ابو وليد البحيرى
2018-10-12, 07:23 PM
الإجهاض دراسة فقهية مقاصدية
د/ فريدة صادق زوزو
توطئة :
من القضايا التي برزت بقوة على الساحة في المجتمعات الإسلامية في السنوات الأخيرة دعاوى الجمعيات النسوية العالمية منها، والمحلية، والتي تدعو إلى إباحة الإجهاض، خاصة إجهاض الحمل الناتج من زنا محارم أو اغتصاب، وبالأخص الفتيات والنساء المغتصبات أثناء الحروب. ومنه بدأ الفقهاء يبحثون في المسألة من جانبها الفقهي، معتمدين في ذلك على الدراسات الطبية التي تركزت حول ماهية الجنين والمراحل التي يمر بها، ثم الاستفادة من خبراتهم في مجال مخاطر وسلبيات الإجهاض عموما، بطريقة مفصلة، شأنها شأن الكثير من النوازل.
ورغم أن الموضوع طرح عند الفقهاء القدامى في أبواب الديات والغرة، والجنايات كما سيأتي ذكره في الحديث عن انفصال الجنين عن أمه بسبب ضربها عمدا من غير قصد التعدي على الجنين، أو بسبب التعدي عليه، إلا أنه في العصر الحديث برزت مسألة الجنين الناتج عن حمل سفاح، أو من اغتصاب، أومن زنا محارم، ومن التعدي الجنسي على الفتيات والنساء أثناء الحروب، وغيرها.
وسيركز البحث تفصيلات الموضوع بالنظر في آراء الفقهاء، والترجيح بينها معتمدا في ذلك على النظر المقاصدي؛ وذلك لأهمية هذا المبدأ عند الاجتهاد في القضايا الجديدة والمستجدات والنوازل.
فإذا كانت مقاصد الشريعة جزءً مهماً في النظر الاجتهادي، فإن الأمر نفسه بالنسبة لسلامة تطبيق الأحكام الشرعية على الواقع ، وقد أخذت لذلك مثالا في موضوع" الإجهاض" الذي تتباين فيه الرؤى بين مؤيد ومعارض، والقول الفصل في المسألة سيكون لمقاصد الشريعة كما سيتبين في نهاية البحث.
ومن أجل دراسة الموضوع دراسة مفصلة ودقيقة، فإني سأتبع الخطة الآتية:
المبحث الأول: أهمية المقاصد في النظر الاجتهادي.
المبحث الثاني :تعريف الجنين ومراحل تكونه داخل الرحم.
المبحث الثالث: تعريف الإجهاض وأقسامه عند الفقهاء والأطباء.
المبحث الرابع: آراء فقهاء المذاهب الأربعة في حكم الإجهاض.
المبحث الخامس: آراء الفقهاء المعاصرين والأطباء في حكم الإجهاض.
المبحث السادس: مسوغات إباحة الإجهاض وحكم إجهاض الجنين المشوه أوالناتج عن الاغتصاب أو زنا المحارم.
المبحث الأول: أهمية المقاصد في النظر الاجتهادي.
المبحث السابع: الحكم العام للإجهاض في المنظور المقاصدي.
أولا: مفهوم دراسة مقاصدية
الدراسة المقاصدية في هذا البحث تؤخذ بمعنى اعتماد مقاصد الشريعة إطاراً يدرس ضمنه الموضوع، وذلك من خلال النظر إلى الإجهاض بوصفه وسيلة مستحدثة للحفاظ على النسل على أساس أنه كلية من كليات الشريعة الضرورية كما هو معروف في علم مقاصد الشريعة.
ومعنى هذا التوسل من خلال المقاصد إلى ربط الأحكام بغاياتها المصلحية التي يقصدها كل دليل.
والسبيل إلى تحقيق ذلك يكون عبر استخدام مجموعة من المفاهيم الكلية التي لا يستغنى عنها في البحث الفقهي، ولتكون "مرجعاً بينهم – الفقهاء - عند اختلاف الأنظار وتبدل الأعصار، وتوسلا إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار"[1]، وارتقاءً بالاستدلال الفقهي الظني المختلف فيه بين الفقهاء إلى البحث المقاصدي الذي ينشد تحقيق مقاصد الشارع الحكيم. وهذا بخلاف البحث الفقهي الذي "يعني خطة الدراسة المبنية على قواعد معينة وأصول مرعية لمجموعة من الحقائق بقصد التوصل إلى حكم أو أحكام فقهية جديدة، أو اختيار حكم أو أحكام سبق التوصل إليها وقَوَّتها الأدلة"[2].
وبعبارة أخرى، فإن الدراسة المقاصدية تعمل على تأصيل الأفراد الجزئية وربطها بالكليات، وليس بحثا في أفراد الأحكام للوقائع المتفرقة مما هو شأن الفقه. فالبحث يعمل في مستوى المنهج؛ أي كيف يجتهد المجتهد محكوماً بالمقاصد وموجَّهاً بها، لإيجاد الحلول للوقائع والنوازل، بما يحقق مقاصد الشارع الحكيم ويؤلف بين متفرقات الأحكام.
فللمقاصد دور فعال إلى جانب الاجتهاد، والاجتهاد ذو البعد المقاصدي أوفق وأصوب للفقهاء والمجتهدين، واستحضارها في العملية الاجتهادية أمر مهم وجليل.
فإذا كان الاجتهاد بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية، أو هو المواءمة بين النص الشرعي والواقعة المستجدة على ضوء مقصد الشارع الحكيم، وهو التعريف الذي يبرز خاصية الشريعة في خلود أحكامها، فهو دوره المنوط به؛ لأنه المبدأ الحيوي الذي يقرر قضية خلود الشريعة ودوامها إلى أن ينقطع أصل التكليف؛ فقد يقف العقل البشري أمام نصوص الشريعة عاجزا عن استنباط الجديد من الأحكام لمستجدات الوقائع إذا لم يستشرف مقاصد الشارع المعللة للأحكام .
ومن المفاهيم التي تبين لنا الكيفية التي يتم بها ربط الأحكام بغاياتها المصلحية ما يلي:
1-النظر في كليات الشريعة مع الأدلة الجزئية:
إن الدراسة المقاصدية بالأساس تعتمد على النظر المزدوج في كليات الشريعة وتعليلات الأحكام الجزئية، لأن الجزئيات كما يقول الشاطبي "لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي لم يصح الأمر بالكلي من أصله؛ لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا ضمن الجزئيات"[3]، ولهذا فإن "النظر فيهما معتبر شرعا لئلا يحدث تعارض بين كليات الشريعة وأفرادها الجزئية، وهذا هو جملة الفقه وحقيقته عند تعارض مصلحتين أو توارد مفسدتين على أمر واحد"[4]، فالنظر في الكليات العامة هو بحث مطلق في حقيقة الأحكام الشرعية، واستكشاف مراد الشارع الحكيم من النصوص. أما عند إيقاع هذه الأحكام على أفعال المكلفين وواقعهم، وحتى لا يكون التنـزيل آليا، فإن النظر ينصرف إلى تفاصيل تعليلات الأحكام، فالحكم لا يعرف إلا بدليله الخاص به.
2- التفريق بين المقاصد والوسائل:
إن التفريق بين المقاصد والوسائل يتيح للناظر بيان ما هو المقصد، وما هي الوسيلة إلى المقصد؛ لأن الشريعة، كما اتفق أغلب العلماء، تنقسم إلى: مقاصد ووسائل مفضية إليها. مقاصد حُددت في آي القرآن الكريم وأحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فاستُنبِط منها عن طريق الاستقراء ومسالك أخرى تتبعها العلماء، واستخرجوا بعضا منها، مما يعرف بمسالك الكشف عن المقاصد. ثم وسائل أخذت أحكام المقاصد؛ وجوبا، وندبا، وكراهة، وتحريما، بوصفها الطرق المفضية إليها، والمحققة لها، في ضوء الأوامر والنواهي الربانية. فمن هنا تظهر أهمية الوسائل للوصول إلى تحقيق المقاصد المرعية في الشريعة؛ من جهة تنزيلها في واقع المكلفين[5].
