ابو وليد البحيرى
2018-11-06, 04:11 PM
تصحيح ما أخطأ العوام فهمه من الألفاظ في القرآن الكريم
د. علي عبد الله سعيد آل غرمان الشهري [(*)]
ملخص البحث:
يتفاوت الناس في فهم مقاصد القرآن الكريم، ومعرفة دلالات الفاظه، ولكن الكثرة منهم وهم العامة -غالبا-، ومن في حكمهم لا يجاوزون بما سمعوا من الفاظه حدود ما عرفوا من المعاني المستعملة عندهم، الدارجة على لسانهم، دون ان يتحسب أحدهم لما تحتمله الآية فوق ما عرف من الوجوه، وما تقتضيه اوسع مما ظن من الدلالة. وفي هذا إضرار بهم، وتضييق عليهم، وإساءة فهم في حق التنزيل، وقصور به عن غايته من حيث لا يشعرون.
هذا الموضوع يقوم على رصد هذه القضية، وتحديد معالمها من حيث الكيفية، وانواعها وامثلتها، وتصحيح الطريقة في معالجتها. ومن خلال الاستقراء والتتبع والسماع وجدت انها تتمثل في ثلاثة ألوان من الانحراف عن النهج الصحيح في تلقي التنزيل، والتعامل مع النصوص.
علل الوقوع فيها جميعا لا تخرج عن ثلاث: استعجال الفهم مع الجرأة على التأويل قبل التثبّت والتحري. والاحتكام في فهم الألفاظ إلى العرف. وعدم الرجوع إلى اهل العلم في معالجة ما أشكل بالسؤال والتلقي.
وبناء على تنوع الطريقة في الأخذ بالآيات عند هؤلاء فقد قسمت ما جمعته من الشواهد والأمثلة على ما وقع في فهمه الخطأ، وعدل به الظن عندهم إلى ثلاثة اقسام، ضممت تحت كل قسم منها ما يشاكل بعضه بعضا، ويُشبهه ويُقاربه، وفي كل ذكرت الوجه الصحيح في تأويله ومعناه، وقد جاءت مرتبة على هذا النحو:
القسم الأول: الألفاظ والمفردات المعدول بها عن معانيها، او المنقوصة دلالاتها.
القسم الثاني: الجمل التي يستشهد بها في غير مواطنها، او المستعملة خلاف مقاصدها.
القسم الثالث: الكلمات التي يقع الخلل في ضبطها، ويؤثر في نطقها ومعناها.
وقد قدمت لذلك بكلمة بسطت فيها فكرة الموضوع، ومدى اهميته، وطريقة بحثه. ثم اتبعته بجملة من التوصيات والنتائج، عسى ان يكون في العمل بها تحقيق لغاياته. والله الميسّر والمعين.
المقدمة:
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على الهادي الأمين، نبينا محمد وعلى آله
وصحابته اجمعين.
ظل كثير من بحوث التفسير دولة بين المختصين من اهله. إذا كتبت لا توجه إلا إليهم، فلا يُحسن فهمها غيرهم، ولا ينتفع بها سواهم، وغفلوا عن امر العامة الذين تشتد حاجتهم إلى معرفة كثير من الألفاظ والمعاني المتعلقة بالقرآن الكريم، مما يتردد على اسماعهم بالغداة والعشيّ، في الصلوات، وفي تلاوات ومناسبات متفرقة.
لقد نزل القرآن الكريم على النمط العالي من العربية، ووظف الفاظها توظيفا يفوق في وضعه قدرة الراسخين في العلم، فضلاً عن العامة، وحمل بوصفه ذاك من المقاصد والمعاني قدرا عظيما، كان ادناه بين ايديهم، ومنتهى غايته إلى الله سبحانه وتعالى. فكم ينال العامة من ذلك الثراء العظيم؟
إنهم يتعاملون مع القرآن على قدر افهامهم، ومبلغ ما يعرفون من معاني الفاظهم، فإذا سمعوا آيات القرآن تتلى عليهم تقاربوها، وحملوها على ما الفوه من الكلام، وما استيسروه من التأويل، فلم يجاوزوا حدود ذلك " لأنهم لا يملكون وراءه شيئا" حتى أصبح بعضهم لا يمترى في صواب ما رأى، وكمال ما علم. وفي هذا غمط لمكانة القرآن الكريم، وقصور به عن غايته، وفيه غبن وحرمان لهم، وتضييق عليهم.
وحينما اقول العامة فلا أعنى تلك الفئة الأقل عدداً والمدبرة زمانا ممن لا يحسنون القراءة والكتابة فحسب، وإنما أعنى معها من في حكمها ممن يعانون من الأمية (المقنّعة) -إن صحت العبارة-من المتعلمين الذين أحرزوا الشهادات والدرجات العلا، وصار لهم حظ موفور من العلوم الدنيوية، فكانوا بها في شغل، وعن طلب غيرها مما تدعو الحاجة إليه منصرفين.
فهؤلاء بضاعتهم من علوم الدين لا تكاد تفضل عضا اشتمل عليه سابقوهم. كلا هاتين الفئتين مستند في تأويل ما يسمع من اي الكتاب إلى العرف، وما طبع فهمه عليه من الإلف، ولا يعالج بالسؤال ما استعسر عليه منها إلا قليلاً.
والدور -هنا-منوط بأهل الاختصاص، والرجاء معقود عليهم في ان ينزلوا إلى ساحة هؤلاء" ليصغوا إليهم، ويسمعوا منهم، ويعلموهم، وينصحوا لهم، ويبينوا ما أشكل عليهم، ولا يكلوهم إلى كتب التفسير ومطولاته " فإن لها مفاتيح لا يحكمها العامة، وطرائق لا يعرفونها، وربما زادتهم مطالعتها لبسا على لبس إن هم رجعوا إليها. والسبيل إلى ذلك يكون باعتماد الكتب الموطّأة، والبحوث الميسرة، والمحاضرات والدروس، فعن ذلك يحدث السؤال والاستفسار، ويُطلب الجواب ويُشمع، ويُقبل الاستدراك، وتنتشر الحقائق، وتعرف المسائل، مع اقتناص الأوقات السانحة، والفرص المواتية، التي تناسب تلك الشرائح جميعها.
نقول ذلك وما بأهل العلم من قلة، فلو وضع كل منهم يده، واعمل قلمه ولسانه في محيطه الذي يليه لأثمر ذلك اطيب الثمار، ولانتشرت ثقافة التفسير، واشتهرت الفاظه ومعانيه، وحُببت مجالسه إلى الناس، واتوها طائعين.
ما بال الناس إذا استقبلوا شيئا من أمور حياتهم واقتضى الانتفاع به تحصيل شيء من قواعده ونظامه رايتهم ماضين في طلبه سراعا، لا يهنون ولا يسأمون حتى يحوزوا علمه، وتطمئن نفوسهم به، بل يتواصون في ذلك ويتناصحون، وتُشغل مجالسهم بذكره، ورأيتهم يرخصون له الوقت والجهد والمال. فهل الكتاب عندهم اقل شأنا من ذلك!!
كلا إن بذرة الخير موجودة في نفوس الناس، وقلوبهم مطبوعة على الخير، مجبولة على محبة الدين. هذا هو الظن بالمسلمين، ولكن الإنسان لا يبصر خطأه، ولا يحس تقصيره إلا إذا نُبه إليه. فإذا كان ذلك متعلقاً بالدين فإنه سريع الإنابة سهل الاستجابة.
سلهم عن معنى: (الصَمَدُ) أو (غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) وهي من أكثر ما يسمعون، واغلب ما يقرؤون... لتجدنّ أكثرهم في حاجة الجواب الصحيح. فهل يُترك هؤلاء فيما هم فيه والعلم مبذول، والحاجة قائمة.
إن مجال تقصير العوام في حق القرآن لا يقف عند حدود الجهل بالمعاني الصحيحة، وإنما يتجاوز ذلك إلى العدول في تصوّرها، والميل في تقديرها، والاطمئنان إلى ما ذهب إليه كل منهم في فهمه لها دون يقين، مع تخطي السبل الموصلة إليها التي يقررها اهل العلم، بل والجهل بها، والافتقار إلى الورع والحذر اللذين ينبغي ان يتحوّط بهما كل من يتعاطى مثل ذلك.
ومن العسير علينا-هنا-: ان نحصر جوانب التقصير، ومكامن الأخطاء التي يقع فيها الناس، لأنهم قد يفجؤونك منها بما لا تتوقعه، ولكن مداخلتهم أحاديثهم، ومخالطتهم في مجالسهم ومساجدهم، وسائر انشطة حياتهم تكشف لك عن الكثير من ذلك، وتعطيك صورة بينة مما وصفت لك.
وكخطوة اولى في محاولة التنبيه عليها، والتعريف بها، واصلاحها وفي ظل عدم وجود دراسات سابقة في هذا الموضوع على حد علمي جمعت قدرا منها لعله من اكثرها شهرة، واظهرها استعمالا، واولاها واقربها إلى الاستدراك والإصلاح. وصنّفتها حسب انواعها إلى ثلاثة اقسام، ضممت تحت كل قسم منها ما يشاكل بعضه بعضا، ويشبهه من الكلمات، والجمل التي تسير في نسق واحد من حيث وقوع الخلل، واكتفيت من كل ذلك بالتمثيل دون الاستقصاء فيما ذكرت من الأقسام، وما اوردت تحتها من الأمثال والشواهد " لأن الغاية إيقاظ الحسّ إلى تجنب تلك الأخطاء، ورفع درجة الملاحظة لدى السامع، وتربية ملكة النقد عند الإنسان، والرقابة على نفسه عندما يتعرّض لشيء مما يتعلق بالتنزيل " لكي ينزله منزله الصحيح من الصون والرعاية.
