ابو وليد البحيرى
2018-11-04, 03:12 PM
الأصيل والدخيل من التفسير
في قصة أيوب عليه السلام
د. عدنان عبد الكريم خليفات [·]
ملخص البحث:
يتعلق هذا البحث بسيرة نبي من أنبياء الله، ضرب به المثل في الصبر، وهو أيوب عليه السلام.
وهذا البحث هو اجتهاد وعمل يقصد به تنقية سيرة ذلك النبي الكريم عليه السلام مما الصق بها من قصص إسرائيلية أو روايات وآثار لا تصح سندا ولا تقبل عقلا، وتمحيص الصحيح من الدخيل من الروايات الواردة عموما.
وقد كان منهجي تفسير قصة أيوب عليه السلام من خلال الآيات القرآنية، مستنيرا بكلام أهل التفسير عموما، وتفسيرها من خلال ما ورد من التفسير بالمأثور، لاسيما الأحاديث النبوية الصحيحة، وما ورد من روايات صحيحة عن الصحابة مع الموازنة والترجيح بين المتعارض منها، وأما ما ورد عن التابعين في شأن أيوب فإنها روايات –إن صحت-تخضع كذلك للقواعد المتعلقة بعصمة الأنبياء، وموافقتها للنقل وللعقل على السواء. ولذا استبعدت الروايات التي نسبت إلى نبي الله أيوب انه كان مريضا مرضا منفرا، والروايات التي ترى ان الشيطان قد تسلط على جسد أيوب -عليه السلام – او ماله وولده؛ لكونها لبس لها دليل صريح من القرآن الكريم او السنة الصحيحة.
هذا، وقد اختتمت البحث بذكر بعض العبر المستفادة من قصته عليه السلام.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، انزل على عبده كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهدى الله به من الضلالة أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.
والصلاة والسلام الأتمان الاكملان على نبينا محمد، واله وصحبه أئمة الهدى ومصابيح الدجى، ومن سار على هديهم إلى يوم الدين.
وبعد..
فإن علوم القرآن هي خير العلوم؛ لأنها متعلقة بأعظم الكتب على الإطلاق وهو القرآن العظيم.
وقد شغل القصص في القرآن الكريم حيزا كبيرا يقارب ثلثه؛ وهذا يدل على أهمية القصص القرآني؛ ثم إن قصص الأنبياء قد اخذ قدرا وافيا من القصص القرآني؛ لما لها من تأثير توجيهي عظيم لهذه الأمة.
فالله عز وجل أمر نبيه – صلى الله عليه وسلم -أن يقتدي في كثير من الأخلاق بإخوانه من الأنبياء والمرسلين قال سبحانه: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ...} (الأحقاف: 35)
وقال سبحانه: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } (يوسف :111)
وقال: {وكُلًّا نقُصُّ عليك من أنباء الرُّسُل ما نُثبّتُ به فُؤادك} (هود:120)
وقد أصاب التفسير عموما والقصص القرآني خصوصا بعض الدخل لأسباب متعددة؛ منها: وجود الإسرائيليات في تفسير القرآن، والتي قد تخالف في بعض الأحيان عقيدتنا الإسلامية.
سبب اختيار الموضوع والجهود السابقة:
إن قضية البلاء او قانون البلاء عند الإنسان من الأمور الأساسية التي لا ينفك عنها إنسان، كما قال سبحانه: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (آل عمران :186). وإن البلاء يظهر المكنون من شر او خير في خبايا النفوس، قال تعالى: {ونبلُوكُم بالشّرّ والخير فتنةً} (الأنبياء: 35) فتبتلى آنا بالشر وآنا بالخير؛ لتفجر منك خفاياك من حناياك؛ قال سبحانه: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آل عمران:179)
ولقد كانت قصة أيوب عليه السلام من قصص الأنبياء المؤثرة في مسألة الصبر على البلاء، حتى صار النبي أيوب عليه السلام مضرب المثل في الصبر مع طول البلاء وشدته.
ولكن القصة التي معنا أحاطها طائفة من القصاص والمفسرين بهالة من الخرافات حينا، والمبالغة حينا آخر، مما جعل الحق يختلط بالباطل والحقيقة بالأسطورة.
صحيح أن هناك طائفة من المفسرين التزمت بالمنهج الدقيق في عرض الروايات المتعلقة بالقصص القرآني؛ مما جعلها ترفض كثيرا مما ورد في تفسير القصص القرآني عامة وقصة أيوب خاصة، ومن هؤلاء المحققين د. محمد أبو شهبة الذي كتب كتابا يجلي فيه ويحذر من الإسرائيليات والموضوعات التي ذكرت في بعض التفاسير وسمى كتابه (الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير)، إلى غير هذا من الجهود المتعددة في هذا الجانب المهم ، ومن ذلك : كتاب (الإسرائيليات في التفسير والحديث) للدكتور محمد حسين الذهبي ، وكتاب (الدخيل في التفسير) للدكتور عبد الوهاب فايد، بالإضافة إلى رسالة دكتوراه في الموضوع بعنوان (الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير) للباحث رمزي نعناعة.
كما كان لبعض من تكلم في القصص القرآني إسهامات طيبة ونافعة في هذا المجال مثل (قصص القرآن الكريم) للدكتور فضل حسن عباس -رحمه الله -، والقصص القرآني ل (محمد احمد جاد المولى) وآخرين، جزاهم الله جميعا على جهودهم خيرا.
كما كان لطائفة من المفسرين -قدماء ومحدثين -التزام بالمنهج العلمي ([1]) ، ذلك المنهج الذي يجلي الحقيقة وينفي الأباطيل التي أشيعت حول قصص الأنبياء عموما وأيوب عليه السلام خصوصا، ومن ذلك: تفسير القاسمي -محاسن التأويل
خطة البحث:
تشتمل الخطة على مقدمة، وتمهيد، ومطالب، وهي:
المطلب الأول: الدخيل الوارد في قصة أيوب عليه السلام
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الضعيف من التفسير الوارد في قصة أيوب عليه السلام
المبحث الثاني: التأويلات البعيدة في قصة أيوب عليه السلام
المبحث الثالث: استخلاص الموضوعات التي أصابها الدخل في القصة.
المطلب الثاني: الآثار المترتبة عن إذاعة وإشاعة الأخبار الإسرائيلية في تشويه صورة الأنبياء عموما ونبي الله أيوب على وجه الخصوص.
المطلب الثالث: قصة أيوب عليه السلام من خلال تفسير آيات سورة الأنبياء وسورة (ص).
المطلب الرابع: أحاديث صحيحة وأقوال مأثورة في شأن أيوب عليه السلام.
المطلب الخامس: بعض الفوائد والعبر في قصة أيوب عليه السلام
الخاتمة: وفيها أبين ما استفدته من هذه الدراسة، والتوصيات التي أراها.
والله عز وجل اسأل التوفيق لما يحب ويرضى؛ إنه أكرم مسؤول وخير مأمول.
تمهيد
أولا: القصص لغة واصطلاحا:
القصة مأخوذة من القص، وهو تتبع الأثر، قال سبحانه على لسان أم موسى وهي ترشد ابنتها لتتبع أثر موسى عليه السلام بعد أن ألقته في اليم: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (القصص: 11)، والقصص مصدر القص: قال تعالى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا} (الكهف:64) أي رجعا يقصان الأثر الذي جاءا به.
ويطلق القصص على الحوادث والأخبار، وقد اقتصصت الحديث: رويته على وجهه، وقد قص عليه الخبر قصصا، والاسم -أيضا -القصص بالفتح، والقصص بكسر القاف: جمع القصة التي تكتب؛ قال صلي الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (يوسف: 111) وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ} (يوسف: 3)
وقصص القرآن هو: إخباره عن أحوال الأمم الماضية والنبوات السابقة والحوادث الواقعة. ([2])
أنواع قصص القرآن:
من خلال التعريف السابق، وباستقراء القصة في القرآن، يمكن تقسيم القصة القرآنية إلى أنواع رئيسة، وهي:
قصص الأنبياء: وقد ذكر الله في القرآن قصص خمسة وعشرين نبيا، تتراوح قصصهم ما بين التفصيل والإجمال؛ فمنهم: من وردت سورة بأكملها في شأنه كقصة يوسف عليه السلام، ومنهم: من أشار القرآن إلى ذكره إشارة عابرة، كإلياس وإدريس واليسع -عليهم الصلاة والسلام -، ومنهم: من ذكرت قصته مرات عديدة، لأهداف متنوعة، وبأساليب مختلفة، ومعظم القصص من هذا القبيل، كما هو بالنسبة لنوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى، وغيرهم -عليهم الصلاة والسلام .. ولعل الحكمة في ذلك أن الله سبحانه – وهو اعلم بمراده -قد حكى لنا ما ينفعنا مما قد حدث لكل نبي مع قومه. وقد أخبرنا عز وجل بأنه قد أرسل أنبياء ورسلا كثيرين، منهم: من قص الله علينا بما حدث له مع قومه، ومنهم: من لم يخبرنا بشيء من أحواله.
