ابو وليد البحيرى
2018-11-12, 02:41 AM
السنة الإقرارية ودلالاتها
"دراسة حديثة فقهية"
د. سعود عبد الله المطيري[(*)]
ملخص البحث:
هذا البحث يلقي الضوء على جانب من جوانب سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو السنة التقريرية.
بدأ بالتعريف بالسنة لغة واصطلاحا، ثم أردف بأنواع السنن، ثم ذكرت حجية السنة على وجه العموم، وبينت حجية السنة التقريرية على وجه الخصوص.
ثم بيان السنة التقريرية ونماذج منها في أبواب: (العقائد، والأحكام والعبادات، والآداب والأخلاق).
التمهيد:
تعد سنة النبي صلى الله عليه وسلم المصدر التشريعي الثاني بعد القرآن، وفيها توضيحه وبيانه، ولا تخفى مكانة السنة النبوية في التشريع الإسلامي، وأثرها في الفقه الإسلامي منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة حتى عصور أئمة الاجتهاد، واستقرار المذاهب الاجتهادية، مما جعل الفقه الإسلامي ثروة تشريعية لا مثيل لها في الثروات التشريعية لدى الأمم جميعها في الماضي والحاضر، ومن يطلع على القرآن والسنة يجد أن للسنة الأثر الأكبر في اتساع دائرة التشريع الإسلامي وعظمته وخلوده، مما لا ينكره كل عالم بالفقه ومذاهبه.
وقد تنوعت سنته عليه الصلاة والسلام والتي قضي بها بين الناس، فكانت سنة قوليه، وسنة فعلية، وسنة تقريرية، وسنة وصفية.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الله تعالى – بلطيف عنايته – بخلقه أنزل لهم الكتب، وأرسل لهم الرسل، وختم برسوله الأمين صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، الذي أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين.
ولما كانت السنة النبوية لها المكانة العظيمة في الشريعة الإسلامية لكونها المصدر الثاني من مصادر التشريع، كان اختيار موضوع بحثي هذا أحد أنواع السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهي السنة التقريرية، وانتخاب نماذج منها مرتبة علي أبواب، العقائد، والأحكام، والعبادات، والآداب، والأخلاق، والأذكار.
خطة البحث:
يشتمل البحث على: تمهيد، ومقدمة، وأربعة مباحث، وخاتمة، وفهرس.
التمهيد:
وفيه بيان نبذة عن أهمية السنة النبوية، وأنواع السنة النبوية، وحجية السنة عموما، وحجية السنة التقريرية على وجه الخصوص.
المقدمة:
وفيها، بيان أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، وخطة البحث.
المبحث الأول:
ويشتمل على التعريف بالسنة من الجانب اللغوي والاصطلاحي.
المبحث الثاني:
ويشتمل على بيان أنواع السنة النبوية.
المبحث الثالث:
بيان حجية السنة وأنها المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حجية السنة على العموم.
المطلب الثاني: حجية السنة التقريرية.
المبحث الرابع:
نماذج من السنن التقريرية مرتبة على الأبواب، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: باب العقائد.
المطلب الثاني: باب الأحكام والعبادات.
المطلب الثالث: باب الآداب، والأخلاق، والأذكار.
الخاتمة: وفيها ذكر أهم نتائج البحث.
المبحث الأول
تعريف السنة لغة واصطلاحا
أ- السنة لغة([1]): الطريقة والسيرة، سواء أكانت حسنة أم سيئة، ويشهد لهذا:
من القرآن:
قوله تعالي: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) (الأحزاب: 62).
أي: سنة الله وطريقته في معاملة الأمم.
ومن السنة:
ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: (من سن في الإسلام سنة حسنة....) ([2]).
ومن الشعر:
من معشر سنت لهم آباؤهم
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها
ولكل قوم سنة وإمامها
فأول راض سنة من يسيرها([3])
ب- السنة اصطلاحا: تطلق السنة على عدة معان:
1- فيما يقابل القرآن([4]):
كقولهم: من السنة: كذا، وقولهم: خلاف السنة كذا.