هذه الأقسام الثلاثة تشترك في عدم فهم المراد منها، والخطأ في تأويلها، وصرفها عن وجوهها، وتحكيم العرف إلى حذ مؤثر في تنزيل دلالاتها، وفقد الأناة المشروطة للتوصل إلى حقائقها.
وقد جاءت مرتَّبة على هذا النحو:
القسم الأول: خاص بالألفاظ والمفردات المعدول بها عن معانيها، او المنقوصة دلالاتها.
القسم الثاني: مشتمل على الجمل التي يُستشهد بها في غير مواطنها، او المستعملة خلاف مقاصدها.
القسم الثالث: عن الكلمات التي يقع الخلل في ضبطها، ويؤثر في نطقها ومعناها.
وقد رأيت جمعها تحت عنوان: (تصحيح ما أخطأ العوام فهمه من الألفاظ والمعاني في القرآن الكريم).
ومن واقع موضوع البحث فلا بد من ان يُراعى في طرحه السهولة، والوضوح والوجازة" تنزّلاً مع الرغبة في ان ينتفع به المستهدفون به، وحرصاً على تحقيق الغاية منه. وقد تجنبت ما استطعت الإكثار من التأويلات والتفصيلات التي اعتادها اهل الفن " لأنها قد تقصي المطلوب عن هؤلاء، وتحول بينهم وبينه، إلا بما تقتضيه ضرورة البيان. مع التفات إلى من سواهم " لكي يصدر كل مطلع عليه بحظه منه إن شاء الله تعالى.
وإني إذ اعرض هذا العمل لا اريد من العاميّ ان يكون ملماً بكل شيء، كما لا اريد ان يكون خاليا من اي شيء، او جريئا على كل شيء، وإنما المراد منه ان يحرص على ما لا بد له في الدين منه، وان يسعى على الأقل لتحصيل الحد الأدنى مما تقوم به حاجته، وتستقيم به حياته من فهم لكتاب الله الكريم، مع توقيره، واستحضار مهابته، فقد اضحى هذا الأمر مما لا يُعذر أحد بجهله بعد توفر الوسائل، وتنوع السبل، وتيسر المطلوب.
إن الاستسلام للجهل عجز وتقصير ومذمّة، كما ان تقحّم المسالك الوعرة هلاك ومأثمه، والخير في طلب السلامة بين هذين، وما ذلك بمتعذر على من اراد، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
القسم الأول: الألفاظ والمفردات المعدول بها عن معانيها، أو المنقوصة دلالاتها
اسلوب القرآن من قبيل المطمع الممتنع، لقربه يغري، ولعمقه يخيف. يعطيك من الألفاظ ما تعرفه، ويحمّلها من المعاني فوق ما تدركه. فإذا سمع الواحد منا من الفاظه ما اعتاد سماع مثلها من غيره فلا يتعجل تفسيرها، ويستبق معناها بناء على ما عهد عنده من المعاني، وما الفه من العرف " لأن كلام الله معجز، ومقتضى الإعجاز ألا يكون كلامه سبحانه عاديا يتناوله كل من اراد، ولو كان كذلك لما وقف ارباب الفصحى امامه مبهورين منقطعين، وعن مجاراته عاجزين.
وإن من مظاهر إعجازه: بلاغة المفردة القرآنية، وفخامة الجملة الأسلوبية. حروف وكلمات معدودة، ومعنى لا يتناهى غزارة وجدة، واتساعا وعمقا. فإذا عرف المرء من معناه شيئا فلا يقطع بأنه نهاية المطلوب وغاية المقصود. على انه لا تثريب عليه يسمع الآية فيظن فيها الظن، او يخطر لها عنده معنى، ثم يقلب النظر فيه فكلنا يمر بذلك، ولكن دون أن يجزم ان ما توصل إليه من المفهوم هو المراد إلا في ظل الاستئناس بأقوال اهل العلم، والرجوع إلى كتب التفسير.
ولو تتبعنا احوال المفسرين لوجدنا انهم قد ارصدوا له من العدة ما لا يطيقه كثير من الناس " من شدة حرصهم عليه، وعظم وقارهم له، ومعرفتهم به، ثم إذا توصلوا إلى شيء من معانيه رأيناهم وجلين مما قالوا، خائفين مما قرروا، يشفعون ذلك بكثير من عبارات الاحتياط، واساليب الاعتذار " رفعاً للحرج عن أنفسهم " لعلمهم بكبير ما أقدموا عليه. فإذا كان هذا حالهم فماذا ينبغي ان يكون عليه حال من لم يعتدّ بمثل عدتهم، ولم يبلغ من العلم بعض ما بلغوا؟ ينبغي ان يكون اشد حذرا وخوفا، وابلغ نأياً بنفسه عن ذلك، خاصة وقد كفى مؤونته، وحملت عنه تبعته.
قد يكون للكلمة القرآنية معنى ظاهر لا يجهله كثير منا، لكن قواعد النظر في القرآن وتأويله تقتضي الا نحمله على ما تبادر إلينا " لأن ثراء معناه يأبى ان نحصره في تلك الجزئية، فالقرآن الكريم يتحدث بلسان العرب جميعا، وما عرفه قوم في لغتهم قد ينكره اخرون، والعكس كذلك، فإذا وقفناه نحن على ما نعلم فالمعنى اننا نُلغي نصيب الآخرين او ننفيه. هذا سبب واحد لتعدد وجوه اللفظ فكيف إذا تخطينا في تأويلنا له دلالة السياق التي بيدها زمام المعنى، ولا يفهم إلا في ركابها، او تجاهلنا فقه المفردة واشتقاقها، او وجوه القراءة فيها؟ بل إن مما ينبغي معرفته، والنظر فيه في مثل هذه الحال علم (الوجوه والنظائر في القرآن الكريم) ([1]) وقد يسميه بعضهم (الأشباه والنظائر) وهو من اهم العلوم المتعلقة بالتفسير، ولا ابالغ إذا قلت، إنه متوقف عليه. ومع الأسف فإن هذا العلم على شرفه ونفاسة موضوعه لا يُلقى له كثير من الناس بالاً، أو لا يعلمون عنه اصلاً، وقد يسمعون بغريب القرآن، والناسخ والمنسوخ، والأقسام والأمثال ونحو ذلك، ويعرفون على الأقل الحد الأدنى الذي يستطيعون به معرفة ما يدل عليه كل واحد منها، ولكنهم لم يسمعوا بهذا الفن، دان سمعوا به لم يهتدوا إلى حقيقة ما يُراد به، ولذلك يصح ان نسميه: علم الخاصة " لأنه لا يعرفه إلا العلماء، ولا ينتفع به غيرهم. هذا العلم يقوم على فقه المفردة في القرآن الكريم، وتعدد استعمالاتها، والوجوه التي تتصرف إليها، واحوال تكرار لفظها مع اختلاف معناها. فإذا لم يكن هذا العلم على دراية كافية منا مع بعد عن الاعتبارات السابقة في تناول اللفظ القرآني -ولا شك اكثرنا كذلك -فخليق الا نخاطر بمنزلة القرآن، ونتجاسر على حرمته فنقول في تأويله بغير علم، وإنما ندع الخوض في مثله لأهله.
في هذا القسم سنعرض بقدر ما تتضح لدينا الصورة لمجموعة من الأمثلة التي تبين لنا طريقة كثير من الناس في تلقي بعض الكلمات او الجمل القرآنية، وحمْلها على ابسط وأقرب ما عرفوه من استعمالاتها عندهم، دون التفكير فيما وراء ذلك، مع ان ذلك المعنى الذي فهموه قد يكون مغايرا تماما للمراد بها في ذلك الموضع، او يكون واحدا من تأويلات عدة للكلمة، ربما كان بعضها أرجح او اولى بالقول مما ظنوه. سأذكر الآية، واشير إلى الكلمة محل الشاهد، وما حملت عليه من المعنى الذي لا يوافق المراد بها على الوجه الصحيح، ثم أعقب بعد ذلك بما أثر في تأويلها على التحقيق عند اهل العلم، غير مستكثر من الأقاويل، ولا مستوعب لجميع الأوجه، عسى ان تلتقي عنده الرغبات، والله من وراء القصد.
الآية: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)
الكلمة: " السِّلْمِ ": فهمت على ان المراد بها السِّلْم اي: الصلح والمسالمة، وهو المعنى المقابل لكلمة: الحرب.