وفي هذا المقام يقول العلامة ابن القيم: "التكليف أمر ونهي، والأمر نوعان، أحدهما: مقصود لنفسه. والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة"[6]. ويضيف قائلا: "لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها"[7]. وهو بذلك يقسم أوامر المولى تبارك وتعالى إلى قسمين: إلى ما يقع في مرتبة المقاصد التي يبغي الشارع تحقيقها، ومرتبة الوسائل التي تحقق مقاصد الشارع في واقع الناس بالمحافظة عليها.
وإلى نحوه ذهب الإمام القرافي في قوله إن "موارد الأحكام على قسمين: مقاصد: وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها. ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها"[8].
يلاحظ هنا أن الإمامين قد اتفقا على كون الوسائل مثل المقاصد، فهي في الأصل أوامر ونواهٍ، غير أن وجه الخلاف بينهما: كون المقاصد مقصودة لأنفسها، أما الوسائل فهي تتبع المقاصد باعتبارها طرقا ومسالك وأسبابا مفضية إليها.
المبحث الثاني: تعريف الجنين ومراحل تكونه داخل الرحم
أولا: تعريف الجنين لغة
الجنين من فعل جنّ: استتر، والجنين: هو الولد مادام في الرحم. فكلمة الجنين تعد وصفا للولد المستتر في الرحم[9]؛ أي أنه مستتر، أو" المستور في رحم أمه بين ظلمات ثلاث"[10]، لقوله تعالى :{...يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ...} (الزمر: 6).
ثالثا: تعريفه في اصطلاح الفقهاء
يطلق مصطلح الجنين على ما في الرحم، من بدء التكوين بحدوث التلقيح والاستقرار فيه إلى غاية خروجه من بطن أمه[11].
مراحل تكون الجنين في بطن أمه:
يمر الجنين وهو في بطن أمه بمراحل متعددة، ورد ذكرها صراحة في قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون :12-14).
وفي قوله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى...} (الحج: 5).
هذه المراحل نفسها هي التي وردت في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا يؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح"[12].
قال الحافظ بن رجب في شرح الحديث: "فهذا الحديث يدل على أنه يتقلب في مئة وعشرين (120) يوما، في ثلاثة أطوار، في كل أربعين منها يكون في طور، فيكون في الأربعين الأولى نطفة، ثم في الأربعين الثانية علقة، ثم في الأربعين الثالثة مضغة، ثم بعد المئة والعشرين يوما ينفخ الملك فيه الروح، ويكتب له هذه الأربع كلمات"[13].
ومن الآيات والأحاديث يتبين أن أطوار الجنين أربعة، هي:
1-النطفة:
وهي النطفة الأمشاج الخليط بين الحيوان المنوي وبويضة المرأة[14]. وهي ما تسمى "البييضة الملقحة" بتطوراتها العديدة، والتي لاتزال تأخذ شكل قطرة الماء، بالرغم من تضاعف خلاياها أضعافا مضاعفة، ثم تعلق بسماكة بطانة الرحم[15]، لينتهي هذا الدور ويبدأ دور العلقة.
2-العلقة:
في هذه المرحلة يكون الجنين على شكل العلقة[16]، وتكون عالقة في جدار الرحم. والمدة الزمنية لهذا الطور تكون من بداية الأسبوع الثاني حتى نهاية الأسبوع الثالث من التلقيح، وفي هذه المرحلة يبدأ القلب في خفقانه [17].
3-المضغة:
في هذا الطور تظهر الكتل البدنية على هيئة أثر أسنان، وذلك في أواخر الشهر الأول. وداخل المضغة تبدأ الأجهزة الداخلية مثل القلب والرئتين بالظهور، ويتشكل الجهاز العصبي والحويصلان السمعي والبصري، وتظهر مولدات الغضروف والعضلات ووحدات الجهاز البولي التناسلي، حتى يصل الجنين عمر الأربعين يوما، حيث تظهر جميع الأجهزة وقد تخلقت؛ إلا أن أجزاءً لم تتخلق في سطحها مع تكون جميع الأجهزة الداخلية، وهنا تمر المضغة بطورين؛ أولهما المضغة غير المخلقة حيث تتصور الأعضاء دون أن تظهر؛ أي تتمايز مجموعات خلوية مختلفة، وتتخلق معطية الأجهزة والأعضاء، وتلك هي المضغة المخلقة، كما تقدم في قوله تعالى :{...مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ...}[18]. وينتهي هذا الطور قبيل نهاية الأسبوع السادس، حيث يبدأ الطور التالي في التخليق. وخلال هذا الشهر الأول، يزداد وزن الجنين مليون مرة، في كل ثانية 74 مرة. وأما الطول فإنه يكبر من 5ملم إلى 3سم[19].
1-طور العظام واللحم:
وفي هذا الطور تبدأ الكتل البدنية في تكوين العظام، "فخلق المضغة عظاما هو تكوين العظام في داخل تلك المضغة، وذلك ابتداء تكوين الهيكل الإنساني من عظم ولحم"[20].
وينتهي كساء اللحم في الأسبوع الثامن، "فاللحم كالكسوة للعظام"[21]. وبهذا تنتهي مرحلة ما يسمى "الجنين"، وتبدأ مرحلة "الحميل".
2-النشأة الأخرى:
وهي آخر طور من الأطوار التي يمر بها الجنين، وتبدأ بعد تكّون اللحم على العظم. ففي الشهر السادس يصبح الإنسان؛ أي الجنين قادرا على الاستقلال عن أمه، لأن الأسناخ الرئوية تكونت، فيكون بعد ذلك دور الرحم دور الحضانة فقط[22]. كما تتميز هذه المرحلة بخصائص منها: تطور أعضاء الجنين وأجهزته ونموها، كما تختص بنفخ الروح فيها[23]؛ وهنا تكمن النشأة الأخرى، فهي مرحلة مغايرة تماما للمراحل الأربع الأولى التي كان فيها الجنين في طور التخلق والتشكل في الصورة الآدمية، يقول الألوسي: "فأنشأناه خلقاً آخر: مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها، حيث جعل حيوانا ناطقا سميعا بصيرا، وقيل الخلق الآخر الروح"[24]؛ فهو هنا قد اكتمل تصويره وتخلقه بأمر المولى تبارك وتعالى، لتأتي مرحلة نفخ الروح فيه، وتبدأ حياته كإنسان كامل، وقد كتب له قدره، كما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم -:"ثم يرسل الله إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وأجله، وشقي أو سعيد".
المبحث الثالث: تعريف الإجهاض وأقسامه عند الفقهاء والأطباء.
أولا: تعريف الإجهاض:
مصطلح الإجهاض ليس لفظا غريبا في اللغة، فإن أهل اللغة بينوا معناه الذي عرف عند العرب في قولهم: أجهضت الناقة: إذا ألقت الولد لغير تمام[25]. أو إسقاطه ناقص الخلق[26].
والإطلاق اللغوي يصدق سواء كان الإلقاء بفعل فاعل أم تلقائيا[27].
ومنه إجهاض الجنين الآدمي ومعناه: إنزال الجنين قبل أن تكتمل مدة الحمل[28]؛ إما بفعل أمه، أو بفعل غيرها كالطبيب[29].
