ابو وليد البحيرى
2018-10-22, 10:03 AM
ضمانات القرآن الذاتية
لعالمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم
د. راجح عبد الحميد سعيد "كردي بني فضل" ([·])
ملخص البحث: عالج البحث قضية مفادها: أن القرآن في ذاته يشكل ضمانة العالمية لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد عالج البحث هذه الفرضية بإثبات أن القرآن الكريم بما له من خصائصه الذاتية - من: ربانيته، وخاتميته للكتب الإلهية، وتواؤمه مع الفطرة الإنسانية، ووحدة خطابه، وصلاحية مبادئه، ونزعته الإنسانية - ما يجعله ضامنا عالمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وخلودها، بحيث تشمل الناس كافة إلى قيام الساعة.
كما ناقش البحث ضمانة ذاتية أخرى للقرآن الكريم بمقاصده الكبرى التي تكفل هذه العالمية في كونه حقا في ذاته، وحقا يحمل في مواجهة الباطل في سنة التدافع، وحقا بما فيه من هداية وعبادة ورحمة. كما أظهر البحث أهم ذاتيات القران من حيث موضوعاته الكبرى التي تحمل عالمية الرسالة وتضمنها؛ من مثل الإيمان بالله وتوحيده وتنزيهه، وعقيدة الجزاء، والعمل الصالح، وثبات منظومة القيم والأخلاق، بكل ما تتميز به في إطارها الإنساني الواسع، مع إطارها الإيماني الدقيق.
المقدمة الحمد لله الذي أنزل القرآن على خاتم أنبيائه ورسله، وجعله مصدقا لكتبه ومهيمنا عليها، واختصه بما لم يختص به غيره من كتبه، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، المرسل برسالة ربنا العالمية إلى الناس كافة، والخالدة إلى يوم الدين، ثم أما بعد؛
فلما كان القرآن كتاب رب العالمين وخاتم الكتب على خاتم الرسل، أنزله الله وحياً، وخصه بما لم يختص به كتابا من كتبه؛ ليجعله وحيه المحفوظ إلى قيام الساعة، وللناس في الأرض كلها، فقد جعل الله له من الخصوصيات الذاتية في جوهره، ومن المقاصد والموضوعات في غاياته: ما يضمن هذه العالمية لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد وجدت الحاجة إلى تأصيل هذا المعنى لأمة لا بد أن تعرف أن قدرها العالمي هو بقدر هذا القران، وأن أصالتها بأصالته، وأن خصوصيتها بخصوصيته، لأجمع فيه بين التأصيل للدراسات القرآنية، والتأصيل للدراسات العقدية في موضوع رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. ولمعالجة هذه الفرضية فقد نظمت البحث بمقدمة وتمهيد ومبحثين وخاتمة على النحو الآتي:
المقدمة.
تمهيد: مصطلحات الدراسة.
المبحث الأول: خصوصيات القرآن في ذاته وجوهره وضمانة العالمية وفيه مطالب::
المطلب الأول: خصوصية ربانية القرآن.
المطلب الثاني: خصوصية موقعه من الكتب الإلهية.
المطلب الثالث: خصوصية علاقته بالفطرة الإنسانية.
المطلب الرابع: خصوصية صلاحية مبادئه وأصوله التشريعية.
المطلب الخامس: خصوصية نزعته الإنسانية.
المطلب السادس: خصوصية وحدة خطابه وتجرده.
المبحث الثاني: مقاصد القرآن وموضوعاته.
المطلب الأول: مفاصد القرآن وضمانة العالمية.
المقصد الأول: القرآن هو الكتاب الحق للناس.
المقصد الثاني: القرآن كتاب الهداية الشاملة الدائمة للناس وكتاب الفصل والبيان.
المقصد الثالث: القرآن كتاب العبادة.
المقصد الرابع: القرآن كتاب الشفاء والرحمة والبشرى.
المقصد الخامس: القرآن كتاب العلم والتزكية والحكمة.
المقصد السادس: القرآن كتاب الذكرى والتذكير والعبرة والعظة.
المقص السابع: القرآن يقصد إحقاق الحق وإبطال الباطل في سنة التدافع.
المطلب الثاني: موضوعات القرآن وضمانة العالمية:
الموضع الأول: الإيمان بتوحيد الله وتنزيهه.
الموضوع الثاني: البعث والجزاء.
الموضوع الثالث: العمل الصالح.
الموضوع الرابع: القيم والأخلاق.
الخاتمة:
وفيها أهم نتائج الدراسة وتوصياتها.
تمهيد مصطلحا ت الدراسة تقوم فرضية البحث على أن القرآن الكريم - بصفته كتاب الله النازل وحيا كلاميا على محمد صلى الله عليه وسلم -يحمل في ذاته وجوهره - بهذا الاعتبار - ضمانة العالمية لرسالة الإسلام، رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. ويظهر من هذه الفرضية أربعة مصطلحات تحتاج إلى تحديد وبيان:
أولها - القرآن الكريم:
فهو وان كان لا يحتاج إلى تعريف وبيان، لأن المعنى الشائع والمتبادر إلى ذهن السامع مسلما وغير مسلم، أنه كتاب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن التعريف العلمي أو المصطلحي له أنه: كلام الله تعالى القديم، لأنه صفة من صفات المعاني القديمة القائمة به تعالى كما يعرف باختصار، أو "اللفظ المنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس" ([1]) فهو كلام الله تعالى حقيقة غير مخلوق، المنزل على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه، وبهذا نخرج من قول المعتزلة بأنه مخلوق، ونخرج من قول الأشاعرة بأن القرآن هو عبارة عن كلام الله النفسي وليس كلام الله حقيقة، إذ يقولون: "وأما القرآن بمعنى اللفظ الذي نقرأه فهو مخلوق" ([2]). والمقصود من هذا التعريف - إذن - أن هذا القرآن بما هو كتاب الله وحياً متميزا عن السنة؛ لأنها وحي أيضا، بأنه بألفاظه ومعانيه من الله تعالى. وهو - بما يحمل بألفاظه من معان ومقاصد ومحتويات - يمثل منهج رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الخاتمة للناس كافة.
والذي يعنينا في هذه الدراسة: أن نثبت أن القرآن الكريم هو وحي الله وكلامه وهو كتاب الرسالة الخاتمة يحمل في ذاته وجوهره ضمانة العالمية لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وثانيها:
مفهوم مصطلح الضمانة: هي مأخوذة لغة من الضمان، ومأخوذة من الفعل ضمن، يقول ابن فارس: "الضاد والميم والنون أصل صحيح، وهو جعل الشيء في شيء يحويه. من ذلك قولهم: ضمنت الشيء إذا جعلته في وعائه. والكفالة تسمى ضمانا من هذا؛ لأنه إذا ضمنه فقد استوعب ذمته" ([3]). وبنفس هذا المعنى ذكر صاحب القاموس المحيط ففال: "ضمن الشيء وبه كفله.. وما جعلته في وعاء فقد ضمنته إياه" ([4]).
وقال ابن منظور: "الضمين: الكفيل؛ ضمن الشيء وبه ضمنا، وضمانا: كفل به، ضامن وضمين، كافل وكفيل. ويقال: ضمنت الشي ء، أضمنه ضمانا فانا ضامن وهو مضمون. ويقال شرابك ممضمن إذا كان في كوز أو إناء" ([5]). وقصدنا - هنا - من مصطلح الضمانة: هو الكفالة، وهي الحفظ والرعاية، أي ما يحفظ عالمية الرسالة ويكفل بقاءها وخلودها.
ثالثها - الذاتية:
وقصدنا من الذاتية:
أي من نفس القرآن، أي من كونه كتابا وهو كلام الله، أي ما يعود لذات القرآن وجوهره، لا لشيء خارج عنه، لأن ثمة ضمانات أخرى خارج الكتاب، تقوم كفالات وضمانات لعالمية الرسالة. وثمة ضمانات ذاتية أخرى من اعتبار آخر، وهو كونه معجزة الرسالة التي تكفل الله تعالى بحفظها وبطبيعتها وبإعجازها.
