ابو وليد البحيرى
2018-10-30, 04:35 PM
استحقاق العين المؤجرة في الفقه المقارن
(( دراسَة فقهيَة مقَارنة))
د. وليد خالد خميس الربيع ([1])
ملخص البحث:
الإجارة من العقود الشرعية المهمة . لأنها الأكثر شيوعاً ولمسيس حاجة الناس إليها ، وعقد الإجارة – كسائر العقود الشرعية – له أركان وشروط مطلوبة لصحته، منها : أن يكون للعاقد ولاية إنشاء العقد ، بحيث يعقد الإجارة لنفسه أصالة ، أو لغيره بالنيابة الشرعية ، وهذا البحث يتناول مسألة إجارة ملك الغير ، وثبوت استحقاق المالك للعين الموجودة كلها أو بعضها ، وما يترتب على هذا الاستحقاق من آثار تتناول صحة العقد من جهة ، وثبوت الضمان من جهة أخرى.
والاستحقاق هو: ثبوت كون المعقود عليه غير مملوك للمتصرف فيه ولا ولاية له عليه، فهو من آثار تصرف الفضولي ، وقد اختلف الفقهاء في حكم تصرف الفضولي ، والأظهر أنه صحيح موقوف على إجازة المالك ، بناء على أرجح اتجاهات الفقهاء.
وبناء عليه فعند ثبوت استحقاق العين المؤجرة كلها فللمستحق أخذ العين. لأنها ملكه ، وأخذ أجرتها ، لأنها نماء ملكه الثابت ، وعند استحقاق بعض العين المؤجرة فإن ذلك لا يؤثر في صحة الإجازة في الجزء غير المستحق ، ويكون موقوفاً في الجزء المستحق على إجازة المالك.
أما إذا هلكت العين ثم استحقت فينظر ؛ فإن كان الهلاك بتعد من المستأجر فالضمان عليه، وإن كان الهلاك بغير تعد منه : فللمستحق تضمين أي من المؤجر أو المستأجر.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
فإن الإجارة من العقود الشرعية المهمة ، لأنه أكثرها شيوعاً بين الناس ، إذ ليس بين الناس إلا من هو مستأجر ، عدا الملاك الذين يسكنون في أملاكهم ، والمتشردين الذين لا مأوى لهم ، وحتى الملاك لا يخلو الخال غالبا من أنهم يؤجرون ويستأجرون ([2]) .
قال الكاساني مبينا الحكمة من تشريع عقد الإجارة : ((لأن الله تعالى إنما شرع العقود لحوائج العباد، وحاجتهم إلى الإجارة ماسة ؛لأن كل واحد لا يكون له دار مملوكة يسكنها ، أو أرض مملوكة يزرعها ، أو دابة مملوكة يركبها ، وقد لا يمكنه تملكها بالشراء لعدم الثمن ، ولا بالهبة والإعارة ؛ لأن نفس كل واحد لا تسمح بذلك ، فيحتاج إلى الإجارة ، فجوزت بخلاف القياس لحاجة الناس كالسلم ونحوه.
تحقيقه : أن الشرع شرع لكل حاجة عقداً يختص بها ، فشرع لتمليك العين بعوض عقداً وهو البيع ، وشرع لتمليكها بغير عوض عقداً، وهو الهبة ، وشرع لتمليك المنفعة بغير عوض عقداً، وهو الإعارة، فلو لم يشرع الإجارة مع الماسة الحاجة إليها ، لم يجد العبد لدفع هذه الحاجة سبيلاً، وهذا خلاف موضوع الشرع )) ([3])، وهو جلب مصالح المكلفين في الدارين ودفع المفاسد عنهم.
وعقد الإجارة يجعل المؤجر والمستأجر في اتصال دائم طول مدة الإجارة، مما يستدعي الدقة التي تضبط تلك العلاقة المستمرة ، وتبين حقوق وواجبات كل من الطرفين ([4]).
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور تحت عنوان (مقصد الشريعة تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها): ((إن تعيين أصول الاستحقاق أعظم أساس واثبته للتشريع في معاملات الأمة بعضها مع بعض ، فإنه يُحصّل غرضين عظيمين هما أساس إيصال الحقوق إلى أربابها ؛ لأن تعيينها ينوّرها في نفوس الحكام ، ويقررّها في قلوب المتحاكمين ، فلا يجدون عند القضاء عليهم بحسبها حرجاً)) ([5]).
وكسائر العقود ، لعقد الإجارة أركان وشروط مطلوبة لصحة العقد ، من تلك الشروط : أن يكون للعاقدين ولاية إنشاء العقد ، بحيث يعقد الإجارة عن نفسه أصالة ، أو غيره نيابة ، وهنا يأتي موضوع هذا البحث ليتناول مسألة إجارة ملك الغير ، وثبوت استحقاق المالك للعين المؤجرة ، وما يترتب على ذلك من آثار تتناول صحة العقد من جهة ، وثبوت الضمان من جهة أخرى.
واستحقاق العين المؤجرة قد يكون كلياً، وقد يكون جزئياً ، وقد يكون بعد هلاك العين المؤجرة والحكم يختلف في كل حالة عن الأخرى.
مشكلة البحث:
تتمثل مشكلة البحث في الإجابة على الأسئلة الآتية:
ما المراد بالاستحقاق في الفقه الإسلامي؟
هل تصرف الفضولي صحيح في الفقه الإسلامي؟
ما الآثار المترتبة على استحقاق العين المؤجرة في الفقه الإسلامي؟
أهداف البحث:
يسعى هذا البحث الموجز لتحقيق جملة من الأهداف والغايات ، منها :
أولاً: بيان حقيقة الاستحقاق في الفقه الإسلامي.
ثانياً : إيضاح حكم تصرف الفضولي في الفقه الإسلامي.
ثالثاً: بيان الآثار المترتبة على استحقاق العين المؤجرة في الفقه الإسلامي.
منهج البحث:
سأتبع في هذا البحث – بإذن الله تعالى – المنهج الاستقرائي الاستنباطي ، الذي يعتمد على تتبع ما جاء في هذه المسألة من أقوال فقهاء المذاهب الفقهية ، ثم تقرير الأحكام من خلال الدراسة المقارنة ؛ بعرض المذاهب الفقهية وأدلتها مع المناقشة والترجيح.
ولتحقيق ذلك سأقوم بما يأتي:
أولاً: بيان مواضع الآيات التي ورد ذكرها في ثنايا البحث ، بذكر اسم السورة ورقم الآية في الهامش.
ثانياً: تخريج الأحاديث النبوية الواردة في البحث من كتب السنة المعتبرة ما أمكن.
ثالثاً: الرجوع إلى المصادر الأصيلة والمراجع المعتمدة لدى المذاهب الفقهية عند بيان الأحكام الشرعية مع توثيق ذلك بذكر المصدر والجزء والصفحة بالهامش.
رابعاً: سلكت في البحث طريقة الاتجاهات الفقهية ، من خلال ذكر المذاهب المتفقة في اتجاه واحد وذكر المخالفين لهم في اتجاه آخر.
خامساً: حرصت على ذكر أدلة كل اتجاه فقهي بالرجوع إلى المصادر الأصيلة ، وأتبعت ذلك بذكر ما ورد على تلك الأدلة من مناقشات إن وجدت ، ثم أرجح ما ظهر لي رجحانه ، مع بيان سبب الترجيح.
سادساً:ختمت البحث بذكر قائمة المصادر والمراجع وفهرس الموضوعات .
سابعاً: عند العزو في الهامش فإني أذكر اسم المرجع مع الجزء والصفحة غالبا، وأما ما يتعلق بمعلومات النشر الخاصة بالناشر وسنة النشر ونحو ذلك فقد اكتفيت بما ورد في قائمة المراجع خشية الإطالة.
خطة البحث:
ينقسم البحث إلى مقدمة وأربعة مباحث وخاتمة:
المقدمة : وتتناول أهمية البحث ، ومشكلة البحث ، وأهدافه ، وخطة البحث، ومنهج البحث.
التمهيد : في تعريف الاستحقاق والإجارة.
المبحث الأول: حكم استحقاق العين المؤجرة كلها.
المبحث الثاني: حكم استحقاق بعض العين المؤجرة.
المبحث الثالث: حكم استحقاق العين المؤجرة بعد هلاكها.
المبحث الرابع : عبء إثبات ملكية العين المستحقة.
الخاتمة: وفيها أهم النتائج.
