ابو وليد البحيرى
2018-11-02, 01:41 AM
العيوب المنهجية في سياق الروايات الحديثية عند المستشرق "مونتجمري وات" في كتابيه"محمد في مكة"،"محمد في المدينة"
د. نعمات محمد الجعفري[(*)(*)][(*)]
ملخص البحث:
لقد كان للمستشرقين يد طولي في البحث والتنقيب عن علوم الإسلام وقضاياه المختلفة على مر العصور بقصد التشويه والطعن، والتشكيك لزعزعة الصورة الناصعة للإسلام في نفوس المسلمين، والحد من إقبال غير المسلمين على اعتناقه، ومن خلال القراءة النقدية لكتابات أحد المستشرقين وهو "مونتجمري وات" حول الروايات الحديثية، في كتابيه: (محمد في مكة)، و(محمد في المدينة)، وجدت الاختلاف كبيراً بينه وبين غيره من المستشرقين في منهجية الكتابة والطرح والنتائج التي توصل لها، فقد خالفهم في كثير من النتائج وانتقدهم فيها وفند آراءهم، فنجد عمله يحظى بالتقدير التام بين العلماء المسلمين وهذا يعنى أنه موضوعي إلى حد ما.. فهو يقدر آراء المسلمين دون أن يقبلها، ومن ثم يقدره المسلمون دون مشاركته في آرائه المعارضة بالضرورة.
إن نظرة "وات" الإيجابية تجاه بعض الأحداث والقضايا التاريخية التي تتناولها الروايات، التي يفند بها ادعاءات بعض المستشرقين يخالطها كثير من الأحكام المضطربة والمشوشة والمغالطات الجريئة، وقد بني "وات" على المقدمات الخاطئة التي لم يبذل جهداً كافياً للتثبت من سلامتها العديد من النتائج التي تحتاج إلى مراجعة جذرية حتى تسلم له نتائجه، وهذه تعد من أهم أخطائه المنهجية. ويبدو "وات" على مستوى تقنية البحث متفوقا بمعنى الكلمة، وهو يمتلك أداة البحث ومستلزماته، ويعتمد أسلوباً نقدياً مقارناً يثير الإعجاب، ولكنه في الوقت ذاته يدس السم في العسل.
المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله.
إن من أهم المهمات وأوجب الواجبات على طالب علم الحديث الذب عن السنة المطهرة ومن يريد النيل منها أو النيل من رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولذا تصدى كثير من علماء السنة ينافحون بأقلامهم وأقوالهم الطاعنين في السنة الشريفة من الملاحدة، والعلمانيين، والمستشرقين الغربيين، ومن هم من أبناء جلدة الإسلام، ولقد كان للمستشرقين يد طولي في البحث والتنقيب عن علوم الإسلام وقضاياه المختلفة على مر العصور بقصد التشويه والطعن، والتشكيك لزعزعة الصورة الناصعة للإسلام في نفوس المسلمين، والحد من إقبال غير المسلمين لاعتناقه والدخول فيه ومن هؤلاء مونتجمري وات، ولأنني لم أقف على من تصدى له ودحض شبهه وتضليلاته المغرضة إلا مقالاً لسالم عبد الرحمن بعنوان: (قراءة نقدية في كتابات مونتجمري وات في السيرة النبوية) وهو مقال موجز لم يتناول آراء مونتجمري وات بالتحليل والنقد الدقيق، والتفصيل في منهج "وات" في تناول الروايات الحديثة.
فقد رأيت القيام ببحث يتناول العيوب المنهجية في سياق الروايات الحديثة عند المستشرق مونتجمري واخترت كتابيه: "محمد في مكة"، و"محمد في المدينة" ليكونا محل البحث.
أما سبب اختيار كتابات هذا المستشرق دون غيره من المستشرقين، فلوجود اختلاف كبير بينه وبينهم في منهجية الكتابة والطرح والنتائج التي توصل لها، فقد خالفهم في كثير من النتائج، وانتقدهم فيها، وفند آراءهم، فعلى الرغم من أن (وات) يستند في معلوماته بشكل أساسي إلى المستشرقين البريطانيين والأوربيين في القرن التاسع عشر من "جولد تسيهر" إلى "موير" وعلى الرغم من أن النتائج بعينها تتعلق بالرسول الكريم لا تختلف اختلافاً جوهرياً عن تلك التي توصل إليها سائر المستشرقين، نجد عمله يحظى بالتقدير التام بين العلماء المسلمين: مما يبرهن على أن المستشرق لا يلزمه أن يعتنق الإسلام كي يصير معروفا عند العالم الإسلامي عالما جادا مقبولا.
ومع ذلك نجد (وات) ينتقد الإسلام بصفته عالما مسيحيا عقلانيا، وهو ينتقد رفاقه في ذات الوقت، وهذا يعنى أنه موضوعي إلى حد ما .. فهو يقدر آراء المسلمين دون أن يقبلها، ومن ثم يقدره المسلمون دون مشاركته في آرائه المعارضة بالضرورة.
وقد نهجت في البحث المنهج التالي:
1- التركيز على القضايا الرئيسية التي ركز عليها "وات" في كتابيه، دون الدخول في التفاصيل الدقيقة خشية طول البحث.
2- عدم الاقتصار على تناول النقاط التي تمثل – من وجهة نظري – الجانب السلبي في كتابات "وات" في السيرة، بل أبرزت بعض الجوانب الإيجابية في هذه الكتابات.
3- الأخذ بعين الاعتبار أن كاتب البحث ليس مسلماً، فلم أتعمق في الردود وأحاكمه بمعايير الإسلام الدقيقة، اقتصرت – في الغالب – على نقض كلامه بالظاهر من الأدلة، أو بيان تناقضه، وانتقاء المنهجية في أسلوبه.
4- عدم الاستقصاء في الرد عليه ودحض أرائه، اكتفيت في نقده بأبرز الردود وأظهرها.
5- الاقتصار على الأحداث والقضايا التي لها تعلق بالرواية الحديثية، ولم أتناول غيرها إلا في أضيق الحدود، وفي مجال خدمة البحث في نواح معينة.
ومن الصعوبات التي واجهتني في إعداد البحث:
ضيق الوقت بحيث لم يسعني تناول كل ما أثاره "وات" حول الرسول صلى الله عليه وسلم وتحليلاته للقضايا.
أسلوب اللف والدوران والالتواء في التحليل الذي استخدمه "وات" يحتاج إلى فحص دقيق، ورجوع إلى مصادر السيرة والروايات المختلفة في الموضوع الواحد، للموازنة، ونقده بأسلوب علمي يسنده الدليل.
تداخل العيوب المنهجية في التحليل الواحد لــ "وات" جعلت من العسير فصلها عن بعض، ولكنى قدر الإمكان وزعت الأحداث والقضايا على العيب أو المنهج الأظهر الذي سلكه فيه، كما تناولت الحادثة الواحدة في أكثر من مبحث للنظر فيها من زوايا مختلفة.
والافتراضات كثيرة، والأقوال والتحليلات الشاذة والضعيفة منبثة في مواضع شتى من كتابه، لن يتسع الوقت لمناقشتها، فاقتصرت على أبرز المغالطات والتجاوزات لتعطينا صورة واضحة عما تحمل ثنايا كتبه من فكر تضليلي، وتجاوزات خطيرة، ومغالطات جريئة.
وقد قسمت البحث إلى تمهيد وفصلين وخاتمة.
اشتمل التمهيد على ترجمة موجزة لـــ "مونتجمري وات".
الفصل الأول: تعامل "وات" مع الروايات، فيه مباحث:
المبحث الأول: التلاعب في الألفاظ، وفيه مطالب:
المطلب الأول: انتقائية الروايات ذات الألفاظ التي توافق افتراضاته.
المطلب الثاني: الجزم بأحد احتمالات لفظ الرواية، وتجاهل الاحتمالات الأخرى.
المطلب الثالث: صرف ألفاظ الروايات عن ظاهرها، وتحميل اللفظ ما لا يحتمله.
المبحث الثاني: رد الروايات، وفيه مطالب:
المطلب الأول: الحكم بنشوء الروايات من قبل المتأخرين، لتتفق مع مفاهيم وصور بعدية سامية.
المطلب الثاني: الحكم بنشوء الروايات وتسجيلها من قبل المتأخرين، لأغراض واعتبارات شخصية.
المبحث الثالث: موقفه من الأسانيد.
المبحث الرابع: تبني الضعيف والشاذ والمكذوب من الروايات.
الفصل الثاني: خلاصة منهج "مونتجمري وات"، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: إضاءات على الجوانب الايجابية في كتابات "وات".
المبحث الثاني: العيوب المنهجية العلمية في كتابات "وات"، وفيه مطالب:
المطلب الأول: المبالغة التشكيك غير المنهجي.
المطلب الثاني: التناقض المنهجي.
المطلب الثالث: المنهج الإسقاطي.
المطلب الرابع: التعميم الفاسد.
المطلب الخامس: إهمال الأدلة المضادة.
المطلب السادس: الانتقائية في المصادر.
تمهيد: ترجمة موجزة لمونتجمري وات
مستشرق إنجليزي معاصر، قسيس، عميد قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة أدنبرة، اهتم بسيرة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو معروف لدي طلابه بتعصبه ونزعاته التنصيرية. يعد وات واحداً من أبرز أعلام المستشرقين المعاصرين في بريطانيا، وأكثرهم تنوعاً في مجال دراسته الإسلامية. وقد عمل "وات" أستاذا ورئيساً لقسم الدراسات العربية والاسلامية بجامعة أدنبرة باسكتلندا لمدة خمسة عشر عاما، حتى تقاعده 1979م، وقد قام خلالها بتدريس الإسلام: عقيدة وتاريخا وحضارة لعدة أجيال من الطلبة كثير منهم مسلمون، عرب وباكستانيون([1])
وتحظى أعماله بشهرة واسعة بين المشتغلين بالدراسات الإسلامية والعربية في الشرق والغرب على السواء، ولعل أبرز ما يلفت نظر المتتبع لأعمال "وات" أن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حظيت بتقدير متميز من اهتمامه، فقد أخرج ثلاثة كتب نشرتها له جامعة أكسفورد بإنجلترا.
كتابه الأول (محمد في مكة): يقع في مئة وست وثمانين صفحة من القطع المتوسط، منها اثنان وثلاثون صفحة مخصصة للملاحق، وهو – كما يبدو من عنوانه – يتناول الفترة المكية من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء قبل البعثة أم بعدها، مع مقدمة موجزة عن الأوضاع في مكة وشبه الجزيرة العربية قبل الإسلام.
وكتابه الثاني: (محمد في المدينة): يقع في ثلاث مئة وتسع وتسعين صفحة من القطع المتوسط، منها ثلاثة وستون صفحة مخصصة للملاحق، والكتاب دراسة شاملة لحياة الرسول في المدينة وتطور علاقة الدولة الإسلامية الناشئة بغيرها من المجتمعات داخل الجزيرة العربية وخارجها، وما قدمه الدين الجديد من إصلاحات في جميع الميادين، مع محاولة بيان بعض مواطن العظمة في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم.