رابعها - العالمية:
والعالمية: لغة من العلم - بفتح العين واللام - وهو المنار والسمة والفصل بين الأرضين، والأثر يستدل به. والعالم هو الخلق كله. والعالمية مصدر صناعي بزيادة ياء مشددة وتاء تأنيث ([6]). ويبدو أن المقصود من هذه الزيادة هو شمول ما يوصف بالعالمية؛ فإذا قلنا: عالمية الإسلام قصدنا بها ما يميز الإسلام دينا عن الأديان الأخرى بأنه رسالة شاملة للناس كافة، بحيث يغطي في بعده الأفقي الأرض؛ كلها ليصل إلى كل إنسان فيها، في كل مكان يوجد فيه هذا الإنسان، ويمتد في بعده الرأسي أو الزمني إلى كل إنسان يخلقه الله تعالى منذ مبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، فيتجاوز جيل الرسالة وإنسانها إلى كل الأجيال القادمة إلى قيام الساعة. وهذه العالمية لرسالة الإسلام قوامها عموم الرسالة لجميع البشر كما قلنا، وخاتميتها بحيث أكملت النبوات والرسالات السابقة؛ فلا مزيد عليها ولا نبوة بعدها، ولا رسالة تعقبها، وتعني بالتالي خلودها زمنا إلى قيام الساعة. وهي شاملة بالتالي لكل ما يحتاجه الإنسان لسعادة الدارين، فهي بعالميتها رسالة طولها يستغرق الأزمان، ويساير الخلود، ويتجدد على الإعصار، وعرضها يستوعب الأجناس كلها، وعمقها يشتمل
الحقائق التي يفتقر لها العالم في شؤون حياتهم جميعها. ([7])
المبحث الأولى خصوصيات([8]) القرآن في ذاته وجوهره وضمانة العالمية المطلب الأول
خصوصية ربانية القران
ويقصد بها - هنا - أن هذا الفرآن هو من الله؛ فهو كلام الله تعالى ووحيه الكامل، لأنه صفة من صفاته "كامل كمال تلك الصفات، جليل جلالها، عظيم عظمتها، دائم ديمومتها" ([9])، أنزله كلاما على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصفات الله تعالى قديمة أزلية وأبدية، فالقرآن بما هو من صفات الله إذن دال على عظمته، فهو بربانيته يحمل ضمانة ذاتية لعالمية رسالته. وبما أن الله تعالى هو رب العالمين، وأن المخاطبين بهذا القرآن هم من خلق الله، فلا يصلح لخطابهم عالميا إلا كتاب الله الصحيح، كيف لا وهو الكتاب الخاتم، النازل على النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا هو المؤهل الأول للقرآن في ذاته ومصدره ما يجعله ضمانة لعالمية رسالته الخاتمة على محمد صلى الله عليه وسلم.
ولو كان القرآن من غير مصدره الإلهي لتفرقت البشرية، ولا ختلطت أمورها باختلاط مصادر التوجيه فيها؛ لأن الإنسان لا يصلح أن يكون مصدر التوجيه؛ لأنه عاجز، محدود، مغير آراءه، والإنسان المحدود العاجز، المغير لآرائه والمبدل لمواقفه، أسير لتنوع تفكيره ومصادر معرفته، واختلاف أهوائه وشهواته وبيئاته، فما يوجد في فكره من الاختلاف والتناقض يجعله غير صالح للعالمية، ولا لتوحيد هديها ومواقفها.
ولا يصلح للإنسانية الواحدة المخلوقة لرب واحد سبحانه، والمنتهية في مصيرها لتقف بين يدي رب واحد سبحانه إلا القرآن؛ لأنه مبرأ من كل نقص، فهو من الله الواحد العزيز الحكيم، قال تعالى: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت: 42)، وكما قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (النساء: 82)، ولهذا كان لربانية القرآن في مصدره ما يعزز عالميته، كما وصفه ربنا سبحانه بقوله: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) (إبراهيم: 1-3)، وهذا ما يستدعي بقاءه على ربانيته بأن يحفظ كما هو دون تغيير ولا تبديل ولا تحريف ولا زيادة ولا نقصان، ولا تكون أية علاقة بشرية به سوى أن تتناقله وتحفظه كما نزل؛ إبقاء له على ربانيته، وتحقيقا لضمان عالميته.
ومن هنا نجد أن الله سبحانه يتبع الآيات بعد ذكره للقرآن ووضمه له بانه مبين، بما يؤكد ربانيته، وبقاءها على ذلك؛ ضمانا لحفظه له، يقول تعالى: (الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ) (الحجر: 1)، ثم يقول بعد ذلك في ذات السورة: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَة ِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 6-9)؛ ولذلك لما طلب الكفار من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن، أو يبدله اكد الله لهم ليجيبهم نبيه تأكيدا على ربانية مصدره، وأن محمدا بشخصه لا يمكن أن يكون مصدر هذا القرآن، فقال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس: 15).
ويتأكد من هذه الحقيقة من "تدبر القرآن، وقرأ آياته؛ ليجد أن محمدا صلى الله عليه وسلم لو اجتهد وكان اجتهاده خلاف الأولى لصوبه الله نحو الأصح والأفضل، ولعاتبه على فعله كما في قصة ابن أم مكتوم، وأسرى بدر، والمنافقين المتخلفين في غزوة تبوك، وقصة زواجه من زينب بنت جحش" ([10]).
والرسول صلى الله عليه وسلم مهمته أن يبلغ الوحي الذي أوحاه الله إليه، لا أنه ينشئه ويؤلفه قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (المائدة: 67)، وقال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (النجم: 3-5).
هذه الربانية - مصدر للقرآن - تكسبه كل الخصائص الأخرى التي هي آثار لها بما يضمن عالمية رسالته من صحة، ويقينية، وثبات، وشمول، وواقعية، وتوازن وغير ذلك مما لا نحب التطويل فيه ([11])؛ لكثرة تكرار المؤلفين له، فلا نزيد عليهم فيه.
المطلب الثاني
خصوصية موقعه من الكتب الإلهية
1 - القرآن والكتاب في آيات القرآن:
لقد وردت كلمتا الكتاب، وكتاب الله في آيات القرآن الكريم دالتين على الكتب الإلهية عموما، أو كتب بعينها، مثل: التوراة، والإنجيل، والكتب الإلهية فيما قبل القرآن الكريم بما يقارب مائة وتسعة عشر موضعا ([12])، دالتين على القران الكريم بعينه فيما يقارب تسعة وسبعين موضعا ([13])، في حين ذكر لفظ القرآن - معرفا - دالا على الكتاب الإلهي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في ثمانية وخمسين موضعا ([14])، بينما ذكر لفظ (قرآنا) - نكرة - في عشرة مواضع. ([15])
وذكر السيوطي أن أسماء القرآن الكريم بلغت خمسة وخمسين اسما، وبلغت عند الزركشي نيفا وتسعين، وعددها، وعلل لكل تسمية ([16]).
وبالاستقراء لهذه الأسماء التي ذكرها السيوطي وبتفحصها يرى الباحث: أن كثيرا منها جاءت صفات للأسماء الرئيسة وهي؛ القرآن والكتاب والذكر والفرقان، وان عدها العلماء أسماء، فالأدق أنها أوصاف للقرآن، وهي كما وردت نصيا في القرآن على النحو الآتي:
- الوحي: قال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم: 4).
- المبين: قال تعالى: (الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) (يوسف: 1).
- بيان: قال تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 138).
- كريم: قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ) (الواقعة: 77).
- نور: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) (النساء: 174).
- هدى وموعظة: قال تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 138).
- شفاء ورحمة: قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (الإسراء: 82).
- مباركا: قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (الأنعام: 92).
- حكيما: قال تعالى: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (آل عمران: 58).
- مصدقا: قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا) (الأحقاف: 12).
- مهيمنا: قال تعالى: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا) (المائدة: 48).
- صراط ومستقيما: قال تعالى: (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (الأنعام: 126).
- قولا: قال تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (المزمل: 5).
- مفصلا: قال تعالى: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (الأنعام: 114).
- نبأ عظيم: قال تعالى: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) (ص: 67).
- أحسن القصص: قال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف: 3).
- متشابها ومثاني وتنزيل: قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر: 23).
- روحا: قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) (الشورى: 53).
- عربيا: قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2).
- بصائر: قال تعالى: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الجاثية: 20).
- العلم: قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ) (الرعد: 37).
- عجبا: قال تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا) (الجن: 1).
- تذكرة: قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (الحاقة: 48).
- صدقا وعدلا: قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام: 115).