والصواب: الذي اختاره اهل العلم، ورجحوه ان المراد بالسِّلْم هنا: الإسلام. اي: ادخلوا في الإسلام. قال القرطبي ([2]) في تأويلها: (كونوا على ملة واحد واجتمعوا على الإسلام واثبتوا عليه) فالسلم هنا بمعنى: الإسلام... ومنه قول الشاعر ([3])
دعوت عشيرتي للسِّلْم لما
رأيتهمُ تولوا مدبرينا
قال: اي الإسلام، لما ارتدت كندة بعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم مع الأشعث بن قيس الكندي ([4]). ولأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالدخول في المسالمة التي هي الصلح وإنما قيل للنبي صلي الله عليه وسلم ان يجنح للسلم إذا جنحوا له، واما ان يتبدى بها فلا) ([5]). وهذا ما اختاره ابو جعفر الطبري ورجّحه ([6]). وقيل معناه: الاستسلام والطاعة. وقيل غير ذلك مما هو في معنى القول الأول ([7]).
2. الآية: قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) سورة الأنعام (8-9).
الكلمة: "وللبسنا" و "ما يلبسون ". تفهم على ان المراد من هذا اللفظ اللباس بمعنى: انه لو جعل سبحانه الرسول ملكا لجعل عليه من اللباس مثل ما يلبس هؤلاء المشككون، او ما يلبس سائر الأنبياء من الثياب.
والصواب: ان معنى الآية: ان المولى سبحانه وتعالى لو استجاب لطلبهم فأنزل ملكا لقضي الأمر إما بموتهم " لأنهم لا يطيقون رؤيته على هيئته، او بقيام الساعة، او بهلاكهم بعذاب يستأصلهم، ولكي لا يحدث لهم ذلك لا بد من جعله رجلاً لكي يأنسوا به ويكلموه، كما كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر، كما اتوا إبراهيم ولوطاً عليهما السلام في صورة الآدميين ([8]). وكما كان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلي الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي الصحابي المعروف رضي الله عنه ([9]).
ومع ذلك لو جعله كذلك فسيجحدون كونه ملكا، ويقولون: إنما انت بشر فلا نؤمن بك، ولالتبس عليهم الأمر كما يحدث لهم في رسالة الرسول البشري، او لحدث لكبرائهم ورؤسائهم من اللبس والشك بهذا الصنيع ما يحدثونه هم من التلبيس والخلط والتشكيك لسائر ضعفة الناس.
فالمراد من اللفظ هو: اللبس والشك. وليس المراد اللباس الذي يستتر ويتزين به وإن كان أصل اللبس مشتق من التستر بالثوب ونحوه، ولكن ظهر الفرق هنا في الاستعمال.
3. الآية: قوله تعالى: (فَأَنْجَيْنَاه وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) سورة الأعراف (83).
الكلمة: "الغابرين ": تفهم على ان المراد بها: الماضين. كما يقال: القرون الغابرة اي: الماضية.
والذي يدل عليه معنى الآية ويُفهم من سياقها ان المراد بالغابرين كذلك: الباقين. فيكون المعنى: اي الباقين قبل الهلاك والمعمّرين دهراً طويلاً حتى هرمت وأدركها الهلاك مع من هلك من قوم لوط.
او يكون المعنى: الباقين في عذاب الله، كما جاء في رواية اخرى.
قاله ابن عباس ([10]) وقتادة ([11]): وهو من الأضداد ([12]). وقد ذكر ذلك ابن الأنباري ([13]) في كتابه ([14]).
وبما ان هذا اللفظ من الأضداد كما ذكروا فلو خمل على معنى " الماضين" لكان المراد -والله اعلم -: انها صارت من الماضي بعد هلاكها، او قد مضى هلاكها مع من هلك. ولكن المعنى الثاني: "الباقين" هو الذي ترجّح في عبارات المفسرين وهو الذي ينصره السياق ويقوّيه.
قال القرطبي: (والأكثر في اللغة ان يكون الغابر الباقي) ([15]).
وقال ابو جعفر: (وإنما عنى بذلك: إلا امراته كانت من الباقين قبل الهلاك، والمعمْرين الذين قد اتى عليهم دهر كبير، ومز بهم زمن كثير، حتى هرمت فيمن هرم من الناس. فكانت ممن غبر الدهر الطويل قبل هلاك القوم، فهلكت مع من هلك من قوم لوط حين جاءهم العذاب.
وقيل معنى ذلك: من الباقين في عذاب الله ([16])).
4. الآية: قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) سورة التوبة (112).
الكلمة: "السائحون" تُفهم هذه اللفظة على ان المراد بها: السياحة المعروفة في اصطلاحنا اليوم اي بمعنى: السير في الأرض، والسفر للتنزه.
ومع أن لبعض اهل العلم اقوالا تشبه هذا المعنى نحو قولهم: السائحون: المجاهدون او قولهم: هم المهاجرون أو هم: الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم... ونحو ذلك ([17]).
إلا ان المعنى الأقوى الذي قال به جماعة من الصحابة، والذي رجحه أكثر اهل العلم ان المراد: الصائمون. وهذا الأولى ومثله قوله تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) سورة التحريم (5).
قيل: سمي الصائم سائحا لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام، وقيل غير ذلك ([18]).
5. الآية: قوله تعالى: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) سورة يونس (92).
الكلمة: "ننجّيك" تفهم على ان الله نجاه وأنقذه من الغرق كما هو المعنى في قوله تعالى (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) سورة مريم (72).
هذا هو المعنى الذي يتبادر إلى الذهن اولا.
والصواب: ان المراد: ان نجعلك على نجوة من الأرض ببدنك -اي غريقا -ينظر إليك هالكا من كذب بهلاك " لتكون لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك. والمراد بالنجوة: الموضع المرتفع على ما حوله من الأرض ([19]) ومنه قول الشاعر ([20]):
فمن بعقوته كمن بنجوته
والمستكن كمن يمشي بقرواح
والبيت من قصيدة يصف الشاعر فيها المطر يقول: لشدته غشتي كل مكان حتى استوى فيه من بالعقوة. وهي: ساحة الدار وما حولها، والنجوة هي: ما ارتفع من الأرض. واستوى المستكن الذي في كن واختبأ فيه، والقرواح: البارز الذي لا يستره عن السماء والشمس شيء ([21]).
هذا هو المعنى الذي اكده عامة المفسرين في تأويل الآية غير انه لا يمتنع ان يراد معنى النجاة، ولكنها نجاة لا حياة فيها اي مجرّدة عن السلامة وليست النجاة الحقيقية كما يظن ويتصور لأول وهلة... قال القرطبي: (فعلى هذا " ننخيك ببدنك " احتمل معنيين: أحدهما: نلقيك على نجوة من الأرض.
والثاني: نظهر جسدك الذي لا روح فيه.) ([22]). والله اعلم.
6 -الآية: قوله تعالى: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) سورة يوسف(20)
الكلمة: "وشروه " تفهم على ان معناها: الشراء المقابل لمعنى البيع.
والصواب: ان معناها: ان إخوة يوسف باعوه من السيارة وقبضوا ثمنه: دراهم معدودة.
ولفظ الشراء من الأضداد. اي انه يستعمل بمعنى البيع وبمعنى الشراء. فهو هنا بمعنى: البيع.
بهذا فسره اهل العلم بالتأويل ([23]) وهو ما يوافق السياق. جاء في كتاب الأضداد: (واشتريت حرف من الأضداد، يقال: اشتريت الشيء على معنى قبضته واعطيت ثمنه، وهو المعنى المعروف عند الناس، ويقال: اشتريته إذا بعته ([24])...) وفي المفردات (...لفظ البيع والشراء يستعمل كل واحد منهما في موضع الآخر. وشريت بمعنى: بعت أكثر. وابتعت بمعنى: اشتريت اكثر ([25])... ).
7 -الآية: قوله تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) سورة يوسف (23).
الكلمة: "إنه ربي" تفهم على ان يوسف عليه السلام يعني هنا: رب العالمين سبحانه وتعالى.
وهو قولٌ في معناها ([26]). ولكن الأولى والذي يتفق مع السياق انه يعني: زوج المرأة. اي: هو سيدي أكرمني، وأحسن منزلتي، وائتمنني فلا اخونه، إشارة إلى قوله: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) ([27]) سورة يوسف (21).
8 -الآية: قوله تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) سورة الإسراء (13).
الكلمة: "طائره " تحمل على المعنى المتبادر اي: الطائر الحي حقيقة.
والصواب: ان المراد بذلك: عمل الإنسان، وما قضاه الله وقدره عليه، وما كتب له مما يكون سببا في السعادة او الشقاوة " فإن ذلك لازم لا يفارقه اينما كان ([28]).
أخذاً من عادة العرب من التعبير عن السعد او النحس بالطائر، قال الطبري: (مثل لما كانت العرب تتفاءل به او تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها، فأعلمهم جل ثناؤه ان كل إنسان منهم قد الزمه ربه طائره في عنقه، نحسا كان ذلك الذي الزمه من الطائر، وشقاء يورده سعيرا، او كان سعدا يورده جنات عدن ([29])).
9 -الآية: قوله تعالى: (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) سورة النمل (10).
الكلمة: "جان" تفهم على ان المراد: الجان من الجن المقابل للإنس، مثل ما جاء في قوله سبحانه: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) سورة الرحمن (15).
والصواب: ان المراد: الحيّة. قيل: الحية الصغيرة، وقيل: ثعبان ذكر عظيم له خفة الجان -وهو الحية -الصغير واهتزازه، كما جاء في موضع اخر: (فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى) سورة طه (20) ([30]).
