ابو وليد البحيرى
2018-10-27, 07:44 PM
المتشابه اللفظي في القرآن الكريم
( دراسة تحليلية)
د.وليد محمد عبد العزيز الحمد[(*)]
ملخص البحث:
يتضمن هذا البحث قضية المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، وقد قمت في بدايته بتعريف القضية لغة، ثم اصطلاحاً، ثم تعرضت لفوائد هذا العلم وأهميته، في جانب نظري مختصر، ثم انتقلت للجانب العملي، ولم يسعني ذكر كل القضايا التي تناولها علماء المتشابه، فاختصرت البحث في الحديث عن اختلاف (الصيغة- الاختلاف بين الإفراد والجمع- الاختلاف في التذكير والتأنيث- الاختلاف في التعريف والتنكير) من خلال ذكر نموذج واحد في كل مطلب، وكان من أبرز دوافع موضوع الدراسة: تميز الموضوع بالربط بين الدراسة البلاغية والدراسة النحوية، والدراسة الصرفية والدراسة الدلالية، ودمج هذا الخليط كله؛ ليتحقق الهدف في معرفة مفهوم المتشابه في القرآن الكريم، وأهميته، وفوائده، ومعرفة الدقائق اللغوية والبلاغية في القرآن الكريم، واعتمدت على المنهج الوصفي، وذلك بشرح القضايا شرحاً يسيراً، وقد تم التوصل لنتائج عديدة:
منها: أن السياق القرآني- لفهمه فهماً صحيحاً- لابد من فهم اللغة العربية بكل أركانها: النحوي والصرفي والبلاغي والدلالي والصوتي، وأن المتشابه اللفظي من أعظم دلائل إعجاز القرآن.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
هذا بحث قد عني بقضية المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، وقضية المتشابه يتتبعها من في قلبه زيغ ومرض؛ فنجد أكثر المشككين في الدين والطاعنين في قدسية القرآن الكريم يحاولون النيل منه عن طريق تلك القضية؛ ومن له باع في العربية يستطيع أن يزداد إيماناً بالقرآن الكريم؛ نظراً لأن القضية التي يتخذها بعضهم ذريعة للتشكيك ما هي إلا معجزة لغوية من معجزات القرآن التي تبرهن أنه أنزل من لدن حكيم عليم!
أسباب اختيار الموضوع:
إن أبرز الدوافع والأسباب وراء اختيار هذا البحث الماتع تتلخص فيما يلي:
-أهمية هذا الموضوع؛ لتعلقه بالقرآن الكريم، وأنه قد يتخذ ذريعة للطعن وخلافه.
-تضمن الموضوع مادة بلاغية غزيرة، عنيت في التدليل عليها بالقرآن الكريم، ومحاسن صياغته، ففي الموضوع: العديد من المسائل البلاغية والتحليلات اللغوية.
-تميز الموضوع بالربط بين الدراسة البلاغية والدراسة النحوية، والدراسة الصرفية والدراسة الدلالية، ودمج هذا الخليط كله في معرفة النسق القرآني وأسراره.
أهداف البحث:
1-معرفة مفهوم المتشابه في القرآن الكريم، وأهميته وفوائده.
2-معرفة الدقائق اللغوية والبلاغية في القرآن الكريم.
3-ضرورة الربط بين الآيات المتشابهات وعلوم اللغة.
4-بيان الإعجاز اللفظي في القرآن الكريم.
5-الاهتمام بدرس السياق القرآني المترابط ككل؛ إذ لا تؤخذ كل آية على حدة.
منهجية البحث:
أما المنهج الذي اعتمدت عليه في عرض البحث فهو:
المنهج الوصفي: وذلك بشرح القضايا شرحاً يسيراً، ثم ضرب أمثلة متعددة عليها وتوضيح الفروق بين تلك الأمثلة التي يتم تناولها.
الدراسات السابقة:
1-رسالة أثر دلالة السياق القرآني في توجيه معنى المتشابه اللفظي في القصص القرآني. إعداد الطالبة: تهاني بنت سالم بن أحمد باحويرث. إشراف فضيلة الأستاذ الدكتور/ عبد العزيز عزت. رسالة ماجستير.1428هــ.
2-رسالة دلالة السياق وأثرها في توجيه المتشابه اللفظي في قصة موسى عليه السلام، إعداد: فهد الشتوي، إشراف: د.محمد بازمول، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، 1426هــ.
3-رسالة المتشابه اللفظي في القرآن، إعداد: د.فائقة حسن الحسني، إشراف: د.أمين باشا، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى، 1424هــ.
4-رسالة المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية، إعداد: د.صالح بن عبد الله الشثري، إشراف: د.محمد أبو موسى، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى، 1421هــ.
5-رسالة توجيه المتشابه اللفظي في القرآن بين القدامى والمحدثين لأحمد الغرناطي وفاضل السامرائي: دراسة مقارنة. إعداد: محمد الجبالي، المشرف: الأستاذ الدكتور: ذو الكفل يوسف يعقوب. جامعة ملايا، أكاديمية الدراسات الإسلامية، قسم القرآن والحديث.
6-كتاب درة التنزيل وغرة التأويل للإسكافي.
7-كتاب البرهان في توجيه متشابه القرآن للكرماني.
8-ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل لابن الزبير.
9-كشف المعاني في المتشابه من المثاني لابن جماعة.
10-فتح الرحمن للأنصاري.
وسوف يكون عرض البحث على النحو التالي:
المبحث الأول بعنوان: تعريف المتشابه، وأهميته، وفوائده، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف المتشابه.
المطلب الثاني: أهمية المتشابه اللفظي.
المطلب الثالث: فوائد المتشابه اللفظي.
المبحث الثاني بعنوان: الاختلاف بين الآيات المتشابهة في اختيار الصيغة، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: الاختلاف في الاسمية والفعلية.
المطلب الثاني: الاختلاف في صيغة الماضي والمضارع.
المطلب الثالث: الاختلاف في صيغ الفعل الماضي.
المطلب الرابع: الاختلاف في صيغ الاشتقاق.
المبحث الثالث بعنوان: الاختلاف بين الآيات المتشابهة في الإفراد والجمع، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الجمع والإفراد في الأسماء الظاهرة.
المطلب الثاني: الجمع والإفراد في الضمائر.
المطلب الثالث: اختلاف صيغ الجموع.
المبحث الرابع بعنوان: الاختلاف بين الآيات المتشابهة في التذكير والتأنيث، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: التذكير والتأنيث في الأسماء الظاهرة.
المطلب الثاني: التذكير والتأنيث في الضمائر.
المطلب الثالث: التذكير والتأنيث في الأفعال المسندة للضمائر.
المبحث الخامس بعنوان: الاختلاف بين الآيات المتشابهة في التعريف والتنكر، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: التعريف بالألف واللام.
المطلب الثاني: التعريف بالاسم الموصول.
والله أسأل أن يجعله عملاً متقبلاً، وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى.آمين.
المبحث الأول
(( تعريف المتشابه وأهميته وفوائده))
قبل البدء في الجانب التطبيقي الخاص بقضية المتشابه اللفظي لابد من الوقوف على تعرف المتشابه لغة واصطلاحاً، وكذلك معرفة أهمية المتشابه وفوائده، وسوف نستعرض المسألة في ثلاثة مطالب على النحو التالي:-
المطلب الأول
تعريف المتشابه
المتشابه لغة: قال الجوهري: ((شِبْه وَشَبَه لغتان بمعنى... والمشتبهات من الأمور المشكلات، والمتشابهات المتماثلات))[(1)].
وقال ابن فارس: ((الشين والباء والهاء أصل واحد يدل على تشابه الشيء وتشاكله لوناً ووصفاً، يقال: شِبْه وشَبَه وشَبيه. والشبه من الجوهر الذي يشبه الذهب، والمشبهات من الأمور المشكلات، واشتبه الأمران إذا أشكلا))[(2)].
وقال الزمخشري: ((تشابه الشيئان واشتبها، واشتبهت الأمور وتشابهت التبست؛ لأشباه بعضها بعضاً))[(3)].
وقال ابن منظور: ((شبه الشبه، والشِّبه، والشبيه: المثل، والجمع أشباه، وأشبه الشيء ماثله، وفي المَثل: من أشبه أباه فما ظلم، والجمع مشابه على غير قياس، كما قالوا محاسن ومذاكير، وأشبهت فلاناً وشابهته، واشتبه علي وتشابه الشيئان واشتبها أشبه كل واحد منهما صاحبه، والمشتبهات من الأمور: المشكلات، والمتشابهات: المتماثلات، وتشبَّه فلان بكذا، والتشبيه التمثيل، وأمور مشتبهة ومشبهة مشكلة يشبه بعضها بعضاً. المتشابه: ما لم يتلق معناه من لفظه))[(1)].