ويعرف الإجهاض Abortion من الوجهة الطبية بأنه : "سقط الحمل من داخل الرحم قبل أن يصبح قادرا على الحياة بذاته أي قبل الأسبوع الـ 22 أو بلوغه وزن 500 جم أو أكثر"[30].
وعرفه الطبيب محمد علي البار بأنه:" خروج محتويات الحمل قبل 28 أسبوعا تحسب من آخر حيضة حاضتها المرأة"[31].
وعرفه الدكتور اليوت فيليب بأنه:" نهاية الحمل قبل الأسبوع الثامن والعشرين من بداية الحمل"[32].
ويتضح مما سبق أن هناك عدة أنواع من الإجهاض نعرفها في العنصر الموالي:
ثانيا: أنواع الإجهاض:
قبل معرفة موقف الفقهاء من الإجهاض، ينبغي في البداية معرفة أنواعه المنتشرة بين عامة الناس وبين الأطباء ثم الفقهاء، حيث قسّمه كل فريق إلى تقسيمات متعددة بحسب معايير مختلفة؛ والتي تتنوع من تقسيمه لدوافعه ومبرراته أو مسوغاته، وتقسيمه للمراحل التي يتم فيها، أي في أي مرحلة يكون الجنين بحسب الأطوار التي مرت بنا.
◄ تقسيم الإجهاض عموما:
لقد قسّم الناس عموما الإجهاض إلى ثلاثة أصناف هي: العفوي، والعلاجي، والاجتماعي (الجنائي)، وهذا التقسيم بحسب دوافعه ومبرراته التي يلجأ إليها الناس، فقالوا:
1-الإجهاض العفوي ( التلقائي- الذاتي): وهو الذي يحصل بغير إرادة المرأة، حيث يعمل الرحم على طرد جنين لا يمكن أن تكتمل له عناصر الحياة، وقد يحدث بسبب خلل في جهاز المرأة التناسلي، أو بسبب خطأ ارتكبته كحمل شيء ثقيل، أو توتر نفسي، أو شربها لدواء مضر بالحمل والجنين ...الخ
أي أنه إجهاض طبيعي حدث تلقائيا بدون أي تدخل خارجي بأي صورة من صوره، ومسبباته داخليه محضة تتعلق بأمراض تصيب الأم الحامل أوالجنين[33].
2-الإجهاض الاجتماعي (الإنساني، الجنائي، الإجرامي): وهو الذي يُتعمد فيه إنهاء الحمل بطريقة غير شرعية، والذي يجريه أشخاص غير متخصصين، عن طريق شرب دواء معين، أو إدخال أدوات صلبة في المهبل؛ لهدف واحد وهو التخلص من الجنين لسبب من الأسباب التي يراها أصحابها أنها مبررات إنسانية، كالتستر على الفاحشة (حمل من سفاح، أو زنا، أو زنا محارم، أو اغتصاب)، ومن هنا سمي إجهاضا اجتماعيا على اعتبار أن إجهاض الجنين المتكون من زنا أو اغتصاب أو زنا محارم يعد حلا لمعضلة اجتماعية حساسة، وقد يجرى كذلك في عيادات طبية بإشراف أطباء متخصصين؛ تحت ذريعة إنقاذ فتيات قُصر أو نساء من حمل غير مرغوب فيه، مقابل مبالغ مالية خيالية!
3- الإجهاض العلاجي: وهذا النوع من الإجهاض الذي يستدعي اللجوء إليه ضرورة طبية؛ "فهو الذي يقوم به الطبيب الموثوق في دينه وعلمه، أو يأمر به إنقاذا لحياة الأم عندما تتعرض للخطر بسبب الحمل"[34]. وسيأتي تفصيله لاحقا
تقسيم الإجهاض عند الأطباء:
أما أنواع الإجهاض عند الأطباء فهي أقسام كثيرة، وذلك راجع إلى مرحلة الحمل، إضافة إلى الدافع لذلك.
فقُسم باعتبار المرحلة التي تم فيها والأسباب الطبية لوقوعه إلى:
1-الإجهاض المهدد أو المنذر: ومعناه حدوث نزيف في الرحم خلال مدة الحمل، وبالذات في بدايته (20 أسبوع الأولى)؛ حيث يكون الجنين حيا؛ إلا أن خطرا كبيرا يتهدده بفعل النزيف، فيكون قابلا للسقوط.
2-الإجهاض الحتمي: ومعناه موت الجنين، وخروجه بفعل انقباض الرحم.
3-الإجهاض المفقود: والمقصود به موت الجنين، وبقائه داخل الرحم.
4-الإجهاض المعتاد: وهو الذي يحدث لوجود تشوهات بالرحم، أو أن عنق الرحم فاقد القدرة على بقائه منغلقا.
5-الإجهاض العفن: وهو الناتج بعد حدوث التهابات في الرحم[35].
أما أقسامه باعتبار الكيفية التي يمر بها فهي:
1-التلقائي
2- والجنائي
3- والعلاجي[36]. وهي التي تقدم ذكرها.
والذي يهمنا من تقسيمات الأطباء للإجهاض هي التقسيمات الثلاث الأخيرة؛ لأن تقسيمات الأطباء الأولى هي باعتبار الأسباب الطبية لوقوعه، أما الذي يهمنا فهو الكيفية التي يتم بها، من أجل معرفة متى يجوز ومتى لا يجوز.
◄ أنواع الإجهاض عند الفقهاء:
يعتمد الفقهاء المسلمون في نظرتهم وحكمهم على الإجهاض على استقراء الآيات والأحاديث النبوية التي تطرقت للجنين ومراحل تكونه في بطن أمه، وقد سبق التطرق لبعض من هذه الآيات والأحاديث.
وكما رأينا في مبحث مراحل تكون الجنين فإن الفقهاء أعطوا اهتماما بالغا للمراحل والأطوار التي وردت، والتي ميزت بين أدوار (النطفة والعلقة والمضغة وتكوُّن اللحم)، وبين مرحلة (النشأة الأخرى)، والتي أثبتت أن النشأة الأخرى تختلف وتتميز عن سابقاتها من المراحل والأطوار؛ وأما مستند هذا الاعتماد فهو أن " العلماء المسلمين يرون أن حقيقة الإنسان لم تتحدد بهيكله المخصوص بما يحتوي عليه من عناصر مادية، وما يتكون منها من أعضاء وأجزاء. وإنما تحددت بروحه التي نفخت فيه"[37]. ومن هنا قسم الفقهاء الإجهاض، أو بالأحرى التعدي على الجنين، إلى قسمين:
1-الإجهاض قبل نفخ الروح
2-الإجهاض بعد نفخ الروح
فأصبح" نفخ الروح" هو الاعتبار والأساس في التقسيم، ومنه تحريم أو إباحة الإجهاض في الشريعة الإسلامية؛ إضافة إلى مجموعة من القواعد المكملة، سنعرفها لاحقا، والتي تختلف من مذهب لآخر.
والذي يجدر التنبيه إليه أيضا أن المواضع التي تم التطرق فيها لموضوع الإجهاض عند فقهائنا، هي مباحث الديات والجنايات، (فصل "غرة الجنين")، وكل المسائل دارت حول تعرض الحامل للضرب أو أية جناية مشابهة أدت إلى قتلها وموت الجنين، ففي هذه الحال تثبت الغرة على عاقلة الجاني لا الدية كاملة؛ لأنه لا يمكن تحقق العمد المحض كما قال الفقهاء؛ إذ قال ابن جزي:" ولا يقتل قاتل الجنين في العمد لأن حياته غير معلومة"[38].
وقال النووي : "فالجناية على الجنين قد تكون خطأ محضا بأن يقصد غير الحامل فيصيبها، وقد تكون شبه عمد، بأن يقصد ضربها بما يؤدي إلى الإجهاض غالبا، فتجهض، ولا تكون عمدا محضا؛ لأنه لا يتحقق وجوده وحياته حتى يقصد، هذا هو الصحيح"[39].