ومن الأنبياء الذين جاء الحديث عنهم بصورة تتناسب مع مقتضى أحوالهم مع أقوامهم أيوب عليه السلام. ([3])
وهناك قصص لأمم وأشخاص غير الأنبياء، كما هو الحال في قصة ذي القرنين، والذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وابني ادم، وطالوت وجالوت، وأهل الكهف، وأصحاب السبت، وأصحاب الأخدود، وغيرهم. ([4])
ثانيا: أهمية القصص القرآني:
القصص في القرآن يحتل مساحة كبيرة منه، لعلها تبلغ ثلث القرآن، وهذا دليل على أهمية القصة في القرآن. ويمكن أن نجمل أهميتها فيما يأتي:
تثبيت قلب النبي وقلوب الأمة المحمدية على دين الله، وتقوية ثقة المؤمنين بنصرة الحق وجنده. قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } (هود: 120)
إظهار صدق محمد في دعوته بما أخبر به عن أحوال الماضين عبر القرون والأجيال، كقصة عيسى وأمه، وداود، وأيوب، ويونس، ونوح.
مقارعة أهل الكتاب بالحجة فيما كتموه من البينات والهدى، وتحديه لهم بما في كتبهم قبل التحريف والتبديل كقوله تعالى {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران :93)
الاعتبار بمن سبقنا، وذلك في أكثر من جانب؛ فالعبرة للمؤمنين بما ختم الله كثيرا من القصص من نصرة جنده وهزيمة أعدائه؛ فالعبرة هي في الثقة بالله والتوكل عليه والثبات على المبدأ، وفي جانب الأعداء كانت العبرة ببيان مصير المكذبين بالرسل وسوء عاقبتهم.
القصص القرآني زاد غزير الفائدة للدعاة إلى الله سبحانه، فهو ترجمة لما جرى بين الأنبياء وأقوامهم، وبين الدعاة من غير الأنبياء ومن عاشوا معهم، وهو بذلك يبين لنا أطيافا متعددة في الأساليب الملائمة للدعوة، مع اختلاف البيئات، واختلاف المقام، وأسس الدعوة إلى الله، وترتيب الأولويات.
إن من أدب الشريعة معرفة تاريخ سلفها في التشريع من الأنبياء بشرائعهم؛ فكان اشتمال القرآن على قصص الأنبياء وأقوامهم تكليلا لهامة التشريع الإسلامي.
ما في القصص من فائدة التاريخ، كمعرفة ترتيب المسببات على أسبابها في الخير والشر، والتعمير والتخريب؛ لتقتدي الأمة وتحذر؛ قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} (النمل: 52) وما فيها من فائدة ظهور المثل العليا في الفضيلة، وزكاء النفوس، او ضد ذلك.
إن في حكاية القصص سلوك أسلوب التوصيف والمحاورة، وذلك أسلوب لم يكن معهودا للعرب؛ فكان مجيئه في القرآن ابتكار أسلوب جديد في البلاغة العربية، شديد التأثير في نفوس أهل اللسان، وهو من إعجاز القرآن؛ إذ لا ينكرون انه أسلوب بديع، ولا يستطيعون الإتيان بمثله؛ إذ لم يعتادوه. انظر إلى حكاية أحوال الناس في الجنة والنار والأعراف، في سورة الأعراف.
والقصة نوع من التسلية، ونموذج للأدب العفيف، والخلق القويم، وذلك بما احتواه من نماذج فريدة في الأخلاق، كالصدق والصبر، والوفاء والتضحية. ([5])
ثالثا: تعريف النبي لغة واصطلاحا
النبي في اللغة مأخوذ من النبأ، وهو الخبر، تقول: نبأ ونبأ، أي أخبر، ومنه اخذ النبيء؛ لأنه أنبأ صلي الله عليه وسلم عن الله، وهو فعيل، بمعنى فاعل، او مأخوذ من النبوة: من نبا ينبو نبوا وهو الارتفاع؛ لأن نبا بمعنى ارتفع، ولا شك في ارتفاع رتبة النبي. ([6])
وأما في الاصطلاح: فهو من أوحي إليه بملك او الهم في قلبه، او نبه بالرؤيا الصالحة، او هو من جاء بتجديد شريعة رسول سابق ([7]) ، ولعل التعريف الأخير هو الصحيح، والله اعلم.
رابعا: أيوب عليه السلام في القرآن
ذكر نبي الله أيوب عليه السلام في القرآن أربع مرات وهي:
الأولى في قوله سبحانه: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ...} (النساء:163).
الثانية في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (الأنعام :84)
الثالثة وهي قوله عز وجل: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأنبياء :83).
الرابعة في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (ص :41). ([8])
والآيتان الأخيرتان هما اللتان تحدثتا عما حصل لأيوب عليه السلام من ابتلاء.
نسبه:
أيوب عليه السلام من ذرية إبراهيم الخليل -عليهما السلام -، وذلك اعتمادا على قوله سبحانه في سورة الأنعام: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} إلى أن يقول {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} أي ومن ذرية إبراهيم {دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ}؛ وذلك لأن الكلام سيق في الحديث عن إبراهيم عليه السلام. وذهب بعض أهل العلم إلى أن أيوب عليه السلام ليس من ذرية إبراهيم، وجعل الضمير في قوله {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} راجعا إلى نوح؛ لأنه أقرب مذكور، والصحيح ما ذكرنا، والله اعلم ([9]) .
مكانه وزمانه:
كان أيوب عليه السلام نبيا غنيا، من أرباب العقار والماشية. وكان أميرا في قومه، وكانت أملاكه، ومنزله في الجنوب الشرقي من البحر الميت، بين بلاد أدوم وصحراء العربية، وكانت إذ ذاك خصيبة رائعة التربة، كثيرة المياه، وكان زمنه بعد زمن إبراهيم. ورأى القرطبي انه في زمن يعقوب عليه السلام، وان أمه ابنة لوط عليه السلام. وقيل انه في زمن موسى عليه السلام.. هذا ما ذكره عن أيوب عليه السلام -المفسرون مما يستأنس به، ولا يقطع به ([10]) .
رسالة أيوب:
ذكر الله تعالى أيوب مع الأنبياء والرسل الذين يوحى إليهم في سورة النساء، بقوله سبحانه: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ ...} (الآية 84)
ومع ذلك فإن القرآن لم يذكر لنا شيئا عن قوم أيوب، ولا عن دينهم، ولا عن الأحوال التي اقتضت بعثة أيوب إليهم، وهل امن به أحد أولا؟ ([11])
ولعل في قصة أيوب عليه السلام وصبره من العبر والعظات ما يهم المؤمنين أكثر من ذكر قومه، او غير ذلك من أمور.
المطلب الأول
الدخيل من التفسير الوارد في قصة أيوب عليه السلام
ينبغي أولا أن نبين معنى الدخيل لغة واصطلاحا.
الدخيل في اللغة يطلق على: من دخل في قوم وانتسب إليهم وليس منهم، وعلى الضيف لدخوله على المضيف، وكل كلمة أدخلت في كلام العرب وليست منه، وعلى الفرس بين الفرسين في الرهان. ([12]) ثم صار يطلق على: الإسرائيليات التي تطرقت إلى كتب التفسير، والموضوعات، وبدع المفسرين وأخطاء بعضهم، وآراء أهل الفرق الضالة.
ويمكن تقسيم الدخيل من التفسير الذي جاء في قصة أيوب -عليه السلام -إلى قسمين، كل قسم منهما مبين بالتفصيل في المبحثين الأول والثاني، نعقبهما بالمبحث الثالث والمتضمن استخلاص المواضع التي غزاها الدخيل في القصة، وهاكم بيانه:
المبحث الأول: الضعيف من التفسير الوارد في قصة أيوب عليه السلام
وهي الروايات الضعيفة والموضوعة التي نقلها المفسرون في كتبهم عن بعض السلف، وأكثرها إسرائيليات.
أولا: الرواية المشهورة في قصة أيوب:
الروايات التي تداولها المفسرون والإخباريون في قصة أيوب -عليه السلام -تدور في اغلبها حول رواية الطبري التي ذكرها في تفسيره؛ لذلك اخترت هذه الرواية للحديث عن جوانب الضعف فيها.