وقال محمد بن أبي بكر الرازي: ((شِبه وشَبه لغتان بمعنى، يقال: هذا شِبْهُه؛ أي: شبيهه، وبينهما شبه بالتحريك، والجمع مشابه على غير قياس، والشبهة الالتباس، والشَّبَه ضرب من النحاس))[(2)].
وقال أحمد بن محمد الفيومي: ((واشتبهت الأمور وتشابهت: التبست فلم تتميز ولم تظهر، ومنه اشتبهت القبلة ونحوها، والشبهة في العقيدة المأخذ الملبس، سميت شبهة لأنها تُشبه الحق... وتشابهت الآيات: تساوت أيضاً؛ فالمشابهة: المشاركة في معني من المعاني))[(3)].
وقال الفيروز آبادي: ((وشابهه وأشبهه: ماثله... وتشابها، واشتبها: أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا... وأمور مشتبهة ومشبهة: مشكلة))[(4)]، وبالتأمل في هذه التعريفات للمتشابه عند أهل اللغة نجد أن المتشابه يدور حول معنيين:
الأول: معنى المماثلة:
وقد جاء ذلك في وصف القرآن الكريم، قال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}[الزمر:23] قد تشابهت آياته في التنزه عن كل وصف يلحقه بكلام المخلوقات، وتماثلت في كل وصف يوصف به كلام رب العالمين منبئة أنها تنزيل من حكيم حميد، هدى ورحمة للعالمين.
كذلك وصفت آيات القرآن بالإحكام، قال تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)}[هود:1]، والمراد هنا: الإحكام العام، فلا يلحق آيات القرآن العظيم خلل أو قصور، أو تفاوت في النسق والإعجاز.
الثاني: معنى الإشكال أو الالتباس:
فإن الأمور لا تشتبه إلا بوجود التماثل أو بعض تماثل بين المشبه والمشبه به.
قال ابن قتيبة: ((ثم قد يقال لكل ما غمض ودق: متشابه وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره، ألا ترى أنه قد قيل للحروف المقطَّعة في أوائل السور: متشابه، وليس الشك فيها والوقوف عندها لمشاكلتها غيرها والتباسها بها))[(1)].
المتشابه في الاصطلاح:
أن يشتبه اللفظ في الظاهر مع اختلاف المعنى، كما قال تعالى في وصف ثمر الجنة:{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً}[البقرة:25]؛ أي: متفق المناظر ومختلف الطعوم.
وقال الشيخ عبد الرؤوف بن محمد المناوي: ((المتشابه: المشكل الذي يحتاج فيه إلى فكر وتأمل))[(2)].
تعريف المتشابه اللفظي في القرآن الكريم:
قبل الخوض في بيان ذلك أن المتشابه في القرآن نوعان:
النوع الأول: المتشابه الذي يقابل المحكم، وهذا النوع ليس مجال بحثنا.
النوع الثاني: المتشابه اللفظي الذي يحصل في بعض آيات القرآن الكريم، وهذا هو المراد من البحث.
وحتى يتضح مفهوم المتشابه في القرآن عند العلماء لابد من أن نورد أقوالهم؛ لذا نبدأ ببيان ذلك بالمتقدم منهم فالذي يليه.
وأول نص يبين المراد من المتشابه هو لابن جرير الطبري؛ إذ يقول: ((وقال آخرون: معنى المحكم: ما أحكم الله فيه من آي القرآن، وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصله ببيان ذلك لمحمد وأمته، والمتشابه: هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، بقصه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبقصه باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني))[(1)].
وقد ذكر الخطيب الإسكافي سبب تصنيفه لدرة التنزيل قائلاً: ((أني مذ خصني الله تعالى بإكرامه وعنايته، وشرفني بإقراء كلامه ودراسته، تدعوني دواع قوية، يبعثها نظر وروية، في الآيات المتكررة، بالكلمات المتفقة، والمختلفة، وحروفها المتشابهة المتعلقة، والمنحرفة؛ تطلبا لعلامات ترفع لبس إشكالها، وتخص الكلمة بآياتها، دون أشكالها))[(2)].
أما الكرماني: فقال في مقدمة كتابه: ((هذا كتاب أذكر فيه الآيات المتشابهات التي تكررت في القرآن وألفاظها متفقة، ولكن وقع في بعضها زيادة أو نقصان، أو تقديم أو تأخير، أو إبدال حرف مكان حرف، أو غير ذلك مما يوجب اختلافاً بين الآيتين أو الآيات التي تكررت من غير زيادة ولا نقصان، وأبين ما السبب في تكرارها والفائدة في إعادتها، وما الموجب للزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير والإبدال، وما الحكمة في تخصيص الآية بذلك دون الآية الأخرى، وهل كان يصلح ما في هذه السورة مكان ما في السورة التي تشاكلها أم لا؟))[(3)].
ويقول أبو البقاء: ((إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة في التقديم والتأخير، والزيادة والترك، والتعريف والتنكير، والجمع والإفراد، والإدغام والفك، وتبديل حرف بحرف))[(4)].
ويقول الزركشي: ((هو إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة، ويكثر في إيراد القصص والأنباء))[(1)].
وليس مقصود الزركشي قصر المتشابه على القصص القرآني؛ لأنه جعله كثيراً فيه لا قاصراً عليه، والأمثلة التي مثل بها رحمه الله تدل على ذلك.
والحاصل مما سبق أن تعريف المتشابه اللفظي اصطلاحاً: هو الآيات القرآنية المتكررة بلفظها، أو مع اختلاف يسير في لفظها أو نظمها أو كليهما، مع تقارب المعنى لغرض ما.
المطلب الثاني
أهمية المتشابه اللفظي(×)
أولاً: ترجع أهمية هذا العلم إلى موضوعه فهو ضرب من تفسير القرآن؛ لذلك فأهميته من أهمية علم التفسير، فعلم المتشابه اللفظي في القرآن الكريم قسم قائم بذاته، وهو من الأنواع التي اشتمل عليها القرآن في بيان أنه وحي، لا عمل للبشر فيه، مع تنوع استعمالاته من تقديم وتأخير، أو حذف وإثبات، أو تعريف وتنكير، أو إبدال شيء منه بشيء آخر في الموضع الواحد.
ثانياً: ترجع أهميته إلى أهمية نشأته، حيث أنه أنشئ حفاظاً على القرآن الكريم، من أن يقع اللحن في كلماته، وتيسيراً لِحَفَظَةِ كتاب الله، وهو من علوم القرآن التي تخدمه وتحافظ عليه وتبرز كثيراً من وجوه إعجازه وأسراره التي لا تنفد.
المطلب الثالث
فوائد المتشابه اللفظي
1-أن علم الآيات المتشابهات يملأ النفس إيماناً بعظمة الله وقدرته حين يقف الإنسان في تفسير هذا النوع من الآيات على دقائق الأسلوب البياني للقرآن الكريم، فدراسته تعين على الفقه في كتاب الله، وإظهار إعجازه وغزارة معانيه وأسراره[(1)]، والبحث عن دقائقه، وذلك من أعظم القرب؛ لأنه يوجب مزيد المشقة في الوصول إلى المراد وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب من الله تعالى.
2-أن علم المتشابه اللفظي فيه دلالة على صدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك حين تتجلى الصور البلاغية البديعة والمعاني العظيمة مطوية في ثناياه، مع أنه أمِيٌّ لم يقرأ ولم يكتب، قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ(4 8)}[العنكبوت:48].
3-أن علم المتشابه اللفظي باب من أبواب التأمل في آيات الله، الأمر الذي حث عليه سبحانه في كتابه بقوله:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)}[النساء:82]، وقوله تعالى:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)}[محمد:24].
4-هو علم يرد على الملحدين والمشككين الذين يطعنون في القرآن من خلال ما تشابه منه وما تماثل أو تكرر من ألفاظه وآياته، مدعين أن ما به من المتشابه اللفظي غير مفهوم، أو تكرار لا هدف له، فعلم المتشابه يرد عليهم بعكس ما يقولون وذلك بإظهاره عظمة القرآن وبلاغته في متشابهه، وما يظهره من وجه الحكمة في كل موضع.
5-وكذا نستفيد أن المتشابه اللفظي ضرب من التكرار، وفي هذا التكرار تثبيت لقلب النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)}[هود:120].