وقد نص على وجوب الغرة حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه - أن "امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أمة"[40]. من دون التفريق بين كون الجنين ذكرا أو أنثى، " لأن السنة لم تفرق بينهما"[41]، كما قال ابن قدامة.
ومن دون التفريق بين كون الجنين تام الخلقة أو ناقصا كما قال المالكية؛ إذ قال ابن جزي:" ودية الجنين عبد أو وليدة، وسواء كان ذكرا أو أنثى، وسواء تم خلقه أو لم يتم إذا خرج من بطن أمه ميتا"[42]. وقال الزرقاني:" حكم في الجنين حال كونه قتل في بطن أمه ذكر أو أنثى، ولو مضغة أو علقة، أو ما يعلم أنه ولد عند مالك بغرة"[43].
وهذا حال حدوث جناية على الأم، أما لو كانت الجناية مقصودا بها الجنين نفسه كما نريد أن نبحثه، فماهو الحكم؟ وهل يختلف الحال لو كانت الجناية من الأم نفسها؟
المبحث الرابع: آراء فقهاء المذاهب الأربعة في حكم الإجهاض
أولا: آراء الفقهاء في حكم الإجهاض بعد نفخ الروح
أجمع الفقهاء على أن نفخ الروح في الجنين يكون بعد المئة والعشرين يوما من الحمل.
ودليلهم في هذا الرأي:
قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:{إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح}[44].
فإذا وجدت به الحياة بوجود الروح، وإيجاب الرسول صلى الله عليه وسلم الغرة بقتله؛ فإن ذلك مؤداه اعتبار الجنين بعد الشهر الرابع إنسانا تثبت له كل الحقوق التي تثبت للذي انفصل عن أمه حيا .
وإذا ثبتت الغرة بالجناية على الجنين في بطن أمه على الذي قصد قتلها؛ فمن باب أولى على الأم كذلك إذا قصدت إسقاطه للتخلص منه. إذًا الأصل في الإجهاض بعد نفخ الروح الحظر والتحريم إلا للضرورة الطبية؛ أي أن استمرار الحمل يضر بصحة الأم ويهدد حياتها كما جاء في آراء الفقهاء القدامى والمعاصرين.
قال أحمد في امرأة شربت دواء فأسقطت، إن كانت تعمدت فأحب إلي أن تعتق رقبة، وإن سقط حيا ثم مات فالدية على عاقلتها لأبيه… قيل له: فإن شربت عمدا، قال هو شبيه بالعمد، شربت لا تدري يسقط أم لا . عسى لا يسقط. الدية على العاقلة"[45].
وبمثله قال أبو الحسن الماوردي بقوله: "وهكذا لو شربت الحامل دواء فأسقطت جنينا ميتا، روعي حال الدواء. فإن زعم علماء الطب أن مثله قد يسقط الأجنة، ضمنت جنينها، وإن قالوا: مثله لا يسقط الأجنة لم تضمنه، وإن أشكل وجوزوه ضمنته؛ لأن الظاهر من سقوطه أنه من حدوث شربه… كذا لو امتنعت الحامل من الطعام والشراب حتى ألقت جنينها…"[46].
ثانيا: آراء الفقهاء في حكم الإجهاض قبل نفخ الروح
وأما الجناية على الجنين قبل نفخ الروح فيه؛ أي في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل؛ ففي وجوب الغرة (وهي العقاب الدنيوي)، وإثم الجاني (وهو العقاب الأخروي)، سواء أكانت الجناية من الأم أو غيرها، اختلاف بين الفقهاء، ومرد اختلافهم راجع إلى رأيهم في المراد بـ"تصور الجنين وتخلقه"؛ أي في أي مرحلة يكون الجنين، ثم قول البعض أن الغرة بدل الحياة؛ فحيث لا حياة لا غرة.
وهذه أراء أئمة المذاهب الأربعة وبعض تلاميذتهم، والتي انقسم فيها الفقهاء إلى محرم ومانع للإجهاض في أي مرحلة من مراحل تخلق الجنين، وبين مجيز لذلك في مرحلة المضغة غير المخلقة، وبين مبيح للإسقاط في مرحلة الأربعين يوما، وبين مبيح بإطلاق كما سيأتي:
◄ رأي الإمام الغزالي والمالكية:
ومذهب الإمام الغزالي -وهو من الشافعية- التحريم مطلقا، فلا يجوز الجناية على الجنين في أي مرحلة من مراحل نموه، وقد قال" وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشا، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيا"[47].
وإليه ذهب المالكية في قول الدسوقي: "ولا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم ولو قبل الأربعين يوما، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعا"[48]، والرأي نفسه يذهب إليه كلٌّ من ابن العربي، والشيخ محمد عليش[49]، ويذهب الإمام ابن العربي إلى أن للولد ثلاثة أحوال "حال قبل الوجود ينقطع فيها بالعزل، وحال بعد قبض الرحم على المني فلا يجوز حينئذ لأحد التعرض له بالقطع من التولد. والحالة الثالثة بعد انخلاقه قبل أن تنفخ فيه الروح وهو أشد من الأولين في المنع والتحريم. فأما إذا نفخ فيه الروح فهو نفس بلا خلاف"[50].
" ومعنى ذلك أن المالكية (ومعهم بعض الشافعية) لا يجيزون الإسقاط قبل مضي أربعين يوما على الحمل، ولم يستثنوا حالة العذر"[51].
ويتضح من الأقوال السابقة أن اعتبارات تحريم إسقاط الجنين في أية مرحلة من مراحل نموه هي: إنسانيته وحقه في الحياة، وتحصل له هذه الانسانية باختلاط بويضة المرأة مع نطفة الرجل (النطفة الأمشاج) ثم نفخ الروح.
◄ رأي الحنابلة:
وبالتحريم قال الحنابلة أيضا، والتحريم عندهم لا يكون من مرحلة النطفة أو العلقة، بل من مرحلة المضغة، إذا ظهر فيها تخلق. جاء في المغني: "وإن أسقطت ما ليس فيه صورة آدمي فلا شيء فيه؛ لأنا لا نعلم أنه جنين… وإن ألقت مضغة فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية ففيه غرة، وإن شهدت أنه مبتدأ خلق آدمي لو بقي تصور، فيه وجهان، أصحها: لا شيء فيه لأنه لم يتصور فلم يجب فيه كالعلقة"[52]. كذلك جاء في الإنصاف عن الحنابلة[53]. فهنا الحنابلة قد فصلوا القول في مراحل الجنين.
فالراجح عند الحنابلة جواز الإسقاط قبل مرحلة المضغة، وهي المرحلة التي يبدأ فيها تخلق الجنين، استنادا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الآتي ذكره، فإن الإجهاض مباح قبل 42 يوما الأولى؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا مرّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال أي ربِّ أذكر أم أنثى}[54]. فاجتمع عند الحنابلة اعتباران لحرمة الإجهاض وإسقاط الجنين لأي عذر أو سبب، هما: تخلق الجنين، ونفخ الروح فيه.
◄ رأي الشافعية:
وتفصيل الشافعية للمسألة جاء موافقا لمذهب الحنابلة. فعن الإمام النووي أنه قال: "أن الغرة تجب إذا سقطت بالجناية ما ظهر فيه صورة آدمي، كعين أو أذن أو يد ونحوها، ويكفي الظهور في طرف، ولا يشترط في كلها… وإن قلن (القوابل): ليس فيه صورة خفية لكنه أصل آدمي ولو بقي لتصور، لم تجب الغرة على المذهب"[55]. وقال أيضا "فلو جنت الحامل على نفسها بشرب دواء أو غيره، فلا شيء لها من الغرة المأخوذة من عاقلتها، لأنها قاتلة"[56].
