تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : نقد حجج المرجئة فى باب الايمان



محمدعبداللطيف
2018-10-20, 12:07 PM
نقد حجج المرجئة فى باب الايمان

ذكر شيخ الإسلام أن للمرجئة حججا - بسببها اشتبه الأمر عليهم، فوقعوا في الغلط في باب الإيمان.
يقول رحمه الله: "والمرجئة الذين قالوا الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، والأعمال ليست منه، كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم،...، ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم:
فإنهم رأوا أن الله قد فرق في كتابه بين الإيمان والعمل، فقال في غير موضع: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [البقرة: 277].
ورأوا أن الله خاطب الإنسان بالإيمان قبل وجود الأعمال، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة: 6]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ[الجمعة: 9].
وقالوا: لو أن رجلا آمن بالله ورسوله ضحوة، ومات قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال، مات مؤمنا، وكان من أهل الجنة، فدل على أن الأعمال ليست من الإيمان"،-------------- ثم قال شيخ الإسلام:
"والمرجئة - المتكلمون منهم، والفقهاء منهم - يقولون: إن الأعمال قد تسمى إيمانا مجازا؛ لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتضاه؛ ولأنها دليل عليه.
ويقولون: قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)): مجاز" (1) .
فهذه أربع حجج ساقها شيخ الإسلام في هذا الموضع، وهي حجج مشتركة بين فقهاء المرجئة وغيرهم من المرجئة،وثمة حجج أخرى مشتركة بينهم أيضا، ومنها:
- توهمهم أن الإيمان لو كان مركبا للزم منه ذهابه كله بذهاب بعضه، ولخرج العصاة من الإيمان، وهذا قول الخوارج، وللزم منه اجتماع الإيمان والكفر في الشخص، وهذا مخالف للإجماع عندهم.
- دعواهم أن الإيمان في اللغة مجرد التصديق.
- الاحتجاج بنصوص الوعد.
- الاحتجاج بحديث الجارية.
فهذه هي حجج المرجئة فيما ذهبوا إليه اشتركوا بالقول بها، وقد بلغت سبع حجج، سيقت على وجه الإجمال، وتحتجا إلى تفصيل يبين وجه الاستدلال، وجواب يزيل الإشكال----[موسوعة الفرق]

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 12:15 PM
نقد الحجة الأولى للمرجئة
ما جاء في النصوص من العطف بين الإيمان والعمل
استدل المرجئة بالنصوص التي فيها عطف العمل على الإيمان، إذ فهموا من هذا العطف المغايرة بين المعطوفين، ومن ثم خروج المعطوف من المعطوف عليه.
قال شيخ الإسلام موردا هذه الحجة، ومجيبا عنها:
"قالوا: الأعمال ليست من الإيمان؛ لأن الله فرق بين الإيمان والأعمال في كتابه (2) .
ثم قال الفقهاء المعتبرون من أهل هذا القول: إن الإيمان هو تصديق القلب، وقول اللسان.
وهذا المنقول عن حماد بن أبي سليمان، ومن وافقه، كأبي حنيفة، وغيره.
وقال جهم، والصالحي، ومن وافقهما من أهل الكلام، كأبي الحسن، وغيره: إنه مجرد تصديق القلب.
وفصل الخطاب في هذا الباب: أن اسم الإيمان قد يذكر مجردا، وقد يذكر مقرونا بالعمل الصالح، أو بالإسلام.
فإذا ذكر مجردا: تناول الأعمال، كما في الصحيحين: ((الإيمان بضع وستون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (3) ، وفيهما: أنه قال لوفد عبد القيس: ((آمركم بالإيمان بالله، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله , وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتعطوا من المغنم الخمس)) (4) .
وإذا ذكر مع الإسلام، كما في حديث جبريل أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، ففرق بينهما، فقال: ((الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله)) إلى آخره، (5) . وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام علانية، والإيمان في القلب)) (6) .
فلما ذكرهما جميعا: ذكر أن الإيمان في القلب، والإسلام ما يظهر منه الأعمال" (7) .
وفي شرح مطول لمعنى الإيمان حال الإفراد، وحال اقترانه بغيره يقول رحمه الله:
"وأما إذا قيد الإيمان، فقرن بالإسلام، أو بالعمل الصالح، فإنه قد يراد به ما في القلب من الإيمان باتفاق الناس.
وهل يراد به أيضا المعطوف عليه، ويكون من باب عطف الخاص على العام، أو لا يكون حين الاقتران داخلا في مسماه، بل يكون لازما له على مذهب أهل السنة، أو لا يكون بعضا ولا لازما؟
هذا فيه ثلاثة أقوال الناس،...، وهذا موجود في عامة الأسماء، يتنوع مسماها بالإطلاق والتقييد" (8) .
ثم ذكر أمثلة على هذا التنوع، ثم قال:
"وهذه الأسماء تختلف دلالتها بالإطلاق والتقييد والتجريد والاقتران، تارة يكونان إذا أفرد أحدهما أعلم من الآخر، كاسم الإيمان والمعروف مع العمل والصدق، وكالمنكر مع الفحشاء ومع البغي، ونحو ذلك.
وتارة يكونان متساويين في العموم والخصوص، كلفظ الإيمان والبر والتقوى، ولفظ الفقير والمسكين، فأيها أطلق تناول ما يتناوله الآخر" (9) .
ثم قال شيخ الإسلام بعد شرحه بعض الأمثلة:
"وهذا باب واسع يطول استقصاؤه، وهو من أنفع الأمور في معرفة دلالة الألفاظ مطلقا، وخصوصا ألفاظ الكتاب والسنة، وبه تزول شبهات كثيرة، كثر فيها نزاع الناس، من جملتها مسألة الإيمان والإسلام" (10) .
وبعد هذا التأصيل شرع شيخ الإسلام في تحرير أنواع العطف في القرآن، وسائر الكلام؛ ليصل من بعده إلى نوعه بين الإيمان والعمل، فقال:
"وعطف الشيء على الشيء في القرآن، وسائر الكلام، يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، مع اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم الذي ذكر لهما.
والمغايرة على مراتب:
أعلاها: أن يكونا متباينين، ليس أحدهما هو الآخر، ولا جزؤه، ولا يعرف لزومه له (11) .
كقوله: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الفرقان: 59]، ونحو ذلك، وقوله: وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98]، وقوله: وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ [عمران: 3-4]، وهذا هو الغالب.
ويليه: أن يكون بينهما لزوم.
كقوله: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ [البقرة: 42]، وقوله: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 115]، وقوله: وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [النساء: 136]"، ثم أورد جملة من الأمثلة على هذا النوع، معلقا عليها، ثم قال:
"والثالث: عطف بعض الشيء عليه.
كقوله: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى [البقرة: 238]، وقوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب: 7]، وقوله: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [البقرة: 98]، وقوله: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا [الأحزاب: 27].
والرابع: عطف الشيء على الشيء؛ لاختلاف الصفتين.
كقوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [الأعلى: 1-4]، وقوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 3-4]" (12) .
وبعد هذا التحقيق قال شيخ الإسلام:
"وأما قولهم إن الله فرق بين الإيمان والعمل في مواضع، فهذا صحيح.
وقد بينا أن الإيمان إذا أطلق: أدخل الله ورسوله فيه الأعمال المأمور بها، وقد يقرن بالأعمال، وذكرنا نظائر لذلك كثيرة، وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب، والأعمال الظاهرة لازمة لذلك، لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة، كان لنقص الإيمان الذي في القلب، فصار الإيمان متناولا للملزوم واللازم، وإن كان أصله ما في القلب، وحيث عطفت عليه الأعمال، فإنه أريد أنه لا يكتفي بإيمان القلب، بل لابد معه من الأعمال الصالحة.
ثم للناس في مثل هذا قولان:
منهم من يقول: المعطوف دخل في المعطوف عليه أو لا، ثم ذكر باسمه الخاص تخصيصا له؛ لئلا يظن أنه لم يدخل في الأول، وقالوا هذا في كل ما عطف فيه خاص على عام.
كقوله: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [البقرة: 98]، وقوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب: 7]، وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ [محمد: 2]، فخص الإيمان بما نزل على محمد بعد قوله وَالَّذِينَ آمَنُوا، وهذه نزلت في الصحابة وغيرهم من المؤمنين، وقوله: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى [البقرة: 238]، وقوله: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ [البينة: 5]، فإنه قصد أو لا تكون العبادة لله وحده لا لغيره، ثم أمر بالصلاة والزكاة ليعلم أنهما عبادتان واجبتان، فلا يكتفي بمطلق العبادة الخالصة دونهما.
وكذلك يذكر الإيمان أولا؛ لأنه الأصل الذي لابد منه، ثم يذكر العمل الصالح، فإنه أيضا من تمام الدين، لابد منه، فلا يظن الظان اكتفاء بمجرد إيمان ليس معه العمل الصالح،...،.
فعلى قول هؤلاء يقال: الأعمال الصالحة المعطوفة على الإيمان دخلت في الإيمان، وعطفت عليه عطف الخاص على العام؛ إما لذكره خصوصا بعد عموم، وإما لكونه إذا عطف كان دليلا على أنه لم يدخل في العام.
وقيل: بل الأعمال في الأصل ليست من الإيمان، فإن أصل الإيمان هو ما في القلب، ولكن هي لازمة له، فمن لم يفعلها كان إيمانه منتفيا؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، لكن صارت بعرف الشارع داخلة في اسم الإيمان إذا أطلق، كما تقدم في كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا عطفت عليه ذكرت؛ لئلا يظن الظان أن مجرد إيمانه بدون الأعمال الصالحة اللازمة للإيمان يوجب الوعد، فكان ذكرها تخصيصا وتنصيصا؛ ليعلم أن الثواب الموعود به في الآخرة، وهو الجنة بلا عذاب، لا يكون إلا لمن آمن وعمل صالحا، لا يكون لمن ادعى الإيمان ولم يعمل.
وقد بين سبحانه في غير موضع أن الصادق في قوله: آمنت، لابد أن يقوم بالواجب، وحصر الإيمان في هؤلاء يدل على انتفائه عمن سواهم" (13) .
ويقول شيخ الإسلام: "إذا تبين هذا، وعلم أن الإيمان الذي في القلب من التصديق والحب وغير ذلك يستلزم الأمور الظاهرة من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة، كما أن القصد التام مع القدرة يستلزم وجود المراد، وأنه يمتنع مقام الإيمان الواجب في القلب من غير ظهور موجب ذلك ومقتضاه، زالت الشبهة العلمية في هذه المسألة، ولم يبق إلا نزاع لفظي في أن موجب الإيمان الباطن هل هو جزء منه داخل في مسماه، فيكون لفظ الإيمان دالا عليه بالتضمن والعموم، أو هو لازم للإيمان، ومعلول له، وثمرة له، فتكون دلالة الإيمان عليه بطريق اللزوم؟
وحقيقة الأمر أن اسم الإيمان يستعمل تارة هكذا وتارة هكذا، كما قد تقدم.
فإذا قرن اسم الإيمان بالإسلام أو العمل كان ذلك دالا على الباطن فقط، وإن أفرد اسم الإيمان، فقط يتناول الباطن والظاهر، وبهذا تأتلف النصوص.
فقوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (14) .، أفرد لفظ الإيمان فدلخ فيه الباطن والظاهر.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر - ذكره مع قوله صلى الله عليه وسلم- أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت )) (15) ، فما قرنه باسم الإسلام ذكر ما يخصه، فالاسم في ذلك الحديث مجرد عن الاقتران، وفي هذا الحديث مقرون باسم الإسلام".
ثم ذكر شيخ الإسلام تنوع دلالة اسم الإسلام حال إفراده، وحال اقترانه باسم الإيمان، ثم قال:
"ومن علم أن دلالة اللفظ تختلف بالإفراد والاقتران، كما في اسم الفقير والمسكين، والمعروف والمنكر والبغي، وغير ذلك من الأسماء، كما في لغات سائر الأمم، عربها وعجمها، زاحت عنه الشبهة في هذا الباب" (16) .
وقال: "فاسم الإيمان تارة يطلق على ما في القلب من الأقوال القلبية والأعمال القلبية، مثل التصديق والمحبة والتعظيم ونحو ذلك، وتكون الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة لوازمه وموجباته ودلائله.
وتارة على ما في القلب والبدن جعلا لموجب الإيمان ومقتضاه داخلا في مسماه.
وبهذا يتبين أن الأعمال الظاهرة تسمى إسلاما، فإنها تدخل في مسمى الإيمان تارة، ولا تدخل فيه تارة.
وذلك أن الاسم الواحد تختلف دلالته بالإفراد والاقتران، فقد يكون عند الإفراد فيه عموم لمعنيين، وعند الاقتران لا يدل إلا على أحدهما، كلفظ الفقير والمسكين، إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا جمع بينهما كان لكل واحد مسمى يخصه"، ثم قال:
"والأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة موجب الأعمال الباطنة ولازمها، وإذا أفرد الإيمان، فقد يتناول هذا وهذا، كما في قوله ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (17) .
وحينئذ فيكون الإسلام داخلا في مسمى الإيمان، وجزءا منه، فيقال حينئذ: إن الإيمان اسم لجميع الطاعات الباطنة والظاهرة" (18) .
وقال رحمه الله: "وهذا الباب يكون تارة مع كون أحدهما بعض الآخر، فيعطف عليه تخصيصا له بالذكر؛ لكونه مطلوبا بالمعنى العام والمعنى الخاص.
وتارة - تتنوع دلالة الاسم بحال الإفراد والاقتران، فإذا أفرد عم، وإذا قرن بغيره خص.
كاسم الفقير والمسكين، لما أفرد أحدهما في مثل قوله: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [البقرة: 273]، وقوله: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة: 89] دخل فيه الآخر، ولما قرن بينهما في قوله:إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ [التوبة: 60] صارا نوعين.
وقد قيل: إن الخاص المعطوف على العام لا يدخل في العام حال الاقتران، بل يكون من هذا الباب.
والتحقيق أن هذا ليس لازما.
قال تعالى: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98]، وقوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب: 7]، وذكر الخاص مع العام يكون لأسباب متنوعة:
تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام، كما في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى.
وتارة - لكون العام في إطلاق قد لا يفهم منه العموم، كما في قوله: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ [البقرة: 2-4]، فقوله: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يتناول كل الغيب الذي يجب الإيمان به، لكن فيه إجمال، فليس فيه دلالة على أن من الغيب ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، وقد يكون المقصود أنهم يؤمنون بالمخبر به وهو الغيب وبالإخبار بالغيب وهو ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك.
ومن هذا الباب قوله تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ [العنكبوت: 45]، وقوله تعالى وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ [الأعراف: 170]، وتلاوة الكتاب هي أتباعه والعمل به" (19) .
وكلام شيخ الإسلام في تقرير هذا الجواب كثير (20) ، وكان من المهم إيراد هذا العدد من النقول عنه رحمه الله في رد هذه الشبهة الإرجائية، ويمكن تلخيص ما تقدم بأن يقال:
إن مجيء لفظ الإيمان في النصوص له حالان:
الحال الأولى: أن يذكر الإيمان مفردا، مجردا، مطلقا.
فهنا يكون معنى الإيمان متناولا للباطن والظاهر، من القول والعمل.
الحال الثانية: أن يذكر مقيدا ومقرونا بغيره.
وهنا يكون معنى الإيمان هو ما في القلب، ثم إن المقترن به والمعطوف عليه، وهو العمل، لا يخلو من احتمالين:
أحدهما: أن يكون جزءاً من الإيمان، داخلا في مسماه، وإنما عطف عليه تخصيصا له بالذكر، من باب عطف الخاص على العام.
والثاني: أن يكون غير داخل في مسماه، لكنه من لوازمه وموجباته ومقتضياته ودلائله، فالإيمان ما دام موجودا لزم ضرورة حصول العمل، ولا يمكن وجود الإيمان بدون العمل.
وتتميما لفقه المسألة أبان شيخ الإسلام عن أن مجيء اسم الإيمان في النصوص أكثره مقيدا، وأنه إن جاء مطلقا فهو مفسر بما يبينه.
يقول رحمه الله تعالى: "ولفظ الإيمان أكثر ما يذكر في القرآن مقيدا، فلا يكون ذلك اللفظ متنا ولا لجميع ما أمر الله به، بل يجعل موجبا للوازمه، وتمام ما أمر به، وحينئذ يتناوله الاسم المطلق" (21) .
ويقول: "القرآن ليس فيه ذكر إيمان مطلق غير مفسر، بل لفظ الإيمان فيه إما مقيد، وإما مطلق مفسر.
فالمقيد كقوله: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3]، وقوله: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ [يونس: 83]، والمطلق المفسر كقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15]، ونحو ذلك، وقوله: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65].
وكل إيمان مطلق في القرآن، فقد بين فيه أنه لا يكون الرجل مؤمن إلا بالعمل مع التصديق، فقد بين القرآن أن الإيمان لابد فيه من عمل مع التصديق، كما ذكر مثل ذلك في الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج".
ثم قال: "بل القرآن والسنة مملوءان بما يدل على أن الرج لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق.
وهذا في القرآن أكثر بكثير من معنى الصلاة، والزكاة، فإن تلك إنما فسرتها السنة، والإيمان بين معناه الكتاب، والسنة، وإجماع السلف" (22) .
وقال: "اسم الإيمان يستعمل مطلقا، ويستعمل مقيدا، وإذا استعمل مطلقا، فجميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة يدخل في مسمى الإيمان عند عامة السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، الذين يجعلون الإيمان قولا وعملا، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويدخلون جميع الطاعات فرضها ونفلها في مسماه.
وهذا مذهب الجماهير من أهل الحديث والتصوف والكلام والفقه، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم"[موسوعة الفرق]

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 12:50 PM
نقد الحجة الثانية
أنهم رأوا - أن الله تعالى خاطب الإنسان بالإيمان قبل وجود الأعمال، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى [المائدة: 6]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9].
وأجاب شيخ الإسلام عن ذلك بقوله:
"أنهم خوطبوا به قبل أن يجب تلك الأعمال، فقبل وجوبها لم تكن من الإيمان، وكانوا مؤمنين الإيمان الواجب عليهم قبل أن يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه، فلما نزل - إن لم يقروا بوجوبه لم يكونوا مؤمنين" (24) .
ومثل على ذلك بالحج، فإنه لم يأت ذكره في أكثر الأحاديث التي فيها ذكر الإسلام والإيمان، كحديث وفد عبد القيس حيث قال فيه صلى الله عليه وسلم: ((آمركم بالإيمان بالله وحده، هل تدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم، أو خمسا من المغنم)) (25) ، وحديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه (( أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: آلله أرسلك إلى الناس كلهم فقال: اللهم نعم، قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة، قال: اللهم نعم، قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: اللهم نعم، قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا، فتقسمها على فقرائنا قال: اللهم نعم، فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخويني سعد بن بكر )) (26) .
وإنما جاء ذكره في حديث جبريل، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت)) (27) .
وذلك لأن الحج آخر ما فرض من الأركان الخمسة، فكان قبل فرضه لا يدخل في الإيمان والإسلام، فلما فرض أدخله النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان إذا أفرد، وأدخله في الإسلام إذا قرن بالإيمان وإذا أفرد ----[موسوعة الفرق]