6-أن علم المتشابه اللفظي يعين على تيسير حفظ القرآن الكريم وإتقانه، ولذلك صنف العلماء مؤلفات في المتشابه اللفظي لهذا الغرض تحديداً.
7-أن المتشابه اللفظي معين على المحافظة على علوم القرآن الكريم، وذلك لأن البحث في اوجه التشابه ومحاولة توجيهها يحتاج إلى النظر في اللغة والنحو والبلاغة وأصول الفقه وغيرها، فكان المتشابه اللفظي بذلك سبباً في تحصيل علوم كثيرة.
المبحث الثاني
(( الاختلاف بين الآيات المتشابهة في اختيار الصيغة))
واختلاف صيغة اللفظة يعني نقلها من هيئة إلى هيئة كنقلها من وزن إلى وزن آخر، أو نقلها من صيغة الاسم إلى صيغة الفعل أو بالعكس، أو كنقلها من الماضي إلى المستقبل أو بالعكس، أو من الواحد إلى التثنية أو الجمع أو إلى النسب؛ إلى غير ذلك، انتقل قبحها فصار حسناً وحسنها فصار قبحاً[(1)].
وقد اعتنى البلاغيون بموضوع اختيار الصيغة عناية كبيرة لاسيما الفروق بين الاسم والفعل، وقد وضح ذلك في كتاباتهم، ومنهم الإمام عبد القاهر الجرجاني فبين- في كتابه دلائل الإعجاز في سياق حديثه تحت عنوان ((الفروق في الخبر))- الفرق بين الخبر إذا كان اسماً، أو فعلاً، أو صفة مشبهة[(2)].
وعلى هذا النحو فقد شغلت البلاغيين قضية الصيغة؛ فتطرقوا لصيغ الأفعال والمعاني الدلالية التي تفرق بين كل صيغة، وكذلك تطرقوا للاختلاف بين صيغ المشتقات والمعاني التي تؤديها، وسوف نتناول في هذا المبحث ما ورد من الآيات المتشابهات من حيث الصيغة، وسوف يدور حديثنا حول أربعة مطالب كالآتي:-
المطلب الأول
الاختلاف في الاسمية والفعلية
من الآيات التي وقف عندها علماء التشابه اللفظي في موضوع الاسمية والفعلية؛ تحليلهم لآية الأنعام:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)}[الأنعام: 95، 96].
فقد عبر بالاسم في موضع سورة الأنعام ((مخرج)) على الرغم من أن الآية تكررت كثيراً في القرآن الكريم، ولكنها وردت بصيغة الفعل، ومثال ذلك:{وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ}[آل عمران:27] {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ}]يونس:31[(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ)[الروم:19] فلماذا عبر بالاسمية في موضع سورة الأنعام؟
يقول الإسكافي: ((إن أول هذه الآية ذكر بلفظ الاسم وهو {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} فكان اللائق به أن يقال: ومخرج الحي من الميت، ولكنه لما اجتمع ثلاثة حروف من حروف العلة دفعة واحدة، وهي: الواو من النوى، والياء من النوى، والواو من مخرج؛ وهي واو العطف، ونقل عن لفظ الاسم إلى لفظ الفعل لما كان يخرج ومخرج بمعنى واحد، فقال:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ} فجعل الجملة وهي:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ} خبر الابتداء، كما تقول: إن زيداً ضارب عمرو، يكرم بكراً، ومكرم جعفراً، فهذا أفصح من أن تقول: إن زيداً ضارب عمرو، ومكرم بكر، ومكرم جعفر، فلهذا المعنى قال:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ} فلما انتهى إلى العاطف من قرينه لم تكن فيه تلك العلة التي كانت في المعطوف عليه؛ فأجرى علي ما أجرى عليه أول الآيس، وهو:{فَالِقُ الْحَبِّ} وما بعده:{فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً}[الأنعام:96]، وعاد إلى لفظ الاسم وهو:{وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ}، وعطفه على {فَالِقُ الْحَبِّ}، وليس في الآي الأخر ما في هذه الآية قبلها وبعدها من الاسمية، فذكر فيها على لفظ الفعل عاطفها ومعطوفها فبان الفرق بينهما على ما بينت))[(1)].
يقول الزمخشري: ((قال:{وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ} بلفظ اسم الفاعل، بعد قوله:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ} قلت: عطفه على فالق الحب والنوى، لا على الفعل. ويخرج الحيَّ من الميت: موقعة موقع الجملة المبينة لقوله:{فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحيِّ من الميت؛ لأنَّ النامي في حكم الحيوان. ألا ترى إلى قوله:{يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}[الروم:50]))[(1)].
وكلام الزمخشري قريب من كلام الإسكافي؛ لأنه يضم الجمل الاسمية بعضها إلى بعض، ويعد الجملة الفعلية بياناً للتي قبلها، أما العلَّامة الطاهر ابن عاشور فيقول: ((وقد جيء بجملة: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ} فعلية للدلالة على أن هذا الفعل يتجدد ويتكرر في كل آن، فهو مراد معلوم وليس على سبيل المصادفة والاتفاق.
وجيء في قوله:{وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ} اسماً للدلالة على الدوام والثبات، فحصل بمجموع ذلك أن كلا الفعلين متجدد وثابت؛ أي: كثير وذاتيٌّ؛ وذلك لأنَّ أحد الإخراجين ليس أولى بالحكم من قرينه، فكان في الأسلوب شِبه الاحتباك))[(2)].
المطلب الثاني
الاختلاف في صيغة الماضي والمضارع
ومن الآيات المتشابهة التي ورد فيها اختلافاً في الصيغة بين الماضي والمضارع قوله تعالى في سورة الأنعام:{وَلَلدّ َارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ }[الأنعام:32]، وفي قوله تعالى في سورة الأعراف:{وَالدَّ ارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[الأعراف:169] وفي قوله تعالى في سورة يوسف:{وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ}[يوسف:109] فورد الفعل في السورتين الأوليين بصيغة المضارع، وورد في آية يوسف بصيغة الماضي؛ فلمَ اختلف التعبير بين الموضعين؟
ورد لفظ ((يتقون)) في السورتين على بابه وهو إفادة التجديد. أما آية سورة سيدنا يوسف، فخرجها الإسكافي في قوله: ((وقوله:{لِلَّذِي نَ اتَّقَوْا} في سورة يوسف هو أن القوم دعوا إلى الاعتبار بأحوال الأمم الذين أهلكوا في أزمنة أنبيائهم بالنظر إلى منازلهم، وهي خاوية على عروشها؛ ليعلموا أن الدار الآخرة خير لمن اتقى منهم))[(1)].
أما ابن الزبير فقال: ((إن قوله تعالى في سورة يوسف:{وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} قد تقدم قبله قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} الآية، والحاصل منه أنهم ظلموا أنفسهم فأهلكوا ولو اتقوا لنجوا فناسب هذا المعنى المقدر، ورود الماضي في قوله تعالى:{لِلَّذِين َ اتَّقَوْا} أوضح مناسبة))[(2)].
في سورة الأنعام لأن الآية ارتبطت بعاقبة المتقين جزاء أعمالهم في الدنيا؛ فأتت صيغة ((يتقون)) مضارعة للدلالة على تجدد هذا النعيم واستمرارها، أما في سورة الأعراف فالسياق ورد فيه ترهيب لليهود الذين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وارتشائهم على كتمان أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وترغيب لهم فيما عند الله عز وجل إذا صدقوا ما في كتاب الله عز وجل، والترغيب والترهيب لا يتعلقان إلا بالآنف المستقبل، فلذلك قال:{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ}[(3)].
المطلب الثالث
الاختلاف في صيغ الفعل الماضي
عرضنا آنفا اختلاف الصيغة من المستقبل إلى الماضي، والآن نعرض تعدد الصيغ في الزمن الواحد، وبالبحث في الآيات المتشابهة في هذا الموضوع وجدنا أنها كثيرة جداً؛ إذ إن صيغ المادة الواحدة في الماضي كل صيغ تحمل دلالة معينة، وحين تستخدم كل صيغة في سياق معين في القرآن الكريم تحوي غرضاً بلاغياً ومعنى بيانياً بعينه.