ووافقهما الإمام الماوردي فيما يخص المضغة، حيث قال: "وإن المضغة لا يتعلق بها[57] ما سوى الغرة"[58]، ثم قال: "ومحصول هذه الأحوال التي جاءت في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 12-14). يرجع إلى ثلاثة أقسام: مضغة، وما قبلها، وما بعدها"[59]. ومؤدى كلامه أن لتصور الجنين اعتبارًا في جناية الإسقاط، وهو مذهب الحنابلة -كما رأينا- في جواز إسقاط الجنين قبل الاثنين والأربعين (42) يوما الأولى.
◄ رأي الأحناف:
وبمثل القول الأخير للشافعية قال الإمام السرخسي من الأحناف في قوله: "ثم الماء في الرحم ما لم يفسد فهو معد للحياة، فيجعل كالحي في إيجاب الضمان بإتلافه… وجناية الأب أغلظ من جناية الأجنبي لأنه انضم إلى تعمده القتل بغير حق وارتكابه ما هو محظور مع قطيعة الرحم"[60].
وإليه كذلك ذهب صاحب بدائع الصنائع في تعليل وجوب الغرة للجنين بقوله: "ولأن الجنين إذا كان حيا فقد فوت الضارب حياته، وتفويت الحياة قتل؛ وإن لم يكن حيّا فقد منع من حدوث الحياة فيه فيضمن… وسواء استبان خلقه أو بعض خلقه… وإن لم يستبن شيء من خلقه فلا شيء فيه لأنه ليس بجنين إنما هو مضغة"[61]. وهو المنقول عن الإمام المرغيناني الحنفي، فقد قال: "والجنين الذي استبان بعض خلقه بمنزلة الجنين التام في جميع الأحكام؛ لأن بهذا القدر يتميز عن العلقة والدم، فكان نفسا، والله أعلم"[62].
إلا أن صاحب تكملة شرح فتح القدير يعارضه في كلامه الأول بقوله: "وليس بسديد؛ فإن تيقن كونه معدا للحياة ممنوع لجواز أن يفسد الماء في الرحم فحينئذ ينتفي استعداده للحياة"[63]. ومقتضى قول صاحب "تكملة شرح فتح القدير" هو جواز الإسقاط قبل نفخ الروح، ما لم يتخلق. وإليه كذلك ذهب ابن عابدين بعد إيراده أقوال الكثير من علماء الأحناف، قال ابن عابدين: "ولا يخفى أنها تأثم لو استبان خلقه ومات بفعلها"[64].
ومما نستخلصه من أقوال فقهاء المذاهب الأربعة أن:
الإجهاض بعد نفخ الروح لأي عذر من الأعذار محرم تحريم قاطع، سوى عذر علاج الحامل للحفاظ على صحتها.
وأما قبل نفخ الروح فالمسألة فيها تفصيل وأراء بحسب المرحلة التي بها الجنين؛ فإن الإمام الغزالي وأئمة المذهب المالكي متفقون على تحريم الإجهاض مطلقا، أي منذ أن يكون نطفة إلى إلى مرحلة ماقبل نفخ الروح فيه، على أساس أن النطفة مستعدة لقبول الحياة، والجناية عليها ممنوعة بأي حال من الأحوال؛ ففي أجهاض الجنين في مراحله الأولى تعدٍ على إنسانيته وحقه في الحياة، حتى أن الإمام الغزالي وصف إفساد إلتقاء النطفة مع البويضة بالجناية، وإفساد المضغة والعلقة جناية أفحش من سابقتها، وهكذا... وهو القول الذي ذهب إليه بعض أئمة الأحناف، مثل الإمام السرخسي.
أما الحنابلة والشافعية وبعض الفقهاء الحنفية فإنهم ذهبوا إلى أن منع التعدي على الجنين يكون من مرحلة المضغة فقط لا قبلها؛ لأنه لم يتصور بعد، وأما في المرحلة الثانية من المضغة، وإن ظهر تصور قليل فإن الراجح أنه لا يعد تعديا أو جناية، فأساس التعدي هو بدأ تخلق الجنين، وأما قبلها فإن المسألة مباحة، أي جواز إسقاط الجنين قبل الاثني والأربعين يوما، وهي " المرحلة التي يكون فيها الجنين وسطا بين الوجود الإنساني وخلافه"[65].
والحاصل من مناقشتنا لمختلف الأقوال هو اتفاق المذاهب الثلاثة خلافا للمذهب المالكي والإمام الغزالي في جواز إسقاط الجنين، وعدم وجوب الغرة على الجاني في المرحلة الأولى من مراحل تكون الجنين، حتى مرحلة المضغة، لأنها بداية التخلق، وتَكوُّن صورة الجنين؛ فعندها تحرم الجناية عليه بأي طريق، ولأي عذر؛ فالاعتبار في حرمة الإسقاط يعود إلى ظهور بعض معالم التخلق في الجنين غير الكامل، ثم نفخ الروح في الجنين كامل الخلقة، خلافا للمالكية والإمام الغزالي الذين ذهبوا إلى حرمة فعل الإسقاط بدءا من استقرار الماء في الرحم.
المبحث الخامس: آراء الفقهاء المعاصرين والأطباء في حكم الإجهاض
يتبع
د/ فريدة صادق زوزو
توطئة :
من القضايا التي برزت بقوة على الساحة في المجتمعات الإسلامية في السنوات الأخيرة دعاوى الجمعيات النسوية العالمية منها، والمحلية، والتي تدعو إلى إباحة الإجهاض، خاصة إجهاض الحمل الناتج من زنا محارم أو اغتصاب، وبالأخص الفتيات والنساء المغتصبات أثناء الحروب. ومنه بدأ الفقهاء يبحثون في المسألة من جانبها الفقهي، معتمدين في ذلك على الدراسات الطبية التي تركزت حول ماهية الجنين والمراحل التي يمر بها، ثم الاستفادة من خبراتهم في مجال مخاطر وسلبيات الإجهاض عموما، بطريقة مفصلة، شأنها شأن الكثير من النوازل.
ورغم أن الموضوع طرح عند الفقهاء القدامى في أبواب الديات والغرة، والجنايات كما سيأتي ذكره في الحديث عن انفصال الجنين عن أمه بسبب ضربها عمدا من غير قصد التعدي على الجنين، أو بسبب التعدي عليه، إلا أنه في العصر الحديث برزت مسألة الجنين الناتج عن حمل سفاح، أو من اغتصاب، أومن زنا محارم، ومن التعدي الجنسي على الفتيات والنساء أثناء الحروب، وغيرها.
وسيركز البحث تفصيلات الموضوع بالنظر في آراء الفقهاء، والترجيح بينها معتمدا في ذلك على النظر المقاصدي؛ وذلك لأهمية هذا المبدأ عند الاجتهاد في القضايا الجديدة والمستجدات والنوازل.
فإذا كانت مقاصد الشريعة جزءً مهماً في النظر الاجتهادي، فإن الأمر نفسه بالنسبة لسلامة تطبيق الأحكام الشرعية على الواقع ، وقد أخذت لذلك مثالا في موضوع" الإجهاض" الذي تتباين فيه الرؤى بين مؤيد ومعارض، والقول الفصل في المسألة سيكون لمقاصد الشريعة كما سيتبين في نهاية البحث.
ومن أجل دراسة الموضوع دراسة مفصلة ودقيقة، فإني سأتبع الخطة الآتية:
المبحث الأول: أهمية المقاصد في النظر الاجتهادي.
المبحث الثاني :تعريف الجنين ومراحل تكونه داخل الرحم.
المبحث الثالث: تعريف الإجهاض وأقسامه عند الفقهاء والأطباء.