رواية الإمام الطبري ([13]) :
روى ابن جرير في تفسير قوله سبحانه : {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (الأنبياء:83) وكذلك آيات (سورة ص 41 -44) روى فيها رواية طويلة، إذ قال : ؛يقول تعالى ذكره لنبيه محمد -عليه الصلاة و السلام -: واذكر أيوب يا محمد، إذ نادى ربه ، وقد مسه الضر والبلاء { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} يقول تعالى ذكره : فاستجبنا لأيوب دعاءه إذ نادانا، فكشفنا ما كان به من ضر وبلاء وجهد. وكان الضر الذي أصابه ، والبلاء الذي نزل به ، امتحانا من الله له واختبارا، وكان سبب ذلك كما حدثني محمد بن سهل بن عسكر البخاري ، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم بن هشام ؛ قال : ثني عبد الصمد بن معقل، قال : سمعت وهب بن منبه ([14]) يقول : كان بدء أمر أيوب الصديق صلوات الله عليه ، انه كان صابرا نعم العبد .قال وهب : إن لجبريل بين يدي الله مقاما ليس لأحد من الملائكة في القربة من الله والفضيلة عنده ، وإن جبريل هو الذي يتلقى الكلام ، فإذا ذكر الله عبدا بخير تلقاه جبرائيل منه ، ثم تلقاه ميكائيل ، وحوله الملائكة المقربون ، حافين من حول العرش .... وكان إبليس لا يحجب بشيء من السموات، وكان يقف فيهن حيث شاء ما أرادوا. ومن هنالك وصل إلى ادم حين أخرجه من الجنة، فلم يزل على ذلك، يصعد في السموات، بعث الله عيسى ابن مريم، فحجب من أربع، وكان يصعد في ثلاث، فلما بعث الله محمدا صلي الله عليه وسلم-حجب من الثلاث الباقية ([15]) ، فهو محجوب هو وجميع جنوده من جميع السموات إلى يوم القيامة .. ..قال وهب : فلم يرع إبليس إلا تجاوب ملائكتها بالصلاة على أيوب ، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه ، فلما سمع إبليس صلاة الملائكة، أدركه البغي والحسد، وصعد سريعا حتى وقف من الله مكانا كان يقفه ([16]) ، فقال : يا إلهي ، نظرت في أمر عبدك أيوب ، فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك ، وعافيته فحمدك، ثم لم تجربه بشدة ،ولم تجربه ببلاء،، وأنا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرن بك ،ولينسينك ،وليعبدن غيرك ، قال الله تبارك وتعالى له : انطلق ، فقد سلطتك على ماله، فإنه الأمر الذي تزعم انه من اجله يشكرني ، ليس لك سلطان على جسده ، ولا على عقله . فانقض عدو الله حتى وقع على الأرض، ثم جمع عفاريت الشياطين، وعظماءهم.
وكان لأيوب البثنية من الشام كلها، ([17]) بما فيها من شرقها وغربها، وكان له بها ألف شاة برعاتها، وخمس مئة فدان، يتبعها خمس مئة عبد، . . .. فلما جمع إبليس الشياطين، قال لهم: ماذا عندكم من القوة والمعرفة؟ فإني قد سلطت على مال أيوب، فهي المصيبة الفادحة، والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال. قال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من نار؛ فأحرقت كل شيء آتي عليه، فقال له إبليس: فأت الإبل ورعاتها. فانطلق يؤم الإبل،..، فلم تشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار، تنفخ منها أرواح السموم، لا يدنو منها أحد إلا احترق، فلم يزل يحرقها ورعاتها، حتى أتى على أخرها. فلما فرغ منها تمثل إبليس على قعود منها ([18])براعيها، ثم انطلق يؤم أيوب ، حتى وجده قائما يصلي ، فقال : يا أيوب ، قال : لبيك قال : هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترت وعبدت ووحدت بإبلك ورعاتها ؟ قال أيوب : إنها مال أعارنيه ، وهو أولى به ؛ إذا شاء نزعه ، وقديما ما وطنت نفسي ومالي على الفناء ([19]) . قال إبليس : وإن ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت ورعاتها، حتى وهم وقوف عليها يتعجبون ؛ منهم : من يقول : ما كان أيوب يعبد شيئا، وما كان إلا في غرور ([20]) ، ومنهم : من يقول : لو كان إله أيوب يقدر على أن يمنع من ذلك شيئا لمنع وليه ، ومنهم: من يقول : بل هو فعل الذي فعل ؛ ليشمت به عدوه ، وليفجع به صديقه ([21]) . قال أيوب : الحمد لله حين أعطاني ، وحين نزع مني ، عريانا خرجت من بطن أمي . . . . ثم رجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ذليلا، فقال لهم: ماذا عندكم من القوة؟ فإني لم أكلم قلبه؟ قال عفريت من عظمائهم: عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه. قال له إبليس: فأت الغنم ورعاتها، فانطلق يؤم الغنم ورعاتها، حتى إذا وسطها صاح صوتا جثمت أمواتا من عند آخرها ([22]) ورعاءها. ثم خرج إبليس متمثلا بقهرمان الرعاء ([23]) ، حتى إذا جاء أيوب وجده وهو قائم يصلي، فقال له القول الأول، ورد عليه أيوب الرد الأول. ثم إن إبليس رجع إلى أصحابه، فقال لهم: ماذا عندكم من القوة، فإني لم أكلم قلب أيوب؟ ([24])فقال عفريت من عظمائهم: عندي من القوة إذا شئت تحولت ريحا عاصفا، تنسف كل شيء تأتي عليه، حتى لا ابقي شيئا.
قال له إبليس: فأت الفدادين والحرث، فانطلق يؤمهم. .، فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف تنسف كل شيء من ذلك، حتى كأنه لم يكن. ثم خرج إبليس متمثلا بقهرمان الحرث، فقال له مثل قوله الأول، ورد عليه أيوب مثل رده الأول.
فلما رأى إبليس انه قد أفني ماله، ولم ينجح منه، صعد سريعا، حتى وقف من الله الموقف الذي كان يقفه ([25]) ، فقال: يا إلهي، إن أيوب يرى أنك ما متعته بنفسه وولده، فأنت معطيه المال، فهل أنت مسلطي على ولده؟ فإنها الفتنة المضلة، والمصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال، .... فقال الله تعالى له: انطلق فقد سلطتك على ولده، ولا سلطان لك على قلبه ولا جسده، ولا على عقله. فانقض عدو الله جوادا ([26]) ، حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم ، فلم يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده ، ثم جعل يناطح الجدر بعضها ببعض ، ويرميهم بالخشب والجندل ، حتى إذا مثل بهم كل مثلة ، رفع بهم القصر، حتى إذا اقله بهم فصاروا فيه منكسين ، انطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة ، وهو جريح ، مشدوخ الوجه ، يسيل دمه ... فلما نظر إليه أيوب هاله وحزن ، ودمعت عيناه ، وقال له : يا أيوب ، لو رأيت كيف افلت من حيث افلت، والذي رمانا به من فوقنا ومن تحتنا، ولو رأيت بنيك كيف عذبوا، وكيف مثل بهم، وكيف قلبوا ؛ فكانوا منكسين على رؤوسهم ، تسيل دماؤهم ودماغهم من أنوفهم وأجوافهم، وتقطر من اشفارهم ، ...، ولو رأيت العظام متهشمة في الأجواف ، ولو رأيت الوجوه مشدوخه ،([27]) ولو رأيت الجدر تناطح عليهم ، ولو رأيت ما رأيت قطع قلبك ، فلم يزل يقول هذا ونحوه ، ولم يزل يرققه حتى رق أيوب فبكى ، وقبض قبضة من تراب ، فوضعها على رأسه ([28]) ، فاغتنم إبليس عند ذلك ، فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب ، مسرورا به . ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر؛ فاستغفر، وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبة منه، فبدروا إبليس إلى الله، فوجدوه قد علم بالذي رفع إليه من توبة أيوب، فوقف إبليس خازيا ذليلا، فقال: يا إلهي، إنما هون على أيوب خطر المال والولد انه يرى أنك ما متعته بنفسه؛ فأنت تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده؟ فأنا لك زعيم لئن ابتليته في جسده لينسينك، وليكفرن بك، وليجحدنك نعمتك. قال الله: انطلق فقد سلطتك على جسده ([29]) ، ولكن ليس لك سلطان على لسانه، ولا على قلبه، ولا على عقله. فانقض عدو الله جوادا، فوجد أيوب ساجدا، فعجل قبل إن يرفع رأسه، فأتاه من قبل الأرض في موضع وجهه، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده؛ فترهل، . . .، ووقعت فيه حكة لا يملكها، فحك بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حك بالعظام، وحك بالحجارة الخشنة، وبقطع المسوح الخشنة، فلم يزل يحكه حتى نفد لحمه وتقطع. ولما نغل جلد أيوب وتغير وانتن أخرجه أهل القرية، فجعلوه على تل، وجعلوا له عريشا، ورفضه خلق الله غير امراته ([30]) ، فكانت تختلف إليه بما يصلحه ويلزمه. وكان ثلاثة من أصحابه اتبعوه على دينه، فلما راوا ما ابتلاه الله به تركوه من غير ان يتركوا دينه، واتهموه؛ يقال لأحدهم: بلدد، واليفر، وصافر. قال: فانطلق إليه الثلاثة، وهو في بلائه، فبكتوه؛ فلما سمع منهم اقبل على ربه، فقال أيوب صلى الله عليه وسلم: رب لأي شيء خلقتني؟ لو كنت إذ كرهتني في الخير تركتني فلم تخلقني، يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي، وياليتني مت في بطنها، فلم اعرف شيئا ولم تعرفني، ما الذنب الذي أذنبت لم يذنبه أحد غيري؟ ......." ([31])
التعليق:
هذه رواية الإمام الطبري -مع بعض الاختصار-في تفسير آية سورة الأنبياء التي تحدثت عن الضر الذي أصاب أيوب عليه السلام. وقد اعتمد على هذه الرواية ونحوها كثير من المفسرين في كتبهم، كابن أبي زمنين، والقرطبي، كذلك اعتمد عليها كثير ممن كتب في قصة أيوب من الكتاب والأدباء ([32]).
وقد ترك ابن كثير هذه القصة، فلم يذكرها في تفسيره؛ لما فيها من غرابة – كما يقول -، وكذلك لطولها ([33]) .