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 12:59 PM
نقد الحجة الثالثة للمرجئة
قالوا: لو أن رجلا آمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ضحوة، ومات قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال مات مؤمنا، وكان من أهل الجنة، فدل على أن الأعمال ليست من الإيمان.
قال شيخ الإسلام مجيبا عن ذلك:
"وكذلك قولهم من آمن ومات قبل وجوب العمل عليه مات مؤمنا، فصحيح؛ لأنه أتى بالواجب عليه، والعمل لم يكن وجب عليه بعد") .
فالأمر ليس مرده لكون العمل ليس من الإيمان، بل لأن العمل لم يكن واجبا عليه في تلك الحال.
يقول شيخ الإسلام: "فإن الله تعالى لما بعث محمدا رسولا إلى الخلق كان الواجب على الخلق تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، ولم يأمرهم حنيئذ بالصلوات الخمس، ولا صيام شهر رمضان، ولا حج البيت، ولا حرم عليهم الخمر والربا، ونحو ذلك، ولا كان أكثر القرآن قد نزل، فمن صدقه حينئذ فيما نزل من القرآن، وأقر بما أمر به من الشهادتين، وتوابع ذلك، كان ذلك الشخص حينئذ مؤمنا تام الإيمان الذي وجب عليه، وإن كان مثل الإيمان لو أتى به بعد الهجرة لم يقبل منه، ولو اقتصر عليه كان كافرا" (31) .
ويقول: "بل كانوا في أول الإسلام يكون الرجل مؤمنا كامل الإيمان مستحقا للثواب إذا فعل ما أوجبه الله عليه ورسوله، وإن كان لم يقع من التصديق المفصل بما لم ينزل من القرآن، ولم يصم رمضان، ولم يحج البيت، كما أن من آمن في زمننا هذا إيمانا تاما ومات قبل مات قبل دخول وقت صلاة عليه مات مستكملا للإيمان الذي وجب عليه، كما أنه مستحق للثواب على إيمانه ذلك.
وأما بعد نزول ما نزل من القرآن وإيجاب ما أوجبه الله ورسوله من الواجبات وتمكن من فعل ذلك، فإنه لا يكون مستحقا للثواب بمجرد ما كان يستحق به الثواب قبل ذلك ---------[موسوعة الفرق]

أبو البراء محمد علاوة
2018-10-20, 01:16 PM
ما أطيب هذا الموضوع، جزاك الله خيرًا

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 01:55 PM
نقد الحجة الرابعة
أن الأعمال تدخل في الإيمان مجازاً لا حقيقة
قال شيخ الإسلام: "والمرجئة - المتكلمون منهم، والفقهاء - يقولون: إن الأعمال قد تسمى إيمانا مجازا؛ لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتضاه؛ ولأنها دليل عليه.
ويقولون: قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وستون شعبة، أو بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (33) مجاز"
وإذا قالوا إن الأعمال من الإيمان من باب المجاز أمكنهم نفيها عنه؛ لأن علامة المجاز صحة نفية (
وقال شيخ الإسلام: "فإن قيل: ما ذكر من تنوع دلالة اللفظ بالإطلاق والتقييد في كلام الله ورسوله وكلام كل أحد بين ظاهر لا يمكن دفعه، لكن نقول: دلالة لفظ الإيمان على الأعمال مجاز.
فقوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وستون شعبة، أو بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (36) , مجاز.
وقوله: ((الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، ورسله)) (37) . إلى آخره: حقيقة.
وهذا عمدة المرجئة، والجهمية، والكرامية، وكل من لم يدخل الأعمال في اسم الإيمان"
هذه هي حجتهم الرابعة، وفي نقضها يقول شيخ الإسلام: "ونحن نجيب بجوابين:
أحدهما: كلام عام في لفظ الحقيقة والمجاز.
والثاني: ما يختص بهذا الموضع"
ثم شرع رحمه الله في تحرير هذين الجوابين:
فأما الجواب الأول: ففي إبطال تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز في اللغة، بله النصوص الشرعية، وأن الحق أن الكلام يختلف معناه بحسب دلالة الإطلاق والتقييد.
وفي إبطال هذا التقسيم منع لإبطال معاني النصوص بدعوى المجاز، كما صنع المبتدعة في نصوص الصفات، وفي مسمى الإيمان.
وأما الجواب الثاني: وهو لو صح وجود المجاز، فما الحقيقة والمجاز في لفظ الإيمان؟
هل الحقيقة هي دخول العمل فيه، والمجاز خروجها منه، أو العكس () ؟
وقد حرر شيخ الإسلام هذا الجواب في ثلاثة وجوه:
أولا: قال شيخ الإسلام مخاطبا المرجئة: "إن صح - يعني وجود الحقيقة والمجاز - فهذا لا ينفعكم، بل هو عليكم لا لكم.
لأن الحقيقة هي اللفظ الذي يدل بإطلاقه بلا قرينة، والمجاز إنما يدل بقرينة.
وقد تبين أن لف
الإيمان حيث أطلق في الكتاب والسنة دخلت فيه الأعمال، وإنما يدعى خروجها منه عند التقييد.
وهذا يدل على أن الحقيقة قوله: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة)) ( .
وأما حديث جبريل فإن كان أراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام، فهو كذلك، وهذا هو المعنى الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم قطعا، كما أنه لما ذكر الإحسان أراد الإحسان مع الإيمان والإسلام ولم يرد أن الإحسان مجرد عن إيمان وإسلام.
ولو قدر أنه أريد بلفظ الإيمان مجرد التصديق، فلم يقع ذلك إلا مع قرينة، فيلزم أن يكون مجازا، وهذا معلوم بالضرورة لا يمكننا المنازعة فيه بعد تدبر القرآن والحديث") .
ثانيا: يقال بأن القول بأن الأعمال تدخل في الإيمان من باب المجاز، كالقول - بأن الأسماء الشرعية، كالصلاة والحج، على معناها اللغوي، وأن ما زاده الشارع إنما هو زيادة في الحكم وشرط فيه لا داخل في الاسم، كمال قال ذلك القاضي الباقلاني، والقاضي أبو يعلى (43) ، على أن الشرع زاد أحكاما شرعية جعلها شروطا في القصد والأعمال والدعاء، ليست داخلة في مسمى الحج والصيام والصلاة.
وهذا القول مرجوح عند الفقهاء، وجماهير المنسوبين إلى العلم، ولهذا كان الجمهور من أصحاب الأئمة الأربعة على خلاف هذا القول.
فإذا قال قائل: إن اسم الإيمان إنما يتناول مجرد ما هو تصديق، وأما كونه تصديقا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكون ذلك مستلزما لحب الله ورسوله ونحو ذلك هو شرط في الحكم لا داخل في الاسم إن لم يكن أضعف من ذلك القول، فليس دونه في الضعف.
وكذلك من قال إن الأعمال الظاهرة لوازم للباطن، لا تدخل في الاسم عند الإطلاق يشبه قوله قول هؤلاء (44) .
ثم "لو سلمنا للخصم كون هذه الألفاظ من الصلاة والحج ونحوها منقولة، أو محمولة على وجه من المجاز بدليل مقطوع به، فعليه إقامة الدليل على وجود ذلك في الإيمان" (45) .
ثالثا: يقال "لمن قال دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز: نزاعك لفظي.
فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته، كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم، فيلزم من عدم الظاهر عدم الباطن.
فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا.
وإن قلت ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه، من أنه قد يستقر الإيمان التام الواجب مع إظهار ما هو كفر، وترك جميع الواجبات الظاهرة.
قيل لك: فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له، وموجب له----------[موسوعة الفرق]

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 03:49 PM
نقد الحجة الخامسة
وهذه الحجة من أهم حجج المرجئة، فهي الأصل الذي نشأ منه النزاع، وتفرعت عنه البدع في الإيمان، وحاصل هذا الأصل:
أنهم جعلوا الإيمان شيئا واحدا، لا يتبعض، وقالوا: لو كان الإيمان مركبا من أقوال وأعمال، باطنة وظاهرة، للزم منه أمرين كلاهما ممنوع.
أحدهما: زوال الإيمان بزوال بعضه.
فلو صارت الأعمال جزءا من الإيمان، فإذا ذهبت ذهب بعضه، فيلزم إخراج مرتكب الكبيرة من الإيمان، وتكفير أهل الذنوب، أو تخليدهم في النار، كما هو قول الخوارج والمعتزلة.
والثاني: أن يكون الرجل مؤمنا بما فيه من إيمان، كافرا بما فيه من فكر، فيقوم به كفر وإيمان.
وهذا مخالف لما انعقد عليه الإجماع عندهم من أنه لا يجتمع في العبد إيمان وكفر.
هذا ملخص هذه الحجة، وقد أكثر شيخ الإسلام من ذكرها، واعتنى بنقضها، وهذا سياق بعد ما جاء عنه في ذلك:
يقول رحمه الله بعد عرض مطول لاختلاف الفرق في حقيقة الإيمان:
"وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان، من الخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية، وغيرهم:
أنهم جعلوا الإيمان شيئا واحدا، إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه".
ثم شرح موقف الخوارج والمعتزلة من هذا الأصل، ثم ثنى بشرح موقف المرجئة، فقال:
"وقالت المرجئة، والجهمية: ليس الإيمان إلا شيئا واحدا، لا يتبعض.
إما مجرد تصديق القلب، كقول الجهمية.
أو تصديق القلب واللسان، كقول المرجئة.
قالوا: لأنا إذا أدخلنا فيه الأعمال صارت جزءا منه، فإذا ذهبت ذهب بعضه، فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان، وهو قول الخوارج والمعتزلة، لكن قد يكون له لوازم ودلائل، فيستدل بعدمها على عدمه".
ثم قال: "وجماع شبهتهم في ذلك: أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها، كالعشرة، فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة، وكذلك الأجسام المركبة، كالسكنجبين إذا زال أحد جزأيه خرج عن كونه سكنجبينا.
قالوا: فإذا كان الإيمان مركبا من أقوال وأعمال، ظاهرة وباطنة، لزم زواله بزوال بعضها، وهذا قول الخوارج والمعتزلة.
قالوا: ولأنه يلزم أن يكون الرجل مؤمنا بما فيه من الإيمان، كافرا بما فيه من الكفر، فيقوم به كفر وإيمان، وادعوا أن هذا خلاف الإجماع"
وقال شيخ الإسلام : "فكان من أول البدع والتفرق الذي وقع في هذه الأمة بدعة الخوارج المكفرة بالذنب، فإنهم تكلموا في الفاسق الملي:
فزعمت الخوارج، والمعتزلة: أن الذنوب الكبيرة - ومنهم من قال: والصغيرة - لا تجامع الإيمان أبدا، بل تنافيه وتفسده، كما يفسد الأكل والشرب الصيام.
قالوا: لأن الإيمان هو فعل المأمور وترك المحظور، فمتى بطل بعضه بطل كله، كسائر المركبات"، ثم قال:
"وقابلتهم المرجئة، والجهمية، ومن اتبعهم من الأشعرية، والكرامية، فقالوا: ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة، ولا ترك المحظورات البدنية.
والإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، بل هو شيء واحد، يستوي فيه جميع المؤمنين من الملائكة، والنبيين، والمقربين، والمقتصدين، والظالمين.
ثم قال فقهاء المرجئة: هو التصديق بالقلب، واللسان.
وقال أكثر متكلميهم: هو التصديق بالقلب.
وقال بعضهم: التصديق باللسان.
قالوا: لأنه لو دخلت فيه الواجبات العملية؛ لخرج منه من لم يأت بها، كما قالت الخوارج.
ونكته هؤلاء جميعهم: توهمهم أن من ترك بعض الإيمان، فقد تركه كله"
وقال شيخ الإسلام: "فإن قيل: إذا كان الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر الله به ورسوله، مفتى ذهب بعض ذلك بطل الإيمان، فيلزم تكفير أهل الذنوب، كما تقوله الخوارج، أو تخليدهم في النار، وسلبهم الإيمان بالكلية، كما تقوله المعتزلة، وكلا هذين القولين - شر من قول المرجئة.
فإن المرجئة منهم جماعة من العلماء والعباد المذكورين عند الأمة بخير، وأما الخوارج والمعتزلة، فأهل السنة والجماعة من جميع الطوائف مطبقون على ذمهم"، ثم قال:
"وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع.
وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله، لم يبق منه شيء.
ثم قالت الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهو الإيمان المطلق، كما قال أهل الحديث.
قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء، فيخلد في النار.
وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم:
لا تذهب الكبائر، وترك الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر" (49) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقد بسط القول على منشأ الغلط؛ حيث ظنوا أن الإيمان لا يكون إلا شيئا متماثلا عند جميع الناس، إذا ذهب بعضه ذهب سائره"، ثم ذكر قول الخوارج والمعتزلة، ثم قال:
"وقالت الجهمية، والمرجئة: بل الأعمال ليست من الإيمان، لكنه شيئان، أو ثلاثة، يتفق فيها جميع الناس: التصديق بالقلب، والقول باللسان، أو المحبة والخضوع مع ذلك.
وقالت الجهمية، والأشعرية، والكرامية: بل ليس إلا شيئا واحدا يتماثل فيه الناس.
وهؤلاء الطوائف أصل غلطهم: ظنهم أن الإيمان يتماثل فيه الناس، وأنه إذا ذهب بعضه ذهب كله" (.
وحول الإجماع المزعوم على أنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق - يقول شيخ الإسلام:
"ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم في هذا - يعني ظنهم أن الشيء إذا زال بعضه زال كله -: اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر، أو ما هو إيمان وما هو كفر، واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين" (.
ويقول: "وطوائف أهل الأهواء، من الخوارج، والمعتزلة، والجهمية، والمرجئة، كراميهم، وغير كراميهم، يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق" (52) .
ويقول أيضا: "والأصل الذي منه نشأ النزاع اعتقاد من اعتقد أن من كان مؤمنا لم يكن معه شيء من الكفر والنفاق، وظن بعضهم أن هذا إجماع، كما ذكر الأشعري أن هذا إجماع، فهذا كان أصل الإرجاء" (
وبعد، فقد تعمدت إيراد هذه النقول رغم طولها، وتشابه بعضها؛ لكي تنجلي المسألة غاية الجلاء، وبها ينكشف أصل الضلال في مقالة الإرجاء، وأنه قام على ما يلي:
أولاً: زعمهم أن الإيمان شيء واحد، يتساوى فيه المؤمنون، برهم وفاجرهم.
ثم اختلفوا في حقيقة هذا الشيء، فمنهم من جعله مجرد تصديق القلب، ومنهم من جعله تصديق القلب وقول اللسان، ومنهم من جعله مجرد قول اللسان.
ثانياً: توهمهم أنه إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه.
فنفوا كونه متبعضا، أو متفاضلا، وأخرجوا الأعمال الظاهرة والباطنة منه؛ لئلا يوافقوا الخوارج والمعتزلة في إخراج مرتكب الكبيرة من الإيمان.
ثالثا: زعمهم أن العبد لا يجتمع فيه بعض الإيمان وبعض الكفر.
وأمام هذا الفهم الفاسد للإيمان صار كلام السلف معهم يدور في إبطال ذلك، منطلقا من ثلاث مقامات:
المقام الأول: إبطال كون الإيمان شيئا واحدا، بل هو شعب وأجزاء.
المقام الثاني: إبطال أن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله.
المقام الثالث: تقرير أن العبد يجتمع فيه إيمان ونفاق، وطاعة ومعصية.-وسنقوم بتفصيل هذا الاجمال فى الفقرة القادمة ان شاء الله-----[موسوعة الفرق]......

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 04:04 PM
المقام الأول: إبطال كون الإيمان شيئا واحدا، بل هو شعب وأجزاء.
فإن أهل السنة مجمعون على ما دلت عليه النصوص من أن الإيمان شعب وأجزاء، وأنه يتكون من أقوال وأعمال، باطنة وظاهرة، وهذا الذي أجمعوا عليه هو الذي تقتضيه الصلة بين أجزاء الإيمان الباطنة والظاهرة.
فهذان جوابان في تقرير هذا المقام:
الجواب الأول: في تحرير مذهب أهل السنة والإيمان.
فمما أجمع عليه السلف أن الإيمان قول وعمل، ظاهر وباطن، وهذا بحمد الله تقدم بسط الكلام عليه.
الجواب الثاني: في بيان الصلة بين أجزاء الإيمان الباطنة والظاهرة.
وفقه العلاقة بين الباطن والظاهر، والقول والعمل، مانع للغلط في مسائل الإيمان، وناقض مهم لمقالة المرجئة على اختلاف فقهم في حقيقة الإيمان.
فإن "من عرف الملازمات التي بين الأمور الباطنة والظاهرة زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثير اختلاف الناس فيها" (54) .
والمرجئة إنما أتوا من جهة ظنهم انتفاء التلازم بين الباطن والظاهر، فوقعوا في الغلط (55) .
وهذا أصل اعتنى شيخ الإسلام بشرحه، وأطال النفس في تقريره، إذ بين أن "الإيمان قول وعمل، أي: قول القلب، واللسان، وعمل القلب، والجوارح" (56) .
فالإيمان "قول وعمل: قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر" (57) .
وقول السلف: الإيمان قول وعمل، يريدون به قول القلب وعمل القلب، وهذا هو الباطن، وقول اللسان وعمل الجوارح، وهذا هو الظاهر (5
والأصل هو القلب، والبدن تابع، أي أن الأصل هو الباطن، والظاهر تابع (.
و "لابد في أصل الإيمان من قول وعمل القلب" (60) ، إذ "أصل الإيمان قول القلب وعمله" (61) .
والقلوب مفطورة على قول القلب، وعمله.
ولا يتخلف عمل القلب إلا في حالة وجود معارض في القلب يحول بينه وبين ما فطر عليه.
وما دام أن القلب سليم، والمعارض مفقود، فإن قول القلب وعمله موجود.
ثم إذا وجد قول القلب وعمله لزم ضرورة حصول الظاهر من قول اللسان وعمل الجوارح، ولا يمكن أبداً أن يوجد في القلب تصديق وحب وخشية، ولا يحصل له أثر في الظاهر، من قول اللسان وعمل الجوارح.