- أمراً: قال تعالى: (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (الدخان: 5).
- مناديا: قال تعالى: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ) (آل عمران: 193).
- بشرى: قال تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) (البقرة: 97).
- مجيد: قال تعالى: (ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ) (ق: 1).
- بشيرا ونذيرا: قال تعالى: (بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) (فصلت: 4).
- عزيز: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) (فصلت: 41).
- بلاغ: قال تعالى: (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) (إبراهيم: 52).
- القصص الحق: قال تعالى (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) (آل عمران: 62).
- أحسن القصص: قال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ) (يوسف: 3).
- مرفوعة مطهرة: قال تعالى: (مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) (عبس: 14).
ويرى أبو شهبة ([17]) أن الكتاب والفرقان والتنزيل والذكر هي "أشهر الأسماء بعد لفظ القرآن، وقد صارت أعلاما بالغلبة على لسان أهل الشرع ([18]).
2- علاقة القرآن بالكتب السماوية السابقة:
نزل القرآن الكريم كتابا خاتما للكتب الإلهية السابقة النازلة على الأنبياء والرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يحمل الدين الإلهي - الإسلام - التام المتمم والكامل المكمل، المرضي عنه إلى قيام الساعة طبقا لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3)، بعد أن اختلف أهل الكتب السابقة، فبذلوا كتبهم وغيروها وحرفوها، فجاء الدين الخاتم بالكتاب الخاتم، قال تعالى: (ِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (آل عمران: 19). قال ابن كثير في تفسير الآية: "إخبار من الله تعالى بأنه لا دين يقبل عنده من أحد سوى السلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم" ([19]). ويشير القرآن الكريم إلى موقع هذا القرآن خاتما؛ ضمانا لرعاية الله لخلقه، وهدايته لهم، وحاجاتهم إليه إلى قيام الساعة، كتابا نازلا على محمد النبي الخاتم برسالته العالمية بقوله سبحانه: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (الأنعام: 92)، وعاب على أهل الكتاب إنكارهم إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، المبشر به نبيا خاتما عندهم في كتبهم، فقال سبحانه: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (البقرة: 89)، وقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) (البقرة: 91)، وقال سبحانه: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) (آل عمران: 3 - 4).
وهذا الموقع للقرآن الكريم بصفته خاتما للكتب الإلهية السابقة، ومصدقا لها ومهيمنا عليها يعد ضمانة تكفل عالمية الرسالة، إذ لولاه لبقي الاختلاف بين البشر على أديانهم وعقائدهم وأنبيائهم، ولبقيت البشرية مشتتة متفرقة، متشرذمة، فجعل الله هذا القرآن بموقعه كتابا مصدقا للكتب السابقة ومهيمنا عليها، يخاطب العالم كله خطابا عالميا، وجعل فيه التمام والكمال منهجا ومحتوى، إيمانا، وشريعة، ونظاما، وخلقا، وما فرط فيه من شيء، ما يخرج البشر من حالة القومية والشعوبية، والدينية الطائفية المتفرقة إلى توجه عالمي إنساني ومن ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، قال تعالى: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم: 1)، وقال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 257). فهو إذن:
خاتم مصدق لما في الكتب السابقة من أصول الإيمان والعبادة والفضائل وأصول الشرائع، وإن اختلفت شريعته التفصيلية عما سبق تشريعه في الكتب السابقة؛ لضرورة خصوصية تلك الشرائع لشعوب تلك الكتب، وأقوامها وظروفها، بينما جاءت شريعته للناس كافة بما يضمن عالميتها من حيث قدرتها على حل مشاكل البشرية في كل زمان ومكان، وبما يحقق خلودها وديمومتها، وبما يقتضيه خلودها بسبب خاتميتها، إذ لا شريعة بعدها قال تعالى: (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) (الصافات: 37). هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: فهو المهيمن على الكتب السابقة في أصل ما جاءت عليه قبل تحريفها لأنه خاتمها. والمطلوب من البشر جميعا بعد نزوله الإيمان به، واتباعه وتحكيمه؛ لأنه قد حرس ما فيها من أصول الخير بعد أن صدق ما فيها أصلا، وبما أبقى من أصولها وهيمن عليها. وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة: 48).
يعلق دراز ([20]) على الآية بقوله: "أي حارسا أمينا عليها. ومن تلك الحراسة الأمينة على تلك الكتب: ألا يكتفي الحارس بتأييد ما خلده التاريخ فيها من حق وخير، بل عليه فوق ذلك: أن يحميها من الدخيل الذي عساه أن يضاف إليها بغير حق، وأن يبرز ما تمس إليه الحاجة من الحقائق التي عساها أن تكون قد أخفيت منها" ([21]).
ويعلق سيد قطب ([22]) على الآية ذاتها بقوله: "والأمر موجه ابتداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما كان فيه من أمر أهل الكتاب الذي يجيئون إليه متحاكمين، ولكنه ليس خاصا بهذا السبب، بل هو عام والى آخر الزمان، طالما أنه ليس هناك رسول جديد، ولا رسالة جديدة، لتعديل شيء ما في هذا المرجع الأخير" ([23]).
3 - قرابة القرآن من الكتب السابقة:
إن العلاقة القوية للقران الكريم بالكتب الإلهية السابقة ناشئة من كون تلك الكتب كلها في أصلها من الله وحده، والقرآن من الله وحده، وما أصاب تلك الكتب السابقة من خلل أو تحريف أخرجها عن ربانية مصدرها، مما يؤكد ضرورة دعوة القرآن لأهل تلك الكتب إلى قبوله والأيمان به؛ لأنه الكتاب الوحيد من الله وحده الذي لا تمتد إليه يد التحريف أو التغيير أو الزيادة أو النقصان، والذي تكفل الله تعالى بحفظه كما قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9). وقال: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (يونس: 37).
وقوة هذه العلاقة للقرآن بالكتب السابقة واضحة - إذن - في أنها هي والقرآن من مصدر واحد، وهو الله عز وجل. وهذا لون واحد من ألوان القرابة بين القرآن الكريم والكتب إلهية السابقة.
أما القرابة الأخرى: فهي قرابة التصديق لما كان فيها من الحقائق والهيمنة عليها كما ذكرنا قبل قليل.
وأما القرابة الثالثة: فهي التصحيح المعبر عنه بالتفصيل، وهو البيان للحق بعدما غير وبدل أو كلما احتاجت إليه البشرية من ثبات في الرسالة العالمية، وقد كان مقبولا في الرسالات الخاصة.
كل ذلك مع التركيز على ضرورة وحدانية هذا الكتاب وانفراده كتابا خاتما ومصدقا ومهيمنا، ومنهجا للإسلام المقبول والمرضي عنه عند الله تعالى، وضرورة انفراده وحده إلى قيام الساعة، أما تلك الكتب السابقة فقد انتهى العمل بها بعد نزوله، وما عاد يعترف بها للإعمال، وان كان يؤمن بها إيمانا مجملا - كمبدأ – كتبا إلهية، يكفر منكر أصل نزولها من الله، ويكفر في الوقت نفسه من زعم مشاركتها للقرآن في الإعمال، أو القبول بما يعرف بتعايش الديانات، إذ لا اعتبار لمفهوم تعدد الأديان بعد الإسلام: قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران: 19). وقال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85)، وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (الصف: 9).
4 - أمثلة علي العلاقة:
ويمكن إجمال الأمثلة على العلاقة في المضمون بين القرآن والكتب السابقة وكيفية تصحيحها أو تفصيلها أو إخراجها من خصوصية الرسالات السابقة إلى عالمية رسالة القرآن، فيما يأتي ([24]):
أ - فيما يتعلق بتنزيه الله ومعرفته:
الأساس في الكتب السماوية - ومنها التوراة والإنجيل - الإيمان بالله الواحد بأسمائه وصفاته، لكن غلب التشبيه والتجسيم في وصف الرب في التوراة - بفعل البشر-؛ فمثلا نجد في سفر التكوين في رويا يعقوب: "ورأى حلما، واذا سلم منصوبة على الأرض، ورأسها يمس السماء، وهو ذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها، وهو ذا الرب واقف عليها فقال: أنا الرب إله إبراهيم أبيك واله اسحق" ([25]). وعد اليهود ربهم قوميا، وزعموا أنهم شعب الله المختار، فطعنوا في تنزيه الرب، واحتكروه لهم.