قال ابن كثير: (والجان ضرب من الحيات أكثر حركة وأسرع اضطرابا) ([31]).
0 1 -الآية: قوله تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) العنكبوت: (64).
الكلمة "الحيوان " يُظَن ان هذا المسمى لا يقع إلا على الحيوان المعروف من الدواب المقابل للإنسان. والصواب: ان معنى الحيوان يقع على كل شيء حي، فهو بمعنى: الحياة. وقيل: (الحيوان ابلغ من الحياة لما في بناء (فعلان) من الحركة والاضطراب اللازم للحياة) ([32]).
والمراد هنا: اي ان الآخرة هي دار الحياة الباقية التي لا تزول، ولا موت فيها، واما الحياة الدنيا فهي زائلة منقضية لا دوام لها ([33]).
11 -الآية: قوده تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) الصافات: (102).
الكلمة "السعي " يفهم المراد منها على ان السعي هو: السعي بين الصفا والمروة.
اي ان إسماعيل صار قادرا على السعي مع ابيه عليهما السلام بينهما، وسبب هذا الظن ان اغلب حوادث قصتهما جرى في مكة.
والصواب: ان المعنى: اي كبر الغلام وترعرع، وصار يذهب مع ابيه، او اطاق معونته على عمله، والسعي معه في حوائجه، او امور دنياه ([34]).
12-الآية: قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) الفتح: (1).
الكلمة "فتحاً" يفهم على ان المراد بالفتح هنا فتح مكة، وفتح مكة كان يعد فتحاً ولكنه ليس المراد هنا. وإنما المراد هنا هو يوم الحديبية، او صلح الحديبية في أكثر اقوال اهل العلم ([35]). وفي صحيح البخاري ([36]) عن البراء ([37]) رضي الله عنه قال: (تعدون أنتم الفتح: فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح: بيعة الرضوان يوم الحديبية... الحديث) ([38]).
قال ابن حجر ([39]): (... المراد بالفتح هنا: الحديبية " لأنها كانت مبدا الفتح المبين على المسلمين، لما ترتب على الصلح الذي وقع منه الأمن ورفع الحرب، وتمكن من يخشى الدخول إلى الإسلام، والوصول إلى المدينة من ذلك، كما وقع لخالد بن الوليد ([40]) وعمرو ابن العاص ([41]) وغيرهما، ثم تبعت الأسباب بعضها إلى ان كمل الفتح...) ([42]).
13 -الآية: قوله تعالى: (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) سورة ق (22).
الكلمة "حديد" قد يحمل المعنى على إرادة المعدن المعروف، وهو الحديد بجامع القوة فيه وفي الإبصار حينئذ.
والصواب: ان المراد بقوله: حديد اي: حادّ من الحدّة في الرؤية والإبصار، وقوي ونافذ، يرى ما كان محجوبا عنه، فالقوة في البصر مقصودة هنا ([43]). كما يقال: لسان حديد اي: صارم وماض، ومنه قوله تبارك وتعالى: (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ) سورة الأحزاب (19) ([44]).
وانما جاءت الصيغة فعيل بمعنى: فاعل، اي حديد بمعنى: حاد. كما وصفهم سبحانه في مكان اخر بقوله: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) سورة مريم (38) اي: ما اسمعهم وأبصرهم، او لا أحد اسمع منهم يوم القيامة ولا أبصر ([45]). فهذا من ذلك.
14-الآية: قوله تعالى: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) سورة الرحمن (6).
الكلمة: "والنجم " تفهم على ان المراد بها: نجم السماء، واحد النجوم، وهو قول في معنى الآية: ولكن الأولى: ان معناه: ما نجم من الأرض-اي ما طلع- من النبات مما ينبسط عليها، ولم يكن له ساق مثل البقل ونحوه " لعطف الشجر عليه، وهو ما يقابله، وهو ما يقوم على ساق.
فيكون المعنى: ما قام على ساق، وما لا يقوم على ساق يسجدان الله. والمراد: ان الأشياء كلها المختلفة الهيئات تسجد لله ([46]).
15-الآية: قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) سورة الرحمن (7).
الكلمة "الميزان" فهم معناه على انه الة الوزن المعروفة اي: الميزان ذو الكفتين واللسان الذي يتعامل به المتبايعان.
والأَوْلى ان المراد في هذه الآية: العدل. اي: وضع في الأرض العدل الذي امر به سبحانه، كما قال جل ذكره: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) سورة الحديد (25).
وما تصرّف من الألفاظ بعد هذا اللفظ فيعني: الفعل والآلة، والسنجة، من الحجارة والحديد ونحوها من مقادير الوزن ([47]). وإنما سميت الآلة بهذا الاسم لأنه بها يُعرف العدل بين المتعاملين ومقادير الأشياء المقدرة.
16-الآية: قوله تعالى:( فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) سورة القلم (20).
الكلمة "الصريم " تحمل على معنى: المصروم اي: فهي كالزرع المحصود، او النبت المصروم اي: المجذوذ والمقطوع. وهذا المعنى قد قال به بعض اهل العلم في تفسير الآية.
ولكن الأظهر في معناها ان الصريم يريد به الليل الأسود ([48])، قيل: اصبحت محترقة سوداء كسواد الليل المظلم البهيم، وقيل: كالرماد الأسود قاله ابن عباس وجماعة ([49]).
17-الآية: قوله تعالى: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) سورة القلم (28).
الكلمة: "أوسطهم" يُظن ان معناها: اوسطهم في السن، اي: ليس بكبرهم ولا أصغرهم سنا.
والصواب: ان معنى اوسطهم: اي: اعدلهم، وأمثلهم، واعقلهم، واسدّهم رأياً حين طلب منهم التسبيح. قيل: وكان أسرع القوم فزعا، وأحسنهم رجعة ([50]).
18-الآية: قوله تعالى: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) سورة الفجر (9).
الكلمة: "جابوا" تفسّر بمعنى: جاءوا بالصخر اي: اتوا به، على نحو ما يقوله العوام ويفهمونه في لهجتهم الدارجة فلان جاب الشي-هكذا-اي: اتى به. وليس هذا المراد.
وانما المراد وهو الصواب: اي: قطعوا الصخر بالوادي، من قولهم: فلان يجوب البلاد اي: يقطعها. او خرقوه ونحتوا الجبال فجعلوها بيوتا ([51])، كما قال جل ثناؤه: (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ) سورة الحجر (82).
القسم الثاني: الجمل التي يُستشهد بها في غير مواطنها،
أو المستعملة في غير مقاصدها
هذا لون اخر من ألوان التعرّض لمعاني القرآن الكريم بغير يقين، لعلّه اضرّ بالمعاني من سابقه، وهو باب يكثر فيه خطأ العوام " لرواجه على الألسنة حتى يوشك بعضه ان يبلغ عندهم مبلغ الأمثال، مبعثه سوء فهم للآية، وجهل بالسياق ادى إلى قلب معناها، او اجتزائه، او تحميلها من الدلالة ما لا تحتمل او نحو ذلك. وغالبا ما يُساق ذلك للاحتجاج لراي، او الانتصار لفكرة، او التسويغ لحال. ولهذه الطريقة صور كثيرة نكتفي للتعريف بها، والتحذير منها، بما يلي من الأمثلة.
1-الآية: قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة: (256).
نسمع الاحتجاج بهذه الآية في العادة في موضعين:
موضع الاستشهاد الأول: فتن بعض الناس في دينهم، وبلغت بهم رِقّة الدين، وضعف اليقين إلى الاعتقاد ان هذه الآية تتناول في معناها المؤمن المقيم على إيمانه، وان له من الحرية في ذلك ما يعطيه الحق في ان يبذل دينه، فلا يُكرهه أحد على لزومه.
وهذا فهم خاطئ واستشهاد باطل، فإن الآية جاءت في شأن غير المسلمين، وانهم لا يُكرهون على الدخول في دين الإسلام؛ لأنه أصبح من الجلاء والكمال، والبيان ووضوح الحجة والبرهان بحيث لا يحتاج معه إلى إكراه على الدخول فيه وقبوله، بل إن من كتب الله له الهداية، وشرح صدره، ونوّر بصيرته دخل فيه على بينة طائعاً مختاراً. ومن اعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره فإنه لا ينفعه الدخول فيه مكرها مقسوراً ([52]).
فهذه الآية جاءت في شأن الكافر أصلي الكفر الذي هو باق على كفره، فأفا المؤمن فلا تتناوله بحال إذ لا خيار له. كما لا تتناول من كان كفره طارئا غير أصلي وهو: المرتد.
والحق انه من استجاز ذلك من المسلمين ففعله فحده حد الردة إذا توافرت شروطه وهو القتل، كما اجمع على ذلك اهل العلم ([53]).
وأياً ما كان السبب فإن هذا هو الحكم المستفاد من الآية. ونظير هذه الآية قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف: (29). اذ لا يفهم منها الترخيص والإذن في اي الأمرين شاء، وإنما المراد: ان الحجة قد اتضحت، والبيّنة قد قامت فليختر لنفسه من الطريقين ما شاء بعد ان علم مآلهما، وهذا من باب التهديد والوعيد الشديد لمن اختار الكفر بعد ان تبئن له الحق، وبقية الآية شاهد على ذلك ([54]).