مثال الأول: قول أنس رضي الله عنه: (من السنة: أن يقيم عند البكر سبعا) ([5]).
وما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (من السنة أن تخفي التشهد) ([6]).
ومثال الثاني: ما جاء عن سعيد بن المسيب: أنه رأى رجلا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يكثر فيها الركوع والسجود فنهاه، فقال: (يا أبا محمد، يعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة) ([7]).
2- فيما يقابل الواجب:
فيقال: هذا واجب، وهذا سنة، والمراد: ما طلب الشارع فعله، لا على سبيل الإلزام، وتسمى بالمندوب والمستحب والنافلة.
3- فيما يقابل البدعة:
فيقال: أهل السنة، وأهل البدعة، والمراد بها: ما دل عليه الدليل الشرعي.
تعريف السنة عند (الأصوليين والفقهاء):
ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير، مما يصلح أن يكون دليلا شرعيا([8]).
تعريف السنة عند (المحدثين):
يعرفها المحدثون بزيادة: (الصفة)، إذ يقولون: السنة:
ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، ويريدون بالصفة ما ورد عن الصحابة من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ، سواءأ كانت صفة خلقية أو خلقية، وما أثر عن الصحابة والتابعين من قول أو فعل([9]).
المبحث الثاني
أنواع السنن
بعد أن علمنا تعريف السنة عند المحدثين، وأنها أقوال، وأفعال، وتقريرات، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الخلقي والخلقي، فيمكن أن نذكر أنواع السنن على هذا التقسيم:
السنة القولية: هي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول غير القرآن، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : (بني الإسلام على خمس) ([10]).
السنة الفعلية: هي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل، مثل ما نقل من صفة صلاته كمثل: (كان إذا صلى فرج بين يديه، حتى يبدو بياض إبطيه) ([11]).
السنة التقريرية: هي ما نقل من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول قيل، أو فعل فعل في حضرته، أو علم به، ولم ينكره، ومن أمثلة ذلك: ما رواه الشيخان: من أكل الضب على مائدته من غير إنكار([12]).
ومما يدخل في السنة التقريرية: قول الصحابي: كنا نفعل كذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : (عن مرثد بن عبد الله قال: أتيت عقبة بن عامر الجهني – رضي الله عنه – فقلت: ألا أعجبك من أبي تميم، يركع ركعتين قبل صلاة المغرب! فقال عقبة إنا كنا نفعله على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. قلت: فما يمنعك الآن؟ قال: الشغل) ([13]).
الصفة الخُلِّقية: ما جاء في صفته: (من أنه – صلى الله عليه وسلم – كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب ولا فحاش، ولا عياب) ([14]).
الصفة الخَلقية: ما جاء في صفة هيئته صلى الله عليه وسلم ، حيث كان عليه الصلاة والسلام: (أحسن الناس صفة وأجملها، كان ربعة إلى الطول ما هو، أكحل العينين...) ([15]).
المبحث الثالث
بيان حجية السنة وأنها المصدر الثاني للتشريع الإسلامي،
وفيه مطلبان:
المطلب الأول
حجية السنة على العموم
معنى حجية السنة: أن السنة متى ثبتت بالإسناد الصحيح صح الاستدلال بها، ووجب العمل بها وبما يستنبط منها من أحكام شرعية، وحجية السنة بهذا المعنى من المعلوم من الدين بالضرورة.
وقد أجمع المسلمون على وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولزوم سنته([16]).
قال الإمام الشافعي: (لم أسمع أحدا نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله عز وجل إتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتسليم لحكمه) ([17]). قال ابن القيم: (الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه وتعالى هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته) ([18]). وقال ابن عبد البر: (وقد أمر الله جل وعز بطاعته وأتباعه أمرا مطلقا مجملا لم يقيد بشيء) ([19]). وقال ابن تيمية: (وهذه السنة إذا ثبتت، فإن المسلمين كلهم متفقون على وجوب إتباعها) ([20]). وقال الشوكاني: (اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن في تحليل الحلال، وتحريم الحرام... والحاصل: أن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لاحظ له في دين الإسلام) ([21]).