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 04:17 PM
وقد أكثر شيخ الإسلام جداً من تقرير هذه الحقيقة، ويتطلب الأمر نقل كثير مما جاء عنه في ذلك، ومنه قوله رحمه الله رحمة واسعة:
"والله سبحانه فطر عباده على شيئين: إقرار قلوبهم به علما، وعلى محبته والخضوع له عملا وعبادة واستعانة، فهم مفطورون على العلم به والعمل له، وهو الإسلام الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة)) (."
ويقول: "وأصل الإيمان قول القلب، وعمله، أي علمه بالخالق، وعبوديته للخالق، والقلب مفطور على هذا، وهذا.
وإذا كان بعض الناس قد خرج عن الفطرة؛ بما عرض له من المرض، إما بجهله، وإما بظلمه، فجحد بآيات الله، واستيقنتها نفسه ظلما وعلوا، لم يمنع أن يكون الخلق ولدوا على الفطرة" (63) .
ويقول: "من المعلوم أن معرفة الشيء المحبوب تقتضي حبه، ومعرفة المعظم تقتضي تعظيمه، ومعرفة المخوف تقتضي خوفه.
فنفس العلم والتصديق بالله وما له من الأسماء الحسنى، والصفات العلى يوجب محبة القلب له وتعظيمه وخشيته، وذلك يوجب إرادة طاعته وكراهية معصيته.
والإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المراد، ووجود المقدور عليه منه، فالعبد إذا كان مريدا للصلاة إرادة جازمة مع قدرته عليها صلى، فإذا لم يصل مع القدرة دل ذلك على ضعف الإرادة" (64) ، ثم قال:
"وأما الإرادة الجازمة فلابد أن يقترن بها مع القدرة فعل المقدور، ولو بنظرة، أو حركة رأس، أو لفظة، أو خطوة، أو تحريك بدن (65) .
وبهذا يظهر معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار)) (66) ، فإن المقتول أراد قتل صاحبه، فعمل ما يقدر عليه من القتال، وعجز عن حصول المراد، وكذلك الذي قال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان، فإنه أراد فعمل ما يقدر عليه، وهو الكلام، ولم يقدر على غير ذلك، ولهذا كان من دعا إلى ضلالة كان عليه مثل أوزار من اتبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا؛ لأنه أراد ضلالهم، ففعل ما يقدر عليه من دعاتهم، إذ لا يقدر إلا على ذلك.
وإذا تبين هذا في الإرادة والعمل، فالتصديق الذي في القلب وعلمه يقتضي عمل القلب، كما يقتضى الحس: الحركة الإرادية.
لأن النفس فيها قوتان:
قوة الشعور بالملائم والمنافي، والإحساس بذلك، والعمل، والتصديق به.
وقوة الحب للملائم، والبغض المنافي، والحركة عن الحس بالخوف والرجاء والموالاة والمعاداة.
وإدراك الملائم يوجب اللذة والفرح والسرور، وإدراك المنافي يوجب الألم والغم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء)) (67) .
فالقلوب مفطورة على الإقرار بالله تصديقا به، ودينا له، لكن يعرض لها ما يفسدها.
ومعرفة الحق تقتضي محبته، ومعرفة الباطل تقتضي بغضه؛ لما في الفطرة من حب الحق وبغض الباطل، لكن قد يعرض لها ما يفسدها، إما من الشبهات التي تصدها عن التصديق بالحق، وإما من الشهوات التي تصدها عن أتباعه".
ثم قال: "فالإيمان الذي في القلب لا يكون إيمانا بمجرد تصديق ليس معه عمل القلب ومجبه؛ من محبة الله ورسوله ونحو ذلك، كما أنه لا يكون إيمانا بمجرد ظن وهوى، بل لابد - في أصل الإيمان من قول القلب، وعمل القلب".

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 04:27 PM
ثم قال: "وليس مجرد التصديق والعلم يستلزم الحب، إلا إذا كان القلب سليما من المعارض، كالحسد، والكبر؛ لأن النفس مفطورة على حب الحق، وهو الذي يلائمها، ولا شيء أحب إلى القلوب السليمة من الله، وهذا هو الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام الذي اتخذه الله خليلا، وقد قال تعالى: يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
فليس مجرد العلم موجبا لحب المعلوم إن لم يكن في النفس قوة أخرى تلائم المعلوم، وهذه القوة موجودة في النفس.
وكل من القوتين تقوى بالأخرى، فالعلم يقوى العمل، والعمل يقوى العلم.
فمن عرف الله، وقلبه سليم: أحبه، وكلما ازداد له معرفة ازداد حبه له، وكلما زاداد حبه له ازداد ذكره له، ومعرفته بأسمائه وصفاته.
فإن قوة الحب توجب كثرة ذكر المحبوب، كما أن البغض يوجب الإعراض عن ذكر المبغض.
فمن عادي الله ورسوله، وحاد الله ورسوله كان ذلك مقتضيا لإعراضه عن ذكر الله ورسوله بالخير، وعن ذكر ما يوجب المحبة، فيضعف علمه به حتى قد ينساه، كما قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [الحشر: 19]، وقال تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28].
وقد يحصل مع ذلك تصديق وعلم مع بغض ومعاداة، لكن تصديق ضعيف، وعلم ضعيف، ولكن لولا البغض والمعاداة لأوجب ذلك من محبة الله ورسوله ما يصير به مؤمنا، فمن شرط الإيمان وجود العلم التام".
ثم قال: "فالإيمان لابد فيه من هذين الأصلين:
التصديق بالحق، والمحبة له، فهذا أصل القول، وهذا أصل العمل.
ثم الحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر، والعمل الظاهرة ضرورة، كما تقدم.
فمن جعل مجرد العلم والتصديق موجبا لجميع ما يدخل في مسمى الإيمان، وكل ما يسمى إيمانا، فقط غلط.
بل لابد من العلم والحب، والعمل شرط في محبة المحبوب، كما أن الحياة شرط في العلم، لكن لا يلزم من العلم بالشيء والتصديق بثبوته محبته إن لم يكن بين العالم والمعلوم معنى في الحب أحب لأجله، ومعنى في المحبوب كان محبوبا لأجله.
ولهذا كان الإنسان يصدق بثبوت أشياء كثيرة ويعلمها وهو يبغضها، كما يصدق بوجود الشياطين والكفار ويبغضهم.
فنفس التصديق بوجود الشيء لا يقتضي محبته، لكن الله سبحانه يستحق لذاته أن يحب ويعبد، وأن يحب لأجله رسوله، والقلوب فيها معنى يقتضي حبه وطاعته، كما فيها معنى يقتضي العلم والتصديق به.
فمن صدق به وبرسوله ولم يكن محبا له ولرسوله، لم يكن مؤمنا حتى يكون فيه مع ذلك الحب له ولرسوله.
وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له - لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب، ولازمه، ودليله، ومعلوله.
كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضا تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر.
لكن القلب هو الأصل، والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه.
كما في الشجرة التي يضرب المثل لكلمة الإيمان بها، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم: 24-25]، وهي كلمة التوحيد.
فالشجرة كلما قوي أصلها وعروقها وروي، قويت فروعها، وفروعها أيضا إذا اغتذت بالمطر والريح أثر ذلك في أصلها.
وكذا الإيمان في القلب، والإسلام علانية، ولما كانت الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة لازمة ومستلزمة للأقوال والأعمال الباطنة كان يستدل بها عليها".

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 04:34 PM
ويقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وقال ابن مسعود أيضا: (إن للملك لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك: إيعاد بالخير، وتصديق بالحق، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر، وتكذيب بالحق).
وهذا الكلام الذي قاله ابن مسعود هو محفوظ عنه، وربما رفعه بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كلام جامع لأصول ما يكون من العبد من علم وعمل، من شعور وإرادة.
وذلك أن العبد له قوة الشعور والإحساس والإدراك، وقوة الإرادة والحركة، وإحداها أصل الثانية مستلزمة لها، والثانية مستلزمة للأولى ومكملة لها، فهو بالأولى يصدق بالحق ويكذب بالباطل، وبالثانية يحب النافع الملائم له، ويبغض الضار المنافي له.
والله سبحانه خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به، ومعرفة الباطل والتكذيب به، ومعرفة النافع الملائم والمحبة له، ومعرفة الضار المنافي والبغض له بالفطرة.
فما كان حقا موجودا صدقت به الفطرة، وما كان حقا نافعا عرفته الفطرة، فأحبته واطمأنت إليه، وذلك هو المعروف، وما كان باطلا معدوما كذبت به الفطرة، فأبغضته الفطرة، فأنكرته،

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 04:37 PM
والإنسان كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال:((أصدق الأسماء حارث، وهمام)) (68) ، فهو دائما يهم ويعمل، لكنه لا يعمل إلا ما يرجو نفعه أو دفع مضرته.
ولكن قد يكون ذلك الرجاء مبنيا على اعتقاد باطل، إما في نفس المقصود، فلا يكون نافعا ولا ضارا، وإما في الوسيلة، فلا يكون طريقا إليه، وهذا جهل.
وقد يعلم أن هذا الشيء يضره ويفعله، ويعمل أنه ينفعه ويتركه؛ لأن ذلك العلم عارضه ما في نفسه من طلب لذة أخرى، أو دفع ألم آخر، جاهلا ظالما، حيث قدم هذا على ذاك"،--------- ثم قال شيخ الإسلام:
"فكل بني آدم له اعتقاد، فيه تصديق بشيء وتكذيب بشيء، وله قصد وإرادة لما يرجوه مما هو عنده محبوب ممكن الوصول إليه، أو لوجود المحبوب عنده، أو لدفع المكروه عنه.
والله خلق العبد يقصد الخير - فيرجوه بعمله، فإذا كذب بالحق فلم يصدق به، ولم يرج الخير فيقصده ويعمل به كان خاسرا بترك تصديق الحق وطلب الخير"، ثم قال:
"فمبدأ العلم الحق والإرادة من لمة الملك، ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة من لمة الشيطان"[موسوعة الفرق]

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 04:56 PM
ويقول شيخ الإسلام: "والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره.
ومتى حصل هذا الإيمان وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج.
لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله، والانقياد له، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطنا، ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد.
وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام.
وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة، فإن هذا ممتنع، إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة.
فإنه من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبا جازما وهو قادر على مواصلته، ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك" (70) .
ويقول: "فالتصديق الجازم في القلب يتبعه موجبه بحسب الإمكان، كالإرادة الجازمة في القلب، فكما أن الإرادة الجازمة في القلب إذا اقترنت بها القدرة حصل بها المراد أو المقدور من المراد لا محالة، ومتى كانت القدرة حاصلة ولم يقع الفعل كان الحاصل هما لا إرادة جازمة، وهذا هو الذي عفي عنه.
فكذلك التصديق الجازم إذا حصل في القلب، تبعه عمل من القلب لا محالة، لا يتصور أن ينفك عنه، بل يتبعه الممكن من عمل الجوارح.
فمتى لم يتبعه شيء من عمل القلب، علم أنه ليس بتصديق جازم، فلا يكون إيمانا.
لكن التصديق الجازم قد لا يتبعه عمل القلب بتمامه؛ لعارض من الأهواء، كالكبر، والحسد، ونحو ذلك من أهواء النفس، لكن الأصل - أن التصديق يتبعه الحب، وإذا تخلف الحب كان لضعف التصديق الموجب له" (71) .
ويقول رحمه الله تعالى: "الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولابد فيه من شيئين: تصديق بالقلب، وإقراره، ومعرفته، ويقال لهذا قول القلب.
قال الجنيد بن محمد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب (72) .
فلابد فيه من قول القلب وعمله، ثم قول البدن وعمله.
ولابد فيه من عمل القلب، مثل: حب الله ورسوله، وخشية الله، وحب ما يحبه الله ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده، وتوكل القلب على الله وحده، وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله وجعلها من الإيمان.
ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب)) (73) .
وقال أبو هريرة: القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده.
وقول أبي هريرة تقريب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم أحسن بيان، فإن الملك وإن كان صالحا، فإن الجنود لهم اختيار قد يعصون به ملكهم، وبالعكس، فيكون فيهم صلاح مع فساده أو فساد مع صلاحه، بخلاف القلب، فإن الجسد تابع له، لا يخرج عنه إرادته قط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد)) (74) .
فإذا كان القلب صالحا بما فيه من الإيمان علما وعملا قلبيا لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أهل الحديث: قول وعمل: قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر.
والظاهر تابع للباطن، لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد" (75) .
وفي موضع آخر لما ذكر حديث أبي هريرة المتقدم علق عليه بقوله:
"فبين - يعني الرسول صلى الله عليه وسلم - أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد، فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح، فدل على أن من يتكلم بالإيمان، ولا يعمل به، لا يكون قلبه مؤمنا.
حتى إن المكره إذا كان في إظهار الإيمان فلابد أن يتكلم مع نفسه، وفي السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه، كما قال عثمان.
وأما إذا لم يظهر أثر ذلك لا بقوله، ولا بفله قط، فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان.
وذلك أن الجسد تابع للقلب، فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن، ولو بوجه من الوجوه.
وإن لم يظهر كل موجبه لمعارض، فالمتقضي لظهور موجبه قائم، والمعارض لا يكون لازما للإنسان لزوم القلب له، وإنما يكون في بعض الأحوال متعذرا إذا كتم ما في قلبه، كمؤمن آل فرعون، مع أنه قد دعا إلى الإيمان دعاء ظهر به من إيمان قلبه ما لا يظهر من إيمان من أعلن إيمانه بين موافقيه، وهذا في معرفة القلب وتصديقه.
ومنها قصد القلب وعزمه، إذا قصد الفعل وعزم عليه مع قدرته على ما قصده: هل يمكن أن لا يوجد شيء مما قصده وعزم عليه؟
فيه قولان: أصحهما: أنه إذا حصل القصد الجازم مع القدرة وجب وجود المقدور، وحيث لم يفعل العبد مقدوره دل على أنه ليس هناك قصد جازم، وقد يحصل قصد جازم مع العجز عن المقدور، لكن يحصل معه مقدمات المقدور.
وقيل: بل قد يمكن حصول العزم التام بدون أمر ظاهر، وهذا نظير قول من قال ذلك في المعرفة والتصديق، وهما من أقوال أتباع جهم الذين نصروا قوله في الإيمان، كالقاضي أبي بكر وأمثاله، فإنهم نصروا قوله، وخالفوا السلف، والأئمة، وعامة طوائف المسلمين" (76) .
ويقول شيخ الإسلام: "أصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد.
وما كان في القلب فلابد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه، أو ضعفه.
ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي تصديق لما في القلب، ودليل عليه، وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له، لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح" (77) .
ويقول: "والإيمان الذي كتب في القلب ليس هو مجرد العلم والتصديق، قبل هو تصديق القلب وعمل القلب"، ثم قال:
"فالسلف يقولون ترك الواجبات الظاهرة دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب، لكن قد يكون بزوال عمل القلب الذي هو حب الله ورسوله، وخشية الله، ونحو ذلك، لا يستلزم أن لا يكون في القلب من التصديق شيء.
وعند هؤلاء - يعني الجهمية وموافقتهم - كل من نفى الشرع إيمانه دل على أنه ليس في قلبه شيء من التصديق أصلا، وهذا سفسطه عند جماهير العقلاء ----[موسوعة الفرق]

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 05:46 PM
والحاصل من هذا التقرير المطول:
أن قول القلب إما أن يكون ضعيفا بحيث لا يستلزم عمل القلب، وحينئذ لا يكون هذا التصديق إيمانا، وإما أن يكون جازما، وحينئذ يستلزم عمل القلب لا محالة.
والإنسان مفطور على قول القلب المقتضي لعمله، مادامت الفطرة صحيحة، والقلب سليمان من المعارض المانع من عمله واستسلامه وانقياده، من الشبهات أو الشهوات، كالكبر، أو الحسد، أو الغفلة، أو طلب علو ورياسة أو كراه الإلف والعادة، ونحو ذلك من الأمراض التي مانعة من استسلام القلب، وانقياده، ومحبته.
فإذا وجد قول القلب وعمله لزم ضرورة أن يكون له أثر في الظاهر من القول والعمل.
وقد قرر شيخ الإسلام أن "المؤثر التام يستلزم أثره، فمتى لم يحصل أثره لم يكن تاما، والفعل إذا صادف محلا قابلا تم، وإلا لم يتم" (79) .
وهذا معناه - أن التام هو الذي يكون له أثر، وبتطبيق هذا على الإيمان يكون الإيمان التام هو الذي له أثر، فإذا لم يحصل له أثر فليس بتام.
والذي تحرر مما تقدم - أن الإيمان الذي يستلزم أثرا هو ما اجتمع فيه قول القلب وعمله، وسلم من المعارض، فإنه حينئذ يستلزم أثرا في الظاهر من القول والعمل.
وعلى هذا فإن الإيمان الباطن يكون تاما إذا كان فيه أصل الإيمان - وهو قول القلب وعمله -، السالم من موانع الانقياد.
وشيخ الإسلام يصف هذا الإيمان - الذي يقتضي أثرا في الظاهر بالإيمان الجازم، وبالإيمان القلبي التام، وبالإيمان التام في القلب، وبالإيمان المقبول، وبإيمان القلب التام، وبالإيمان الواجب في القلب، وبإيمان القلب الواجب، وبالإيمان الباطن، وبالإيمان الواجب، وبالإيمان الصحيح، وبالإيمان الثابت في القلب، وبالإيمان الحقيقي.
فكل هذه الأوصاف أطلقها شيخ الإسلام على الإيمان المقتضي قولا وعملا في الظاهر، وهذا لا يكون إلا من الإيمان الذي حصل فيه قول القلب وعمله، وسلم من الشبهات والشهوات، وبحسب سلامته في الباطن يكون استسلامه في الظاهر.
يقول رحمه الله: "وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام".
ثم قال: "إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة" (80) .
ثم ذكر أن من الغلط ظن الظان أن الإيمان المقبول يمكن تخلف القول الظاهر، والعمل الظاهر عنه (81) .
ويقول: "فمن أراد الطاعة، وعلم أنها تنفعه أطاع قطعا، إذا لم يكن عاجزا، فإن نفس الإرادة الجازمة للطاعة مع القدرة توجب الطاعة، فإنها مع وجود القدرة والداعي التام توجب وجود المقدور.
فإذا كانت الطاعة بالتكلم بالشهادتين، فمن أراد ذلك إرادة جازمة فعله قطعا؛ لوجود القدرة والداعي التام، ومن لم يفعله علم أنه لم يرده" (82) .
ويقول: "جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع" (83) .
وذكر أن من أكبر غلط المرجئة "ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون شيء من الأعمال؛ ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه، بمنزلة السبب مع المسبب، ولا يجعلونها لازمة له.
والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر" (84) .
وذكر أيضاً أن الإيمان الذي في القلب من التصديق والحب وغير ذلك يستلزم الأمور الظاهرة من الأقوال الظاهرة والأفعال الظاهرة، كما أن القصد التام مع القدرة يستلزم وجود المراد، وأنه يمتنع مقام الإيمان الواجب في القلب من غير ظهور موجب ذلك ومقتضاه (85) .
ويقول: "أصل الإيمان هو ما في القلب، والأعمال الظاهرة لازمة لذلك، لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب، فصار الإيمان متناولا للملزوم واللازم، وإن كان أصله ما في القلب" (86) .
ويقول: "فالسلف يقولون ترك الواجبات الظاهرة دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب" (87) .
وذكر رحمه الله أن مذهب السلف وأهل السنة أنه متى وجد الإيمان الباطن وجدت الطاعات (88) .
ويقول: "يمتنع أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجبا ظاهرا، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياما، ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها، مثل أن يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث أو يعدل في قسمة وحكمه من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر، فإن المشركين وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات - سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما له، أو جزءا منه، فهذا نزاع لفظي - كان مخطئا خطأ بينا، وهذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات ما هو معروف، والصلاة أعظمها وأعمها وأولها وأجلها" (89) .
ويقول: "ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمان ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح" (90) .
و "من كان معه إيمان حقيقي، فلابد أن يكون معه من هذه الأعمال بقدر إيمانه، وإن كان له ذنوب"-----[موسوعة الفرق] (9