وعلق الشوكاني على هذه القصة بقوله: "وفي هذا نكارة شديدة؛ فإن الله تعالى لا يمكن الشيطان من نبي وأبنائه، ويسلطه عليه هذا التسليط العظيم" ([34])
وسنتحدث عن جوانب الضعف في قصة أيوب عليه السلام والدخيل فيها، في الصفحات القادمة، من خلال رواية الإمام الطبري إن شاء الله تعالى.
المبحث الثاني: التأويلات البعيدة في قصة أيوب عليه السلام
وهي التأويلات التي حاول بعض المفسرين الفرار بها من الإسرائيليات الدخيلة على القصة.
فرأى أولئك تفسير قصة أيوب تفسيرا يبعد القصة عن الإسرائيليات التي حيكت حولها، كرد فعل اتجاه من فسرها بالروايات الإسرائيلية من المفسرين والقصاص؛ فحملوا الآيات ما لا تحتمل:
ففسروا قوله تعالى: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}: إعراض الناس واستهزاؤهم بالدعوة والداعين؛ فإن ذلك من عمل الشيطان، فشكوى الأنبياء لم تكن إلا بسبب إعراض أممهم عن الاستجابة، وحزنهم لم يكن إلا بسبب بط ء في سير الدعوة، واستدل بقوله تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل :127)
أما قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} فالمراد بـ {ارْكُضْ} عقد العزيمة وتأكيدها، واستتمام الثقة وإكمالها؛ وذلك لأن الشكوى تشعر بالوهن وعدم القوة في السير إلى الغاية لذلك، هذا ما كان من جواب تلك الشكاية" ([35])
أما قوله تعالى: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} فلما كان تردد المرء في غايته، ووهن عزيمته مرضا يضايق الصدور. كان عقد العزيمة واستكمال الثقة غسلا للروح من صدئها، وشفاء للنفس من مرضها، فالمراد من المغتسل هو عقد العزيمة، واستكمال الثقة، وهنا يكون اسم الإشارة راجعا إلى الركض بالرجل التي هي كناية عن عقد العزيمة" ([36])
وأما قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} فأولها بعضهم ب: هدينا أهله فأمنوا به واستجابوا لدعوته، وهدينا له مثلهم من غير أهله، فالهبة هنا هي الهداية والإرشاد، لا هبة الخلق؛ لأن ما يهتم به الأنبياء هو أن يهدي الله بهم لا أن يولد لهم.
وقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} فسروها: أي لا ترفع في وجوه قومك رمحا، ولا عصا، ولا تغلظ لهم في القول، بل لوح في وجوههم الرياحين، ولا تأثم بالغلظة"([37])
وهناك تأويل آخر قال به بعض المفسرين: حيث أولوا المغتسل البارد والشراب في قصة أيوب بأنه الوحي "الذي انزله الله عليه، وهداه إلى العمل به"، فهو الذي يغسل الأوضار والأدران ([38]) ، وهو "المغتسل البارد والشراب". وحجته في ذلك أن "القرآن كثيرا ما يكني عن الوحي بالماء والمطر؛ ولا شك أن كلام الله هو العلاج لكل داء، والدواء لكل مرض" ([39]) .
كما فسر هذا المفسر قوله تعالى: {وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} تفسيرا بعيدا؛ فقد فسر الأهل هنا بأنهم "أتباعه في الدين" ([40]) .
أقول:
وهذه التأويلات -كما نرى -بعيدة كل البعد عن مدلول اللفظ القرآني، ولا يصح أن نحمل الألفاظ ما لا تحتمل، وليس مبررا صحيحا لكي نبعد النص القرآني عن الإسرائيليات أن نقع بهذا التحريف الكبير له ؟! فكيف يفسر الماء البارد بكلام الله ؟! والأصل في الكلام العربي أن يحمل على الحقيقة إلا إذا جاءت قرينة تصرفه من الحقيقة إلى المجاز. . .. ولا قرينة ثمة هنا.
والأصل في الأهل أنهم أهل الرجل؛ جاء في اللغة: أهل فلان يأهل ويأهل أهولا أي تزوج، والأهل: الأقارب والعشيرة والزوجة ([41]) . فتفسير أهله في الآية بأنهم أتباعه في الدين تأويل بعيد، يخالف اللغة؛ فلا يقبل.
المبحث الثالث: استخلاص الموضوعات التي أصابها الدخل في القصة.
واستخلاصا لما جاء في القسمين السابقين فإنه يمكن تقسيم ما ورد من دخيل في التفسير في قصة أيوب بمختلف رواياتها ورواتها وتأويلاتها إلى الأقسام التالية:
أولا:
سبب ما أصابه من بلاء.
ثانيا:
طبيعة البلاء الذي أصابه.
ثالثا:
مدة البلاء.
رابعا:
ما نسب إلى أيوب من الشكوى.
خامسا:
كيف شفي من مرضه.
سادسا:
كيف عوض الله عليه أهله وماله.
وهذا تفصيل لما أجمل:
أولا: ما ورد في ذكر سبب ما أصابه من بلاء
قد وردت روايات عديدة ذكرت سبب ما أصاب أيوب عليه السلام من بلاء، واغلبها يعود إلى الإسرائيليات، منها:
"أن الله تعالى أثني على أيوب في الملأ الأعلى، وتجاوبت الملائكة بذكره والصلاة عليه، وذاع صيته في الملأ الأعلى، وسمع بذلك إبليس فحسده على مكانته عند الله، وسأل الله أن يسلطه عليه؛ ليفتنه عن دينه؛ فسلطه الله..." ([42]) بل ذكر بعضهم اسم الشيطان الذي سلط على أيوب -في زعمهم -؛ فعن نوف البكالي ([43]) قال: كان (الشيطان) الذي سلط على أيوب اسمه مسوط. ([44])
الرواية الأخرى في سبب بلائه: انه كان بسبب سكوته عما كان يصنع فرعون من المنكرات؛ فقد اخرج ابن الأثير وابن عساكر عن أبي إدريس الخولاني ([45]) ؛ قال: "أجدب الشام، فكتب فرعون إلى أيوب: أن هلم إلينا؛ فإن لك عندنا سعة، فأقبل بخيله وماشيته، فأقطعهم، فدخل شعيب على فرعون، ووعظه وخوفه، وأيوب ساكت لا يتكلم، فلما خرج شعيب وأيوب، أوحى الله إلى ايوب: سكت عن فرعون لذهابك إلى أرضه؛ استعد للبلاء. وفي رواية قال ايوب: فديني؟ ([46]) قال (اي الله): أسلمه لك. قال: لا ابالي". ([47])
واخرج ابن عساكر من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس -رضي الله عنه-قال: "إنما كان ذنب ايوب انه استعان به مسكين على ظالم يدرؤه عنه، فلم يعنه، ولم يأمر بمعروف وينه الظالم عن ظلم المسكين؛ فابتلاه الله" ([48]) .
وهذه الرواية أحد رواتها هو جويبر، وهو ضعيف؛ ذكره البخاري في الضعفاء ([49]) ؛ فهي إذا رواية مردودة.
واخرج ابن عساكر عن الليث بن سعد ([50]) قال: " كان السبب الذي ابتلي فيه ايوب انه دخل أهل قريته على ملكهم، -وهو جبار من الجبابرة -، وذكر بعض ما كان من ظلمه الناس، فكلموه فأبلغوا في كلامه، ورفق ايوب في كلامه له؛ مخافة منه لزرعه، فقال الله: "اتقيت عبدا من عبادي من اجل زرعك"؟ فأنزل الله به ما انزل من البلاء". وقد اختار هذه الرواية ابن عطية والقرطبي، وذكرها السيوطي في تفسيره ([51]).
وروي الإمام احمد بسنده، عن سفيان بن عيينة ([52]) قال: "لما أصاب ايوب عليه السلام الذي أصابه أرسل إلى أصحابه؛ فقال: تدرون لأي شيء أصابني هذا؟ قالوا: أما نحن فلم يكن يظهر لنا منك شيء نعرفه إلا إن تكون أسررت شيئا ليس لنا به علم، فقاموا من عنده، وذهبوا، فلقوا إنسانا دونهم في العلم، فقال: لأي شيء دعاكم نبي الله عليه السلام؟، فأخبروه، قال: فأنا أخبره بما أصابه هذا، فأتاه فسأله، فقال: لأنك شربت شربة لم تحمد الله عليها، ولم تشكر النعمة، ولعلك استظللت في ظل لم تشكر النعمة!"([53])
هذه الروايات مردودة؛ فالرواية الأولى -رواية ابن الأثير -ليس لها دليل من الكتاب او السنة على أن إبليس تكلم مع الله تعالى. .. .؟!
وأما الروايات الباقية فلا شك ببطلانها؛ فكيف ينسب إلى نبي الله ايوب انه سكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، "والسكوت على ذلك غير مقبول من القادرين عليه، فكيف إذا كان السكوت من العلماء؟ بل كيف إذا كان من أحد الأنبياء؟" ([54]).
وأما الرواية الأخيرة عن سفيان بن عيينة: "لأنك شربت شربة لم تحمد الله عليها . . ."، فلا شك ببطلانها؛ فكيف ينسب لنبي الله انه لم يشكر النعمة ؟! ومن يشكر الله إذا لم يشكره اعلم الناس به تعالى وادراهم بواجبه؟. وهل نبي الله بحاجة إلى من يعرفه بخطئه من أمته -إن أخطأ؟!