الأدلة على حجية السنة:
1- نصوص القرآن:
اقتران الإيمان بالله جل وعلا بالإيمان برسوله، وهذا يقتضي وجوب إتباعه صلى الله عليه وسلم ، وحجية السنة الثابتة عنه عليه الصلاة والسلام. قال الشافعي: (فجعل كمال ابتداء الإيمان، الذي ما سواه تبع له: الإيمان بالله ورسوله.. فلو آمن عبد به ولم يؤمن برسوله: لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبداً حتى يؤمن برسوله معه.. ففرض الله على الناس إتباع وحيه، وسنن رسوله) ([22]).
الأمر بالرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عند النزاع، قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء: 59). قال ابن القيم: (أمر تعالى برد ما تنازع فيه المؤمنون إلى الله ورسول، إن كانوا مؤمنين، وأخبرهم أن ذلك خير لهم في العاجل، وأحسن تأويلا في العاقبة) ([23]).
ترتيب الوعيد على من يخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 63). قال الإمام أحمد: (وما الفتنة؟ الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ، فيزيغ قلبه فيهلكه) ([24]) قال ابن حزم عند قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم: 3-4): (الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على قسمين:
أحدهما: وحي متلو، مؤلف تأليفا معجز النظام، وهو القرآن.
والثاني: وحي مروي منقول غير مؤلف، ولا معجز النظام، ولا متلو، لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله سبحانه وتعالى مراده منا) ([25]).
2- نصوص السنة الصحيحة:
أ- أحاديث فيها دلالة صريحة على حجية السنة:
1- كقول النبي صلى الله عليه وسلم : (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) ([26]).
ب- وكقول النبي صلى الله عليه وسلم : (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) ([27]).
ب- أحاديث فيها دلالة التنبيه على حجية السنة:
كقوله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي) ([28]).
ج- أحاديث فيها الإشارة على حجية السنة:
مثاله: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (بلغوا عني ولو آية) ([29]).
3- الإجماع:
أجمع الصحابة والتابعون وفقهاء الإسلام المجتهدون، علي أن السنة حجة يجب العمل بها، والرجوع إليها، ويدل على هذا الإجماع، استقراء الآثار المروية والنقول عن:
1- الصحابة 2- والتابعين 3- والأئمة المجتهدين.
فمن نظر فيها وجد احتجاجهم بالسنة، وكانوا إذا اختلفوا وجاءهم خبر عن رسول صلى الله عليه وسلم تركوا آراءهم لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
أ- أمثلة حجية السنة بالإجماع عند الصحابة:
ما رواه البراء بن عازب رضي الله عنه في قصة تحويل القبلة حينما خرج ممن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فمر على أهل مسجد، وهم راكعون، فقال: (أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت) ([30]).
قضاء الصديق رضي الله عنه لميراث الجدة بالسدس، عملا بالسنة النبوية([31]).
رجوع عمر رضي عنه في توريث المرأة من دية زوجها إلى السنة النبوية، فكان يقول: (الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا) حتى أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فرجع عمر عن قوله([32]).
حكم عثمان رضي الله عنه بالسنة النبوية في مكان سكني المتوفى عنها زوجها حال العدة([33]).
ب- أمثلة حجية السنة بالإجماع عند التابعين:
قال الخليفة عمر بن عبد العزيز: رأس القضاء إتباع ما في كتاب الله، ثم القضاء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ج- أمثلة حجية السنة بالإجماع عند الأئمة المجتهدين:
كان أئمة أهل السنة الأربعة من أشد الناس إتباعا وتمسكا بالحديث إذا ثبت عندهم، فمن أقوالهم:
قول الإمام أبي حنيفة: عليكم بإتباع السنة فمن خرج عنها ضل.
وقال الإمام مالك: كل يؤخذ من قوله ويرد، إلا صاحب هذا القبر، أي النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام الشافعي، إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقال: إذا وجدتم قولي يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضربوا بقولي عرض الحائط، وكان الإمام أحمد إذا سئل عن مسألة يقول: أو لأحد كلام مع النبي صلى الله عليه وسلم؟!([34]).