يتبع
د. علي عبد الله سعيد آل غرمان الشهري [(*)]
ملخص البحث:
يتفاوت الناس في فهم مقاصد القرآن الكريم، ومعرفة دلالات الفاظه، ولكن الكثرة منهم وهم العامة -غالبا-، ومن في حكمهم لا يجاوزون بما سمعوا من الفاظه حدود ما عرفوا من المعاني المستعملة عندهم، الدارجة على لسانهم، دون ان يتحسب أحدهم لما تحتمله الآية فوق ما عرف من الوجوه، وما تقتضيه اوسع مما ظن من الدلالة. وفي هذا إضرار بهم، وتضييق عليهم، وإساءة فهم في حق التنزيل، وقصور به عن غايته من حيث لا يشعرون.
هذا الموضوع يقوم على رصد هذه القضية، وتحديد معالمها من حيث الكيفية، وانواعها وامثلتها، وتصحيح الطريقة في معالجتها. ومن خلال الاستقراء والتتبع والسماع وجدت انها تتمثل في ثلاثة ألوان من الانحراف عن النهج الصحيح في تلقي التنزيل، والتعامل مع النصوص.
علل الوقوع فيها جميعا لا تخرج عن ثلاث: استعجال الفهم مع الجرأة على التأويل قبل التثبّت والتحري. والاحتكام في فهم الألفاظ إلى العرف. وعدم الرجوع إلى اهل العلم في معالجة ما أشكل بالسؤال والتلقي.
وبناء على تنوع الطريقة في الأخذ بالآيات عند هؤلاء فقد قسمت ما جمعته من الشواهد والأمثلة على ما وقع في فهمه الخطأ، وعدل به الظن عندهم إلى ثلاثة اقسام، ضممت تحت كل قسم منها ما يشاكل بعضه بعضا، ويُشبهه ويُقاربه، وفي كل ذكرت الوجه الصحيح في تأويله ومعناه، وقد جاءت مرتبة على هذا النحو:
القسم الأول: الألفاظ والمفردات المعدول بها عن معانيها، او المنقوصة دلالاتها.
القسم الثاني: الجمل التي يستشهد بها في غير مواطنها، او المستعملة خلاف مقاصدها.
القسم الثالث: الكلمات التي يقع الخلل في ضبطها، ويؤثر في نطقها ومعناها.
وقد قدمت لذلك بكلمة بسطت فيها فكرة الموضوع، ومدى اهميته، وطريقة بحثه. ثم اتبعته بجملة من التوصيات والنتائج، عسى ان يكون في العمل بها تحقيق لغاياته. والله الميسّر والمعين.
المقدمة:
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على الهادي الأمين، نبينا محمد وعلى آله
وصحابته اجمعين.
ظل كثير من بحوث التفسير دولة بين المختصين من اهله. إذا كتبت لا توجه إلا إليهم، فلا يُحسن فهمها غيرهم، ولا ينتفع بها سواهم، وغفلوا عن امر العامة الذين تشتد حاجتهم إلى معرفة كثير من الألفاظ والمعاني المتعلقة بالقرآن الكريم، مما يتردد على اسماعهم بالغداة والعشيّ، في الصلوات، وفي تلاوات ومناسبات متفرقة.
لقد نزل القرآن الكريم على النمط العالي من العربية، ووظف الفاظها توظيفا يفوق في وضعه قدرة الراسخين في العلم، فضلاً عن العامة، وحمل بوصفه ذاك من المقاصد والمعاني قدرا عظيما، كان ادناه بين ايديهم، ومنتهى غايته إلى الله سبحانه وتعالى. فكم ينال العامة من ذلك الثراء العظيم؟
إنهم يتعاملون مع القرآن على قدر افهامهم، ومبلغ ما يعرفون من معاني الفاظهم، فإذا سمعوا آيات القرآن تتلى عليهم تقاربوها، وحملوها على ما الفوه من الكلام، وما استيسروه من التأويل، فلم يجاوزوا حدود ذلك " لأنهم لا يملكون وراءه شيئا" حتى أصبح بعضهم لا يمترى في صواب ما رأى، وكمال ما علم. وفي هذا غمط لمكانة القرآن الكريم، وقصور به عن غايته، وفيه غبن وحرمان لهم، وتضييق عليهم.
وحينما اقول العامة فلا أعنى تلك الفئة الأقل عدداً والمدبرة زمانا ممن لا يحسنون القراءة والكتابة فحسب، وإنما أعنى معها من في حكمها ممن يعانون من الأمية (المقنّعة) -إن صحت العبارة-من المتعلمين الذين أحرزوا الشهادات والدرجات العلا، وصار لهم حظ موفور من العلوم الدنيوية، فكانوا بها في شغل، وعن طلب غيرها مما تدعو الحاجة إليه منصرفين.
فهؤلاء بضاعتهم من علوم الدين لا تكاد تفضل عضا اشتمل عليه سابقوهم. كلا هاتين الفئتين مستند في تأويل ما يسمع من اي الكتاب إلى العرف، وما طبع فهمه عليه من الإلف، ولا يعالج بالسؤال ما استعسر عليه منها إلا قليلاً.
والدور -هنا-منوط بأهل الاختصاص، والرجاء معقود عليهم في ان ينزلوا إلى ساحة هؤلاء" ليصغوا إليهم، ويسمعوا منهم، ويعلموهم، وينصحوا لهم، ويبينوا ما أشكل عليهم، ولا يكلوهم إلى كتب التفسير ومطولاته " فإن لها مفاتيح لا يحكمها العامة، وطرائق لا يعرفونها، وربما زادتهم مطالعتها لبسا على لبس إن هم رجعوا إليها. والسبيل إلى ذلك يكون باعتماد الكتب الموطّأة، والبحوث الميسرة، والمحاضرات والدروس، فعن ذلك يحدث السؤال والاستفسار، ويُطلب الجواب ويُشمع، ويُقبل الاستدراك، وتنتشر الحقائق، وتعرف المسائل، مع اقتناص الأوقات السانحة، والفرص المواتية، التي تناسب تلك الشرائح جميعها.
نقول ذلك وما بأهل العلم من قلة، فلو وضع كل منهم يده، واعمل قلمه ولسانه في محيطه الذي يليه لأثمر ذلك اطيب الثمار، ولانتشرت ثقافة التفسير، واشتهرت الفاظه ومعانيه، وحُببت مجالسه إلى الناس، واتوها طائعين.
ما بال الناس إذا استقبلوا شيئا من أمور حياتهم واقتضى الانتفاع به تحصيل شيء من قواعده ونظامه رايتهم ماضين في طلبه سراعا، لا يهنون ولا يسأمون حتى يحوزوا علمه، وتطمئن نفوسهم به، بل يتواصون في ذلك ويتناصحون، وتُشغل مجالسهم بذكره، ورأيتهم يرخصون له الوقت والجهد والمال. فهل الكتاب عندهم اقل شأنا من ذلك!!
كلا إن بذرة الخير موجودة في نفوس الناس، وقلوبهم مطبوعة على الخير، مجبولة على محبة الدين. هذا هو الظن بالمسلمين، ولكن الإنسان لا يبصر خطأه، ولا يحس تقصيره إلا إذا نُبه إليه. فإذا كان ذلك متعلقاً بالدين فإنه سريع الإنابة سهل الاستجابة.
سلهم عن معنى: (الصَمَدُ) أو (غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) وهي من أكثر ما يسمعون، واغلب ما يقرؤون... لتجدنّ أكثرهم في حاجة الجواب الصحيح. فهل يُترك هؤلاء فيما هم فيه والعلم مبذول، والحاجة قائمة.
إن مجال تقصير العوام في حق القرآن لا يقف عند حدود الجهل بالمعاني الصحيحة، وإنما يتجاوز ذلك إلى العدول في تصوّرها، والميل في تقديرها، والاطمئنان إلى ما ذهب إليه كل منهم في فهمه لها دون يقين، مع تخطي السبل الموصلة إليها التي يقررها اهل العلم، بل والجهل بها، والافتقار إلى الورع والحذر اللذين ينبغي ان يتحوّط بهما كل من يتعاطى مثل ذلك.
ومن العسير علينا-هنا-: ان نحصر جوانب التقصير، ومكامن الأخطاء التي يقع فيها الناس، لأنهم قد يفجؤونك منها بما لا تتوقعه، ولكن مداخلتهم أحاديثهم، ومخالطتهم في مجالسهم ومساجدهم، وسائر انشطة حياتهم تكشف لك عن الكثير من ذلك، وتعطيك صورة بينة مما وصفت لك.
وكخطوة اولى في محاولة التنبيه عليها، والتعريف بها، واصلاحها وفي ظل عدم وجود دراسات سابقة في هذا الموضوع على حد علمي جمعت قدرا منها لعله من اكثرها شهرة، واظهرها استعمالا، واولاها واقربها إلى الاستدراك والإصلاح. وصنّفتها حسب انواعها إلى ثلاثة اقسام، ضممت تحت كل قسم منها ما يشاكل بعضه بعضا، ويشبهه من الكلمات، والجمل التي تسير في نسق واحد من حيث وقوع الخلل، واكتفيت من كل ذلك بالتمثيل دون الاستقصاء فيما ذكرت من الأقسام، وما اوردت تحتها من الأمثال والشواهد " لأن الغاية إيقاظ الحسّ إلى تجنب تلك الأخطاء، ورفع درجة الملاحظة لدى السامع، وتربية ملكة النقد عند الإنسان، والرقابة على نفسه عندما يتعرّض لشيء مما يتعلق بالتنزيل " لكي ينزله منزله الصحيح من الصون والرعاية.