يتبع
في قصة أيوب عليه السلام
د. عدنان عبد الكريم خليفات [·]
ملخص البحث:
يتعلق هذا البحث بسيرة نبي من أنبياء الله، ضرب به المثل في الصبر، وهو أيوب عليه السلام.
وهذا البحث هو اجتهاد وعمل يقصد به تنقية سيرة ذلك النبي الكريم عليه السلام مما الصق بها من قصص إسرائيلية أو روايات وآثار لا تصح سندا ولا تقبل عقلا، وتمحيص الصحيح من الدخيل من الروايات الواردة عموما.
وقد كان منهجي تفسير قصة أيوب عليه السلام من خلال الآيات القرآنية، مستنيرا بكلام أهل التفسير عموما، وتفسيرها من خلال ما ورد من التفسير بالمأثور، لاسيما الأحاديث النبوية الصحيحة، وما ورد من روايات صحيحة عن الصحابة مع الموازنة والترجيح بين المتعارض منها، وأما ما ورد عن التابعين في شأن أيوب فإنها روايات –إن صحت-تخضع كذلك للقواعد المتعلقة بعصمة الأنبياء، وموافقتها للنقل وللعقل على السواء. ولذا استبعدت الروايات التي نسبت إلى نبي الله أيوب انه كان مريضا مرضا منفرا، والروايات التي ترى ان الشيطان قد تسلط على جسد أيوب -عليه السلام – او ماله وولده؛ لكونها لبس لها دليل صريح من القرآن الكريم او السنة الصحيحة.
هذا، وقد اختتمت البحث بذكر بعض العبر المستفادة من قصته عليه السلام.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، انزل على عبده كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهدى الله به من الضلالة أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.
والصلاة والسلام الأتمان الاكملان على نبينا محمد، واله وصحبه أئمة الهدى ومصابيح الدجى، ومن سار على هديهم إلى يوم الدين.
وبعد..
فإن علوم القرآن هي خير العلوم؛ لأنها متعلقة بأعظم الكتب على الإطلاق وهو القرآن العظيم.
وقد شغل القصص في القرآن الكريم حيزا كبيرا يقارب ثلثه؛ وهذا يدل على أهمية القصص القرآني؛ ثم إن قصص الأنبياء قد اخذ قدرا وافيا من القصص القرآني؛ لما لها من تأثير توجيهي عظيم لهذه الأمة.
فالله عز وجل أمر نبيه – صلى الله عليه وسلم -أن يقتدي في كثير من الأخلاق بإخوانه من الأنبياء والمرسلين قال سبحانه: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ...} (الأحقاف: 35)
وقال سبحانه: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } (يوسف :111)
وقال: {وكُلًّا نقُصُّ عليك من أنباء الرُّسُل ما نُثبّتُ به فُؤادك} (هود:120)
وقد أصاب التفسير عموما والقصص القرآني خصوصا بعض الدخل لأسباب متعددة؛ منها: وجود الإسرائيليات في تفسير القرآن، والتي قد تخالف في بعض الأحيان عقيدتنا الإسلامية.
سبب اختيار الموضوع والجهود السابقة:
إن قضية البلاء او قانون البلاء عند الإنسان من الأمور الأساسية التي لا ينفك عنها إنسان، كما قال سبحانه: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (آل عمران :186). وإن البلاء يظهر المكنون من شر او خير في خبايا النفوس، قال تعالى: {ونبلُوكُم بالشّرّ والخير فتنةً} (الأنبياء: 35) فتبتلى آنا بالشر وآنا بالخير؛ لتفجر منك خفاياك من حناياك؛ قال سبحانه: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آل عمران:179)
ولقد كانت قصة أيوب عليه السلام من قصص الأنبياء المؤثرة في مسألة الصبر على البلاء، حتى صار النبي أيوب عليه السلام مضرب المثل في الصبر مع طول البلاء وشدته.
ولكن القصة التي معنا أحاطها طائفة من القصاص والمفسرين بهالة من الخرافات حينا، والمبالغة حينا آخر، مما جعل الحق يختلط بالباطل والحقيقة بالأسطورة.
صحيح أن هناك طائفة من المفسرين التزمت بالمنهج الدقيق في عرض الروايات المتعلقة بالقصص القرآني؛ مما جعلها ترفض كثيرا مما ورد في تفسير القصص القرآني عامة وقصة أيوب خاصة، ومن هؤلاء المحققين د. محمد أبو شهبة الذي كتب كتابا يجلي فيه ويحذر من الإسرائيليات والموضوعات التي ذكرت في بعض التفاسير وسمى كتابه (الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير)، إلى غير هذا من الجهود المتعددة في هذا الجانب المهم ، ومن ذلك : كتاب (الإسرائيليات في التفسير والحديث) للدكتور محمد حسين الذهبي ، وكتاب (الدخيل في التفسير) للدكتور عبد الوهاب فايد، بالإضافة إلى رسالة دكتوراه في الموضوع بعنوان (الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير) للباحث رمزي نعناعة.
كما كان لبعض من تكلم في القصص القرآني إسهامات طيبة ونافعة في هذا المجال مثل (قصص القرآن الكريم) للدكتور فضل حسن عباس -رحمه الله -، والقصص القرآني ل (محمد احمد جاد المولى) وآخرين، جزاهم الله جميعا على جهودهم خيرا.
كما كان لطائفة من المفسرين -قدماء ومحدثين -التزام بالمنهج العلمي ([1]) ، ذلك المنهج الذي يجلي الحقيقة وينفي الأباطيل التي أشيعت حول قصص الأنبياء عموما وأيوب عليه السلام خصوصا، ومن ذلك: تفسير القاسمي -محاسن التأويل
خطة البحث:
تشتمل الخطة على مقدمة، وتمهيد، ومطالب، وهي:
المطلب الأول: الدخيل الوارد في قصة أيوب عليه السلام
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الضعيف من التفسير الوارد في قصة أيوب عليه السلام
المبحث الثاني: التأويلات البعيدة في قصة أيوب عليه السلام
المبحث الثالث: استخلاص الموضوعات التي أصابها الدخل في القصة.
المطلب الثاني: الآثار المترتبة عن إذاعة وإشاعة الأخبار الإسرائيلية في تشويه صورة الأنبياء عموما ونبي الله أيوب على وجه الخصوص.
المطلب الثالث: قصة أيوب عليه السلام من خلال تفسير آيات سورة الأنبياء وسورة (ص).
المطلب الرابع: أحاديث صحيحة وأقوال مأثورة في شأن أيوب عليه السلام.
المطلب الخامس: بعض الفوائد والعبر في قصة أيوب عليه السلام
الخاتمة: وفيها أبين ما استفدته من هذه الدراسة، والتوصيات التي أراها.
والله عز وجل اسأل التوفيق لما يحب ويرضى؛ إنه أكرم مسؤول وخير مأمول.
تمهيد
أولا: القصص لغة واصطلاحا:
القصة مأخوذة من القص، وهو تتبع الأثر، قال سبحانه على لسان أم موسى وهي ترشد ابنتها لتتبع أثر موسى عليه السلام بعد أن ألقته في اليم: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (القصص: 11)، والقصص مصدر القص: قال تعالى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا} (الكهف:64) أي رجعا يقصان الأثر الذي جاءا به.
ويطلق القصص على الحوادث والأخبار، وقد اقتصصت الحديث: رويته على وجهه، وقد قص عليه الخبر قصصا، والاسم -أيضا -القصص بالفتح، والقصص بكسر القاف: جمع القصة التي تكتب؛ قال صلي الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (يوسف: 111) وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ} (يوسف: 3)
وقصص القرآن هو: إخباره عن أحوال الأمم الماضية والنبوات السابقة والحوادث الواقعة. ([2])
أنواع قصص القرآن:
من خلال التعريف السابق، وباستقراء القصة في القرآن، يمكن تقسيم القصة القرآنية إلى أنواع رئيسة، وهي:
قصص الأنبياء: وقد ذكر الله في القرآن قصص خمسة وعشرين نبيا، تتراوح قصصهم ما بين التفصيل والإجمال؛ فمنهم: من وردت سورة بأكملها في شأنه كقصة يوسف عليه السلام، ومنهم: من أشار القرآن إلى ذكره إشارة عابرة، كإلياس وإدريس واليسع -عليهم الصلاة والسلام -، ومنهم: من ذكرت قصته مرات عديدة، لأهداف متنوعة، وبأساليب مختلفة، ومعظم القصص من هذا القبيل، كما هو بالنسبة لنوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى، وغيرهم -عليهم الصلاة والسلام .. ولعل الحكمة في ذلك أن الله سبحانه – وهو اعلم بمراده -قد حكى لنا ما ينفعنا مما قد حدث لكل نبي مع قومه. وقد أخبرنا عز وجل بأنه قد أرسل أنبياء ورسلا كثيرين، منهم: من قص الله علينا بما حدث له مع قومه، ومنهم: من لم يخبرنا بشيء من أحواله.