أما كتابه الثالث: (محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورجل دولة): فيقع في خمس وأربعين ومائتي صفحة من القطع المتوسط، وهو يمثل خلاصة مركزة ووافية لكتابيه الأولين، مع مزيد من الالتزام بالتسلسل الزمني في تناول الأحداث.
أما مقالة عن (محمد صلى الله عليه وسلم): في تاريخ كمبردج للإسلام: فهو خلاصة الخلاصة إن صح التعبير، وقد اهتم فيه (وات) برصد الظواهر الكبرى في حياة محمد صلى الله عليه وسلم وفي دعوته، سواء قبل الهجرة أم بعدها.
من آثاره:
1- (عوامل انتشار الإسلام) (محمد في مكة) (محمد في المدينة) (اللغة العربية) (الجدل الديني) (عوامل انتشار الإسلام) (تاريخ أسبانيا الإسلامية) ([2]).
مكانته عند المستشرقين:
يري المستشرقون أن "مونتجمري وات "قسيس يجمع بين الالتزام بالمسيحية وتوثيق الصلة بالمسلمين، والاتصاف بالموضوعية في دراسته للإسلام، وقد نشرت بعض المجلات الإسلامية التي تصدر الإنجليزية في لندن مقالا عن هذا المستشرق بعنوان (المسيحي ذو التعاطف الغير العادي مع الإسلام)، ويحاول المقال أن يظهر الستشرق على انه استثناء مشرف من القاعدة العامة، وهي تعصب المستشرقين ضد الإسلام، ويدعي المقال أن من بين تلاميذه (شيخ الأزهر) سابق، ولكن لا يذكر اسمه، لأن الهدف الأساس التهويل من شأن هذا المستشرق وأستاذيته، حتى لأستاذة المسلمين، ويزعم المقال أن نتائج جهوده وإسهاماته قد أصبحت لا يستغني عنها في فهم التاريخ الإسلامي([3]).
وسيتضح لنا في هذا البحث أن هذا الوصف لهذا المستشرق إنما هو خداع وتضليل للمسلمين، قصد به إخفاء حقيقة الاستشراق وأهدافه الهدامة، ومخططاته المغرضة ضد الإسلام والمسلمين، فالمستشرقون ليس بينهم منصف أو موضوعي، وجميعهم ملة واحدة، وإن تفاوتوا في التعصب، يهدفون إلى غاية واحدة.
الفصل الأول
منهجية وات في التعامل مع الروايات والنصوص الحديثية ليس من اليسير في بحث كهذا أن نتقصى كل مسائل الخلاف التي تثيرها كتابات "وات" في السيرة، فمن الطبيعي أن تقتصر على عرض ومناقشة أهم القضايا الأساسية، التي نصل معها إلى الإجابة على بعض الأسئلة فتستطيع من خلالها الحكم على منهج الباحث والتزامه بأسس البحث العلمي وتفاديه لعيوبه، ومدى صدق وموضوعية ودقة النتائج التي توصل إليها والأسئلة هي:
هل التزم وات بالمنهج الذي رسمه؟ هل انطبقت على كتاباته شروط البحث العلمي؟
هل اعتمد على المصادر المتخصصة أم انتقي المصادر التي توافق نتائجه؟ هل بني نتائجه على أسس علمية، وأدلة قطعية أم بناها على ضرب من الخيال والفرضيات؟
هل استخدم مبدأ تعميم الفكرة بعد الاستقراء الكامل للجزئيات. أم يعم الفكرة من تحليله لجزئية واحدة؟ هل قرأ الروايات الحديثية في سياقها العام, أم اقتطع منها ما يريد من دلالات ؟ هل جمع المعلومات من مظانها في مصادرها أم أخذ من كل مصدر ما يخدم نتيجته ؟ هل قبل الروايات المسلم بها تاريخياً وتشريعياً؟ وهل رده مبني على أدلة وبراهين علمية وتاريخية ؟ هل تعامل مع النصوص بموضوعية ؟ أم تعسف في فهمها لإثبات مقدماته وفرضياته ؟ هل عالج وفحص الأدلة المضادة أم أنه أهملها وتجاهلها؟ هل وازن بين الروايات المختلفة في موضوع واحد ورجح بينها على أسس تاريخية وعلمية ؟
المبحث الأول
التلاعب بألفاظ الروايات
إن تناول "وات" لألفاظ الروايات يدل على أن هذا الباحث ينتهج منهجاً بعيداً كل البعد عن الموضوعية والإنصاف العلمي, إنه ينتقي من الروايات ذات الألفاظ التي تتواءم مع أفكاره وتخميناته، ويهمل غيرها من غير دليل علمي أو شرعي يستند إليه أو مبرر عقلي مقبول، وإذا لم يتسن له الانتقاء تلاعب في مضمون اللفظ، وحمله ما لا يحتمله من الدلالات والمضامين التي توافق افتراضاته، أو تكلف وتعسف في تفسير اللفظ ليتسق مع المعنى إلى يرمي إليه.
المطلب الأول
انتقائية الروايات ذات الألفاظ التي توافق افتراضاته
انتقي "وات" من الروايات الخاصة ببدء الوحي والأمر بالقراءة، الرواية بلفظ: "أتاه جبريل فقال له: اقرأ, فقال له محمد صلى الله عليه وسلم: ما اقرأ ؟ والرواية عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، كانت تجيء مثل فلق الصبح .... فقال: يا محمد، أنا جبريل، وأنت رسول الله، ثم قال: اقرأ، قلت: ما اقرأ ؟"([4]) ويروى: ماذا أقرأ ؟ فهو يرى أن "ما" في قوله "ما أقرأ" استفهامية وليست نافية([5])، مع أن قصة الوحي وردت بألفاظ مختلفة، منها: رواية البخاري من طريق ابن شهاب أن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يلحق بغار حراء، فيتحنث فيه، قال:- والتحنث التعبد الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود بمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال اقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: أقرأ،قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال:أقرأ، قلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني.." ([6]).
إنه بانتقائه هذه الرواية واعتماده عليها دون سواها من الروايات؛ وسيلة مغرضة ليثبت المقدمة التي افترضها، وهي نفي أمية الرسول صلى الله عليه وسلم، واستدل بهذه الرواية ليصل إلى النتيجة التي يرمي إليها، وهي أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد تعلم على يد ورقة بن نوفل وغيره، وبذلك فإن الدين مستمد من أصول نصرانية مسيحية، أما بالنسبة للروايات الأخرى في هذا الحديث: فسنرى كيف يتعامل معها في المباحث الأخرى.
كما ترجم "وات" ما رواه الطبري بسنده إلى الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، في كيفية بدء الوحي، وقسم هذه الرواية إلى فقرات، أعطى كل فقرة منها حرفاً، ثم نقل ما رواه بالسند نفسه عن فترة الوحي، وفعل الشيء نفسه. ثم بدأ بتعليقاته بقوله:(لا توجد أسباب جيده للشك في المسألة الأساسية وهي أن تجربة محمد النبوية بدأت بالرؤيا الصادقة) ثم قال: (هذا شيء مختلف جداً عن الرؤيا المنامية، وهذا خطأ لا شك فيه؛ لأن الرؤيا الصادقة هي الرؤيا المنامية، ومن الأدلة القاطعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)، ثم قال: (إن تفسير المسلمين المعتاد لهذا هو أن الرؤى هنا هي رؤية النبي لجبريل، ولكن هناك أسباب تدعو للقول: بأن محمداً فسر في بداية ما رآه بأنه الله، وهذه الأسباب هي:
أنه لم يرد ذكر جبريل في القرآن إلا في العهد المدني.
أنه الذي يدل عليه السياق، إذ بغيره تكون العبارة ركيكة.
وأن عبارة "فجاءه الحق" تؤيد ذلك؛ إذ أن الحق أحد الطرق التي يشار بها إلى الله.
وفي بعض روايات حديث الطبري عن جابر: "سمعت صوتاً يناديني، فنظرت حولي فلم أر أحدا، فرفعت رأسي، فإذا هو جالس على العرش([7]).
نرد على وات فنقول:
1- إن "وات" خلط بين ثلاثة أمور، هي: الرؤيا المنامية التي سبقت الوحي، ورؤيا جبريل وهو ينزل بإقرأ، ورؤيا جبريل على صورته الحقيقية، فزعم أن الرؤيا الصادقة ليست رؤيا منام، ثم فسره هذه الرؤيا المشار إليها في سورة النجم، ثم زعم أن المقصود بما رآه محمد هو الله تعالى، ثم ذهب يتحمل لذلك بعض الأسباب. إن "وات" يريد أن يفهم من كلمة الروح ما تفهم النصارى من هذه الكلمة بأن المقصود هو الله، لكن هذا المعنى تأباه اللغة العربية، ويأباه سياق الآيات القرآنية، فالمعنى اللغوي لكلمة الروح هو: ما به تكون الحياة، ولم يرد في الآيات القرآنية أن الروح اسم من أسماء الله تعالى أو وصفاً من صفاته، ثم لنفترض أنه لم يرد ذكر لجبريل في السور المكية فكيف يكون هذا دليلاً على أن ما رآه محمد صلى الله عليه وسلم في بدء الوحي لم يكن جبريل إذا كان محمد نفسه يقول أن ما رآه كان جبريل([8]).
2- أن رواية جابر قد ورد فيها التصريح بأن الذي ناداه هو جبريل، ولفظ الرواية قوله صلى الله عليه وسلم "جاورت بحراء شهراً، فلما قضيت جواري نزلت فاستنبطت بطن الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي، فلم أر أحداً، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء، يعني جبريل عليه السلام، فأخذتني رجفة شديدة، فأتيت خديجة فقلت دثروني، فدثروني، فصبوا علي ماءً، فأنزل الله عز وجل.." ([9]).
3- أن المقصود بالحق في هذا الحديث هو: الحق الذي جاء به الملك وهو القرآن، أو هو البشارة بأنه رسول الله، ويؤيد هذا التفسير رواية البخاري التي تقول: "حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك، فقال اقرأ، قال: ما أنا بقارئ"([10]).
4- إن المنهج العلمي يقتضي أن يجمع الإنسان الروايات الخاصة بموضوعه، ثم ينظر فيها، فيختار أصحها سنداً ومتناً، ثم يجمع بين ما جاء فيها ما أمكنه ذلك، لأن الروايات في الغالب يكمل بعضها بعضاً، لكن "وات" نظر في الروايات المختلفة، وتخير منها ما يراه أقرب إلى موافقة هواه، ولذلك كان أمره مضطرباً، فمره يأخذ من الطبري ويدع ابن هشام، وأخرى يأخذ من البخاري ويدع الطبري، وثالثة يختار من البخاري رواية ويترك أخرى، والحقيقة مما يبدو أنه إنما اختار روايات الزهري التي في الطبري؛ لأنه لا ذكر في أولها للملك، والدليل على ذلك أنه ترك رواياته التي في صحيح البخاري وغيره، والتي فيها ذكر الملك، ثم عندما ذهب للبخاري أخذ حديثاً رواه الزهري عن أبي سلمة، عن جابر، وترك أحاديث كثيرة رواها بسنده عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر. وذلك لأن أحاديث الزهري هناك فيها ذكر الملك ([11]) فمنها حديث يقول: "عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجئت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت أهلي, فقلت: زملوني زملوني, فزملوني, فأنزل الله تعالي: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ ([12])
إن الانتقائية المرفوضة في منهج البحث العلمي التي سلكها "وات" في كتابه ليست إلا ليصل إلى نتيجة اعتقدها ويريد تقديرها، وهي التشكيك في أن القران وحي من الله. إن الذي يريد أن يصل إليه "وات" من كل تلك المحاولات والتحريفات هو: أن القران ليس كلاماً أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من الله أو بوساطة ملك، إنما هو شيء نابع من نفسه وتفكيره وعقله.