وبعد ، فهذا بحث موجز أحببت أن أقرب فيه فقه (استحقاق العين المؤجرة) إلى طالبه ، وأبين الراجح في بعض المسائل التي وقع فيها اختلاف بين فقهاء الأمة بحسب ما يسر الله تعالى لي من إطلاع ومقارنة، فما كان فيه من صواب وحق فذلك من الله تعالى وحده، وما كان فيه من زلل أو خطأ أو تقصير فهو مني والله تعالى برئ منه ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
تمهيد: في تعريف الاستحقاق والإجارة:
أولاً: تعريف الاستحقاق لغة واصطلاحاً:
تعريف الاستحقاق في اللغة:
الاستحقاق في اللغة : استفعال من الحق ، والحق في اللغة : نقيض الباطل ، يقال: حق الأمر ، أي : وجب وثبت وصار حقاً، فالحق هو الثابت الواجب والصحيح.
والباطل: نقيض الحق ، وهو ما لا ثبات له عند الفحص والتمييز، يقال: بطل الشئ: إذا فسد وسقط حكمه، وأبطل الشئ : جعله باطلاً كما قال تعالى: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) ([6]).
والاستحقاق : مصدر الفعل استحق يستحق استحقاقاً ومعناه: طلب حقه، فالألف والسين والتاء للدلالة على الطلب.
وأيضاً يأتي الفعل (استحق) بمعنى استوجب كما في المصباح : استحق فلان الأمر : استوجبه، فالأمر مستحق ، ومنه قولهم: خرج المبيع مستحقاً ([7]) .
وقال في لسان العرب : ((والاستحقاق والإستيجاب قريبان من السواء))، ومنه قوله تعالى : (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) ([8]) أي : استوجباه بالخيانة.
تعريف الاستحقاق في الاصطلاح:
يطلق الفقهاء لفظ الاستحقاق على معان مختلفة ، منها:
المعنى الأول : الاستحقاق بمعنى طلب الحق:
قال ابن نجيم: ((الاستحقاق هو طلب الحق)) ([9]).
وقال القرافي في الذخيرة : ((الاستحقاق وهو مشتق من الحق ، والاستفعال لغة لطلب الحق، كالاستسقاء لطلب السقي ، والاستفهام لطلب الفهم، فالاستحقاق: طلب الحق)) ([10]).
المعنى الثاني: الاستحقاق بمعنى أخذ الحق:
قال ابن قدامة : ((استحقت – الأرض – يعني أخذها مستحقها)) ([11]).
وظاهر : أنا هذه التعريفات ملاحظ فيها المعنى اللغوي كما تقدم ، حيث يدور المعنى اللغوي حول (طلب الحق) و(استيجاب الحق) ، وقد عرف بعض الفقهاء الاستحقاق باعتباره لقباً على تصرف مخصوص، ومن تلك التعريفات:
ما ذكره ابن عابدين حيث عرف الاستحقاق : ((بأنه ظهور كون الشيء حقاً واجباً للغير)) ([12]
واعترض على هذا التعريف بأمور ، منها:
التعبير بأن الاستحقاق ظهور غير دقيق؛ لأن الاستحقاق لا يتحقق إلا إذا ثبت بالبينة أو الإقرار ، والشيء الثابت بالإقرار أو البينة لا يقال له : ظاهر ، بل يقال له : ثابت.
لفظ (الحق) عام يشمل حق الملكية ، وحق الشفعة ، وحق الرهن، وغيرها من الحقوق، في حين أن الاستحقاق متعلق بحق الملكية فقط ، وعلى هذا يكون تعريف الاستحقاق المذكور تعريفاً بالأعم ، وهو لا يصح؛ لأن من شروط التعريف أن يكون مساوياً للمعرف ، حتى يكون جامعاً مانعاً ، أما التعريف بالأعم : فإنه لا يكون مانعاً عن دخول غير أفراد المعرف في التعريف ([13]).
كما عرفه ابن عرفه بأنه : ((رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله، أو حرية كذلك بغير عوض)) ([14]) .
وأما ابن عبد البر فقد عرفه بقوله: ((أن يقضي للرجل ببينة بالشيء يدعيه في يد غيره بعد أن يحلف أنه ما باع ذلك الشيء ، ولا وكل على بيعه ، ولا وهبه ، ولا تصدق به، وأنه ملك ثابت عليه إلى وقته ذلك)) ([15])
فالاستحقاق عند المالكية يعتمد على الحكم القضائي الذي يقرر إخراج المدعى فيه من يد حائزه إلى يد المدعي ، بعد ثبوت السبب والشرط ، وانتفاء المانع([16]).
ويوضح ابن جزي المالكي صورة الاستحقاق بأن يكون شيء بيد شخص ، ثم يظهر أنه حق شخص آخر ؛ مما تثبت به الحقوق شرعاً من اعتراف أو شاهدين ، أو شاهد ويمين، أو غير ذلك فيقضي له به([17]).
التعريف المختار: والذي يظهر أن أقرب تعريفات الاستحقاق إلى الصواب تعريف الاستحقاق بأنه : ((ثبوت كون المعقود عليه غير مملوك للمتصرف فيه، ولا ولاية عليه ، وإثبات هذه الملكية للمستحق))([18]).
وهذا التعريف قريب مما ذكره البعلي من الحنابلة حيث بين حقيقة الاستحقاق بأنه ثبوت الحق للغير فقال: ((تقول: استحق فلان العين، فهي مستحقة إذا ثبت أنها حقه)) ([19]).
والتعريف المختار يشمل ما لا يملكه المتصرف لا رقبة ولا منفعة وبأي عقد من العقود ، فإن المالك يستطيع أن يقيم عليه دعوى الاستحقاق ، وكذلك يشمل ما لو كان المستحق يملك الرقبة فقط، ففي هذه الحالة إذا تصرف فيه مالك المنفعة في حدود ملكه جاز تصرفه، أما إذا تصرف فيه في رقبته: فإن تصرفه هذا لا يسري في حق مالك الرقبة ، ويكون المعقود عليه مستحقاً، وكذلك العكس إذا تصرف مالك الرقبة في المنفعة التي هي ملك لمالك المنفعة ، فإن تصرفه لا يسري في حق مالك المنفعة ، وتكون المنفعة مستحقة لمالكها ([20]) .
المناسبة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي :
المتأمل لتعريفات الفقهاء لكلمة (الاستحقاق) يجد أنها لم تخرج عن مدلولها اللغوي : وهو كون الشيء حقاً مستوجباً للغير ، إلا أنه في اللغة أعم منه في اصطلاح الفقهاء ؛ لأنه يشمل استحقاق المال وغيره – كما في الآية الكريمة – وأما عند الفقهاء : فقد تكلموا على حد الاستحقاق للحقوق المالية فحسب، والله أعلم ([21]).
ثانياً: تعريف الإجارة لغة واصطلاحاً:
تعريف الإجارة في اللغة:
الإجارة من الفعل أجر يؤجر إيجاراً ومؤاجرة ، وهي : ما أعطيت من أجر في عمل ، قال في لسان العرب : ((والأجر والإجارة : ما أعطيت من أجر)).
والأجير : المستأجر ، وجمعه أجراء ، والاسم منه الإجارة ، والأجرة : الكراء ، تقول : استأجرت الرجل فهو يأجرني أي : يصير أجيري.
فالإجارة في اللغة : اسم للأجرة ، وهي العوض المبذول نظير المنفعة ([22]) .
تعريف الإجازة في الاصطلاح :
الإجارة عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض ([23]).
وفرق المالكية بين الإجارة والكراء فقالوا : الإجارة والكراء شيء واحد في المعنى ، وهو تمليك منافع شيء مباح مدة معلومة بعوض ، غير أنهم سموا العقد على منافع الآدمي وما ينقل غير السفن والحيوان إجارة، والعقد على منافع ما لا ينقل كالأرض والدور وما ينقل من سفينة وحيوان كالرواحل كراء في الغالب فيهما ([24]) .
المبحث الأول: حكم استحقاق العين المؤجرة كلها
المراد باستحقاق العين المؤجرة كلها هنا : ثبوت أن المعقود عليه غير مملوك للمؤجر بأكلمه ، وأنه تصرف في ملك غيره بغير إذنه، وقد اختلف الفقهاء في تكييف تصرف الشخص في ملك غيره بغير إذنه، فذهب بعضهم إلى أن ذلك غصب ، وهو تصرف باطل لا أثر له ، وهو مذهب الإمام الشافعي الجديد، وأصح الروايات عن الإمام أحمد ، وهو المذهب عند الحنابلة.
قال النووي في المجموع : قال: ((لو باع غيره بغير إذن ولا ولاية فقولان : الصحيح: أن العقد باطل ، وهذا نصه في الجديد)) ([25]) ، وقال ابن قدامة : ((فالصحيح من المذهب أن البيع باطل)) ([26]).