ومن الأنبياء الذين جاء الحديث عنهم بصورة تتناسب مع مقتضى أحوالهم مع أقوامهم أيوب عليه السلام. ([3])
وهناك قصص لأمم وأشخاص غير الأنبياء، كما هو الحال في قصة ذي القرنين، والذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وابني ادم، وطالوت وجالوت، وأهل الكهف، وأصحاب السبت، وأصحاب الأخدود، وغيرهم. ([4])
ثانيا: أهمية القصص القرآني:
القصص في القرآن يحتل مساحة كبيرة منه، لعلها تبلغ ثلث القرآن، وهذا دليل على أهمية القصة في القرآن. ويمكن أن نجمل أهميتها فيما يأتي:
تثبيت قلب النبي وقلوب الأمة المحمدية على دين الله، وتقوية ثقة المؤمنين بنصرة الحق وجنده. قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } (هود: 120)
إظهار صدق محمد في دعوته بما أخبر به عن أحوال الماضين عبر القرون والأجيال، كقصة عيسى وأمه، وداود، وأيوب، ويونس، ونوح.
مقارعة أهل الكتاب بالحجة فيما كتموه من البينات والهدى، وتحديه لهم بما في كتبهم قبل التحريف والتبديل كقوله تعالى {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران :93)
الاعتبار بمن سبقنا، وذلك في أكثر من جانب؛ فالعبرة للمؤمنين بما ختم الله كثيرا من القصص من نصرة جنده وهزيمة أعدائه؛ فالعبرة هي في الثقة بالله والتوكل عليه والثبات على المبدأ، وفي جانب الأعداء كانت العبرة ببيان مصير المكذبين بالرسل وسوء عاقبتهم.
القصص القرآني زاد غزير الفائدة للدعاة إلى الله سبحانه، فهو ترجمة لما جرى بين الأنبياء وأقوامهم، وبين الدعاة من غير الأنبياء ومن عاشوا معهم، وهو بذلك يبين لنا أطيافا متعددة في الأساليب الملائمة للدعوة، مع اختلاف البيئات، واختلاف المقام، وأسس الدعوة إلى الله، وترتيب الأولويات.
إن من أدب الشريعة معرفة تاريخ سلفها في التشريع من الأنبياء بشرائعهم؛ فكان اشتمال القرآن على قصص الأنبياء وأقوامهم تكليلا لهامة التشريع الإسلامي.
ما في القصص من فائدة التاريخ، كمعرفة ترتيب المسببات على أسبابها في الخير والشر، والتعمير والتخريب؛ لتقتدي الأمة وتحذر؛ قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} (النمل: 52) وما فيها من فائدة ظهور المثل العليا في الفضيلة، وزكاء النفوس، او ضد ذلك.
إن في حكاية القصص سلوك أسلوب التوصيف والمحاورة، وذلك أسلوب لم يكن معهودا للعرب؛ فكان مجيئه في القرآن ابتكار أسلوب جديد في البلاغة العربية، شديد التأثير في نفوس أهل اللسان، وهو من إعجاز القرآن؛ إذ لا ينكرون انه أسلوب بديع، ولا يستطيعون الإتيان بمثله؛ إذ لم يعتادوه. انظر إلى حكاية أحوال الناس في الجنة والنار والأعراف، في سورة الأعراف.
والقصة نوع من التسلية، ونموذج للأدب العفيف، والخلق القويم، وذلك بما احتواه من نماذج فريدة في الأخلاق، كالصدق والصبر، والوفاء والتضحية. ([5])
ثالثا: تعريف النبي لغة واصطلاحا
النبي في اللغة مأخوذ من النبأ، وهو الخبر، تقول: نبأ ونبأ، أي أخبر، ومنه اخذ النبيء؛ لأنه أنبأ صلي الله عليه وسلم عن الله، وهو فعيل، بمعنى فاعل، او مأخوذ من النبوة: من نبا ينبو نبوا وهو الارتفاع؛ لأن نبا بمعنى ارتفع، ولا شك في ارتفاع رتبة النبي. ([6])
وأما في الاصطلاح: فهو من أوحي إليه بملك او الهم في قلبه، او نبه بالرؤيا الصالحة، او هو من جاء بتجديد شريعة رسول سابق ([7]) ، ولعل التعريف الأخير هو الصحيح، والله اعلم.
رابعا: أيوب عليه السلام في القرآن
ذكر نبي الله أيوب عليه السلام في القرآن أربع مرات وهي:
الأولى في قوله سبحانه: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ...} (النساء:163).
الثانية في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (الأنعام :84)
الثالثة وهي قوله عز وجل: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأنبياء :83).
الرابعة في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (ص :41). ([8])
والآيتان الأخيرتان هما اللتان تحدثتا عما حصل لأيوب عليه السلام من ابتلاء.
نسبه:
أيوب عليه السلام من ذرية إبراهيم الخليل -عليهما السلام -، وذلك اعتمادا على قوله سبحانه في سورة الأنعام: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} إلى أن يقول {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} أي ومن ذرية إبراهيم {دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ}؛ وذلك لأن الكلام سيق في الحديث عن إبراهيم عليه السلام. وذهب بعض أهل العلم إلى أن أيوب عليه السلام ليس من ذرية إبراهيم، وجعل الضمير في قوله {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} راجعا إلى نوح؛ لأنه أقرب مذكور، والصحيح ما ذكرنا، والله اعلم ([9]) .
مكانه وزمانه:
كان أيوب عليه السلام نبيا غنيا، من أرباب العقار والماشية. وكان أميرا في قومه، وكانت أملاكه، ومنزله في الجنوب الشرقي من البحر الميت، بين بلاد أدوم وصحراء العربية، وكانت إذ ذاك خصيبة رائعة التربة، كثيرة المياه، وكان زمنه بعد زمن إبراهيم. ورأى القرطبي انه في زمن يعقوب عليه السلام، وان أمه ابنة لوط عليه السلام. وقيل انه في زمن موسى عليه السلام.. هذا ما ذكره عن أيوب عليه السلام -المفسرون مما يستأنس به، ولا يقطع به ([10]) .
رسالة أيوب:
ذكر الله تعالى أيوب مع الأنبياء والرسل الذين يوحى إليهم في سورة النساء، بقوله سبحانه: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ ...} (الآية 84)
ومع ذلك فإن القرآن لم يذكر لنا شيئا عن قوم أيوب، ولا عن دينهم، ولا عن الأحوال التي اقتضت بعثة أيوب إليهم، وهل امن به أحد أولا؟ ([11])
ولعل في قصة أيوب عليه السلام وصبره من العبر والعظات ما يهم المؤمنين أكثر من ذكر قومه، او غير ذلك من أمور.
المطلب الأول
الدخيل من التفسير الوارد في قصة أيوب عليه السلام
ينبغي أولا أن نبين معنى الدخيل لغة واصطلاحا.
الدخيل في اللغة يطلق على: من دخل في قوم وانتسب إليهم وليس منهم، وعلى الضيف لدخوله على المضيف، وكل كلمة أدخلت في كلام العرب وليست منه، وعلى الفرس بين الفرسين في الرهان. ([12]) ثم صار يطلق على: الإسرائيليات التي تطرقت إلى كتب التفسير، والموضوعات، وبدع المفسرين وأخطاء بعضهم، وآراء أهل الفرق الضالة.
ويمكن تقسيم الدخيل من التفسير الذي جاء في قصة أيوب -عليه السلام -إلى قسمين، كل قسم منهما مبين بالتفصيل في المبحثين الأول والثاني، نعقبهما بالمبحث الثالث والمتضمن استخلاص المواضع التي غزاها الدخيل في القصة، وهاكم بيانه:
المبحث الأول: الضعيف من التفسير الوارد في قصة أيوب عليه السلام
وهي الروايات الضعيفة والموضوعة التي نقلها المفسرون في كتبهم عن بعض السلف، وأكثرها إسرائيليات.
أولا: الرواية المشهورة في قصة أيوب:
الروايات التي تداولها المفسرون والإخباريون في قصة أيوب -عليه السلام -تدور في اغلبها حول رواية الطبري التي ذكرها في تفسيره؛ لذلك اخترت هذه الرواية للحديث عن جوانب الضعف فيها.