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 06:27 PM
وبعد هذا التحقيق في علاقة الباطن بالظاهر يتبين:
أن "الظاهر تابع للباطن، لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد" (92) .
وأن أعمال القلب لابد أن تؤثر في عمل الجسد (93) ، ولا تتم إلا بها (94) .
"وأن ما يقوم بالقلب من تصديق وحب الله ورسوله وتعظيم لابد أن يظهر على الجوارح، وكذلك بالعكس، وهذا يستدل بانتفاء اللازم الظاهر على انتفاء الملزوم الباطن" (95) .
وأن "ما يستقر في القلب من إيمان ونفاق لابد أن يظهر موجبه في القول والعمل، كما قال بعض السلف: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على وجهه، وفلتات لسانه (96) " (97) .
وأن "العمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه، فإذا حصل إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة" (98) .
و "أن الإيمان يستلزم العمل الظاهر بحسبه، كقوله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين َ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 47-51]، فنفي الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا، فبين أن هذا من لوازم الإيمان" (99) .
وأن "الإيمان ليس مجرد التصديق، بل لابد من أعمال قلبية تستلزم أعمالا ظاهرة" (100) .
وأن "من قال إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه، ولم يتكلم قط بالإسلام، ولا فعل شيئا من واجباته بلا خوف، فهذا لا يكون مؤمنا في الباطن، وإنما هو كافر" (101) .
وأن "المؤمن إنما فارق الكفر - بالإيمان بالله وبرسله، وبتصديقهم فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا، وأتباع ما يرضاه الله ويحبه، دون ما يقضيه ويقدره من الكفر والفسوق والعصيان" (102) .
فالعبد إذا خلا عن العمل بالكلية -لم يكن مؤمنا، فإن حقيقة الدين هو الطاعة والانقياد، وذلك إنما يتم بالفعل، لا بالقول فقط، فمن لم يفعل لله شيئا، فما دان لله دينا، ومن لا دين له فهو كافر (103) [مهم جدا].
والمسلم "إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره، والانقياد لأمره.
وإذا قال: وأشهد أن محمدا رسول الله، تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله.
فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار، فلما كان التصديق لابد منه في كلا الشهادتين، وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول، ظن من ظن أنه أصل لجميع الإيمان، وغفل عن أن الأصل الآخر لابد منه، وهو الانقياد.
وإلا فقد يصدق الرسول ظاهرا وباطنا، ثم يمتنع عن الإقرار للأمر، إذ غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه وتعالى، كإبليس" (104) .
ومن ترك الانقياد كان مستكبرا، وصار من الكافرين، وإن كان مصدقا، فالكفر أعم من التكذيب، ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار دون التكذيب (105) .
والحاصل أن "السعادة مشروطة بشرطين: بالإيمان والعمل الصالح، بعلم نافع وعمل صالح، بكلم طيب وعمل صالح، وكلاهما مشروط بأن يكون على موافقة الرسل" (106) .
وأنه لابد من التزكي بفعل المأمور وترك المحظور، فهذان لابد منهما، ومقصود الرسالة هو فعل الواجبات والمستحبات جميعا (107) .
وإذ تبين ما تقدم، وأن الظاهر لابد من وجوده لصحة الباطن، وأن النجاة لا تحصل إلا بذلك، --- فمما يختم به هذا المقام ما نبه عليه شيخ الإسلام --من أن الظاهر يكون لازما للباطن من وجه، وملزوما له من وجه، وهو دليل عليه من جهة كونه ملزوما لا من جهة كونه لازما (108) .
والمراد أن الظاهر - إنما يكون لازما وملزوما ودليلا على الباطن في حال صحة الباطن، وهو لا يكون كذلك إلا إذا وجد فيه قول القلب وعمله، وسلم من الموانع، كما تقدم.
وأما مجرد وجود الظاهر فلا يعني صلاح الباطن، فإن اللازم لا يدل إلا إذا كان ملزوما، ومن المعلوم أن الظاهر يفعله المؤمن والمنافق، فلا يدل على صلاح الباطن (109) ،و لذا فإن الإيمان الظاهر الذي يجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان الباطن المنجي يوم القيامة (110) [مهم جدا] ؛ "لأن الظاهر إنما يكون دليلا صحيحا معتمدا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه، فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن بخلافه ---[موسوعة الفرق]

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 06:38 PM
المقام الثاني في نقض الأصل الإرجائي--: إبطال دعواهم أن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله.
فهم "قالوا: إن الحقيقة المركبة من أمور، متى ذهب بعض أجزائها انتفت تلك الحقيقة، كالعشرة المركبة من آحاد، فلو قلنا: إنه يتبعض؛ لزم زوال بعض الحقيقة مع بقاء بعضها" (112) ، وفي هذا إخراج مرتكب الكبيرة من الإيمان كما تقوله الخوارج والمعتزلة، فوجب إخراج الأعمال من الإيمان؛ لئلا يكفر المؤمن (113) .
وفي الجواب عن هذه الحجة -=بين شيخ الإسلام رحمه الله أن (نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه تدل على ذهاب بعضه وبقاء بعضه، كقوله: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) (114) " (115) .
وأما قولهم - إن في هذا إخراج مرتكب الكبيرة من الإيمان، فالذي "ينبغي أن يعرف أن القول الذي لم يوافق الخوارج والمعتزلة عليه أحد من أهل السنة هو القول بتخليد أهل الكبائر في النار، فإن هذا القول من البدع المشهورة، وقد اتفق الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
واتفقوا أيضا على أن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع فيمن يأذن الله له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته، ففي الصحيحين عنه أنه قال: ((لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) (116) " (117) .
ومعنى هذا أنه لو خرج من الإيمان، فلا يلزم أن يكون كافرا مخلدا في النار كما توهمته الوعيدية، بل يخرج منه إلى درجة أقل هي الإسلام، ومعه أصل الإيمان.[مهم جدا]
وأما قولهم: إن الحقيقة المركبة من أمور، متى ذهب بعض أجزائها انتفت تلك الحقيقة، فيقول شيخ الإسلام مجيبا عن ذلك:
"والجواب عما ذكروه سهل، فإنه يسلم لهم أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت، لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء" (118) .
ويقول: "فيقال لهم: إذا زال بعض أجزاء المركب تزول الهيئة الاجتماعية الحاصلة بالتركيب، لكن لا يلزم أن يزول سائر الأجزاء.
والإيمان المؤلف من الأقوال الواجبة والأعمال الواجبة، الباطنة والظاهرة، هو المجموع الواجب الكامل، وهذه الهيئة الاجتماعية تزول بزوال بعض الأجزاء، وهذه هي المنفية في الكتاب والسنة في مثل قوله: ((لا يزني الزاني)) (1). الخ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات: 15].
ولكن لا يلزم أن تزول سائر الأجزاء، ولا أن سائر الأجزاء الباقية لا تكون من الإيمان بعد زوال بعضه.
كما أن واجبات الحج من الحج الواجب الكامل، وإذا زالت زال هذا الكمال، ولم يزل الحج.
وكذلك الإنسان الكامل يدخل في مسماه أعضاؤه كلها، ثم لو قطعت يداه ورجلاه لم يخرج عن اسم الإنسان، وإن كان قد زال منه بعض ما يدخل في الاسم الكامل.
وكذلك لفظ الشجرة، والباب، والبيت، والحائط، وغير ذلك يتناول المسمى في حال كمال أجزائه بعد ذهاب بعض أجزائه" .[موسوعة الفرق]

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 06:58 PM
وقد بسط رحمه الله الجواب عن هذه الشبهة في مواضع أخرى، أهمها في كتابه الإيمان الأوسط، وهذا تلخيص ما قاله هناك:
يقول رحمه الله: "فإن الحقيقة الجامعة لأمور - سواء كانت في الأعيان أو الأعراض - إذا زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول، ولا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها، وسواء سميت مركبة، أومؤلفة، أو غير ذلك، لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها.
وما مثلوا به من العشرة والسكنجبين مطابق لذلك، فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة، بل قد تبقى التسعة، فإذا زال أحد جزئي المركب لا يلزم زوال الجزء الآخر.
لكن أكثر ما يقولون: زالت الصورة المجتمعة، وزالت الهيئة الاجتماعية له، وزال الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب، كما يزول اسم العشرة والسكنجبين.
فيقال لهم: أما كون ذلك المجتمع ما بقي على تركيبه، فهذا لا ينازع فيه عاقل.
ولا يدعي عاقل أن الإيمان، أو الصلاة، أو الحج، أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور -إذا زال بعضها بقي ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه،...، ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء.
وأما زوال الاسم، فيقال لهم:
هذا أولا بحث لفظي، إذا قدر أن الإيمان له أبعاض وشعب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (120) ، كما أن الصلاة والحج له أجزاء وشعب، ولا يلزم من زوال شعبة من شعبة زوال سائر الأجزاء والشعب، كما لا يلزم من زوال بعض أجزاء الحج والصلاة زوال سائر الأجزاء.
فدعواهم أنه إذا زال بعض المركب زال البعض الآخر ليس بصواب، ونحن نسلم لهم أنه ما بقي إلا بعضه لا كله، وأن الهيئة ما بقيت كما كانت.
يبقى النزاع: هل يلزم زوال الاسم بزوال بعض الأجزاء؟
فيقال لهم: المركبات في ذلك على وجهين: منها ما يكون التركيب شرطا في إطلاق الاسم، ومنها ما لا يكون كذلك.
فالأول: كاسم العشرة، وكذلك السكنجبين.
ومنها ما يبقى الاسم بعد زوال بعض الأجزاء، وجميع المركبات المتشابهة الأجزاء من هذا الباب، وكذلك كثير من المختلفة الأجزاء.
فإن المكيلات والموزونات تسمى حنطة، وهي بعد النقص حنطة، وكذلك التراب، والماء، ونحو ذلك.
وكذلك لفظ العبادة، والطاعة، والخير، والحسنة، والإحسان، ونحو ذلك مما يدخل فيه أمور كثيرة يطلق الاسم عليها قليلها وكثيرها، وعند زوال بعض الأجزاء وبقاء بعض، وكذلك لفظ القرآن، فيقال على جميعه، وعلى بعضه".
ثم استمر رحمه في سرد أمثلة عديدة تنطبق عليها هذه القاعدة، ثم قال:
"وإذا كانت المركبات على نوعين، بل غالبها من هذا النوع؛ لم يصح قولهم: إنه إذا زال جزؤه لزم أن يزول الاسم، إذا أمكن أن يبقى الاسم مع بقاء الجزء الباقي.
ومعلوم أن اسم الإيمان من هذا الباب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (121) ، ثم من المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان)) (122) ، ، فأخبر أنه يتبعض، ويبقى بعضه، وأن ذاك من الإيمان، فعلم أن بعض الإيمان يزول ويبقى بعضه، وهذا ينقض مآخذهم الفاسدة، ويبين أن اسم الإيمان مثل اسم القرآن، والصلاة، والحج، ونحو ذلك"--[موسوعة الفرق]

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 07:08 PM
وأخيرا يقرر شيخ الإسلام أن "أجزاء الشيء تختلف أحكامها شرعا وطبعا" (
فبعض هذه الأجزاء قد يكون شرطا في البعض الآخر، وبعضها قد لا يكون شرطا فيه، وبعضها ينقص المركب بزوالها عن كماله الواجب ولا يبطل، وبعضها ينقص عن كماله المستحب.[مهم جدا]
فمثال ما كان شرطا: من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، كان كافرا بالكل.
ومثال ما كان من الكمال الواجب: عدم رمي الجمار في الحج، وعدم المبيت بمنى، ونحو ذلك، فهذه أجزاء ينقص الحج بزوالها عن كماله الواجب ولا تبطله.
ومثال ما كان من الكمال المستحب: عدم رفع الصوت بالإهلال، والرمل، والاضطباع في الشوط الأول، فهذه أجزاء ينقص الحج بزوالها عن كماله المستحب.
وهكذا في أمثلة عديدة حاصلها أن أجزاء الشيء تختلف أحكامها شرعا وطبعا، فلا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال البقية مادام أنها مختلفة فيما بينها ---[وهذه المسألة لو تدبرها من يتسترون بجلباب العذر بالجهل لزالت عنهم كثير من الاوهام بأن المتلبس بالشرك الاكبر من أهل الايمان كتبه محمد عبد اللطيف]---[موسوعة الفرق]

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 07:17 PM
المقام الثالث: إبطال دعواهم أنه لا يجتمع في الإنسان إيمان وكفر، ولا يكون فيه بعض الإيمان وبعض كفر.
فإن قولهم هذا قول "غلطوا فيه، وخالفوا فيه الكتاب، والسنة، وآثار الصحابة، والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول .
وحال من يظن الإجماع على ذلك كما قال شيخ الإسلام رحمه الله "من الناس من لا يعرف مذاهب أهل العلم، وقد نشأ على قول لا يعرف غيره، فيظنه إجماعا" (127) ، ويكون" معتقدا أنه متمسك بالنص، والإجماع" (128) .
وقد لفت شيخ الإسلام على سبب جرأة أهل الكلام على حكاية إجماع لا يمكنهم إثباته، فقال: "ثم هؤلاء يحكون إجماعات يجعلونها من أصول علمهم، ولا يمكنهم نقلها عن واحد من أئمة الإسلام، وإنما ذلك بحسب ما يقوم في أنفسهم من الظن، فيحكون ذلك عن الأئمة" (129) .
وفي معرض رده على أحد المتكلمين، قال شيخ الإسلام: "وهذا القول الذي يحكيه هذا وأمثاله من إجماع المسلمين، أو إجماع المليين في مواضع كثيرة، يحكونه بحسب ما يعتقدونه من لوازم أقوالهم.
وكثير من الإجماعات التي يحكيها أهل الكلام هي من هذا الباب، فإن أحدهم قد يرى أن صحة الإسلام لا تقوم إلا بذلك الدليل، وهم يعلمون أن المسلمين متفقون على صحة الإسلام، فيحكون الإجماع على ما يظنونه من لوازم الإسلام.
كما يحكون الإجماع على المقدمات التي يظنون أن صحة الإسلام مستلزمة لصحتها، وأن صحتها من لوازم الإسلام.
أو يكونون لم يعرفوا من المسمين إلا قولين أو ثلاثة، فيحكون الإجماع على نفي ما سواها.
وكثير مما يحكونه من هذه الإجماعات لا يكون معهم فيها نقل، لا عن أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، بل ولا عن العلماء المشهورين الذين لهم في الأمة لسان صدق، ولا فيها آية من كتاب الله، ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم مع هذا يعتقدون أنها من أصول الدين، التي لا يكون الرجل مؤمنا أو لا يتم دين الإسلام إلا بها، ونحو ذلك"
وهذا ما وقع للمرجئة في هذه المسألة، حيث اعتقدوا أنه لا يجتمع في العبد بعض الإيمان وبعض الكفر، أو ما هو إيمان وما هو كفر، وظنوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين؛ فلأجل اعتقادهم هذا الإجماع وقعوا فيما هو مخالف للإجماع الحقيقي، إجماع السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة (131) .

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 07:38 PM
وفي نقض دعوى المرجئة عدم اجتماع الإيمان والكفر في الشخص -- يقول شيخ الإسلام:
"وأصل قول أهل السنة الذي فارقوا به الخوارج، والجهمية، والمعتزلة، والمرجئة: أن الإيمان يتفاضل، ويتبعض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان))".
ويقول: "وأما أئمة السنة والجماعة فعلى إثبات التبعيض في الاسم والحكم، فيكون مع الرجل بعض الإيمان لا كله، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم بحسب ما معه، كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه" (134) .
وقال: "يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق، وبعض شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر.
كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (135) ، وفي الصحيح أنه قال: ((من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق)) (136) ، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لن يدعوهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم)) (137) ، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) (138) ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت)) (139) ، وفي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آباكم)) (140) ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, (148) ، ونظائر هذا موجودة في الأحاديث.
وقال ابن عباس وغير واحد من السلف في قوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44]، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45]، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة: 47]: كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم، وقد ذكر ذلك أحمد، والبخاري، وغيرهما (149) " (150) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "ولهذا كان الصحابة، والسلف يقولون: إنه يكون في العبد إيمان ونفاق" (151) ، ثم ذكر بعض الآثار عنهم في ذلك، ومنها:
قول حذيفة رضي الله عنه: القلوب أربعة: قلب أغلف (152) ، فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح، وذلك قلب المنافق، وقلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل شجرة يمدها ماء طيب، ومثل النفاق مثل قرحة يمدها قيح ودم، فأيهما غلب عليه غلب.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب، فكلما ازداد العبد إيمانا ازداد القلب بياضا، حتى إذا استكمل الإيمان ابيض القلب كله، وإن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب، فكلما ازداد العبد نفاقا ازداد القلب سوادا حتى إذا استكمل النفاق اسود القلب، وأيم الله لو شققتم عن قلب [الكافر] لوجدتموه أسود.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل.
ثم قال شيخ الإسلام بعد أن ساق هذه الآثار: "وهذا كثير في كلام السلف يبينون أن القلب قد يكون فيه إيمان ونفاق" (153) ، أي النفاق الذي لا ينقل عن الملة، وكذا الكفر الذي لا ينقل عن الملة-----[مهم جدا]- وهذه المسألة فيها رد على شبهات جماعة شكرى مصطفى-[موسوعة الفرق]

أبو البراء محمد علاوة
2018-10-20, 07:50 PM
أحسنت وأجدت في اختيارك للموضوع، وفي نشره على أجزاء متتالية ليسهل المتابعة والاستفادة، بارك الله فيك.