ويرى بعض الفقهاء أنه لا فرق بين تصرف الغاصب وتصرف الفضولي ، فكلاهما موقوف على إجازة المالك ، وهو مذهب الحنفية كما قال في الهداية : ((ومن باع ملك غيره بغير أمره فالمالك بالخيار، إن شاء أجاز البيع ، وإن شاء فسخ ، وله الإجازة إذا كان المعقود عليه باقياً والمتعاقدان بحالهما)) ([27])
وقال في الفتاوى الخانية : ((إذا باع الرجل مال الغير عندنا يتوقف البيع على إجازة المالك)). ثم قال : ((ولو غصب جارية فباعها فقطعت يدها ثم أجاز المغصوب منه البيع صحت الإجازة)) ([28]) .
وأيضاً هو مذهب المالكية ، فقد نقل ابن القاسم عن الإمام مالك في المدونة أنه قال : ((إذا باعها الغاصب – يعني الجارية – فإن أراد ربها أن يجيز البيع كان ذلك له)) ([29]).
وقال في حاشية الخرشي : ((الغاصب أو المشترى منه إذا باع الشيء المغصوب فإن للمالك أن يجيز ذلك البيع؛ لأن غايته أنه بيع فضولي ، وله أن يرده ، وظاهره سواء أقبض المشترى المبيع أم لا، وظاهره علم المشتري أنه غاصب أم لا، كان المالك حاضر أم لا، قرب المكان بحيث لا ضرر على المشتري في المصير إلى أن يعلم ما عنده أم لا ، وهو كذلك في الجميع)) ([30]).
إلا أن أشهب فرق بين جهل المتعاقد مع الغاصب بواقعة الغصب وبين علمه بها، ففي الحالة الأولى يطبق أحكام الفضالة ، أما في الحالة الثانية فإنه يعتبر التصرف باطلاً ، لأن الطرفين دخلا على الفساد والغرر([31]).
والمذهب القديم للشافعي لا يفرق بين تصرفات الغاصب وتصرفات الفضولي، قال النووي : ((والقول الثاني – وهو القديم – أنه ينعقد موقوفاً على إجازة المالك)). وقال الشافعي في آخر باب الغصب من البويطي : ((إن صح حديث عروة البارقي فكل من باع أو أعتق ملك غيره بغير إذنه ثم رضي فالبيع والعتق جائزان ((هذا نصه، وقد صح حديث عروة البارقي فصار للشافعي قولان في الجديد أحدهما موافق للقديم)) ([32]).
والرواية الثانية عن الإمام أحمد :أن التصرف يصح بشرط إجازة المالك ، قال ابن قدامة : ((وفيه رواية أخرى أنه صحيح، ويقف على إجازة المالك)) ([33]) .
أما الراوية الثالثة عن الإمام أحمد: فتعتبر أن تصرف الغاصب يصح وينفذ من دون إجازة ، لأن الغصب في الظاهر تتطاول مدته ، فلو لم يصح التصرف لأفضى إلى الضرر بالمالك والمشتري؛ لأن المالك لا يملك ثمنها ، والمشتري لا يملكها ([34]) .
يتضح مما سبق أن بعض الفقهاء لم يسبغوا صفة الفضالة على التصرفات التي يقوم بها الشخص في ماله غيره، إذا كان يعمل لحساب نفسه، ولعلهم لاحظوا انعدام نية الغيرية في هذه التصرفات فأطلقوا على المتصرف صفة الغاصب لا صفة الفضولي ، ولئن كانت للقواعد الفضالة تنطبق على هذه التصرفات – على رأي بعضهم – فليس معنى ذلك أننا بصدد فضالة ، وإنما لا نزال بصدد عمل من أعمال الغصب.
وبعض الفقهاء الذين أسبغوا وصف الفضولي على من يتصرف في مال غيره لحساب نفسه قد لاحظوا – فما نظن – أن نية الغيرية لا تزال موجودة عند الفضولي ، وإن كان لم يكشف عنها عند التعاقد ؛ فمن رأيهم أن المالك إذا أجاز تدخل الفضولي أنتج التصرف كل آثاره بأثر رجعي ، وانقلب الفضولي وكيلاً ، وهذا لا يتم إذا كان المتصرف – وهو يعمل لحساب نفسه – يسقط كل اعتبار لرب العمل وقت التعاقد وبعده ، فيجب إذاً إن نفترض لدى الفضولي نية العمل لحساب الغير ، ولو كان الظاهر خلاف ذلك ، وهذا الرأي يتناسب مع الروح العامة للفقه الإسلامي([35]).
وبناء على هذا فيمكن القول بأن تصرف الشخص في ملك غيره بغير إذنه على رأي كثير من الفقهاء يعرف في الفقه الإسلامي بـ (تصرف الفضولي) ، وقد تناولها الفقهاء في باب البيع بتفصيل تناول صورها وأدلتها ومذاهب الفقهاء فيها، ويمكن – هنا – إيراد الخلاف الفقهي المذكور في عقد البيع وما يترتب عليه من آثار ، وتطبيقه على موضوع البحث ، وهو استحقاق المعقود عليه في عقد الإجارة ، حيث قرر الفقهاء أن حكم الإجارة كحكم البيع ؛ لأن باب البيع هو الأصل ويتبعه عقود المعاوضات الشبيهة ([36]).
قال د. وهبة الزحيلي : (( عقد البيع من أهم العقود المسماة وأخطرها ، وأشهرها وأكثرها انتشاراً في الحياة العملية ، وهو أساس تبادل الحوائج والمصالح بين الناس منذ القديم ، ... ولهذا تصدر بحث البيع في كتبنا الفقهية وفي جميع التقنينات الصادرة ، واحتل المكانة الأولى بين العقود ، واعتبرت قواعده وشروطه أساساً لبحث العقود الأخرى)) ([37]).
وبناء على ما سبق يمكن حكاية اختلاف الفقهاء وأدلتهم في مسألة تصرف الفضولي في عقد البيع وتطبيقها على موضوع البحث ، وتنزيل الأحكام المستنبطة هناك عليها هنا ، وسيتناول هذا المبحث مطلبين:
المطلب الأول : حكم تصرف الفضولي:
تقدم أن هذه المسألة مما جرى فيه اختلاف كبير بين الفقهاء ، وما نتج عن ذلك من آثار تقتضي صحة بعض التصرفات أو بطلانها ، وفيما يلي ذكر اتجاهات الفقهاء وأدلتهم مع المناقشة والترجيح:
الاتجاه الأول : تصرف الفضولي صحيح موقوف على إجازة المالك أو وليه.
وهو مذهب الحنفية ، والمالكية ، وقول الشافعي القديم ، وهو رواية عن أحمد ([38]).
وقد استدلوا بأدلة منها:
عموم الأدلة التي تدل على مشروعية البيع ، كقوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) ([39]) ، وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) ([40])، وقوله تعالى : (فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) ([41]).
ويوضح الكاساني وجه الدلالة من هذه الآيات فيقول : ((شرع سبحانه وتعالى البيع والشراء والتجارة وابتغاء الفضل من غير فصل بين ما إذا وجد من المالك بطريق الأصالة ، وبين ما إذا وجد من الوكيل في الإبتداء، أو بين ما إذا وجدت الإجازة من المالك في الانتهاء ، وبين وجود الرضا في التجارة عند العقد أو بعده ، فيجب العمل بإطلاقها إلا ما خص بدليل)) ([42]).
أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع ديناراً إلى حكيم بن حزام رضي الله عنه ، وأمره أن يشتري له به أضحية ، فاشترى شاتين ثم باع إحداهما بدينار وجاء بدينار وشاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له بالبركة ، وقال عليه الصلاة والسلام : ((بارك الله في صفقة يمينك)). وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ((ضح بالشاة ، وتصدق بالدينار)) ([43]).
قال الكاساني مبيناً وجه الدلالة من الحديث : ((ومعلوم أنه لم يكن حكيم مأموراً ببيع الشاة ، فلو لم ينعقد تصرفه لما باع ، ولما دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير والبركة على ما فعل ، ولأنكر عليه ؛ لأن الباطل ينكر)) ([44]).
عن عروة بن أبي الجعد البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به له شاة ، فاشترى له به شاتين ، فباع إحداهما بدينار ، وجاءه بدينار وشاة ، فدعا له بالبركة في بيعه ، وكان لو اشترى التراب لربح فيه ([45]).
