادة الرزق ما ليس في التكالب على الأسباب المحرمة من المحق، وضد البركة.
ومنها: أن ذلك، من لوازم الإيمان وآثاره، فإنه رتب العمل به, على وجود الإيمان، فدل على أنه إذا لم يوجد العمل، فالإيمان ناقص أو معدوم.
ومنها: أن الصلاة، لم تزل مشروعة للأنبياء المتقدمين، وأنها من أفضل الأعمال، حتى إنه متقرر عند الكفار فضلها، وتقديمها على سائر الأعمال, وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي ميزان للإيمان وشرائعه، فبإقامتها تكمل أحوال العبد، وبعدم إقامتها، تختل أحواله الدينية.
ومنها: أن المال الذي يرزقه الله الإنسان - وإن كان الله قد خوله إياه - فليس له أن يصنع فيه ما يشاء، فإنه أمانة عنده، عليه أن يقيم حق الله فيه بأداء ما فيه من الحقوق، والامتناع من المكاسب التي حرمها الله ورسوله، لا كما يزعمه الكفار، ومن أشبههم، أن أموالهم لهم أن يصنعوا فيها ما يشاءون ويختارون، سواء وافق حكم الله، أو خالفه.
ومنها: أن من تكملة دعوة الداعي وتمامها أن يكون أول مبادر لما يأمر غيره به، وأول منته عما ينهى غيره عنه، كما قال شعيب عليه السلام: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ولقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg
< 1-389 >
ومنها أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها أو بتحصيل ما يقدر عليه منها وبدفع المفاسد وتقليلها ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة
وحقيقة المصلحة هي التي تصلح بها أحوال العباد وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية
ومنها أن من قام بما يقدر عليه من الإصلاح لم يكن ملوما ولا مذموما في عدم فعله ما لا يقدر عليه فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه وفي غيره ما يقدر عليه
ومنها أن العبد ينبغي له أن لا يتكل على نفسه طرفة عين بل لا يزال مستعينا بربه متوكلا عليه سائلا له التوفيق وإذا حصل له شيء من التوفيق فلينسبه لموليه ومسديه ولا يعجب بنفسه لقوله ( وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ )

ومنها الترهيب بأخذات الأمم وما جرى عليهم وأنه ينبغي أن تذكر القصص التي فيها إيقاع العقوبات بالمجرمين في سياق الوعظ والزجر
كما أنه ينبغي ذكر ما أكرم الله به أهل التقوى عند الترغيب والحث على التقوى
ومنها أن التائب من الذنب كما يسمح له عن ذنبه ويعفى عنه فإن الله تعالى يحبه ويوده ولا عبرة بقول من يقول "إن التائب إذا تاب فحسبه أن يغفر له ويعود عليه العفو وأما عود الود والحب فإنه لا يعود"فإن الله قال ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ )

ومنها أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة قد يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئا منها وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم أو أهل وطنهم الكفار كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها بل ربما تعين ذلك لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان
فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية وتحرص على إبادتها وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم
نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة والله أعلم
وقوله تعالى ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96 - 101) إلى آخر القصة .

يقول تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى) بن عمران ( بِآيَاتِنَا) الدالة على صدق ما جاء به، كالعصا، واليد ونحوهما، من الآيات التي أجراها الله على يدي موسى عليه السلام.
( وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي: حجة ظاهرة بينة، ظهرت ظهور الشمس.

(إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) أي: أشراف قومه لأنهم المتبوعون، وغيرهم تبع لهم، فلم ينقادوا لما مع موسى من الآيات، التي أراهم إياها، كما تقدم بسطها في سورة الأعراف، ولكنهم ( فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) بل هو ضال غاو، لا يأمر إلا بما هو ضرر محض، لا جرم - لما اتبعه قومه - أرداهم وأهلكهم.

ابو وليد البحيرى
2019-06-22, 05:40 AM
الحلقة (233)
تفسير السعدى
فففسورة هودققق
من الأية(98) الى الأية(108)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة هود عليه الصلاة
والسلام [وهي] مكية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي في الدنيا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي يلعنهم الله وملائكته والناس أجمعون في الدنيا والآخرة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي بئس ما اجتمع لهم وترادف عليهم من عذاب الله ولعنة الدنيا والآخرة

ولما ذكر قصص هؤلاء الأمم مع رسلهم قال الله تعالى لرسوله ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ) لتنذر به ويكون آية على رسالتك وموعظة وذكرى للمؤمنين
(مِنْهَا قَائِمٌ ) لم يتلف بل بقي من آثار ديارهم ما يدل عليهم ( وَ) منها ( حَصِيدٌ) قد تهدمت مساكنهم واضمحلت منازلهم فلم يبق لها أثر
(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ) بأخذهم بأنواع العقوبات ( وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) بالشرك والكفر والعناد
(فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ) وهكذا كل من التجأ إلى غير الله لم ينفعه ذلك عند نزول الشدائد
(وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ) أي خسار ودمار بالضد مما خطر ببالهم
(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) .
أي: يقصمهم بالعذاب ويبيدهم، ولا ينفعهم، ما كانوا يدعون, من دون الله من شيء.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ ) المذكور، من أخذه < 1-390 > للظالمين، بأنواع العقوبات، ( لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ) أي: لعبرة ودليلا على أن أهل الظلم والإجرام، لهم العقوبة الدنيوية، والعقوبة الأخروية، ثم انتقل من هذا، إلى وصف الآخرة فقال: ( ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ) أي: جمعوا لأجل ذلك اليوم، للمجازاة، وليظهر لهم من عظمة الله وسلطانه وعدله العظيم، ما به يعرفونه حق المعرفة.
(وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) أي: يشهده الله وملائكته، وجميع المخلوقين.
(وَمَا نُؤَخِّرُهُ ) أي: إتيان يوم القيامة ( إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ ) إذا انقضى أجل الدنيا وما قدر الله فيها من الخلق، فحينئد ينقلهم إلى الدار الأخرى، ويجري عليهم أحكامه الجزائية، كما أجرى عليهم في الدنيا, أحكامه الشرعية.

(يَوْمَ يَأْتِ ) ذلك اليوم، ويجتمع الخلق ( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ ) حتى الأنبياء، والملائكة الكرام، لا يشفعون إلا بإذنه، ( فَمِنْهُمْ ) أي: الخلق ( شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ )0 فالأشقياء، هم الذين كفروا بالله، وكذبوا رسله، وعصوا أمره، والسعداء، هم: المؤمنون المتقون.
وأما جزاؤهم ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا ) أي: حصلت لهم الشقاوة، والخزي والفضيحة، ( فَفِي النَّارِ ) منغمسون في عذابها، مشتد عليهم عقابها، ( لَهُمْ فِيهَا ) من شدة ما هم فيه ( زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) وهو أشنع الأصوات وأقبحها.
(خَالِدِينَ فِيهَا ) أي: في النار، التي هذا عذابها ( مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) أي: خالدين فيها أبدا، إلا المدة التي شاء الله, أن لا يكونوا فيها، وذلك قبل دخولها، كما قاله جمهور المفسرين، فالاستثناء على هذا، راجع إلى ما قبل دخولها، فهم خالدون فيها جميع الأزمان، سوى الزمن الذي قبل الدخول فيها.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg فكل ما أراد فعله واقتضته حكمته فعله، تبارك وتعالى، لا يرده أحد عن مراده.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: حصلت لهم السعادة، والفلاح، والفوز http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ثم أكد ذلك بقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أي: ما أعطاهم الله من النعيم المقيم، واللذة العالية، فإنه دائم مستمر، غير منقطع بوقت من الأوقات، نسأل الله الكريم من فضله.

ابو وليد البحيرى
2019-06-22, 05:46 AM
الحلقة (234)
تفسير السعدى
فففسورة هودققق
من الأية(109) الى الأية(117)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة هود عليه الصلاة
والسلام [وهي] مكية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول الله تعالى، لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ) المشركون، أي: لا تشك في حالهم، وأن ما هم عليه باطل, فليس لهم عليه دليل شرعي ولا عقلي، وإنما دليلهم وشبهتهم، أنهم (مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ).

ومن المعلوم أن هذا، ليس بشبهة، فضلا عن أن يكون دليلا لأن أقوال ما عدا الأنبياء، يحتج لها لا يحتج بها، خصوصا أمثال هؤلاء الضالين، الذين كثر خطأهم وفساد أقوالهم, في أصول الدين، فإن أقوالهم، وإن اتفقوا عليها، فإنها خطأ وضلال.
(وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) أي: لا بد أن ينالهم نصيبهم من الدنيا، مما كتب لهم، وإن كثر ذلك النصيب، أو راق في عينك, فإنه لا يدل على صلاح حالهم، فإن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان والدين الصحيح، إلا من يحب، والحاصل أنه لا يغتر باتفاق الضالين، على قول الضالين من آبائهم الأقدمين، ولا على ما خولهم الله، وآتاهم من الدنيا.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّه ُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى، أنه آتى موسى الكتاب، الذي هو التوراة، الموجب للاتفاق على أوامره ونواهيه، والاجتماع، ولكن، مع هذا، فإن المنتسبين إليه، اختلفوا فيه اختلافا، أضر بعقائدهم، وبجامعتهم الدينية.
(وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخيرهم، وعدم معاجلتهم بالعذاب (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بإحلال العقوبة بالظالم، ولكنه تعالى، اقتضت حكمته، أن أخر القضاء بينهم إلى يوم القيامة، وبقوا في شك منه مريب.
وإذا كانت هذه حالهم، مع كتابهم، فمع القرآن الذي أوحاه الله إليك، غير مستغرب، من طائفة اليهود، أن لا يؤمنوا به، وأن يكونوا في شك منه مريب.
(وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّه ُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ) أي: لا بد أن الله يقضي بينهم http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg يوم القيامة، بحكمه العدل، فيجازي كلا بما يستحقه.
< 1-391 >
(إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ) من خير وشر (خَبِيرٌ) فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم، دقيقها وجليلها.
ثم لما أخبر بعدم استقامتهم، التي أوجبت اختلافهم وافتراقهم, أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن معه، من المؤمنين، أن يستقيموا كما أمروا، فيسلكوا ما شرعه الله من الشرائع، ويعتقدوا ما أخبر الله به من العقائد الصحيحة، ولا يزيغوا عن ذلك يمنة ولا يسرة، ويدوموا على ذلك، ولا يطغوا بأن يتجاوزوا ما حده الله لهم من الاستقامة.
وقوله: (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي: لا يخفى عليه من أعمالكم شيء, وسيجازيكم عليها، ففيه ترغيب لسلوك الاستقامة، وترهيب من ضدها، ولهذا حذرهم عن الميل إلى من تعدى الاستقامة فقال: (وَلا تَرْكَنُوا) أي: لا تميلوا (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) فإنكم، إذا ملتم إليهم، ووافقتموهم على ظلمهم، أو رضيتم ما هم عليه من الظلم (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) إن فعلتم ذلك (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) يمنعونكم من عذاب الله، ولا يحصلون لكم شيئا، من ثواب الله.
(ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي: لا يدفع عنكم العذاب إذا مسكم، ففي هذه الآية: التحذير من الركون إلى كل ظالم، والمراد بالركون، الميل والانضمام إليه بظلمه وموافقته على ذلك، والرضا بما هو عليه من الظلم.

وإذا كان هذا الوعيد في الركون إلى الظلمة، فكيف حال الظلمة بأنفسهم؟!! نسأل الله العافية من الظلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يأمر تعالى بإقامة الصلاة كاملة ( طَرَفَيِ النَّهَارِ ) أي: أوله وآخره، ويدخل في هذا، صلاة الفجر، وصلاتا الظهر والعصر، ( وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ) ويدخل في ذلك، صلاة المغرب والعشاء، ويتناول ذلك قيام الليل، فإنها مما تزلف العبد، وتقربه إلى الله تعالى.
( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) أي: فهذه الصلوات الخمس، وما ألحق بها من التطوعات من أكبر الحسنات، وهي: مع أنها حسنات تقرب إلى الله، وتوجب الثواب، فإنها تذهب السيئات وتمحوها، والمراد بذلك: الصغائر، كما قيدتها الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل قوله: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر"، بل كما قيدتها الآية التي في سورة النساء، وهي قوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ذلك لعل الإشارة، لكل ما تقدم، من لزوم الاستقامة على الصراط المستقيم، وعدم مجاوزته وتعديه، وعدم الركون إلى الذين ظلموا، والأمر بإقامة الصلاة، وبيان أن الحسنات يذهبن السيئات، الجميع ( ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) يفهمون بها ما أمرهم الله به، ونهاهم عنه، ويمتثلون لتلك الأوامر الحسنة المثمرة للخيرات، الدافعة للشرور والسيئات، ولكن تلك الأمور، تحتاج إلى مجاهدة النفس، والصبر عليها، ولهذا قال:
( وَاصْبِرْ ) أي: احبس نفسك على طاعة الله، وعن معصيته، وإلزامها لذلك، واستمر ولا تضجر.
( فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) بل يتقبل الله عنهم أحسن الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم، بأحسن ما كانوا يعملون، وفي هذا ترغيب عظيم، للزوم الصبر، بتشويق النفس الضعيفة إلى ثواب الله، كلما ونت وفترت.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما ذكر تعالى، إهلاك الأمم المكذبة للرسل، وأن أكثرهم منحرفون، حتى أهل الكتب الإلهية، وذلك كله يقضي على الأديان بالذهاب والاضمحلال، ذكر أنه لولا أنه جعل في القرون الماضية بقايا، من أهل الخير يدعون إلى الهدى، وينهون عن الفساد والردى، فحصل من نفعهم ما بقيت به الأديان، ولكنهم قليلون جدا.
وغاية الأمر، أنهم نجوا، باتباعهم المرسلين، وقيامهم بما قاموا به من دينهم، وبكون حجة الله أجراها على أيديهم، ليهلك من هلك عن بيِّنة ويحيا من حيَّ عن بيِّنة http://majles.alukah.net/imgcache/2019/01/11.jpg
(وَ) لكن (اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ) أي: اتبعوا ما هم فيه من النعيم والترف، ولم يبغوا به بدلا.
(وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) أي: ظالمين، باتباعهم ما أترفوا فيه، فلذلك حق عليهم العقاب، واستأصلهم العذاب. وفي هذا، حث لهذه الأمة، أن يكون < 1-392 > فيهم بقايا مصلحون، لما أفسد الناس، قائمون بدين الله، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرونهم من العمى.

وهذه الحالة أعلى حالة يرغب فيها الراغبون، وصاحبها يكون, إماما في الدين، إذا جعل عمله خالصا لرب العالمين.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: وما كان الله ليهلك أهل القرى بظلم منه لهم، والحال أنهم مصلحون, أي: مقيمون على الصلاح، مستمرون عليه، فما كان الله ليهلكهم، إلا إذا ظلموا، وقامت عليهم حجة الله.

ويحتمل، أن المعنى: وما كان ربك ليهلك القرى بظلمهم السابق، إذا رجعوا وأصلحوا عملهم، فإن الله يعفو عنهم، ويمحو ما تقدم من ظلمهم.