المبحث الرابع: آراء فقهاء المذاهب الأربعة في حكم الإجهاض.
المبحث الخامس: آراء الفقهاء المعاصرين والأطباء في حكم الإجهاض.
المبحث السادس: مسوغات إباحة الإجهاض وحكم إجهاض الجنين المشوه أوالناتج عن الاغتصاب أو زنا المحارم.
المبحث الأول: أهمية المقاصد في النظر الاجتهادي.
المبحث السابع: الحكم العام للإجهاض في المنظور المقاصدي.
أولا: مفهوم دراسة مقاصدية
الدراسة المقاصدية في هذا البحث تؤخذ بمعنى اعتماد مقاصد الشريعة إطاراً يدرس ضمنه الموضوع، وذلك من خلال النظر إلى الإجهاض بوصفه وسيلة مستحدثة للحفاظ على النسل على أساس أنه كلية من كليات الشريعة الضرورية كما هو معروف في علم مقاصد الشريعة.
ومعنى هذا التوسل من خلال المقاصد إلى ربط الأحكام بغاياتها المصلحية التي يقصدها كل دليل.
والسبيل إلى تحقيق ذلك يكون عبر استخدام مجموعة من المفاهيم الكلية التي لا يستغنى عنها في البحث الفقهي، ولتكون "مرجعاً بينهم – الفقهاء - عند اختلاف الأنظار وتبدل الأعصار، وتوسلا إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار"[1]، وارتقاءً بالاستدلال الفقهي الظني المختلف فيه بين الفقهاء إلى البحث المقاصدي الذي ينشد تحقيق مقاصد الشارع الحكيم. وهذا بخلاف البحث الفقهي الذي "يعني خطة الدراسة المبنية على قواعد معينة وأصول مرعية لمجموعة من الحقائق بقصد التوصل إلى حكم أو أحكام فقهية جديدة، أو اختيار حكم أو أحكام سبق التوصل إليها وقَوَّتها الأدلة"[2].
وبعبارة أخرى، فإن الدراسة المقاصدية تعمل على تأصيل الأفراد الجزئية وربطها بالكليات، وليس بحثا في أفراد الأحكام للوقائع المتفرقة مما هو شأن الفقه. فالبحث يعمل في مستوى المنهج؛ أي كيف يجتهد المجتهد محكوماً بالمقاصد وموجَّهاً بها، لإيجاد الحلول للوقائع والنوازل، بما يحقق مقاصد الشارع الحكيم ويؤلف بين متفرقات الأحكام.
فللمقاصد دور فعال إلى جانب الاجتهاد، والاجتهاد ذو البعد المقاصدي أوفق وأصوب للفقهاء والمجتهدين، واستحضارها في العملية الاجتهادية أمر مهم وجليل.
فإذا كان الاجتهاد بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية، أو هو المواءمة بين النص الشرعي والواقعة المستجدة على ضوء مقصد الشارع الحكيم، وهو التعريف الذي يبرز خاصية الشريعة في خلود أحكامها، فهو دوره المنوط به؛ لأنه المبدأ الحيوي الذي يقرر قضية خلود الشريعة ودوامها إلى أن ينقطع أصل التكليف؛ فقد يقف العقل البشري أمام نصوص الشريعة عاجزا عن استنباط الجديد من الأحكام لمستجدات الوقائع إذا لم يستشرف مقاصد الشارع المعللة للأحكام .
ومن المفاهيم التي تبين لنا الكيفية التي يتم بها ربط الأحكام بغاياتها المصلحية ما يلي:
1-النظر في كليات الشريعة مع الأدلة الجزئية:
إن الدراسة المقاصدية بالأساس تعتمد على النظر المزدوج في كليات الشريعة وتعليلات الأحكام الجزئية، لأن الجزئيات كما يقول الشاطبي "لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي لم يصح الأمر بالكلي من أصله؛ لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا ضمن الجزئيات"[3]، ولهذا فإن "النظر فيهما معتبر شرعا لئلا يحدث تعارض بين كليات الشريعة وأفرادها الجزئية، وهذا هو جملة الفقه وحقيقته عند تعارض مصلحتين أو توارد مفسدتين على أمر واحد"[4]، فالنظر في الكليات العامة هو بحث مطلق في حقيقة الأحكام الشرعية، واستكشاف مراد الشارع الحكيم من النصوص. أما عند إيقاع هذه الأحكام على أفعال المكلفين وواقعهم، وحتى لا يكون التنـزيل آليا، فإن النظر ينصرف إلى تفاصيل تعليلات الأحكام، فالحكم لا يعرف إلا بدليله الخاص به.
2- التفريق بين المقاصد والوسائل:
إن التفريق بين المقاصد والوسائل يتيح للناظر بيان ما هو المقصد، وما هي الوسيلة إلى المقصد؛ لأن الشريعة، كما اتفق أغلب العلماء، تنقسم إلى: مقاصد ووسائل مفضية إليها. مقاصد حُددت في آي القرآن الكريم وأحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فاستُنبِط منها عن طريق الاستقراء ومسالك أخرى تتبعها العلماء، واستخرجوا بعضا منها، مما يعرف بمسالك الكشف عن المقاصد. ثم وسائل أخذت أحكام المقاصد؛ وجوبا، وندبا، وكراهة، وتحريما، بوصفها الطرق المفضية إليها، والمحققة لها، في ضوء الأوامر والنواهي الربانية. فمن هنا تظهر أهمية الوسائل للوصول إلى تحقيق المقاصد المرعية في الشريعة؛ من جهة تنزيلها في واقع المكلفين[5].
وفي هذا المقام يقول العلامة ابن القيم: "التكليف أمر ونهي، والأمر نوعان، أحدهما: مقصود لنفسه. والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة"[6]. ويضيف قائلا: "لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها"[7]. وهو بذلك يقسم أوامر المولى تبارك وتعالى إلى قسمين: إلى ما يقع في مرتبة المقاصد التي يبغي الشارع تحقيقها، ومرتبة الوسائل التي تحقق مقاصد الشارع في واقع الناس بالمحافظة عليها.
وإلى نحوه ذهب الإمام القرافي في قوله إن "موارد الأحكام على قسمين: مقاصد: وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها. ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها"[8].
يلاحظ هنا أن الإمامين قد اتفقا على كون الوسائل مثل المقاصد، فهي في الأصل أوامر ونواهٍ، غير أن وجه الخلاف بينهما: كون المقاصد مقصودة لأنفسها، أما الوسائل فهي تتبع المقاصد باعتبارها طرقا ومسالك وأسبابا مفضية إليها.
المبحث الثاني: تعريف الجنين ومراحل تكونه داخل الرحم
أولا: تعريف الجنين لغة
الجنين من فعل جنّ: استتر، والجنين: هو الولد مادام في الرحم. فكلمة الجنين تعد وصفا للولد المستتر في الرحم[9]؛ أي أنه مستتر، أو" المستور في رحم أمه بين ظلمات ثلاث"[10]، لقوله تعالى :{...يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ...} (الزمر: 6).
ثالثا: تعريفه في اصطلاح الفقهاء
يطلق مصطلح الجنين على ما في الرحم، من بدء التكوين بحدوث التلقيح والاستقرار فيه إلى غاية خروجه من بطن أمه[11].
مراحل تكون الجنين في بطن أمه:
يمر الجنين وهو في بطن أمه بمراحل متعددة، ورد ذكرها صراحة في قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون :12-14).
وفي قوله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى...} (الحج: 5).
هذه المراحل نفسها هي التي وردت في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا يؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح"[12].