قال الشوكاني : ((فيه دليل على صحة بيع الفضولي)) ([46]) ، ووجه الدلالة : أن عروة رضي الله عنه قد باع مالاً مملوكاً لغيره بغير إذنه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن لعروة بشراء شاة ، ولم يأذن له بالبيع ، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم ما فعله عروة ، بل ودعا له بالبركة ، فلو كان البيع غيره ، صحيح ما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإذا ثبت الاستحقاق تبين أنه باع ملك غيره فيكون بيعه صحيحاً موقوفاً على إجازة المالك.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((بينما ثلاثة نفر يمشون أخذهم المطر ، فأووا إلى غار في جبل ، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض : انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله بها ؛ لعله يفرجها عنكم ..)) الحديث إلى أن قال : ((وقال الثالث : اللهم إني استأجرت أجيراً بفرق أرز فلما قضى عمله قال : أعطني حقي فعرضت عليه فرغب عنه. فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً وراعيها ؛ فجاءني فقال: اتق الله ، فقلت : اذهب إلى ذلك البقر ورعاتها فخذ ، فقال : اتق الله ، ولا تستهزئ بي ، فقلت : إني لا أستهزئ بك فخذ ، فأخذه فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج ما بقي ، ففرج الله ((وفي رواية فخرجوا يمشون)) ([47]).
وجه الدلالة من الحديث : أن المالك تصرف في مال الأجير بغير إذنه ، وأجازه الأجير ، وأخذه كله.
قال العيني : ((فيه جواز بيع الإنسان مال غيره بطريق الفضول ، والتصرف فيه بغير إذن مالكه إذا اجازه المالك بعد ذلك ، ولهذا عقد البخاري الترجمة – باب إذا اشترى شيئاً لغيره بغير إذنه فرضي))([48])، وقال ابن حجر : ((مال البخاري إلى الجواز ، فإن فيه تصرف الرجل في مال الأجير بغير إذنه، ولكنه لما ثمره له ونماه وأعطاه أخذه ورضي)) ([49]).
قال النووي : ((واحتج بهذا الحديث أصحاب أبي حنيفة وغيرهم ممن يجيز بيع الإنسان مال غيره ، والتصرف فيه بغير إذن مالكه إذا أجاز المالك بعد ذلك ، وموضع الدلالة قوله : ((فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاءها )) ، وفي رواية البخاري : ((فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال))([50]).
ولأن تصرف العاقل محمول على الوجه الأحسن ما أمكن ، وقد أمكن حمله على الأحسن ها هنا ، وقد قصد البر به والإحسان إليه بالإعانة على ما هو خير للمالك في زعمه ؛ لعلمه بحاجته إلى ذلك ، لكن لم يتبين إلى هذه الحالة لموانع ، وقد يغلب على ظنه زوال المانع فأقدم عليه نظراً لصديقه وإحساناً إليه لبيان المحمدة والثناء ؛ لتحمل مؤنة مباشرة التصرف الذي هو محتاج إليه والثواب من الله عز وجل بالإعانة على البر والإحسان ، قال الله تبارك وتعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) ([51]) ، وقال تعالى : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ([52])، إلا أن في هذه التصرفات ضرراً في الجملة، لأن للناس رغائب في الأعيان ،وقد يقدم الرجل على شيء ظهرت له الحاجة عنه بإزالته عن ملكه لحصول غرضه بدون ذلك ونحو ذلك ، فتوقف على إجازة المالك؛ حتى لو كان الأمر على ما ظنه مباشر التصرف إجازة حصل له النفع من جهته ؛ فينال الثواب والثناء ، وإلا فلا يجيزه ويثني عليه بقصد الإحسان وإيصال النفع إليه، فلا يجوز القول فإهدار هذا التصرف وإلحاق كلامه وقصده بكلام المجانين وقصدهم مع ندب الله عز وجل إلى ذلك وحثه عليه لما تلونا من الآيات ([53]).
ولأنه عقد له مجيز حال وقوعه ، فجاز أن يقف على الإجازة كالوصية بأكثر من الثلث ([54])، قال في المعونة : ((ولأنه عقد تمليك يفتقر إلى الإجازة ، فجاز أن يقع موقوفاً عليه كالوصية)) ([55]).
ولأن البيع بشرط خيار ثلاثة أيام يجوز بالاتفاق ، وهو بيع موقوف على الإجازة ([56]).
ولأن إذن المالك لو كان شرطاً في انعقاد البيع لم يجز أن يتقدم على البيع ؛ لأن ما كان شرطاً للبيع لا يجوز أن تقدمه عليه ، ولهذا لما كانت الشهادة شرطاً في النكاح اشترط مقارنتها لعقده ، فلما أجمعنا أن الأذن في البيع يجوز تقدمه ، دل على أنه ليس بشرط في انعقاده ([57]).
وقد نوقش هذا الاستدلال بما يأتي :
أما اجتجاجهم بالآية الكريمة في قوله تعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) ، قال النووي : ((ليس هذا من البر والتقوى ، بل هو من الإثم والعدوان)) ([58]).
وأما حديث حكيم فأجيب عنه بما قاله النووي : ((أنه حديث ضعيف ، والجواب الثاني أنه محمول على أنه كان وكيلاً للنبي صلى الله عليه وسلم وكالة مطلقة ، يدل عليه أنه باع الشاة وسلمها واشترى ، وعند المخالف لا يجوز التسليم إلا بإذن مالكها ، ولا يجوز عند أبي حنيفة شراء الثانية موقوفاً على الإجازة ، وهذا الجواب الثاني هو الجواب عن حديث عروة البارقي)) ([59]).
قال ابن حزم : ((ثم لو صح حديث حكيم وعروة لم يكن لهم فيهما حجة؛ لأنه إذا أمره عليه السلام أن يشتري له شاة فاشترى له شاتين ، صار الشراء لعروة بلا شك ؛ لأنه إنما اشترى كما أراد، لا كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم وزن دينار النبي صلى الله عليه وسلم إما مستقرضاً له ليرده، وإما متعدياً فصار الدينار في ذمته بلا شك ، ثم باع شاة نفسه بدينار فصرفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما لزمه ، وأهدى إليه الشاة ، فهذا كله ظاهر الخبر ، وليس فيه أصلا لا بنص ولا بدليل على أن الشراء جوزه النبي صلى الله عليه وسلم والتزمه فلا يجوز القول بما ليس في الخبر.
وأما خبر حكيم فإنه تعدى في بيع الشاة فلزمه ضمانها ، فابتاعها بدينار كما أمر وفضل دينار، فأمره عليه السلام بالصدقة إذ لم يعرف صاحبه ([60]).
وأجيب بما قاله في بدر التمام : ((الحديث فيه دلالة على أن عروة اشترى ما لم يوكل بشرائه ، وباع كذلك ؛ لأنه أعطاه ديناراً ليشتري به أضحية، فلو وقف على الأمر لاشترى ببعض الدينار الأضحية ورد البعض ، وهذا الذي فعله هو العقد الموقوف الذي ينفذ بالإجازة ، وقد وقعت ، وذهب إلى صحة العقد الموقوف جماعة من السلف ، منهم : علي، وابن عباس ، وابن مسعود، وابن عمر ([61])
وأما حديث ابن عمر في قصة أصحاب الغار ، فجوابه : أن هذا شرع لمن قبلنا ، وفي كونه شرع لنا خلاف مشهور ، فإن قلنا : ليس بشرع لنا لم يكن فيه حجة ، وإلا فهو محمول على أنه استأجره بإرز في الذمة ولم يسلمه إليه ، بل عينه له فلم يتعين من غير قبض ، فبقي على ملك المستأجر ؛ لأن ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح)) ([62]).
وأجيب بما قاله العيني : ((قلت: شرع لمن قبلنا يلزمنا ما لم يقص الشارع الإنكار عليه ، وهنا طريق آخر في الجواز ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم ذكر هذه القصة في معرض المدح والثناء على فاعلها، وأقره على ذلك ، ولو كان لا يجوز لبينه)) ([63]).
وقال ابن حزم : ((أما كونه حجة عليهم : فإن فيه أنه عرض عليه حقه فأبى من أخذه وتركه ومضى ، فعلى أصلهم قد بطل حقه ، إذ سكت عن أخذه ، فلا طلب له فيه بعد ذلك)) ([64]).
وأما قياسهم على الوصية فالجواب : أنها تحتمل الغرر ، وتصح بالمجهول والمعدوم بخلاف البيع ([65]).
والجواب عن شرط الخيار أن البيع مجزوم به ، منعقد في الحال ، وإنما المنتظر فسخه ، ولهذا إذا مضت المدة ولم يفسخ لزم البيع ([66]).
والجواب عن القياس الأخير : أنه ينتقض بالصوم ، فإن النية شرط لصحته وتتقدم عليه ، ولأن الإذن ليس متقدماً على العقد وإنما الشرط كونه مأذوناً له في حالة العقد ([67]).