ابو وليد البحيرى
2019-06-22, 05:50 AM
الحلقة (235)
تفسير السعدى
فففسورة هودققق
من الأية(118) الى الأية(123)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة هود عليه الصلاة
والسلام [وهي] مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته، أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم, متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق، فيما قاله، والضلال في قول غيره.
( إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم، سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي.
وأما من عداهم، فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم.
وقوله: ( وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) أي: اقتضت حكمته، أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذين هدى الله, والفريق الذين حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد، عدله وحكمته، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء.
( وَ) لأنه ( تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فلا بد أن ييسر للنار أهلا يعملون بأعمالها الموصلة إليها.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما ذكر في هذه السورة من أخبار الأنبياء، ما ذكر، ذكر الحكمة في ذكر ذلك، فقال: ( وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) أي: قلبك ليطمئن ويثبت ويصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن النفوس تأنس بالاقتداء، وتنشط على الأعمال، وتريد المنافسة لغيرها, ويتأيد الحق بذكر شواهده، وكثرة من قام به.
( وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ) السورة ( الْحَقُّ) اليقين، فلا شك فيه بوجه من الوجوه، فالعلم بذلك من العلم بالحق الذي هو أكبر فضائل النفوس.
( وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) أي: يتعظون به، فيرتدعون عن الأمور المكروهة، ويتذكرون الأمور المحبوبة لله فيفعلونها.
وأما من ليس من أهل الإيمان، فلا تنفعهم المواعظ، وأنواع التذكير، ولهذا قال: ( وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) بعد ما قامت عليهم الآيات، ( اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ) أي: حالتكم التي أنتم عليها ( إِنَّا عَامِلُونَ) على ما كنا عليه.
( وَانْتَظِرُوا) ما يحل بنا ( إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ما يحل بكم.
وقد فصل الله بين الفريقين، وأرى عباده، نصره لعباده المؤمنين, وقمعه لأعداء الله المكذبين.
( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) أي: ما غاب فيهما من الخفايا، والأمور الغيبية.
( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ) من الأعمال والعمال، فيميز الخبيث من الطيب ( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) أي: قم بعبادته، وهي جميع ما أمر الله به مما تقدر عليه، وتوكل على الله في ذلك.
( وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من الخير والشر، بل قد أحاط علمه بذلك، وجرى به قلمه، وسيجري عليه حكمه، وجزاؤه.

تم تفسير سورة هود، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وسلم. [ وكان الفراغ من نسخه في يوم السبت في 21 من شهر ربيع الآخر 1347 ] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg.
المجلد الرابع من تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام الرب المنان لجامعه الفقير إلى الله: عبد الرحمن بن ناصر السعدي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين.
< 1-393 >

تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى أن آيات القرآن هي ( آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) أي: البين الواضحة ألفاظه ومعانيه.
ومن بيانه وإيضاحه: أنه أنزله باللسان العربي، أشرف الألسنة، وأبينها، [المبين لكل ما يحتاجه الناس من الحقائق النافعة ] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg وكل هذا الإيضاح والتبيين ( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي: لتعقلوا حدوده وأصوله وفروعه، وأوامره ونواهيه.
فإذا عقلتم ذلك بإيقانكم واتصفت قلوبكم بمعرفتها، أثمر ذلك عمل الجوارح والانقياد إليه، و ( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي: تزداد عقولكم بتكرر المعاني الشريفة العالية، على أذهانكم،. فتنتقلون من حال إلى أحوال أعلى منها وأكمل.
( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) وذلك لصدقها وسلاسة عبارتها ورونق معانيها، ( بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) أي: بما اشتمل عليه هذا القرآن الذي أوحيناه إليك، وفضلناك به على سائر الأنبياء، وذاك محض منَّة من الله وإحسان.
( وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) أي: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان قبل أن يوحي الله إليك، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.
ولما مدح ما اشتمل عليه هذا القرآن من القصص، وأنها أحسن القصص على الإطلاق، فلا يوجد من القصص في شيء من الكتب مثل هذا القرآن، ذكر قصه يوسف، وأبيه وإخوته، القصة العجيبة الحسنة فقال:

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . واعلم أن الله ذكر أنه يقص على رسوله أحسن القصص في هذا الكتاب، ثم ذكر هذه القصة وبسطها، وذكر ما جرى فيها، فعلم بذلك أنها قصة تامة كاملة حسنة، فمن أراد أن يكملها أو يحسنها بما يذكر في الإسرائيليات التي لا يعرف لها سند ولا ناقل وأغلبها كذب، فهو مستدرك على الله، ومكمل لشيء يزعم أنه ناقص، وحسبك بأمر ينتهي إلى هذا الحد قبحا، فإن تضاعيف هذه السورة قد ملئت في كثير من التفاسير، من الأكاذيب والأمور الشنيعة المناقضة لما قصه الله تعالى بشيء كثير.
فعلى العبد أن يفهم عن الله ما قصه، ويدع ما سوى ذلك مما ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم ينقل.
فقوله تعالى: ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ) يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام: ( يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) فكانت هذه الرؤيا مقدمة لما وصل إليه يوسف عليه السلام من الارتفاع في الدنيا والآخرة.
وهكذا إذا أراد الله أمرا من الأمور العظام قدم بين يديه مقدمة، توطئة له، وتسهيلا لأمره، واستعدادا لما يرد على العبد من المشاق، لطفا بعبده، وإحسانا إليه، فأوَّلها يعقوب بأن الشمس: أمه، والقمر: أبوه، والكواكب: إخوته، وأنه ستنتقل به الأحوال إلى أن يصير إلى حال يخضعون له، ويسجدون له إكراما وإعظاما، وأن ذلك لا يكون إلا بأسباب تتقدمه من اجتباء الله له، واصطفائه له، وإتمام نعمته عليه بالعلم والعمل، والتمكين في الأرض.
وأن هذه النعمة ستشمل آل يعقوب، الذين سجدوا له وصاروا تبعا له فيها، ولهذا قال:

ابو وليد البحيرى
2019-07-02, 02:57 AM
الحلقة (236)
تفسير السعدى
فففسورة يوسفققق
من الأية(5) الى الأية(14)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية



http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ) أي: يصطفيك ويختارك بما يمنُّ به عليك من الأوصاف الجليلة والمناقب الجميلة،. ( وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ) أي: من تعبير الرؤيا، وبيان ما تئول إليه الأحاديث الصادقة، كالكتب السماوية ونحوها، ( وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ) في الدنيا والآخرة، بأن يؤتيك في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ( كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ) حيث أنعم الله عليهما، بنعم عظيمة واسعة، دينية، ودنيوية.
( إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي: علمه محيط بالأشياء، وبما احتوت عليه ضمائر العباد من البر وغيره، فيعطي كلا ما تقتضيه حكمته وحمده، فإنه حكيم يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها.
ولما بان تعبيرها ليوسف، قال له أبوه: ( يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى < 1-394 > إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ) أي: حسدا من عند أنفسهم، أن تكون أنت الرئيس الشريف عليهم.

( إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) لا يفتر عنه ليلا ولا نهارا، ولا سرا ولا جهارا، فالبعد عن الأسباب التي يتسلط بها على العبد أولى، فامتثل يوسف أمر أبيه، ولم يخبر إخوته بذلك، بل كتمها عنهم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ ) أي: عبر وأدلة على كثير من المطالب الحسنة، ( لِلسَّائِلِينَ ) أي: لكل من سأل عنها بلسان الحال أو بلسان المقال، فإن السائلين هم الذين ينتفعون بالآيات والعبر، وأما المعرضون فلا ينتفعون بالآيات، ولا في القصص والبينات.
( إِذْ قَالُوا ) فيما بينهم: ( لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ ) بنيامين، أي: شقيقه، وإلا فكلهم إخوة. ( أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ) أي: جماعة، فكيف يفضلهما علينا بالمحبة والشفقة، ( إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي: لفي خطأ بيِّن، حيث فضلهما علينا من غير موجب نراه، ولا أمر نشاهده.
( اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ) أي: غيبوه عن أبيه في أرض بعيدة لا يتمكن من رؤيته فيها.
فإنكم إذا فعلتم أحد هذين الأمرين ( يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ) أي: يتفرغ لكم، ويقبل عليكم بالشفقة والمحبة، فإنه قد اشتغل قلبه بيوسف شغلا لا يتفرغ لكم، ( وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ ) أي: من بعد هذا الصنيع ( قَوْمًا صَالِحِينَ ) أي: تتوبون إلى الله، وتستغفرون من بعد ذنبكم.
فقدموا العزم على التوبة قبل صدور الذنب منهم تسهيلا لفعله، وإزالة لشناعته، وتنشيطا من بعضهم لبعض.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( قَالَ قَائِلٌ ) من إخوة يوسف الذين أرادوا قتله أو تبعيده: ( لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ ) فإن قتله أعظم إثما وأشنع، والمقصود يحصل بتبعيده عن أبيه من غير قتل، ولكن توصلوا إلى تبعيده بأن تلقوه ( فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ) وتتوعدوه على أنه لا يخبر بشأنكم، بل على أنه عبد مملوك آبق منكم، لأجل أن ( يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ) الذين يريدون مكانا بعيدا، فيحتفظون فيه.

وهذا القائل أحسنهم رأيا في يوسف، وأبرهم وأتقاهم في هذه القضية، فإن بعض الشر أهون من بعض، والضرر الخفيف يدفع به الضرر الثقيل، .فلما اتفقوا على هذا الرأي.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: قال إخوة يوسف، متوصلين إلى مقصدهم لأبيهم: ( يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ) أي: لأي شيء يدخلك الخوف منا على يوسف، من غير سبب ولا موجب؟ ( وَ ) الحال ( إِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ) أي: مشفقون عليه، نود له ما نود لأنفسنا، وهذا يدل على أن يعقوب عليه السلام لا يترك يوسف يذهب مع إخوته للبرية ونحوها.
فلما نفوا عن أنفسهم التهمة المانعة من عدم إرساله معهم، ذكروا له من مصلحة يوسف وأنسه الذي يحبه أبوه له، ما يقتضي أن يسمح بإرساله معهم، فقالوا: ( أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ) أي: يتنزه في البرية ويستأنس. (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) أي: سنراعيه، ونحفظه من أذى يريده.
فأجابهم بقوله: ( إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ) أي: مجرد ذهابكم به يحزنني ويشق علي، لأنني لا أقدر على فراقه، ولو مدة يسيرة، فهذا مانع من إرساله ( وَ ) مانع ثان، وهو أني ( أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ) أي: في حال غفلتكم عنه، لأنه صغير لا يمتنع من الذئب.

( قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ) أي: جماعة، حريصون على حفظه، ( إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ) أي: لا خير فينا ولا نفع يرجى منا إن أكله الذئب وغلبنا عليه.
فلما مهدوا لأبيهم الأسباب الداعية لإرساله، وعدم الموانع، سمح حينئذ بإرساله معهم لأجل أنسه.

ابو وليد البحيرى
2019-07-02, 03:03 AM
الحلقة (237)
تفسير السعدى
فففسورة يوسفققق
من الأية(15) الى الأية(22)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّه ُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: لما ذهب إخوة يوسف بيوسف بعد ما أذن له أبوه، وعزموا على أن يجعلوه في غيابة الجب، كما قال قائلهم السابق ذكره، وكانوا قادرين على ما أجمعوا عليه، فنفذوا فيه قدرتهم، وألقوه في < 1-395 > الجب، ثم إن الله لطف به بأن أوحى إليه وهو في تلك الحال الحرجة، ( لَتُنَبِّئَنَّه ُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أي: سيكون منك معاتبة لهم، وإخبار عن أمرهم هذا، وهم لا يشعرون بذلك الأمر، ففيه بشارة له، بأنه سينجو مما وقع فيه، وأن الله سيجمعه بأهله وإخوته على وجه العز والتمكين له في الأرض.
( وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ) ليكون إتيانهم متأخرا عن عادتهم، وبكاؤهم دليلا لهم، وقرينة على صدقهم.
فقالوا - متعذرين http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg بعذر كاذب - ( يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ ) إما على الأقدام، أو بالرمي والنضال، ( وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا ) توفيرا له وراحة. ( فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ) في حال غيبتنا عنه في استباقنا ( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ) أي: تعذرنا بهذا العذر، والظاهر أنك لا تصدقنا لما في قلبك من الحزن على يوسف، والرقة الشديدة عليه.
ولكن عدم تصديقك إيانا، لا يمنعنا أن نعتذر بالعذر الحقيقي، وكل هذا، تأكيد لعذرهم. ( وَ ) مما أكدوا به قولهم، أنهم ( جَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ) زعموا أنه دم يوسف حين أكله الذئب، فلم يصدقهم أبوهم بذلك، و ( قَالَ ) ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ) أي: زينت لكم أنفسكم أمرا قبيحا في التفريق بيني وبينه، لأنه رأى من القرائن والأحوال [ ومن رؤيا يوسف التي قصَّها عليه ] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ما دلّه على ما قال.
( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) أي: أما أنا فوظيفتي سأحرص على القيام بها، وهي أني أصبر على هذه المحنة صبرا جميلا سالما من السخط والتَّشكِّي إلى الخلق، وأستعين الله على ذلك، لا على حولي وقوتي، فوعد من نفسه هذا الأمر وشكى إلى خالقه في قوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg لأن الشكوى إلى الخالق لا تنافي الصبر الجميل، لأن النبي إذا وعد وفى.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: مكث يوسف في الجب ما مكث، حتى ( جَاءَتْ سَيَّارَةٌ) أي: قافلة تريد مصر، ( فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ) أي: فرطهم ومقدمهم، الذي يعس لهم المياه، ويسبرها ويستعد لهم بتهيئة الحياض ونحو ذلك، ( فَأَدْلَى) ذلك الوارد ( دَلْوَهُ) فتعلق فيه يوسف عليه السلام وخرج، ( قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ) أي: استبشر وقال: هذا غلام نفيس، ( وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً) وكان إخوته قريبا منه، فاشتراه السيارة منهم، ( بِثَمَنٍ بَخْسٍ) أي: قليل جدا، فسره بقوله: ( دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)

لأنه لم يكن لهم قصد إلا تغييبه وإبعاده عن أبيه، ولم يكن لهم قصد في أخذ ثمنه، والمعنى في هذا: أن السيارة لما وجدوه، عزموا أن يُسِرُّوا أمره، ويجعلوه من جملة بضائعهم التي معهم، حتى جاءهم إخوته فزعموا أنه عبد أبق منهم، فاشتروه منهم بذلك الثمن، واستوثقوا منهم فيه لئلا يهرب، والله أعلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: لما ذهب به السيارة إلى مصر وباعوه بها، فاشتراه عزيز مصر، فلما اشتراه، أعجب به، ووصى عليه امرأته وقال: ( أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) أي: إما أن ينفعنا كنفع العبيد بأنواع الخدم، وإما أن نستمتع فيه استمتاعنا بأولادنا، ولعل ذلك أنه لم يكن لهما ولد، ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ) أي: كما يسرنا له أن يشتريه عزيز مصر، ويكرمه هذا الإكرام، جعلنا هذا مقدمة لتمكينه في الأرض من هذا الطريق.
( وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ) إذا بقي لا شغل له ولا همَّ له سوى العلم صار ذلك من أسباب تعلمه علما كثيرا، من علم الأحكام، وعلم التعبير، وغير ذلك. ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) أي: أمره تعالى نافذ، لا يبطله مبطل، ولا يغلبه مغالب، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فلذلك يجري منهم ويصدر ما يصدر، في مغالبة أحكام الله القدرية، وهم أعجز وأضعف من ذلك.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( وَلَمَّا بَلَغَ) يوسف ( أَشُدَّهُ) أي: كمال قوته المعنوية والحسية، وصلح لأن يتحمل الأحمال الثقيلة، من النبوة والرسالة. ( آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) أي: جعلناه نبيا رسولا وعالما ربانيا، ( وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) في عبادة الخالق ببذل الجهد والنصح فيها، وإلى عباد الله ببذل النفع والإحسان إليهم، نؤتيهم من جملة الجزاء على إحسانهم < 1-396 > علما نافعا.