4- النظر الصحيح:
أن القرآن فرض الله فيه على الناس عدة فرائض مجملة غير مبينة، لم تفصل في القرآن أحكامها ولا كيفية أدائها، فقال تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ)، و(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)، ولم يبين كيف تقام الصلاة وتؤتي الزكاة، ويؤدي الصوم والحج. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الإجمال بسنته القولية والفعلية، لأن الله سبحانه منحه سلطة هذا التبيين بقوله عز شأنه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
فلو لم تكن هذه السنن البيانية حجة على المسلمين، ما أمكن تنفيذ فرائض القرآن، ولا إتباع أحكامه.
المطلب الثاني
حجية السنة التقريرية
إقرار النبي صلى الله عليه وسلم حجة على قول أكثر الأصوليين، لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم عن أن يقر أحدا على خطأ أو معصية فيما يتعلق بالشرع. قال الجويني: (فالذي ذهب إليه جماهير الأصوليين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى مكلفا يفعل فعلا أو يقول قولا فقرره عليه، ولم ينكر عليه كان ذلك شرعا منه في رفع الحرج فيما رآه) ([35]).
قال الإمام السمعاني: (ونذكر حكم ما أقر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره، فنقول: وإذا شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على استدامة أفعال في بياعات أو غيره من معاملات يتعاملونها فيما بينهم. أو مأكول أو مشروب أو ملبوس أو أبنية أو مقاعد في أسواق، فأقرهم عليها ولم ينكرها منهم، فجميعها في الشرع مباح إذا لم يتقدم إقراره إنكارا([36])، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستجيز أن يقر الناس على منكر ومحظور، كما وصفه الله تعالى في قوله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) [الأعراق: 157]. فدل أن ما أقر عليه داخل في المعروف، وخارج عن المنكر) ([37]).
والأصل في حجية إقراره صلى الله عليه وسلم هو: أنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة، إذ سكوته يدل على جواز ذلك الفعل أو القول، بخلاف سكوت غيره.
لذلك استنبط الإمام البخاري في صحيحة حجية السنة التقريرية، فقال: (باب من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة لا من غير الرسول).
ثم ساق الخبر بإسناده عن محمد بن المنكدر قال: (رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صائد الدجال، فقلت: تحلف بالله؟ فقال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم) ([38]).
ثم أردفه في الباب بعده بخبر أكل الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستدل بذلك ابن عباس رضي الله عنهما بأنه ليس بحرام([39]).
ومما استنبطه البخاري – رحمه الله – على حجية إقرار النبي صلى الله عليه وسلم : أن سترة الإمام سترة للمأمومين، فقال: (باب سترة الإمام سترة من خلفه).
واستدل البخاري على رأيه بخبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (أقبلت راكبا على حمار أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمني إلى غير جدار فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد) ([40]).
مما يدل على أنه يرى أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم ، وعدم إنكاره عليه حجة شرعية.
وإنما يكون سكوته صلى الله عليه وسلم ، وعدم إنكاره حجة على الجواز بشرطين:
أن يعلم صلى الله عليه وسلم بوقوع الفعل أو القول، فإما أن يقع ذلك بحضرته، أو في غيبته فينقل إليه، أو في زمنه وهو عالم به، لانتشاره انتشارا يبعد معه ألا يعلمه صلى الله عليه وسلم.
قال الجويني: (وإقرار صاحب الشريعة على القول هو قول صاحب الشريعة، وإقراره على الفعل كفعله، وما فعل في وقته في غير مجلسه، وعلم به ولم ينكره، فحكمه حكم ما فعل في مجلسه) ([41]).
ألا يكون الفعل الذي سكت عنه صلى الله عليه وسلم صادرا من كافر، لأن إنكاره صلى الله عليه وسلم لما يفعله الكفار معلوم ضرورة، فالعبرة في فعل أحد المسلمين([42]).
المبحث الرابع
نماذج من السن ن التقريرية مرتبة على الأبواب
وفيه ثلاث مطالب:
المطلب الأول: باب العقائد.
المطلب الثاني: باب الأحكام والعبادات.