هذه الأقسام الثلاثة تشترك في عدم فهم المراد منها، والخطأ في تأويلها، وصرفها عن وجوهها، وتحكيم العرف إلى حذ مؤثر في تنزيل دلالاتها، وفقد الأناة المشروطة للتوصل إلى حقائقها.
وقد جاءت مرتَّبة على هذا النحو:
القسم الأول: خاص بالألفاظ والمفردات المعدول بها عن معانيها، او المنقوصة دلالاتها.
القسم الثاني: مشتمل على الجمل التي يُستشهد بها في غير مواطنها، او المستعملة خلاف مقاصدها.
القسم الثالث: عن الكلمات التي يقع الخلل في ضبطها، ويؤثر في نطقها ومعناها.
وقد رأيت جمعها تحت عنوان: (تصحيح ما أخطأ العوام فهمه من الألفاظ والمعاني في القرآن الكريم).
ومن واقع موضوع البحث فلا بد من ان يُراعى في طرحه السهولة، والوضوح والوجازة" تنزّلاً مع الرغبة في ان ينتفع به المستهدفون به، وحرصاً على تحقيق الغاية منه. وقد تجنبت ما استطعت الإكثار من التأويلات والتفصيلات التي اعتادها اهل الفن " لأنها قد تقصي المطلوب عن هؤلاء، وتحول بينهم وبينه، إلا بما تقتضيه ضرورة البيان. مع التفات إلى من سواهم " لكي يصدر كل مطلع عليه بحظه منه إن شاء الله تعالى.
وإني إذ اعرض هذا العمل لا اريد من العاميّ ان يكون ملماً بكل شيء، كما لا اريد ان يكون خاليا من اي شيء، او جريئا على كل شيء، وإنما المراد منه ان يحرص على ما لا بد له في الدين منه، وان يسعى على الأقل لتحصيل الحد الأدنى مما تقوم به حاجته، وتستقيم به حياته من فهم لكتاب الله الكريم، مع توقيره، واستحضار مهابته، فقد اضحى هذا الأمر مما لا يُعذر أحد بجهله بعد توفر الوسائل، وتنوع السبل، وتيسر المطلوب.
إن الاستسلام للجهل عجز وتقصير ومذمّة، كما ان تقحّم المسالك الوعرة هلاك ومأثمه، والخير في طلب السلامة بين هذين، وما ذلك بمتعذر على من اراد، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
القسم الأول: الألفاظ والمفردات المعدول بها عن معانيها، أو المنقوصة دلالاتها
اسلوب القرآن من قبيل المطمع الممتنع، لقربه يغري، ولعمقه يخيف. يعطيك من الألفاظ ما تعرفه، ويحمّلها من المعاني فوق ما تدركه. فإذا سمع الواحد منا من الفاظه ما اعتاد سماع مثلها من غيره فلا يتعجل تفسيرها، ويستبق معناها بناء على ما عهد عنده من المعاني، وما الفه من العرف " لأن كلام الله معجز، ومقتضى الإعجاز ألا يكون كلامه سبحانه عاديا يتناوله كل من اراد، ولو كان كذلك لما وقف ارباب الفصحى امامه مبهورين منقطعين، وعن مجاراته عاجزين.
وإن من مظاهر إعجازه: بلاغة المفردة القرآنية، وفخامة الجملة الأسلوبية. حروف وكلمات معدودة، ومعنى لا يتناهى غزارة وجدة، واتساعا وعمقا. فإذا عرف المرء من معناه شيئا فلا يقطع بأنه نهاية المطلوب وغاية المقصود. على انه لا تثريب عليه يسمع الآية فيظن فيها الظن، او يخطر لها عنده معنى، ثم يقلب النظر فيه فكلنا يمر بذلك، ولكن دون أن يجزم ان ما توصل إليه من المفهوم هو المراد إلا في ظل الاستئناس بأقوال اهل العلم، والرجوع إلى كتب التفسير.
ولو تتبعنا احوال المفسرين لوجدنا انهم قد ارصدوا له من العدة ما لا يطيقه كثير من الناس " من شدة حرصهم عليه، وعظم وقارهم له، ومعرفتهم به، ثم إذا توصلوا إلى شيء من معانيه رأيناهم وجلين مما قالوا، خائفين مما قرروا، يشفعون ذلك بكثير من عبارات الاحتياط، واساليب الاعتذار " رفعاً للحرج عن أنفسهم " لعلمهم بكبير ما أقدموا عليه. فإذا كان هذا حالهم فماذا ينبغي ان يكون عليه حال من لم يعتدّ بمثل عدتهم، ولم يبلغ من العلم بعض ما بلغوا؟ ينبغي ان يكون اشد حذرا وخوفا، وابلغ نأياً بنفسه عن ذلك، خاصة وقد كفى مؤونته، وحملت عنه تبعته.
قد يكون للكلمة القرآنية معنى ظاهر لا يجهله كثير منا، لكن قواعد النظر في القرآن وتأويله تقتضي الا نحمله على ما تبادر إلينا " لأن ثراء معناه يأبى ان نحصره في تلك الجزئية، فالقرآن الكريم يتحدث بلسان العرب جميعا، وما عرفه قوم في لغتهم قد ينكره اخرون، والعكس كذلك، فإذا وقفناه نحن على ما نعلم فالمعنى اننا نُلغي نصيب الآخرين او ننفيه. هذا سبب واحد لتعدد وجوه اللفظ فكيف إذا تخطينا في تأويلنا له دلالة السياق التي بيدها زمام المعنى، ولا يفهم إلا في ركابها، او تجاهلنا فقه المفردة واشتقاقها، او وجوه القراءة فيها؟ بل إن مما ينبغي معرفته، والنظر فيه في مثل هذه الحال علم (الوجوه والنظائر في القرآن الكريم) ([1]) وقد يسميه بعضهم (الأشباه والنظائر) وهو من اهم العلوم المتعلقة بالتفسير، ولا ابالغ إذا قلت، إنه متوقف عليه. ومع الأسف فإن هذا العلم على شرفه ونفاسة موضوعه لا يُلقى له كثير من الناس بالاً، أو لا يعلمون عنه اصلاً، وقد يسمعون بغريب القرآن، والناسخ والمنسوخ، والأقسام والأمثال ونحو ذلك، ويعرفون على الأقل الحد الأدنى الذي يستطيعون به معرفة ما يدل عليه كل واحد منها، ولكنهم لم يسمعوا بهذا الفن، دان سمعوا به لم يهتدوا إلى حقيقة ما يُراد به، ولذلك يصح ان نسميه: علم الخاصة " لأنه لا يعرفه إلا العلماء، ولا ينتفع به غيرهم. هذا العلم يقوم على فقه المفردة في القرآن الكريم، وتعدد استعمالاتها، والوجوه التي تتصرف إليها، واحوال تكرار لفظها مع اختلاف معناها. فإذا لم يكن هذا العلم على دراية كافية منا مع بعد عن الاعتبارات السابقة في تناول اللفظ القرآني -ولا شك اكثرنا كذلك -فخليق الا نخاطر بمنزلة القرآن، ونتجاسر على حرمته فنقول في تأويله بغير علم، وإنما ندع الخوض في مثله لأهله.
في هذا القسم سنعرض بقدر ما تتضح لدينا الصورة لمجموعة من الأمثلة التي تبين لنا طريقة كثير من الناس في تلقي بعض الكلمات او الجمل القرآنية، وحمْلها على ابسط وأقرب ما عرفوه من استعمالاتها عندهم، دون التفكير فيما وراء ذلك، مع ان ذلك المعنى الذي فهموه قد يكون مغايرا تماما للمراد بها في ذلك الموضع، او يكون واحدا من تأويلات عدة للكلمة، ربما كان بعضها أرجح او اولى بالقول مما ظنوه. سأذكر الآية، واشير إلى الكلمة محل الشاهد، وما حملت عليه من المعنى الذي لا يوافق المراد بها على الوجه الصحيح، ثم أعقب بعد ذلك بما أثر في تأويلها على التحقيق عند اهل العلم، غير مستكثر من الأقاويل، ولا مستوعب لجميع الأوجه، عسى ان تلتقي عنده الرغبات، والله من وراء القصد.
الآية: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)
الكلمة: " السِّلْمِ ": فهمت على ان المراد بها السِّلْم اي: الصلح والمسالمة، وهو المعنى المقابل لكلمة: الحرب.