ودل هذا، على أن يوسف وفَّى مقام الإحسان، فأعطاه الله الحكم بين الناس والعلم الكثير والنبوة.

ابو وليد البحيرى
2019-07-02, 03:06 AM
الحلقة (238)
تفسير السعدى
فففسورة يوسفققق
من الأية(23) الى الأية(30)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف من محنة إخوته، وصبره عليها أعظم أجرا، لأنه صبر اختيار مع وجود الدواعي الكثيرة، لوقوع الفعل، فقدم محبة الله عليها، وأما محنته بإخوته، فصبره صبر اضطرار، بمنزلة الأمراض والمكاره التي تصيب العبد بغير اختياره وليس له ملجأ إلا الصبر عليها، طائعا أو كارها، وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام بقي مكرما في بيت العزيز، وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك، أن ( رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ ) أي: هو غلامها، وتحت تدبيرها، والمسكن واحد، يتيسر إيقاع الأمر المكروه من غير إشعار أحد، ولا إحساس بشر.
( وَ ) زادت المصيبة، بأن ( غَلَّقَتِ الأبْوَابَ ) وصار المحل خاليا، وهما آمنان من دخول أحد عليهما، بسبب تغليق الأبواب، وقد دعته إلى نفسها ( وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ) أي: افعل الأمر المكروه وأقبل إليَّ، ومع هذا فهو غريب، لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه، وهو أسير تحت يدها، وهي سيدته، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك، وهو شاب عزب، وقد توعدته، إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن، أو العذاب الأليم.
فصبر عن معصية الله، مع وجود الداعي القوي فيه، لأنه قد هم فيها هما تركه لله، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء، ورأى من برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان، الموجب لترك كل ما حرم الله - ما أوجب له البعد والانكفاف، عن هذه المعصية الكبيرة، و ( قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ) أي: أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح، لأنه مما يسخط الله ويبعد منه، ولأنه خيانة في حق سيدي الذي أكرم مثواي.
فلا يليق بي أن أقابله في أهله بأقبح مقابلة، وهذا من أعظم الظلم، والظالم لا يفلح، والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى الله، ومراعاة حق سيده الذي أكرمه، وصيانة نفسه عن الظلم الذي لا يفلح من تعاطاه، وكذلك ما منَّ الله عليه من برهان الإيمان الذي في قلبه، يقتضي منه امتثال الأوامر، واجتناب الزواجر، والجامع لذلك كله أن الله صرف عنه السوء والفحشاء، لأنه من عباده المخلصين له في عباداتهم، الذين أخلصهم الله واختارهم، واختصهم لنفسه، وأسدى عليهم من النعم، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه.
ولما امتنع من إجابة طلبها بعد المراودة الشديدة، ذهب ليهرب عنها ويبادر إلى الخروج من الباب ليتخلص، ويهرب من الفتنة، فبادرت إليه، وتعلقت بثوبه، فشقت قميصه، فلما وصلا إلى الباب في تلك الحال، ألفيا سيدها، أي: زوجها لدى الباب، فرأى أمرا شق عليه، فبادرت إلى الكذب، أن المراودة قد كانت من يوسف، وقالت: ( مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا ) ولم تقل "من فعل بأهلك سوءا" تبرئة لها وتبرئة له أيضا من الفعل.
وإنما النزاع عند الإرادة والمراودة ( إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي: أو يعذب عذابا أليما.
فبرأ نفسه مما رمته به، وقال: ( هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ) فحينئذ احتملت الحال صدق كل واحد منهما ولم يعلم أيهما.
ولكن الله تعالى جعل للحق والصدق علامات وأمارات تدل عليه، قد يعلمها العباد وقد لا يعلمونها، فمنَّ الله في هذه القضية بمعرفة الصادق منهما، تبرئة لنبيه وصفيه يوسف عليه السلام، فانبعث شاهد من أهل بيتها، يشهد بقرينة من وجدت معه، فهو الصادق، فقال: ( إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) لأن ذلك يدل على أنه هو المقبل عليها، المراود لها المعالج، وأنها أرادت أن تدفعه عنها، فشقت قميصه من هذا الجانب.
( وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) لأن ذلك يدل على هروبه منها، وأنها هي التي طلبته فشقت قميصه من هذا الجانب.
( فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ) عرف بذلك صدق يوسف وبراءته، وأنها هي الكاذبة.
فقال لها سيدها: ( إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) وهل أعظم من هذا الكيد، الذي برأت به نفسها مما أرادت وفعلت، ورمت به نبي الله يوسف عليه السلام، ثم إن سيدها لما تحقق الأمر، قال ليوسف: ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) أي: اترك الكلام فيه وتناسه ولا تذكره لأحد، طلبا للستر على أهله، ( وَاسْتَغْفِرِي ) أيتها المرأة ( لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ) فأمر يوسف بالإعراض، وهي بالاستغفار والتوبة.
< 1-397 >

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يعني: أن الخبر اشتهر وشاع في البلد، وتحدث به النسوة فجعلن يلمنها، ويقلن: ( امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ) أي: هذا أمر مستقبح، هي امرأة كبيرة القدر، وزوجها كبير القدر، ومع هذا لم تزل تراود فتاها الذي تحت يدها وفي خدمتها عن نفسه،.ومع هذا فإن حبه قد بلغ من قلبها مبلغا عظيما.
( قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ) أي: وصل حبه إلى شغاف قلبها، وهو باطنه وسويداؤه، وهذا أعظم ما يكون من الحب، ( إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) حيث وجدت منها هذه الحالة التي لا تنبغي منها، وهي حالة تحط قدرها وتضعه عند الناس، وكان هذا القول منهن مكرا، ليس المقصود به مجرد اللوم لها والقدح فيها، وإنما أردن أن يتوصلن بهذا الكلام إلى رؤية يوسف الذي فتنت به امرأة العزيز لتحنق امرأة العزيز، وتريهن إياه ليعذرنها، ولهذا سماه مكرا، فقال:

ابو وليد البحيرى
2019-07-02, 03:08 AM
الحلقة (239)
تفسير السعدى
فففسورة يوسفققق
من الأية(31) الى الأية(37)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ) تدعوهن إلى منزلها للضيافة.
( وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ) أي: محلا مهيأ بأنواع الفرش والوسائد، وما يقصد بذلك من المآكل اللذيذة، وكان في جملة ما أتت به وأحضرته في تلك الضيافة، طعام يحتاج إلى سكين، إما أترج، أو غيره، ( وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا ) ليقطعن فيها ذلك الطعام ( وَقَالَتِ ) ليوسف: ( اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ) في حالة جماله وبهائه.
( فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ) أي: أعظمنه في صدورهن، ورأين منظرا فائقا لم يشاهدن مثله، ( وَقَطَّعْنَ ) من الدهش ( أَيْدِيَهُنَّ ) بتلك السكاكين اللاتي معهن، ( وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ ) أي: تنزيها لله ( مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) وذلك أن يوسف أعطي من الجمال الفائق والنور والبهاء، ما كان به آية للناظرين، وعبرة للمتأملين.
فلما تقرر عندهن جمال يوسف الظاهر، وأعجبهن غاية، وظهر منهن من العذر لامرأة العزيز، شيء كثير - أرادت أن تريهن جماله الباطن بالعفة التامة فقالت معلنة لذلك ومبينة لحبه الشديد غير مبالية، ولأن اللوم انقطع عنها من النسوة: ( وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) أي: امتنع وهي مقيمة على مراودته، لم تزدها مرور الأوقات إلا قلقا ومحبة وشوقا لوصاله وتوقا.
ولهذا قالت له بحضرتهن: ( وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ) لتلجئه بهذا الوعيد إلى حصول مقصودها منه، فعند ذلك اعتصم يوسف بربه، واستعان به على كيدهن و ( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) وهذا يدل على أن النسوة، جعلن يشرن على يوسف في مطاوعة سيدته، وجعلن يكدنه في ذلك.
فاستحب السجن والعذاب الدنيوي على لذة حاضرة توجب العذاب الشديد، ( وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ) أي: أمل إليهن، فإني ضعيف عاجز، إن لم تدفع عني السوء، ( وَأَكُنْ ) إن صبوت إليهن ( مِنَ الْجَاهِلِينَ ) فإن هذا جهل، لأنه آثر لذة قليلة منغصة، على لذات متتابعات وشهوات متنوعات في جنات النعيم، ومن آثر هذا على هذا، فمن أجهل منه؟!! فإن العلم والعقل يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللذتين، ويؤثر ما كان محمود العاقبة.
( فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ ) حين دعاه ( فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ) فلم تزل تراوده وتستعين عليه بما تقدر عليه من الوسائل، حتى أيسها، وصرف الله عنه كيدها، ( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ) لدعاء الداعي ( الْعَلِيمُ ) بنيته الصالحة، وبنيته الضعيفة المقتضية لإمداده بمعونته ولطفه.
فهذا ما نجى الله به يوسف من هذه الفتنة الملمة والمحنة الشديدة،.وأما أسياده فإنه لما اشتهر الخبر وبان، وصار الناس فيها بين عاذر ولائم وقادح.
( بَدَا لَهُمْ ) أي: ظهر لهم ( مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ ) الدالة على براءته، ( لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ) أي: لينقطع بذلك الخبر ويتناساه الناس، فإن الشيء إذا شاع لم يزل يذكر ويشاع مع وجود أسبابه، فإذا عدمت أسبابه نسي، فرأوا أن هذا مصلحة لهم، فأدخلوه في السجن.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg . أي: ( و ) لما دخل يوسف السجن، كان في جملة من ( دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ) أي: شابان، فرأى كل واحد منهما رؤيا، فقصها على يوسف ليعبرها، .فـ ( قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا ) وذلك الخبز ( تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ) < 1-398 > أي: بتفسيره، وما يؤول إليه أمرهما، وقولهما: ( إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) أي: من أهل الإحسان إلى الخلق، فأحسن إلينا في تعبيرك لرؤيانا، كما أحسنت إلى غيرنا، فتوسلا ليوسف بإحسانه.
فـ ( قَالَ ) لهما مجيبا لطلبتهما: ( لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ) أي: فلتطمئن قلوبكما، فإني سأبادر إلى تعبير رؤياكما، فلا يأتيكما غداؤكما، أو عشاؤكما، أول ما يجيء إليكما، إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما.
ولعل يوسف عليه الصلاة والسلام قصد أن يدعوهما إلى الإيمان في هذه الحال التي بدت حاجتهما إليه، ليكون أنجع لدعوته، وأقبل لهما.
ثم قال: ( ذَلِكُمَا ) التعبير الذي سأعبره لكما ( مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ) أي: هذا من علم الله علمنيه وأحسن إليَّ به، وذلك ( إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) والترك كما يكون للداخل في شيء ثم ينتقل عنه، يكون لمن لم يدخل فيه أصلا.
فلا يقال: إن يوسف كان من قبل، على غير ملة إبراهيم.

ابو وليد البحيرى
2019-07-02, 03:11 AM
الحلقة (240)
تفسير السعدى
فففسورة يوسفققق
من الأية(38) الى الأية(43)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) ثم فسر تلك الملة بقوله: ( مَا كَانَ لَنَا ) أي: ما ينبغي ولا يليق بنا ( أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) بل نفرد الله بالتوحيد، ونخلص له الدين والعبادة.
( ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ ) أي: هذا من أفضل مننه وإحسانه وفضله علينا، وعلى من هداه الله كما هدانا، فإنه لا أفضل من منة الله على العباد بالإسلام والدين القويم، فمن قبله وانقاد له فهو حظه، وقد حصل له أكبر النعم وأجل الفضائل.
( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) فلذلك تأتيهم المنة والإحسان، فلا يقبلونها ولا يقومون لله بحقه، وفي هذا من الترغيب للطريق التي هو عليها ما لا يخفى، فإن الفتيين لما تقرر عنده أنهما رأياه بعين التعظيم والإجلال -وأنه محسن معلم- ذكر لهما أن هذه الحالة التي أنا عليها، كلها من فضل الله وإحسانه، حيث منَّ عليَّ بترك الشرك وباتباع ملة آبائه، فبهذا وصلت إلى ما رأيتما، فينبغي لكما أن تسلكا ما سلكت.
ثم صرح لهما بالدعوة، فقال: ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) أي: أرباب عاجزة ضعيفة لا تنفع ولا تضر، ولا تعطي ولا تمنع، وهي متفرقة ما بين أشجار وأحجار وملائكة وأموات، وغير ذلك من أنواع المعبودات التي يتخذها المشركون، أتلك ( خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ ) الذي له صفات الكمال، ( الْوَاحِدُ ) في ذاته وصفاته وأفعاله فلا شريك له في شيء من ذلك.
( الْقَهَّارُ ) الذي انقادت الأشياء لقهره وسلطانه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ومن المعلوم أن من هذا شأنه ووصفه خير من الآلهة المتفرقة التي هي مجرد أسماء، لا كمال لها ولا أفعال لديها. ولهذا قال: ( مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ )
أي: كسوتموها أسماء، سميتموها آلهة، وهي لا شيء، ولا فيها من صفات الألوهية شيء، ( مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ) بل أنزل الله السلطان بالنهي عن عبادتها وبيان بطلانها، وإذا لم ينزل الله بها سلطانا، لم يكن طريق ولا وسيلة ولا دليل لها.
لأن الحكم لله وحده، فهو الذي يأمر وينهى، ويشرع الشرائع، ويسن الأحكام، وهو الذي أمركم ( أن لا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) أي: المستقيم الموصل إلى كل خير، وما سواه من الأديان، فإنها غير مستقيمة، بل معوجة توصل إلى كل شر.
( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) حقائق الأشياء، وإلا فإن الفرق بين عبادة الله وحده لا شريك له، وبين الشرك به، أظهر الأشياء وأبينها.
ولكن لعدم العلم من أكثر الناس بذلك، حصل منهم ما حصل من الشرك،.فيوسف عليه السلام دعا صاحبي السجن لعبادة الله وحده، وإخلاص الدين له، فيحتمل أنهما استجابا وانقادا، فتمت عليهما النعمة، ويحتمل أنهما لم يزالا على شركهما، فقامت عليهما -بذلك- الحجة، ثم إنه عليه السلام شرع يعبر رؤياهما، بعد ما وعدهما ذلك، فقال:

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا (41) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا، فإنه يخرج من السجن ( فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) أي: يسقي سيده الذي كان يخدمه خمرا، وذلك مستلزم لخروجه من السجن، ( وَأَمَّا الآخَرُ) وهو: الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه.

( فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) فإنه عبر [عن] الخبز الذي تأكله الطير، بلحم رأسه وشحمه، وما فيه من المخ، وأنه لا يقبر ويستر عن الطيور، بل يصلب ويجعل في محل، تتمكن الطيور من أكله، ثم أخبرهما بأن هذا التأويل الذي تأوله لهما، أنه لا بد من وقوعه فقال: ( قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) أي: تسألان عن تعبيره وتفسيره.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
< 1-399 > أي: ( وَقَالَ) يوسف عليه السلام: ( لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا) وهو: الذي رأى أنه يعصر خمرا: ( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي: اذكر له شأني وقصتي، لعله يرقُّ لي، فيخرجني مما أنا فيه، ( فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي: فأنسى الشيطان ذلك الناجي ذكر الله تعالى، وذكر ما يقرب إليه، ومن جملة ذلك نسيانه ذكر يوسف الذي يستحق أن يجازى بأتم الإحسان، وذلك ليتم الله أمره وقضاءه.
( فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) والبضع من الثلاث إلى التسع، ولهذا قيل: إنه لبث سبع سنين، ولما أراد الله أن يتم أمره، ويأذن بإخراج يوسف من السجن، قدر لذلك سببا لإخراج يوسف وارتفاع شأنه وإعلاء قدره، وهو رؤيا الملك.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما أراد الله تعالى أن يخرج يوسف من السجن، أرى الله الملك هذه الرؤيا العجيبة، الذي تأويلها يتناول جميع الأمة، ليكون تأويلها على يد يوسف، فيظهر من فضله، ويبين من علمه ما يكون له رفعة في الدارين، ومن التقادير المناسبة أن الملك الذي ترجع إليه أمور الرعية هو الذي رآها، لارتباط مصالحها به.
وذلك أنه رأى رؤيا هالته، فجمع لها علماء قومه وذوي الرأي منهم وقال: (إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ) أي: سبع من البقرات (عِجَافٌ) وهذا من العجب، أن السبع العجاف الهزيلات اللاتي سقطت قوتهن، يأكلن السبع السمان التي كنَّ نهاية في القوة.

(وَ) رأيت (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) يأكلهن سبع سنبلات (يَابِسَاتٍ) (يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ) لأن تعبير الجميع واحد، وتأويله شيء واحد. (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) فتحيروا، ولم يعرفوا لها وجها.

ابو وليد البحيرى
2019-07-02, 03:14 AM
الحلقة (241)
تفسير السعدى
فففسورة يوسفققق
من الأية(44) الى الأية(52)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

و ( قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) أي أحلام لا حاصل لها، ولا لها تأويل.
وهذا جزم منهم بما لا يعلمون، وتعذر منهم، [بما ليس بعذر] http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ثم قالوا: ( وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ ) أي: لا نعبر إلا الرؤيا، وأما الأحلام التي هي من الشيطان، أو من حديث النفس، فإنا لا نعبرها.
فجمعوا بين الجهل والجزم، بأنها أضغات أحلام، والإعجاب بالنفس، بحيث إنهم لم يقولوا: لا نعلم تأويلها، وهذا من الأمور التي لا تنبغي لأهل الدين والحجا، وهذا أيضا من لطف الله بيوسف عليه السلام. فإنه لو عبرها ابتداء - قبل أن يعرضها على الملأ من قومه وعلمائهم، فيعجزوا عنها -لم يكن لها ذلك الموقع، ولكن لما عرضها عليهم فعجزوا عن الجواب، وكان الملك مهتما لها غاية، فعبرها يوسف- وقعت عندهم موقعا عظيما، وهذا نظير إظهار الله فضل آدم على الملائكة بالعلم، بعد أن سألهم فلم يعلموا. ثم سأل آدم، فعلمهم أسماء كل شيء، فحصل بذلك زيادة فضله، وكما يظهر فضل أفضل خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في القيامة، أن يلهم الله الخلق أن يتشفعوا بآدم، ثم بنوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم السلام، فيعتذرون عنها، ثم يأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها أنا لها" فيشفع في جميع الخلق، وينال ذلك المقام المحمود، الذي يغبطه به الأولون والآخرون.
فسبحان من خفيت ألطافه، ودقَّت في إيصاله البر والإحسان، إلى خواص أصفيائه وأوليائه.
( وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا ) أي: من الفتيين، وهو: الذي رأى أنه يعصر خمرا، وهو الذي أوصاه يوسف أن يذكره عند ربه ( وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) أي: وتذكر يوسف، وما جرى له في تعبيره لرؤياهما، وما وصاه به، وعلم أنه كفيل بتعبير هذه الرؤيا بعد مدة من السنين فقال: ( أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ) إلى يوسف لأسأله عنها.
فأرسلوه، فجاء إليه، ولم يعنفه يوسف على نسيانه، بل استمع ما يسأله عنه، وأجابه عن ذلك فقال: ( يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ) أي: كثير الصدق في أقواله وأفعاله. ( أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ) فإنهم متشوقون لتعبيرها، وقد أهمتهم.
< 1-400 >
فعبر يوسف، السبع البقرات السمان والسبع السنبلات الخضر، بأنهن سبع سنين مخصبات، والسبع البقرات العجاف، والسبع السنبلات اليابسات، بأنهن سنين مجدبات، ولعل وجه ذلك - والله أعلم - أن الخصب والجدب لما كان الحرث مبنيا عليه، وأنه إذا حصل الخصب قويت الزروع والحروث، وحسن منظرها، وكثرت غلالها، والجدب بالعكس من ذلك. وكانت البقر هي التي تحرث عليها الأرض، وتسقى عليها الحروث في الغالب، والسنبلات هي أعظم الأقوات وأفضلها، عبرها بذلك، لوجود المناسبة، فجمع لهم في تأويلها بين التعبير والإشارة لما يفعلونه، ويستعدون به من التدبير في سني الخصب، إلى سني الجدب فقال: ( تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا ) أي: متتابعات.
( فَمَا حَصَدْتُمْ ) من تلك الزروع ( فَذَرُوهُ ) أي: اتركوه ( فِي سُنْبُلِهِ ) لأنه أبقى له وأبعد من الالتفات إليه ( إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ ) أي: دبروا أيضا أكلكم في هذه السنين الخصبة، وليكن قليلا ليكثر ما تدخرون ويعظم نفعه ووقعه.
( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ) أي: بعد تلك السنين السبع المخصبات. ( سَبْعٌ شِدَادٌ ) أي: مجدبات جدا ( يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ ) أي: يأكلن جميع ما ادخرتموه ولو كان كثيرا. ( إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ ) أي: تمنعونه من التقديم لهن.
( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ) أي: بعد السبع الشداد ( عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) أي: فيه تكثر الأمطار والسيول، وتكثر الغلات، وتزيد على أقواتهم، حتى إنهم يعصرون العنب ونحوه زيادة على أكلهم، ولعل استدلاله على وجود هذا العام الخصب، مع أنه غير مصرح به في رؤيا الملك، لأنه فهم من التقدير http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg بالسبع الشداد، أن العام الذي يليها يزول به شدتها،.ومن المعلوم أنه لا يزول الجدب المستمر سبع سنين متواليات، إلا بعام مخصب جدا، وإلا لما كان للتقدير فائدة، فلما رجع الرسول إلى الملك والناس، وأخبرهم بتأويل يوسف للرؤيا، عجبوا من ذلك، وفرحوا بها أشد الفرح.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى: ( وَقَالَ الْمَلِكُ ) لمن عنده ( ائْتُونِي بِهِ ) أي: بيوسف عليه السلام، بأن يخرجوه من السجن ويحضروه إليه، فلما جاء يوسف الرسول وأمره بالحضور عند الملك، امتنع عن المبادرة إلى الخروج، حتى تتبين براءته التامة، وهذا من صبره وعقله ورأيه التام.
فـ ( قَالَ ) للرسول: ( ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ) يعني به الملك. ( فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) أي: اسأله ما شأنهن وقصتهن، فإن أمرهن ظاهر متضح ( إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) .
فأحضرهن الملك، وقال: ( مَا خَطْبُكُنَّ ) أي: شأنكن ( إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ) فهل رأيتن منه ما يريب؟
فبرَّأنه و ( قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) أي: لا قليل ولا كثير، فحينئذ زال السبب الذي تنبني عليه التهمة، ولم يبق إلا ما عند امرأة العزيز، فـ ( قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ) أي: تمحض وتبين، بعد ما كنا ندخل معه من السوء والتهمة، ما أوجب له السجن http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg ( أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) في أقواله وبراءته.
( ذَلِكَ ) الإقرار، الذي أقررت [أني راودت يوسف] ( لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ )

يحتمل أن مرادها بذلك زوجها أي: ليعلم أني حين أقررت أني راودت يوسف، أني لم أخنه بالغيب، أي: لم يجر منِّي إلا مجرد المراودة، ولم أفسد عليه فراشه، ويحتمل أن المراد بذلك ليعلم يوسف حين أقررت أني أنا الذي راودته، وأنه صادق أني لم أخنه في حال غيبته عني. ( وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ) فإن كل خائن، لا بد أن تعود خيانته ومكره على نفسه، ولا بد أن يتبين أمره.

ابو وليد البحيرى
2019-07-02, 03:16 AM
الحلقة (242)
تفسير السعدى
فففسورة يوسفققق
من الأية(53) الى الأية(63)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

ثم لما كان في هذا الكلام نوع تزكية لنفسها، وأنه لم يجر منها ذنب في شأن يوسف، استدركت فقالت: ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ) أي: من المراودة والهمِّ، والحرص الشديد، والكيد في ذلك. ( إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) أي: لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء، أي: الفاحشة، وسائر الذنوب، فإنها مركب الشيطان، ومنها يدخل على الإنسان ( إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي ) فنجاه من نفسه الأمارة، حتى صارت نفسه مطمئنة إلى ربها، منقادة لداعي الهدى، متعاصية عن داعي الردى، فذلك ليس من النفس، بل من فضل الله ورحمته بعبده.
( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي: هو غفور لمن تجرأ على الذنوب والمعاصي، إذا تاب وأناب، ( رَحِيمٌ ) بقبول توبته، وتوفيقه للأعمال الصالحة،. وهذا هو الصواب أن هذا من قول امرأة العزيز، لا من قول يوسف، فإن السياق في كلامها، ويوسف إذ ذاك في < 1-401 > السجن لم يحضر.
فلما تحقق الملك والناس براءة يوسف التامة، أرسل إليه الملك وقال: ( ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ) أي: أجعله خصيصة لي ومقربا لديَّ فأتوه به مكرما محترما، ( فَلَمَّا كَلَّمَهُ ) أعجبه كلامه، وزاد موقعه عنده فقال له: ( إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا ) أي: عندنا ( مَكِينٌ أَمِينٌ ) أي: متمكن، أمين على الأسرار، فـ ( قَالَ ) يوسف طلبا للمصلحة العامة: ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ ) أي: على خزائن جبايات الأرض وغلالها، وكيلا حافظا مدبرا.
( إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) أي: حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محله، وضابط للداخل والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع التصرفات، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية، وإنما هو رغبة منه في النفع العام، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه.
فلذلك طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، فجعله الملك على خزائن الأرض وولاه إياها.
قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ ) أي: بهذه الأسباب والمقدمات المذكورة، ( مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ) في عيش رغد، ونعمة واسعة، وجاه عريض، ( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ) أي: هذا من رحمة الله بيوسف التي أصابه بها وقدرها له، وليست مقصورة على نعمة الدنيا.
( وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) ويوسف عليه السلام من سادات المحسنين، فله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ولهذا قال: ( وَلأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ) من أجر الدنيا ( لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) أي: لمن جمع بين التقوى والإيمان، فبالتقوى تترك الأمور المحرمة من كبائر الذنوب وصغائرها، وبالإيمان التام يحصل تصديق القلب، بما أمر الله بالتصديق به، وتتبعه أعمال القلوب وأعمال الجوارح، من الواجبات والمستحبات.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: لما تولى يوسف عليه السلام خزائن الأرض، دبرها أحسن تدبير، فزرع في أرض مصر جميعها في السنين الخصبة، زروعا هائلة، واتخذ لها المحلات الكبار، وجبا من الأطعمة شيئا كثيرا وحفظه، وضبطه ضبطا تاما، فلما دخلت السنون المجدبة، وسرى الجدب، حتى وصل إلى فلسطين، التي يقيم فيها يعقوب وبنوه، فأرسل يعقوب بنيه لأجل الميرة إلى مصر. ( وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) أي: لم يعرفوه.
( وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ ) أي: كال لهم كما كان يكيل لغيرهم، وكان من تدبيره الحسن أنه لا يكيل لكل واحد أكثر من حمل بعير، وكان قد سألهم عن حالهم، فأخبروه أن لهم أخا عند أبيه، وهو بنيامين.
فـ ( قَالَ ) لهم: ( ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ) ثم رغبهم في الإتيان به فقال: ( أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزلِينَ ) في الضيافة والإكرام.
ثم رهبهم بعدم الإتيان به، فقال: ( فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ ) وذلك لعلمه باضطرارهم إلى الإتيان إليه، وأن ذلك يحملهم على الإتيان به.
فـ ( قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ ) دل هذا على أن يعقوب عليه السلام كان مولعا به لا يصبر عنه، وكان يتسلى به بعد يوسف، فلذلك احتاج إلى مراودة في بعثه معهم ( وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ) لما أمرتنا به.
( وَقَالَ ) يوسف ( لِفِتْيَانِهِ ) الذين في خدمته: ( اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ ) أي: الثمن الذي اشتروا به من الميرة. ( فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا ) أي: بضاعتهم إذا رأوها بعد ذلك في رحالهم، ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) لأجل التحرج من أخذها على ما قيل، والظاهر أنه أراد أن يرغبهم في إحسانه إليهم بالكيل لهم كيلا وافيا، ثم إعادة بضاعتهم إليهم على وجه لا يحسون بها، ولا يشعرون لما يأتي، فإن الإحسان يوجب للإنسان تمام الوفاء للمحسن.

( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ ) أي: إن لم ترسل معنا أخانا، ( فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ ) أي: ليكون ذلك سببا لكيلنا، ثم التزموا له بحفظه، فقالوا: ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) من أن يعرض له ما يكره.

ابو وليد البحيرى
2019-07-02, 03:19 AM
الحلقة (243)
تفسير السعدى
فففسورة يوسفققق
من الأية(64) الى الأية(69)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُو نَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg.