وقد اخترعت الأناجيل المدعاة صورة مجسدة للرب في ثالوث الآب والابن والروح القدس. فجاء القرآن الكريم ليعطي مفهوما صحيحا لمعرفة الله بأسمائه وصفاته يقول فيها: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11)، فكانت عقيدته واضحة في تنزيه الله بعيدا عن التجريد الفلسفي وعن التجسيد المادي، كما عبر عنه الله بانه رب العالمين، وليس إلها قوميا، ولا إلها حالا في إنسان، كما أنه رب واحد قال تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص: ا-4).
ب - فيما يتعلق بالآخرة:
فإن خلود الروح، ونهاية العالم، ويوم القيامة، والحساب، والجنة والنار عقيدة مشتركة بين الأديان الإلهية جميعها. ولكننا إذ نظرنا في كتاب التوراة لا نجد لها إلا شعاعا خافتا، ويعلل لذلك مالك بن نبي فيقول: "لأنها كانت مهتمة بالتنظيم الاجتماعي لأول مرة" ([26])، ولا أشاركه الرأي في هذا التعليل؛ إذ لا يصح لدين الهي، ولا لكتاب من عند الله أن يخلو من هذه العقيدة، فهي من أركان الإيمان التي تقوم على الإيمان بها مع الإيمان بالله حياة الإنسان من أجل الفوز في الآخرة بالجنة والنجاة من النار. ولكن السبب هو نفسية اليهود في حب السيطرة والعدوان على غيرهم؛ فقد أفقدوا توراتهم الإيمان بالآخرة، بل إن التوراة كما هي وبتجربتهم لا تعترف بالآخرة ولا تذكر أمرها، إذ "ترى الديانة اليهودية أن الإنسان يثاب أو يعاقب على أعماله في الحياة الدنيا" ([27])؛ فالجنة عندهم أطماع دنيوية، هي أرض الميعاد، فلسطين، بطرد أهلها منها وقتلهم وتشريدهم، وإقامة دولتهم عليها، ونهب أرضها وخيراتها. كل ذلك حتى لا ترق قلوبهم، وتطاوع قسوتها في معاملة الغير أو الجوييم ([28]) أو الأمميين بالتعبير القرآني، كما قرر القرآن عقيدتهم في ذلك بقوله تعالى: (قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) (آل عمران: 75).
أما الأناجيل فتتحدث عن عقيدة قيامة المسيح، وهي عقيدة منسوجة من حول شخصية المسيح، ومتأثرة بالديانات الوثنية والشعبية، والأساطير التي تجعل الآخرة شيئا معنويا، وليس حقيقة شاهدة؛ ولذلك قالوا بفكرة الإسقاط والرهبنة، فافقد الملك حتى يوهب لك الملكوت. ولا وضوح لحقيقة الآخرة في أناجيلهم.
بينما يجلي القرآن الآخرة تجلية تكاد تراها وتعيشها في دنياك في كل شيء، مع فارق أن هذه حياة دنيا زائلة، وتلك حياة حقيقية دائمة وخالدة. ولشدة وضوح صورتها وأهميتها في الإيمان لدى الرسالة العالمية يكاد يختصر السياق القرآني أركان الإيمان كلها في بعض آياته ليجعلها إيمانا بالله واليوم الآخر، قال تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ) (آل عمران: 114).
ت - وفي مجال الأخلاق:
نجد القرآن "يقدم لنا الواجبات الأساسية وعلم الحقيقة على أنها دعوة السابقين وسبيلهم المقيم، فلقد حمل جميع الرسل ميزان العدل والقسط، وأمروا بان يكسبوا رزقهم بالحلال، وأن يعبدوا الله، ويفعلوا الخير" ([29]). ويعقد دراز ([30]) مقارنة بين نصوص من التوراة من سفر الخروج عن الوصايا العشر القائمة على؛ عدم الشرك بالله، وإكرام الوالدين، وعدم القتل، وتحريم الزنا والسرقة وشهادة الزور، وتحريم الكذب، وتحريم الظلم وأكل الحرام في الوزن والكيل والحقد، وغيرها في نصوص من سفر الخروج في الفصل العشرين منه ([31])، وبين ما يقابلها من آيات القرآن الكريم من الآيات المؤكدة على هذه الوصايا وما يكملها ([32])، وما يجعلها أخلاقا عالمية؛ عالمية رسالة الإسلام ([33]). ويعرض كذلك هذه الوصايا من النجيل ([34])، ويعرض ما يقابلها في القرآن الكريم ([35]). ويبين من دراسته لهذه الوصايا الأخلاقية في التوراة والإنجيل أن القرآن قد اكمل التراث الأخلاقي للأديان السابقة، تبعا للرسالة العالمية التي تتجاوز فيها الأخلاق شعبا أو أتباع دين معين، لتصبح منظومة إنسانية عالمية تستقر في شعاب الحياة جميعها ولدى جميع شعوب البشر.
فالقرآن - إذا - جاء بمنظومة الأخلاق العالمية الإنسانية من ناحية، والإيمانية من ناحية أخرى، وقوام هذه المنظومة الإنسانية الإيمانية: التوازن والعدل قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء: 58).
والعدالة والمساواة في القرآن تكون في رد العدوان لا في قبوله والتسامح معه سلبيا، قال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل: 126).
واذا كانت الكتب الإلهية السابقة تنهى عن فعل الشر، ولكنها لا تامر بمقاومته؛ فقد جعل القرآن الدعوة إلى الخير ومقاومة الشر واجبا شرعيا عبر قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبإعمال هذه القاعدة جعل أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس جميعا، وليس لقوم معينين أو شعب بعينه. قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104)، وقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ) (آل عمران: 110).
المطلب الثالث
خصوصية علاقته بالفطرة الإنسانية
القرآن بما هو كتاب موجه إلى الفطرة الإنسانية، للناس كافة، وهو ما يجعله مناط الضمان في أنه التصور الوحيد الموافق للفطرة ([36]). والفطرة الإنسانية كما خلقها الله لها خصائص واحدة لدى البشر جميعا كما بين الله تعالى في قوله: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30)، ولذا فلا ينجح في التعامل معها إلا منهج يصدر عن خالقها وحده، قال تعالى: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30). والقرآن بالتالي هو الضمانة لعالمية الرسالة الموجهة إلى هذا الإنسان، إلى قيام الساعة، يقول الدريني ([37]): " كون الإسلام خاتم الرسالات يستلزم هذا التطابق بين الفطرة وهذا الدين، تفسيرا منطقيا معقولا لانقطاع الوحي" ([38]).
وهذا يعني أن وجود التواؤم بين الفطرة الإنسانية وبين القرآن الكريم في مضمون رسالة الإسلام، وتحققه بما للفطرة من ثبات، وما للدين من ثبات وحفظ أيضا، بما يجعل هذا التواؤم والاتفاق والتطابق ضمانة من ضمانات عالمية الرسالة، من حيث عمومها للناس كافة، وخاتميتها بانقطاع الوحي، وحفظ القرآن مخاطبا للبشرية، وحالا لمشاكلها، وبما يضمن خلودها إلى قيام الساعة، إذ لو حصلت مفارقة بين القرآن والفطرة لأدى إلى عدم صلاحية الرسالة للعالمية. ويفصل الدريني هذا التطابق فيما مختصره ([39]):
أولا: القران كامل فيما يحمله من منهج، ومضمون في خطابه للفطرة، فهو على قدها ([40])، وحرفي أن يتسم بالكمال والخلود في ذاته، وهو دين الله الذي رضيه للبشرية كما في قوله تعالي: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة 3).
ثانيا: إن هذا التطابق عليه دليل تاريخي جلي، سواء بالنسبة لكافة الشرائع التي كانت معاصرة لنزول الرسالة، والتي بادت ([41]) وأمست مجرد مادة للدراسة التاريخية، بخلاف رسالة السلام التي بقيت حية عبر القرون في نفوس أصحابها، وفي واقع حياتهم، بل وبذلوا في سبيلها أغلى ما يملكون من جهاد بالمال والنفس، وإن كانت أحوالهم في الأزمنة قد اعتراها ضعف لأسباب داخلية وخارجية، ولكن ذاتية الرسالة لم تتغير ولم تتبدل، وهي قادرة في كل لحظة على إنقاذ الأمة المسلمة من وهدتها، لتعود لها عالمية وظيفتها، وعالمية شخصيتها بعالمية رسالتها.