المطلب الثالث: باب الآداب والأخلاق والأذكار.
يتبع
"دراسة حديثة فقهية"
د. سعود عبد الله المطيري[(*)]
ملخص البحث:
هذا البحث يلقي الضوء على جانب من جوانب سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو السنة التقريرية.
بدأ بالتعريف بالسنة لغة واصطلاحا، ثم أردف بأنواع السنن، ثم ذكرت حجية السنة على وجه العموم، وبينت حجية السنة التقريرية على وجه الخصوص.
ثم بيان السنة التقريرية ونماذج منها في أبواب: (العقائد، والأحكام والعبادات، والآداب والأخلاق).
التمهيد:
تعد سنة النبي صلى الله عليه وسلم المصدر التشريعي الثاني بعد القرآن، وفيها توضيحه وبيانه، ولا تخفى مكانة السنة النبوية في التشريع الإسلامي، وأثرها في الفقه الإسلامي منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة حتى عصور أئمة الاجتهاد، واستقرار المذاهب الاجتهادية، مما جعل الفقه الإسلامي ثروة تشريعية لا مثيل لها في الثروات التشريعية لدى الأمم جميعها في الماضي والحاضر، ومن يطلع على القرآن والسنة يجد أن للسنة الأثر الأكبر في اتساع دائرة التشريع الإسلامي وعظمته وخلوده، مما لا ينكره كل عالم بالفقه ومذاهبه.
وقد تنوعت سنته عليه الصلاة والسلام والتي قضي بها بين الناس، فكانت سنة قوليه، وسنة فعلية، وسنة تقريرية، وسنة وصفية.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الله تعالى – بلطيف عنايته – بخلقه أنزل لهم الكتب، وأرسل لهم الرسل، وختم برسوله الأمين صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، الذي أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين.
ولما كانت السنة النبوية لها المكانة العظيمة في الشريعة الإسلامية لكونها المصدر الثاني من مصادر التشريع، كان اختيار موضوع بحثي هذا أحد أنواع السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهي السنة التقريرية، وانتخاب نماذج منها مرتبة علي أبواب، العقائد، والأحكام، والعبادات، والآداب، والأخلاق، والأذكار.
خطة البحث:
يشتمل البحث على: تمهيد، ومقدمة، وأربعة مباحث، وخاتمة، وفهرس.
التمهيد:
وفيه بيان نبذة عن أهمية السنة النبوية، وأنواع السنة النبوية، وحجية السنة عموما، وحجية السنة التقريرية على وجه الخصوص.
المقدمة:
وفيها، بيان أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، وخطة البحث.
المبحث الأول:
ويشتمل على التعريف بالسنة من الجانب اللغوي والاصطلاحي.
المبحث الثاني:
ويشتمل على بيان أنواع السنة النبوية.
المبحث الثالث:
بيان حجية السنة وأنها المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حجية السنة على العموم.
المطلب الثاني: حجية السنة التقريرية.
المبحث الرابع:
نماذج من السنن التقريرية مرتبة على الأبواب، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: باب العقائد.
المطلب الثاني: باب الأحكام والعبادات.
المطلب الثالث: باب الآداب، والأخلاق، والأذكار.
الخاتمة: وفيها ذكر أهم نتائج البحث.
المبحث الأول
تعريف السنة لغة واصطلاحا
أ- السنة لغة([1]): الطريقة والسيرة، سواء أكانت حسنة أم سيئة، ويشهد لهذا:
من القرآن:
قوله تعالي: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) (الأحزاب: 62).
أي: سنة الله وطريقته في معاملة الأمم.
ومن السنة:
ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: (من سن في الإسلام سنة حسنة....) ([2]).
ومن الشعر:
من معشر سنت لهم آباؤهم
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها
ولكل قوم سنة وإمامها
فأول راض سنة من يسيرها([3])
ب- السنة اصطلاحا: تطلق السنة على عدة معان:
1- فيما يقابل القرآن([4]):
كقولهم: من السنة: كذا، وقولهم: خلاف السنة كذا.
مثال الأول: قول أنس رضي الله عنه: (من السنة: أن يقيم عند البكر سبعا) ([5]).