يتبع
(( دراسَة فقهيَة مقَارنة))
د. وليد خالد خميس الربيع ([1])
ملخص البحث:
الإجارة من العقود الشرعية المهمة . لأنها الأكثر شيوعاً ولمسيس حاجة الناس إليها ، وعقد الإجارة – كسائر العقود الشرعية – له أركان وشروط مطلوبة لصحته، منها : أن يكون للعاقد ولاية إنشاء العقد ، بحيث يعقد الإجارة لنفسه أصالة ، أو لغيره بالنيابة الشرعية ، وهذا البحث يتناول مسألة إجارة ملك الغير ، وثبوت استحقاق المالك للعين الموجودة كلها أو بعضها ، وما يترتب على هذا الاستحقاق من آثار تتناول صحة العقد من جهة ، وثبوت الضمان من جهة أخرى.
والاستحقاق هو: ثبوت كون المعقود عليه غير مملوك للمتصرف فيه ولا ولاية له عليه، فهو من آثار تصرف الفضولي ، وقد اختلف الفقهاء في حكم تصرف الفضولي ، والأظهر أنه صحيح موقوف على إجازة المالك ، بناء على أرجح اتجاهات الفقهاء.
وبناء عليه فعند ثبوت استحقاق العين المؤجرة كلها فللمستحق أخذ العين. لأنها ملكه ، وأخذ أجرتها ، لأنها نماء ملكه الثابت ، وعند استحقاق بعض العين المؤجرة فإن ذلك لا يؤثر في صحة الإجازة في الجزء غير المستحق ، ويكون موقوفاً في الجزء المستحق على إجازة المالك.
أما إذا هلكت العين ثم استحقت فينظر ؛ فإن كان الهلاك بتعد من المستأجر فالضمان عليه، وإن كان الهلاك بغير تعد منه : فللمستحق تضمين أي من المؤجر أو المستأجر.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
فإن الإجارة من العقود الشرعية المهمة ، لأنه أكثرها شيوعاً بين الناس ، إذ ليس بين الناس إلا من هو مستأجر ، عدا الملاك الذين يسكنون في أملاكهم ، والمتشردين الذين لا مأوى لهم ، وحتى الملاك لا يخلو الخال غالبا من أنهم يؤجرون ويستأجرون ([2]) .
قال الكاساني مبينا الحكمة من تشريع عقد الإجارة : ((لأن الله تعالى إنما شرع العقود لحوائج العباد، وحاجتهم إلى الإجارة ماسة ؛لأن كل واحد لا يكون له دار مملوكة يسكنها ، أو أرض مملوكة يزرعها ، أو دابة مملوكة يركبها ، وقد لا يمكنه تملكها بالشراء لعدم الثمن ، ولا بالهبة والإعارة ؛ لأن نفس كل واحد لا تسمح بذلك ، فيحتاج إلى الإجارة ، فجوزت بخلاف القياس لحاجة الناس كالسلم ونحوه.
تحقيقه : أن الشرع شرع لكل حاجة عقداً يختص بها ، فشرع لتمليك العين بعوض عقداً وهو البيع ، وشرع لتمليكها بغير عوض عقداً، وهو الهبة ، وشرع لتمليك المنفعة بغير عوض عقداً، وهو الإعارة، فلو لم يشرع الإجارة مع الماسة الحاجة إليها ، لم يجد العبد لدفع هذه الحاجة سبيلاً، وهذا خلاف موضوع الشرع )) ([3])، وهو جلب مصالح المكلفين في الدارين ودفع المفاسد عنهم.
وعقد الإجارة يجعل المؤجر والمستأجر في اتصال دائم طول مدة الإجارة، مما يستدعي الدقة التي تضبط تلك العلاقة المستمرة ، وتبين حقوق وواجبات كل من الطرفين ([4]).
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور تحت عنوان (مقصد الشريعة تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها): ((إن تعيين أصول الاستحقاق أعظم أساس واثبته للتشريع في معاملات الأمة بعضها مع بعض ، فإنه يُحصّل غرضين عظيمين هما أساس إيصال الحقوق إلى أربابها ؛ لأن تعيينها ينوّرها في نفوس الحكام ، ويقررّها في قلوب المتحاكمين ، فلا يجدون عند القضاء عليهم بحسبها حرجاً)) ([5]).
وكسائر العقود ، لعقد الإجارة أركان وشروط مطلوبة لصحة العقد ، من تلك الشروط : أن يكون للعاقدين ولاية إنشاء العقد ، بحيث يعقد الإجارة عن نفسه أصالة ، أو غيره نيابة ، وهنا يأتي موضوع هذا البحث ليتناول مسألة إجارة ملك الغير ، وثبوت استحقاق المالك للعين المؤجرة ، وما يترتب على ذلك من آثار تتناول صحة العقد من جهة ، وثبوت الضمان من جهة أخرى.
واستحقاق العين المؤجرة قد يكون كلياً، وقد يكون جزئياً ، وقد يكون بعد هلاك العين المؤجرة والحكم يختلف في كل حالة عن الأخرى.
مشكلة البحث:
تتمثل مشكلة البحث في الإجابة على الأسئلة الآتية:
ما المراد بالاستحقاق في الفقه الإسلامي؟
هل تصرف الفضولي صحيح في الفقه الإسلامي؟
ما الآثار المترتبة على استحقاق العين المؤجرة في الفقه الإسلامي؟
أهداف البحث:
يسعى هذا البحث الموجز لتحقيق جملة من الأهداف والغايات ، منها :
أولاً: بيان حقيقة الاستحقاق في الفقه الإسلامي.
ثانياً : إيضاح حكم تصرف الفضولي في الفقه الإسلامي.
ثالثاً: بيان الآثار المترتبة على استحقاق العين المؤجرة في الفقه الإسلامي.
منهج البحث:
سأتبع في هذا البحث – بإذن الله تعالى – المنهج الاستقرائي الاستنباطي ، الذي يعتمد على تتبع ما جاء في هذه المسألة من أقوال فقهاء المذاهب الفقهية ، ثم تقرير الأحكام من خلال الدراسة المقارنة ؛ بعرض المذاهب الفقهية وأدلتها مع المناقشة والترجيح.
ولتحقيق ذلك سأقوم بما يأتي:
أولاً: بيان مواضع الآيات التي ورد ذكرها في ثنايا البحث ، بذكر اسم السورة ورقم الآية في الهامش.
ثانياً: تخريج الأحاديث النبوية الواردة في البحث من كتب السنة المعتبرة ما أمكن.
ثالثاً: الرجوع إلى المصادر الأصيلة والمراجع المعتمدة لدى المذاهب الفقهية عند بيان الأحكام الشرعية مع توثيق ذلك بذكر المصدر والجزء والصفحة بالهامش.
رابعاً: سلكت في البحث طريقة الاتجاهات الفقهية ، من خلال ذكر المذاهب المتفقة في اتجاه واحد وذكر المخالفين لهم في اتجاه آخر.
خامساً: حرصت على ذكر أدلة كل اتجاه فقهي بالرجوع إلى المصادر الأصيلة ، وأتبعت ذلك بذكر ما ورد على تلك الأدلة من مناقشات إن وجدت ، ثم أرجح ما ظهر لي رجحانه ، مع بيان سبب الترجيح.
سادساً:ختمت البحث بذكر قائمة المصادر والمراجع وفهرس الموضوعات .
سابعاً: عند العزو في الهامش فإني أذكر اسم المرجع مع الجزء والصفحة غالبا، وأما ما يتعلق بمعلومات النشر الخاصة بالناشر وسنة النشر ونحو ذلك فقد اكتفيت بما ورد في قائمة المراجع خشية الإطالة.
خطة البحث:
ينقسم البحث إلى مقدمة وأربعة مباحث وخاتمة:
المقدمة : وتتناول أهمية البحث ، ومشكلة البحث ، وأهدافه ، وخطة البحث، ومنهج البحث.
التمهيد : في تعريف الاستحقاق والإجارة.
المبحث الأول: حكم استحقاق العين المؤجرة كلها.
المبحث الثاني: حكم استحقاق بعض العين المؤجرة.
المبحث الثالث: حكم استحقاق العين المؤجرة بعد هلاكها.
المبحث الرابع : عبء إثبات ملكية العين المستحقة.
الخاتمة: وفيها أهم النتائج.