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 07:56 PM
نقد الحجة السادسة
أن الإيمان في اللغة هو التصديق
لما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله قول المرجئة في الإيمان أعقبه بقوله: "ونحن نذكر عمدتهم؛ لكونه مشهورا عند كثير من المتأخرين المنتسبين إلى السنة:
قال القاضي أبو بكر في التمهيد: فإن قالوا: فخبرونا: ما الإيمان عندكم؟
قيل: الإيمان هو التصديق بالله، وهو العلم، والتصديق يوجد بالقلب.
فإن قال: فما الدليل على ما قلتم؟
قيل: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن، وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم هو التصديق، لا يعرفون في اللغة إيمانا غير هذا.
ويدل على ذلك قوله تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [يوسف: 17]، أي: بمصدق لنا.
ومنه قولهم: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان لا يؤمن بعذاب القبر، أي لا يصدق بذلك.
فوجب أن يكون الإيمان في الشريعة هو الإيمان المعروف في اللغة؛ لأن الله ما غير اللسان العربي، ولا قلبه، ولو فعل ذلك لتواترت الأخبار بفعله، وتوفرت دواعي الأمة على نقله، ولغلب إظهاره على كتمانه، وفي علمنا أنه لم يفعل ذلك، بل إقرار أسماء الأشياء، والتخاطب بأسره على ما كان؛ دليل على أن الإيمان في اللغة هو الإيمان اللغوي.
ومما يبين ذلك قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4]، وقوله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3]، فأخبر أنه أنزل القرآن بلغة العرب، وسمى الأسماء بمسمياتهم، ولا وجه للعدول بهذه الآيات عن ظواهرها بغير حجة، لا سيما مع القول بالعموم، وحصول التوقيف على أن القرآن نزل بلغتهم، فدل على ما قلناه من أن الإيمان ما وصفناه، دون ما سواه من سائر الطاعات من النوافل والمفروضات.
هذا لفظه (155) ، وهذا عمدة من نصر قول الجهمية في مسألة الإيمان" ( .
وذكر شيخ الإسلام أيضا أنهم قالوا: "الإيمان في اللغة هو التصديق، والرسول إنما خاطب الناس بلغة العرب لم يغيرها، فيكون مراده بالإيمان التصديق.
ثم قالوا: والتصديق إنما يكون بالقلب واللسان، أو بالقلب، فالأعمال ليست من الإيمان.
ثم عمدتهم في أن الإيمان هو التصديق قوله: َمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [يوسف: 17]، أي: بمصدق لنا" (157) .
فهذه الحجة تقوم على مقدمتين
أحدهما: أن الإيمان في اللغة هو التصديق، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب الناس بلغة العرب لم يغيرها، فيكون مراده بالإيمان التصديق فحسب.
والثانية: أن التصديق إنما يكون بالقلب واللسان، أو بالقلب، فالأعمال بكل حال ليست من الإيمان.
ولنقض هذه الحجة انطلق شيخ الإسلام من مقامين:
المقام الأول: كلام عام مطلق (159) .
المقام الثاني: يقابل الأول، فهو كلام مفصل.
أما المقام الأول: العام المطلق:
فهو في نقد المنهجية التي سلكها المرجئة في هذه المسألة، وفي ذلك يقوم شيخ الإسلام:
"فيقال لهم: اسم الإيمان قد تكرر ذكره في القرآن والحديث أكثر من ذكر سائر الألفاظ، وهو أصل الدين، وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويفرق بين السعداء والأشقياء، ومن يوالي ويعادي، والدين كله تابع لهذا، وكل مسلم يحتاج إلى ذلك.
أفيجوز أن يكون الرسول قد أهمل بيان هذا كله، ووكله إلى هاتين المقدمتين؟!
ومعلوم أن الشاهد الذي استشهدوا به على أن الإيمان هو التصديق أنه من القرآن، ونقل معنى الإيمان متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من تواتر لفظ الكلمة، فإن الإيمان يحتاج على معرفته جميع الأمة فينقلونه، بخلاف كلمة من سورة، فأكثر المؤمنين لم يكونوا يحفظون هذه السورة، فلا يجوز أن يجعل بيان أصل الدين مبنيا على مثل هذه المقدمات، ولهذا كثر النزاع والاضطراب بين الذين عدلوا عن صراط الله المستقيم، وسلكوا السبل، وصاروا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ومن الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات.
فهذا كلام عام مطلق"

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 08:20 PM
وقد بين شيخ الإسلام - أن منهج المرجئة في تقرير هذه الحجة - مخالف لما يجب سلوكه في فهم المصطلحات الشرعية، حيث يقول: "ومما ينبغي أن يعرف أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها، وما أريد بها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة، ولا غيرهم، ولهذا قال الفقهاء: الأسماء ثلاثة أنواع:
نوع يعرف حده بالشرع: كالصلاة، والزكاة.
ونوع يعرف حده باللغة: كالشمس، والقمر.
ونوع يعرف حده بالعرف: كلفظ القبض، ولفظ المعروف في قوله: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 19]، ونحو ذلك.
وروي عن ابن عباس أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه:
تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله من ادعى علمه فهو كاذب
فاسم الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ونحو ذلك قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ما يراد بها في كلام الله ورسوله، وكذلك لفظ الخمر، وغيرها، ومن هناك يعرف معناها، فلو أراد أحد أن يفسرها بغير ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه.
وأما الكلام في اشتقاقها، ووجه دلالتها، فذاك من جنس علم البيان، وتعليل الأحكام، هو زيادة في العلم، وبيان حكمة ألفاظ القرآن، لكن معرفة المراد بها لا يتوقف على هذا.
واسم الإيمان، والإسلام، والنفاق، والكفر - هي أعظم من هذا كله، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بين المراد بهذه الألفاظ بيانا لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق، وشواهد استعمال العرب، ونحو ذلك، فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله، فإنه شاف كاف، بل معاني هذه الأسماء معلومة من حيث الجملة للخاصة والعامة" (162) .
ويقول: "ولهذا ينبغي أن يقصد إذا ذكر لفظ من القرآن والحديث أن يذكر نظائر ذلك اللفظ، ماذا عنى بها الله ورسوله، فيعرف بذلك لغة القرآن والحديث، وسنة الله ورسوله التي يخاطب بها عباده، وهي العادة المعروفة من كلامه.
ثم إذا كان لذلك نظائر في كلام غيره، وكانت النظائر كثيرة، عرف أن تلك العادة واللغة مشتركة عامة، لا يختص بها هو صلى الله عليه وسلم، بل هي لغة قومه.
ولا يجوز أن يحمل كلامه على عادات حدثت بعده في الخطاب، لم تكن معروفة في خطابه وخطاب أصحابه، كما يفعله كثير من الناس، وقد لا يعرفون انتفاء ذلك في زمانه"

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 08:23 PM
وأما المقام الثاني في نقض هذه الحجة، فهو الجواب المفصل:
وفيه نقض المقدمتين التي بني المرجئة عليهما احتجاجهم باللغة، وذلك بجوابين:
الجواب الأول: مبني على منع دعوى الترادف بين الإيمان والتصديق.
الجواب الثاني: مبني على فرض التسليم بالترادف

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 09:17 PM
وهذا شرح لهذين الجوابين:
الجواب الأول: في منع دعوى الترادف بين الإيمان والتصديق.
وذلك في وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: المطالبة بإثبات الترادف.
يقول شيخ الإسلام في أثناء رده على الباقلاني: "فمن الذي قال: إن لفظ الإيمان مرادف للفظ التصديق؟
وهب أن المعنى يصح إذا استعمل في هذا الموضع، فلم قلت إنه يوجب الترادف؟ ولو قلت: ما أنت بمسلم لنا، ما أنت بمؤمن لنا صح المعنى، لكن لم قلت إن هذا هو المراد بلفظ مؤمن؟ وإذا قال الله: أَقِيمُواْ الصَّلاةَ [الأنعام: 72]، ولو قال القائل: أتموا الصلاة، ولازموا الصلاة، التزموا الصلاة، افعلوا الصلاة، كان المعنى صحيحا، لكن لا يدل هذا على معنى أَقِيمُواْ، فكون اللفظ يرادف اللفظ يراد دلالته على ذلك" (164) .
الوجه الثاني: الرد على ما استدل به المرجئة على دعوى الترادف.
أولاً: استدلالهم بقوله تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [يوسف: 17]، لا يتم لهم؛ لأنه "ليس في الآية ما يدل على أن المصدق مرادف للمؤمن، فإن صحة المعنى بأحد اللفظين لا يدل على أنه مرادف للآخر" ( .
وأما الآية فمعنى قولهم: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا، أي: لا تقر بخبرنا، ولا تثق به، ولا تطمئن إليه، ولو كنا صادقين (166) .
ثانيا: احتجاج الباقلاني بأن الناس يقولون: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان لا يؤمن بعذاب القبر، والمعنى: أي لا يصدق بذلك.
يقول شيخ الإسلام مجيبا عن ذلك: "أنه لم يذكر شاهدا من كلام العرب على ما ادعاه عليهم، وإنما استدل من غير القرآن بقول الناس، فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان يؤمن بالجنة والنار، وفلان يؤمن بعذاب القبر، وفلان لا يؤمن بذلك، ومعوم أن هذا ليس من ألفاظ العرب قبل نزول القرآن، بل هو مما تكلم به الناس بعد عصر الصحابة، لما صار من الناس أهل البدع يكذبون بالشفاعة وعذاب القبر، ومرادهم بذلك هو مرادهم بقوله: فلان يؤمن بالجنة والنار، وفلان لا يؤمن بذلك.
والقائل بذلك وإن كان تصديق القلب داخلا في مراده، فليس مراده ذلك وحده، بل مراده التصديق بالقلب واللسان، فإن مجرد تصديق القلب بدون اللسان لا يعلم حتى يخبر به عنه".
ثم قال شيخ الإسلام: "من قال بذلك، فليس مراده التصديق بما يرجى ويخاف بدون خوف ولا رجاء، بل يصدق بعذاب القبر ويخافه، ويصدق بالشفاعة ويرجوها، وإلا فلو صدق بأنه يعذب في قبره ولم يكن في قلبه خوف من ذلك أصلا لم يسموه مؤمنا، كما أنهم لا يسمون مؤمنا بالجنة والنار إلا من رجا الجنة وخاف النار"، ثم قال:
"فلا يوجد قط في كلام العرب أن من علم وجود شيء مما يخاف ويرجى، ويجب حبه وتعظيمه، وهو مع ذلك لا يحبه ولا يعظمه، ولا يخافه ولا يرجوه، بل يجحد به ويكذبه بلسانه، أنهم يقولون: هو مؤمن به، بل ولو عرف بقلبه، وكذب به بلسانه، لم يقولوا هو مصدق به، ولو صدق به مع العمل بخلاف مقتضاه، لم يقولوا هو مؤمن به" (167) .
والخلاصة أنه "لا يوجد في كلام العرب شاهد واحد يدل على ما ادعوه" (168) .
ثالثاً: حكاية الباقلاني الإجماع على دعوى الترادف.
وقد رد شيخ الإسلام ذلك بقوله: "يقال له: من نقل هذا الإجماع؟ ومن أين يعلم هذا الإجماع؟ وفي أي كتاب ذكر هذا الإجماع؟
الثاني: أتعني بأهل اللغة نقلتها، كأبي عمرو، والأصمعي، والخليل، وغيرهم، أو المتكلمين بها؟
فإن عنيت الأول: فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام بإسناد، وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم، وما سمعوه في دواوين الشعر، وكلام العرب، وغير ذلك بالإسناد، ولا نعلم فيما نقوله لفظ الإيمان، فضلا عن أن يكونوا أجمعوا عليه.
وإن عنيت المتكلمين بهذا اللفظ قبل الإسلام، فهؤلاء لم نشهدهم، ولا نقل لنا أحد عنهم ذلك.
الثالث: أنه لا يعرف عن هؤلاء جميعهم أنهم قالوا الإيمان في اللغة هو التصديق، بل ولا عن بعضهم، وإن قدر أنه قاله واحد، أو اثنان، فليس هذا إجماعا.
الرابع: أن يقال: هؤلاء لا ينقلون عن العرب أنهم قالوا معنى هذا اللفظ كذا وكذا، وإنما ينقلون الكلام المسموع من العرب، وأنه يفهم منه كذا وكذا، وحينئذ فلو قدر أنهم نقلوا كلاما عن العرب يفهم منه أن الإيمان هو التصديق، لم يكن ذلك أبلغ من نقل المسلمين كافة للقرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان مع ذلك قد يظن بعضهم أنه أريد به معنى ولم يرده، فظن هؤلاء ذلك فيما ينقلونه عن العرب أولى.
الخامس: أنه لو قدر أنهم قالوا هذا، فهم آحاد لا يثبت بنقلهم التواتر،...، وأين التواتر الموجود عن العرب قاطبة قبل نزول القرآن أنهم كانوا لا يعرفون للإيمان معنى غير التصديق؟

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 11:15 PM
الوجه الثالث: إثبات الفروق اللغوية بين الإيمان والتصديق.
ففي تحقيق بالغ حرر شيخ الإسلام تلك الفروق، حتى بلغت أربعة، وهي:
الفرق الأول: من جهة التعدي.
فإن الفعل صدق يتعدى بنفسه، ولا يتعدى بغيره إلا إذا ضعف عمله بتأخيره وتقديم مفعوله عليه، أو كونه اسم فاعل، أو مصدرا، ونحو ذلك.
تقول: صدقته، وأنا به مصدق، وأنا مصدق له.
وأما الفعل آمن، فإنه يتعدى بغيره، ولا يتعدى بنفسه إلا إذا كان بمعنى الأمان ضد الإخافة.
تقول: آمنت به، وآمنت له، وإذ أردت معنى الأمان قلت: أمنته.
قال شيخ الإسلام: "وذلك أن الإيمان يفارق التصديق، لفظا ومعنى، فإنه أيضا يقال: صدقته، فيتعدى بنفسه إلى المصدق، ولا يقال: أمنته، إلا من الأمان الذي هو ضد الإخافة، بل آمنت له.
وإذا ساغ أن يقال: ما أنت بمصدق لفلان، كما يقال: هل أنت مصدق له؛ لأن الفعل المتعدى بنفسه إذا قدم مفعوله عليه، أو كان العامل اسم فاعل ونحوه، مما يضعف عن الفعل، فقد يعدونه باللام تقوية له، كما يقال: عرفت هذا وأنا به عارف، وضربت هذا وأنا له ضارب، وسمعت هذا ورأيته وأن له سامع وراء، كذلك يقال: صدقته وأنا له مصدق، ولا يقال صدقت له به.
وهذا خلاف آمن، فإنه لا يقال إذا أردت التصديق: أمنته، كما يقال: أقررت له، ومنه قوله: آمنت له، كما يقال: أقررت له" (170) .
الفرق الثاني: من جهة الاستعمال.
فالإيمان يستعمل في الخبر عن الأمور الغائبة، وفي خبر يؤتمن عليه المخبر من الأمور التي فيها ريب، وفي الحقائق الثابتة التي تعلم بدون خبر (171) ، ويتناول الذوات المرتبطة بمعاني الحب والبغض.
وأما التصديق فيستعمل في جميع الأخبار، المشهودة والغائبة، ويختص بمتعلقات الذوات المرتبطة بمعاني الحب والبغض.
قال شيخ الإسلام: "وليس الإيمان مرادفا للفظ التصديق، كما يظنه طائفة من الناس، فإن التصديق يستعمل في كل خبر.
فيقال لمن أخبر بالأمور المشهودة - مثل قوله: الواحد نصف الاثنين، والسماء فوق الأرض - مجيبا: صدقت، وصدقنا بذلك.
ولا يقال: آمنا له، ولا آمنا بهذا، حتى يكون المخبر به من الأمور الغائبة، فيقال للمخبر، آمننا له، وللمخبر به: آمنا به، كما قال إخوة يوسف: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17]، أي: بمقر لنا، ومصدق لنا؛ لأنهم أخبروه عن غائب، ( أي: لا تقر بخبرنا، ولا تثق به، ولا تطمئن إليه ولو كنا صادقين؛ لأنهم لم يكونوا عنده ممن يؤتمن على ذلك، فلو صدقوا لما يأمن لهم ) .
ومنه قوله تعالى: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111]، وقوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61]، ( أي: فيصدقهم فيما أخبروا به مما غاب عنه، وهو مأمون عنده على ذلك ) ، وقوله تعالى: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون: 47]، وقوله تعالى وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدخان: 21]، وقوله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ [يونس: 83]، أي: أقر له"، ثم قال:
"الإيمان لا يستعمل في جميع الأخبار، بل في الإخبار عن الأمور الغائبة، ونحوها مما يدخلها الريب، فإذا أقر بها المستمع قيل: آمن.
بخلاف لفظ التصديق، فإنه عام متناول لجميع الأخبار"، ثم قال:
"فلفظ التصديق إنما يستعمل في جنس الأخبار، فإن التصديق إخبار بصدق المخبر، والتكذيب إخبار بكذب المخبر، فقد يصدق الرجل الكاذب تارة، وقد يكذب الرجل الصادق أخرى.
فالتصديق والتكذيب نوعان من الخبر، وهما خبر عن الخبر، فالحقائق الثابتة في نفسها التي قد تعلم بدون خبر لا يكاد يستعمل فيها لفظ التصديق والتكذيب إن لم يقدر مخبر عنها.
بخلاف الإيمان، والإقرار، والإنكار، والجحود، ونحو ذلك، فإنه يتناول الحقائق، والإخبار عن الحقائق أيضا.
وأيضا فالذوات التي تحب تارة وتبغض أخرى، وتوالى تارة وتعادي أخرى، وتطاع تارة وتعصى أخرى، ويذل لها تارة ويستكبر عنها أخرى، تختص هذه المعاني فيها بلفظ الإيمان، والكفر، ونحو ذلك.
وأما لفظ التصديق، والصدق، ونحو ذلك، فيتعلق بمتعلقها، كالحب، والبغض، فيقال: حب صادق، وبغض صادق.
فكما أن الصدق والكذب في إثبات الحقائق ونفيها متعلق بالخبر النافي والمثبت دون الحقيقة ابتداء، فكذلك في الحب والبغض ونحو ذلك يتعلق بالحب والبغض دون الحقيقة ابتداء.
بخلاف لفظ الإيمان والكفر، فإنه يتناول الذوات بلا واسطة إقرارا، أو إنكارا، أو حبا، أو بغضا، أو طمأنينة، أو نفورا.
ويشهد لهذا الدعاء المأثور المشهور عند استلام الحجر: ( اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، وأتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ) (172) .
فقال إيمانا بك، ولم يقل: تصديقا بك، كما قال: تصديقا بكتابك.
وقال تعالى: وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ [التحريم: 12]، فجعل التصديق بالكلمات والكتب.
ومنه الحديث الذي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((تكفل الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمانا بي، وتصديقا بكلماتي))، ويروى: ((إيمانا بي، وتصديقا برسلي))، ويروى: ((لا يخرجه إلا جهادا في سبيل الله، وتصديق كلماته)) ففي جميع هذه الألفاظ جعل لفظ التصديق بالكلمات والرسل" (173) .
الفرق الثالث: من جهة المقابل للفظ التصديق والإيمان.
فالتصديق يقابله التكذيب، وأما الإيمان فيقابله الكفر، والكفر لا يختص بالتكذيب.
قال شيخ الإسلام: "لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل التكذيب، كلفظ التصديق.
فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت، ويقال صدقناه أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه، ولا يقال: أنت مؤمن له أو مكذبه له، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر، يقال: هو مؤمن، أو كافر"، ثم قال:
"فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيبا، ويكون مخالفة ومعاداة، وامتناعا بلا تكذيب، فلابد أن يكون الإيمان تصديقا مع موافقة، موالاة، وانقياد، لا يكفي مجرد التصديق"