المطلب الثاني
الجزم بأحد احتمالات لفظ الرواية
وتجاهل الاحتمالات الأخرى
إن"وات" في تفسيره للفظ :ما أقرأ ؟" "ماذا أقرأ ؟" في قصة بدء الوحي أنها على الاستفهام عن القراءة من نص مكتوب، هذا أحد احتمالات اللفظ، ولكن هناك احتمال أرجح أن المراد "التلاوة" أي ماذا "أتل" وخاصة إذا جمعنا ألفاظ الروايات مع بعضها لنخلص إلى نتيجة أساسية وهي أن هذه الألفاظ "ما أقرأ ؟ ماذا أقرأ ؟ ما أنا بقارئ ؟" لا تفيد إلا النفي في مجال القدرة على القراءة والكتابة بالمفهوم الذي يقصده "وات".
المطلب الثالث
صرف ألفاظ الروايات عن ظاهرها
وتحميل اللفظ ما لا يتحمله
يتضح ذلك جلياً في تلاعبه بألفاظ رواية سرية نخلة التي تحتل أهمية خاصة في تاريخ الإسلام، حيث أريق فيها أول دم في تاريخ العلاقات بين المسلمين والمشركين بعد الهجرة؛ ولأنها إحدى المقدمات الأساسية لغزوة بدر، ونص الرواية كما ورد في كتب السير "وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحداً وهم سبعة، ثامنهم: أميرهم عبد الله بن جحش رضى الله عنه، وكتب له كتاباً، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً، فلما سار بهم يومين فتح الكتاب فإذا فيه:{ إذا نظرت في كتابي فأمض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشاً، وتعلم لنا من أخبارهم}. فلما نظر في الكتاب قال: سمعاً وطاعة، وأخبر أصحابه بما في الكتاب وقال: قد نهاني أن أستكره أحداً منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى ومضى معه أصحابه، لم يتخلف منهم أحد، وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له: بحران، أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه، حتى نزل نخلة، فمرت غير لقريش فيها عمرو بن الحضرمي، قال ابن هشام: واسم الحضرمي عبد الله بن عباد، وعثمان ابن عبد الله بن المغيرة المخزومي، وأخوه نوفل، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة، فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريباً منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه فلما رأوه أمنوا، وقال عمار: لا بأس عليكم منهم، وتشاور الصحابة فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقالوا: والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرام، فليمتنعن به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرم، فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل ما قدروا عليه منهم، وأخذا ما معهم فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش، وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر بعض أل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما غنمنا الخمس فعزله، وقسم الباقي بين أصحابه وذلك قبل أن ينزل الخمس، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام} فوقف العير والأسيرين، وأبي أن يأخذ من ذلك شيئاً، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان، وقالت يهود: تفائل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله عمرو: عمرت الحرب فجعل الله ذلك عليهم، لا لهم. فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل ِوَلاَيَزَالُون َ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} فلما نزل القرآن بهذا الأمر، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين وبعثت قريش في فداء عثمان، والحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم (( لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا)) يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان ((فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبكما)) فقدم سعد وعتبة فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما الحكم بن كيسان فأسلم، فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيداً، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافراً"([13]).
يحلل "وات ألفاظ هذه الرواية فيقول: (والشيء الثاني حسب الروايات الأخرى: أن يرفع عبد الله بن جحش تقريراً لمحمد، وهذه إضافة لاحقة تحاول أن تجعل لكلمة "ترصدوا" بمعنى "راقبوا" بدلا من أن "ينصب كمينا" وهكذا ترفع المسؤولية عن محمد بسبب أي معركة دموية، ومما لا شك فيه: أن محمد أمر بالقيام بهذه المهمة مع علمه بأنها ربما تؤدي إلى سقوط القتلى من رجاله أو من رجال أعدائه، ثم تظاهر بأنه لا يريد ذلك) ([14]). إنه يتصرف في الألفاظ حسبما تملي عليه افتراضاته، فلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم "ترصدوا" ظاهر في معنى الترقب، فلماذا يصرف اللفظ عن ظاهره؟ وما الدليل على صرفه لمعنى آخر وهو "نصب الكمين"؟.
لقد أناط الرسول صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن جحش في هذا الكتاب مهمة محددة، وهي "الترصيد لقريش" والترصد هو الترقب كما فسره أهل اللغة([15])، ثم فسرت هذه الكلمة الجملة التالية وهي "وتعلم لنا من أخبارهم" معنى الترصد، لكنه يفسرها على أنها إعداد كمين للهجوم على القافلة، وعندما وجد الجملة التالية لا تتواءم مع المعنى حكم عليها بأنها من إضافة المتأخرين، قصد بها إعطاء الترصد معنى الترقب، بدلاً من إعداد الكمين.
نلحظ من ذلك أن "وات" يجمع بين أكثر من عيب من عيوب المنهجية العلمية، فهو يفسر الألفاظ بخلاف ظاهرها بمعاني تتفق مع نتائجه، والألفاظ التي تخالف نتائجه يصدر عليها حكماً بالنشوء والوضع دون دليل.
إنه يريد بذلك الوصول إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد القتال في الشهر الحرام، ثم تظاهر بعدم إرادته ذلك.
المطلب الرابع
التعسف في فهم ألفاظ النصوص
ومن ذلك: الرواية التي قرر من خلالها وجود انشقاق بين المسلمين وأن ذلك كان هو الدافع الحقيقي وراء هجرة المسلمين إلى الحبشة، وقد خرج بهذه النتيجة بناء على فهمه الخاطئ للرواية التالية التي استنتج منها أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه انضم بعد إسلامه لجماعة أبي بكر؛ لأنه كان سيء الرأي في عثمان بن مظعون، وقد أعرب عن سوء ظنه عندما مات عثمان على فراشه ولم يستشهد في ساحة الجهاد، فكانت هذه الملاحظة من عمر- كما يزعم "وات" – تعبيرا عن عدائه للشخص الذي تزعم الحزب المعارض لحزب أبي بكر([16]).
والنص الكامل للرواية يقول: (أخبرنا محمد بن عمر قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: لما توفي عثمان بن مظعون وفاة لم يقتل، هبط من نفسي هبطة ضخمة، فقلت: انظروا هذا الذي كان أشدنا تخلياً من الدنيا ثم مات ولم يقتل، فلم يزل عثمان بتلك المنزلة من نفسي، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ويك إن خيارنا يموتون، ثم توفي أبو بكر فقلت: ويك إن خيارنا يموتون، فرجع عثمان في نفسي إلى المنزلة التي كان بها قبل ذلك"([17]).
الواضح تمام من هذا النص: أن عمر رضى الله عنه لم يكن سيء الرأي في عثمان بن مظعون فترة حياة عثمان، بل على العكس، فاللفظ "هبط من نفسي هبطة" يدل على أن له مكانة كبيرة في نفسه، ثم هبطت هذه المكانة؛ لأنه مات على فراشه دون أن يستشهد، لكن بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رجع عثمان رضى الله عنه إلى مكانته الرفيعة في نفس عمر رضي الله عنه، فالعبارة دالة واللفظ ظاهر فيما كان يتمتع به عثمان من مكانة في نفس عمر، لكن "وات" يلوي عنق النص، ويتعسف في فهم اللفظ، ويستنطق النص بما لم ينطق به حتى يستخلص من عداء عمر لعثمان بن مظعون، لأنه زعيم جماعة تعارض أبا بكر.
المبحث الثاني
رد الروايات والحكم عليها بالنشوء
اعتمد "وات" رفض الكثير من الروايات عند عدم اتساقها مع مقدماته وفرضياته وبالتالي مناقضتها للنتائج والحقائق التي يريد التوصل إليها، عن طريق الحكم على المتأخرين بوضعها وإدخالها؛ لتتفق هذه الروايات مع مفاهيم وأفكار لاحقة، أو أنها اختلفت تبعاً لاعتبارات شخصية ونفسية.
ونلحظ أن "وات" في كتابيه "محمد في مكة" و"محمد في المدينة" قد أكثر من الاعتماد على هذه المقولة للتخلص من أي عقبة تعترض آراءه وتحليلاته المبنية على خياله وتخمينه فقط. ولو كانت هذه العشوائية والتخبط في إطلاق الأحكام مشروعة للباحث دون قيود، لحق لكل باحث أن يفرض آراءه ونتائجه بنفس هذه المنهجية، وبالتالي لا تبقي لنا حقيقة تاريخية. وبسبر الروايات التي حكم عليها "وات" بالنشوء نجد أن حكمه يرجع لسببين، فإما أن المتأخرين أدخلوها:
1- لتتفق الرواية مع مفاهيم لاحقة، وصور بعدية، ودلالات سامية.
2- لتخدم الرواية أغراضاً واعتبارات شخصية ونفسية.
المطلب الأول
الحكم بنشوء الروايات من قبل المتأخرين، لتتفق مع مفاهيم
وصور بعدية ودلالات سامية
وفي هذا يقول: "يبدو ذلك صحيحاً وإن سجل فيما بعد ليتفق مع أفكار لاحقة"([18]).
1- الاتهام بوضع الرواية لتحمل دلالة سامية عن الإسلام:
ومن أمثلة ذلك:
1- حكمه على الرواية في أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بغار حراء التي بلفظ "ما أنا بقارئ" بالنشوء، فيقول: (إن هذه الرواية هي من اختراع المتأخرين، وهم قد فعلوا ذلك_ على حد رأيه_ ليلتمسوا تأييداً للاعتقاد بأن محمداً كان لا يستطيع القراءة والكتابة باعتبار ذلك عنصراً مهماً من عناصر التدليل على طبيعة المعجزة القرآنية) ([19]) ويكرر هذا الادعاء في موضع آخر فيقول: (وهكذا نجد في قصة دعوة محمد أنه قال:"ما أقرأ ؟" وهذا يعني إما أنه لا يعرف القراءة أو "ماذا يقرأ ؟" وربما كان المعنى الأخير هو المعنى الأصلي، غير أن بعض الفقهاء المتأخرين ألحوا على عجز محمد عن القراءة كتأكيد لعقيدة إعجاز القرآن؛ ولذلك نجد روايات تبدلت فيها الكلمات ليعني قوله: "لا أستطيع القراءة" (ما أنا بقارئ)، وهكذا استغلت القصة لتأييد نظرة فقهية, كما استغلها فقها آخرون في اتجاه آخر بإحلال "ماذا" محل "ما" فيعني قوله عندئذ:" ماذا أقرأ")([20])
مع العلم بأن البخاري قد أخرج هذه الرواية في صحيحه، فهو بذلك يخالف منهجه الذي رسمه باعتباره صحيح البخاري منهجاً معتمداً من الناحية الحديثية، بينما ينتقي من الروايات فيه ما يوافق نتائجه، ويحكم على الأخرى بالاختلاق دون دليل أو برهان علمي أو منطقي.