وبعد ، فهذا بحث موجز أحببت أن أقرب فيه فقه (استحقاق العين المؤجرة) إلى طالبه ، وأبين الراجح في بعض المسائل التي وقع فيها اختلاف بين فقهاء الأمة بحسب ما يسر الله تعالى لي من إطلاع ومقارنة، فما كان فيه من صواب وحق فذلك من الله تعالى وحده، وما كان فيه من زلل أو خطأ أو تقصير فهو مني والله تعالى برئ منه ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
تمهيد: في تعريف الاستحقاق والإجارة:
أولاً: تعريف الاستحقاق لغة واصطلاحاً:
تعريف الاستحقاق في اللغة:
الاستحقاق في اللغة : استفعال من الحق ، والحق في اللغة : نقيض الباطل ، يقال: حق الأمر ، أي : وجب وثبت وصار حقاً، فالحق هو الثابت الواجب والصحيح.
والباطل: نقيض الحق ، وهو ما لا ثبات له عند الفحص والتمييز، يقال: بطل الشئ: إذا فسد وسقط حكمه، وأبطل الشئ : جعله باطلاً كما قال تعالى: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) ([6]).
والاستحقاق : مصدر الفعل استحق يستحق استحقاقاً ومعناه: طلب حقه، فالألف والسين والتاء للدلالة على الطلب.
وأيضاً يأتي الفعل (استحق) بمعنى استوجب كما في المصباح : استحق فلان الأمر : استوجبه، فالأمر مستحق ، ومنه قولهم: خرج المبيع مستحقاً ([7]) .
وقال في لسان العرب : ((والاستحقاق والإستيجاب قريبان من السواء))، ومنه قوله تعالى : (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) ([8]) أي : استوجباه بالخيانة.
تعريف الاستحقاق في الاصطلاح:
يطلق الفقهاء لفظ الاستحقاق على معان مختلفة ، منها:
المعنى الأول : الاستحقاق بمعنى طلب الحق:
قال ابن نجيم: ((الاستحقاق هو طلب الحق)) ([9]).
وقال القرافي في الذخيرة : ((الاستحقاق وهو مشتق من الحق ، والاستفعال لغة لطلب الحق، كالاستسقاء لطلب السقي ، والاستفهام لطلب الفهم، فالاستحقاق: طلب الحق)) ([10]).
المعنى الثاني: الاستحقاق بمعنى أخذ الحق:
قال ابن قدامة : ((استحقت – الأرض – يعني أخذها مستحقها)) ([11]).
وظاهر : أنا هذه التعريفات ملاحظ فيها المعنى اللغوي كما تقدم ، حيث يدور المعنى اللغوي حول (طلب الحق) و(استيجاب الحق) ، وقد عرف بعض الفقهاء الاستحقاق باعتباره لقباً على تصرف مخصوص، ومن تلك التعريفات:
ما ذكره ابن عابدين حيث عرف الاستحقاق : ((بأنه ظهور كون الشيء حقاً واجباً للغير)) ([12]
واعترض على هذا التعريف بأمور ، منها:
التعبير بأن الاستحقاق ظهور غير دقيق؛ لأن الاستحقاق لا يتحقق إلا إذا ثبت بالبينة أو الإقرار ، والشيء الثابت بالإقرار أو البينة لا يقال له : ظاهر ، بل يقال له : ثابت.
لفظ (الحق) عام يشمل حق الملكية ، وحق الشفعة ، وحق الرهن، وغيرها من الحقوق، في حين أن الاستحقاق متعلق بحق الملكية فقط ، وعلى هذا يكون تعريف الاستحقاق المذكور تعريفاً بالأعم ، وهو لا يصح؛ لأن من شروط التعريف أن يكون مساوياً للمعرف ، حتى يكون جامعاً مانعاً ، أما التعريف بالأعم : فإنه لا يكون مانعاً عن دخول غير أفراد المعرف في التعريف ([13]).
كما عرفه ابن عرفه بأنه : ((رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله، أو حرية كذلك بغير عوض)) ([14]) .
وأما ابن عبد البر فقد عرفه بقوله: ((أن يقضي للرجل ببينة بالشيء يدعيه في يد غيره بعد أن يحلف أنه ما باع ذلك الشيء ، ولا وكل على بيعه ، ولا وهبه ، ولا تصدق به، وأنه ملك ثابت عليه إلى وقته ذلك)) ([15])
فالاستحقاق عند المالكية يعتمد على الحكم القضائي الذي يقرر إخراج المدعى فيه من يد حائزه إلى يد المدعي ، بعد ثبوت السبب والشرط ، وانتفاء المانع([16]).
ويوضح ابن جزي المالكي صورة الاستحقاق بأن يكون شيء بيد شخص ، ثم يظهر أنه حق شخص آخر ؛ مما تثبت به الحقوق شرعاً من اعتراف أو شاهدين ، أو شاهد ويمين، أو غير ذلك فيقضي له به([17]).
التعريف المختار: والذي يظهر أن أقرب تعريفات الاستحقاق إلى الصواب تعريف الاستحقاق بأنه : ((ثبوت كون المعقود عليه غير مملوك للمتصرف فيه، ولا ولاية عليه ، وإثبات هذه الملكية للمستحق))([18]).
وهذا التعريف قريب مما ذكره البعلي من الحنابلة حيث بين حقيقة الاستحقاق بأنه ثبوت الحق للغير فقال: ((تقول: استحق فلان العين، فهي مستحقة إذا ثبت أنها حقه)) ([19]).
والتعريف المختار يشمل ما لا يملكه المتصرف لا رقبة ولا منفعة وبأي عقد من العقود ، فإن المالك يستطيع أن يقيم عليه دعوى الاستحقاق ، وكذلك يشمل ما لو كان المستحق يملك الرقبة فقط، ففي هذه الحالة إذا تصرف فيه مالك المنفعة في حدود ملكه جاز تصرفه، أما إذا تصرف فيه في رقبته: فإن تصرفه هذا لا يسري في حق مالك الرقبة ، ويكون المعقود عليه مستحقاً، وكذلك العكس إذا تصرف مالك الرقبة في المنفعة التي هي ملك لمالك المنفعة ، فإن تصرفه لا يسري في حق مالك المنفعة ، وتكون المنفعة مستحقة لمالكها ([20]) .
المناسبة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي :
المتأمل لتعريفات الفقهاء لكلمة (الاستحقاق) يجد أنها لم تخرج عن مدلولها اللغوي : وهو كون الشيء حقاً مستوجباً للغير ، إلا أنه في اللغة أعم منه في اصطلاح الفقهاء ؛ لأنه يشمل استحقاق المال وغيره – كما في الآية الكريمة – وأما عند الفقهاء : فقد تكلموا على حد الاستحقاق للحقوق المالية فحسب، والله أعلم ([21]).
ثانياً: تعريف الإجارة لغة واصطلاحاً:
تعريف الإجارة في اللغة:
الإجارة من الفعل أجر يؤجر إيجاراً ومؤاجرة ، وهي : ما أعطيت من أجر في عمل ، قال في لسان العرب : ((والأجر والإجارة : ما أعطيت من أجر)).
والأجير : المستأجر ، وجمعه أجراء ، والاسم منه الإجارة ، والأجرة : الكراء ، تقول : استأجرت الرجل فهو يأجرني أي : يصير أجيري.
فالإجارة في اللغة : اسم للأجرة ، وهي العوض المبذول نظير المنفعة ([22]) .
تعريف الإجازة في الاصطلاح :
الإجارة عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض ([23]).
وفرق المالكية بين الإجارة والكراء فقالوا : الإجارة والكراء شيء واحد في المعنى ، وهو تمليك منافع شيء مباح مدة معلومة بعوض ، غير أنهم سموا العقد على منافع الآدمي وما ينقل غير السفن والحيوان إجارة، والعقد على منافع ما لا ينقل كالأرض والدور وما ينقل من سفينة وحيوان كالرواحل كراء في الغالب فيهما ([24]) .
المبحث الأول: حكم استحقاق العين المؤجرة كلها
المراد باستحقاق العين المؤجرة كلها هنا : ثبوت أن المعقود عليه غير مملوك للمؤجر بأكلمه ، وأنه تصرف في ملك غيره بغير إذنه، وقد اختلف الفقهاء في تكييف تصرف الشخص في ملك غيره بغير إذنه، فذهب بعضهم إلى أن ذلك غصب ، وهو تصرف باطل لا أثر له ، وهو مذهب الإمام الشافعي الجديد، وأصح الروايات عن الإمام أحمد ، وهو المذهب عند الحنابلة.
قال النووي في المجموع : قال: ((لو باع غيره بغير إذن ولا ولاية فقولان : الصحيح: أن العقد باطل ، وهذا نصه في الجديد)) ([25]) ، وقال ابن قدامة : ((فالصحيح من المذهب أن البيع باطل)) ([26]).