وسوف نعرض لمادة كَثُرَ استخدامها في القرآن الكريم وهي مادة ((نزل)) في صيغة الماضي، وقد دار حديث العلماء حول لفظ ((أَنْزَلَ))، و((نَزَّلَ)) وهاتان الصيغتان لابد من الوقوف في ظلالهما لبيان الأثر الصوتي والجمالي والدلالي لتنوع الصيغ الصرفية، وحين نتناول الصيغتين صرفياً يجب علينا أن نشير إلى أن التعبير بصيغة ((فَعَّل)) إنما هو على معنى التكثير والمبالغة في القيام بالفعل غالباً، وما تقتضيه هذه المبالغة من استلزام الزمن الطويل للقيام بهذا الفعل مضاعفاً، أما صيغة ((أَفْعَلَ)) فتتوقف دلالاتها عند معنى التعدية.
وقد أشار ابن عصفور الإشبيلي إلى القيمة الصوتية التي تتضمنها صيغة ((فَعَّلَ))؛ إذ يقول: ((اعلم أن التضعيف لا يخلو أن يكون من باب إدغام المتقاربين، أو من باب إدغام المتماثلين. فإن كان من باب إدغام المتقاربين فلا يلزم أن يكون أحد الحرفين زائداً وأن يكون أصلاً. وإن كان من جنس إدغام المتماثلين كان أحد المثلين زائداً، إلا أن يقوم دليل على أصالتهما))[(1)].
مثال: يقول تعالى:{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}[آل عمران:3].
خصص القرآن الكريم بلفظ ((نَزَّلَ)) بالتضعيف، بينما ورد الفعل مع التوراة والإنجيل بدون تضعيف، فما السر الجمالي في هذا التغاير التوظيفي؟
نظر المفسرون[(1)]
في التفريق بين الفعلين إلى اعتماد الزيادة الصرفية كمحول للدلالة، فصيغة )(فَعّلَ)) للمبالغة والتكثير، وهذا مما يناسب القرآن الكريم الذي نزل منجماً على فترة زمنية محددة بثلاث وعشرين سنة، بخلاف التوراة والإنجيل اللذين نزلا دفعة واحدة؛ ولذا تمت المخالفة هنا في السياق التوظيفي للفعلين على إرادة المبالغة في جانب صيغة ((فَعَّلَ))، وإرادة معنى النزول فقط في صيغة ((أَفْعَلَ))، وإذا نظرنا في مواضع أخرى في القرآن الكريم نجد أنه قد عُبِّر عن إنزال القرآن بصيغة ((أنزل)) التي سبق وأن أشار المفسرون إلى أن تلك الصيغة إنما يراد بها ما نزل دفعة واحدة، ومن ذلك قوله تعالى:{ َوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت:51] وكذلك قوله تعالى:{كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:9] فكيف يكون التعامل مع هذا الإشكال؟
يقول الراغب: ((الفرق بين الإنزال والتنزيل في وصف القرآن والملائكة، أن التنزيل يختص بالموضع الذي يشير إليه إنزاله مفرقاً، ومرة بعد أخرى، والإنزال عام))[(2)].
وعلى هذا فإن معنى التدرج والتكرار في الإنزال مما يستفاد من التعبير بصيغة ((نَزِّلَ))؛ لأنها تقتضي الإنزال مرة بعد أخرى، وعلى هذا فإن ما يميز هذه الصيغة هو أنها تتضمن معنى المبالغة، ومعنى التكرار والتدرج في الإنزال. يقول ابن الزبير: ((لفظ (نَزِّلَ) يقتضي التكرار لأجل التضعيف؛ تقول: (ضرب) مخففاً لمن وقع ذلك عليه مرة واحدة، ويحتمل الزيادة والتقليل أنسب وأقوى))[(3)]، إذاً فإن صيغة (نَزَّلَ) لها أربع دلالات: المبالغة، والتكثير، والتدرج، والتكرار.
أما صيغة ((أَنْزَلَ)) فدلالتها تقف عند الإنزال وشموليته.
فنستطيع الاستنتاج أن استخدام أي صيغة من الصيغتين يكون وفق المقام السياقي الذي يتطلب أياً من الصيغتين.
وإذا ما وقفنا بين يدي قوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر:1] على أن الإنزال الذي تم فيها للقرآن الكريم دفعة واحدة إلى السماء الدنيا في بيت العزة من اللوح المحفوظ، ولا يناسب التعبير هنا إلا صيغة ((أَنْزَلَ)) بخلاف صيغة ((نَزَّلَ)) التي تقتضي المبالغة، وهذا ما لا يتناسب مع المعنى هنا.
كذلك أليس من المناسب تماماً ما ذكره القرآن الكريم عن إنزال الحديد إلى الأرض بصيغة ((أَنْزَلَ)) لأن هذا في حقيقة الأمر تم دفعة واحدة في مرحلة الخلق كما في قوله تعالى:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}[الحديد:25] يقول : ((التعبير هنا بكلمة ((أَنْزَلَ) دقيق يتسق مع معطيات العلم الحديث التي تؤكد استحالة تكون معدن الحديد على سطح الكرة الأرضية، ذلك لأن اندماج ذرتين من هذا العنصر يتطلب فوق ثلاثة ملايين درجة حرارة مئوية فقط لاندماج ذرتين منه، فكيف بهذه الكميات الهائلة التي تشغل باطن الكرة الأرضية؟! وليس على سطح الكرة الأرضية أي وجود لمثل هذه الطاقة الهائلة والمطلوبة لمثل هذه الاندماجات. لذا لابد من الإقرار بأن هذا العنصر لم يتكون على سطح الأرض، بل هو مُنْزَل إليها))[(1)].
فناسب هذا المعنى أن يرد التعبير عنه بصيغة ((أنزل)).
وقد أشار الكرماني في هذا السياق بين الصيغتين في قوله تعالى:{أَتُجَادِ لُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}[الأعراف:71]، {إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}[يوسف:40ٍ[النجم:23] فما السر البلاغي في التفريق بين الصيغتين؟
يقول الكرماني: ((قوله:{مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} في هذه السورة ((نَزَّلَ)) وفي غيرها ((أَنْزَلَ)) لأن أفعل كما ذكرت آنفا للتعدي، وفعل للتعدي والتكثير؛ فذكر في الموضع الأول بلفظ المبالغة ليجري مجري ذكر الجملة والتفصيل، وذكر الجنس والنوع، فيكون الأول كالجنس، وما سواه كالنوع))[(1)].
وتناول ابن الزبير الحديث حول هذه المسألة ((نَزَّلَ)) و((أَنْزَلَ)) وذلك حين تحدَّث عن آيتين متشابهتين في سورة محمد صلى الله عليه وسلم في {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:9] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ}[محمد:26].
فحين تناول ابن الزبير هاتين الآيتين بين الاختلاف في توظيف الصيغتين في كلا الموضعين السابقين بناء على ما تضمنته السورة من أولها؛ فيقول: ((المتقدم من أول هذه السورة إلى قوله بعد الآية المتكلم فيها: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ}[محمد:11] يقصد ممن تضمنته هذه الآية من الكفار غير مشركي العرب من قريش وغيرهم، ولاشك أن كفرهم منسحب على كل المنزل من القرآن وما تقدم نزوله من التوراة وغيرها من الكتب، فلم يكن ليلائم ذلك عبارة نَزَّل المبينة عن تنجيم المنزّل، ولم ينزَّل كذلك غير القرآن، وهم ينكرون كل الكتب المنزلة ويكرهونها؛ فقيل هنا:{كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ}[محمد:11].
أما الآية الثانية: فالمراد بها ذوو النفاق والمرتدون على أدبارهم، ويبين ذلك ما تقدمها من قوله تعالى:{رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ}[محمد:20]، وهؤلاء هم المنافقون، ولم يقع فيما بعد عدول عنهم إلى قوله:{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ}[محمد:25] وإنما هؤلاء قوم كفروا بعد إسلامهم، وهم القائلون بمقتضى نفاقهم وما أبطنوه من الكفر لغيرهم:{سَنُطِيع ُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ}[محمد:26]، ولهؤلاء إطلاع على المنزَّل من القرآن، وخصوص كراهيته له، وهي المهيجة لنفاقهم، فهو الذي كرهوه حقيقة؛ فقيل هنا:{كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} بلفظ التضعيف إذ الإشارة إلى القرآن، وهذه صفته أعني ما يشير إليه التضعيف من التنجيم في النزول، فكل من الموضعين وارد على أنسب نظام وأتمه))[(1)].
الحاصل مما أورده ابن الزبير: أن صيغة ((نَزَّلَ)) وردت حين ذُكِرَ أهل النفاق والريب؛ لأنهم كفروا بعد إيمانهم ومعرفتهم للحق فكانت تلك الصيغة أنسب لبيان المنزل، أما صيغة ((أنزل)): فكانت أنسب في ذكر المشركين؛ لأنهم ينكرون كل الكتب المنزلة من لدن الله عز وجل ويكرهونها.