يتبع
لعالمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم
د. راجح عبد الحميد سعيد "كردي بني فضل" ([·])
ملخص البحث: عالج البحث قضية مفادها: أن القرآن في ذاته يشكل ضمانة العالمية لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد عالج البحث هذه الفرضية بإثبات أن القرآن الكريم بما له من خصائصه الذاتية - من: ربانيته، وخاتميته للكتب الإلهية، وتواؤمه مع الفطرة الإنسانية، ووحدة خطابه، وصلاحية مبادئه، ونزعته الإنسانية - ما يجعله ضامنا عالمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وخلودها، بحيث تشمل الناس كافة إلى قيام الساعة.
كما ناقش البحث ضمانة ذاتية أخرى للقرآن الكريم بمقاصده الكبرى التي تكفل هذه العالمية في كونه حقا في ذاته، وحقا يحمل في مواجهة الباطل في سنة التدافع، وحقا بما فيه من هداية وعبادة ورحمة. كما أظهر البحث أهم ذاتيات القران من حيث موضوعاته الكبرى التي تحمل عالمية الرسالة وتضمنها؛ من مثل الإيمان بالله وتوحيده وتنزيهه، وعقيدة الجزاء، والعمل الصالح، وثبات منظومة القيم والأخلاق، بكل ما تتميز به في إطارها الإنساني الواسع، مع إطارها الإيماني الدقيق.
المقدمة الحمد لله الذي أنزل القرآن على خاتم أنبيائه ورسله، وجعله مصدقا لكتبه ومهيمنا عليها، واختصه بما لم يختص به غيره من كتبه، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، المرسل برسالة ربنا العالمية إلى الناس كافة، والخالدة إلى يوم الدين، ثم أما بعد؛
فلما كان القرآن كتاب رب العالمين وخاتم الكتب على خاتم الرسل، أنزله الله وحياً، وخصه بما لم يختص به كتابا من كتبه؛ ليجعله وحيه المحفوظ إلى قيام الساعة، وللناس في الأرض كلها، فقد جعل الله له من الخصوصيات الذاتية في جوهره، ومن المقاصد والموضوعات في غاياته: ما يضمن هذه العالمية لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد وجدت الحاجة إلى تأصيل هذا المعنى لأمة لا بد أن تعرف أن قدرها العالمي هو بقدر هذا القران، وأن أصالتها بأصالته، وأن خصوصيتها بخصوصيته، لأجمع فيه بين التأصيل للدراسات القرآنية، والتأصيل للدراسات العقدية في موضوع رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. ولمعالجة هذه الفرضية فقد نظمت البحث بمقدمة وتمهيد ومبحثين وخاتمة على النحو الآتي:
المقدمة.
تمهيد: مصطلحات الدراسة.
المبحث الأول: خصوصيات القرآن في ذاته وجوهره وضمانة العالمية وفيه مطالب::
المطلب الأول: خصوصية ربانية القرآن.
المطلب الثاني: خصوصية موقعه من الكتب الإلهية.
المطلب الثالث: خصوصية علاقته بالفطرة الإنسانية.
المطلب الرابع: خصوصية صلاحية مبادئه وأصوله التشريعية.
المطلب الخامس: خصوصية نزعته الإنسانية.
المطلب السادس: خصوصية وحدة خطابه وتجرده.
المبحث الثاني: مقاصد القرآن وموضوعاته.
المطلب الأول: مفاصد القرآن وضمانة العالمية.
المقصد الأول: القرآن هو الكتاب الحق للناس.
المقصد الثاني: القرآن كتاب الهداية الشاملة الدائمة للناس وكتاب الفصل والبيان.
المقصد الثالث: القرآن كتاب العبادة.
المقصد الرابع: القرآن كتاب الشفاء والرحمة والبشرى.
المقصد الخامس: القرآن كتاب العلم والتزكية والحكمة.
المقصد السادس: القرآن كتاب الذكرى والتذكير والعبرة والعظة.
المقص السابع: القرآن يقصد إحقاق الحق وإبطال الباطل في سنة التدافع.
المطلب الثاني: موضوعات القرآن وضمانة العالمية:
الموضع الأول: الإيمان بتوحيد الله وتنزيهه.
الموضوع الثاني: البعث والجزاء.
الموضوع الثالث: العمل الصالح.
الموضوع الرابع: القيم والأخلاق.
الخاتمة:
وفيها أهم نتائج الدراسة وتوصياتها.
تمهيد مصطلحا ت الدراسة تقوم فرضية البحث على أن القرآن الكريم - بصفته كتاب الله النازل وحيا كلاميا على محمد صلى الله عليه وسلم -يحمل في ذاته وجوهره - بهذا الاعتبار - ضمانة العالمية لرسالة الإسلام، رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. ويظهر من هذه الفرضية أربعة مصطلحات تحتاج إلى تحديد وبيان:
أولها - القرآن الكريم:
فهو وان كان لا يحتاج إلى تعريف وبيان، لأن المعنى الشائع والمتبادر إلى ذهن السامع مسلما وغير مسلم، أنه كتاب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن التعريف العلمي أو المصطلحي له أنه: كلام الله تعالى القديم، لأنه صفة من صفات المعاني القديمة القائمة به تعالى كما يعرف باختصار، أو "اللفظ المنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس" ([1]) فهو كلام الله تعالى حقيقة غير مخلوق، المنزل على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه، وبهذا نخرج من قول المعتزلة بأنه مخلوق، ونخرج من قول الأشاعرة بأن القرآن هو عبارة عن كلام الله النفسي وليس كلام الله حقيقة، إذ يقولون: "وأما القرآن بمعنى اللفظ الذي نقرأه فهو مخلوق" ([2]). والمقصود من هذا التعريف - إذن - أن هذا القرآن بما هو كتاب الله وحياً متميزا عن السنة؛ لأنها وحي أيضا، بأنه بألفاظه ومعانيه من الله تعالى. وهو - بما يحمل بألفاظه من معان ومقاصد ومحتويات - يمثل منهج رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الخاتمة للناس كافة.
والذي يعنينا في هذه الدراسة: أن نثبت أن القرآن الكريم هو وحي الله وكلامه وهو كتاب الرسالة الخاتمة يحمل في ذاته وجوهره ضمانة العالمية لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وثانيها:
مفهوم مصطلح الضمانة: هي مأخوذة لغة من الضمان، ومأخوذة من الفعل ضمن، يقول ابن فارس: "الضاد والميم والنون أصل صحيح، وهو جعل الشيء في شيء يحويه. من ذلك قولهم: ضمنت الشيء إذا جعلته في وعائه. والكفالة تسمى ضمانا من هذا؛ لأنه إذا ضمنه فقد استوعب ذمته" ([3]). وبنفس هذا المعنى ذكر صاحب القاموس المحيط ففال: "ضمن الشيء وبه كفله.. وما جعلته في وعاء فقد ضمنته إياه" ([4]).
وقال ابن منظور: "الضمين: الكفيل؛ ضمن الشيء وبه ضمنا، وضمانا: كفل به، ضامن وضمين، كافل وكفيل. ويقال: ضمنت الشي ء، أضمنه ضمانا فانا ضامن وهو مضمون. ويقال شرابك ممضمن إذا كان في كوز أو إناء" ([5]). وقصدنا - هنا - من مصطلح الضمانة: هو الكفالة، وهي الحفظ والرعاية، أي ما يحفظ عالمية الرسالة ويكفل بقاءها وخلودها.
ثالثها - الذاتية:
وقصدنا من الذاتية:
أي من نفس القرآن، أي من كونه كتابا وهو كلام الله، أي ما يعود لذات القرآن وجوهره، لا لشيء خارج عنه، لأن ثمة ضمانات أخرى خارج الكتاب، تقوم كفالات وضمانات لعالمية الرسالة. وثمة ضمانات ذاتية أخرى من اعتبار آخر، وهو كونه معجزة الرسالة التي تكفل الله تعالى بحفظها وبطبيعتها وبإعجازها.