والصواب: الذي اختاره اهل العلم، ورجحوه ان المراد بالسِّلْم هنا: الإسلام. اي: ادخلوا في الإسلام. قال القرطبي ([2]) في تأويلها: (كونوا على ملة واحد واجتمعوا على الإسلام واثبتوا عليه) فالسلم هنا بمعنى: الإسلام... ومنه قول الشاعر ([3])
دعوت عشيرتي للسِّلْم لما
رأيتهمُ تولوا مدبرينا
قال: اي الإسلام، لما ارتدت كندة بعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم مع الأشعث بن قيس الكندي ([4]). ولأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالدخول في المسالمة التي هي الصلح وإنما قيل للنبي صلي الله عليه وسلم ان يجنح للسلم إذا جنحوا له، واما ان يتبدى بها فلا) ([5]). وهذا ما اختاره ابو جعفر الطبري ورجّحه ([6]). وقيل معناه: الاستسلام والطاعة. وقيل غير ذلك مما هو في معنى القول الأول ([7]).
2. الآية: قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) سورة الأنعام (8-9).
الكلمة: "وللبسنا" و "ما يلبسون ". تفهم على ان المراد من هذا اللفظ اللباس بمعنى: انه لو جعل سبحانه الرسول ملكا لجعل عليه من اللباس مثل ما يلبس هؤلاء المشككون، او ما يلبس سائر الأنبياء من الثياب.
والصواب: ان معنى الآية: ان المولى سبحانه وتعالى لو استجاب لطلبهم فأنزل ملكا لقضي الأمر إما بموتهم " لأنهم لا يطيقون رؤيته على هيئته، او بقيام الساعة، او بهلاكهم بعذاب يستأصلهم، ولكي لا يحدث لهم ذلك لا بد من جعله رجلاً لكي يأنسوا به ويكلموه، كما كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر، كما اتوا إبراهيم ولوطاً عليهما السلام في صورة الآدميين ([8]). وكما كان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلي الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي الصحابي المعروف رضي الله عنه ([9]).
ومع ذلك لو جعله كذلك فسيجحدون كونه ملكا، ويقولون: إنما انت بشر فلا نؤمن بك، ولالتبس عليهم الأمر كما يحدث لهم في رسالة الرسول البشري، او لحدث لكبرائهم ورؤسائهم من اللبس والشك بهذا الصنيع ما يحدثونه هم من التلبيس والخلط والتشكيك لسائر ضعفة الناس.
فالمراد من اللفظ هو: اللبس والشك. وليس المراد اللباس الذي يستتر ويتزين به وإن كان أصل اللبس مشتق من التستر بالثوب ونحوه، ولكن ظهر الفرق هنا في الاستعمال.
3. الآية: قوله تعالى: (فَأَنْجَيْنَاه وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) سورة الأعراف (83).
الكلمة: "الغابرين ": تفهم على ان المراد بها: الماضين. كما يقال: القرون الغابرة اي: الماضية.
والذي يدل عليه معنى الآية ويُفهم من سياقها ان المراد بالغابرين كذلك: الباقين. فيكون المعنى: اي الباقين قبل الهلاك والمعمّرين دهراً طويلاً حتى هرمت وأدركها الهلاك مع من هلك من قوم لوط.
او يكون المعنى: الباقين في عذاب الله، كما جاء في رواية اخرى.
قاله ابن عباس ([10]) وقتادة ([11]): وهو من الأضداد ([12]). وقد ذكر ذلك ابن الأنباري ([13]) في كتابه ([14]).
وبما ان هذا اللفظ من الأضداد كما ذكروا فلو خمل على معنى " الماضين" لكان المراد -والله اعلم -: انها صارت من الماضي بعد هلاكها، او قد مضى هلاكها مع من هلك. ولكن المعنى الثاني: "الباقين" هو الذي ترجّح في عبارات المفسرين وهو الذي ينصره السياق ويقوّيه.
قال القرطبي: (والأكثر في اللغة ان يكون الغابر الباقي) ([15]).
وقال ابو جعفر: (وإنما عنى بذلك: إلا امراته كانت من الباقين قبل الهلاك، والمعمْرين الذين قد اتى عليهم دهر كبير، ومز بهم زمن كثير، حتى هرمت فيمن هرم من الناس. فكانت ممن غبر الدهر الطويل قبل هلاك القوم، فهلكت مع من هلك من قوم لوط حين جاءهم العذاب.
وقيل معنى ذلك: من الباقين في عذاب الله ([16])).
4. الآية: قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) سورة التوبة (112).
الكلمة: "السائحون" تُفهم هذه اللفظة على ان المراد بها: السياحة المعروفة في اصطلاحنا اليوم اي بمعنى: السير في الأرض، والسفر للتنزه.
ومع أن لبعض اهل العلم اقوالا تشبه هذا المعنى نحو قولهم: السائحون: المجاهدون او قولهم: هم المهاجرون أو هم: الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم... ونحو ذلك ([17]).
إلا ان المعنى الأقوى الذي قال به جماعة من الصحابة، والذي رجحه أكثر اهل العلم ان المراد: الصائمون. وهذا الأولى ومثله قوله تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) سورة التحريم (5).
قيل: سمي الصائم سائحا لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام، وقيل غير ذلك ([18]).
5. الآية: قوله تعالى: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) سورة يونس (92).
الكلمة: "ننجّيك" تفهم على ان الله نجاه وأنقذه من الغرق كما هو المعنى في قوله تعالى (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) سورة مريم (72).
هذا هو المعنى الذي يتبادر إلى الذهن اولا.
والصواب: ان المراد: ان نجعلك على نجوة من الأرض ببدنك -اي غريقا -ينظر إليك هالكا من كذب بهلاك " لتكون لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك. والمراد بالنجوة: الموضع المرتفع على ما حوله من الأرض ([19]) ومنه قول الشاعر ([20]):
فمن بعقوته كمن بنجوته
والمستكن كمن يمشي بقرواح
والبيت من قصيدة يصف الشاعر فيها المطر يقول: لشدته غشتي كل مكان حتى استوى فيه من بالعقوة. وهي: ساحة الدار وما حولها، والنجوة هي: ما ارتفع من الأرض. واستوى المستكن الذي في كن واختبأ فيه، والقرواح: البارز الذي لا يستره عن السماء والشمس شيء ([21]).
هذا هو المعنى الذي اكده عامة المفسرين في تأويل الآية غير انه لا يمتنع ان يراد معنى النجاة، ولكنها نجاة لا حياة فيها اي مجرّدة عن السلامة وليست النجاة الحقيقية كما يظن ويتصور لأول وهلة... قال القرطبي: (فعلى هذا " ننخيك ببدنك " احتمل معنيين: أحدهما: نلقيك على نجوة من الأرض.
والثاني: نظهر جسدك الذي لا روح فيه.) ([22]). والله اعلم.
6 -الآية: قوله تعالى: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) سورة يوسف(20)
الكلمة: "وشروه " تفهم على ان معناها: الشراء المقابل لمعنى البيع.
والصواب: ان معناها: ان إخوة يوسف باعوه من السيارة وقبضوا ثمنه: دراهم معدودة.
ولفظ الشراء من الأضداد. اي انه يستعمل بمعنى البيع وبمعنى الشراء. فهو هنا بمعنى: البيع.
بهذا فسره اهل العلم بالتأويل ([23]) وهو ما يوافق السياق. جاء في كتاب الأضداد: (واشتريت حرف من الأضداد، يقال: اشتريت الشيء على معنى قبضته واعطيت ثمنه، وهو المعنى المعروف عند الناس، ويقال: اشتريته إذا بعته ([24])...) وفي المفردات (...لفظ البيع والشراء يستعمل كل واحد منهما في موضع الآخر. وشريت بمعنى: بعت أكثر. وابتعت بمعنى: اشتريت اكثر ([25])... ).
7 -الآية: قوله تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) سورة يوسف (23).
الكلمة: "إنه ربي" تفهم على ان يوسف عليه السلام يعني هنا: رب العالمين سبحانه وتعالى.
وهو قولٌ في معناها ([26]). ولكن الأولى والذي يتفق مع السياق انه يعني: زوج المرأة. اي: هو سيدي أكرمني، وأحسن منزلتي، وائتمنني فلا اخونه، إشارة إلى قوله: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) ([27]) سورة يوسف (21).
8 -الآية: قوله تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) سورة الإسراء (13).
الكلمة: "طائره " تحمل على المعنى المتبادر اي: الطائر الحي حقيقة.
والصواب: ان المراد بذلك: عمل الإنسان، وما قضاه الله وقدره عليه، وما كتب له مما يكون سببا في السعادة او الشقاوة " فإن ذلك لازم لا يفارقه اينما كان ([28]).
أخذاً من عادة العرب من التعبير عن السعد او النحس بالطائر، قال الطبري: (مثل لما كانت العرب تتفاءل به او تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها، فأعلمهم جل ثناؤه ان كل إنسان منهم قد الزمه ربه طائره في عنقه، نحسا كان ذلك الذي الزمه من الطائر، وشقاء يورده سعيرا، او كان سعدا يورده جنات عدن ([29])).
9 -الآية: قوله تعالى: (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) سورة النمل (10).
الكلمة: "جان" تفهم على ان المراد: الجان من الجن المقابل للإنس، مثل ما جاء في قوله سبحانه: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) سورة الرحمن (15).
والصواب: ان المراد: الحيّة. قيل: الحية الصغيرة، وقيل: ثعبان ذكر عظيم له خفة الجان -وهو الحية -الصغير واهتزازه، كما جاء في موضع اخر: (فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى) سورة طه (20) ([30]).