يتبع
( دراسة تحليلية)
د.وليد محمد عبد العزيز الحمد[(*)]
ملخص البحث:
يتضمن هذا البحث قضية المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، وقد قمت في بدايته بتعريف القضية لغة، ثم اصطلاحاً، ثم تعرضت لفوائد هذا العلم وأهميته، في جانب نظري مختصر، ثم انتقلت للجانب العملي، ولم يسعني ذكر كل القضايا التي تناولها علماء المتشابه، فاختصرت البحث في الحديث عن اختلاف (الصيغة- الاختلاف بين الإفراد والجمع- الاختلاف في التذكير والتأنيث- الاختلاف في التعريف والتنكير) من خلال ذكر نموذج واحد في كل مطلب، وكان من أبرز دوافع موضوع الدراسة: تميز الموضوع بالربط بين الدراسة البلاغية والدراسة النحوية، والدراسة الصرفية والدراسة الدلالية، ودمج هذا الخليط كله؛ ليتحقق الهدف في معرفة مفهوم المتشابه في القرآن الكريم، وأهميته، وفوائده، ومعرفة الدقائق اللغوية والبلاغية في القرآن الكريم، واعتمدت على المنهج الوصفي، وذلك بشرح القضايا شرحاً يسيراً، وقد تم التوصل لنتائج عديدة:
منها: أن السياق القرآني- لفهمه فهماً صحيحاً- لابد من فهم اللغة العربية بكل أركانها: النحوي والصرفي والبلاغي والدلالي والصوتي، وأن المتشابه اللفظي من أعظم دلائل إعجاز القرآن.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
هذا بحث قد عني بقضية المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، وقضية المتشابه يتتبعها من في قلبه زيغ ومرض؛ فنجد أكثر المشككين في الدين والطاعنين في قدسية القرآن الكريم يحاولون النيل منه عن طريق تلك القضية؛ ومن له باع في العربية يستطيع أن يزداد إيماناً بالقرآن الكريم؛ نظراً لأن القضية التي يتخذها بعضهم ذريعة للتشكيك ما هي إلا معجزة لغوية من معجزات القرآن التي تبرهن أنه أنزل من لدن حكيم عليم!
أسباب اختيار الموضوع:
إن أبرز الدوافع والأسباب وراء اختيار هذا البحث الماتع تتلخص فيما يلي:
-أهمية هذا الموضوع؛ لتعلقه بالقرآن الكريم، وأنه قد يتخذ ذريعة للطعن وخلافه.
-تضمن الموضوع مادة بلاغية غزيرة، عنيت في التدليل عليها بالقرآن الكريم، ومحاسن صياغته، ففي الموضوع: العديد من المسائل البلاغية والتحليلات اللغوية.
-تميز الموضوع بالربط بين الدراسة البلاغية والدراسة النحوية، والدراسة الصرفية والدراسة الدلالية، ودمج هذا الخليط كله في معرفة النسق القرآني وأسراره.
أهداف البحث:
1-معرفة مفهوم المتشابه في القرآن الكريم، وأهميته وفوائده.
2-معرفة الدقائق اللغوية والبلاغية في القرآن الكريم.
3-ضرورة الربط بين الآيات المتشابهات وعلوم اللغة.
4-بيان الإعجاز اللفظي في القرآن الكريم.
5-الاهتمام بدرس السياق القرآني المترابط ككل؛ إذ لا تؤخذ كل آية على حدة.
منهجية البحث:
أما المنهج الذي اعتمدت عليه في عرض البحث فهو:
المنهج الوصفي: وذلك بشرح القضايا شرحاً يسيراً، ثم ضرب أمثلة متعددة عليها وتوضيح الفروق بين تلك الأمثلة التي يتم تناولها.
الدراسات السابقة:
1-رسالة أثر دلالة السياق القرآني في توجيه معنى المتشابه اللفظي في القصص القرآني. إعداد الطالبة: تهاني بنت سالم بن أحمد باحويرث. إشراف فضيلة الأستاذ الدكتور/ عبد العزيز عزت. رسالة ماجستير.1428هــ.
2-رسالة دلالة السياق وأثرها في توجيه المتشابه اللفظي في قصة موسى عليه السلام، إعداد: فهد الشتوي، إشراف: د.محمد بازمول، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، 1426هــ.
3-رسالة المتشابه اللفظي في القرآن، إعداد: د.فائقة حسن الحسني، إشراف: د.أمين باشا، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى، 1424هــ.
4-رسالة المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية، إعداد: د.صالح بن عبد الله الشثري، إشراف: د.محمد أبو موسى، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى، 1421هــ.
5-رسالة توجيه المتشابه اللفظي في القرآن بين القدامى والمحدثين لأحمد الغرناطي وفاضل السامرائي: دراسة مقارنة. إعداد: محمد الجبالي، المشرف: الأستاذ الدكتور: ذو الكفل يوسف يعقوب. جامعة ملايا، أكاديمية الدراسات الإسلامية، قسم القرآن والحديث.
6-كتاب درة التنزيل وغرة التأويل للإسكافي.
7-كتاب البرهان في توجيه متشابه القرآن للكرماني.
8-ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل لابن الزبير.
9-كشف المعاني في المتشابه من المثاني لابن جماعة.
10-فتح الرحمن للأنصاري.
وسوف يكون عرض البحث على النحو التالي:
المبحث الأول بعنوان: تعريف المتشابه، وأهميته، وفوائده، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف المتشابه.
المطلب الثاني: أهمية المتشابه اللفظي.
المطلب الثالث: فوائد المتشابه اللفظي.
المبحث الثاني بعنوان: الاختلاف بين الآيات المتشابهة في اختيار الصيغة، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: الاختلاف في الاسمية والفعلية.
المطلب الثاني: الاختلاف في صيغة الماضي والمضارع.
المطلب الثالث: الاختلاف في صيغ الفعل الماضي.
المطلب الرابع: الاختلاف في صيغ الاشتقاق.
المبحث الثالث بعنوان: الاختلاف بين الآيات المتشابهة في الإفراد والجمع، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الجمع والإفراد في الأسماء الظاهرة.
المطلب الثاني: الجمع والإفراد في الضمائر.
المطلب الثالث: اختلاف صيغ الجموع.
المبحث الرابع بعنوان: الاختلاف بين الآيات المتشابهة في التذكير والتأنيث، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: التذكير والتأنيث في الأسماء الظاهرة.
المطلب الثاني: التذكير والتأنيث في الضمائر.
المطلب الثالث: التذكير والتأنيث في الأفعال المسندة للضمائر.
المبحث الخامس بعنوان: الاختلاف بين الآيات المتشابهة في التعريف والتنكر، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: التعريف بالألف واللام.
المطلب الثاني: التعريف بالاسم الموصول.
والله أسأل أن يجعله عملاً متقبلاً، وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى.آمين.
المبحث الأول
(( تعريف المتشابه وأهميته وفوائده))
قبل البدء في الجانب التطبيقي الخاص بقضية المتشابه اللفظي لابد من الوقوف على تعرف المتشابه لغة واصطلاحاً، وكذلك معرفة أهمية المتشابه وفوائده، وسوف نستعرض المسألة في ثلاثة مطالب على النحو التالي:-
المطلب الأول
تعريف المتشابه
المتشابه لغة: قال الجوهري: ((شِبْه وَشَبَه لغتان بمعنى... والمشتبهات من الأمور المشكلات، والمتشابهات المتماثلات))[(1)].
وقال ابن فارس: ((الشين والباء والهاء أصل واحد يدل على تشابه الشيء وتشاكله لوناً ووصفاً، يقال: شِبْه وشَبَه وشَبيه. والشبه من الجوهر الذي يشبه الذهب، والمشبهات من الأمور المشكلات، واشتبه الأمران إذا أشكلا))[(2)].
وقال الزمخشري: ((تشابه الشيئان واشتبها، واشتبهت الأمور وتشابهت التبست؛ لأشباه بعضها بعضاً))[(3)].
وقال ابن منظور: ((شبه الشبه، والشِّبه، والشبيه: المثل، والجمع أشباه، وأشبه الشيء ماثله، وفي المَثل: من أشبه أباه فما ظلم، والجمع مشابه على غير قياس، كما قالوا محاسن ومذاكير، وأشبهت فلاناً وشابهته، واشتبه علي وتشابه الشيئان واشتبها أشبه كل واحد منهما صاحبه، والمشتبهات من الأمور: المشكلات، والمتشابهات: المتماثلات، وتشبَّه فلان بكذا، والتشبيه التمثيل، وأمور مشتبهة ومشبهة مشكلة يشبه بعضها بعضاً. المتشابه: ما لم يتلق معناه من لفظه))[(1)].