رابعها - العالمية:
والعالمية: لغة من العلم - بفتح العين واللام - وهو المنار والسمة والفصل بين الأرضين، والأثر يستدل به. والعالم هو الخلق كله. والعالمية مصدر صناعي بزيادة ياء مشددة وتاء تأنيث ([6]). ويبدو أن المقصود من هذه الزيادة هو شمول ما يوصف بالعالمية؛ فإذا قلنا: عالمية الإسلام قصدنا بها ما يميز الإسلام دينا عن الأديان الأخرى بأنه رسالة شاملة للناس كافة، بحيث يغطي في بعده الأفقي الأرض؛ كلها ليصل إلى كل إنسان فيها، في كل مكان يوجد فيه هذا الإنسان، ويمتد في بعده الرأسي أو الزمني إلى كل إنسان يخلقه الله تعالى منذ مبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، فيتجاوز جيل الرسالة وإنسانها إلى كل الأجيال القادمة إلى قيام الساعة. وهذه العالمية لرسالة الإسلام قوامها عموم الرسالة لجميع البشر كما قلنا، وخاتميتها بحيث أكملت النبوات والرسالات السابقة؛ فلا مزيد عليها ولا نبوة بعدها، ولا رسالة تعقبها، وتعني بالتالي خلودها زمنا إلى قيام الساعة. وهي شاملة بالتالي لكل ما يحتاجه الإنسان لسعادة الدارين، فهي بعالميتها رسالة طولها يستغرق الأزمان، ويساير الخلود، ويتجدد على الإعصار، وعرضها يستوعب الأجناس كلها، وعمقها يشتمل
الحقائق التي يفتقر لها العالم في شؤون حياتهم جميعها. ([7])
المبحث الأولى خصوصيات([8]) القرآن في ذاته وجوهره وضمانة العالمية المطلب الأول
خصوصية ربانية القران
ويقصد بها - هنا - أن هذا الفرآن هو من الله؛ فهو كلام الله تعالى ووحيه الكامل، لأنه صفة من صفاته "كامل كمال تلك الصفات، جليل جلالها، عظيم عظمتها، دائم ديمومتها" ([9])، أنزله كلاما على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصفات الله تعالى قديمة أزلية وأبدية، فالقرآن بما هو من صفات الله إذن دال على عظمته، فهو بربانيته يحمل ضمانة ذاتية لعالمية رسالته. وبما أن الله تعالى هو رب العالمين، وأن المخاطبين بهذا القرآن هم من خلق الله، فلا يصلح لخطابهم عالميا إلا كتاب الله الصحيح، كيف لا وهو الكتاب الخاتم، النازل على النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا هو المؤهل الأول للقرآن في ذاته ومصدره ما يجعله ضمانة لعالمية رسالته الخاتمة على محمد صلى الله عليه وسلم.
ولو كان القرآن من غير مصدره الإلهي لتفرقت البشرية، ولا ختلطت أمورها باختلاط مصادر التوجيه فيها؛ لأن الإنسان لا يصلح أن يكون مصدر التوجيه؛ لأنه عاجز، محدود، مغير آراءه، والإنسان المحدود العاجز، المغير لآرائه والمبدل لمواقفه، أسير لتنوع تفكيره ومصادر معرفته، واختلاف أهوائه وشهواته وبيئاته، فما يوجد في فكره من الاختلاف والتناقض يجعله غير صالح للعالمية، ولا لتوحيد هديها ومواقفها.
ولا يصلح للإنسانية الواحدة المخلوقة لرب واحد سبحانه، والمنتهية في مصيرها لتقف بين يدي رب واحد سبحانه إلا القرآن؛ لأنه مبرأ من كل نقص، فهو من الله الواحد العزيز الحكيم، قال تعالى: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت: 42)، وكما قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (النساء: 82)، ولهذا كان لربانية القرآن في مصدره ما يعزز عالميته، كما وصفه ربنا سبحانه بقوله: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) (إبراهيم: 1-3)، وهذا ما يستدعي بقاءه على ربانيته بأن يحفظ كما هو دون تغيير ولا تبديل ولا تحريف ولا زيادة ولا نقصان، ولا تكون أية علاقة بشرية به سوى أن تتناقله وتحفظه كما نزل؛ إبقاء له على ربانيته، وتحقيقا لضمان عالميته.
ومن هنا نجد أن الله سبحانه يتبع الآيات بعد ذكره للقرآن ووضمه له بانه مبين، بما يؤكد ربانيته، وبقاءها على ذلك؛ ضمانا لحفظه له، يقول تعالى: (الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ) (الحجر: 1)، ثم يقول بعد ذلك في ذات السورة: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَة ِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 6-9)؛ ولذلك لما طلب الكفار من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن، أو يبدله اكد الله لهم ليجيبهم نبيه تأكيدا على ربانية مصدره، وأن محمدا بشخصه لا يمكن أن يكون مصدر هذا القرآن، فقال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس: 15).
ويتأكد من هذه الحقيقة من "تدبر القرآن، وقرأ آياته؛ ليجد أن محمدا صلى الله عليه وسلم لو اجتهد وكان اجتهاده خلاف الأولى لصوبه الله نحو الأصح والأفضل، ولعاتبه على فعله كما في قصة ابن أم مكتوم، وأسرى بدر، والمنافقين المتخلفين في غزوة تبوك، وقصة زواجه من زينب بنت جحش" ([10]).
والرسول صلى الله عليه وسلم مهمته أن يبلغ الوحي الذي أوحاه الله إليه، لا أنه ينشئه ويؤلفه قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (المائدة: 67)، وقال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (النجم: 3-5).
هذه الربانية - مصدر للقرآن - تكسبه كل الخصائص الأخرى التي هي آثار لها بما يضمن عالمية رسالته من صحة، ويقينية، وثبات، وشمول، وواقعية، وتوازن وغير ذلك مما لا نحب التطويل فيه ([11])؛ لكثرة تكرار المؤلفين له، فلا نزيد عليهم فيه.
المطلب الثاني
خصوصية موقعه من الكتب الإلهية
1 - القرآن والكتاب في آيات القرآن:
لقد وردت كلمتا الكتاب، وكتاب الله في آيات القرآن الكريم دالتين على الكتب الإلهية عموما، أو كتب بعينها، مثل: التوراة، والإنجيل، والكتب الإلهية فيما قبل القرآن الكريم بما يقارب مائة وتسعة عشر موضعا ([12])، دالتين على القران الكريم بعينه فيما يقارب تسعة وسبعين موضعا ([13])، في حين ذكر لفظ القرآن - معرفا - دالا على الكتاب الإلهي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في ثمانية وخمسين موضعا ([14])، بينما ذكر لفظ (قرآنا) - نكرة - في عشرة مواضع. ([15])
وذكر السيوطي أن أسماء القرآن الكريم بلغت خمسة وخمسين اسما، وبلغت عند الزركشي نيفا وتسعين، وعددها، وعلل لكل تسمية ([16]).
وبالاستقراء لهذه الأسماء التي ذكرها السيوطي وبتفحصها يرى الباحث: أن كثيرا منها جاءت صفات للأسماء الرئيسة وهي؛ القرآن والكتاب والذكر والفرقان، وان عدها العلماء أسماء، فالأدق أنها أوصاف للقرآن، وهي كما وردت نصيا في القرآن على النحو الآتي:
- الوحي: قال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم: 4).
- المبين: قال تعالى: (الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) (يوسف: 1).
- بيان: قال تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 138).
- كريم: قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ) (الواقعة: 77).
- نور: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) (النساء: 174).
- هدى وموعظة: قال تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 138).
- شفاء ورحمة: قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (الإسراء: 82).
- مباركا: قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (الأنعام: 92).
- حكيما: قال تعالى: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (آل عمران: 58).
- مصدقا: قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا) (الأحقاف: 12).
- مهيمنا: قال تعالى: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا) (المائدة: 48).
- صراط ومستقيما: قال تعالى: (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (الأنعام: 126).
- قولا: قال تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (المزمل: 5).
- مفصلا: قال تعالى: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (الأنعام: 114).
- نبأ عظيم: قال تعالى: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) (ص: 67).
- أحسن القصص: قال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف: 3).
- متشابها ومثاني وتنزيل: قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر: 23).
- روحا: قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) (الشورى: 53).
- عربيا: قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2).
- بصائر: قال تعالى: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الجاثية: 20).
- العلم: قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ) (الرعد: 37).
- عجبا: قال تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا) (الجن: 1).
- تذكرة: قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (الحاقة: 48).
- صدقا وعدلا: قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام: 115).
- أمراً: قال تعالى: (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (الدخان: 5).