( قَالَ ) لهم يعقوب عليه السلام: ( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ) أي: تقدم منكم التزام، أكثر من هذا في حفظ يوسف، ومع هذا لم تفوا بما عقدتم من التأكيد، فلا أثق بالتزامكم وحفظكم، وإنما أثق < 1-402 > بالله تعالى.
( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) أي: يعلم حالي، وأرجو أن يرحمني، فيحفظه ويرده علي، وكأنه في هذا الكلام قد لان لإرساله معهم.
ثم إنهم ( وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ) هذا دليل على أنه قد كان معلوما عندهم أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد، وأنه أراد أن يملكهم إياها. فـ ( قَالُوا ) لأبيهم - ترغيبا في إرسال أخيهم معهم -: ( يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي ) أي: أي شيء نطلب بعد هذا الإكرام الجميل، حيث وفَّى لنا الكيل، ورد علينا بضاعتنا على الوجه الحسن، المتضمن للإخلاص ومكارم الأخلاق؟
( هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ) أي: إذا ذهبنا بأخينا صار سببا لكيله لنا، فمرنا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg أهلنا، وأتينا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg لهم، بما هم مضطرون إليه من القوت، ( وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنزدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ) بإرساله معنا، فإنه يكيل لكل واحد حمل بعير، ( ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) أي: سهل لا ينالك ضرر، لأن المدة لا تطول، والمصلحة قد تبينت.
فـ ( قَالَ ) لهم يعقوب: ( لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ ) أي: عهدا ثقيلا وتحلفون بالله ( لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ) أي: إلا أن يأتيكم أمر لا قبل لكم به، ولا تقدرون دفعه، ( فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ) على ما قال وأراد ( قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) أي: تكفينا شهادته علينا وحفظه وكفالته.
ثم لما أرسله معهم وصاهم، إذا هم قدموا مصر، أن ( لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) وذلك أنه خاف عليهم العين، لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg رجل واحد، وهذا سبب.
( وَ ) إلا فـ ( مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) فالمقدر لا بد أن يكون، ( إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ) أي: القضاء قضاؤه، والأمر أمره، فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع، ( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) أي: اعتمدت على الله، لا على ما وصيتكم به من السبب، ( وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُو نَ ) فإن بالتوكل يحصل كل مطلوب، ويندفع كل مرهوب.
( وَلَمَّا ) ذهبوا و ( دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ ) ذلك الفعل ( يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ) وهو موجب الشفقة والمحبة للأولاد، فحصل له في ذلك نوع طمأنينة، وقضاء لما في خاطره.
وليس هذا قصورا في علمه، فإنه من الرسل الكرام والعلماء الربانيين، ولهذا قال عنه: ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ ) أي: لصاحب علم عظيم ( لِمَا عَلَّمْنَاهُ ) أي: لتعليمنا إياه، لا بحوله وقوته أدركه، بل بفضل الله وتعليمه، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) عواقب الأمور ودقائق الأشياء وكذلك أهل العلم منهم، يخفى عليهم من العلم وأحكامه ولوازمه شيء كثير.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: لما دخل إخوة يوسف على يوسف ( آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ ) أي: شقيقه وهو "بنيامين" الذي أمرهم بالإتيان به، [و] ضمه إليه، واختصه من بين إخوته، وأخبره بحقيقة الحال، و ( قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ ) أي: لا تحزن ( بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) فإن العاقبة خير لنا، ثم خبره بما يريد أن يصنع ويتحيل لبقائه عنده إلى أن ينتهي الأمر.

ابو وليد البحيرى
2019-07-02, 03:21 AM
الحلقة (244)
تفسير السعدى
فففسورة يوسفققق
من الأية(70) الى الأية(78)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِم ْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ ) أي: كال لكل واحد من إخوته، ومن جملتهم أخوه هذا. ( جَعَلَ السِّقَايَةَ ) وهو: الإناء الذي يشرب به، ويكال فيه ( فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ ) أوعوا متاعهم، فلما انطلقوا ذاهبين، ( أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) ولعل هذا المؤذن، لم يعلم بحقيقة الحال.
( قَالُوا ) أي: إخوة يوسف ( وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ) لإبعاد التهمة، فإن السارق ليس له همٌّ إلا البعد والانطلاق عمن سرق منه، لتسلم له سرقته، وهؤلاء جاءوا مقبلين إليهم، ليس لهم همٌّ إلا < 1-403 > إزالة التهمة التي رموا بها عنهم، فقالوا في هذه الحال: ( مَاذَا تَفْقِدُونَ ) ولم يقولوا: "ما الذي سرقنا" لجزمهم بأنهم براء من السرقة.
( قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) أي: أجرة له على وجدانه ( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) أي: كفيل، وهذا يقوله المؤذن المتفقد.
( قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ ) بجميع أنواع المعاصي، ( وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ) فإن السرقة من أكبر أنواع الفساد في الأرض، وإنما أقسموا على علمهم أنهم ليسوا مفسدين ولا سارقين، لأنهم عرفوا أنهم سبروا من أحوالهم ما يدلهم على عفتهم وورعهم، وأن هذا الأمر لا يقع منهم بعلم من اتهموهم، وهذا أبلغ في نفي التهمة، من أن لو قالوا: " تالله لم نفسد في الأرض ولم نسرق "
( قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ ) أي: جزاء هذا الفعل ( إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ) بأن كان معكم؟
( قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ ) أي: الموجود في رحله ( جَزَاؤُهُ ) بأن يتملكه صاحب السرقة، وكان هذا في دينهم أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة كان ملكا لصاحب المال المسروق، ولهذا قالوا: ( كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ).
( فَبَدَأَ ) المفتش ( بِأَوْعِيَتِهِم ْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ) وذلك لتزول الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد، فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا ( اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ) ولم يقل "وجدها، أو سرقها أخوه" مراعاة للحقيقة الواقعة.
فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه عنده، على وجه لا يشعر به إخوته، قال تعالى: ( كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ) أي: يسرنا له هذا الكيد، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم ( مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ) لأنه ليس من دينه أن يتملك السارق، وإنما له عندهم، جزاء آخر، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك، لم يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده، ولكنه جعل الحكم منهم، ليتم له ما أراد.
قال تعالى: ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ) بالعلم النافع، ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها، كما رفعنا درجات يوسف، ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) فكل عالم، فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى عالم الغيب والشهادة.
فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا ( قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ ) هذا الأخ، فليس هذا غريبا منه. ( فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) يعنون: يوسف عليه السلام، ومقصودهم تبرئة أنفسهم وأن هذا وأخاه قد يصدر منهما ما يصدر من السرقة، وهما ليسا شقيقين لنا.
وفي هذا من الغض عليهما ما فيه، ولهذا: أسرها يوسف في نفسه ( وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ) أي: لم يقابلهم على ما قالوه بما يكرهون، بل كظم الغيظ، وأسرَّ الأمر في نفسه. و ( قَالَ ) في نفسه ( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا ) حيث ذممتمونا بما أنتم على أشر منه، ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ) منا، من وصفنا بالسرقة، يعلم الله أنا براء منها، ثم سلكوا معه مسلك التملق، لعله يسمح لهم بأخيهم.

فـ ( قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا ) أي: وإنه لا يصبر عنه، وسيشق عليه فراقه، ( فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) فأحسن إلينا وإلى أبينا بذلك.

ابو وليد البحيرى
2019-07-02, 03:24 AM
الحلقة (245)
تفسير السعدى
فففسورة يوسفققق
من الأية(79) الى الأية(86)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

فـ ( قَالَ ) يوسف ( مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ) أي: هذا ظلم منا، لو أخذنا البريء بذنب من وجدنا متاعنا عنده، ولم يقل "من سرق" كل هذا تحرز من الكذب، ( إِنَّا إِذًا ) أي: إن أخذنا غير من وجد في رحله ( لَظَالِمُونَ ) حيث وضعنا العقوبة في غير موضعها.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم ( خَلَصُوا نَجِيًّا ) أي: اجتمعوا وحدهم، ليس معهم غيرهم، وجعلوا يتناجون فيما بينهم، فـ ( قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ ) في حفظه، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم ( وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ ) ، فاجتمع عليكم الأمران، تفريطكم في يوسف السابق، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق، فليس لي وجه أواجه به أبي.
( فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ ) أي: سأقيم في هذه الأرض ولا أزال بها ( حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ) أي: يقدر لي المجيء وحدي، أو مع أخي ( وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ).
ثم وصَّاهم بما يقولون لأبيهم، فقال: ( ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ) أي: وأخذ بسرقته، ولم يحصل لنا أن نأتيك به، مع ما بذلنا من الجهد في ذلك. والحال أنا ما شهدنا بشيء لم نعلمه، وإنما شهدنا بما علمنا، لأننا رأينا الصواع استخرج من رحله، ( وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ) أي: لو كنا نعلم الغيب لما حرصنا وبذلنا المجهود في < 1-404 > ذهابه معنا، ولما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا، فلم نظن أن الأمر سيبلغ ما بلغ.
( وَاسْأَلِ ) إن شككت في قولنا ( الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ) فقد اطلعوا على ما أخبرناك به ( وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) لم نكذب ولم نغير ولم نبدل، بل هذا الواقع.
فلما رجعوا إلى أبيهم وأخبروه بهذا الخبر، اشتد حزنه وتضاعف كمده، واتهمهم أيضا في هذه القضية، كما اتهمهم في الأولى، و ( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) أي: ألجأ في ذلك إلى الصبر الجميل، الذي لا يصحبه تسخط ولا جزع، ولا شكوى للخلق، ثم لجأ إلى حصول الفرج لما رأى أن الأمر اشتد، والكربة انتهت فقال: ( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ) أي: يوسف و "بنيامين" وأخوهم الكبير الذي أقام في مصر.

( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ ) الذي يعلم حالي، واحتياجي إلى تفريجه ومنَّته، واضطراري إلى إحسانه، ( الْحَكِيمُ ) الذي جعل لكل شيء قدرا، ولكل أمر منتهى، بحسب ما اقتضته حكمته الربانية.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (86) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: وتولى يعقوب عليه الصلاة والسلام عن أولاده بعد ما أخبروه هذا الخبر، واشتد به الأسف والأسى، وابيضت عيناه من الحزن الذي في قلبه، والكمد الذي أوجب له كثرة البكاء، حيث ابيضت عيناه من ذلك.
( فَهُوَ كَظِيمٌ ) أي: ممتلئ القلب من الحزن الشديد، ( وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ) أي: ظهر منه ما كمن من الهم القديم والشوق المقيم، وذكرته هذه المصيبة الخفيفة بالنسبة للأولى، المصيبة الأولى.
فقال له أولاده متعجبين من حاله: ( تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ ) أي: لا تزال تذكر يوسف في جميع أحوالك. ( حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا ) أي: فانيا لا حراك فيك ولا قدرة على الكلام.
( أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ) أي: لا تترك ذكره مع قدرتك على ذكره أبدا.
( قَالَ ) يعقوب ( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي ) أي: ما أبث من الكلام ( وَحُزْنِي ) الذي في قلبي ( إِلَى اللَّهِ ) وحده، لا إليكم ولا إلى غيركم من الخلق، فقولوا ما شئتم ( وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) من أنه سيردهم علي ويقر عيني بالاجتماع بهم.

ابو وليد البحيرى
2019-07-02, 03:27 AM
الحلقة (246)
تفسير السعدى
فففسورة يوسفققق
من الأية(87) الى الأية(95)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِي نَ (88) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: قال يعقوب عليه السلام لبنيه: ( يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ) أي: احرصوا واجتهدوا على التفتيش عنهما ( وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ) فإن الرجاء يوجب للعبد السعي والاجتهاد فيما رجاه، والإياس: يوجب له التثاقل والتباطؤ، وأولى ما رجا العباد، فضل الله وإحسانه ورحمته وروحه، ( إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) فإنهم لكفرهم يستبعدون رحمته، ورحمته بعيدة منهم، فلا تتشبهوا بالكافرين.
ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه، فذهبوا ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ ) أي: على يوسف ( قَالُوا ) متضرعين إليه: ( يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ) أي: قد اضطررنا نحن وأهلنا ( وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ ) أي: مدفوعة مرغوب عنها لقلتها، وعدم وقوعها الموقع، ( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ) أي: مع عدم وفاء العرض، وتصدق علينا بالزيادة عن الواجب. ( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِي نَ ) بثواب الدنيا والآخرة.
فلما انتهى الأمر، وبلغ أشده، رقَّ لهم يوسف رقَّة شديدة، وعرَّفهم بنفسه، وعاتبهم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg
( قال هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ) أما يوسف فظاهر فعلهم فيه، وأما أخوه، فلعله والله أعلم قولهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg أو أن الحادث الذي فرَّق بينه وبين أبيه، هم السبب فيه، والأصل الموجب له. ( إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ) وهذا نوع اعتذار لهم بجهلهم، أو توبيخ لهم إذ فعلوا فعل الجاهلين، مع أنه لا ينبغي ولا يليق منهم.
فعرفوا أن الذي خاطبهم هو يوسف، فقالوا: ( أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ) بالإيمان والتقوى والتمكين في الدنيا، وذلك بسبب الصبر والتقوى، ( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ ) أي: يتقي فعل ما حرم الله، ويصبر على الآلام والمصائب، وعلى الأوامر بامتثالها ( فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) فإن هذا من الإحسان، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
( قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا ) أي: فضلك علينا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وأسأنا إليك غاية الإساءة، وحرصنا على إيصال الأذى إليك، والتبعيد لك عن أبيك، فآثرك الله تعالى ومكنك مما تريد ( وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) وهذا غاية الاعتراف منهم بالجرم الحاصل منهم على يوسف.
فـ ( قَالَ ) لهم يوسف عليه السلام، كرما وجودا: < 1-405 > ( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) أي: لا أثرب عليكم ولا ألومكم ( يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) فسمح لهم سماحا تاما، من غير تعيير لهم على ذكر الذنب السابق، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة، وهذا نهاية الإحسان، الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: قال يوسف عليه السلام لإخوته: ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا ) لأن كل داء يداوى بضده، فهذا القميص - لما كان فيه أثر ريح يوسف، الذي أودع قلب أبيه من الحزن والشوق ما الله به عليم - أراد أن يشمه، فترجع إليه روحه، وتتراجع إليه نفسه، ويرجع إليه بصره، ولله في ذلك حكم وأسرار، لا يطلع عليها العباد، وقد اطلع يوسف من ذلك على هذا الأمر.
( وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) أي: أولادكم وعشيرتكم وتوابعكم كلهم، ليحصل تمام اللقاء، ويزول عنكم نكد المعيشة، وضنك الرزق.
( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ ) عن أرض مصر مقبلة إلى أرض فلسطين، شمَّ يعقوب ريح القميص، فقال: ( إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) أي: تسخرون مني، وتزعمون أن هذا الكلام، صدر مني من غير شعور، لأنه رأى منهم من التعجب من حاله ما أوجب له هذا القول.
فوقع ما ظنه بهم فقالوا: ( تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) أي: لا تزال تائها في بحر الحبّ لا تدري ما تقول.