وقال محمد بن أبي بكر الرازي: ((شِبه وشَبه لغتان بمعنى، يقال: هذا شِبْهُه؛ أي: شبيهه، وبينهما شبه بالتحريك، والجمع مشابه على غير قياس، والشبهة الالتباس، والشَّبَه ضرب من النحاس))[(2)].
وقال أحمد بن محمد الفيومي: ((واشتبهت الأمور وتشابهت: التبست فلم تتميز ولم تظهر، ومنه اشتبهت القبلة ونحوها، والشبهة في العقيدة المأخذ الملبس، سميت شبهة لأنها تُشبه الحق... وتشابهت الآيات: تساوت أيضاً؛ فالمشابهة: المشاركة في معني من المعاني))[(3)].
وقال الفيروز آبادي: ((وشابهه وأشبهه: ماثله... وتشابها، واشتبها: أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا... وأمور مشتبهة ومشبهة: مشكلة))[(4)]، وبالتأمل في هذه التعريفات للمتشابه عند أهل اللغة نجد أن المتشابه يدور حول معنيين:
الأول: معنى المماثلة:
وقد جاء ذلك في وصف القرآن الكريم، قال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}[الزمر:23] قد تشابهت آياته في التنزه عن كل وصف يلحقه بكلام المخلوقات، وتماثلت في كل وصف يوصف به كلام رب العالمين منبئة أنها تنزيل من حكيم حميد، هدى ورحمة للعالمين.
كذلك وصفت آيات القرآن بالإحكام، قال تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)}[هود:1]، والمراد هنا: الإحكام العام، فلا يلحق آيات القرآن العظيم خلل أو قصور، أو تفاوت في النسق والإعجاز.
الثاني: معنى الإشكال أو الالتباس:
فإن الأمور لا تشتبه إلا بوجود التماثل أو بعض تماثل بين المشبه والمشبه به.
قال ابن قتيبة: ((ثم قد يقال لكل ما غمض ودق: متشابه وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره، ألا ترى أنه قد قيل للحروف المقطَّعة في أوائل السور: متشابه، وليس الشك فيها والوقوف عندها لمشاكلتها غيرها والتباسها بها))[(1)].
المتشابه في الاصطلاح:
أن يشتبه اللفظ في الظاهر مع اختلاف المعنى، كما قال تعالى في وصف ثمر الجنة:{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً}[البقرة:25]؛ أي: متفق المناظر ومختلف الطعوم.
وقال الشيخ عبد الرؤوف بن محمد المناوي: ((المتشابه: المشكل الذي يحتاج فيه إلى فكر وتأمل))[(2)].
تعريف المتشابه اللفظي في القرآن الكريم:
قبل الخوض في بيان ذلك أن المتشابه في القرآن نوعان:
النوع الأول: المتشابه الذي يقابل المحكم، وهذا النوع ليس مجال بحثنا.
النوع الثاني: المتشابه اللفظي الذي يحصل في بعض آيات القرآن الكريم، وهذا هو المراد من البحث.
وحتى يتضح مفهوم المتشابه في القرآن عند العلماء لابد من أن نورد أقوالهم؛ لذا نبدأ ببيان ذلك بالمتقدم منهم فالذي يليه.
وأول نص يبين المراد من المتشابه هو لابن جرير الطبري؛ إذ يقول: ((وقال آخرون: معنى المحكم: ما أحكم الله فيه من آي القرآن، وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصله ببيان ذلك لمحمد وأمته، والمتشابه: هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، بقصه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبقصه باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني))[(1)].
وقد ذكر الخطيب الإسكافي سبب تصنيفه لدرة التنزيل قائلاً: ((أني مذ خصني الله تعالى بإكرامه وعنايته، وشرفني بإقراء كلامه ودراسته، تدعوني دواع قوية، يبعثها نظر وروية، في الآيات المتكررة، بالكلمات المتفقة، والمختلفة، وحروفها المتشابهة المتعلقة، والمنحرفة؛ تطلبا لعلامات ترفع لبس إشكالها، وتخص الكلمة بآياتها، دون أشكالها))[(2)].
أما الكرماني: فقال في مقدمة كتابه: ((هذا كتاب أذكر فيه الآيات المتشابهات التي تكررت في القرآن وألفاظها متفقة، ولكن وقع في بعضها زيادة أو نقصان، أو تقديم أو تأخير، أو إبدال حرف مكان حرف، أو غير ذلك مما يوجب اختلافاً بين الآيتين أو الآيات التي تكررت من غير زيادة ولا نقصان، وأبين ما السبب في تكرارها والفائدة في إعادتها، وما الموجب للزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير والإبدال، وما الحكمة في تخصيص الآية بذلك دون الآية الأخرى، وهل كان يصلح ما في هذه السورة مكان ما في السورة التي تشاكلها أم لا؟))[(3)].
ويقول أبو البقاء: ((إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة في التقديم والتأخير، والزيادة والترك، والتعريف والتنكير، والجمع والإفراد، والإدغام والفك، وتبديل حرف بحرف))[(4)].
ويقول الزركشي: ((هو إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة، ويكثر في إيراد القصص والأنباء))[(1)].
وليس مقصود الزركشي قصر المتشابه على القصص القرآني؛ لأنه جعله كثيراً فيه لا قاصراً عليه، والأمثلة التي مثل بها رحمه الله تدل على ذلك.
والحاصل مما سبق أن تعريف المتشابه اللفظي اصطلاحاً: هو الآيات القرآنية المتكررة بلفظها، أو مع اختلاف يسير في لفظها أو نظمها أو كليهما، مع تقارب المعنى لغرض ما.
المطلب الثاني
أهمية المتشابه اللفظي(×)
أولاً: ترجع أهمية هذا العلم إلى موضوعه فهو ضرب من تفسير القرآن؛ لذلك فأهميته من أهمية علم التفسير، فعلم المتشابه اللفظي في القرآن الكريم قسم قائم بذاته، وهو من الأنواع التي اشتمل عليها القرآن في بيان أنه وحي، لا عمل للبشر فيه، مع تنوع استعمالاته من تقديم وتأخير، أو حذف وإثبات، أو تعريف وتنكير، أو إبدال شيء منه بشيء آخر في الموضع الواحد.
ثانياً: ترجع أهميته إلى أهمية نشأته، حيث أنه أنشئ حفاظاً على القرآن الكريم، من أن يقع اللحن في كلماته، وتيسيراً لِحَفَظَةِ كتاب الله، وهو من علوم القرآن التي تخدمه وتحافظ عليه وتبرز كثيراً من وجوه إعجازه وأسراره التي لا تنفد.
المطلب الثالث
فوائد المتشابه اللفظي
1-أن علم الآيات المتشابهات يملأ النفس إيماناً بعظمة الله وقدرته حين يقف الإنسان في تفسير هذا النوع من الآيات على دقائق الأسلوب البياني للقرآن الكريم، فدراسته تعين على الفقه في كتاب الله، وإظهار إعجازه وغزارة معانيه وأسراره[(1)]، والبحث عن دقائقه، وذلك من أعظم القرب؛ لأنه يوجب مزيد المشقة في الوصول إلى المراد وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب من الله تعالى.
2-أن علم المتشابه اللفظي فيه دلالة على صدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك حين تتجلى الصور البلاغية البديعة والمعاني العظيمة مطوية في ثناياه، مع أنه أمِيٌّ لم يقرأ ولم يكتب، قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ(4 8)}[العنكبوت:48].
3-أن علم المتشابه اللفظي باب من أبواب التأمل في آيات الله، الأمر الذي حث عليه سبحانه في كتابه بقوله:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)}[النساء:82]، وقوله تعالى:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)}[محمد:24].
4-هو علم يرد على الملحدين والمشككين الذين يطعنون في القرآن من خلال ما تشابه منه وما تماثل أو تكرر من ألفاظه وآياته، مدعين أن ما به من المتشابه اللفظي غير مفهوم، أو تكرار لا هدف له، فعلم المتشابه يرد عليهم بعكس ما يقولون وذلك بإظهاره عظمة القرآن وبلاغته في متشابهه، وما يظهره من وجه الحكمة في كل موضع.
5-وكذا نستفيد أن المتشابه اللفظي ضرب من التكرار، وفي هذا التكرار تثبيت لقلب النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)}[هود:120].