ولنا أن نتساءل بأنه إذا كانت أسهل طريقة للتخلص من الروايات التي تناقض مقدماته وافتراضاته الحكم عليها بالنشوء والاختلاق، فكيف سيتعامل مع النص القرآني القاطع في هذا المجال: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }([21])، وهو الذي التزم في مقدمته بالتسليم وقبول القرآن.
إن كل هذه الافتراضان ما هي إلا إفراز لظنون جاهلية غير قادرة على تصور نزول وحي مستقل جديد من السماء، وأن هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم موروثا من أصول مسيحية ونصرانية، ولكن كيف يستطيع إثبات هذه النتيجة التي تبناها هو وأمثاله من المستشرقين؟
لا سبيل له إلى ذلك إلا بالإشارة إلى اتصال محمد صلى الله عليه وسلم بورقة بن نوفل، فيواصل افتراضاته لتقرير نتيجة تلك، فيقول: (يبدو أن ورقة من بين الذين اتصل بهم محمد لسبب معرفته بكتب المسيحية المقدسة... ومن الأفضل: الافتراض بأن محمدا كان قد عقد صلات مستمرة مع ورقة منذ وقت مبكر، وتعلم أشياء كثيرة، وقد تأثرت التعاليم الإسلامية اللاحقة كثيراً بأفكار ورقة، وهذا ما يعود بنا إلى طرح مشكلة العلاقة بين الوحي الذي نزل على محمد والوحي السابق له) ([22]).
وذلك كله لا يتأتى مع كون الرسول صلى الله عليه وسلم أمياً، فلابد من التلاعب بالنصوص والروايات؛ ليثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم القراءة والكتابة، فيصل النتيجة التي يرمي إليها.
وهذه النتيجة التي يريد التوصل إليها من خلال عرض عدة مقدمات وافتراضات بني بعضها على بعض، نفاها القرآن نفياً قاطعاً، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَم أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمهُ بَشَر لِسَان الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ مُبِين}([23]).
2- يميل "وات" إلى قبول رواية واحدة من الروايات الخاصة بأسبق الناس إسلاماً بعد خديجة رضى الله عنه، حيث يدور الخلاف على الروايات حول ثلاثة بالتحديد، وهم: أبو بكر، زيد بن حارثة، وعلي بن أبي طالب([24])، وهناك رأي توفيقي مؤداه أن أبا بكر رضى الله عنه كان أول من أسلم من الرجال الأحرار، وزيد بن حارثة من الموالي، وعلى من الصبيان([25]).وهذا الرأي لا يقطع بأن واحداً من هؤلاء الثلاثة كان أسبق إسلاماً.
قبل "وات" الرواية المتعلقة بزيد بن حارثة وهو يبني وجهة نظره على أساس أن زيداً كان مولى محمد صلى الله عليه وسلم، وكان هناك ارتباط قوي بينهما([26]).إن موضع الاعتراض ليس في قبول "وات" رواية وترجيحها دون أخرى إذا كانت قائمة على وجهة نظر ومنطق سليم، وإنما الاعتراض هو ما يدعيه "وات" (من أن أبا بكر يحظى بمزيد من الاهتمام في المصادر؛ لأنه منذ هجرة الحبشة أصبح أهم شخصية بعد محمد، فكانت لتلك الأهمية انعكاساتها على الروايات المبكرة، أما زيد فإن مكانته المتواضعة جعلت إسلامه أقل أهمية من إسلام أبي بكر) ([27]). إنه يطلق اتهاماً صريحاً بأن المؤرخين وأصحاب المصادر يقلبون الحقائق ويزورونها تبعا للصور البعدية واللاحقة.
من المعلوم ومما لا يختلف عليه: مكانة أبي بكر رضى الله عنه ومنزلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وملازمته وصداقته له قبل بعثته، وقد سمي الصديق لسرعة تصديقه للرسول فيما يخبره، فما الغرابة في نسبة الروايات له السبق إلى الإسلام؟ وما الداعي لافتراض نسبة الروايات سبقه للإسلام لارتفاع مكانته لاحقا؟ وما المعيار الدقيق الذي وزن به "وات" مكانة أبي بكر من الرسول صلى الله عليه وسلم سابقاً ولاحقاً ؟ إن "وات" تجاهل المكانة العالية التي كان يحظى بها أبو بكر رضى الله عنه، والتضحيات التي قدمها للإسلام منذ فجر إسلامه، فهو الذي بذل ماله لعتق العبيد الذين كانت تعذبهم قريش، وهو الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: "إن أمن الناس علي في صحبته وماله: أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر"([28]).
كما شكك في نسبة الروايات أسبقية الإسلام لعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن وقاص، وطلحة بن عبيد الله، لأنه يشك في الرواية التي تقرر أن عمر رشح عند وفاته هؤلاء الخمسة ومعهم علي بن أبي طالب رضى الله عنه ليحسموا مسألة الخلافة من بعده، ويستبعد "وات" إمكان أن يأتي هؤلاء الخمسة أنفسهم مجتمعين إلى محمد في أوائل البعثة ليعلنوا قبولهم للإسلام([29]).
إن النتيجة التي توصل لها "وات" من أن مصادرنا نسبت لهؤلاء الأسبقية بالإسلام لأهميتهم اللاحقة لا تستند إلى دليل عملي، ولا قرينة مقبولة تسمح له بالتضحية بحقائق تاريخية ثابتة ويضرب بها عرض الحائط. كما أن "وات" قد غفل عن حقيقة هامة، وهي أن مكانة الشخص اللاحقة لا تنبني من فراغ، إن المكانة الاجتماعية للشخص لا تتكون إلا بعد سلسلة من الإنجازات والأعمال والنجاحات التي تبلور هذه المكانة، وتكون أساساً متيناً لها، إن ترشيح عمر رضى الله عنه لهؤلاء الخمسة ومنحهم هذه المكانة والميزة قرار اتخذه عمر رضى الله عنه بناء على علم ومعرفة بإنجازاتهم وأعمالهم وتضحياتهم للإسلام والمسلمين، فسيرتهم السابقة المشرفة وسبقهم للإسلام، وبلاؤهم فيه بلاء حسنا: هو الذي جسد لهم تلك المكانة اللاحقة. ومن هذا قوله: (لم تحدث ردة- إذن- بل وقع عدم ولاء سياسي، أمام الوفود من جميع القبائل واعتناقها للإسلام فهذه اختراعات تقية؛ لتمجيد نجاح محمد، وربما للتقليل من شأن أبي بكر([30]).
وخلاصة القول: إنه إذا كانت هناك روايات تشهد لأبي بكر بالسبق على الإسلام فإن هناك روايات أخرى تشهد لزيد بن حارثة رضى الله عنه أو لعلي رضى الله عنه بذلك، ولكل رواية وجهتها، فقد يكون نسبة السبق للإسلام لأبي بكر من الرجال، ولزيد من الموالي، ولعلي من الصبيان، ومن واجب الباحث المنصف: الجمع بين الروايات والموازنة بينها؛ للخروج بنتيجة تتوافق معها جميعاً، دون الحاجة لردها أو التشكيك فيها مع ثبوت صحتها.
2- اختلاق الروايات لتحميلها معنى إيجابياً للشخص ولنفي التهمة عنه:
يقرر "وات" هذا المفهوم في أكثر من موضع، فيقول: (ومن البديهي: أن المصادر طالما أنها تتعلق بحوادث فردية تمجد فضائل شخص إذا كانت تميل إليه، وتخفي معايبه([31]).
ومن ذلك: رده للرواية التي تشهد أن العباس بن عبد المطلب شهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية في العام 13ه، وادعاؤه أن العباسيين اختلقوا هذه الرواية تمجيداً للعباس وإبراء له من تهمة التخلي عن ابن أخيه، والرواية كما ذكرها الطبري، فيما يرويه بسنده عن كعب بن مالك: "اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلاَ، ومعنا امرأتان من نسائهم، نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بني النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي بن ثابت إحدى نساء بني سلمة وهي أم منيع، قال فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاءنا ومعه يومئذ عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا انه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلسنا كان العباس بن عبد المطلب أول متكلم فقال: يا معشر الخزرج، قال:- وكانت العرب مما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج أو سها وخزرجها- إن محمداً أمناً حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، قال: فقلنا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام، قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، قال: فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أهل الحرب، وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر....." ([32]).
يقول "وات": (لعل الحادثة التي تتصل بالعباس غير مقبولة بحذافيرها باعتبار أنها اختراع متأخر قصد به إخفاء المعاملة غير الكريمة التي لقيها محمد صلى الله عليه وسلم من بني هاشم في هذه الفترة). ويقول: (إن إقرار هذه الرواية بأن العباس كان مشركاً في ذلك الوقت لا يمكن أن يعد دليلاً علة صدقها، وعلى أنها ليست من اختراع جهاز الدعاية العباسية). ويقول: (ولما كان العباس جد العباسيين، فقد دأب الدعاة والمؤرخون العباسيون بتبييض صفحته، والقول بأن إقامته الطويلة في مكة إنما كانت بصفته جاسوساً سرياً لمحمد) ([33]).
ثم ينهي تحليله بقوله: (إن أكثر الافتراضات إقناعاً أن زيارة العباس للعقبة كانت محض اختلاق، قام به دعاة العباسيين) ([34]). والسؤال الذي نوجهه إلى "وات" هو: ما وجه الاستحالة في أن يدعم العم ابن أخيه، ويشهد معه هذه البيعة حتى ولو كان على غير دينه؟ وماذا يقول في الأدلة التي تشهد بحماية عم الرسول صلى الله عليه وسلم أبي طالب له مع شركه وتأييده له حتى آخر لحظة في حياته؟ وكيف يتصرف مع حادثة حصار الشعب وهي المقاطعة التي فرضتها قريش على عشيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بني هاشم وبني عبد مناف وبني عبد المطلب لتضامنهم معه؟ فهل كل هذه الوقائع من اختراع المخترعين لاستحالة وقوعها؟ إن لازم حكمه ذلك إذا طبقه على جميع الأحداث والوقائع يقتضي ردها كلها فلا يبقى لنا من تاريخنا شيء. ويكرر تشكيكه في الروايات لهذا السبب كثيراً فيقول: (حفظت لنا عدة روايات تعطينا فكرة عن خلق محمد، وتتفق هذه الروايات عامة فهي بذلك قريبة من الحقيقة؛ وإن كان بعضها يعبر عن نزعة لرسم صورة محمد الرجل الكامل المثالي) ([35]).