رواية الإمام الطبري ([13]) :
روى ابن جرير في تفسير قوله سبحانه : {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (الأنبياء:83) وكذلك آيات (سورة ص 41 -44) روى فيها رواية طويلة، إذ قال : ؛يقول تعالى ذكره لنبيه محمد -عليه الصلاة و السلام -: واذكر أيوب يا محمد، إذ نادى ربه ، وقد مسه الضر والبلاء { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} يقول تعالى ذكره : فاستجبنا لأيوب دعاءه إذ نادانا، فكشفنا ما كان به من ضر وبلاء وجهد. وكان الضر الذي أصابه ، والبلاء الذي نزل به ، امتحانا من الله له واختبارا، وكان سبب ذلك كما حدثني محمد بن سهل بن عسكر البخاري ، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم بن هشام ؛ قال : ثني عبد الصمد بن معقل، قال : سمعت وهب بن منبه ([14]) يقول : كان بدء أمر أيوب الصديق صلوات الله عليه ، انه كان صابرا نعم العبد .قال وهب : إن لجبريل بين يدي الله مقاما ليس لأحد من الملائكة في القربة من الله والفضيلة عنده ، وإن جبريل هو الذي يتلقى الكلام ، فإذا ذكر الله عبدا بخير تلقاه جبرائيل منه ، ثم تلقاه ميكائيل ، وحوله الملائكة المقربون ، حافين من حول العرش .... وكان إبليس لا يحجب بشيء من السموات، وكان يقف فيهن حيث شاء ما أرادوا. ومن هنالك وصل إلى ادم حين أخرجه من الجنة، فلم يزل على ذلك، يصعد في السموات، بعث الله عيسى ابن مريم، فحجب من أربع، وكان يصعد في ثلاث، فلما بعث الله محمدا صلي الله عليه وسلم-حجب من الثلاث الباقية ([15]) ، فهو محجوب هو وجميع جنوده من جميع السموات إلى يوم القيامة .. ..قال وهب : فلم يرع إبليس إلا تجاوب ملائكتها بالصلاة على أيوب ، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه ، فلما سمع إبليس صلاة الملائكة، أدركه البغي والحسد، وصعد سريعا حتى وقف من الله مكانا كان يقفه ([16]) ، فقال : يا إلهي ، نظرت في أمر عبدك أيوب ، فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك ، وعافيته فحمدك، ثم لم تجربه بشدة ،ولم تجربه ببلاء،، وأنا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرن بك ،ولينسينك ،وليعبدن غيرك ، قال الله تبارك وتعالى له : انطلق ، فقد سلطتك على ماله، فإنه الأمر الذي تزعم انه من اجله يشكرني ، ليس لك سلطان على جسده ، ولا على عقله . فانقض عدو الله حتى وقع على الأرض، ثم جمع عفاريت الشياطين، وعظماءهم.
وكان لأيوب البثنية من الشام كلها، ([17]) بما فيها من شرقها وغربها، وكان له بها ألف شاة برعاتها، وخمس مئة فدان، يتبعها خمس مئة عبد، . . .. فلما جمع إبليس الشياطين، قال لهم: ماذا عندكم من القوة والمعرفة؟ فإني قد سلطت على مال أيوب، فهي المصيبة الفادحة، والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال. قال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من نار؛ فأحرقت كل شيء آتي عليه، فقال له إبليس: فأت الإبل ورعاتها. فانطلق يؤم الإبل،..، فلم تشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار، تنفخ منها أرواح السموم، لا يدنو منها أحد إلا احترق، فلم يزل يحرقها ورعاتها، حتى أتى على أخرها. فلما فرغ منها تمثل إبليس على قعود منها ([18])براعيها، ثم انطلق يؤم أيوب ، حتى وجده قائما يصلي ، فقال : يا أيوب ، قال : لبيك قال : هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترت وعبدت ووحدت بإبلك ورعاتها ؟ قال أيوب : إنها مال أعارنيه ، وهو أولى به ؛ إذا شاء نزعه ، وقديما ما وطنت نفسي ومالي على الفناء ([19]) . قال إبليس : وإن ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت ورعاتها، حتى وهم وقوف عليها يتعجبون ؛ منهم : من يقول : ما كان أيوب يعبد شيئا، وما كان إلا في غرور ([20]) ، ومنهم : من يقول : لو كان إله أيوب يقدر على أن يمنع من ذلك شيئا لمنع وليه ، ومنهم: من يقول : بل هو فعل الذي فعل ؛ ليشمت به عدوه ، وليفجع به صديقه ([21]) . قال أيوب : الحمد لله حين أعطاني ، وحين نزع مني ، عريانا خرجت من بطن أمي . . . . ثم رجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ذليلا، فقال لهم: ماذا عندكم من القوة؟ فإني لم أكلم قلبه؟ قال عفريت من عظمائهم: عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه. قال له إبليس: فأت الغنم ورعاتها، فانطلق يؤم الغنم ورعاتها، حتى إذا وسطها صاح صوتا جثمت أمواتا من عند آخرها ([22]) ورعاءها. ثم خرج إبليس متمثلا بقهرمان الرعاء ([23]) ، حتى إذا جاء أيوب وجده وهو قائم يصلي، فقال له القول الأول، ورد عليه أيوب الرد الأول. ثم إن إبليس رجع إلى أصحابه، فقال لهم: ماذا عندكم من القوة، فإني لم أكلم قلب أيوب؟ ([24])فقال عفريت من عظمائهم: عندي من القوة إذا شئت تحولت ريحا عاصفا، تنسف كل شيء تأتي عليه، حتى لا ابقي شيئا.
قال له إبليس: فأت الفدادين والحرث، فانطلق يؤمهم. .، فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف تنسف كل شيء من ذلك، حتى كأنه لم يكن. ثم خرج إبليس متمثلا بقهرمان الحرث، فقال له مثل قوله الأول، ورد عليه أيوب مثل رده الأول.
فلما رأى إبليس انه قد أفني ماله، ولم ينجح منه، صعد سريعا، حتى وقف من الله الموقف الذي كان يقفه ([25]) ، فقال: يا إلهي، إن أيوب يرى أنك ما متعته بنفسه وولده، فأنت معطيه المال، فهل أنت مسلطي على ولده؟ فإنها الفتنة المضلة، والمصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال، .... فقال الله تعالى له: انطلق فقد سلطتك على ولده، ولا سلطان لك على قلبه ولا جسده، ولا على عقله. فانقض عدو الله جوادا ([26]) ، حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم ، فلم يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده ، ثم جعل يناطح الجدر بعضها ببعض ، ويرميهم بالخشب والجندل ، حتى إذا مثل بهم كل مثلة ، رفع بهم القصر، حتى إذا اقله بهم فصاروا فيه منكسين ، انطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة ، وهو جريح ، مشدوخ الوجه ، يسيل دمه ... فلما نظر إليه أيوب هاله وحزن ، ودمعت عيناه ، وقال له : يا أيوب ، لو رأيت كيف افلت من حيث افلت، والذي رمانا به من فوقنا ومن تحتنا، ولو رأيت بنيك كيف عذبوا، وكيف مثل بهم، وكيف قلبوا ؛ فكانوا منكسين على رؤوسهم ، تسيل دماؤهم ودماغهم من أنوفهم وأجوافهم، وتقطر من اشفارهم ، ...، ولو رأيت العظام متهشمة في الأجواف ، ولو رأيت الوجوه مشدوخه ،([27]) ولو رأيت الجدر تناطح عليهم ، ولو رأيت ما رأيت قطع قلبك ، فلم يزل يقول هذا ونحوه ، ولم يزل يرققه حتى رق أيوب فبكى ، وقبض قبضة من تراب ، فوضعها على رأسه ([28]) ، فاغتنم إبليس عند ذلك ، فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب ، مسرورا به . ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر؛ فاستغفر، وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبة منه، فبدروا إبليس إلى الله، فوجدوه قد علم بالذي رفع إليه من توبة أيوب، فوقف إبليس خازيا ذليلا، فقال: يا إلهي، إنما هون على أيوب خطر المال والولد انه يرى أنك ما متعته بنفسه؛ فأنت تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده؟ فأنا لك زعيم لئن ابتليته في جسده لينسينك، وليكفرن بك، وليجحدنك نعمتك. قال الله: انطلق فقد سلطتك على جسده ([29]) ، ولكن ليس لك سلطان على لسانه، ولا على قلبه، ولا على عقله. فانقض عدو الله جوادا، فوجد أيوب ساجدا، فعجل قبل إن يرفع رأسه، فأتاه من قبل الأرض في موضع وجهه، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده؛ فترهل، . . .، ووقعت فيه حكة لا يملكها، فحك بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حك بالعظام، وحك بالحجارة الخشنة، وبقطع المسوح الخشنة، فلم يزل يحكه حتى نفد لحمه وتقطع. ولما نغل جلد أيوب وتغير وانتن أخرجه أهل القرية، فجعلوه على تل، وجعلوا له عريشا، ورفضه خلق الله غير امراته ([30]) ، فكانت تختلف إليه بما يصلحه ويلزمه. وكان ثلاثة من أصحابه اتبعوه على دينه، فلما راوا ما ابتلاه الله به تركوه من غير ان يتركوا دينه، واتهموه؛ يقال لأحدهم: بلدد، واليفر، وصافر. قال: فانطلق إليه الثلاثة، وهو في بلائه، فبكتوه؛ فلما سمع منهم اقبل على ربه، فقال أيوب صلى الله عليه وسلم: رب لأي شيء خلقتني؟ لو كنت إذ كرهتني في الخير تركتني فلم تخلقني، يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي، وياليتني مت في بطنها، فلم اعرف شيئا ولم تعرفني، ما الذنب الذي أذنبت لم يذنبه أحد غيري؟ ......." ([31])
التعليق:
هذه رواية الإمام الطبري -مع بعض الاختصار-في تفسير آية سورة الأنبياء التي تحدثت عن الضر الذي أصاب أيوب عليه السلام. وقد اعتمد على هذه الرواية ونحوها كثير من المفسرين في كتبهم، كابن أبي زمنين، والقرطبي، كذلك اعتمد عليها كثير ممن كتب في قصة أيوب من الكتاب والأدباء ([32]).
وقد ترك ابن كثير هذه القصة، فلم يذكرها في تفسيره؛ لما فيها من غرابة – كما يقول -، وكذلك لطولها ([33]) .