6-أن علم المتشابه اللفظي يعين على تيسير حفظ القرآن الكريم وإتقانه، ولذلك صنف العلماء مؤلفات في المتشابه اللفظي لهذا الغرض تحديداً.
7-أن المتشابه اللفظي معين على المحافظة على علوم القرآن الكريم، وذلك لأن البحث في اوجه التشابه ومحاولة توجيهها يحتاج إلى النظر في اللغة والنحو والبلاغة وأصول الفقه وغيرها، فكان المتشابه اللفظي بذلك سبباً في تحصيل علوم كثيرة.
المبحث الثاني
(( الاختلاف بين الآيات المتشابهة في اختيار الصيغة))
واختلاف صيغة اللفظة يعني نقلها من هيئة إلى هيئة كنقلها من وزن إلى وزن آخر، أو نقلها من صيغة الاسم إلى صيغة الفعل أو بالعكس، أو كنقلها من الماضي إلى المستقبل أو بالعكس، أو من الواحد إلى التثنية أو الجمع أو إلى النسب؛ إلى غير ذلك، انتقل قبحها فصار حسناً وحسنها فصار قبحاً[(1)].
وقد اعتنى البلاغيون بموضوع اختيار الصيغة عناية كبيرة لاسيما الفروق بين الاسم والفعل، وقد وضح ذلك في كتاباتهم، ومنهم الإمام عبد القاهر الجرجاني فبين- في كتابه دلائل الإعجاز في سياق حديثه تحت عنوان ((الفروق في الخبر))- الفرق بين الخبر إذا كان اسماً، أو فعلاً، أو صفة مشبهة[(2)].
وعلى هذا النحو فقد شغلت البلاغيين قضية الصيغة؛ فتطرقوا لصيغ الأفعال والمعاني الدلالية التي تفرق بين كل صيغة، وكذلك تطرقوا للاختلاف بين صيغ المشتقات والمعاني التي تؤديها، وسوف نتناول في هذا المبحث ما ورد من الآيات المتشابهات من حيث الصيغة، وسوف يدور حديثنا حول أربعة مطالب كالآتي:-
المطلب الأول
الاختلاف في الاسمية والفعلية
من الآيات التي وقف عندها علماء التشابه اللفظي في موضوع الاسمية والفعلية؛ تحليلهم لآية الأنعام:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)}[الأنعام: 95، 96].
فقد عبر بالاسم في موضع سورة الأنعام ((مخرج)) على الرغم من أن الآية تكررت كثيراً في القرآن الكريم، ولكنها وردت بصيغة الفعل، ومثال ذلك:{وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ}[آل عمران:27] {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ}]يونس:31[(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ)[الروم:19] فلماذا عبر بالاسمية في موضع سورة الأنعام؟
يقول الإسكافي: ((إن أول هذه الآية ذكر بلفظ الاسم وهو {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} فكان اللائق به أن يقال: ومخرج الحي من الميت، ولكنه لما اجتمع ثلاثة حروف من حروف العلة دفعة واحدة، وهي: الواو من النوى، والياء من النوى، والواو من مخرج؛ وهي واو العطف، ونقل عن لفظ الاسم إلى لفظ الفعل لما كان يخرج ومخرج بمعنى واحد، فقال:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ} فجعل الجملة وهي:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ} خبر الابتداء، كما تقول: إن زيداً ضارب عمرو، يكرم بكراً، ومكرم جعفراً، فهذا أفصح من أن تقول: إن زيداً ضارب عمرو، ومكرم بكر، ومكرم جعفر، فلهذا المعنى قال:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ} فلما انتهى إلى العاطف من قرينه لم تكن فيه تلك العلة التي كانت في المعطوف عليه؛ فأجرى علي ما أجرى عليه أول الآيس، وهو:{فَالِقُ الْحَبِّ} وما بعده:{فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً}[الأنعام:96]، وعاد إلى لفظ الاسم وهو:{وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ}، وعطفه على {فَالِقُ الْحَبِّ}، وليس في الآي الأخر ما في هذه الآية قبلها وبعدها من الاسمية، فذكر فيها على لفظ الفعل عاطفها ومعطوفها فبان الفرق بينهما على ما بينت))[(1)].
يقول الزمخشري: ((قال:{وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ} بلفظ اسم الفاعل، بعد قوله:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ} قلت: عطفه على فالق الحب والنوى، لا على الفعل. ويخرج الحيَّ من الميت: موقعة موقع الجملة المبينة لقوله:{فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحيِّ من الميت؛ لأنَّ النامي في حكم الحيوان. ألا ترى إلى قوله:{يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}[الروم:50]))[(1)].
وكلام الزمخشري قريب من كلام الإسكافي؛ لأنه يضم الجمل الاسمية بعضها إلى بعض، ويعد الجملة الفعلية بياناً للتي قبلها، أما العلَّامة الطاهر ابن عاشور فيقول: ((وقد جيء بجملة: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ} فعلية للدلالة على أن هذا الفعل يتجدد ويتكرر في كل آن، فهو مراد معلوم وليس على سبيل المصادفة والاتفاق.
وجيء في قوله:{وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ} اسماً للدلالة على الدوام والثبات، فحصل بمجموع ذلك أن كلا الفعلين متجدد وثابت؛ أي: كثير وذاتيٌّ؛ وذلك لأنَّ أحد الإخراجين ليس أولى بالحكم من قرينه، فكان في الأسلوب شِبه الاحتباك))[(2)].
المطلب الثاني
الاختلاف في صيغة الماضي والمضارع
ومن الآيات المتشابهة التي ورد فيها اختلافاً في الصيغة بين الماضي والمضارع قوله تعالى في سورة الأنعام:{وَلَلدّ َارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ }[الأنعام:32]، وفي قوله تعالى في سورة الأعراف:{وَالدَّ ارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[الأعراف:169] وفي قوله تعالى في سورة يوسف:{وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ}[يوسف:109] فورد الفعل في السورتين الأوليين بصيغة المضارع، وورد في آية يوسف بصيغة الماضي؛ فلمَ اختلف التعبير بين الموضعين؟
ورد لفظ ((يتقون)) في السورتين على بابه وهو إفادة التجديد. أما آية سورة سيدنا يوسف، فخرجها الإسكافي في قوله: ((وقوله:{لِلَّذِي نَ اتَّقَوْا} في سورة يوسف هو أن القوم دعوا إلى الاعتبار بأحوال الأمم الذين أهلكوا في أزمنة أنبيائهم بالنظر إلى منازلهم، وهي خاوية على عروشها؛ ليعلموا أن الدار الآخرة خير لمن اتقى منهم))[(1)].
أما ابن الزبير فقال: ((إن قوله تعالى في سورة يوسف:{وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} قد تقدم قبله قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} الآية، والحاصل منه أنهم ظلموا أنفسهم فأهلكوا ولو اتقوا لنجوا فناسب هذا المعنى المقدر، ورود الماضي في قوله تعالى:{لِلَّذِين َ اتَّقَوْا} أوضح مناسبة))[(2)].
في سورة الأنعام لأن الآية ارتبطت بعاقبة المتقين جزاء أعمالهم في الدنيا؛ فأتت صيغة ((يتقون)) مضارعة للدلالة على تجدد هذا النعيم واستمرارها، أما في سورة الأعراف فالسياق ورد فيه ترهيب لليهود الذين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وارتشائهم على كتمان أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وترغيب لهم فيما عند الله عز وجل إذا صدقوا ما في كتاب الله عز وجل، والترغيب والترهيب لا يتعلقان إلا بالآنف المستقبل، فلذلك قال:{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ}[(3)].
المطلب الثالث
الاختلاف في صيغ الفعل الماضي
عرضنا آنفا اختلاف الصيغة من المستقبل إلى الماضي، والآن نعرض تعدد الصيغ في الزمن الواحد، وبالبحث في الآيات المتشابهة في هذا الموضوع وجدنا أنها كثيرة جداً؛ إذ إن صيغ المادة الواحدة في الماضي كل صيغ تحمل دلالة معينة، وحين تستخدم كل صيغة في سياق معين في القرآن الكريم تحوي غرضاً بلاغياً ومعنى بيانياً بعينه.
وسوف نعرض لمادة كَثُرَ استخدامها في القرآن الكريم وهي مادة ((نزل)) في صيغة الماضي، وقد دار حديث العلماء حول لفظ ((أَنْزَلَ))، و((نَزَّلَ)) وهاتان الصيغتان لابد من الوقوف في ظلالهما لبيان الأثر الصوتي والجمالي والدلالي لتنوع الصيغ الصرفية، وحين نتناول الصيغتين صرفياً يجب علينا أن نشير إلى أن التعبير بصيغة ((فَعَّل)) إنما هو على معنى التكثير والمبالغة في القيام بالفعل غالباً، وما تقتضيه هذه المبالغة من استلزام الزمن الطويل للقيام بهذا الفعل مضاعفاً، أما صيغة ((أَفْعَلَ)) فتتوقف دلالاتها عند معنى التعدية.