يتبع
د. نعمات محمد الجعفري[(*)(*)][(*)]
ملخص البحث:
لقد كان للمستشرقين يد طولي في البحث والتنقيب عن علوم الإسلام وقضاياه المختلفة على مر العصور بقصد التشويه والطعن، والتشكيك لزعزعة الصورة الناصعة للإسلام في نفوس المسلمين، والحد من إقبال غير المسلمين على اعتناقه، ومن خلال القراءة النقدية لكتابات أحد المستشرقين وهو "مونتجمري وات" حول الروايات الحديثية، في كتابيه: (محمد في مكة)، و(محمد في المدينة)، وجدت الاختلاف كبيراً بينه وبين غيره من المستشرقين في منهجية الكتابة والطرح والنتائج التي توصل لها، فقد خالفهم في كثير من النتائج وانتقدهم فيها وفند آراءهم، فنجد عمله يحظى بالتقدير التام بين العلماء المسلمين وهذا يعنى أنه موضوعي إلى حد ما.. فهو يقدر آراء المسلمين دون أن يقبلها، ومن ثم يقدره المسلمون دون مشاركته في آرائه المعارضة بالضرورة.
إن نظرة "وات" الإيجابية تجاه بعض الأحداث والقضايا التاريخية التي تتناولها الروايات، التي يفند بها ادعاءات بعض المستشرقين يخالطها كثير من الأحكام المضطربة والمشوشة والمغالطات الجريئة، وقد بني "وات" على المقدمات الخاطئة التي لم يبذل جهداً كافياً للتثبت من سلامتها العديد من النتائج التي تحتاج إلى مراجعة جذرية حتى تسلم له نتائجه، وهذه تعد من أهم أخطائه المنهجية. ويبدو "وات" على مستوى تقنية البحث متفوقا بمعنى الكلمة، وهو يمتلك أداة البحث ومستلزماته، ويعتمد أسلوباً نقدياً مقارناً يثير الإعجاب، ولكنه في الوقت ذاته يدس السم في العسل.
المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله.
إن من أهم المهمات وأوجب الواجبات على طالب علم الحديث الذب عن السنة المطهرة ومن يريد النيل منها أو النيل من رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولذا تصدى كثير من علماء السنة ينافحون بأقلامهم وأقوالهم الطاعنين في السنة الشريفة من الملاحدة، والعلمانيين، والمستشرقين الغربيين، ومن هم من أبناء جلدة الإسلام، ولقد كان للمستشرقين يد طولي في البحث والتنقيب عن علوم الإسلام وقضاياه المختلفة على مر العصور بقصد التشويه والطعن، والتشكيك لزعزعة الصورة الناصعة للإسلام في نفوس المسلمين، والحد من إقبال غير المسلمين لاعتناقه والدخول فيه ومن هؤلاء مونتجمري وات، ولأنني لم أقف على من تصدى له ودحض شبهه وتضليلاته المغرضة إلا مقالاً لسالم عبد الرحمن بعنوان: (قراءة نقدية في كتابات مونتجمري وات في السيرة النبوية) وهو مقال موجز لم يتناول آراء مونتجمري وات بالتحليل والنقد الدقيق، والتفصيل في منهج "وات" في تناول الروايات الحديثة.
فقد رأيت القيام ببحث يتناول العيوب المنهجية في سياق الروايات الحديثة عند المستشرق مونتجمري واخترت كتابيه: "محمد في مكة"، و"محمد في المدينة" ليكونا محل البحث.
أما سبب اختيار كتابات هذا المستشرق دون غيره من المستشرقين، فلوجود اختلاف كبير بينه وبينهم في منهجية الكتابة والطرح والنتائج التي توصل لها، فقد خالفهم في كثير من النتائج، وانتقدهم فيها، وفند آراءهم، فعلى الرغم من أن (وات) يستند في معلوماته بشكل أساسي إلى المستشرقين البريطانيين والأوربيين في القرن التاسع عشر من "جولد تسيهر" إلى "موير" وعلى الرغم من أن النتائج بعينها تتعلق بالرسول الكريم لا تختلف اختلافاً جوهرياً عن تلك التي توصل إليها سائر المستشرقين، نجد عمله يحظى بالتقدير التام بين العلماء المسلمين: مما يبرهن على أن المستشرق لا يلزمه أن يعتنق الإسلام كي يصير معروفا عند العالم الإسلامي عالما جادا مقبولا.
ومع ذلك نجد (وات) ينتقد الإسلام بصفته عالما مسيحيا عقلانيا، وهو ينتقد رفاقه في ذات الوقت، وهذا يعنى أنه موضوعي إلى حد ما .. فهو يقدر آراء المسلمين دون أن يقبلها، ومن ثم يقدره المسلمون دون مشاركته في آرائه المعارضة بالضرورة.
وقد نهجت في البحث المنهج التالي:
1- التركيز على القضايا الرئيسية التي ركز عليها "وات" في كتابيه، دون الدخول في التفاصيل الدقيقة خشية طول البحث.
2- عدم الاقتصار على تناول النقاط التي تمثل – من وجهة نظري – الجانب السلبي في كتابات "وات" في السيرة، بل أبرزت بعض الجوانب الإيجابية في هذه الكتابات.
3- الأخذ بعين الاعتبار أن كاتب البحث ليس مسلماً، فلم أتعمق في الردود وأحاكمه بمعايير الإسلام الدقيقة، اقتصرت – في الغالب – على نقض كلامه بالظاهر من الأدلة، أو بيان تناقضه، وانتقاء المنهجية في أسلوبه.
4- عدم الاستقصاء في الرد عليه ودحض أرائه، اكتفيت في نقده بأبرز الردود وأظهرها.
5- الاقتصار على الأحداث والقضايا التي لها تعلق بالرواية الحديثية، ولم أتناول غيرها إلا في أضيق الحدود، وفي مجال خدمة البحث في نواح معينة.
ومن الصعوبات التي واجهتني في إعداد البحث:
ضيق الوقت بحيث لم يسعني تناول كل ما أثاره "وات" حول الرسول صلى الله عليه وسلم وتحليلاته للقضايا.
أسلوب اللف والدوران والالتواء في التحليل الذي استخدمه "وات" يحتاج إلى فحص دقيق، ورجوع إلى مصادر السيرة والروايات المختلفة في الموضوع الواحد، للموازنة، ونقده بأسلوب علمي يسنده الدليل.
تداخل العيوب المنهجية في التحليل الواحد لــ "وات" جعلت من العسير فصلها عن بعض، ولكنى قدر الإمكان وزعت الأحداث والقضايا على العيب أو المنهج الأظهر الذي سلكه فيه، كما تناولت الحادثة الواحدة في أكثر من مبحث للنظر فيها من زوايا مختلفة.
والافتراضات كثيرة، والأقوال والتحليلات الشاذة والضعيفة منبثة في مواضع شتى من كتابه، لن يتسع الوقت لمناقشتها، فاقتصرت على أبرز المغالطات والتجاوزات لتعطينا صورة واضحة عما تحمل ثنايا كتبه من فكر تضليلي، وتجاوزات خطيرة، ومغالطات جريئة.
وقد قسمت البحث إلى تمهيد وفصلين وخاتمة.
اشتمل التمهيد على ترجمة موجزة لـــ "مونتجمري وات".
الفصل الأول: تعامل "وات" مع الروايات، فيه مباحث:
المبحث الأول: التلاعب في الألفاظ، وفيه مطالب:
المطلب الأول: انتقائية الروايات ذات الألفاظ التي توافق افتراضاته.
المطلب الثاني: الجزم بأحد احتمالات لفظ الرواية، وتجاهل الاحتمالات الأخرى.
المطلب الثالث: صرف ألفاظ الروايات عن ظاهرها، وتحميل اللفظ ما لا يحتمله.
المبحث الثاني: رد الروايات، وفيه مطالب:
المطلب الأول: الحكم بنشوء الروايات من قبل المتأخرين، لتتفق مع مفاهيم وصور بعدية سامية.
المطلب الثاني: الحكم بنشوء الروايات وتسجيلها من قبل المتأخرين، لأغراض واعتبارات شخصية.
المبحث الثالث: موقفه من الأسانيد.
المبحث الرابع: تبني الضعيف والشاذ والمكذوب من الروايات.
الفصل الثاني: خلاصة منهج "مونتجمري وات"، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: إضاءات على الجوانب الايجابية في كتابات "وات".
المبحث الثاني: العيوب المنهجية العلمية في كتابات "وات"، وفيه مطالب:
المطلب الأول: المبالغة التشكيك غير المنهجي.
المطلب الثاني: التناقض المنهجي.
المطلب الثالث: المنهج الإسقاطي.
المطلب الرابع: التعميم الفاسد.
المطلب الخامس: إهمال الأدلة المضادة.
المطلب السادس: الانتقائية في المصادر.
تمهيد: ترجمة موجزة لمونتجمري وات
مستشرق إنجليزي معاصر، قسيس، عميد قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة أدنبرة، اهتم بسيرة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو معروف لدي طلابه بتعصبه ونزعاته التنصيرية. يعد وات واحداً من أبرز أعلام المستشرقين المعاصرين في بريطانيا، وأكثرهم تنوعاً في مجال دراسته الإسلامية. وقد عمل "وات" أستاذا ورئيساً لقسم الدراسات العربية والاسلامية بجامعة أدنبرة باسكتلندا لمدة خمسة عشر عاما، حتى تقاعده 1979م، وقد قام خلالها بتدريس الإسلام: عقيدة وتاريخا وحضارة لعدة أجيال من الطلبة كثير منهم مسلمون، عرب وباكستانيون([1])
وتحظى أعماله بشهرة واسعة بين المشتغلين بالدراسات الإسلامية والعربية في الشرق والغرب على السواء، ولعل أبرز ما يلفت نظر المتتبع لأعمال "وات" أن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حظيت بتقدير متميز من اهتمامه، فقد أخرج ثلاثة كتب نشرتها له جامعة أكسفورد بإنجلترا.
كتابه الأول (محمد في مكة): يقع في مئة وست وثمانين صفحة من القطع المتوسط، منها اثنان وثلاثون صفحة مخصصة للملاحق، وهو – كما يبدو من عنوانه – يتناول الفترة المكية من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء قبل البعثة أم بعدها، مع مقدمة موجزة عن الأوضاع في مكة وشبه الجزيرة العربية قبل الإسلام.
وكتابه الثاني: (محمد في المدينة): يقع في ثلاث مئة وتسع وتسعين صفحة من القطع المتوسط، منها ثلاثة وستون صفحة مخصصة للملاحق، والكتاب دراسة شاملة لحياة الرسول في المدينة وتطور علاقة الدولة الإسلامية الناشئة بغيرها من المجتمعات داخل الجزيرة العربية وخارجها، وما قدمه الدين الجديد من إصلاحات في جميع الميادين، مع محاولة بيان بعض مواطن العظمة في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم.