ويرى بعض الفقهاء أنه لا فرق بين تصرف الغاصب وتصرف الفضولي ، فكلاهما موقوف على إجازة المالك ، وهو مذهب الحنفية كما قال في الهداية : ((ومن باع ملك غيره بغير أمره فالمالك بالخيار، إن شاء أجاز البيع ، وإن شاء فسخ ، وله الإجازة إذا كان المعقود عليه باقياً والمتعاقدان بحالهما)) ([27])
وقال في الفتاوى الخانية : ((إذا باع الرجل مال الغير عندنا يتوقف البيع على إجازة المالك)). ثم قال : ((ولو غصب جارية فباعها فقطعت يدها ثم أجاز المغصوب منه البيع صحت الإجازة)) ([28]) .
وأيضاً هو مذهب المالكية ، فقد نقل ابن القاسم عن الإمام مالك في المدونة أنه قال : ((إذا باعها الغاصب – يعني الجارية – فإن أراد ربها أن يجيز البيع كان ذلك له)) ([29]).
وقال في حاشية الخرشي : ((الغاصب أو المشترى منه إذا باع الشيء المغصوب فإن للمالك أن يجيز ذلك البيع؛ لأن غايته أنه بيع فضولي ، وله أن يرده ، وظاهره سواء أقبض المشترى المبيع أم لا، وظاهره علم المشتري أنه غاصب أم لا، كان المالك حاضر أم لا، قرب المكان بحيث لا ضرر على المشتري في المصير إلى أن يعلم ما عنده أم لا ، وهو كذلك في الجميع)) ([30]).
إلا أن أشهب فرق بين جهل المتعاقد مع الغاصب بواقعة الغصب وبين علمه بها، ففي الحالة الأولى يطبق أحكام الفضالة ، أما في الحالة الثانية فإنه يعتبر التصرف باطلاً ، لأن الطرفين دخلا على الفساد والغرر([31]).
والمذهب القديم للشافعي لا يفرق بين تصرفات الغاصب وتصرفات الفضولي، قال النووي : ((والقول الثاني – وهو القديم – أنه ينعقد موقوفاً على إجازة المالك)). وقال الشافعي في آخر باب الغصب من البويطي : ((إن صح حديث عروة البارقي فكل من باع أو أعتق ملك غيره بغير إذنه ثم رضي فالبيع والعتق جائزان ((هذا نصه، وقد صح حديث عروة البارقي فصار للشافعي قولان في الجديد أحدهما موافق للقديم)) ([32]).
والرواية الثانية عن الإمام أحمد :أن التصرف يصح بشرط إجازة المالك ، قال ابن قدامة : ((وفيه رواية أخرى أنه صحيح، ويقف على إجازة المالك)) ([33]) .
أما الراوية الثالثة عن الإمام أحمد: فتعتبر أن تصرف الغاصب يصح وينفذ من دون إجازة ، لأن الغصب في الظاهر تتطاول مدته ، فلو لم يصح التصرف لأفضى إلى الضرر بالمالك والمشتري؛ لأن المالك لا يملك ثمنها ، والمشتري لا يملكها ([34]) .
يتضح مما سبق أن بعض الفقهاء لم يسبغوا صفة الفضالة على التصرفات التي يقوم بها الشخص في ماله غيره، إذا كان يعمل لحساب نفسه، ولعلهم لاحظوا انعدام نية الغيرية في هذه التصرفات فأطلقوا على المتصرف صفة الغاصب لا صفة الفضولي ، ولئن كانت للقواعد الفضالة تنطبق على هذه التصرفات – على رأي بعضهم – فليس معنى ذلك أننا بصدد فضالة ، وإنما لا نزال بصدد عمل من أعمال الغصب.
وبعض الفقهاء الذين أسبغوا وصف الفضولي على من يتصرف في مال غيره لحساب نفسه قد لاحظوا – فما نظن – أن نية الغيرية لا تزال موجودة عند الفضولي ، وإن كان لم يكشف عنها عند التعاقد ؛ فمن رأيهم أن المالك إذا أجاز تدخل الفضولي أنتج التصرف كل آثاره بأثر رجعي ، وانقلب الفضولي وكيلاً ، وهذا لا يتم إذا كان المتصرف – وهو يعمل لحساب نفسه – يسقط كل اعتبار لرب العمل وقت التعاقد وبعده ، فيجب إذاً إن نفترض لدى الفضولي نية العمل لحساب الغير ، ولو كان الظاهر خلاف ذلك ، وهذا الرأي يتناسب مع الروح العامة للفقه الإسلامي([35]).
وبناء على هذا فيمكن القول بأن تصرف الشخص في ملك غيره بغير إذنه على رأي كثير من الفقهاء يعرف في الفقه الإسلامي بـ (تصرف الفضولي) ، وقد تناولها الفقهاء في باب البيع بتفصيل تناول صورها وأدلتها ومذاهب الفقهاء فيها، ويمكن – هنا – إيراد الخلاف الفقهي المذكور في عقد البيع وما يترتب عليه من آثار ، وتطبيقه على موضوع البحث ، وهو استحقاق المعقود عليه في عقد الإجارة ، حيث قرر الفقهاء أن حكم الإجارة كحكم البيع ؛ لأن باب البيع هو الأصل ويتبعه عقود المعاوضات الشبيهة ([36]).
قال د. وهبة الزحيلي : (( عقد البيع من أهم العقود المسماة وأخطرها ، وأشهرها وأكثرها انتشاراً في الحياة العملية ، وهو أساس تبادل الحوائج والمصالح بين الناس منذ القديم ، ... ولهذا تصدر بحث البيع في كتبنا الفقهية وفي جميع التقنينات الصادرة ، واحتل المكانة الأولى بين العقود ، واعتبرت قواعده وشروطه أساساً لبحث العقود الأخرى)) ([37]).
وبناء على ما سبق يمكن حكاية اختلاف الفقهاء وأدلتهم في مسألة تصرف الفضولي في عقد البيع وتطبيقها على موضوع البحث ، وتنزيل الأحكام المستنبطة هناك عليها هنا ، وسيتناول هذا المبحث مطلبين:
المطلب الأول : حكم تصرف الفضولي:
تقدم أن هذه المسألة مما جرى فيه اختلاف كبير بين الفقهاء ، وما نتج عن ذلك من آثار تقتضي صحة بعض التصرفات أو بطلانها ، وفيما يلي ذكر اتجاهات الفقهاء وأدلتهم مع المناقشة والترجيح:
الاتجاه الأول : تصرف الفضولي صحيح موقوف على إجازة المالك أو وليه.
وهو مذهب الحنفية ، والمالكية ، وقول الشافعي القديم ، وهو رواية عن أحمد ([38]).
وقد استدلوا بأدلة منها:
عموم الأدلة التي تدل على مشروعية البيع ، كقوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) ([39]) ، وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) ([40])، وقوله تعالى : (فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) ([41]).
ويوضح الكاساني وجه الدلالة من هذه الآيات فيقول : ((شرع سبحانه وتعالى البيع والشراء والتجارة وابتغاء الفضل من غير فصل بين ما إذا وجد من المالك بطريق الأصالة ، وبين ما إذا وجد من الوكيل في الإبتداء، أو بين ما إذا وجدت الإجازة من المالك في الانتهاء ، وبين وجود الرضا في التجارة عند العقد أو بعده ، فيجب العمل بإطلاقها إلا ما خص بدليل)) ([42]).
أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع ديناراً إلى حكيم بن حزام رضي الله عنه ، وأمره أن يشتري له به أضحية ، فاشترى شاتين ثم باع إحداهما بدينار وجاء بدينار وشاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له بالبركة ، وقال عليه الصلاة والسلام : ((بارك الله في صفقة يمينك)). وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ((ضح بالشاة ، وتصدق بالدينار)) ([43]).
قال الكاساني مبيناً وجه الدلالة من الحديث : ((ومعلوم أنه لم يكن حكيم مأموراً ببيع الشاة ، فلو لم ينعقد تصرفه لما باع ، ولما دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير والبركة على ما فعل ، ولأنكر عليه ؛ لأن الباطل ينكر)) ([44]).
عن عروة بن أبي الجعد البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به له شاة ، فاشترى له به شاتين ، فباع إحداهما بدينار ، وجاءه بدينار وشاة ، فدعا له بالبركة في بيعه ، وكان لو اشترى التراب لربح فيه ([45]).