وقد أشار ابن عصفور الإشبيلي إلى القيمة الصوتية التي تتضمنها صيغة ((فَعَّلَ))؛ إذ يقول: ((اعلم أن التضعيف لا يخلو أن يكون من باب إدغام المتقاربين، أو من باب إدغام المتماثلين. فإن كان من باب إدغام المتقاربين فلا يلزم أن يكون أحد الحرفين زائداً وأن يكون أصلاً. وإن كان من جنس إدغام المتماثلين كان أحد المثلين زائداً، إلا أن يقوم دليل على أصالتهما))[(1)].
مثال: يقول تعالى:{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}[آل عمران:3].
خصص القرآن الكريم بلفظ ((نَزَّلَ)) بالتضعيف، بينما ورد الفعل مع التوراة والإنجيل بدون تضعيف، فما السر الجمالي في هذا التغاير التوظيفي؟
نظر المفسرون[(1)]
في التفريق بين الفعلين إلى اعتماد الزيادة الصرفية كمحول للدلالة، فصيغة )(فَعّلَ)) للمبالغة والتكثير، وهذا مما يناسب القرآن الكريم الذي نزل منجماً على فترة زمنية محددة بثلاث وعشرين سنة، بخلاف التوراة والإنجيل اللذين نزلا دفعة واحدة؛ ولذا تمت المخالفة هنا في السياق التوظيفي للفعلين على إرادة المبالغة في جانب صيغة ((فَعَّلَ))، وإرادة معنى النزول فقط في صيغة ((أَفْعَلَ))، وإذا نظرنا في مواضع أخرى في القرآن الكريم نجد أنه قد عُبِّر عن إنزال القرآن بصيغة ((أنزل)) التي سبق وأن أشار المفسرون إلى أن تلك الصيغة إنما يراد بها ما نزل دفعة واحدة، ومن ذلك قوله تعالى:{ َوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت:51] وكذلك قوله تعالى:{كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:9] فكيف يكون التعامل مع هذا الإشكال؟
يقول الراغب: ((الفرق بين الإنزال والتنزيل في وصف القرآن والملائكة، أن التنزيل يختص بالموضع الذي يشير إليه إنزاله مفرقاً، ومرة بعد أخرى، والإنزال عام))[(2)].
وعلى هذا فإن معنى التدرج والتكرار في الإنزال مما يستفاد من التعبير بصيغة ((نَزِّلَ))؛ لأنها تقتضي الإنزال مرة بعد أخرى، وعلى هذا فإن ما يميز هذه الصيغة هو أنها تتضمن معنى المبالغة، ومعنى التكرار والتدرج في الإنزال. يقول ابن الزبير: ((لفظ (نَزِّلَ) يقتضي التكرار لأجل التضعيف؛ تقول: (ضرب) مخففاً لمن وقع ذلك عليه مرة واحدة، ويحتمل الزيادة والتقليل أنسب وأقوى))[(3)]، إذاً فإن صيغة (نَزَّلَ) لها أربع دلالات: المبالغة، والتكثير، والتدرج، والتكرار.
أما صيغة ((أَنْزَلَ)) فدلالتها تقف عند الإنزال وشموليته.
فنستطيع الاستنتاج أن استخدام أي صيغة من الصيغتين يكون وفق المقام السياقي الذي يتطلب أياً من الصيغتين.
وإذا ما وقفنا بين يدي قوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر:1] على أن الإنزال الذي تم فيها للقرآن الكريم دفعة واحدة إلى السماء الدنيا في بيت العزة من اللوح المحفوظ، ولا يناسب التعبير هنا إلا صيغة ((أَنْزَلَ)) بخلاف صيغة ((نَزَّلَ)) التي تقتضي المبالغة، وهذا ما لا يتناسب مع المعنى هنا.
كذلك أليس من المناسب تماماً ما ذكره القرآن الكريم عن إنزال الحديد إلى الأرض بصيغة ((أَنْزَلَ)) لأن هذا في حقيقة الأمر تم دفعة واحدة في مرحلة الخلق كما في قوله تعالى:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}[الحديد:25] يقول : ((التعبير هنا بكلمة ((أَنْزَلَ) دقيق يتسق مع معطيات العلم الحديث التي تؤكد استحالة تكون معدن الحديد على سطح الكرة الأرضية، ذلك لأن اندماج ذرتين من هذا العنصر يتطلب فوق ثلاثة ملايين درجة حرارة مئوية فقط لاندماج ذرتين منه، فكيف بهذه الكميات الهائلة التي تشغل باطن الكرة الأرضية؟! وليس على سطح الكرة الأرضية أي وجود لمثل هذه الطاقة الهائلة والمطلوبة لمثل هذه الاندماجات. لذا لابد من الإقرار بأن هذا العنصر لم يتكون على سطح الأرض، بل هو مُنْزَل إليها))[(1)].
فناسب هذا المعنى أن يرد التعبير عنه بصيغة ((أنزل)).
وقد أشار الكرماني في هذا السياق بين الصيغتين في قوله تعالى:{أَتُجَادِ لُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}[الأعراف:71]، {إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}[يوسف:40ٍ[النجم:23] فما السر البلاغي في التفريق بين الصيغتين؟
يقول الكرماني: ((قوله:{مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} في هذه السورة ((نَزَّلَ)) وفي غيرها ((أَنْزَلَ)) لأن أفعل كما ذكرت آنفا للتعدي، وفعل للتعدي والتكثير؛ فذكر في الموضع الأول بلفظ المبالغة ليجري مجري ذكر الجملة والتفصيل، وذكر الجنس والنوع، فيكون الأول كالجنس، وما سواه كالنوع))[(1)].
وتناول ابن الزبير الحديث حول هذه المسألة ((نَزَّلَ)) و((أَنْزَلَ)) وذلك حين تحدَّث عن آيتين متشابهتين في سورة محمد صلى الله عليه وسلم في {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:9] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ}[محمد:26].
فحين تناول ابن الزبير هاتين الآيتين بين الاختلاف في توظيف الصيغتين في كلا الموضعين السابقين بناء على ما تضمنته السورة من أولها؛ فيقول: ((المتقدم من أول هذه السورة إلى قوله بعد الآية المتكلم فيها: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ}[محمد:11] يقصد ممن تضمنته هذه الآية من الكفار غير مشركي العرب من قريش وغيرهم، ولاشك أن كفرهم منسحب على كل المنزل من القرآن وما تقدم نزوله من التوراة وغيرها من الكتب، فلم يكن ليلائم ذلك عبارة نَزَّل المبينة عن تنجيم المنزّل، ولم ينزَّل كذلك غير القرآن، وهم ينكرون كل الكتب المنزلة ويكرهونها؛ فقيل هنا:{كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ}[محمد:11].
أما الآية الثانية: فالمراد بها ذوو النفاق والمرتدون على أدبارهم، ويبين ذلك ما تقدمها من قوله تعالى:{رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ}[محمد:20]، وهؤلاء هم المنافقون، ولم يقع فيما بعد عدول عنهم إلى قوله:{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ}[محمد:25] وإنما هؤلاء قوم كفروا بعد إسلامهم، وهم القائلون بمقتضى نفاقهم وما أبطنوه من الكفر لغيرهم:{سَنُطِيع ُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ}[محمد:26]، ولهؤلاء إطلاع على المنزَّل من القرآن، وخصوص كراهيته له، وهي المهيجة لنفاقهم، فهو الذي كرهوه حقيقة؛ فقيل هنا:{كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} بلفظ التضعيف إذ الإشارة إلى القرآن، وهذه صفته أعني ما يشير إليه التضعيف من التنجيم في النزول، فكل من الموضعين وارد على أنسب نظام وأتمه))[(1)].
الحاصل مما أورده ابن الزبير: أن صيغة ((نَزَّلَ)) وردت حين ذُكِرَ أهل النفاق والريب؛ لأنهم كفروا بعد إيمانهم ومعرفتهم للحق فكانت تلك الصيغة أنسب لبيان المنزل، أما صيغة ((أنزل)): فكانت أنسب في ذكر المشركين؛ لأنهم ينكرون كل الكتب المنزلة من لدن الله عز وجل ويكرهونها.
يتبع