أما كتابه الثالث: (محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورجل دولة): فيقع في خمس وأربعين ومائتي صفحة من القطع المتوسط، وهو يمثل خلاصة مركزة ووافية لكتابيه الأولين، مع مزيد من الالتزام بالتسلسل الزمني في تناول الأحداث.
أما مقالة عن (محمد صلى الله عليه وسلم): في تاريخ كمبردج للإسلام: فهو خلاصة الخلاصة إن صح التعبير، وقد اهتم فيه (وات) برصد الظواهر الكبرى في حياة محمد صلى الله عليه وسلم وفي دعوته، سواء قبل الهجرة أم بعدها.
من آثاره:
1- (عوامل انتشار الإسلام) (محمد في مكة) (محمد في المدينة) (اللغة العربية) (الجدل الديني) (عوامل انتشار الإسلام) (تاريخ أسبانيا الإسلامية) ([2]).
مكانته عند المستشرقين:
يري المستشرقون أن "مونتجمري وات "قسيس يجمع بين الالتزام بالمسيحية وتوثيق الصلة بالمسلمين، والاتصاف بالموضوعية في دراسته للإسلام، وقد نشرت بعض المجلات الإسلامية التي تصدر الإنجليزية في لندن مقالا عن هذا المستشرق بعنوان (المسيحي ذو التعاطف الغير العادي مع الإسلام)، ويحاول المقال أن يظهر الستشرق على انه استثناء مشرف من القاعدة العامة، وهي تعصب المستشرقين ضد الإسلام، ويدعي المقال أن من بين تلاميذه (شيخ الأزهر) سابق، ولكن لا يذكر اسمه، لأن الهدف الأساس التهويل من شأن هذا المستشرق وأستاذيته، حتى لأستاذة المسلمين، ويزعم المقال أن نتائج جهوده وإسهاماته قد أصبحت لا يستغني عنها في فهم التاريخ الإسلامي([3]).
وسيتضح لنا في هذا البحث أن هذا الوصف لهذا المستشرق إنما هو خداع وتضليل للمسلمين، قصد به إخفاء حقيقة الاستشراق وأهدافه الهدامة، ومخططاته المغرضة ضد الإسلام والمسلمين، فالمستشرقون ليس بينهم منصف أو موضوعي، وجميعهم ملة واحدة، وإن تفاوتوا في التعصب، يهدفون إلى غاية واحدة.
الفصل الأول
منهجية وات في التعامل مع الروايات والنصوص الحديثية ليس من اليسير في بحث كهذا أن نتقصى كل مسائل الخلاف التي تثيرها كتابات "وات" في السيرة، فمن الطبيعي أن تقتصر على عرض ومناقشة أهم القضايا الأساسية، التي نصل معها إلى الإجابة على بعض الأسئلة فتستطيع من خلالها الحكم على منهج الباحث والتزامه بأسس البحث العلمي وتفاديه لعيوبه، ومدى صدق وموضوعية ودقة النتائج التي توصل إليها والأسئلة هي:
هل التزم وات بالمنهج الذي رسمه؟ هل انطبقت على كتاباته شروط البحث العلمي؟
هل اعتمد على المصادر المتخصصة أم انتقي المصادر التي توافق نتائجه؟ هل بني نتائجه على أسس علمية، وأدلة قطعية أم بناها على ضرب من الخيال والفرضيات؟
هل استخدم مبدأ تعميم الفكرة بعد الاستقراء الكامل للجزئيات. أم يعم الفكرة من تحليله لجزئية واحدة؟ هل قرأ الروايات الحديثية في سياقها العام, أم اقتطع منها ما يريد من دلالات ؟ هل جمع المعلومات من مظانها في مصادرها أم أخذ من كل مصدر ما يخدم نتيجته ؟ هل قبل الروايات المسلم بها تاريخياً وتشريعياً؟ وهل رده مبني على أدلة وبراهين علمية وتاريخية ؟ هل تعامل مع النصوص بموضوعية ؟ أم تعسف في فهمها لإثبات مقدماته وفرضياته ؟ هل عالج وفحص الأدلة المضادة أم أنه أهملها وتجاهلها؟ هل وازن بين الروايات المختلفة في موضوع واحد ورجح بينها على أسس تاريخية وعلمية ؟
المبحث الأول
التلاعب بألفاظ الروايات
إن تناول "وات" لألفاظ الروايات يدل على أن هذا الباحث ينتهج منهجاً بعيداً كل البعد عن الموضوعية والإنصاف العلمي, إنه ينتقي من الروايات ذات الألفاظ التي تتواءم مع أفكاره وتخميناته، ويهمل غيرها من غير دليل علمي أو شرعي يستند إليه أو مبرر عقلي مقبول، وإذا لم يتسن له الانتقاء تلاعب في مضمون اللفظ، وحمله ما لا يحتمله من الدلالات والمضامين التي توافق افتراضاته، أو تكلف وتعسف في تفسير اللفظ ليتسق مع المعنى إلى يرمي إليه.
المطلب الأول
انتقائية الروايات ذات الألفاظ التي توافق افتراضاته
انتقي "وات" من الروايات الخاصة ببدء الوحي والأمر بالقراءة، الرواية بلفظ: "أتاه جبريل فقال له: اقرأ, فقال له محمد صلى الله عليه وسلم: ما اقرأ ؟ والرواية عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، كانت تجيء مثل فلق الصبح .... فقال: يا محمد، أنا جبريل، وأنت رسول الله، ثم قال: اقرأ، قلت: ما اقرأ ؟"([4]) ويروى: ماذا أقرأ ؟ فهو يرى أن "ما" في قوله "ما أقرأ" استفهامية وليست نافية([5])، مع أن قصة الوحي وردت بألفاظ مختلفة، منها: رواية البخاري من طريق ابن شهاب أن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يلحق بغار حراء، فيتحنث فيه، قال:- والتحنث التعبد الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود بمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال اقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: أقرأ،قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال:أقرأ، قلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني.." ([6]).
إنه بانتقائه هذه الرواية واعتماده عليها دون سواها من الروايات؛ وسيلة مغرضة ليثبت المقدمة التي افترضها، وهي نفي أمية الرسول صلى الله عليه وسلم، واستدل بهذه الرواية ليصل إلى النتيجة التي يرمي إليها، وهي أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد تعلم على يد ورقة بن نوفل وغيره، وبذلك فإن الدين مستمد من أصول نصرانية مسيحية، أما بالنسبة للروايات الأخرى في هذا الحديث: فسنرى كيف يتعامل معها في المباحث الأخرى.
كما ترجم "وات" ما رواه الطبري بسنده إلى الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، في كيفية بدء الوحي، وقسم هذه الرواية إلى فقرات، أعطى كل فقرة منها حرفاً، ثم نقل ما رواه بالسند نفسه عن فترة الوحي، وفعل الشيء نفسه. ثم بدأ بتعليقاته بقوله:(لا توجد أسباب جيده للشك في المسألة الأساسية وهي أن تجربة محمد النبوية بدأت بالرؤيا الصادقة) ثم قال: (هذا شيء مختلف جداً عن الرؤيا المنامية، وهذا خطأ لا شك فيه؛ لأن الرؤيا الصادقة هي الرؤيا المنامية، ومن الأدلة القاطعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)، ثم قال: (إن تفسير المسلمين المعتاد لهذا هو أن الرؤى هنا هي رؤية النبي لجبريل، ولكن هناك أسباب تدعو للقول: بأن محمداً فسر في بداية ما رآه بأنه الله، وهذه الأسباب هي:
أنه لم يرد ذكر جبريل في القرآن إلا في العهد المدني.
أنه الذي يدل عليه السياق، إذ بغيره تكون العبارة ركيكة.
وأن عبارة "فجاءه الحق" تؤيد ذلك؛ إذ أن الحق أحد الطرق التي يشار بها إلى الله.
وفي بعض روايات حديث الطبري عن جابر: "سمعت صوتاً يناديني، فنظرت حولي فلم أر أحدا، فرفعت رأسي، فإذا هو جالس على العرش([7]).
نرد على وات فنقول:
1- إن "وات" خلط بين ثلاثة أمور، هي: الرؤيا المنامية التي سبقت الوحي، ورؤيا جبريل وهو ينزل بإقرأ، ورؤيا جبريل على صورته الحقيقية، فزعم أن الرؤيا الصادقة ليست رؤيا منام، ثم فسره هذه الرؤيا المشار إليها في سورة النجم، ثم زعم أن المقصود بما رآه محمد هو الله تعالى، ثم ذهب يتحمل لذلك بعض الأسباب. إن "وات" يريد أن يفهم من كلمة الروح ما تفهم النصارى من هذه الكلمة بأن المقصود هو الله، لكن هذا المعنى تأباه اللغة العربية، ويأباه سياق الآيات القرآنية، فالمعنى اللغوي لكلمة الروح هو: ما به تكون الحياة، ولم يرد في الآيات القرآنية أن الروح اسم من أسماء الله تعالى أو وصفاً من صفاته، ثم لنفترض أنه لم يرد ذكر لجبريل في السور المكية فكيف يكون هذا دليلاً على أن ما رآه محمد صلى الله عليه وسلم في بدء الوحي لم يكن جبريل إذا كان محمد نفسه يقول أن ما رآه كان جبريل([8]).
2- أن رواية جابر قد ورد فيها التصريح بأن الذي ناداه هو جبريل، ولفظ الرواية قوله صلى الله عليه وسلم "جاورت بحراء شهراً، فلما قضيت جواري نزلت فاستنبطت بطن الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي، فلم أر أحداً، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء، يعني جبريل عليه السلام، فأخذتني رجفة شديدة، فأتيت خديجة فقلت دثروني، فدثروني، فصبوا علي ماءً، فأنزل الله عز وجل.." ([9]).
3- أن المقصود بالحق في هذا الحديث هو: الحق الذي جاء به الملك وهو القرآن، أو هو البشارة بأنه رسول الله، ويؤيد هذا التفسير رواية البخاري التي تقول: "حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك، فقال اقرأ، قال: ما أنا بقارئ"([10]).
4- إن المنهج العلمي يقتضي أن يجمع الإنسان الروايات الخاصة بموضوعه، ثم ينظر فيها، فيختار أصحها سنداً ومتناً، ثم يجمع بين ما جاء فيها ما أمكنه ذلك، لأن الروايات في الغالب يكمل بعضها بعضاً، لكن "وات" نظر في الروايات المختلفة، وتخير منها ما يراه أقرب إلى موافقة هواه، ولذلك كان أمره مضطرباً، فمره يأخذ من الطبري ويدع ابن هشام، وأخرى يأخذ من البخاري ويدع الطبري، وثالثة يختار من البخاري رواية ويترك أخرى، والحقيقة مما يبدو أنه إنما اختار روايات الزهري التي في الطبري؛ لأنه لا ذكر في أولها للملك، والدليل على ذلك أنه ترك رواياته التي في صحيح البخاري وغيره، والتي فيها ذكر الملك، ثم عندما ذهب للبخاري أخذ حديثاً رواه الزهري عن أبي سلمة، عن جابر، وترك أحاديث كثيرة رواها بسنده عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر. وذلك لأن أحاديث الزهري هناك فيها ذكر الملك ([11]) فمنها حديث يقول: "عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجئت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت أهلي, فقلت: زملوني زملوني, فزملوني, فأنزل الله تعالي: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ ([12])
إن الانتقائية المرفوضة في منهج البحث العلمي التي سلكها "وات" في كتابه ليست إلا ليصل إلى نتيجة اعتقدها ويريد تقديرها، وهي التشكيك في أن القران وحي من الله. إن الذي يريد أن يصل إليه "وات" من كل تلك المحاولات والتحريفات هو: أن القران ليس كلاماً أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من الله أو بوساطة ملك، إنما هو شيء نابع من نفسه وتفكيره وعقله.