قال الحافظ بن رجب في شرح الحديث: "فهذا الحديث يدل على أنه يتقلب في مئة وعشرين (120) يوما، في ثلاثة أطوار، في كل أربعين منها يكون في طور، فيكون في الأربعين الأولى نطفة، ثم في الأربعين الثانية علقة، ثم في الأربعين الثالثة مضغة، ثم بعد المئة والعشرين يوما ينفخ الملك فيه الروح، ويكتب له هذه الأربع كلمات"[13].
ومن الآيات والأحاديث يتبين أن أطوار الجنين أربعة، هي:
1-النطفة:
وهي النطفة الأمشاج الخليط بين الحيوان المنوي وبويضة المرأة[14]. وهي ما تسمى "البييضة الملقحة" بتطوراتها العديدة، والتي لاتزال تأخذ شكل قطرة الماء، بالرغم من تضاعف خلاياها أضعافا مضاعفة، ثم تعلق بسماكة بطانة الرحم[15]، لينتهي هذا الدور ويبدأ دور العلقة.
2-العلقة:
في هذه المرحلة يكون الجنين على شكل العلقة[16]، وتكون عالقة في جدار الرحم. والمدة الزمنية لهذا الطور تكون من بداية الأسبوع الثاني حتى نهاية الأسبوع الثالث من التلقيح، وفي هذه المرحلة يبدأ القلب في خفقانه [17].
3-المضغة:
في هذا الطور تظهر الكتل البدنية على هيئة أثر أسنان، وذلك في أواخر الشهر الأول. وداخل المضغة تبدأ الأجهزة الداخلية مثل القلب والرئتين بالظهور، ويتشكل الجهاز العصبي والحويصلان السمعي والبصري، وتظهر مولدات الغضروف والعضلات ووحدات الجهاز البولي التناسلي، حتى يصل الجنين عمر الأربعين يوما، حيث تظهر جميع الأجهزة وقد تخلقت؛ إلا أن أجزاءً لم تتخلق في سطحها مع تكون جميع الأجهزة الداخلية، وهنا تمر المضغة بطورين؛ أولهما المضغة غير المخلقة حيث تتصور الأعضاء دون أن تظهر؛ أي تتمايز مجموعات خلوية مختلفة، وتتخلق معطية الأجهزة والأعضاء، وتلك هي المضغة المخلقة، كما تقدم في قوله تعالى :{...مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ...}[18]. وينتهي هذا الطور قبيل نهاية الأسبوع السادس، حيث يبدأ الطور التالي في التخليق. وخلال هذا الشهر الأول، يزداد وزن الجنين مليون مرة، في كل ثانية 74 مرة. وأما الطول فإنه يكبر من 5ملم إلى 3سم[19].
1-طور العظام واللحم:
وفي هذا الطور تبدأ الكتل البدنية في تكوين العظام، "فخلق المضغة عظاما هو تكوين العظام في داخل تلك المضغة، وذلك ابتداء تكوين الهيكل الإنساني من عظم ولحم"[20].
وينتهي كساء اللحم في الأسبوع الثامن، "فاللحم كالكسوة للعظام"[21]. وبهذا تنتهي مرحلة ما يسمى "الجنين"، وتبدأ مرحلة "الحميل".
2-النشأة الأخرى:
وهي آخر طور من الأطوار التي يمر بها الجنين، وتبدأ بعد تكّون اللحم على العظم. ففي الشهر السادس يصبح الإنسان؛ أي الجنين قادرا على الاستقلال عن أمه، لأن الأسناخ الرئوية تكونت، فيكون بعد ذلك دور الرحم دور الحضانة فقط[22]. كما تتميز هذه المرحلة بخصائص منها: تطور أعضاء الجنين وأجهزته ونموها، كما تختص بنفخ الروح فيها[23]؛ وهنا تكمن النشأة الأخرى، فهي مرحلة مغايرة تماما للمراحل الأربع الأولى التي كان فيها الجنين في طور التخلق والتشكل في الصورة الآدمية، يقول الألوسي: "فأنشأناه خلقاً آخر: مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها، حيث جعل حيوانا ناطقا سميعا بصيرا، وقيل الخلق الآخر الروح"[24]؛ فهو هنا قد اكتمل تصويره وتخلقه بأمر المولى تبارك وتعالى، لتأتي مرحلة نفخ الروح فيه، وتبدأ حياته كإنسان كامل، وقد كتب له قدره، كما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم -:"ثم يرسل الله إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وأجله، وشقي أو سعيد".
المبحث الثالث: تعريف الإجهاض وأقسامه عند الفقهاء والأطباء.
أولا: تعريف الإجهاض:
مصطلح الإجهاض ليس لفظا غريبا في اللغة، فإن أهل اللغة بينوا معناه الذي عرف عند العرب في قولهم: أجهضت الناقة: إذا ألقت الولد لغير تمام[25]. أو إسقاطه ناقص الخلق[26].
والإطلاق اللغوي يصدق سواء كان الإلقاء بفعل فاعل أم تلقائيا[27].
ومنه إجهاض الجنين الآدمي ومعناه: إنزال الجنين قبل أن تكتمل مدة الحمل[28]؛ إما بفعل أمه، أو بفعل غيرها كالطبيب[29].
ويعرف الإجهاض Abortion من الوجهة الطبية بأنه : "سقط الحمل من داخل الرحم قبل أن يصبح قادرا على الحياة بذاته أي قبل الأسبوع الـ 22 أو بلوغه وزن 500 جم أو أكثر"[30].
وعرفه الطبيب محمد علي البار بأنه:" خروج محتويات الحمل قبل 28 أسبوعا تحسب من آخر حيضة حاضتها المرأة"[31].
وعرفه الدكتور اليوت فيليب بأنه:" نهاية الحمل قبل الأسبوع الثامن والعشرين من بداية الحمل"[32].
ويتضح مما سبق أن هناك عدة أنواع من الإجهاض نعرفها في العنصر الموالي:
ثانيا: أنواع الإجهاض:
قبل معرفة موقف الفقهاء من الإجهاض، ينبغي في البداية معرفة أنواعه المنتشرة بين عامة الناس وبين الأطباء ثم الفقهاء، حيث قسّمه كل فريق إلى تقسيمات متعددة بحسب معايير مختلفة؛ والتي تتنوع من تقسيمه لدوافعه ومبرراته أو مسوغاته، وتقسيمه للمراحل التي يتم فيها، أي في أي مرحلة يكون الجنين بحسب الأطوار التي مرت بنا.
◄ تقسيم الإجهاض عموما:
لقد قسّم الناس عموما الإجهاض إلى ثلاثة أصناف هي: العفوي، والعلاجي، والاجتماعي (الجنائي)، وهذا التقسيم بحسب دوافعه ومبرراته التي يلجأ إليها الناس، فقالوا:
1-الإجهاض العفوي ( التلقائي- الذاتي): وهو الذي يحصل بغير إرادة المرأة، حيث يعمل الرحم على طرد جنين لا يمكن أن تكتمل له عناصر الحياة، وقد يحدث بسبب خلل في جهاز المرأة التناسلي، أو بسبب خطأ ارتكبته كحمل شيء ثقيل، أو توتر نفسي، أو شربها لدواء مضر بالحمل والجنين ...الخ
أي أنه إجهاض طبيعي حدث تلقائيا بدون أي تدخل خارجي بأي صورة من صوره، ومسبباته داخليه محضة تتعلق بأمراض تصيب الأم الحامل أوالجنين[33].