وما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (من السنة أن تخفي التشهد) ([6]).
ومثال الثاني: ما جاء عن سعيد بن المسيب: أنه رأى رجلا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يكثر فيها الركوع والسجود فنهاه، فقال: (يا أبا محمد، يعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة) ([7]).
2- فيما يقابل الواجب:
فيقال: هذا واجب، وهذا سنة، والمراد: ما طلب الشارع فعله، لا على سبيل الإلزام، وتسمى بالمندوب والمستحب والنافلة.
3- فيما يقابل البدعة:
فيقال: أهل السنة، وأهل البدعة، والمراد بها: ما دل عليه الدليل الشرعي.
تعريف السنة عند (الأصوليين والفقهاء):
ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير، مما يصلح أن يكون دليلا شرعيا([8]).
تعريف السنة عند (المحدثين):
يعرفها المحدثون بزيادة: (الصفة)، إذ يقولون: السنة:
ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، ويريدون بالصفة ما ورد عن الصحابة من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ، سواءأ كانت صفة خلقية أو خلقية، وما أثر عن الصحابة والتابعين من قول أو فعل([9]).
المبحث الثاني
أنواع السنن
بعد أن علمنا تعريف السنة عند المحدثين، وأنها أقوال، وأفعال، وتقريرات، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الخلقي والخلقي، فيمكن أن نذكر أنواع السنن على هذا التقسيم:
السنة القولية: هي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول غير القرآن، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : (بني الإسلام على خمس) ([10]).
السنة الفعلية: هي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل، مثل ما نقل من صفة صلاته كمثل: (كان إذا صلى فرج بين يديه، حتى يبدو بياض إبطيه) ([11]).
السنة التقريرية: هي ما نقل من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول قيل، أو فعل فعل في حضرته، أو علم به، ولم ينكره، ومن أمثلة ذلك: ما رواه الشيخان: من أكل الضب على مائدته من غير إنكار([12]).
ومما يدخل في السنة التقريرية: قول الصحابي: كنا نفعل كذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : (عن مرثد بن عبد الله قال: أتيت عقبة بن عامر الجهني – رضي الله عنه – فقلت: ألا أعجبك من أبي تميم، يركع ركعتين قبل صلاة المغرب! فقال عقبة إنا كنا نفعله على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. قلت: فما يمنعك الآن؟ قال: الشغل) ([13]).
الصفة الخُلِّقية: ما جاء في صفته: (من أنه – صلى الله عليه وسلم – كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب ولا فحاش، ولا عياب) ([14]).
الصفة الخَلقية: ما جاء في صفة هيئته صلى الله عليه وسلم ، حيث كان عليه الصلاة والسلام: (أحسن الناس صفة وأجملها، كان ربعة إلى الطول ما هو، أكحل العينين...) ([15]).
المبحث الثالث
بيان حجية السنة وأنها المصدر الثاني للتشريع الإسلامي،
وفيه مطلبان:
المطلب الأول
حجية السنة على العموم
معنى حجية السنة: أن السنة متى ثبتت بالإسناد الصحيح صح الاستدلال بها، ووجب العمل بها وبما يستنبط منها من أحكام شرعية، وحجية السنة بهذا المعنى من المعلوم من الدين بالضرورة.
وقد أجمع المسلمون على وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولزوم سنته([16]).
قال الإمام الشافعي: (لم أسمع أحدا نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله عز وجل إتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتسليم لحكمه) ([17]). قال ابن القيم: (الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه وتعالى هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته) ([18]). وقال ابن عبد البر: (وقد أمر الله جل وعز بطاعته وأتباعه أمرا مطلقا مجملا لم يقيد بشيء) ([19]). وقال ابن تيمية: (وهذه السنة إذا ثبتت، فإن المسلمين كلهم متفقون على وجوب إتباعها) ([20]). وقال الشوكاني: (اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن في تحليل الحلال، وتحريم الحرام... والحاصل: أن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لاحظ له في دين الإسلام) ([21]).