المطلب الثاني
الجزم بأحد احتمالات لفظ الرواية
وتجاهل الاحتمالات الأخرى
إن"وات" في تفسيره للفظ :ما أقرأ ؟" "ماذا أقرأ ؟" في قصة بدء الوحي أنها على الاستفهام عن القراءة من نص مكتوب، هذا أحد احتمالات اللفظ، ولكن هناك احتمال أرجح أن المراد "التلاوة" أي ماذا "أتل" وخاصة إذا جمعنا ألفاظ الروايات مع بعضها لنخلص إلى نتيجة أساسية وهي أن هذه الألفاظ "ما أقرأ ؟ ماذا أقرأ ؟ ما أنا بقارئ ؟" لا تفيد إلا النفي في مجال القدرة على القراءة والكتابة بالمفهوم الذي يقصده "وات".
المطلب الثالث
صرف ألفاظ الروايات عن ظاهرها
وتحميل اللفظ ما لا يتحمله
يتضح ذلك جلياً في تلاعبه بألفاظ رواية سرية نخلة التي تحتل أهمية خاصة في تاريخ الإسلام، حيث أريق فيها أول دم في تاريخ العلاقات بين المسلمين والمشركين بعد الهجرة؛ ولأنها إحدى المقدمات الأساسية لغزوة بدر، ونص الرواية كما ورد في كتب السير "وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحداً وهم سبعة، ثامنهم: أميرهم عبد الله بن جحش رضى الله عنه، وكتب له كتاباً، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً، فلما سار بهم يومين فتح الكتاب فإذا فيه:{ إذا نظرت في كتابي فأمض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشاً، وتعلم لنا من أخبارهم}. فلما نظر في الكتاب قال: سمعاً وطاعة، وأخبر أصحابه بما في الكتاب وقال: قد نهاني أن أستكره أحداً منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى ومضى معه أصحابه، لم يتخلف منهم أحد، وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له: بحران، أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه، حتى نزل نخلة، فمرت غير لقريش فيها عمرو بن الحضرمي، قال ابن هشام: واسم الحضرمي عبد الله بن عباد، وعثمان ابن عبد الله بن المغيرة المخزومي، وأخوه نوفل، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة، فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريباً منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه فلما رأوه أمنوا، وقال عمار: لا بأس عليكم منهم، وتشاور الصحابة فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقالوا: والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرام، فليمتنعن به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرم، فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل ما قدروا عليه منهم، وأخذا ما معهم فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش، وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر بعض أل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما غنمنا الخمس فعزله، وقسم الباقي بين أصحابه وذلك قبل أن ينزل الخمس، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام} فوقف العير والأسيرين، وأبي أن يأخذ من ذلك شيئاً، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان، وقالت يهود: تفائل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله عمرو: عمرت الحرب فجعل الله ذلك عليهم، لا لهم. فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل ِوَلاَيَزَالُون َ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} فلما نزل القرآن بهذا الأمر، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين وبعثت قريش في فداء عثمان، والحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم (( لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا)) يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان ((فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبكما)) فقدم سعد وعتبة فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما الحكم بن كيسان فأسلم، فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيداً، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافراً"([13]).
يحلل "وات ألفاظ هذه الرواية فيقول: (والشيء الثاني حسب الروايات الأخرى: أن يرفع عبد الله بن جحش تقريراً لمحمد، وهذه إضافة لاحقة تحاول أن تجعل لكلمة "ترصدوا" بمعنى "راقبوا" بدلا من أن "ينصب كمينا" وهكذا ترفع المسؤولية عن محمد بسبب أي معركة دموية، ومما لا شك فيه: أن محمد أمر بالقيام بهذه المهمة مع علمه بأنها ربما تؤدي إلى سقوط القتلى من رجاله أو من رجال أعدائه، ثم تظاهر بأنه لا يريد ذلك) ([14]). إنه يتصرف في الألفاظ حسبما تملي عليه افتراضاته، فلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم "ترصدوا" ظاهر في معنى الترقب، فلماذا يصرف اللفظ عن ظاهره؟ وما الدليل على صرفه لمعنى آخر وهو "نصب الكمين"؟.
لقد أناط الرسول صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن جحش في هذا الكتاب مهمة محددة، وهي "الترصيد لقريش" والترصد هو الترقب كما فسره أهل اللغة([15])، ثم فسرت هذه الكلمة الجملة التالية وهي "وتعلم لنا من أخبارهم" معنى الترصد، لكنه يفسرها على أنها إعداد كمين للهجوم على القافلة، وعندما وجد الجملة التالية لا تتواءم مع المعنى حكم عليها بأنها من إضافة المتأخرين، قصد بها إعطاء الترصد معنى الترقب، بدلاً من إعداد الكمين.
نلحظ من ذلك أن "وات" يجمع بين أكثر من عيب من عيوب المنهجية العلمية، فهو يفسر الألفاظ بخلاف ظاهرها بمعاني تتفق مع نتائجه، والألفاظ التي تخالف نتائجه يصدر عليها حكماً بالنشوء والوضع دون دليل.
إنه يريد بذلك الوصول إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد القتال في الشهر الحرام، ثم تظاهر بعدم إرادته ذلك.
المطلب الرابع
التعسف في فهم ألفاظ النصوص
ومن ذلك: الرواية التي قرر من خلالها وجود انشقاق بين المسلمين وأن ذلك كان هو الدافع الحقيقي وراء هجرة المسلمين إلى الحبشة، وقد خرج بهذه النتيجة بناء على فهمه الخاطئ للرواية التالية التي استنتج منها أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه انضم بعد إسلامه لجماعة أبي بكر؛ لأنه كان سيء الرأي في عثمان بن مظعون، وقد أعرب عن سوء ظنه عندما مات عثمان على فراشه ولم يستشهد في ساحة الجهاد، فكانت هذه الملاحظة من عمر- كما يزعم "وات" – تعبيرا عن عدائه للشخص الذي تزعم الحزب المعارض لحزب أبي بكر([16]).
والنص الكامل للرواية يقول: (أخبرنا محمد بن عمر قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: لما توفي عثمان بن مظعون وفاة لم يقتل، هبط من نفسي هبطة ضخمة، فقلت: انظروا هذا الذي كان أشدنا تخلياً من الدنيا ثم مات ولم يقتل، فلم يزل عثمان بتلك المنزلة من نفسي، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ويك إن خيارنا يموتون، ثم توفي أبو بكر فقلت: ويك إن خيارنا يموتون، فرجع عثمان في نفسي إلى المنزلة التي كان بها قبل ذلك"([17]).
الواضح تمام من هذا النص: أن عمر رضى الله عنه لم يكن سيء الرأي في عثمان بن مظعون فترة حياة عثمان، بل على العكس، فاللفظ "هبط من نفسي هبطة" يدل على أن له مكانة كبيرة في نفسه، ثم هبطت هذه المكانة؛ لأنه مات على فراشه دون أن يستشهد، لكن بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رجع عثمان رضى الله عنه إلى مكانته الرفيعة في نفس عمر رضي الله عنه، فالعبارة دالة واللفظ ظاهر فيما كان يتمتع به عثمان من مكانة في نفس عمر، لكن "وات" يلوي عنق النص، ويتعسف في فهم اللفظ، ويستنطق النص بما لم ينطق به حتى يستخلص من عداء عمر لعثمان بن مظعون، لأنه زعيم جماعة تعارض أبا بكر.
المبحث الثاني
رد الروايات والحكم عليها بالنشوء
اعتمد "وات" رفض الكثير من الروايات عند عدم اتساقها مع مقدماته وفرضياته وبالتالي مناقضتها للنتائج والحقائق التي يريد التوصل إليها، عن طريق الحكم على المتأخرين بوضعها وإدخالها؛ لتتفق هذه الروايات مع مفاهيم وأفكار لاحقة، أو أنها اختلفت تبعاً لاعتبارات شخصية ونفسية.
ونلحظ أن "وات" في كتابيه "محمد في مكة" و"محمد في المدينة" قد أكثر من الاعتماد على هذه المقولة للتخلص من أي عقبة تعترض آراءه وتحليلاته المبنية على خياله وتخمينه فقط. ولو كانت هذه العشوائية والتخبط في إطلاق الأحكام مشروعة للباحث دون قيود، لحق لكل باحث أن يفرض آراءه ونتائجه بنفس هذه المنهجية، وبالتالي لا تبقي لنا حقيقة تاريخية. وبسبر الروايات التي حكم عليها "وات" بالنشوء نجد أن حكمه يرجع لسببين، فإما أن المتأخرين أدخلوها:
1- لتتفق الرواية مع مفاهيم لاحقة، وصور بعدية، ودلالات سامية.
2- لتخدم الرواية أغراضاً واعتبارات شخصية ونفسية.
المطلب الأول
الحكم بنشوء الروايات من قبل المتأخرين، لتتفق مع مفاهيم
وصور بعدية ودلالات سامية
وفي هذا يقول: "يبدو ذلك صحيحاً وإن سجل فيما بعد ليتفق مع أفكار لاحقة"([18]).
1- الاتهام بوضع الرواية لتحمل دلالة سامية عن الإسلام:
ومن أمثلة ذلك:
1- حكمه على الرواية في أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بغار حراء التي بلفظ "ما أنا بقارئ" بالنشوء، فيقول: (إن هذه الرواية هي من اختراع المتأخرين، وهم قد فعلوا ذلك_ على حد رأيه_ ليلتمسوا تأييداً للاعتقاد بأن محمداً كان لا يستطيع القراءة والكتابة باعتبار ذلك عنصراً مهماً من عناصر التدليل على طبيعة المعجزة القرآنية) ([19]) ويكرر هذا الادعاء في موضع آخر فيقول: (وهكذا نجد في قصة دعوة محمد أنه قال:"ما أقرأ ؟" وهذا يعني إما أنه لا يعرف القراءة أو "ماذا يقرأ ؟" وربما كان المعنى الأخير هو المعنى الأصلي، غير أن بعض الفقهاء المتأخرين ألحوا على عجز محمد عن القراءة كتأكيد لعقيدة إعجاز القرآن؛ ولذلك نجد روايات تبدلت فيها الكلمات ليعني قوله: "لا أستطيع القراءة" (ما أنا بقارئ)، وهكذا استغلت القصة لتأييد نظرة فقهية, كما استغلها فقها آخرون في اتجاه آخر بإحلال "ماذا" محل "ما" فيعني قوله عندئذ:" ماذا أقرأ")([20])
مع العلم بأن البخاري قد أخرج هذه الرواية في صحيحه، فهو بذلك يخالف منهجه الذي رسمه باعتباره صحيح البخاري منهجاً معتمداً من الناحية الحديثية، بينما ينتقي من الروايات فيه ما يوافق نتائجه، ويحكم على الأخرى بالاختلاق دون دليل أو برهان علمي أو منطقي.