- مناديا: قال تعالى: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ) (آل عمران: 193).
- بشرى: قال تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) (البقرة: 97).
- مجيد: قال تعالى: (ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ) (ق: 1).
- بشيرا ونذيرا: قال تعالى: (بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) (فصلت: 4).
- عزيز: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) (فصلت: 41).
- بلاغ: قال تعالى: (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) (إبراهيم: 52).
- القصص الحق: قال تعالى (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) (آل عمران: 62).
- أحسن القصص: قال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ) (يوسف: 3).
- مرفوعة مطهرة: قال تعالى: (مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) (عبس: 14).
ويرى أبو شهبة ([17]) أن الكتاب والفرقان والتنزيل والذكر هي "أشهر الأسماء بعد لفظ القرآن، وقد صارت أعلاما بالغلبة على لسان أهل الشرع ([18]).
2- علاقة القرآن بالكتب السماوية السابقة:
نزل القرآن الكريم كتابا خاتما للكتب الإلهية السابقة النازلة على الأنبياء والرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يحمل الدين الإلهي - الإسلام - التام المتمم والكامل المكمل، المرضي عنه إلى قيام الساعة طبقا لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3)، بعد أن اختلف أهل الكتب السابقة، فبذلوا كتبهم وغيروها وحرفوها، فجاء الدين الخاتم بالكتاب الخاتم، قال تعالى: (ِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (آل عمران: 19). قال ابن كثير في تفسير الآية: "إخبار من الله تعالى بأنه لا دين يقبل عنده من أحد سوى السلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم" ([19]). ويشير القرآن الكريم إلى موقع هذا القرآن خاتما؛ ضمانا لرعاية الله لخلقه، وهدايته لهم، وحاجاتهم إليه إلى قيام الساعة، كتابا نازلا على محمد النبي الخاتم برسالته العالمية بقوله سبحانه: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (الأنعام: 92)، وعاب على أهل الكتاب إنكارهم إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، المبشر به نبيا خاتما عندهم في كتبهم، فقال سبحانه: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (البقرة: 89)، وقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) (البقرة: 91)، وقال سبحانه: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) (آل عمران: 3 - 4).
وهذا الموقع للقرآن الكريم بصفته خاتما للكتب الإلهية السابقة، ومصدقا لها ومهيمنا عليها يعد ضمانة تكفل عالمية الرسالة، إذ لولاه لبقي الاختلاف بين البشر على أديانهم وعقائدهم وأنبيائهم، ولبقيت البشرية مشتتة متفرقة، متشرذمة، فجعل الله هذا القرآن بموقعه كتابا مصدقا للكتب السابقة ومهيمنا عليها، يخاطب العالم كله خطابا عالميا، وجعل فيه التمام والكمال منهجا ومحتوى، إيمانا، وشريعة، ونظاما، وخلقا، وما فرط فيه من شيء، ما يخرج البشر من حالة القومية والشعوبية، والدينية الطائفية المتفرقة إلى توجه عالمي إنساني ومن ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، قال تعالى: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم: 1)، وقال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 257). فهو إذن:
خاتم مصدق لما في الكتب السابقة من أصول الإيمان والعبادة والفضائل وأصول الشرائع، وإن اختلفت شريعته التفصيلية عما سبق تشريعه في الكتب السابقة؛ لضرورة خصوصية تلك الشرائع لشعوب تلك الكتب، وأقوامها وظروفها، بينما جاءت شريعته للناس كافة بما يضمن عالميتها من حيث قدرتها على حل مشاكل البشرية في كل زمان ومكان، وبما يحقق خلودها وديمومتها، وبما يقتضيه خلودها بسبب خاتميتها، إذ لا شريعة بعدها قال تعالى: (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) (الصافات: 37). هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: فهو المهيمن على الكتب السابقة في أصل ما جاءت عليه قبل تحريفها لأنه خاتمها. والمطلوب من البشر جميعا بعد نزوله الإيمان به، واتباعه وتحكيمه؛ لأنه قد حرس ما فيها من أصول الخير بعد أن صدق ما فيها أصلا، وبما أبقى من أصولها وهيمن عليها. وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة: 48).
يعلق دراز ([20]) على الآية بقوله: "أي حارسا أمينا عليها. ومن تلك الحراسة الأمينة على تلك الكتب: ألا يكتفي الحارس بتأييد ما خلده التاريخ فيها من حق وخير، بل عليه فوق ذلك: أن يحميها من الدخيل الذي عساه أن يضاف إليها بغير حق، وأن يبرز ما تمس إليه الحاجة من الحقائق التي عساها أن تكون قد أخفيت منها" ([21]).
ويعلق سيد قطب ([22]) على الآية ذاتها بقوله: "والأمر موجه ابتداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما كان فيه من أمر أهل الكتاب الذي يجيئون إليه متحاكمين، ولكنه ليس خاصا بهذا السبب، بل هو عام والى آخر الزمان، طالما أنه ليس هناك رسول جديد، ولا رسالة جديدة، لتعديل شيء ما في هذا المرجع الأخير" ([23]).
3 - قرابة القرآن من الكتب السابقة:
إن العلاقة القوية للقران الكريم بالكتب الإلهية السابقة ناشئة من كون تلك الكتب كلها في أصلها من الله وحده، والقرآن من الله وحده، وما أصاب تلك الكتب السابقة من خلل أو تحريف أخرجها عن ربانية مصدرها، مما يؤكد ضرورة دعوة القرآن لأهل تلك الكتب إلى قبوله والأيمان به؛ لأنه الكتاب الوحيد من الله وحده الذي لا تمتد إليه يد التحريف أو التغيير أو الزيادة أو النقصان، والذي تكفل الله تعالى بحفظه كما قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9). وقال: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (يونس: 37).
وقوة هذه العلاقة للقرآن بالكتب السابقة واضحة - إذن - في أنها هي والقرآن من مصدر واحد، وهو الله عز وجل. وهذا لون واحد من ألوان القرابة بين القرآن الكريم والكتب إلهية السابقة.
أما القرابة الأخرى: فهي قرابة التصديق لما كان فيها من الحقائق والهيمنة عليها كما ذكرنا قبل قليل.
وأما القرابة الثالثة: فهي التصحيح المعبر عنه بالتفصيل، وهو البيان للحق بعدما غير وبدل أو كلما احتاجت إليه البشرية من ثبات في الرسالة العالمية، وقد كان مقبولا في الرسالات الخاصة.
كل ذلك مع التركيز على ضرورة وحدانية هذا الكتاب وانفراده كتابا خاتما ومصدقا ومهيمنا، ومنهجا للإسلام المقبول والمرضي عنه عند الله تعالى، وضرورة انفراده وحده إلى قيام الساعة، أما تلك الكتب السابقة فقد انتهى العمل بها بعد نزوله، وما عاد يعترف بها للإعمال، وان كان يؤمن بها إيمانا مجملا - كمبدأ – كتبا إلهية، يكفر منكر أصل نزولها من الله، ويكفر في الوقت نفسه من زعم مشاركتها للقرآن في الإعمال، أو القبول بما يعرف بتعايش الديانات، إذ لا اعتبار لمفهوم تعدد الأديان بعد الإسلام: قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران: 19). وقال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85)، وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (الصف: 9).
4 - أمثلة علي العلاقة:
ويمكن إجمال الأمثلة على العلاقة في المضمون بين القرآن والكتب السابقة وكيفية تصحيحها أو تفصيلها أو إخراجها من خصوصية الرسالات السابقة إلى عالمية رسالة القرآن، فيما يأتي ([24]):
أ - فيما يتعلق بتنزيه الله ومعرفته:
الأساس في الكتب السماوية - ومنها التوراة والإنجيل - الإيمان بالله الواحد بأسمائه وصفاته، لكن غلب التشبيه والتجسيم في وصف الرب في التوراة - بفعل البشر-؛ فمثلا نجد في سفر التكوين في رويا يعقوب: "ورأى حلما، واذا سلم منصوبة على الأرض، ورأسها يمس السماء، وهو ذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها، وهو ذا الرب واقف عليها فقال: أنا الرب إله إبراهيم أبيك واله اسحق" ([25]). وعد اليهود ربهم قوميا، وزعموا أنهم شعب الله المختار، فطعنوا في تنزيه الرب، واحتكروه لهم.