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 11:33 PM
الفرق الرابع: من جهة المعنى.
فالإيمان وإن كان يتضمن التصديق، فليس هو مجرد التصديق، وإنما هو الإقرار والطمأنينة (175) .
وهذا هو الذي حققه شيخ الإسلام في معنى الإيمان، حيث يقول رحمه الله تعالى: "فكان تفسيره بلفظ الإقرار أقرب من تفسيره بلفظ التصديق، مع أن بينهما فرقا" (176) .
ويقول: "ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار، لا مجرد التصديق" (177) .
ويقول: "فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو: القرار والطمأنينة" (178) .
ويقول: "فاللفظ - يعني لفظ الإيمان - متضمن مع التصديق معنى الائتمان والأمانة، كما يدل عليه الاستعمال والاشتقاق" (179) .
وقد عقد شيخ الإسلام مقارنة تظهر أوجه التقارب بين الإيمان والإقرار قال فيها:
"فإن الإيمان مأخوذ من الأمن الذي هو الطمأنينة، كما أن لفظ الإقرار مأخوذ من قر، يقر، وهو قريب من آمن، يأمن، لكن الصادق يطمئن إلى خبره، والكاذب بخلاف ذلك، كما يقال: الصدق طمأنينة والكذب ريبة، فالمؤمن دخل في الأمن، كما أن المقر دخل في الإقرار.
ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه يكون على وجهين:
أحدهما: الإخبار، وهو من هذا الوجه، كلفظ التصديق، والشهادة، ونحوهما، وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.
والثاني: إنشاء الالتزام، كما في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّه ُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي [آل عمران: 81]، فهذا الالتزام للإيمان، والنصر للرسول.
وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبار، وإنشاء، والتزام، بخلاف التصديق المجرد.
فمن أخبر الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر لا يقال فيه: آمن له، بخلاف الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى الخبر.
والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع له، وقد لا يتضمن إلا مجرد الطمأنينة إلى صدقه، فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمنا للمخبر إلا بالتزام طاعته مع تصديقه (180) .
بل قد استعمل لفظ الكفر المقابل للإيمان في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد، فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان كما استعمل لفظ الإقرار في نفس التزام الطاعة والانقياد" (181) .
ويقول: "فالإيمان متضمن للإقرار بما أخبر به، والكفر تارة يكون بالنظر إلى عدم تصديق الرسول والإيمان به، وهو من هذا الباب يشترك فيه كل ما أخبر به، وتارة بالنظر إلى عدم الإقرار بما أخبر به، والأصل في ذلك هو الإخبار بالله وبأسمائه، ولهذا كان جحد ما يتعلق بهذا الباب أعظم من جحد غيره، وإن كان الرسول أخبر بكليهما.
ثم مجرد تصديقه في الخبر والعلم بثبوت ما أخبر به، إذا لم يكن معه طاعة لأمره، لا باطنا ولا ظاهرا، ولا محبة ولا تعظيم له، لم يكن ذلك إيمانا" (182) .
الجواب الثاني في نقض احتجاج المرجئة باللغة، مبني على فرض التسليم بالترادف بين الإيمان والتصديق.
وثمة أجوبة عدة تدخل تحت هذا الجواب:
أحدها: أنه وإن قيل بأن الإيمان معناه التصديق، فإن قولهم إن التصديق لا يكون إلا بالقلب أو اللسان ممنوع، "بل الأفعال تسمى تصديقا، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ذلك ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (183) .
وكذلك قال أهل اللغة، وطوائف من السلف، والخلف.
قال الجوهري: والصديق مثال الفسيق: الدائم التصديق، ويكون الذي يصدق قوله بالعمل (184) .
وقال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال (185) " (186) .
الثاني: "أنه إذا كان أصله التصديق، فهو تصديق مخصوص، كما أن الصلاة دعاء مخصوص، والحج قصد مخصوص، والصيام إمساك مخصوص" (187) .
فالإيمان تصديق مخصوص، يتناول التصديق بالقلب والقول والعمل عند أهل الحديث (188) .
فليس: "هو التصديق بكل شيء بل بشيء مخصوص، وهو ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يكون الإيمان في كلام الشارع أخص من الإيمان في اللغة، ومعلوم أن الخاص ينضم إليه قيود لا توجد في جميع العام،...،
فالتصديق الذي هو الإيمان أدنى أحواله أن يكون نوعا من التصديق العام، فلا يكون مطابقا له في العموم والخصوص، من غير تغيير اللسان، ولا قلبه، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفا من العام والخاص" (189) .
الثالث: أنه "وإن كان هو التصديق، فالتصديق التام القائم مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح، فإن هذه لوازم الإيمان التام، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم، ونقول: إن هذه اللوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة، وتخرج عنه أخرى" (190) .
الرابع: أن يقال: إن اللفظ باق على معناه في اللغة، ومتروك على ما كان، ولكن الشريعة زادت فيه أحكاما، وضمت إليه شروطا وقيودا (191) .
الخامس: أن يقال: "إن الشارع استعمله في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية، مجاز لغوي" (192) .
السادس: أن يقال: إنه منقول من معناه اللغوي إلى المعنى الشرعي، كالأسماء الشرعية من الصلاة والزكاة ونحوها (193) .
فكل هذه الأجوبة يكفي الواحد منها لإبطال حجة المرجئة لو سلم لهم دعوى الترادف بين الإيمان والتصديق، ومع ذلك فإن التحقيق يدور في الأجوبة الثلاثة الأولى منها، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام:
"فخطاب الله ورسوله للناس بهذه الأسماء، كخطاب الناس بغيرها وهو خطاب مقيد خاص، لا مطلق يحتمل أنواعا، وقد بين الرسول تلك الخصائص، والاسم دل عليها، فلا يقال إنها منقولة، ولا أنه زيد في الحكم دون الاسم، بل الاسم إنما استعمل على وجه يختص بمراد الشارع، لم يستعمل مطلقا.
وهو إنما قال: أَقِيمُواْ الصَّلاةَ [الأنعام: 72] بعد أن عرفهم الصلاة المأمور بها، فكان التعريف منصرفا إلى الصلاة التي يعرفونها، لم ينزل لفظ الصلاة وهم لم لا يعرفون معناه"، ثم قال:
"وكذلك الإيمان والإسلام، وقد كان معنى ذلك عندهم من أظهر الأمور، وإنما سأل جبريل صلى الله عليه وسلم عن ذلك وهم يسمعون، وقال: ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) (194) ؛ ليبين لهم كمال هذه الأسماء وحقائقها التي ينبغي أن تقصد؛ لئلا يقتصروا على أدنى مسمياتها.
وهذا كما في الحديث الصحيح أنه قال: ((ليس المسكين هذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتين، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس إلحافا)) (195) ، فهم كانوا يعرفون المسكين، وأنه المحتاج، وكان ذلك مشهورا عندهم فيمن يظهر حاجته السؤال، فيبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يظهر حاجته بالسؤال والناس يعطونه تزول مسكنته بإعطاء الناس له، والسؤال له بمنزلة الحرفة، وهو وإن كان مسكينا يستحق من الزكاة إذا لم يعط من غيرها كفايته، فهو إذا وجد من يعطيه كفايته لم يبق مسكينا، وإنما المسكين المحتاج الذي لا يسأل، ولا يعرف فيعطى، فهذا هو الذي يجب أن يقدم في العطاء، فإنه مسكين قطعا، وذاك مسكنته تندفع بعطاء من يسأله.
وكذلك قوله: الإسلام هو الخمس، يريد أن هذا كله واجب داخل في الإسلام، فليس للإنسان أن يكتفي بالإقرار بالشهادتين، وكذلك الإيمان يجب أن يكون على هذا الوجه المفصل لا يكتفي فيه بالإيمان المجمل، ولهذا وصف الإسلام بهذا" (196) .
ويزيد الأمر وضوحا أن الشارع خاطب الناس بلغة العرب، فهو خاطبهم بلغتهم المعروفة، وقد جرى عرفهم أن الاسم يكون مطلقا وعاما، ثم يدخل فيه قيد أخص من معناه، فلما خاطبهم باسم الإيمان، والصلاة، والزكاة إنما خاطبهم بهذه الأسماء بلام التعريف، وقد عرفهم قبل ذلك أن المراد الإيمان الذي صفته كذا وكذا، والدعاء الذي صفته كذا وكذا، فبتقدير أن يكون في لغتهم التصديق، فإنه قد بين أنه لا يكتفي بتصديق القلب واللسان، فضلا عن تصديق القلب وحده، بل لابد أن يعمل بموجب ذلك التصديق، كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2]، وفي قوله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22]، وفي قوله: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء [المائدة: 81]، وكقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) (1).، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن قيل ومن يا رسول الله قال الذى لا يأمن جاره بوائقه)) (1).، وأمثال ذلك، وهو كثير في الكتاب والسنة.
فقد بين لهم أن التصديق الذي لا يكون الرجل مؤمنا إلا به هو: أن يكون تصديقا على هذا الوجه، وهذا بين في القرآن والسنة، من غير تغيير للغة، ولا نقل لها (197) .
وبهذا يكون "التحقيق أن الشارع لم ينقل تلك الأسماء، ولم يغيرها، ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة، كما يستعمل نظائرها.
كقوله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: 97]، فذكر حجا خاصا، وهو حج البيت، وكذلك قوله: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ [البقرة: 158]، فلم يكن لفظ الحج متناولا لكل قصد، بل لقصد مخصوص دل عليه اللفظ نفسه من غير تغيير اللغة" (198) .
فتصرف الشارع فيها كتصرف أهل العرف في بعض الأسماء اللغوية، إما بتخصيصها ببعض معانيها، وإما تحويلها إلى ما بينه وبين المعنى الأول سبب ومناسبة

أم علي طويلبة علم
2018-10-20, 11:43 PM
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
... وأيم الله لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أسود.


ارجو بيان ذلك؟!!!

محمدعبداللطيف
2018-10-20, 11:56 PM
نقد الحجة السابعة
الاستدلال بنصوص الوعد
احتج المرجئة بالنصوص التي فيها أن من أتى بالقول، فهو من أهل الإيمان والجنة، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) (200) ..
وكما جاء في حديث الجارية (( أن رجلا جاء بأمة سوداء، وقال يا رسول الله: إن عليّ رقبة مؤمنة، فإن كانت هذه مؤمنة أعتقها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدين أن لا إله إلا الله، فقالت: نعم، قال: أتشهدين أني رسول الله، قالت: نعم، قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت، قالت: نعم، قال: فأعتقها)) (201) ، وعند مسلم: ((أعتقها؛ فإنها مؤمنة)) (202) .
وفي حديث البطاقة، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، ثم يقول الله تبارك وتعالى له: أتنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا رب، فيقول عز وجل: ألك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل، فيقول: لا يا رب، فيقول عز وجل: بلى، إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول عز وجل: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة)) (203) .
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يدرس الإسلام كما يدرس وشيء الثوب، حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسري على كتاب الله في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس - الشيخ الكبير، والعجوز - يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها))، فقال صلة لحذيفة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة تنجيهم من النار - ثلاثا )) (204) .
ونحو ذلك من النصوص والعمومات (205) ، التي فهموا منها أنه لا يشترط في الإيمان فعل الواجبات (206) ، وأن من وجبت عليه العبادات فتركها، وارتكب المحظورات يستحق اسم الإيمان المطلق (207) .
وقالوا: قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُن َّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ َ مُؤْمِنَاتٍ [الممتحنة: 10]، قالوا: ومعلوم أن امتحانهن إنما هو مطالبة لهن بالإقرار بالشهادة، كما جاء في حديث الجارية (208) .
وقالوا: أجمع المسلمون على أن الكافر إذا أراد أن يسلم يكتفي منه بالإقرار بالشهادتين (209) .
وأولوا لأجل تلك النصوص ما يقابلها من نصوص الوعيد التي فيها نفي الإيمان عمن ارتكب بعض الذنوب، كقوله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22]، وقوله: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن،)) (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) (210) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا، فليس منا)) (211) ، ونحو ذلك من النصوص، وقالوا بأن المراد: ليس مثلنا، أو ليس من خيارنا، أو أن المنفي ثمرة الإيمان أو العمل به (212) ، وقالوا: إن لم يكن مؤمنا لما هو (213) ؟
هذا هو موقف المرجئة من نصوص الوعد والوعيد، وقد جاء جواب شيخ الإسلام عن هذا الموقف في ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: بيان الموقف الحق من نصوص الوعد والوعيد:
تعد مسألة الوعد والوعيد من أكبر مسائل العلم (214) ، وأهل البدع افترقوا فيها إلى طائفتين:
فالوعيدية من الخوارج والمعتزلة نظروا إلى نصوص الوعيد، والمرجئة نظروا إلى نصوص الوعد.
وأما الذي عليه أهل السنة وعامة علماء السلف، فهو الإيمان بالوعد والوعيد، والإقرار بالنصوص الواردة في هذا الباب على ما دلت عليه من المعاني، وإمرارها كما جاءت وأنها حق على ظاهرها اللائق بها، ويجمعون بينها، ويفسرون بعضها ببعض من غير تبديل شيء منها، أو تأويلها بتأويلات تخرجها عن مقصود الشرع، كما يصنعه من يحرفها ويسمى تحريفه تأويلا (215) .
يقول شيخ الإسلام بعد ذكره قول الوعيدية (216) والمرجئة في نصوص الوعد والوعيد:
"وكل من القولين خطأ، فإن النصوص، مثل قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء: 10] لم يشترط فيها الكفر، بل هي في حق المتدين بالإسلام.
وقوله: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) (217) . لم يشترط فيه فعل الواجبات، بل قد ثبت في الصحاح: ((وإن زني، وإن سرق، وإن شرب الخمر)) (218) .
فهنا اضطرب الناس (219) .
فأنكر قوم من المرجئة العموم، وقالوا: ليس في اللغة عموم، وهم الواقفية في العموم من المرجئة، وبعض الأشعرية، والشيعة (220) .
وإنما التزموا ذلك؛ لئلا يدخل جميع المؤمنين في نصوص الوعيد.
وقالت المقتصدة: بل العموم صحيح، والصيغ صيغ عموم، لكن العام يقبل التخصيص، وهذا مذهب جميع الخلائق من الأولين والآخرين، إلا هذه الشرذمة (221) .
قالوا - يعني المقتصدة-: فمن عفي عنه كان مستثنى من العموم (222) .
وقال قوم آخرون: بل إخلاف الوعيد ليس بكذب، وإن العرب لا تعد عارا أو شنارا أن يوعد الرج شرا ثم لا ينجزه، كما تعد عارا أو شنارا أن يعد خيرا ثم لا ينجزه، وهذا قول طوائف من المتقدمين والمتأخرين.
وقد احتجوا بقول كعب بن زهير يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:

نبئت أن رسول الله أوعدني



والعفو عند رسول الله مأمول (223)