ولنا أن نتساءل بأنه إذا كانت أسهل طريقة للتخلص من الروايات التي تناقض مقدماته وافتراضاته الحكم عليها بالنشوء والاختلاق، فكيف سيتعامل مع النص القرآني القاطع في هذا المجال: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }([21])، وهو الذي التزم في مقدمته بالتسليم وقبول القرآن.
إن كل هذه الافتراضان ما هي إلا إفراز لظنون جاهلية غير قادرة على تصور نزول وحي مستقل جديد من السماء، وأن هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم موروثا من أصول مسيحية ونصرانية، ولكن كيف يستطيع إثبات هذه النتيجة التي تبناها هو وأمثاله من المستشرقين؟
لا سبيل له إلى ذلك إلا بالإشارة إلى اتصال محمد صلى الله عليه وسلم بورقة بن نوفل، فيواصل افتراضاته لتقرير نتيجة تلك، فيقول: (يبدو أن ورقة من بين الذين اتصل بهم محمد لسبب معرفته بكتب المسيحية المقدسة... ومن الأفضل: الافتراض بأن محمدا كان قد عقد صلات مستمرة مع ورقة منذ وقت مبكر، وتعلم أشياء كثيرة، وقد تأثرت التعاليم الإسلامية اللاحقة كثيراً بأفكار ورقة، وهذا ما يعود بنا إلى طرح مشكلة العلاقة بين الوحي الذي نزل على محمد والوحي السابق له) ([22]).
وذلك كله لا يتأتى مع كون الرسول صلى الله عليه وسلم أمياً، فلابد من التلاعب بالنصوص والروايات؛ ليثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم القراءة والكتابة، فيصل النتيجة التي يرمي إليها.
وهذه النتيجة التي يريد التوصل إليها من خلال عرض عدة مقدمات وافتراضات بني بعضها على بعض، نفاها القرآن نفياً قاطعاً، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَم أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمهُ بَشَر لِسَان الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ مُبِين}([23]).
2- يميل "وات" إلى قبول رواية واحدة من الروايات الخاصة بأسبق الناس إسلاماً بعد خديجة رضى الله عنه، حيث يدور الخلاف على الروايات حول ثلاثة بالتحديد، وهم: أبو بكر، زيد بن حارثة، وعلي بن أبي طالب([24])، وهناك رأي توفيقي مؤداه أن أبا بكر رضى الله عنه كان أول من أسلم من الرجال الأحرار، وزيد بن حارثة من الموالي، وعلى من الصبيان([25]).وهذا الرأي لا يقطع بأن واحداً من هؤلاء الثلاثة كان أسبق إسلاماً.
قبل "وات" الرواية المتعلقة بزيد بن حارثة وهو يبني وجهة نظره على أساس أن زيداً كان مولى محمد صلى الله عليه وسلم، وكان هناك ارتباط قوي بينهما([26]).إن موضع الاعتراض ليس في قبول "وات" رواية وترجيحها دون أخرى إذا كانت قائمة على وجهة نظر ومنطق سليم، وإنما الاعتراض هو ما يدعيه "وات" (من أن أبا بكر يحظى بمزيد من الاهتمام في المصادر؛ لأنه منذ هجرة الحبشة أصبح أهم شخصية بعد محمد، فكانت لتلك الأهمية انعكاساتها على الروايات المبكرة، أما زيد فإن مكانته المتواضعة جعلت إسلامه أقل أهمية من إسلام أبي بكر) ([27]). إنه يطلق اتهاماً صريحاً بأن المؤرخين وأصحاب المصادر يقلبون الحقائق ويزورونها تبعا للصور البعدية واللاحقة.
من المعلوم ومما لا يختلف عليه: مكانة أبي بكر رضى الله عنه ومنزلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وملازمته وصداقته له قبل بعثته، وقد سمي الصديق لسرعة تصديقه للرسول فيما يخبره، فما الغرابة في نسبة الروايات له السبق إلى الإسلام؟ وما الداعي لافتراض نسبة الروايات سبقه للإسلام لارتفاع مكانته لاحقا؟ وما المعيار الدقيق الذي وزن به "وات" مكانة أبي بكر من الرسول صلى الله عليه وسلم سابقاً ولاحقاً ؟ إن "وات" تجاهل المكانة العالية التي كان يحظى بها أبو بكر رضى الله عنه، والتضحيات التي قدمها للإسلام منذ فجر إسلامه، فهو الذي بذل ماله لعتق العبيد الذين كانت تعذبهم قريش، وهو الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: "إن أمن الناس علي في صحبته وماله: أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر"([28]).
كما شكك في نسبة الروايات أسبقية الإسلام لعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن وقاص، وطلحة بن عبيد الله، لأنه يشك في الرواية التي تقرر أن عمر رشح عند وفاته هؤلاء الخمسة ومعهم علي بن أبي طالب رضى الله عنه ليحسموا مسألة الخلافة من بعده، ويستبعد "وات" إمكان أن يأتي هؤلاء الخمسة أنفسهم مجتمعين إلى محمد في أوائل البعثة ليعلنوا قبولهم للإسلام([29]).
إن النتيجة التي توصل لها "وات" من أن مصادرنا نسبت لهؤلاء الأسبقية بالإسلام لأهميتهم اللاحقة لا تستند إلى دليل عملي، ولا قرينة مقبولة تسمح له بالتضحية بحقائق تاريخية ثابتة ويضرب بها عرض الحائط. كما أن "وات" قد غفل عن حقيقة هامة، وهي أن مكانة الشخص اللاحقة لا تنبني من فراغ، إن المكانة الاجتماعية للشخص لا تتكون إلا بعد سلسلة من الإنجازات والأعمال والنجاحات التي تبلور هذه المكانة، وتكون أساساً متيناً لها، إن ترشيح عمر رضى الله عنه لهؤلاء الخمسة ومنحهم هذه المكانة والميزة قرار اتخذه عمر رضى الله عنه بناء على علم ومعرفة بإنجازاتهم وأعمالهم وتضحياتهم للإسلام والمسلمين، فسيرتهم السابقة المشرفة وسبقهم للإسلام، وبلاؤهم فيه بلاء حسنا: هو الذي جسد لهم تلك المكانة اللاحقة. ومن هذا قوله: (لم تحدث ردة- إذن- بل وقع عدم ولاء سياسي، أمام الوفود من جميع القبائل واعتناقها للإسلام فهذه اختراعات تقية؛ لتمجيد نجاح محمد، وربما للتقليل من شأن أبي بكر([30]).
وخلاصة القول: إنه إذا كانت هناك روايات تشهد لأبي بكر بالسبق على الإسلام فإن هناك روايات أخرى تشهد لزيد بن حارثة رضى الله عنه أو لعلي رضى الله عنه بذلك، ولكل رواية وجهتها، فقد يكون نسبة السبق للإسلام لأبي بكر من الرجال، ولزيد من الموالي، ولعلي من الصبيان، ومن واجب الباحث المنصف: الجمع بين الروايات والموازنة بينها؛ للخروج بنتيجة تتوافق معها جميعاً، دون الحاجة لردها أو التشكيك فيها مع ثبوت صحتها.
2- اختلاق الروايات لتحميلها معنى إيجابياً للشخص ولنفي التهمة عنه:
يقرر "وات" هذا المفهوم في أكثر من موضع، فيقول: (ومن البديهي: أن المصادر طالما أنها تتعلق بحوادث فردية تمجد فضائل شخص إذا كانت تميل إليه، وتخفي معايبه([31]).
ومن ذلك: رده للرواية التي تشهد أن العباس بن عبد المطلب شهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية في العام 13ه، وادعاؤه أن العباسيين اختلقوا هذه الرواية تمجيداً للعباس وإبراء له من تهمة التخلي عن ابن أخيه، والرواية كما ذكرها الطبري، فيما يرويه بسنده عن كعب بن مالك: "اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلاَ، ومعنا امرأتان من نسائهم، نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بني النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي بن ثابت إحدى نساء بني سلمة وهي أم منيع، قال فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاءنا ومعه يومئذ عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا انه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلسنا كان العباس بن عبد المطلب أول متكلم فقال: يا معشر الخزرج، قال:- وكانت العرب مما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج أو سها وخزرجها- إن محمداً أمناً حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، قال: فقلنا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام، قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، قال: فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أهل الحرب، وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر....." ([32]).
يقول "وات": (لعل الحادثة التي تتصل بالعباس غير مقبولة بحذافيرها باعتبار أنها اختراع متأخر قصد به إخفاء المعاملة غير الكريمة التي لقيها محمد صلى الله عليه وسلم من بني هاشم في هذه الفترة). ويقول: (إن إقرار هذه الرواية بأن العباس كان مشركاً في ذلك الوقت لا يمكن أن يعد دليلاً علة صدقها، وعلى أنها ليست من اختراع جهاز الدعاية العباسية). ويقول: (ولما كان العباس جد العباسيين، فقد دأب الدعاة والمؤرخون العباسيون بتبييض صفحته، والقول بأن إقامته الطويلة في مكة إنما كانت بصفته جاسوساً سرياً لمحمد) ([33]).
ثم ينهي تحليله بقوله: (إن أكثر الافتراضات إقناعاً أن زيارة العباس للعقبة كانت محض اختلاق، قام به دعاة العباسيين) ([34]). والسؤال الذي نوجهه إلى "وات" هو: ما وجه الاستحالة في أن يدعم العم ابن أخيه، ويشهد معه هذه البيعة حتى ولو كان على غير دينه؟ وماذا يقول في الأدلة التي تشهد بحماية عم الرسول صلى الله عليه وسلم أبي طالب له مع شركه وتأييده له حتى آخر لحظة في حياته؟ وكيف يتصرف مع حادثة حصار الشعب وهي المقاطعة التي فرضتها قريش على عشيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بني هاشم وبني عبد مناف وبني عبد المطلب لتضامنهم معه؟ فهل كل هذه الوقائع من اختراع المخترعين لاستحالة وقوعها؟ إن لازم حكمه ذلك إذا طبقه على جميع الأحداث والوقائع يقتضي ردها كلها فلا يبقى لنا من تاريخنا شيء. ويكرر تشكيكه في الروايات لهذا السبب كثيراً فيقول: (حفظت لنا عدة روايات تعطينا فكرة عن خلق محمد، وتتفق هذه الروايات عامة فهي بذلك قريبة من الحقيقة؛ وإن كان بعضها يعبر عن نزعة لرسم صورة محمد الرجل الكامل المثالي) ([35]).
يتبع