قال الشوكاني : ((فيه دليل على صحة بيع الفضولي)) ([46]) ، ووجه الدلالة : أن عروة رضي الله عنه قد باع مالاً مملوكاً لغيره بغير إذنه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن لعروة بشراء شاة ، ولم يأذن له بالبيع ، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم ما فعله عروة ، بل ودعا له بالبركة ، فلو كان البيع غيره ، صحيح ما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإذا ثبت الاستحقاق تبين أنه باع ملك غيره فيكون بيعه صحيحاً موقوفاً على إجازة المالك.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((بينما ثلاثة نفر يمشون أخذهم المطر ، فأووا إلى غار في جبل ، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض : انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله بها ؛ لعله يفرجها عنكم ..)) الحديث إلى أن قال : ((وقال الثالث : اللهم إني استأجرت أجيراً بفرق أرز فلما قضى عمله قال : أعطني حقي فعرضت عليه فرغب عنه. فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً وراعيها ؛ فجاءني فقال: اتق الله ، فقلت : اذهب إلى ذلك البقر ورعاتها فخذ ، فقال : اتق الله ، ولا تستهزئ بي ، فقلت : إني لا أستهزئ بك فخذ ، فأخذه فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج ما بقي ، ففرج الله ((وفي رواية فخرجوا يمشون)) ([47]).
وجه الدلالة من الحديث : أن المالك تصرف في مال الأجير بغير إذنه ، وأجازه الأجير ، وأخذه كله.
قال العيني : ((فيه جواز بيع الإنسان مال غيره بطريق الفضول ، والتصرف فيه بغير إذن مالكه إذا اجازه المالك بعد ذلك ، ولهذا عقد البخاري الترجمة – باب إذا اشترى شيئاً لغيره بغير إذنه فرضي))([48])، وقال ابن حجر : ((مال البخاري إلى الجواز ، فإن فيه تصرف الرجل في مال الأجير بغير إذنه، ولكنه لما ثمره له ونماه وأعطاه أخذه ورضي)) ([49]).
قال النووي : ((واحتج بهذا الحديث أصحاب أبي حنيفة وغيرهم ممن يجيز بيع الإنسان مال غيره ، والتصرف فيه بغير إذن مالكه إذا أجاز المالك بعد ذلك ، وموضع الدلالة قوله : ((فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاءها )) ، وفي رواية البخاري : ((فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال))([50]).
ولأن تصرف العاقل محمول على الوجه الأحسن ما أمكن ، وقد أمكن حمله على الأحسن ها هنا ، وقد قصد البر به والإحسان إليه بالإعانة على ما هو خير للمالك في زعمه ؛ لعلمه بحاجته إلى ذلك ، لكن لم يتبين إلى هذه الحالة لموانع ، وقد يغلب على ظنه زوال المانع فأقدم عليه نظراً لصديقه وإحساناً إليه لبيان المحمدة والثناء ؛ لتحمل مؤنة مباشرة التصرف الذي هو محتاج إليه والثواب من الله عز وجل بالإعانة على البر والإحسان ، قال الله تبارك وتعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) ([51]) ، وقال تعالى : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ([52])، إلا أن في هذه التصرفات ضرراً في الجملة، لأن للناس رغائب في الأعيان ،وقد يقدم الرجل على شيء ظهرت له الحاجة عنه بإزالته عن ملكه لحصول غرضه بدون ذلك ونحو ذلك ، فتوقف على إجازة المالك؛ حتى لو كان الأمر على ما ظنه مباشر التصرف إجازة حصل له النفع من جهته ؛ فينال الثواب والثناء ، وإلا فلا يجيزه ويثني عليه بقصد الإحسان وإيصال النفع إليه، فلا يجوز القول فإهدار هذا التصرف وإلحاق كلامه وقصده بكلام المجانين وقصدهم مع ندب الله عز وجل إلى ذلك وحثه عليه لما تلونا من الآيات ([53]).
ولأنه عقد له مجيز حال وقوعه ، فجاز أن يقف على الإجازة كالوصية بأكثر من الثلث ([54])، قال في المعونة : ((ولأنه عقد تمليك يفتقر إلى الإجازة ، فجاز أن يقع موقوفاً عليه كالوصية)) ([55]).
ولأن البيع بشرط خيار ثلاثة أيام يجوز بالاتفاق ، وهو بيع موقوف على الإجازة ([56]).
ولأن إذن المالك لو كان شرطاً في انعقاد البيع لم يجز أن يتقدم على البيع ؛ لأن ما كان شرطاً للبيع لا يجوز أن تقدمه عليه ، ولهذا لما كانت الشهادة شرطاً في النكاح اشترط مقارنتها لعقده ، فلما أجمعنا أن الأذن في البيع يجوز تقدمه ، دل على أنه ليس بشرط في انعقاده ([57]).
وقد نوقش هذا الاستدلال بما يأتي :
أما اجتجاجهم بالآية الكريمة في قوله تعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) ، قال النووي : ((ليس هذا من البر والتقوى ، بل هو من الإثم والعدوان)) ([58]).
وأما حديث حكيم فأجيب عنه بما قاله النووي : ((أنه حديث ضعيف ، والجواب الثاني أنه محمول على أنه كان وكيلاً للنبي صلى الله عليه وسلم وكالة مطلقة ، يدل عليه أنه باع الشاة وسلمها واشترى ، وعند المخالف لا يجوز التسليم إلا بإذن مالكها ، ولا يجوز عند أبي حنيفة شراء الثانية موقوفاً على الإجازة ، وهذا الجواب الثاني هو الجواب عن حديث عروة البارقي)) ([59]).
قال ابن حزم : ((ثم لو صح حديث حكيم وعروة لم يكن لهم فيهما حجة؛ لأنه إذا أمره عليه السلام أن يشتري له شاة فاشترى له شاتين ، صار الشراء لعروة بلا شك ؛ لأنه إنما اشترى كما أراد، لا كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم وزن دينار النبي صلى الله عليه وسلم إما مستقرضاً له ليرده، وإما متعدياً فصار الدينار في ذمته بلا شك ، ثم باع شاة نفسه بدينار فصرفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما لزمه ، وأهدى إليه الشاة ، فهذا كله ظاهر الخبر ، وليس فيه أصلا لا بنص ولا بدليل على أن الشراء جوزه النبي صلى الله عليه وسلم والتزمه فلا يجوز القول بما ليس في الخبر.
وأما خبر حكيم فإنه تعدى في بيع الشاة فلزمه ضمانها ، فابتاعها بدينار كما أمر وفضل دينار، فأمره عليه السلام بالصدقة إذ لم يعرف صاحبه ([60]).
وأجيب بما قاله في بدر التمام : ((الحديث فيه دلالة على أن عروة اشترى ما لم يوكل بشرائه ، وباع كذلك ؛ لأنه أعطاه ديناراً ليشتري به أضحية، فلو وقف على الأمر لاشترى ببعض الدينار الأضحية ورد البعض ، وهذا الذي فعله هو العقد الموقوف الذي ينفذ بالإجازة ، وقد وقعت ، وذهب إلى صحة العقد الموقوف جماعة من السلف ، منهم : علي، وابن عباس ، وابن مسعود، وابن عمر ([61])
وأما حديث ابن عمر في قصة أصحاب الغار ، فجوابه : أن هذا شرع لمن قبلنا ، وفي كونه شرع لنا خلاف مشهور ، فإن قلنا : ليس بشرع لنا لم يكن فيه حجة ، وإلا فهو محمول على أنه استأجره بإرز في الذمة ولم يسلمه إليه ، بل عينه له فلم يتعين من غير قبض ، فبقي على ملك المستأجر ؛ لأن ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح)) ([62]).
وأجيب بما قاله العيني : ((قلت: شرع لمن قبلنا يلزمنا ما لم يقص الشارع الإنكار عليه ، وهنا طريق آخر في الجواز ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم ذكر هذه القصة في معرض المدح والثناء على فاعلها، وأقره على ذلك ، ولو كان لا يجوز لبينه)) ([63]).
وقال ابن حزم : ((أما كونه حجة عليهم : فإن فيه أنه عرض عليه حقه فأبى من أخذه وتركه ومضى ، فعلى أصلهم قد بطل حقه ، إذ سكت عن أخذه ، فلا طلب له فيه بعد ذلك)) ([64]).
وأما قياسهم على الوصية فالجواب : أنها تحتمل الغرر ، وتصح بالمجهول والمعدوم بخلاف البيع ([65]).
والجواب عن شرط الخيار أن البيع مجزوم به ، منعقد في الحال ، وإنما المنتظر فسخه ، ولهذا إذا مضت المدة ولم يفسخ لزم البيع ([66]).
والجواب عن القياس الأخير : أنه ينتقض بالصوم ، فإن النية شرط لصحته وتتقدم عليه ، ولأن الإذن ليس متقدماً على العقد وإنما الشرط كونه مأذوناً له في حالة العقد ([67]).
يتبع