قالوا: فهذا وعيد خاص، وقد رجا فيه العفو مخاطبا للنبي صلى الله عليه وسلم، فعلم أن العفو عن المتوعد جائز، وإن لم يكن من باب تخصيص العام (224) .
والتحقيق أن يقال: الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد، كما ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهي، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه.
فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط؛ لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله.
فكذلك نصوص الوعيد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة؛ لأن القرآن قد دل على أن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب، وهذا متفق عليه بين المسلمين، فكذلك في موارد النزاع، فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن من يعمل مثقال ذرة خيرة يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأن مصائب الدنيا تكفر الذنوب، وأنه يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، وأنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، كما بين أن الصدقة يبطلها المن ولأذى، وأن الرياء، يبطل العمل، وأنه إنما يتقبل الله من المتقين، أي في ذلك العمل ونحوه.
فجعل للسيئات ما يوجب رفعها، كما جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها، لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة (225) ، كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة.
وبهذا يتبين أنا نشهد بأن إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10] على الإطلاق والعموم، ولا نشهد لمعين أنه في النار؛ لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه؛ لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع في حقه، وفائدة الوعيد بيان أن هذا الذنب سبب مقتض لهذا العذاب، والسبب قد يقف تأثيره على وجود شروطه، وانتفاء مانعه.
يبين هذا أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وآكل ثمنها، وثبت عنه في صحيح البخاري عن عمر أن رجلا كان يكثر شرب الخمر، فلعنه رجل، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله)) (226) ، فنهى عن لعين هذا المعين وهو مدمن خمر؛ لأنه يحب الله ورسوله، وقد لعن شارب الخمر على العموم" (227) .
ويقول رحمه الله بعد إيراده عددا من أحاديث الوعد المتقدم ذكرها:
"فهذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيدة، فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال: "لا إله إلا الله"، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة، بل كثير ممن يقول: "لا إله إلا الله" يدخل النار، أو أكثرهم، ثم يخرج منها (228) .
وتواترت الأحاديث بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
ولكن جاءت مقيدة بالإخلاص واليقين، وبموت عليها، فكلها مقيدة بهذه القيود الثقال"، ثم قال:
"وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين، ومات على ذلك امتنع أن تكون سيئاته راجحة على حسناته، بل كانت حسناته راجحة فيحرم على النار؛ لأنه إذا قالها العبد بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، وأخوف عنده من كل شيء، فلا يبقى في قلبه حينئذ إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله، فهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كان له ذنوب، فهذا الإيمان، وهذا التوبة، وهذا الإخلاص، وهذه المحبة، وهذا اليقين، وهذه الكراهة لا يتركون له ذنبا إلا محي عنه كما يمحى النهار والليل.
فإن قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأصغر والأكبر، فهذا غير مُصر على ذنب أصلا، فيغفر له، ويحرم على النار.
وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة، فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه.
وهذا خلاف من رجحت سيئاته على حسناته، ومات على ذلك، فإنه يستوجب النار.
وإن كان قال: لا إله إلا الله، وخلص بها من الشرك الأكبر، لكنه لم يمت على ذلك، بل قالها وأتى بعدها بسيئات رجحت على هذه الحسنات، فإنه في حال قوله لها مخلصا مستيقنا بها قلبه تكون حسناته راجحة، ولا يكون مصرا على سيئة، فإن مات قبل ذلك دخل الجنة.
ولكن بعد ذلك قد يأتي بسيئات راجحة، ولا يقولها بالإخلاص واليقين المانع من جميع السيئات، ومن الشرك الأكبر والأصغر، بل يبقى معه الشرك الأصغر، ويأتي بعد ذلك بسيئات تنضم إلى ذلك الشرك، فترجح سيئاته، فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف بسبب ذلك قول: لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص في القلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي، أو النائم، أو من يحسن صوته بآية من القرآن يختبر بها، من غير ذوق طعم ولا حلاوة، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل قد يأتون بعدها بسيئات تنقص ذلك الصدق واليقين الضعيف، وقد يقولونها من غير يقين وصدق تام، ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة.
فالذي قالها بيقين وصدق تام: إما أن لا يكون مصرا على سيئة أصلا، أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته.
والذين دخلوا النار قد فات فيهم أحد الشرطين:
إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام النافي للسيئات، أو لرجحانها على الحسنات.
أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، فيضعف لذلك صدقهم، ويقينهم، فلم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين يمحو سيئاتهم أو يرجح حسناتهم" (229) .
وقال رحمه الله: "وكذلك ما ورد من نصوص الوعيد المطلقة، كقوله تعالى: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء: 30]، فهو مبين ومفسر بما في الكتاب والسنة من النصوص المبينة لذلك المقيدة له، وكذلك ما ورد من نصوص الوعد المطلقة.
وكذلك بين أن الحسنات تمحو السيئات، والخطايا تكفر بالمصائب وغيرها من العمل الصالح وغيره، كالدعاء له، والصدقة عنه، والصيام، والحج له.
فقوله: ((لا يدخل النار من في قلبه مقال ذرة من إيمان)) (230) نفى به الدخول المطلق الذي توعد به في القرآن توعداً مطلقا، وهو دخول الخلود فيها، وأنه لا يخرج منها بشفاعة ولا غيرها،...،
وكذلك قوله: ((لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)) (231) . نفى الدخول المطلق المعروف، وهو دخول المؤمنين الذين أعدت لهم الجنة" (232) .
ويقول: "وهذا كما أن نصوص الوعيد عامة في أكل أموال اليتامى، والزنى، والسارق، فلا نشهد بها على معين بأنه من أصحاب النار، لجواز تخلف المتقضى عن المتقضى لمعارض راجح، إما بتوبة، وإما حسنات ماحية، وإما مصائب مكفرة، وإما شفاعة مقبولة، وإما غير ذلك" (233) .
وقال: "فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد، والتكفير والتفسيق والتكفير، ولا نحكم لمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له"

محمدعبداللطيف
2018-10-21, 12:15 AM
وملخص هذا الجواب -أن نصوص الوعيد نصوص مطلقة عامة، وجاءت نصوص فسرتها وقيدتها، وبينت أن لحوقها بالمعين لابد فيه من توفر شروط وانتفاء موانع في حقه، فالوعيد سبب متقض للعذاب، والسبب يتوقف تأثيره على وجود شروطه وانتفاء مانعه.
ومن أسباب زوال الوعيد: التوبة، والاستغفار، والحسنات الماحية، والدعاء، والأعمال الصالحة، والشفاعة، والمصائب، وما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة، وأهوال يوم القيامة، ورحمة الله تعالى وعفوه ومغفرته، فكل وعيد، فإنه قد يدفع بأحد هذه الأسباب (235) .
وكذلك نصوص الوعد نصوص مطلقة عامة، وجاءت نصوص بينتها وفسرتها وقيدتها بقيوم ثقال، كالإخلاص، واليقين، والموت عليها، وجاءت مشروطة بانتفاء الموانع من دخول الجنة، وأعظمها أن يموت كافرا الكفر المحبط - والعياذ بالله -، أو أن تكثر ذنوبه وترجح على حسناته، أو أن يعقب العمل ما يبطله، كالمن والأذى (236) .
الوجه الثاني: نقض استدلال المرجئة بنصوص الوعد.
فبعد أن تحررت القاعدة الشرعية في نصوص الوعد والوعيد المتقدم ذكرها لاح للناظر أن كل ما احتج به المرجئة من المعلومات الواقعة في نصوص الوعد، فإنه يندرج تحتها.
فصاحب البطاقة قال كلمة التوحيد على وجه خلص به من الشرك الأكبر، دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، وفيرجح بها ميزان الحسنات، فيحرم صاحبها على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه (237) .
وهذه حال من قال كلمة التوحيد بإخلاص وصدق، كما قالها صاحب البطاقة، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم، كما ترجح قول صاحب البطاقة (238) .
فالعبد قد يأتي بالحسنة بنية وصدق وإخلاص تكون أعظم من أضعافها، كما في حديث صاحب البطاقة (239) .
وشهادة أن لا إله إلا الله بصدق ويقين تذهب الشرك كله، دقه وجله، خطأه وعمده، أوله وآخره، سره وعلانيته، وتأتي على جميع صفاته وخفاياه ودقائقه (240) .
وأما الذين ذكروا في حديث حذيفة فقد لحقهم مانع المؤاخذة، فإنه كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "كثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به ورسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرا مما يبعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره، حتى يعرف ما جاء به الرسول، ولهذا جاء في الحديث: ((يأتي على الناس زمان، لا يعرفون فيه صلاة، ولا زكاة)) (241) ،" (242) ، وذكر تمام حديث حذيفة.
وقال أيضا رحمه الله: "وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه، كما في الحديث المعروف: ((يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة، ولا صياما)) (243) " (244) ، وذكر تمام الحديث.
فالمذكورين في حديث حذيفة صنف من الناس انتفى في حقهم شرط البلاغ، فلم تقم عليهم الحجة، وبالتالي سقطت عنهم بعض الواجبات، "ومن ترك بعض الإيمان الواجب؛ لعجزه عنه، إما لعدم تمكنه من العلم، مثل أن لا تبلغه الرسالة، أو لعدم تمكنه من العمل، لم يكن مأمور بما يعجز عنه، ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقه، وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل" (245) .
وبخصوص حديث الجارية، فليس فيه ما توهمته المرجئة من أنه ينافي حديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) (1)؛ لأن من نفي عنه الإيمان؛ فذلك لانتفاء بعض ما يجب عليه من ترك هذه الكبائر، والجارية لم تترك واجبا تستحق بتركه أن تكون هكذا (246) .
وهذا الحديث يعد من حجج المرجئة المشهورة (247) ، ومع دخوله في القاعدة السابقة، ................... قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((مؤمنة)) ، معناه كما قال الإمام أحمد: "قد قال بعضهم بأنها مؤمنة، فهي حين تقر بذاك، فحكمها حكم المؤمنة، هذا معناه".
وقد قرر شيخ الإسلام هذا الجواب، وبين أن كونها مؤمنة يراد به "أن حكمها في الدنيا حكم المؤمنة، لم يرد أنها مؤمنة عند الله تستحق دخول الجنة بلا نار إذا لقيته بمجرد هذا الإقرار" (250) .
وهذا راجع إلى أن "قبول الإسلام الظاهر يجرى على صاحبه أحكام الإسلام الظاهرة، مثل عصمة الدم، والمال، والمناكحة، والموارثة، ونحو ذلك.
وهذا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر، وإن لم يعلم ما في باطن الإنسان، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((فإذا قالوها عصموا منى دماءهم، وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله)) (1)، وقال: ((إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أن أشق بطونهم)) (1)،...،
وأما الإيمان الباطن الذي ينجي من عذاب الله في الآخرة، فلا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر، بل قد يكون الرجل مع إسلامه الظاهر منافقا، وقد كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منافقون، وقد ذكرهم الله تعالى في القرآن في غير موضع،...، والمنافق عمله حابط لا يتقبله الله" (251) .
ويقول شيخ الإسلام: "وأما احتجاجهم بقوله للأمة: ((اعتقها، فإنها مؤمنة))، فهو من حجج المرجئة المشهورة،...،
وهذا لا حجة فيه؛ لأن الإيمان الظاهر الذي تجرى عليه الأحكام في الدنيا، لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة.
فإن المنافقين: الذين قالوا: آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8]، وهم في الظاهر مؤمنون، يصلون مع الناس، ويصومون، ويحجون، ويغزون، والمسلمون يناكحونهم، ويوارثونهم، كما كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر، لا في مناكحتهم، ولا موارثتهم، ولا نحو ذلك، بل لما مات عبدالله بن أبي بن سلول، وهو من أشهر الناس بالنفاق ورثه ابنه عبدالله، وهو من خيار المؤمنين، وكذلك سائر من كان يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون، وإذا مات لأحدهم وارث ورثوه مع المسلمين"، ثم قال:
"وكان النبي صلى الله عليه وسلم أولا يصلي عليهم، ويستغفر لهم، حتى نهاه الله عن ذلك، فقال: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ [التوبة: 84]، وقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ [التوبة: 80]، ولكن دماؤهم معصومة لا يستحل منهم ما يستحله من الكفار الذين لا يظهرون أنهم مؤمنون، بل يظهرون الكفر دون الإيمان"، ثم قال:
"فكان صلى الله عليه وسلم حكمه في دمائهم وأموالهم، كحكمه في دماء غيرهم، لا يستحل منها شيئا إلا بأمر ظاهر، مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم، وفيهم من لم يكن يعلم نفاقه"، ثم قال:
"والله تعالى لما أمر في الكفارة بعتق رقبة مؤمنة لم يكن على الناس أن لا يعتقوا إلا من يعلموا أن الإيمان في قلبه، فإن هذا كما لو قيل لهم اقتلوا إلا من علمتم أن الإيمان في قلبه، وهم لا يؤمروا أن ينقبوا عن قلوب الناس ولا يشقوا بطونهم، فإذا رأوا رجلا يظهر الإيمان جاز لهم عتقه.
وصاحب الجارية لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل هي مؤمنة؟ إنما أراد الإيمان الظاهر الذي يفرق به بين المسلم والكافر".
ثم قال شيخ الإسلام:
"والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن تلك الأمة بالإيمان الظاهر الذي علقت به الأحكام الظاهرة، وإلا فقد ثبت عنه أن سعدا لما شهد لرجل أنه مؤمن قال: ((أو مسلم)) (252) ، وكان يظهر من الإيمان ما تظهره الجارية وزيادة.
فيجب أن يفرق بين أحكام المؤمنين الظاهرة التي يحكم فيها الناس في الدنيا، وبين حكمهم في الآخرة بالثواب والعقاب"، ثم قال:
"وكذلك المنافقون الذين لم يظهروا نفاقهم يصلى عليهم إذا ماتوا، ويدفنون في مقابر المسلمين من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والمقبرة التي كانت للمسلمين في حياته وحياة خلفائه وأصحابه يدفن فيها كل من أظهر الإيمان، وإن كان منافقا في الباطن، ولم يكن للمنافقين مقبرة يتميزون بها عن المسلمين في شيء من ديار الإسلام، كما تكون لليهود والنصارى مقبرة يتميزون بها.
ومن دفن في مقابر المسلمين صلى عليه المسلمون، والصلاة لا تجوز على من علم نفاقه بنص القرآن، فعلم أن ذلك بناء على الإيمان الظاهر، والله يتولى السرائر" (253) .
فخلاصة هذا الجواب أن المراد بالإيمان في حديث الجارية الإيمان الظاهر الذي تجري على صاحبه الأحكام في الدنيا، فإن هذا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر، وإن لم يعلم ما في الباطن.

محمدعبداللطيف
2018-10-21, 12:31 AM
وبهذا إيجاب عن احتجاج المرجئة بآية الممتحنة، فإن الله تعالى أمر بامتحانهن، وقال: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [الممتحنة: 10]، ولو كان ذلك إيمانا حقيقيا لما قال ذلك (254) .
وكذلك يجاب عن احتجاجهم بإجماع المسلمين على أن الكافر إذا أراد أن يسلم يكتفي منه بالإقرار بالشهادتين.
فالكافر إنما يجتزأ منه بذلك؛ لإجراء أحكام الإسلام عليه، فإن صاحب الشرع جعل ذلك إمارة لإجراء الأحكام (255) .
الوجه الثالث: بيان التفسير الصحيح لنفي الإيمان في نصوص الوعيد.
فإن الناس اضطربوا في المراد بالنفي في تلك النصوص، وقد قرر شيخ الإسلام في معرض كلامه على حديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) (1). أن عامة السلف يقرون هذه الأحاديث، ويمرونها كما جاءت، ويكرهون أن تتأول تأويلات تخرجها عن مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم (256) .
يقول شيخ الإسلام: "والذي عليه جماهير السلف، وأهل الحديث، وغيرهم: أن نفي الإيمان في هذه النصوص؛ لانتفاء بعض الواجبات فيه، والشارع دائما لا ينفي المسمى الشرعي إلا لانتفاء واجب فيه" (257) .
ويقول: "وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((من غشنا فليس منا، ومن حمل علينا السلاح فليس منا)) (258) كله من هذا الباب، لا يقوله إلا لمن ترك ما أوجب الله، أو فعل ما حرمه الله ورسوله، فيكون قد ترك من الإيمان المفروض عليه من ينفي عنه الاسم لأجله، فلا يكون من المؤمنين المستحقين للوعد، السالمين من الوعيد" (259) .
فالمسلم إذا أتى الفاحشة، وإن كان كمال الإيمان الواجب قد زال عنه، فإن أصل الإيمان معه، إذ معه أصل الاعتقاد أن الله حرم ذلك الفعل،[مهم جدا] ومعه خشية عقاب الله، ورجاء رحمته، وإيمانه بأن الله يغفر الذنب (260) ، فهو يعتقد تحريم الفواحش التي يفعلها؛ ولذا صار من المسلمين (261) .
وفاعل الكبيرة لم يفعلها إلا لحب في نفسه لذلك الفعل، وإلا فلو قام بقلبه خشية الله التي تقهر الشهوة، أو حب الله الذي يغلبها، لما فعل المعصية، ومن كان مخلصا لله حق الإخلاص لم يعص، وإنما يعص؛ لخلوه عن ذلك، وهذا هو الإيمان الذي ينزع منه، فهو لم يقم بقلبه كمال الأحوال الواجبة في الإيمان، وإنما معه شيء من حب الله وخشيته مع التصديق، وإلا فالتصديق الذي لا يكون معه شيء من ذلك ليس إيمانا البتة، بل هو كتصديق فرعون واليهود وإبليس (262) .
ولو كان هذا العاصي اعتقاده بقبح ذلك الفعل اعتقادا تاما لم يفعله بحال، لكنه معه أصل الإيمان، وفعله هذا لا يزين له من كل وجه، بل يستحسته من وجه، ويبغضه من وجه، ولكنه حين فعله يغلب تزيين الفعل (263) .
هذا هو الوجه الحق في فقه نصوص الوعيد وحال العصاة، ولا تحتاج إلى تأويلها بما وصفه شيخ الإسلام رحمه الله بالتأويلات المستكرهة (264) ، وذكر أمثلة عليها، ومنها:
1- أن معنى نفي الإيمان، أي ليس مثلنا، أو ليس من خيارنا.
وقد رد عليهم السلف بأن من عمل أعمال البر كلها أيكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأن من لم يعمل هذه المعاصي أيكون من خيار المؤمنين بمجرد هذا (265) ؟.
ويقول شيخ الإسلام: "لا يجوز أن يقال فيه - يعني في معنى هذه النصوص -: ليس من خيارنا، كما تقوله المرجئة، أو أنه صار من غير المسلمين كما تقوله الخوارج والمعتزلة.
بل الصواب أن هذا الاسم المضمر ينصرف إطلاقه إلى المؤمنين الإيمان الواجب الذي به يستحقون الثواب بلا عقاب، ولهم الموالاة المطلقة والمحبة المطلقة، وإن كان لبعضهم درجات في ذلك بما فعله من المستحب" (266) .
2- تأويل نفي الإيمان بأن معناه نفي كماله وتمامه، أو شرائعه وثمراته (267) .
فلفظ الكمال قد يراد به الكمال الواجب، وقد يراد به الكمال المستحب (268) ، "فمن قال إن المنفي هو الكمال:
إن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه، ويتعرض للعقوبة، فقد صدق.
وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع في كلام الله تعالى ورسوله" (269) .
3- تأويلها بأن اللفظ لفظ الخبر، ومعناه النهي، أي: ينبغي للمؤمن ألا يفعل ذلك، أو أن المقصود به الوعيد والزجر دون حقيقة النفي (270) .
ذكر شيخ الإسلام أن هذا كله مشابه لقول من قال إن المراد هو الزجر والتخويف فحسب، وليس لذلك حقيقة، وهذا من تأويل المرجئة (271) ، وهو شبيه بأقوال الملاحدة والمتفلسفة والقرامطة (272) .
وأما الاحتجاج على هذا التأويل بقوله تعالى: ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ [الزمر: 16]، فكما قال شيخ الإسلام قد يحتج بهذا بعض الجهال (273) ، وفي رده يقول رحمه الله:
"الآيات التي خوف الله بها عباده تكون سببا في شر ينزل بالناس، فمن اتقى الله بفعل ما أمر الله به، وقي ذلك الشر، ولو كان مما لا حقيقة له أصلا لم يخف أحد إذا علم أنه لا شر في الباطن، وإنما يبقى التخويف للجاهل القدم، كما يفزع الصبيان بالخيال، وقد قال تعالى: ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر: 16] فخوف العباد مطلقا، وأمرهم بتقواه؛ لئلا ينزل المخوف، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، والإنذار هو الإعلام بما يخاف منه، وقد وجدت المخوفات في الدنيا، وعاقب الله على الذنوب أمما كثيرة، كما قصه في كتابه، وكما شوهد من الآيات، وأخبر عند دخول أهل النار النار في غير موضع من القرآن.
وقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [فاطر: 28]، ولو كان الأمر كما يتوهمه الجاهل، لكان إنما يخشاه من عباده الجهال الذين يتخيلون ما لا حقيقة له" (274) .
4- القول بأن نفي الإيمان في هذه النصوص؛ لكون من نفى عنه الإيمان لم يكن من خواص المسلمين وأفاضالهم (275) .
وهذا أيضا لا يصح، "فإن هذا لو كان كذلك لكان ينفي الإيمان المطلق عن الأبرار المتقصدين المتقين الموعودين بالجنة بلا عذاب إذا كانوا من أصحاب اليمين، ولم يكونوا من السابقين والمقربين، وليس الأمر كذلك، بل كل من أصحاب اليمين مع السابقين المقربين كلهم مؤمنون موعودون بالجنة بلا عذاب، وكل من كان كذلك فهو مؤمن باتفاق المسلمين من أهل السنة وأهل البدع.
ولو جاز أن ينفى الإيمان عن شخص لكون غيره أفضل منه إيمانا نفي الإيمان عن أكثر أولياء الله المتقين، بل وعن كثير من الأنبياء، وهذا في غاية الفساد، وهذا من جنس قول من يقول نفي الاسم لنفي كماله المتسحب" (276) .
وإن أراد صاحب هذا القول أنه ليس من خواصهم، بمعنى أن إيمانه ليس كإيمان من حقق خاصة الإيمان، سواء كان من الأبرار أو من المقربين، فيكون من نفي عنه الإيمان ليس كالأبرار ولا المقربين.
فيقال إن هذا أيضا لا ينفي عنه الإيمان، فيقال هو مسلم لا مؤمن؛ لأن من نفي عنه الإيمان، فلابد أن يكون ترك واجبا، أو فعل محظورا، وكثير من الناس ليسوا ممن تحقق بحقائق الإيمان التي فضل الله بها غيرهم، ولا تركوا واجبا عليهم، وإن كان واجبا على غيرهم، كمن آتاه الله سكينة ويقينا وثباتا في قلبه، فيفضل به على كثير من الخلق، فمن لم يؤت ذلك ليس عنده من الإيمان كما عند من أوتيه، ومع هذا لا يعرف في كلام صاحب الشرع نفي الإيمان عمن كانت هذه حاله، ولم يعرف في كلامه إلا أن نفي الإيمان يقتضي الذم حيث كان، فلا ينفى إلا عمن له ذنب (277) .
وكذلك، فإن كثيرا من المسلمين باطنا وظاهرا، ومعه تصديق مجمل، ولكنه لم يتصف بالإيمان المفصل الذي بينه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم (278) ، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15]، وقوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2].
5- القول بأن إخلاف الوعيد جائز، والاحتجاج عليه ببيت كعب، كما تقدم نقله.
وهذا عند شيخ الإسلام تأويل ضعيف، يقول رحمه الله: "هذه الآية - يعني قوله تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [ق: 29] - تضعف من يقول: إن إخلاف الوعيد جائز، فإن قوله يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ بعد قوله وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ دليل على أن وعيده لا يبدل، كما لا يبدل وعده"----------------------[ موسوعة الفرق]