الأدلة على حجية السنة:
1- نصوص القرآن:
اقتران الإيمان بالله جل وعلا بالإيمان برسوله، وهذا يقتضي وجوب إتباعه صلى الله عليه وسلم ، وحجية السنة الثابتة عنه عليه الصلاة والسلام. قال الشافعي: (فجعل كمال ابتداء الإيمان، الذي ما سواه تبع له: الإيمان بالله ورسوله.. فلو آمن عبد به ولم يؤمن برسوله: لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبداً حتى يؤمن برسوله معه.. ففرض الله على الناس إتباع وحيه، وسنن رسوله) ([22]).
الأمر بالرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عند النزاع، قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء: 59). قال ابن القيم: (أمر تعالى برد ما تنازع فيه المؤمنون إلى الله ورسول، إن كانوا مؤمنين، وأخبرهم أن ذلك خير لهم في العاجل، وأحسن تأويلا في العاقبة) ([23]).
ترتيب الوعيد على من يخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 63). قال الإمام أحمد: (وما الفتنة؟ الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ، فيزيغ قلبه فيهلكه) ([24]) قال ابن حزم عند قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم: 3-4): (الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على قسمين:
أحدهما: وحي متلو، مؤلف تأليفا معجز النظام، وهو القرآن.
والثاني: وحي مروي منقول غير مؤلف، ولا معجز النظام، ولا متلو، لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله سبحانه وتعالى مراده منا) ([25]).
2- نصوص السنة الصحيحة:
أ- أحاديث فيها دلالة صريحة على حجية السنة:
1- كقول النبي صلى الله عليه وسلم : (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) ([26]).
ب- وكقول النبي صلى الله عليه وسلم : (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) ([27]).
ب- أحاديث فيها دلالة التنبيه على حجية السنة:
كقوله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي) ([28]).
ج- أحاديث فيها الإشارة على حجية السنة:
مثاله: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (بلغوا عني ولو آية) ([29]).
3- الإجماع:
أجمع الصحابة والتابعون وفقهاء الإسلام المجتهدون، علي أن السنة حجة يجب العمل بها، والرجوع إليها، ويدل على هذا الإجماع، استقراء الآثار المروية والنقول عن:
1- الصحابة 2- والتابعين 3- والأئمة المجتهدين.
فمن نظر فيها وجد احتجاجهم بالسنة، وكانوا إذا اختلفوا وجاءهم خبر عن رسول صلى الله عليه وسلم تركوا آراءهم لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
أ- أمثلة حجية السنة بالإجماع عند الصحابة:
ما رواه البراء بن عازب رضي الله عنه في قصة تحويل القبلة حينما خرج ممن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فمر على أهل مسجد، وهم راكعون، فقال: (أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت) ([30]).
قضاء الصديق رضي الله عنه لميراث الجدة بالسدس، عملا بالسنة النبوية([31]).
رجوع عمر رضي عنه في توريث المرأة من دية زوجها إلى السنة النبوية، فكان يقول: (الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا) حتى أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فرجع عمر عن قوله([32]).
حكم عثمان رضي الله عنه بالسنة النبوية في مكان سكني المتوفى عنها زوجها حال العدة([33]).
ب- أمثلة حجية السنة بالإجماع عند التابعين:
قال الخليفة عمر بن عبد العزيز: رأس القضاء إتباع ما في كتاب الله، ثم القضاء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ج- أمثلة حجية السنة بالإجماع عند الأئمة المجتهدين:
كان أئمة أهل السنة الأربعة من أشد الناس إتباعا وتمسكا بالحديث إذا ثبت عندهم، فمن أقوالهم:
قول الإمام أبي حنيفة: عليكم بإتباع السنة فمن خرج عنها ضل.
وقال الإمام مالك: كل يؤخذ من قوله ويرد، إلا صاحب هذا القبر، أي النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام الشافعي، إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقال: إذا وجدتم قولي يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضربوا بقولي عرض الحائط، وكان الإمام أحمد إذا سئل عن مسألة يقول: أو لأحد كلام مع النبي صلى الله عليه وسلم؟!([34]).