ابو وليد البحيرى
2019-07-02, 03:30 AM
الحلقة (247)
تفسير السعدى
فففسورة يوسفققق
من الأية(96) الى الأية(103)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ ) بقرب الاجتماع بيوسف وإخوته وأبيهم، ( أَلْقَاهُ ) أي: القميص ( عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ) أي: رجع على حاله الأولى بصيرا، بعد أن ابيضت عيناه من الحزن، فقال لمن حضره من أولاده وأهله الذين كانوا يفندون رأيه، ويتعجبون منه منتصرا عليهم، متبجحا بنعمة الله عليه: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) حيث كنت مترجيا للقاء يوسف، مترقبا لزوال الهم والغم والحزن.
فأقروا بذنبهم ونجعوا بذلك و ( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) حيث فعلنا معك ما فعلنا.
فـ ( قَالَ ) مجيبا لطلبتهم، ومسرعا لإجابتهم: ( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) أي: ورجائي به أن يغفر لكم ويرحمكم، ويتغمدكم برحمته، وقد قيل: إنه أخر الاستغفار لهم إلى وقت السحر الفاضل، ليكون أتمَّ للاستغفار، وأقرب للإجابة.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

أي: ( فَلَمَّا ) تجهز يعقوب وأولاده وأهلهم أجمعون، وارتحلوا من بلادهم قاصدين الوصول إلى يوسف في مصر وسكناها، فلما وصلوا إليه، و ( دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ) أي: ضمهما إليه، واختصهما بقربه، وأبدى لهما من البر والإكرام http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/260.jpg والتبجيل والإعظام شيئا عظيما، ( وَقَالَ ) لجميع أهله: ( ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) من جميع المكاره والمخاوف، فدخلوا في هذه الحال السارة، وزال عنهم النصب ونكد المعيشة، وحصل السرور والبهجة.
( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) أي: على سرير الملك، ومجلس العزيز، ( وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ) أي: أبوه، وأمه وإخوته، سجودا على وجه التعظيم والتبجيل والإكرام، ( وَقَالَ ) لما رأى هذه الحال، ورأى سجودهم له: ( يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ ) حين رأي أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين، فهذا وقوعها الذي آلت إليه ووصلت ( قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) فلم يجعلها أضغاث أحلام.
( وَقَدْ أَحْسَنَ بِي ) إحسانا جسيما ( إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ) وهذا من لطفه وحسن خطابه عليه السلام، حيث ذكر حاله في السجن، ولم يذكر حاله في الجب، لتمام عفوه عن إخوته، وأنه لا يذكر ذلك الذنب، وأن إتيانكم من البادية من إحسان الله إلي.
فلم يقل: جاء بكم من الجوع والنصب، ولا قال: "أحسن بكم" بل قال ( أَحْسَنَ بِي ) جعل الإحسان عائدا إليه، فتبارك من يختص برحمته من يشاء من عباده، ويهب لهم من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. ( مِنْ بَعْدِ أَنْ نزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) فلم يقل "نزغ الشيطان إخوتي" بل كأن الذنب والجهل، صدر من الطرفين، فالحمد لله الذي أخزى الشيطان ودحره، وجمعنا بعد تلك الفرقة الشاقة.
( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ) يوصل بره وإحسانه إلى العبد من حيث لا يشعر، ويوصله إلى المنازل الرفيعة من أمور يكرهها، ( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ ) الذي يعلم ظواهر الأمور وبواطنها، وسرائر العباد وضمائرهم، ( الْحَكِيمُ ) في وضعه الأشياء مواضعها، وسوقه < 1-406 > الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما أتم الله ليوسف ما أتم من التمكين في الأرض والملك، وأقر عينه بأبويه وإخوته، وبعد العلم العظيم الذي أعطاه الله إياه، قال مقرا بنعمة الله شاكرا لها داعيا بالثبات على الإسلام:
( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ) وذلك أنه كان على خزائن الأرض وتدبيرها ووزيرا كبيرا للملك ( وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ) أي: من تأويل أحاديث الكتب المنزلة وتأويل الرؤيا وغير ذلك من العلم ( فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا ) أي: أدم عليّ الإسلام وثبتني عليه حتى توفاني عليه، ولم يكن هذا دعاء باستعجال الموت، ( وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) من الأنبياء الأبرار والأصفياء الأخيار.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

لما قص الله هذه القصة على محمد صلى الله عليه وسلم قال الله له: ( ذَلِكَ ) الإنباء الذي أخبرناك به ( مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ) الذي لولا إيحاؤنا إليك لما وصل إليك هذا الخبر الجليل، فإنك لم تكن حاضرا لديهم ( إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ ) أي: إخوة يوسف ( وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) به حين تعاقدوا على التفريق بينه وبين أبيه، في حالة لا يطلع عليها إلا الله تعالى، ولا يمكن أحدا أن يصل إلى علمها، إلا بتعليم الله له إياها.
كما قال تعالى لما قص قصة موسى وما جرى له، ذكر الحال التي لا سبيل للخلق إلى علمها إلا بوحيه http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg الآيات، فهذا أدل دليل على أن ما جاء به رسول الله حقا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ ) على إيمانهم ( بِمُؤْمِنِينَ ) فإن مداركهم ومقاصدهم قد أصبحت فاسدة، فلا ينفعهم حرص الناصحين عليهم ولو عدمت الموانع، بأن كانوا يعلمونهم ويدعونهم إلى ما فيه الخير لهم، ودفع الشر عنهم، من غير أجر ولا عوض، ولو أقاموا لهم من الشواهد والآيات الدالات على صدقهم ما أقاموا. ولهذا قال:

ابو وليد البحيرى
2019-07-02, 03:42 AM
الحلقة (248)
تفسير السعدى
فففسورة يوسفققق
من الأية(104) الى الأية(111)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

(وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) يتذكرون به ما ينفعهم ليفعلوه، وما يضرهم ليتركوه.
(وَكَأَيِّنْ) أي: وكم (مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا) دالة لهم على توحيد الله (وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ).
ومع هذا إن وجد منهم بعض الإيمان فلا (يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) فهم وإن أقروا بربوبية الله تعالى، وأنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور، فإنهم يشركون في ألوهية الله وتوحيده، فهؤلاء الذين وصلوا إلى هذه الحال لم يبق عليهم إلا أن يحل بهم العذاب، ويفجأهم العقاب وهم آمنون، ولهذا قال:
(أَفَأَمِنُوا) أي: الفاعلون لتلك الأفعال، المعرضون عن آيات الله (أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ) أي: عذاب يغشاهم ويعمهم ويستأصلهم، (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي: فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي: فإنهم قد استوجبوا لذلك، فليتوبوا إلى الله، ويتركوا ما يكون سببا في عقابهم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ ) للناس ( هَذِهِ سَبِيلِي ) أي: طريقي التي أدعو إليها، وهي السبيل الموصلة إلى الله وإلى دار كرامته، المتضمنة للعلم بالحق والعمل به وإيثاره، وإخلاص الدين لله وحده لا شريك له، ( أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ) أي: أحثُّ الخلق والعباد إلى الوصول إلى ربهم، وأرغِّبهم في ذلك وأرهِّبهم مما يبعدهم عنه.
ومع هذا فأنا ( عَلَى بَصِيرَةٍ ) من ديني، أي: على علم ويقين من غير شك ولا امتراء ولا مرية. ( وَ ) كذلك ( مَنِ اتَّبَعَنِي ) يدعو إلى الله كما أدعو على بصيرة من أمره. ( وَسُبْحَانَ اللَّهِ ) عما نسب إليه مما لا يليق بجلاله، أو ينافي كماله.
( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) في جميع أموري، بل أعبد الله مخلصا له الدين.
ثم قال تعالى ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا ) أي: لم نرسل ملائكة ولا غيرهم من أصناف الخلق، فلأي شيء يستغرب قومك رسالتك، ويزعمون أنه ليس لك عليهم فضل، فلك فيمن قبلك من المرسلين أسوة حسنة ( نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) أي: لا من البادية، بل من أهل القرى < 1-407 > الذين هم أكمل عقولا وأصح آراء، وليتبين أمرهم ويتضح شأنهم.
( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ ) إذا لم يصدقوا لقولك، ( فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) كيف أهلكهم الله بتكذيبهم، فاحذروا أن تقيموا على ما أقاموا عليه، فيصيبكم ما أصابهم، ( وَلَدَارُ الآخِرَةِ ) أي: الجنة وما فيها من النعيم المقيم، ( خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ) الله في امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فإن نعيم الدنيا منغص منكد، منقطع، ونعيم الآخرة تام كامل، لا يفنى أبدا، بل هو على الدوام في تزايد وتواصل، ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) أي: أفلا تكون لكم عقول تؤثر الذي هو خير على الأدنى.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .

يخبر تعالى: أنه يرسل الرسل الكرام، فيكذبهم القوم المجرمون اللئام، وأن الله تعالى يمهلهم ليرجعوا إلى الحق، ولا يزال الله يمهلهم حتى إنه تصل الحال إلى غاية الشدة منهم على الرسل.
حتى إن الرسل - على كمال يقينهم، وشدة تصديقهم بوعد الله ووعيده - ربما أنه يخطر بقلوبهم نوع من الإياس، ونوع من ضعف العلم والتصديق، فإذا بلغ الأمر هذه الحال ( جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ) وهم الرسل وأتباعهم، ( وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) أي: ولا يرد عذابنا، عمن اجترم، وتجرأ على الله ( فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ ) .
( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ ) أي: قصص الأنبياء والرسل مع قومهم، ( عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ ) أي: يعتبرون بها، أهل الخير وأهل الشر، وأن من فعل مثل فعلهم ناله ما نالهم من كرامة أو إهانة، ويعتبرون بها أيضا، ما لله من صفات الكمال والحكمة العظيمة، وأنه الله الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له.
وقوله: ( مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ) أي: ما كان هذا القرآن الذي قص الله به عليكم من أنباء الغيب ما قص من الأحاديث المفتراة المختلقة، ( وَلَكِنْ ) كان ( تصديق الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) من الكتب السابقة، يوافقها ويشهد لها بالصحة، ( وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ) يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه، ومن الأدلة والبراهين.
( وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) فإنهم - بسبب ما يحصل لهم به من العلم بالحق وإيثاره - يحصل لهم الهدى، وبما يحصل لهم من الثواب العاجل والآجل تحصل لهم الرحمة.