وقد اخترعت الأناجيل المدعاة صورة مجسدة للرب في ثالوث الآب والابن والروح القدس. فجاء القرآن الكريم ليعطي مفهوما صحيحا لمعرفة الله بأسمائه وصفاته يقول فيها: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11)، فكانت عقيدته واضحة في تنزيه الله بعيدا عن التجريد الفلسفي وعن التجسيد المادي، كما عبر عنه الله بانه رب العالمين، وليس إلها قوميا، ولا إلها حالا في إنسان، كما أنه رب واحد قال تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص: ا-4).
ب - فيما يتعلق بالآخرة:
فإن خلود الروح، ونهاية العالم، ويوم القيامة، والحساب، والجنة والنار عقيدة مشتركة بين الأديان الإلهية جميعها. ولكننا إذ نظرنا في كتاب التوراة لا نجد لها إلا شعاعا خافتا، ويعلل لذلك مالك بن نبي فيقول: "لأنها كانت مهتمة بالتنظيم الاجتماعي لأول مرة" ([26])، ولا أشاركه الرأي في هذا التعليل؛ إذ لا يصح لدين الهي، ولا لكتاب من عند الله أن يخلو من هذه العقيدة، فهي من أركان الإيمان التي تقوم على الإيمان بها مع الإيمان بالله حياة الإنسان من أجل الفوز في الآخرة بالجنة والنجاة من النار. ولكن السبب هو نفسية اليهود في حب السيطرة والعدوان على غيرهم؛ فقد أفقدوا توراتهم الإيمان بالآخرة، بل إن التوراة كما هي وبتجربتهم لا تعترف بالآخرة ولا تذكر أمرها، إذ "ترى الديانة اليهودية أن الإنسان يثاب أو يعاقب على أعماله في الحياة الدنيا" ([27])؛ فالجنة عندهم أطماع دنيوية، هي أرض الميعاد، فلسطين، بطرد أهلها منها وقتلهم وتشريدهم، وإقامة دولتهم عليها، ونهب أرضها وخيراتها. كل ذلك حتى لا ترق قلوبهم، وتطاوع قسوتها في معاملة الغير أو الجوييم ([28]) أو الأمميين بالتعبير القرآني، كما قرر القرآن عقيدتهم في ذلك بقوله تعالى: (قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) (آل عمران: 75).
أما الأناجيل فتتحدث عن عقيدة قيامة المسيح، وهي عقيدة منسوجة من حول شخصية المسيح، ومتأثرة بالديانات الوثنية والشعبية، والأساطير التي تجعل الآخرة شيئا معنويا، وليس حقيقة شاهدة؛ ولذلك قالوا بفكرة الإسقاط والرهبنة، فافقد الملك حتى يوهب لك الملكوت. ولا وضوح لحقيقة الآخرة في أناجيلهم.
بينما يجلي القرآن الآخرة تجلية تكاد تراها وتعيشها في دنياك في كل شيء، مع فارق أن هذه حياة دنيا زائلة، وتلك حياة حقيقية دائمة وخالدة. ولشدة وضوح صورتها وأهميتها في الإيمان لدى الرسالة العالمية يكاد يختصر السياق القرآني أركان الإيمان كلها في بعض آياته ليجعلها إيمانا بالله واليوم الآخر، قال تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ) (آل عمران: 114).
ت - وفي مجال الأخلاق:
نجد القرآن "يقدم لنا الواجبات الأساسية وعلم الحقيقة على أنها دعوة السابقين وسبيلهم المقيم، فلقد حمل جميع الرسل ميزان العدل والقسط، وأمروا بان يكسبوا رزقهم بالحلال، وأن يعبدوا الله، ويفعلوا الخير" ([29]). ويعقد دراز ([30]) مقارنة بين نصوص من التوراة من سفر الخروج عن الوصايا العشر القائمة على؛ عدم الشرك بالله، وإكرام الوالدين، وعدم القتل، وتحريم الزنا والسرقة وشهادة الزور، وتحريم الكذب، وتحريم الظلم وأكل الحرام في الوزن والكيل والحقد، وغيرها في نصوص من سفر الخروج في الفصل العشرين منه ([31])، وبين ما يقابلها من آيات القرآن الكريم من الآيات المؤكدة على هذه الوصايا وما يكملها ([32])، وما يجعلها أخلاقا عالمية؛ عالمية رسالة الإسلام ([33]). ويعرض كذلك هذه الوصايا من النجيل ([34])، ويعرض ما يقابلها في القرآن الكريم ([35]). ويبين من دراسته لهذه الوصايا الأخلاقية في التوراة والإنجيل أن القرآن قد اكمل التراث الأخلاقي للأديان السابقة، تبعا للرسالة العالمية التي تتجاوز فيها الأخلاق شعبا أو أتباع دين معين، لتصبح منظومة إنسانية عالمية تستقر في شعاب الحياة جميعها ولدى جميع شعوب البشر.
فالقرآن - إذا - جاء بمنظومة الأخلاق العالمية الإنسانية من ناحية، والإيمانية من ناحية أخرى، وقوام هذه المنظومة الإنسانية الإيمانية: التوازن والعدل قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء: 58).
والعدالة والمساواة في القرآن تكون في رد العدوان لا في قبوله والتسامح معه سلبيا، قال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل: 126).
واذا كانت الكتب الإلهية السابقة تنهى عن فعل الشر، ولكنها لا تامر بمقاومته؛ فقد جعل القرآن الدعوة إلى الخير ومقاومة الشر واجبا شرعيا عبر قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبإعمال هذه القاعدة جعل أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس جميعا، وليس لقوم معينين أو شعب بعينه. قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104)، وقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ) (آل عمران: 110).
المطلب الثالث
خصوصية علاقته بالفطرة الإنسانية
القرآن بما هو كتاب موجه إلى الفطرة الإنسانية، للناس كافة، وهو ما يجعله مناط الضمان في أنه التصور الوحيد الموافق للفطرة ([36]). والفطرة الإنسانية كما خلقها الله لها خصائص واحدة لدى البشر جميعا كما بين الله تعالى في قوله: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30)، ولذا فلا ينجح في التعامل معها إلا منهج يصدر عن خالقها وحده، قال تعالى: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30). والقرآن بالتالي هو الضمانة لعالمية الرسالة الموجهة إلى هذا الإنسان، إلى قيام الساعة، يقول الدريني ([37]): " كون الإسلام خاتم الرسالات يستلزم هذا التطابق بين الفطرة وهذا الدين، تفسيرا منطقيا معقولا لانقطاع الوحي" ([38]).
وهذا يعني أن وجود التواؤم بين الفطرة الإنسانية وبين القرآن الكريم في مضمون رسالة الإسلام، وتحققه بما للفطرة من ثبات، وما للدين من ثبات وحفظ أيضا، بما يجعل هذا التواؤم والاتفاق والتطابق ضمانة من ضمانات عالمية الرسالة، من حيث عمومها للناس كافة، وخاتميتها بانقطاع الوحي، وحفظ القرآن مخاطبا للبشرية، وحالا لمشاكلها، وبما يضمن خلودها إلى قيام الساعة، إذ لو حصلت مفارقة بين القرآن والفطرة لأدى إلى عدم صلاحية الرسالة للعالمية. ويفصل الدريني هذا التطابق فيما مختصره ([39]):
أولا: القران كامل فيما يحمله من منهج، ومضمون في خطابه للفطرة، فهو على قدها ([40])، وحرفي أن يتسم بالكمال والخلود في ذاته، وهو دين الله الذي رضيه للبشرية كما في قوله تعالي: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة 3).
ثانيا: إن هذا التطابق عليه دليل تاريخي جلي، سواء بالنسبة لكافة الشرائع التي كانت معاصرة لنزول الرسالة، والتي بادت ([41]) وأمست مجرد مادة للدراسة التاريخية، بخلاف رسالة السلام التي بقيت حية عبر القرون في نفوس أصحابها، وفي واقع حياتهم، بل وبذلوا في سبيلها أغلى ما يملكون من جهاد بالمال والنفس، وإن كانت أحوالهم في الأزمنة قد اعتراها ضعف لأسباب داخلية وخارجية، ولكن ذاتية الرسالة لم تتغير ولم تتبدل، وهي قادرة في كل لحظة على إنقاذ الأمة المسلمة من وهدتها، لتعود لها عالمية وظيفتها، وعالمية شخصيتها بعالمية رسالتها.
يتبع