4- النظر الصحيح:
أن القرآن فرض الله فيه على الناس عدة فرائض مجملة غير مبينة، لم تفصل في القرآن أحكامها ولا كيفية أدائها، فقال تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ)، و(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)، ولم يبين كيف تقام الصلاة وتؤتي الزكاة، ويؤدي الصوم والحج. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الإجمال بسنته القولية والفعلية، لأن الله سبحانه منحه سلطة هذا التبيين بقوله عز شأنه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
فلو لم تكن هذه السنن البيانية حجة على المسلمين، ما أمكن تنفيذ فرائض القرآن، ولا إتباع أحكامه.
المطلب الثاني
حجية السنة التقريرية
إقرار النبي صلى الله عليه وسلم حجة على قول أكثر الأصوليين، لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم عن أن يقر أحدا على خطأ أو معصية فيما يتعلق بالشرع. قال الجويني: (فالذي ذهب إليه جماهير الأصوليين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى مكلفا يفعل فعلا أو يقول قولا فقرره عليه، ولم ينكر عليه كان ذلك شرعا منه في رفع الحرج فيما رآه) ([35]).
قال الإمام السمعاني: (ونذكر حكم ما أقر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره، فنقول: وإذا شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على استدامة أفعال في بياعات أو غيره من معاملات يتعاملونها فيما بينهم. أو مأكول أو مشروب أو ملبوس أو أبنية أو مقاعد في أسواق، فأقرهم عليها ولم ينكرها منهم، فجميعها في الشرع مباح إذا لم يتقدم إقراره إنكارا([36])، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستجيز أن يقر الناس على منكر ومحظور، كما وصفه الله تعالى في قوله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) [الأعراق: 157]. فدل أن ما أقر عليه داخل في المعروف، وخارج عن المنكر) ([37]).
والأصل في حجية إقراره صلى الله عليه وسلم هو: أنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة، إذ سكوته يدل على جواز ذلك الفعل أو القول، بخلاف سكوت غيره.
لذلك استنبط الإمام البخاري في صحيحة حجية السنة التقريرية، فقال: (باب من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة لا من غير الرسول).
ثم ساق الخبر بإسناده عن محمد بن المنكدر قال: (رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صائد الدجال، فقلت: تحلف بالله؟ فقال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم) ([38]).
ثم أردفه في الباب بعده بخبر أكل الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستدل بذلك ابن عباس رضي الله عنهما بأنه ليس بحرام([39]).
ومما استنبطه البخاري – رحمه الله – على حجية إقرار النبي صلى الله عليه وسلم : أن سترة الإمام سترة للمأمومين، فقال: (باب سترة الإمام سترة من خلفه).
واستدل البخاري على رأيه بخبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (أقبلت راكبا على حمار أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمني إلى غير جدار فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد) ([40]).
مما يدل على أنه يرى أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم ، وعدم إنكاره عليه حجة شرعية.
وإنما يكون سكوته صلى الله عليه وسلم ، وعدم إنكاره حجة على الجواز بشرطين:
أن يعلم صلى الله عليه وسلم بوقوع الفعل أو القول، فإما أن يقع ذلك بحضرته، أو في غيبته فينقل إليه، أو في زمنه وهو عالم به، لانتشاره انتشارا يبعد معه ألا يعلمه صلى الله عليه وسلم.
قال الجويني: (وإقرار صاحب الشريعة على القول هو قول صاحب الشريعة، وإقراره على الفعل كفعله، وما فعل في وقته في غير مجلسه، وعلم به ولم ينكره، فحكمه حكم ما فعل في مجلسه) ([41]).
ألا يكون الفعل الذي سكت عنه صلى الله عليه وسلم صادرا من كافر، لأن إنكاره صلى الله عليه وسلم لما يفعله الكفار معلوم ضرورة، فالعبرة في فعل أحد المسلمين([42]).
المبحث الرابع
نماذج من السن ن التقريرية مرتبة على الأبواب
وفيه ثلاث مطالب:
المطلب الأول: باب العقائد.
المطلب الثاني: باب الأحكام والعبادات.
المطلب الثالث: باب الآداب والأخلاق والأذكار.
يتبع