فصل في ذكر شيء من العبر والفوائد التي اشتملت عليها هذه القصة العظيمة التي قال الله في أولها ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) وقال ( لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ) وقال في آخرها ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ ) غير ما تقدم في مطاويها من الفوائد.
فمن ذلك، أن هذه القصة من أحسن القصص وأوضحها وأبينها، لما فيها من أنواع التنقلات، من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ومن محنة إلى منحة ومنَّة، ومن ذل إلى عز، ومن رقٍّ إلى ملك، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلاف، ومن حزن إلى سرور، ومن رخاء إلى جدب، ومن جدب إلى رخاء، ومن ضيق إلى سعة، ومن إنكار إلى إقرار، فتبارك من قصها فأحسنها، ووضحها وبيَّنها.
ومنها: أن فيها أصلا لتعبير الرؤيا، وأن علم التعبير من العلوم المهمة التي يعطيها الله من يشاء من عباده، وإن أغلب ما تبنى عليه المناسبة والمشابهة في الاسم والصفة، فإن رؤيا يوسف التي رأى أن الشمس والقمر، وأحد عشر كوكبا له ساجدين، وجه المناسبة فيها: أن هذه الأنوار هي زينة السماء وجمالها، وبها منافعها، فكذلك الأنبياء والعلماء، زينة للأرض وجمال، وبهم يهتدى في الظلمات كما يهتدى بهذه الأنوار، ولأن الأصل أبوه وأمه، وإخوته هم الفرع، فمن المناسب أن يكون الأصل أعظم نورا وجرما، لما هو فرع عنه. فلذلك كانت الشمس أمه، والقمر أباه، والكواكب إخوته.
ومن المناسبة أن الشمس لفظ مؤنث، فلذلك كانت أمه، والقمر والكواكب مذكرات، فكانت لأبيه وإخوته،.ومن المناسبة أن الساجد معظم محترم للمسجود له، والمسجود [له] معظم محترم، فلذلك دل ذلك على أن يوسف يكون معظما محترما عند أبويه وإخوته.
ومن لازم ذلك أن يكون مجتبى مفضلا في العلم والفضائل الموجبة لذلك، ولذلك قال له أبوه: ) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) < 1-408 > ومن المناسبة في رؤيا الفتيين، أنه أول رؤيا، الذي رأى أنه يعصر خمرا، أن الذي يعصر في العادة، يكون خادما لغيره، والعصر يقصد لغيره، فلذلك أوَّله بما يؤول إليه، أنه يسقي ربه، وذلك متضمن لخروجه من السجن.
وأوَّل الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه، بأن جلدة رأسه ولحمه، وما في ذلك من المخ، أنه هو الذي يحمله، وأنه سيبرز للطيور، بمحل تتمكن من الأكل من رأسه، فرأى من حاله أنه سيقتل ويصلب بعد موته فيبرز للطيور فتأكل من رأسه، وذلك لا يكون إلا بالصلب بعد القتل.
وأوَّل رؤيا الملك للبقرات والسنبلات، بالسنين المخصبة، والسنين المجدبة، ووجه المناسبة أن الملك، به ترتبط أحوال الرعية ومصالحها، وبصلاحه تصلح، وبفساده تفسد، وكذلك السنون بها صلاح أحوال الرعية، واستقامة أمر المعاش أو عدمه.
وأما البقر فإنها تحرث الأرض عليها، ويستقى عليها الماء، وإذا أخصبت السنة سمنت، وإذا أجدبت صارت عجافا، وكذلك السنابل في الخصب، تكثر وتخضر، وفي الجدب تقل وتيبس وهي أفضل غلال الأرض.
ومنها: ما فيها من الأدلة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قصَّ على قومه هذه القصة الطويلة، وهو لم يقرأ كتب الأولين ولا دارس أحدا.
يراه قومه بين أظهرهم صباحا ومساء، وهو أمِّيٌّ لا يخط ولا يقرأ، وهي موافقة، لما في الكتب السابقة، وما كان لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون.
ومنها: أنه ينبغي البعد عن أسباب الشر، وكتمان ما تخشى مضرته، لقول يعقوب ليوسف http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ومنها: أنه يجوز ذكر الإنسان بما يكره على وجه النصيحة لغيره لقوله: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg .
ومنها: أن نعمة الله على العبد، نعمة على من يتعلق به من أهل بيته وأقاربه وأصحابه، وأنه ربما شملتهم، وحصل لهم ما حصل له بسببه، كما قال يعقوب في تفسيره لرؤيا يوسف http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ولما تمت النعمة على يوسف، حصل لآل يعقوب من العز والتمكين في الأرض والسرور والغبطة ما حصل بسبب يوسف.
ومنها: أن العدل مطلوب في كل الأمور، لا في معاملة السلطان رعيته ولا فيما دونه، حتى في معاملة الوالد لأولاده، في المحبة والإيثار وغيره، وأن في الإخلال بذلك يختل عليه الأمر، وتفسد الأحوال، ولهذا، لما قدم يعقوب يوسف في المحبة وآثره على إخوته، جرى منهم ما جرى على أنفسهم، وعلى أبيهم وأخيهم.
ومنها: الحذر من شؤم الذنوب، وأن الذنب الواحد يستتبع ذنوبا متعددة، ولا يتم لفاعله إلا بعدة جرائم، فإخوة يوسف لما أرادوا التفريق بينه وبين أبيه، احتالوا لذلك بأنواع من الحيل، وكذبوا عدة مرات، وزوروا على أبيهم في القميص والدم الذي فيه، وفي إتيانهم عشاء يبكون، ولا تستبعد أنه قد كثر البحث فيها في تلك المدة، بل لعل ذلك اتصل إلى أن اجتمعوا بيوسف، وكلما صار البحث، حصل من الإخبار بالكذب، والافتراء، ما حصل، وهذا شؤم الذنب، وآثاره التابعة والسابقة واللاحقة.
ومنها: أن العبرة في حال العبد بكمال النهاية، لا بنقص البداية، فإن أولاد يعقوب عليه السلام جرى منهم ما جرى في أول الأمر، مما هو أكبر أسباب النقص واللوم، ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح، والسماح التام من يوسف ومن أبيهم، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وإذا سمح العبد عن حقه، فالله خير الراحمين.
ولهذا - في أصح الأقوال - أنهم كانوا أنبياء لقوله تعالى: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر وذريتهم، ومما يدل على ذلك أن في رؤيا يوسف، أنه رآهم كواكب نيرة، والكواكب فيها النور والهداية الذي من صفات الأنبياء، فإن لم يكونوا أنبياء فإنهم علماء هداة.
ومنها: ما منَّ الله به على يوسف عليه الصلاة والسلام من العلم والحلم، ومكارم الأخلاق، والدعوة إلى الله وإلى دينه، وعفوه عن إخوته الخاطئين عفوا بادرهم به، وتمم ذلك بأن لا يثرب عليهم ولا يعيرهم به.
ثم برُّه العظيم بأبويه، وإحسانه لإخوته، بل لعموم الخلق.
ومنها: أن بعض الشر أهون من بعض، وارتكاب أخف الضررين أولى من ارتكاب أعظمهما، فإن إخوة يوسف، لما اتفقوا على قتل يوسف أو إلقائه أرضا، وقال قائل منهم: http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg كان قوله أحسن منهم وأخف، وبسببه خف عن إخوته الإثم الكبير.
ومنها: أن الشيء إذا تداولته الأيدي وصار من جملة الأموال، ولم يعلم أنه كان على غير وجه الشرع، أنه < 1-409 > لا إثم على من باشره ببيع أو شراء، أو خدمة أو انتفاع، أو استعمال، فإن يوسف عليه السلام باعه إخوته بيعا حراما لا يجوز، ثم ذهبت به السيارة إلى مصر فباعوه بها، وبقي عند سيده غلاما رقيقا، وسماه الله شراء ، وكان عندهم بمنزلة الغلام الرقيق المكرم.
ومنها: الحذر من الخلوة بالنساء التي يخشى منهن الفتنة، والحذر أيضا من المحبة التي يخشى ضررها، فإن امرأة العزيز جرى منها ما جرى، بسبب توحّدها بيوسف، وحبها الشديد له، الذي ما تركها حتى راودته تلك المراودة، ثم كذبت عليه، فسجن بسببها مدة طويلة.
ومنها: أن الهمَّ الذي همَّ به يوسف بالمرأة ثم تركه لله، مما يقربه إلى الله زلفى، لأن الهمّ داع من دواعي النفس الأمارة بالسوء، وهو طبيعة لأغلب الخلق، فلما قابل بينه وبين محبة الله وخشيته، غلبت محبة الله وخشيته داعي النفس والهوى. فكان ممن http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/258.jpg خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى http://majles.alukah.net/imgcache/2018/11/259.jpg ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، أحدهم: "رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله" وإنما الهم الذي يلام عليه العبد، الهم الذي يساكنه، ويصير عزما، ربما اقترن به الفعل.
ومنها: أن من دخل الإيمان قلبه، وكان مخلصا لله في جميع أموره فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه، وصدق إخلاصه من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه لقوله. ( وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) على قراءة من قرأها بكسر اللام، ومن قرأها بالفتح، فإنه من إخلاص الله إياه، وهو متضمن لإخلاصه هو بنفسه، فلما أخلص عمله لله أخلصه الله، وخلصه من السوء والفحشاء.
ومنها: أنه ينبغي للعبد إذا رأى محلا فيه فتنة وأسباب معصية، أن يفر منه ويهرب غاية ما يمكنه، ليتمكن من التخلص من المعصية، لأن يوسف عليه السلام -لما راودته التي هو في بيتها- فر هاربا، يطلب الباب ليتخلص من شرها، ومنها: أن القرائن يعمل بها عند الاشتباه، فلو تخاصم رجل وامرأته في شيء من أواني الدار، فما يصلح للرجل فإنه للرجل، وما يصلح للمرأة فهو لها، إذا لم يكن بينة، وكذا لو تنازع نجار وحداد في آلة حرفتهما من غير بينة، والعمل بالقافة في الأشباه والأثر، من هذا الباب، فإن شاهد يوسف شهد بالقرينة، وحكم بها في قد القميص، واستدل بقدِّه من دبره على صدق يوسف وكذبها.
ومما يدل على هذه القاعدة، أنه استدل بوجود الصُّواع في رحل أخيه على الحكم عليه بالسرقة، من غير بينة شهادة ولا إقرار، فعلى هذا إذا وجد المسروق في يد السارق، خصوصا إذا كان معروفا بالسرقة، فإنه يحكم عليه بالسرقة، وهذا أبلغ من الشهادة، وكذلك وجود الرجل يتقيأ الخمر، أو وجود المرأة التي لا زوج لها ولا سيد، حاملا فإنه يقام بذلك الحد، ما لم يقم مانع منه، ولهذا سمى الله هذا الحاكم شاهدا فقال: ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ) .
ومنها: ما عليه يوسف من الجمال الظاهر والباطن،.فإن جماله الظاهر، أوجب للمرأة التي هو في بيتها ما أوجب، وللنساء اللاتي جمعتهن حين لمنها على ذلك أن قطعن أيديهن وقلن ( مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) وأما جماله الباطن، فهو العفة العظيمة عن المعصية، مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوعها، وشهادة امرأة العزيز والنسوة بعد ذلك ببراءته، ولهذا قالت امرأة العزيز: ( وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) وقالت بعد ذلك: ( الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) وقالت النسوة: ( حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) .
ومنها: أن يوسف عليه السلام اختار السجن على المعصية، فهكذا ينبغي للعبد إذا ابتلي بين أمرين - إما فعل معصية، وإما عقوبة دنيوية - أن يختار العقوبة الدنيوية على مواقعة الذنب الموجب للعقوبة الشديدة في الدنيا والآخرة، ولهذا من علامات الإيمان، أن يكره العبد أن يعود في الكفر، بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار.
ومنها: أنه ينبغي للعبد أن يلتجئ إلى الله، ويحتمي بحماه عند وجود أسباب المعصية، ويتبرأ من حوله وقوته، لقول يوسف عليه السلام: ( وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) .
ومنها: أن العلم والعقل يدعوان صاحبهما إلى الخير، وينهيانه عن الشر، وأن الجهل يدعو صاحبه إلى موافقة هوى النفس، وإن كان معصية ضارا لصاحبه.
< 1-410 > ومنها: أنه كما على العبد عبودية لله في الرخاء، فعليه عبودية له في الشدة، فــ "يوسف"عليه السلام لم يزل يدعو إلى الله، فلما دخل السجن، استمر على ذلك، ودعا الفتيين إلى التوحيد، ونهاهما عن الشرك، ومن فطنته عليه السلام أنه لما رأى فيهما قابلية لدعوته، حيث ظنا فيه الظن الحسن وقالا له: ( إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) وأتياه لأن يعبر لهما رؤياهما، فرآهما متشوفين لتعبيرها عنده - رأى ذلك فرصة فانتهزها، فدعاهما إلى الله تعالى قبل أن يعبر رؤياهما ليكون أنجح لمقصوده، وأقرب لحصول مطلوبه، وبين لهما أولا أن الذي أوصله إلى الحال التي رأياه فيها من الكمال والعلم، إيمانه وتوحيده، وتركه ملة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وهذا دعاء لهما بالحال، ثم دعاهما بالمقال، وبين فساد الشرك وبرهن عليه، وحقيقة التوحيد وبرهن عليه.
ومنها: أنه يبدأ بالأهم فالأهم، وأنه إذا سئل المفتي، وكان السائل حاجته في غير سؤاله أشد أنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله، فإن هذا علامة على نصح المعلم وفطنته، وحسن إرشاده وتعليمه، فإن يوسف - لما سأله الفتيان عن الرؤيا - قدم لهما قبل تعبيرها دعوتهما إلى الله وحده لا شريك له.
ومنها: أن من وقع في مكروه وشدة، لا بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه، أو الإخبار بحاله، وأن هذا لا يكون شكوى للمخلوق، فإن هذا من الأمور العادية التي جرى العرف باستعانة الناس بعضهم ببعض، ولهذا قال يوسف للذي ظن أنه ناج من الفتيين: ( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) .
ومنها: أنه ينبغي ويتأكد على المعلم استعمال الإخلاص التام في تعليمه وأن لا يجعل تعليمه وسيلة لمعاوضة أحد في مال أو جاه أو نفع، وأن لا يمتنع من التعليم، أو لا ينصح فيه، إذا لم يفعل السائل ما كلفه به المعلم، فإن يوسف عليه السلام قد قال، ووصى أحد الفتيين أن يذكره عند ربه، فلم يذكره ونسي، فلما بدت حاجتهم إلى سؤال يوسف أرسلوا ذلك الفتى، وجاءه سائلا مستفتيا عن تلك الرؤيا، فلم يعنفه يوسف، ولا وبخه، لتركه ذكره بل أجابه عن سؤاله جوابا تاما من كل وجه.
ومنها: أنه ينبغي للمسئول أن يدل السائل على أمر ينفعه مما يتعلق بسؤاله، ويرشده إلى الطريق التي ينتفع بها في دينه ودنياه، فإن هذا من كمال نصحه وفطنته، وحسن إرشاده، فإن يوسف عليه السلام لم يقتصر على تعبير رؤيا الملك، بل دلهم - مع ذلك - على ما يصنعون في تلك السنين المخصبات من كثرة الزرع، وكثرة جبايته.
ومنها: أنه لا يلام الإنسان على السعي في دفع التهمة عن نفسه، وطلب البراءة لها، بل يحمد على ذلك، كما امتنع يوسف عن الخروج من السجن حتى تتبين لهم براءته بحال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، ومنها: فضيلة العلم، علم الأحكام والشرع، وعلم تعبير الرؤيا، وعلم التدبير والتربية؛ وأنه أفضل من الصورة الظاهرة، ولو بلغت في الحسن جمال يوسف، فإن يوسف - بسبب جماله - حصلت له تلك المحنة والسجن، وبسبب علمه حصل له العز والرفعة والتمكين في الأرض، فإن كل خير في الدنيا والآخرة من آثار العلم وموجباته.
ومنها: أن علم التعبير من العلوم الشرعية، وأنه يثاب الإنسان على تعلمه وتعليمه، وأن تعبير المرائي داخل في الفتوى، لقوله للفتيين: ( قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) وقال الملك: ( أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ ) وقال الفتى ليوسف: ( أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ ) الآيات،.فلا يجوز الإقدام على تعبير الرؤيا من غير علم.
ومنها: أنه لا بأس أن يخبر الإنسان عما في نفسه من صفات الكمال من علم أو عمل، إذا كان في ذلك مصلحة، ولم يقصد به العبد الرياء، وسلم من الكذب، لقول يوسف: ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) وكذلك لا تذم الولاية، إذا كان المتولي فيها يقوم بما يقدر عليه من حقوق الله وحقوق عباده، وأنه لا بأس بطلبها، إذا كان أعظم كفاءة من غيره، وإنما الذي يذم، إذا لم يكن فيه كفاية، أو كان موجودا غيره مثله، أو أعلى منه، أو لم يرد بها إقامة أمر الله، فبهذه الأمور، ينهى عن طلبها، والتعرض لها.
ومنها: أن الله واسع الجود والكرم، يجود على عبده بخير الدنيا والآخرة، وأن خير الآخرة له سببان: الإيمان والتقوى، وأنه خير من ثواب الدنيا وملكها، وأن العبد ينبغي له أن يدعو نفسه، ويشوقها لثواب الله، ولا يدعها تحزن إذا رأت أهل الدنيا ولذاتها، وهي غير قادرة عليها، بل يسليها بثواب الله الأخروي، وفضله العظيم لقوله تعالى: ( وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) .
ومنها: أن جباية الأرزاق - إذا أريد بها التوسعة على الناس من غير ضرر يلحقهم - لا بأس بها، لأن يوسف أمرهم بجباية الأرزاق والأطعمة في السنين المخصبات، للاستعداد للسنين المجدبة، وأن هذا غير مناقض للتوكل على الله، بل يتوكل العبد على الله، < 1-411 > ويعمل بالأسباب التي تنفعه في دينه ودنياه.
ومنها: حسن تدبير يوسف لما تولى خزائن الأرض، حتى كثرت عندهم الغلات جدا حتى صار أهل الأقطار يقصدون مصر لطلب الميرة منها، لعلمهم بوفورها فيها، وحتى إنه كان لا يكيل لأحد إلا مقدار الحاجة الخاصة أو أقل، لا يزيد كل قادم على كيل بعير وحمله.
ومنها: مشروعية الضيافة، وأنها من سنن المرسلين، وإكرام الضيف لقول يوسف لإخوته ( أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) .
ومنها: أن سوء الظن مع وجود القرائن الدالة عليه غير ممنوع ولا محرم، فإن يعقوب قال لأولاده بعد ما امتنع من إرسال يوسف معهم حتى عالجوه أشد المعالجة، ثم قال لهم بعد ما أتوه، وزعموا أن الذئب أكله ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ) وقال لهم في الأخ الآخر: ( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ) ثم لما احتبسه يوسف عنده، وجاء إخوته لأبيهم قال لهم: ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ) فهم في الأخيرة - وإن لم يكونوا مفرطين - فقد جرى منهم ما أوجب لأبيهم أن قال ما قال، من غير إثم عليه ولا حرج.
ومنها: أن استعمال الأسباب الدافعة للعين أو غيرها من المكاره، أو الرافعة لها بعد نزولها، غير ممنوع، بل جائز، وإن كان لا يقع شيء إلا بقضاء وقدر، فإن الأسباب أيضا من القضاء والقدر، لأمر يعقوب حيث قال لبنيه: ( يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) .
ومنها: جواز استعمال المكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق، وأن العلم بالطرق الخفية الموصلة إلى مقاصدها مما يحمد عليه العبد، وإنما الممنوع، التحيل على إسقاط واجب، أو فعل محرم.
ومنها: أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره، بأمر لا يحب أن يطلع عليه، أن يستعمل المعاريض القولية والفعلية المانعة له من الكذب، كما فعل يوسف حيث ألقى الصُّواع في رحل أخيه، ثم استخرجها منه، موهما أنه سارق، وليس فيه إلا القرينة الموهمة لإخوته، وقال بعد ذلك: ( مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ) ولم يقل "من سرق متاعنا"وكذلك لم يقل "إنا وجدنا متاعنا عنده"بل أتى بكلام عام يصلح له ولغيره، وليس في ذلك محذور، وإنما فيه إيهام أنه سارق ليحصل المقصود الحاضر، وأنه يبقى عند أخيه وقد زال عن الأخ هذا الإيهام بعد ما تبينت الحال.
ومنها: أنه لا يجوز للإنسان أن يشهد إلا بما علمه، وتحققه إما بمشاهدة أو خبر من يثق به، وتطمئن إليه النفس لقولهم: ( وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا ) .
ومنها: هذه المحنة العظيمة التي امتحن الله بها نبيه وصفيه يعقوب عليه السلام، حيث قضى بالتفريق بينه وبين ابنه يوسف، الذي لا يقدر على فراقه ساعة واحدة، ويحزنه ذلك أشد الحزن، فحصل التفريق بينه وبينه مدة طويلة، لا تقصر عن خمس عشرة سنة، ويعقوب لم يفارق الحزن قلبه في هذه المدة ( وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) ثم ازداد به الأمر شدة، حين صار الفراق بينه وبين ابنه الثاني شقيق يوسف، هذا وهو صابر لأمر الله، محتسب الأجر من الله، قد وعد من نفسه الصبر الجميل، ولا شك أنه وفى بما وعد به، ولا ينافي ذلك، قوله: ( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ) فإن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، وإنما الذي ينافيه، الشكوى إلى المخلوقين.
ومنها: أن الفرج مع الكرب؛ وأن مع العسر يسرا، فإنه لما طال الحزن على يعقوب واشتد به إلى أنهى ما يكون، ثم حصل الاضطرار لآل يعقوب ومسهم الضر، أذن الله حينئذ بالفرج، فحصل التلاقي في أشد الأوقات إليه حاجة واضطرارا، فتم بذلك الأجر وحصل السرور، وعلم من ذلك أن الله يبتلي أولياءه بالشدة والرخاء، والعسر واليسر ليمتحن صبرهم وشكرهم، ويزداد - بذلك - إيمانهم ويقينهم وعرفانهم.
ومنها: جواز إخبار الإنسان بما يجد، وما هو فيه من مرض أو فقر ونحوهما، على غير وجه التسخط، لأن إخوة يوسف قالوا: ( يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ) ولم ينكر عليهم يوسف.
ومنها: فضيلة التقوى والصبر، وأن كل خير في الدنيا والآخرة فمن آثار التقوى والصبر، وأن عاقبة أهلهما، أحسن العواقب، لقوله: ( قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) .
ومنها: أنه ينبغي لمن أنعم الله عليه بنعمة بعد شدة وفقر وسوء حال، أن يعترف بنعمة الله عليه، وأن لا يزال ذاكرا حاله الأولى، ليحدث لذلك شكرا كلما ذكرها، لقول يوسف عليه السلام: (( وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ) .
< 1-412 > ومنها: لطف الله العظيم بيوسف، حيث نقله في تلك الأحوال، وأوصل إليه الشدائد والمحن، ليوصله بها إلى أعلى الغايات ورفيع الدرجات.
ومنها: أنه ينبغي للعبد أن يتملق إلى الله دائما في تثبيت إيمانه، ويعمل الأسباب الموجبة لذلك، ويسأل الله حسن الخاتمة، وتمام النعمة لقول يوسف عليه الصلاة والسلام: ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .
فهذا ما يسر الله من الفوائد والعبر في هذه القصة المباركة، ولا بد أن يظهر للمتدبر المتفكر غير ذلك.
فنسأله تعالى علما نافعا وعملا متقبلا إنه جواد كريم.