محمدعبداللطيف
2018-10-21, 12:51 AM
ارجو بيان ذلك؟!!!

بارك الله فيك اختنا الفاضلة وفى بصيرتك--هذا خطأ مطبعى- والصواب -إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب، فكلما ازداد العبد إيمانًا ازداد القلب بياضًا، حتى إذا استكمل الإيمان ابيض القلب كله.وإن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب، فكلما ازداد العبد نفاقا ازداد القلب سوادا، حتى إذا استكمل العبد النفاق اسود القلب. وآيم الله لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب الكافر لوجدتموه أسود)----

محمدعبداللطيف
2018-10-21, 12:11 PM
أحسنت وأجدت في اختيارك للموضوع، وفي نشره على أجزاء متتالية ليسهل المتابعة والاستفادة، بارك الله فيك.بارك الله فيك أخى الفاضل أبو البراء محمد علاوة

أم علي طويلبة علم
2018-10-21, 12:30 PM
جزاكم الله خيرا

أبو البراء محمد علاوة
2018-10-21, 04:13 PM
بارك الله فيك أخى الفاضل أبو البراء محمد علاوة

وفيكم بارك الله، آمين

الطيبوني
2018-12-07, 09:11 PM
ولو قدر أنه أريد بلفظ الإيمان مجرد التصديق، فلم يقع ذلك إلا مع قرينة، فيلزم أن يكون مجازا، وهذا معلوم بالضرورة لا يمكننا المنازعة فيه بعد تدبر القرآن والحديث .



هل شيخ الاسلام يقر ان الايمان جاء في بعض النصوص يراد به مجرد التصديق ؟

محمدعبداللطيف
2018-12-07, 09:59 PM
هل شيخ الاسلام يقر ان الايمان جاء في بعض النصوص يراد به مجرد التصديق ؟ بارك الله فيك اخى الكريم الطيبونى كلام شيخ الاسلام من باب التنزل مع مرجئة الفقهاء لذلك قال شيخ الاسلام بعدها-
ثم "لو سلمنا للخصم وقوله فى الجملة التى نقلتها اخى الكريم
فلو قدر انه اريد هذا كله من التنزل فى باب الحجاج---وكما سبق فى كلام شيخ الاسلام شيخ الاسلام
وهو لو صح وجود المجاز، فما الحقيقة والمجاز في لفظ الإيمان؟
هل الحقيقة هي دخول العمل فيه، والمجاز خروجها منه، أو العكس (40) ؟
وقد حرر شيخ الإسلام هذا الجواب في ثلاثة وجوه:
أولا: قال شيخ الإسلام مخاطبا المرجئة: "إن صح - يعني وجود الحقيقة والمجاز - فهذا لا ينفعكم، بل هو عليكم لا لكم.
لأن الحقيقة هي اللفظ الذي يدل بإطلاقه بلا قرينة، والمجاز إنما يدل بقرينة.
وقد تبين أن لف
الإيمان حيث أطلق في الكتاب والسنة دخلت فيه الأعمال، وإنما يدعى خروجها منه عند التقييد.
وهذا يدل على أن الحقيقة قوله: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة)) (41) .
وأما حديث جبريل فإن كان أراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام، فهو كذلك، وهذا هو المعنى الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم قطعا، كما أنه لما ذكر الإحسان أراد الإحسان مع الإيمان والإسلام ولم يرد أن الإحسان مجرد عن إيمان وإسلام.
ولو قدر أنه أريد بلفظ الإيمان مجرد التصديق، فلم يقع ذلك إلا مع قرينة، فيلزم أن يكون مجازا، وهذا معلوم بالضرورة لا يمكننا المنازعة فيه بعد تدبر القرآن والحديث" (42) .
ثانيا: يقال بأن القول بأن الأعمال تدخل في الإيمان من باب المجاز، كالقول بأن الأسماء الشرعية، كالصلاة والحج، على معناها اللغوي، وأن ما زاده الشارع إنما هو زيادة في الحكم وشرط فيه لا داخل في الاسم، كمال قال ذلك القاضي الباقلاني، والقاضي أبو يعلى (43) ، على أن الشرع زاد أحكاما شرعية جعلها شروطا في القصد والأعمال والدعاء، ليست داخلة في مسمى الحج والصيام والصلاة.
وهذا القول مرجوح عند الفقهاء، وجماهير المنسوبين إلى العلم، ولهذا كان الجمهور من أصحاب الأئمة الأربعة على خلاف هذا القول.
فإذا قال قائل: إن اسم الإيمان إنما يتناول مجرد ما هو تصديق، وأما كونه تصديقا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكون ذلك مستلزما لحب الله ورسوله ونحو ذلك هو شرط في الحكم لا داخل في الاسم - إن لم يكن أضعف من ذلك القول، فليس دونه في الضعف.
وكذلك من قال إن الأعمال الظاهرة لوازم للباطن، لا تدخل في الاسم عند الإطلاق يشبه قوله قول هؤلاء (44) .
ثم "لو سلمنا للخصم كون هذه الألفاظ من الصلاة والحج ونحوها منقولة، أو محمولة على وجه من المجاز بدليل مقطوع به، فعليه إقامة الدليل على وجود ذلك في الإيمان" (45) .
ثالثا: يقال "لمن قال دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز: نزاعك لفظي.
فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته، كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم، فيلزم من عدم الظاهر عدم الباطن.
فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا.
وإن قلت ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه، من أنه قد يستقر الإيمان التام الواجب مع إظهار ما هو كفر، وترك جميع الواجبات الظاهرة.
قيل لك: فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له، وموجب له"

الطيبوني
2018-12-07, 10:33 PM
نعم يلزم ان يكون مجازا على قولهم هم

لكن قوله بعد ذلك
( وهذا معلوم بالضرورة لا يمكننا المنازعة فيه بعد تدبر القرآن والحديث )

فذهب ذهني الى مثل قوله تعالى

( فلا يؤمنون الا قليلا )
( و ما يؤمن اكثرهم بالله الا و هم مشركون )
( فقليلا ما يؤمنون )

فقلت لعله لا ينازع في ورود الايمان بمعنى التصديق في بعض الايات و لا يكون ذلك الا محفوفا بالقرائن

نبيل عبد الحميد العريفي
2018-12-07, 10:34 PM
شكرا .
.
#إضافة !
المعلوم من هذا كله تحقيق قول أهل السنة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد -وهو الأعتقاد أي النية- هذا هو الإيمان عند أهل السنة قاطبة أي تعريفه لا مذهبهم ؟ فتنبهوا لهذا.
.
يقول شيخ الإسلام ما معناه : "من يقول بحصول الإيمان الواجب -المرتبة الإيمان التي بعد الإسلام -الإسلام التلفظ بكلمة الشهادة- من دون فعل الواجبات ! سواء يرى لزومها أو شيئا منها فهو مخالف خلافا لفظيا وهي وإن كان لا يرى بدعة المرجئة هي بدعة المرجئة التي أنكرها السلف الصالح".
.
النية : النية الاعتقاد ؟ وقد يذهب بعضهم إلى القول بالنية التي في الأحاكم ؟ فتلك نية واجب حصول حكمها ليتم القصد بقول الصحة ؟ لانها نية مشروطها على عدم تركها حتى يكتمل العمل الذي هو فيه سواء الطهارة وسواء الصلاة وسواء عقد اليقين لعمل الفرائض الواجبات.
.
لم يختلفوا في مسمى النية في الأحكام.
ولكن اختلفوا في نية القلب في الاعتقاد لمن ترك الصلوة والفرائض مع علمه بفرضها من عند الله تبارك وتعالى ؟ وهؤلاء على ضربين :_
ضرب عصاة لم يخرجوا من مسمى الإسلام ومنه الإيمان بالله وتوحيده تبارك وتعالى.
وضرب زنادقة ؟ كما قال شيخ الإسلام وهو مدار البحث عند العماء قاطبة "من الممتنع حصول الإيمان عند من علم فرض الله عليه التكليف ثم لم يأتي بهذا التكليف ! لأن هذا من مسمى الزندقة والنفاق".
.
قلت "نبيل" : هذا هو محل الخصام سواء من قال بأن العمل شرط كمال في الإيمان أو قال العمل شرط صحة في الإيمان ؟
لأن من قال شرط كمال فهو على حرورية.
ومن قال شرط صحة ؟ فهو بين أهل السنة وبين الخوارج والمرجئة لأنهم هنا يبحثون في مناط أثار العمل لا أحكامه كالنية ؟ لأن النية تأتي قبل العمل واعتقادا لا حسا يراه غير المعين هنا ؟
وهو ما خاض فيه الكثيرين في مسمى مذاهب أهل السنة في تارك الصلاة -وهو محل بوابة لبقية الأعمال بالخوض فيها- فتارك الصلاة محل بيان ؟ وضبطه بالمعلوم بالضرورة زمانا ومكانا حتى لا يتهم بلد عن بلد وقوم عن قوم وتحصل الفتنة كما عند أهل الجهل والتخلف.
فالجاهل هناك متخلف عنه ليس بجاهل ولكنه لا يعلم شيئا.
سواء رفضوا هذا القول أو أباحوه وأجازوه ؟ يبقى هو السبيل الصحيح والصراط المستقيم.
النية كونها اساس العمل فهي عند بلد كالبلد الحرام لا تنقع فيه أصول الدين وعلومها ولو تخلفت شيئا ؟ كما في بلد ميت لا يدرك أهله معنى مفهوم الإسلام ؟ أو كان بلدا فيه الإختلاف بين المذاهب والعقائد ما لا يخفى كبلاد فارس -إيران الروافض اليوم- .
.
أنت هنا في بلد الغرب ؟ ولديك مثلا ابن باز والألباني في مسمى تارك الصلاة الذي هو محل نزاع هؤلاء في الإرجاء ؟
وحجتك مثلا قول الشافعي في كتابه الرسالة "الإيمان قول وعمل ونية" وهو مذهب الصحابة والتابعين وأئمة الدين من بعدهم.
من تختار ؟ قد تختار أقربهم مصلحة من هاته المصلحتان ولا مفسدة ؟ لأن المفسدة ليس لديهم مفسدة إلا عند مخالف ؟
.
فيكون تارك الصلاة عند مذهب بن باز مذهب اهل الحجاز هو كافر كفر ملة لا كفر معصية كما في بلد آخر الجهل فيه يسود.
.
ويلاحظون هنا الواجب في الصلاة لأن تركها محذور يجعل تاركها محل السحر والردة والشرك الأكبر الجحود ؟ لأن النية شرط العمل أساسه.
.
فتكتمل الحصيلة فيتكون لديه "الإيمان قول وعمل واعتقاد -النية- ويزيد وينقص ؟ يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي".
أما في غيره فلا يمكن حصول ذلك إلا بمجرد الإعتفقاد الصحيح وهو قول وعمل ونية كما قال الشافعي عن هؤلاء في مسمى الإيمان تعريفا لا مذهبا والذي يأتي تبعا ليتم شرطه كله هو مذهبهم جزما لا ظنا كما في هؤلاء المبتدءون والإيمان.
كما قال شيخ الإسلام مراتب الإيمان تأتي تبعا.
وقال الهيثمي لا يتم واحد منها إلا بالآخر وهو قول غير واحد من أهل السنة.
ومراتب الإيمان هي "قول وعمل ونية" .
ومذهب أهل السنة في الإيمان -لا تعريفه فقط كما في كلمة الشهادة- هو قول وعمل واعتقاد -نية- ويزيد وينقص ، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي.
.
قلت "نبيل" : هناك من يرد لفظ "يزيد وينقص ، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي" ! مكرر !!! والصواب ليس بمكرر ولكنه جمع لمذهب أهل السنة بتمامه عند حصول ذكر مذاهب الخوارج والمرجئة.
وكل أئمة الدين يقولون به ويكتفون بتعريفه كونه محل بيان لا محل أحكام كما في القضايا بلزوم المذهب ؛ مذهب أهل السنة.
فكل حوار مع مخالف لهم يوجد هذا الشرط التام في بيان مذهب أهل السنة لا التعريف فقط فهو محل كلمة الشهادة وعموم الإسلام لا المراتب عند البحث.
فلا يمكن جعل العموم هو الخصوص وجعل المراتب هي الأحكام دون وجود قضية تتطلب المدافعة عن حقيقة توحيد الله تبارك وتعالى.
لا يمكن هذا التوفر في اختلاف المعان في مسمى الإيمان.
لهذا يبقى مذهبنا بفضل الله هو المسيطر وعلماءنا وفقهم الله ورحم أمواتهم نصحوا وتعاهدوا المسلمين ولم يبقوا شيئا إلا وبينوه.
.
هذا هو معنى "النية" لمن تخبط فيها ولم يفهم مسمى "النية" وكيفية تكييف هذه اللفظ.
.
كتب : نبيل العريفي

محمدعبداللطيف
2018-12-07, 11:49 PM
لهذا يبقى مذهبنا بفضل الله هو المسيطر وعلماءنا وفقهم الله ورحم أمواتهم نصحوا وتعاهدوا المسلمين ولم يبقوا شيئا إلا وبينوه.
.
هذا هو معنى"النية" لمن تخبط فيها ولم يفهم مسمى "النية" وكيفية تكييف هذه اللفظ.
.
كتب : نبيل العريفينعم هذا المذهب مسيطر بلا شك - وقد ذهب حديثا فى نقد حجج المرجئة
هذا هو معنى"النية" لمن تخبط فيها"النية" قول القلب - فهل عندك اخى الكريم نبيل العريفي جواب لذلك؟ما دام مذهبكم هو المسيطر وعلمائكم لم يبقوا شيئا إلا وبينوه

يقول شيخ الإسلام ما معناه-الإسلام التلفظ بكلمة الشهادة- من دون فعل الواجبات ! سواء يرى لزومها أو شيئا منها فهو مخالف خلافا لفظيا وهي وإن كان لا يرى بدعة المرجئة هي بدعة المرجئة التي أنكرها السلف الصالح".هل يمكنك ان تنقل كلام شيخ الاسلام بلفظه وليس بمعناه لانى اظن انك صرفت كلام شيخ الاسلام عن معناه ليخدم ما تعنيه انت وليس ما يعنيه شيخ الاسلام
لأن النية شرط العمل أساسه.
.
فتكتمل الحصيلة فيتكون لديه "الإيمان قول وعمل واعتقاد -النية- ........
أما في غيره فلا يمكن حصول ذلك إلا بمجرد الإعتقاد الصحيح وهو قول وعمل ونية كما قال الشافعي عن هؤلاء في مسمى الإيمان تعريفا لا مذهبا والذي يأتي تبعا ليتم شرطه كله هو مذهبهم جزما لا ظنا كما في هؤلاء المبتدءون والإيمان.
كما قال شيخ الإسلام مراتب الإيمان تأتي تبعاماذا تقصد اخى الكريم بمراتب الايمان وما معنى تأتى تبعا