وعلق الشوكاني على هذه القصة بقوله: "وفي هذا نكارة شديدة؛ فإن الله تعالى لا يمكن الشيطان من نبي وأبنائه، ويسلطه عليه هذا التسليط العظيم" ([34])
وسنتحدث عن جوانب الضعف في قصة أيوب عليه السلام والدخيل فيها، في الصفحات القادمة، من خلال رواية الإمام الطبري إن شاء الله تعالى.
المبحث الثاني: التأويلات البعيدة في قصة أيوب عليه السلام
وهي التأويلات التي حاول بعض المفسرين الفرار بها من الإسرائيليات الدخيلة على القصة.
فرأى أولئك تفسير قصة أيوب تفسيرا يبعد القصة عن الإسرائيليات التي حيكت حولها، كرد فعل اتجاه من فسرها بالروايات الإسرائيلية من المفسرين والقصاص؛ فحملوا الآيات ما لا تحتمل:
ففسروا قوله تعالى: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}: إعراض الناس واستهزاؤهم بالدعوة والداعين؛ فإن ذلك من عمل الشيطان، فشكوى الأنبياء لم تكن إلا بسبب إعراض أممهم عن الاستجابة، وحزنهم لم يكن إلا بسبب بط ء في سير الدعوة، واستدل بقوله تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل :127)
أما قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} فالمراد بـ {ارْكُضْ} عقد العزيمة وتأكيدها، واستتمام الثقة وإكمالها؛ وذلك لأن الشكوى تشعر بالوهن وعدم القوة في السير إلى الغاية لذلك، هذا ما كان من جواب تلك الشكاية" ([35])
أما قوله تعالى: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} فلما كان تردد المرء في غايته، ووهن عزيمته مرضا يضايق الصدور. كان عقد العزيمة واستكمال الثقة غسلا للروح من صدئها، وشفاء للنفس من مرضها، فالمراد من المغتسل هو عقد العزيمة، واستكمال الثقة، وهنا يكون اسم الإشارة راجعا إلى الركض بالرجل التي هي كناية عن عقد العزيمة" ([36])
وأما قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} فأولها بعضهم ب: هدينا أهله فأمنوا به واستجابوا لدعوته، وهدينا له مثلهم من غير أهله، فالهبة هنا هي الهداية والإرشاد، لا هبة الخلق؛ لأن ما يهتم به الأنبياء هو أن يهدي الله بهم لا أن يولد لهم.
وقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} فسروها: أي لا ترفع في وجوه قومك رمحا، ولا عصا، ولا تغلظ لهم في القول، بل لوح في وجوههم الرياحين، ولا تأثم بالغلظة"([37])
وهناك تأويل آخر قال به بعض المفسرين: حيث أولوا المغتسل البارد والشراب في قصة أيوب بأنه الوحي "الذي انزله الله عليه، وهداه إلى العمل به"، فهو الذي يغسل الأوضار والأدران ([38]) ، وهو "المغتسل البارد والشراب". وحجته في ذلك أن "القرآن كثيرا ما يكني عن الوحي بالماء والمطر؛ ولا شك أن كلام الله هو العلاج لكل داء، والدواء لكل مرض" ([39]) .
كما فسر هذا المفسر قوله تعالى: {وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} تفسيرا بعيدا؛ فقد فسر الأهل هنا بأنهم "أتباعه في الدين" ([40]) .
أقول:
وهذه التأويلات -كما نرى -بعيدة كل البعد عن مدلول اللفظ القرآني، ولا يصح أن نحمل الألفاظ ما لا تحتمل، وليس مبررا صحيحا لكي نبعد النص القرآني عن الإسرائيليات أن نقع بهذا التحريف الكبير له ؟! فكيف يفسر الماء البارد بكلام الله ؟! والأصل في الكلام العربي أن يحمل على الحقيقة إلا إذا جاءت قرينة تصرفه من الحقيقة إلى المجاز. . .. ولا قرينة ثمة هنا.
والأصل في الأهل أنهم أهل الرجل؛ جاء في اللغة: أهل فلان يأهل ويأهل أهولا أي تزوج، والأهل: الأقارب والعشيرة والزوجة ([41]) . فتفسير أهله في الآية بأنهم أتباعه في الدين تأويل بعيد، يخالف اللغة؛ فلا يقبل.
المبحث الثالث: استخلاص الموضوعات التي أصابها الدخل في القصة.
واستخلاصا لما جاء في القسمين السابقين فإنه يمكن تقسيم ما ورد من دخيل في التفسير في قصة أيوب بمختلف رواياتها ورواتها وتأويلاتها إلى الأقسام التالية:
أولا:
سبب ما أصابه من بلاء.
ثانيا:
طبيعة البلاء الذي أصابه.
ثالثا:
مدة البلاء.
رابعا:
ما نسب إلى أيوب من الشكوى.
خامسا:
كيف شفي من مرضه.
سادسا:
كيف عوض الله عليه أهله وماله.
وهذا تفصيل لما أجمل:
أولا: ما ورد في ذكر سبب ما أصابه من بلاء
قد وردت روايات عديدة ذكرت سبب ما أصاب أيوب عليه السلام من بلاء، واغلبها يعود إلى الإسرائيليات، منها:
"أن الله تعالى أثني على أيوب في الملأ الأعلى، وتجاوبت الملائكة بذكره والصلاة عليه، وذاع صيته في الملأ الأعلى، وسمع بذلك إبليس فحسده على مكانته عند الله، وسأل الله أن يسلطه عليه؛ ليفتنه عن دينه؛ فسلطه الله..." ([42]) بل ذكر بعضهم اسم الشيطان الذي سلط على أيوب -في زعمهم -؛ فعن نوف البكالي ([43]) قال: كان (الشيطان) الذي سلط على أيوب اسمه مسوط. ([44])
الرواية الأخرى في سبب بلائه: انه كان بسبب سكوته عما كان يصنع فرعون من المنكرات؛ فقد اخرج ابن الأثير وابن عساكر عن أبي إدريس الخولاني ([45]) ؛ قال: "أجدب الشام، فكتب فرعون إلى أيوب: أن هلم إلينا؛ فإن لك عندنا سعة، فأقبل بخيله وماشيته، فأقطعهم، فدخل شعيب على فرعون، ووعظه وخوفه، وأيوب ساكت لا يتكلم، فلما خرج شعيب وأيوب، أوحى الله إلى ايوب: سكت عن فرعون لذهابك إلى أرضه؛ استعد للبلاء. وفي رواية قال ايوب: فديني؟ ([46]) قال (اي الله): أسلمه لك. قال: لا ابالي". ([47])
واخرج ابن عساكر من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس -رضي الله عنه-قال: "إنما كان ذنب ايوب انه استعان به مسكين على ظالم يدرؤه عنه، فلم يعنه، ولم يأمر بمعروف وينه الظالم عن ظلم المسكين؛ فابتلاه الله" ([48]) .
وهذه الرواية أحد رواتها هو جويبر، وهو ضعيف؛ ذكره البخاري في الضعفاء ([49]) ؛ فهي إذا رواية مردودة.
واخرج ابن عساكر عن الليث بن سعد ([50]) قال: " كان السبب الذي ابتلي فيه ايوب انه دخل أهل قريته على ملكهم، -وهو جبار من الجبابرة -، وذكر بعض ما كان من ظلمه الناس، فكلموه فأبلغوا في كلامه، ورفق ايوب في كلامه له؛ مخافة منه لزرعه، فقال الله: "اتقيت عبدا من عبادي من اجل زرعك"؟ فأنزل الله به ما انزل من البلاء". وقد اختار هذه الرواية ابن عطية والقرطبي، وذكرها السيوطي في تفسيره ([51]).
وروي الإمام احمد بسنده، عن سفيان بن عيينة ([52]) قال: "لما أصاب ايوب عليه السلام الذي أصابه أرسل إلى أصحابه؛ فقال: تدرون لأي شيء أصابني هذا؟ قالوا: أما نحن فلم يكن يظهر لنا منك شيء نعرفه إلا إن تكون أسررت شيئا ليس لنا به علم، فقاموا من عنده، وذهبوا، فلقوا إنسانا دونهم في العلم، فقال: لأي شيء دعاكم نبي الله عليه السلام؟، فأخبروه، قال: فأنا أخبره بما أصابه هذا، فأتاه فسأله، فقال: لأنك شربت شربة لم تحمد الله عليها، ولم تشكر النعمة، ولعلك استظللت في ظل لم تشكر النعمة!"([53])
هذه الروايات مردودة؛ فالرواية الأولى -رواية ابن الأثير -ليس لها دليل من الكتاب او السنة على أن إبليس تكلم مع الله تعالى. .. .؟!
وأما الروايات الباقية فلا شك ببطلانها؛ فكيف ينسب إلى نبي الله ايوب انه سكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، "والسكوت على ذلك غير مقبول من القادرين عليه، فكيف إذا كان السكوت من العلماء؟ بل كيف إذا كان من أحد الأنبياء؟" ([54]).
وأما الرواية الأخيرة عن سفيان بن عيينة: "لأنك شربت شربة لم تحمد الله عليها . . ."، فلا شك ببطلانها؛ فكيف ينسب لنبي الله انه لم يشكر النعمة ؟! ومن يشكر الله إذا لم يشكره اعلم الناس به تعالى وادراهم بواجبه؟. وهل نبي الله بحاجة إلى من يعرفه بخطئه من أمته -إن أخطأ؟!
يتبع