تم تفسير سورة يوسف وأبيه وإخوته عليهم الصلاة والسلام، والحمد لله رب العالمين.

ابو وليد البحيرى
2019-09-19, 05:55 PM
الحلقة (249)
تفسير السعدى
فففسورة الرعدققق
من الأية(1) الى الأية(7)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الرعد



" المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون "(1)
يخبر تعالى: أن هذا القرآن, هو آيات الكتاب الدالة, على كل ما يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه, وأن الذي أنزل إلى الرسول من ربه, هو الحق المبين.
لأن إخباره صدق, وأوامره, ونواهيه, عدل, مؤيدة بالأدلة والبراهين القاطعة.
فمن أقبل عليه, وعلى علمه, كان من أهل العلم بالحق, الذي يوجب لهم علمهم به, العمل بما أوجب الله.
" وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ " بهذا القرآن, إما جهلا, وإعراضا عنه, وعدم اهتمام به, وإما عنادا وظلما.
فلذلك أكثر الناس, غير منتفعين به, لعدم السبب الموجب للانتفاع.
" الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون " (2)
يخبر تعالى عن انفراده بالخلق والتدبير, والعظمة والسلطان, الدال على أنه وحده المعبود, الذي لا تنبغي العبادة إلا له فقال: " اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ " على عظمها واتساعها, بقدرته العظيمة.
" بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا " أي ليس لها عمد من تحتها, فإنه لو كان لها عمد, لرأيتموها.
" ثُمَّ " بعد ما خلق السماوات والأرض " اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ " العظيم الذي هو أعلى المخلوقات, استواء يليق بجلاله, ويناسب كماله.
" وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ " لمصالح العباد ومصالح مواشيهم وثمارهم.
" كُلِّ " من الشمس والقمر " يَجْرِي " بتدبير العزيز العليم.
" إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى " بسير منتظم, لا يفتران, ولا ينيان, حتى يجيء الأجل المسمى وهو طي الله هذا العالم, ونقلهم إلى الدار الآخرة, التي هي دار القرار.
فعند ذلك يطوي الله السماوات, ويبدلها, ويغير الأرض ويبدلها.
فتكور الشمس والقمر, ويجمع بينهما, فيلقيان في النار, ليرى من عبدهما أنهما غير أهل للعبادة فيتحسر بذلك أشد الحسرة, وليعلم الذين كفروا, أنهم كانوا كاذبين.
وقوله " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ " هذا جمع بين الخلق والأمر.
أي: قد استوى الله العظيم على سرير الملك, يدبر الأمور في العالم العلوي والسفلي.
فيخلق ويرزق, ويغني, ويفقر, ويرفع أقواما, ويضع آخرين, ويعز ويذل, ويخفض ويرفع, ويقيل العثرات, ويفرج الكربات, وينفذ الأقدار في أوقاتها, التي سبق بها علمه, وجرى بها قلمه.
ويرسل ملائكته الكرام, لتدبير ما جعلهم على تدبيره.
وينزل الكتب الإلهية على رسله, ويبين ما يحتاج إليه العباد من الشرائع, والأوامر والنواهي, ويفصلها غاية التفصيل, ببيانها, وإيضاحها وتمييزها.
" لَعَلَّكُمْ " بسبب ما أخرج لكم من الآيات الأفقية, والآيات القرآنية.
" بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ " فإن كثرة الأدلة وبيانها ووضوحها, من أسباب حصول اليقين, في جميع الأمور الإلهية, خصوصا في العقائد الكبار, كالبعث والنشور والإخراج من القبور.
وأيضا, فقد علم أن الله تعالى, حكيم لا يخلق الخلق سدى, ولا يتركهم عبثا.
فكما أنه أرسل رسله, وأنزل كتبه, لأمر العباد ونهيهم, فلا بد أن ينقلهم إلى دار, يحل فيها جزاؤه, فيجازى المحسنين بأحسن الجزاء, ويجازى المسيئين بإساءتهم.
" وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون "(3)
" وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ " أي: خلقها للعباد, ووسعها, وبارك فيها, ومدهها للعباد, وأودع فيها من مصالحهم ما أودع.
" وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ " أي: جبالا عظاما, لئلا تميد بالخلق.
فإنه لولا الجبال, لمادت بأهلها, لأنها على تيار ماء, لا ثبوت لها, ولا استقرار, إلا بالجبال الرواسي, التي جعلها الله أوتادا لها.
وجعل فيها " وَأَنْهَارًا " , تسقي الآدميين وبهائمهم وحروثهم.
فأخرخ بها من الأشجار والزروع والثمار, خيرا كثيرا ولهذا قال: " وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ " أي: صنفين, مما يحتاج إليه العباد.
" يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ " فتظلم الآفاق, فيسكن كل حيوان إلى مأواه, ويستريحون من التعب والنصب في النهار.
ثم إذا قضوا مأربهم من النوم, غشي النهار الليل, فإذا هم مصبحون ينتشرون في مصالحهم وأعمالهم في النهار.
" ومن رحمته, جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه, وتبتغوا من فضله, ولعلكم تشكرون " .
" إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ " على المطالب الإلهية " لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " فيها, وينظرون فيها نظرة اعتبار دالة على أن الذي خلقها ودبرها, وصرفها, هو الله الذي لا إله إلا هو, ولا معبود سواه, وأنه عالم الغيب والشهادة, الرحمن الرحيم, وأنه القادر على كل شيء, الحكيم في كل شيء, المحمود على ما خلقه وأمر به, تبارك وتعالى.
" وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " (4)
ومن الآيات على كمال قدرته, وبديع صنعته, " وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ " فيها أنواع الأشجار " مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ " وغير ذلك.
والنخيل التي بعضها " صِنْوَانٌ " أي: عدة أشجار في أصل واحد.
" وَغَيْرُ صِنْوَانٍ " بأن كان كل شجرة على حدتها.
والجميع " يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ " وأرضه واحدة " وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ " لونا, وطعما, ونفعا, ولذة.
فهذه أرض طيبة, تنبت الكلأ والعشب الكثير, والأشجار والزروع.
وهذه أرض تلاصقها, لا تنبت كلاء, ولا تمسك ماء.
وهذه تمسك الماء, ولا تنبت الكلأ.
وهذه تنبت الزرع والأشجار, ولا تنبت الكلأ.
وهذه الثمرة حلوة, وهذه مرة, وهذه بين ذلك.
فهل هذا التنوع, في ذاتها وطبيعتها؟ أم ذلك تقدير العزيز الرحيم؟ " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ " أي: لقوم لهم عقول تهديهم إلى ما ينفعهم, وتقودهم إلى ما يرشدون به ويعقلون عن الله, وصاياه وأوامره ونواهيه.
وأما أهل الإعراض, وأهل البلادة, فهم في ظلماتهم يعمهون, وفي غيرهم يترددون.
لا يهتدون إلى ربهم سبيلا, ولا يعون له قيلا.
" وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " (5)
يحتمل أن معنى قوله " وَإِنْ تَعْجَبْ " من عظمة الله تعالى, وكثرة أدلة التوحيد.
فإن العجب - مع هذا - إنكار المكذبين, وتكذيبهم بالبعث.
وقولهم " أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ " أي: هذا بعيد في غاية الامتناع بزعمهم, أنهم بعد ما كانوا ترابا, أن الله يعيدهم.
فإنهم - من جهلهم - قاسوا قدرة الخالق بقدرة المخلوق.
فلما رأوا هذا ممتنعا, في قدرة المخلوق, ظنوا أنه ممتنع على قدرة الخالق.
ونسوا أن الله خلقهم أول مرة, ولم يكونوا شيئا.
ويحتمل أن معناه: وإن تعجب من قولهم وتكذيبهم للبعث, فإن ذلك من العجائب.
فإن الذي توضح له الآيات, ويرى من الأدلة القاطعة على البعث, ما لا يقبل الشك والريب, ثم ينكر ذلك, فإن قوله من العجائب.
ولكن ذلك لا يستغرب على " أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ " وجحدوا وحدانيته, وهي أظهر الأشياء وأجلاها.
" وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ " المانعة لهم من الهدى " فِي أَعْنَاقِهِمْ " حيث دعوا إلى الإيمان, فلم يؤمنوا, وعرض عليهم الهدى فلم يهتدوا.
فقلبت قلوبهم وأفئدتهم, عقوبة على أنهم لم يؤمنوا به أول مرة.
" وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " لا يخرجون منها أبدا.
" ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب " (6)
يخبر تعالى, عن جهل المكذبين لرسوله, المشركين له, الذين وعظوا فلم يتعظوا, وأقيمت عليهم الأدلة, فلم ينقادوا لها.
بل جاهروا بالإنكار, واستدلوا بحلم الله الواحد القهار عنهم, وعدم معاجلتهم بذنوبهم, أنهم على حق, وجعلوا يتعجلون الرسول بالعذاب, ويقول قائلهم: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك, فأمطر علينا حجارة من السماء, أو ائتنا بعذاب أليم " .
والحال أنه " وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ " أي: وقائع الله وأيامه في الأمم المكذبين, أفلا يتفكرون في حالهم, ويتركون جهلهم.
" وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ " أي: لا يزال خيره إليهم, وإحسانه, وبره, وعفوه نازلا إلى العباد.
وهم لا يزال شركهم, وعصيانهم إليه صاعدا.
يعصونه فيدعوهم إلى بابه, ويجرمون, فلا يحرمهم خيره وإحسانه.
فإن تابوا إليه, فهو حبيبهم, لأنه يحب التوابين, ويحب المتطهرين وإن لم يتوبوا, فهو طبيبهم, يبتليهم بالمصائب, ليطهرهم من المعايب " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا, إنه هو الغفور الرحيم " .
" وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ " على من لم يزل مصرا على الذنوب, قد أبى التوبة والاستغفار والالتجاء إلى العزيز الغفار.
فليحذر العباد عقوباته بأهل الجرائم, فإن أخذه أليم شديد.
" ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد " (7)
أي: ويقترح الكفار عليك من الآيات, التي يعينون ويقولون: " لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ " ويجعلون هذا القول منهم.
عذرا لهم في عدم الإجابة إلى الرسول.
والحال, أنه منذر, ليس له من الأمر شيء, والله هو الذي ينزل الآيات.
وقد أيده بالأدلة البينات, التي لا تخفى على أولي الألباب, وبها يهتدي من قصده الحق.
وأما الكافر, الذي - من ظلمه وجهله - يقترح على الله الآيات, فهذا اقتراح منه, باطل وكذب وافتراء.
فإنه لو جاءته أي آية كانت, لم يؤمن ولم ينقد, لأنه لم يمتنع من الإيمان, لعدم ما يدله على صحته, وإنما ذلك, لهوى نفسه, واتباع شهوته.
" وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ " أي: داع يدعو إلى الهدى, من الرسل وأتباعهم.
ومعهم من الأدلة والبراهين, ما يدل على صحة ما معهم من الهدى.