قال ابن كثير: (والجان ضرب من الحيات أكثر حركة وأسرع اضطرابا) ([31]).
0 1 -الآية: قوله تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) العنكبوت: (64).
الكلمة "الحيوان " يُظَن ان هذا المسمى لا يقع إلا على الحيوان المعروف من الدواب المقابل للإنسان. والصواب: ان معنى الحيوان يقع على كل شيء حي، فهو بمعنى: الحياة. وقيل: (الحيوان ابلغ من الحياة لما في بناء (فعلان) من الحركة والاضطراب اللازم للحياة) ([32]).
والمراد هنا: اي ان الآخرة هي دار الحياة الباقية التي لا تزول، ولا موت فيها، واما الحياة الدنيا فهي زائلة منقضية لا دوام لها ([33]).
11 -الآية: قوده تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) الصافات: (102).
الكلمة "السعي " يفهم المراد منها على ان السعي هو: السعي بين الصفا والمروة.
اي ان إسماعيل صار قادرا على السعي مع ابيه عليهما السلام بينهما، وسبب هذا الظن ان اغلب حوادث قصتهما جرى في مكة.
والصواب: ان المعنى: اي كبر الغلام وترعرع، وصار يذهب مع ابيه، او اطاق معونته على عمله، والسعي معه في حوائجه، او امور دنياه ([34]).
12-الآية: قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) الفتح: (1).
الكلمة "فتحاً" يفهم على ان المراد بالفتح هنا فتح مكة، وفتح مكة كان يعد فتحاً ولكنه ليس المراد هنا. وإنما المراد هنا هو يوم الحديبية، او صلح الحديبية في أكثر اقوال اهل العلم ([35]). وفي صحيح البخاري ([36]) عن البراء ([37]) رضي الله عنه قال: (تعدون أنتم الفتح: فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح: بيعة الرضوان يوم الحديبية... الحديث) ([38]).
قال ابن حجر ([39]): (... المراد بالفتح هنا: الحديبية " لأنها كانت مبدا الفتح المبين على المسلمين، لما ترتب على الصلح الذي وقع منه الأمن ورفع الحرب، وتمكن من يخشى الدخول إلى الإسلام، والوصول إلى المدينة من ذلك، كما وقع لخالد بن الوليد ([40]) وعمرو ابن العاص ([41]) وغيرهما، ثم تبعت الأسباب بعضها إلى ان كمل الفتح...) ([42]).
13 -الآية: قوله تعالى: (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) سورة ق (22).
الكلمة "حديد" قد يحمل المعنى على إرادة المعدن المعروف، وهو الحديد بجامع القوة فيه وفي الإبصار حينئذ.
والصواب: ان المراد بقوله: حديد اي: حادّ من الحدّة في الرؤية والإبصار، وقوي ونافذ، يرى ما كان محجوبا عنه، فالقوة في البصر مقصودة هنا ([43]). كما يقال: لسان حديد اي: صارم وماض، ومنه قوله تبارك وتعالى: (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ) سورة الأحزاب (19) ([44]).
وانما جاءت الصيغة فعيل بمعنى: فاعل، اي حديد بمعنى: حاد. كما وصفهم سبحانه في مكان اخر بقوله: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) سورة مريم (38) اي: ما اسمعهم وأبصرهم، او لا أحد اسمع منهم يوم القيامة ولا أبصر ([45]). فهذا من ذلك.
14-الآية: قوله تعالى: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) سورة الرحمن (6).
الكلمة: "والنجم " تفهم على ان المراد بها: نجم السماء، واحد النجوم، وهو قول في معنى الآية: ولكن الأولى: ان معناه: ما نجم من الأرض-اي ما طلع- من النبات مما ينبسط عليها، ولم يكن له ساق مثل البقل ونحوه " لعطف الشجر عليه، وهو ما يقابله، وهو ما يقوم على ساق.
فيكون المعنى: ما قام على ساق، وما لا يقوم على ساق يسجدان الله. والمراد: ان الأشياء كلها المختلفة الهيئات تسجد لله ([46]).
15-الآية: قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) سورة الرحمن (7).
الكلمة "الميزان" فهم معناه على انه الة الوزن المعروفة اي: الميزان ذو الكفتين واللسان الذي يتعامل به المتبايعان.
والأَوْلى ان المراد في هذه الآية: العدل. اي: وضع في الأرض العدل الذي امر به سبحانه، كما قال جل ذكره: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) سورة الحديد (25).
وما تصرّف من الألفاظ بعد هذا اللفظ فيعني: الفعل والآلة، والسنجة، من الحجارة والحديد ونحوها من مقادير الوزن ([47]). وإنما سميت الآلة بهذا الاسم لأنه بها يُعرف العدل بين المتعاملين ومقادير الأشياء المقدرة.
16-الآية: قوله تعالى:( فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) سورة القلم (20).
الكلمة "الصريم " تحمل على معنى: المصروم اي: فهي كالزرع المحصود، او النبت المصروم اي: المجذوذ والمقطوع. وهذا المعنى قد قال به بعض اهل العلم في تفسير الآية.
ولكن الأظهر في معناها ان الصريم يريد به الليل الأسود ([48])، قيل: اصبحت محترقة سوداء كسواد الليل المظلم البهيم، وقيل: كالرماد الأسود قاله ابن عباس وجماعة ([49]).
17-الآية: قوله تعالى: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) سورة القلم (28).
الكلمة: "أوسطهم" يُظن ان معناها: اوسطهم في السن، اي: ليس بكبرهم ولا أصغرهم سنا.
والصواب: ان معنى اوسطهم: اي: اعدلهم، وأمثلهم، واعقلهم، واسدّهم رأياً حين طلب منهم التسبيح. قيل: وكان أسرع القوم فزعا، وأحسنهم رجعة ([50]).
18-الآية: قوله تعالى: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) سورة الفجر (9).
الكلمة: "جابوا" تفسّر بمعنى: جاءوا بالصخر اي: اتوا به، على نحو ما يقوله العوام ويفهمونه في لهجتهم الدارجة فلان جاب الشي-هكذا-اي: اتى به. وليس هذا المراد.
وانما المراد وهو الصواب: اي: قطعوا الصخر بالوادي، من قولهم: فلان يجوب البلاد اي: يقطعها. او خرقوه ونحتوا الجبال فجعلوها بيوتا ([51])، كما قال جل ثناؤه: (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ) سورة الحجر (82).
القسم الثاني: الجمل التي يُستشهد بها في غير مواطنها،
أو المستعملة في غير مقاصدها
هذا لون اخر من ألوان التعرّض لمعاني القرآن الكريم بغير يقين، لعلّه اضرّ بالمعاني من سابقه، وهو باب يكثر فيه خطأ العوام " لرواجه على الألسنة حتى يوشك بعضه ان يبلغ عندهم مبلغ الأمثال، مبعثه سوء فهم للآية، وجهل بالسياق ادى إلى قلب معناها، او اجتزائه، او تحميلها من الدلالة ما لا تحتمل او نحو ذلك. وغالبا ما يُساق ذلك للاحتجاج لراي، او الانتصار لفكرة، او التسويغ لحال. ولهذه الطريقة صور كثيرة نكتفي للتعريف بها، والتحذير منها، بما يلي من الأمثلة.
1-الآية: قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة: (256).
نسمع الاحتجاج بهذه الآية في العادة في موضعين:
موضع الاستشهاد الأول: فتن بعض الناس في دينهم، وبلغت بهم رِقّة الدين، وضعف اليقين إلى الاعتقاد ان هذه الآية تتناول في معناها المؤمن المقيم على إيمانه، وان له من الحرية في ذلك ما يعطيه الحق في ان يبذل دينه، فلا يُكرهه أحد على لزومه.
وهذا فهم خاطئ واستشهاد باطل، فإن الآية جاءت في شأن غير المسلمين، وانهم لا يُكرهون على الدخول في دين الإسلام؛ لأنه أصبح من الجلاء والكمال، والبيان ووضوح الحجة والبرهان بحيث لا يحتاج معه إلى إكراه على الدخول فيه وقبوله، بل إن من كتب الله له الهداية، وشرح صدره، ونوّر بصيرته دخل فيه على بينة طائعاً مختاراً. ومن اعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره فإنه لا ينفعه الدخول فيه مكرها مقسوراً ([52]).
فهذه الآية جاءت في شأن الكافر أصلي الكفر الذي هو باق على كفره، فأفا المؤمن فلا تتناوله بحال إذ لا خيار له. كما لا تتناول من كان كفره طارئا غير أصلي وهو: المرتد.
والحق انه من استجاز ذلك من المسلمين ففعله فحده حد الردة إذا توافرت شروطه وهو القتل، كما اجمع على ذلك اهل العلم ([53]).
وأياً ما كان السبب فإن هذا هو الحكم المستفاد من الآية. ونظير هذه الآية قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف: (29). اذ لا يفهم منها الترخيص والإذن في اي الأمرين شاء، وإنما المراد: ان الحجة قد اتضحت، والبيّنة قد قامت فليختر لنفسه من الطريقين ما شاء بعد ان علم مآلهما، وهذا من باب التهديد والوعيد الشديد لمن اختار الكفر بعد ان تبئن له الحق، وبقية الآية شاهد على ذلك ([54]).
يتبع