2-الإجهاض الاجتماعي (الإنساني، الجنائي، الإجرامي): وهو الذي يُتعمد فيه إنهاء الحمل بطريقة غير شرعية، والذي يجريه أشخاص غير متخصصين، عن طريق شرب دواء معين، أو إدخال أدوات صلبة في المهبل؛ لهدف واحد وهو التخلص من الجنين لسبب من الأسباب التي يراها أصحابها أنها مبررات إنسانية، كالتستر على الفاحشة (حمل من سفاح، أو زنا، أو زنا محارم، أو اغتصاب)، ومن هنا سمي إجهاضا اجتماعيا على اعتبار أن إجهاض الجنين المتكون من زنا أو اغتصاب أو زنا محارم يعد حلا لمعضلة اجتماعية حساسة، وقد يجرى كذلك في عيادات طبية بإشراف أطباء متخصصين؛ تحت ذريعة إنقاذ فتيات قُصر أو نساء من حمل غير مرغوب فيه، مقابل مبالغ مالية خيالية!
3- الإجهاض العلاجي: وهذا النوع من الإجهاض الذي يستدعي اللجوء إليه ضرورة طبية؛ "فهو الذي يقوم به الطبيب الموثوق في دينه وعلمه، أو يأمر به إنقاذا لحياة الأم عندما تتعرض للخطر بسبب الحمل"[34]. وسيأتي تفصيله لاحقا
تقسيم الإجهاض عند الأطباء:
أما أنواع الإجهاض عند الأطباء فهي أقسام كثيرة، وذلك راجع إلى مرحلة الحمل، إضافة إلى الدافع لذلك.
فقُسم باعتبار المرحلة التي تم فيها والأسباب الطبية لوقوعه إلى:
1-الإجهاض المهدد أو المنذر: ومعناه حدوث نزيف في الرحم خلال مدة الحمل، وبالذات في بدايته (20 أسبوع الأولى)؛ حيث يكون الجنين حيا؛ إلا أن خطرا كبيرا يتهدده بفعل النزيف، فيكون قابلا للسقوط.
2-الإجهاض الحتمي: ومعناه موت الجنين، وخروجه بفعل انقباض الرحم.
3-الإجهاض المفقود: والمقصود به موت الجنين، وبقائه داخل الرحم.
4-الإجهاض المعتاد: وهو الذي يحدث لوجود تشوهات بالرحم، أو أن عنق الرحم فاقد القدرة على بقائه منغلقا.
5-الإجهاض العفن: وهو الناتج بعد حدوث التهابات في الرحم[35].
أما أقسامه باعتبار الكيفية التي يمر بها فهي:
1-التلقائي
2- والجنائي
3- والعلاجي[36]. وهي التي تقدم ذكرها.
والذي يهمنا من تقسيمات الأطباء للإجهاض هي التقسيمات الثلاث الأخيرة؛ لأن تقسيمات الأطباء الأولى هي باعتبار الأسباب الطبية لوقوعه، أما الذي يهمنا فهو الكيفية التي يتم بها، من أجل معرفة متى يجوز ومتى لا يجوز.
◄ أنواع الإجهاض عند الفقهاء:
يعتمد الفقهاء المسلمون في نظرتهم وحكمهم على الإجهاض على استقراء الآيات والأحاديث النبوية التي تطرقت للجنين ومراحل تكونه في بطن أمه، وقد سبق التطرق لبعض من هذه الآيات والأحاديث.
وكما رأينا في مبحث مراحل تكون الجنين فإن الفقهاء أعطوا اهتماما بالغا للمراحل والأطوار التي وردت، والتي ميزت بين أدوار (النطفة والعلقة والمضغة وتكوُّن اللحم)، وبين مرحلة (النشأة الأخرى)، والتي أثبتت أن النشأة الأخرى تختلف وتتميز عن سابقاتها من المراحل والأطوار؛ وأما مستند هذا الاعتماد فهو أن " العلماء المسلمين يرون أن حقيقة الإنسان لم تتحدد بهيكله المخصوص بما يحتوي عليه من عناصر مادية، وما يتكون منها من أعضاء وأجزاء. وإنما تحددت بروحه التي نفخت فيه"[37]. ومن هنا قسم الفقهاء الإجهاض، أو بالأحرى التعدي على الجنين، إلى قسمين:
1-الإجهاض قبل نفخ الروح
2-الإجهاض بعد نفخ الروح
فأصبح" نفخ الروح" هو الاعتبار والأساس في التقسيم، ومنه تحريم أو إباحة الإجهاض في الشريعة الإسلامية؛ إضافة إلى مجموعة من القواعد المكملة، سنعرفها لاحقا، والتي تختلف من مذهب لآخر.
والذي يجدر التنبيه إليه أيضا أن المواضع التي تم التطرق فيها لموضوع الإجهاض عند فقهائنا، هي مباحث الديات والجنايات، (فصل "غرة الجنين")، وكل المسائل دارت حول تعرض الحامل للضرب أو أية جناية مشابهة أدت إلى قتلها وموت الجنين، ففي هذه الحال تثبت الغرة على عاقلة الجاني لا الدية كاملة؛ لأنه لا يمكن تحقق العمد المحض كما قال الفقهاء؛ إذ قال ابن جزي:" ولا يقتل قاتل الجنين في العمد لأن حياته غير معلومة"[38].
وقال النووي : "فالجناية على الجنين قد تكون خطأ محضا بأن يقصد غير الحامل فيصيبها، وقد تكون شبه عمد، بأن يقصد ضربها بما يؤدي إلى الإجهاض غالبا، فتجهض، ولا تكون عمدا محضا؛ لأنه لا يتحقق وجوده وحياته حتى يقصد، هذا هو الصحيح"[39].
وقد نص على وجوب الغرة حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه - أن "امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أمة"[40]. من دون التفريق بين كون الجنين ذكرا أو أنثى، " لأن السنة لم تفرق بينهما"[41]، كما قال ابن قدامة.
ومن دون التفريق بين كون الجنين تام الخلقة أو ناقصا كما قال المالكية؛ إذ قال ابن جزي:" ودية الجنين عبد أو وليدة، وسواء كان ذكرا أو أنثى، وسواء تم خلقه أو لم يتم إذا خرج من بطن أمه ميتا"[42]. وقال الزرقاني:" حكم في الجنين حال كونه قتل في بطن أمه ذكر أو أنثى، ولو مضغة أو علقة، أو ما يعلم أنه ولد عند مالك بغرة"[43].
وهذا حال حدوث جناية على الأم، أما لو كانت الجناية مقصودا بها الجنين نفسه كما نريد أن نبحثه، فماهو الحكم؟ وهل يختلف الحال لو كانت الجناية من الأم نفسها؟
المبحث الرابع: آراء فقهاء المذاهب الأربعة في حكم الإجهاض
أولا: آراء الفقهاء في حكم الإجهاض بعد نفخ الروح
أجمع الفقهاء على أن نفخ الروح في الجنين يكون بعد المئة والعشرين يوما من الحمل.
ودليلهم في هذا الرأي:
قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:{إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح}[44].
فإذا وجدت به الحياة بوجود الروح، وإيجاب الرسول صلى الله عليه وسلم الغرة بقتله؛ فإن ذلك مؤداه اعتبار الجنين بعد الشهر الرابع إنسانا تثبت له كل الحقوق التي تثبت للذي انفصل عن أمه حيا .
وإذا ثبتت الغرة بالجناية على الجنين في بطن أمه على الذي قصد قتلها؛ فمن باب أولى على الأم كذلك إذا قصدت إسقاطه للتخلص منه. إذًا الأصل في الإجهاض بعد نفخ الروح الحظر والتحريم إلا للضرورة الطبية؛ أي أن استمرار الحمل يضر بصحة الأم ويهدد حياتها كما جاء في آراء الفقهاء القدامى والمعاصرين.
قال أحمد في امرأة شربت دواء فأسقطت، إن كانت تعمدت فأحب إلي أن تعتق رقبة، وإن سقط حيا ثم مات فالدية على عاقلتها لأبيه… قيل له: فإن شربت عمدا، قال هو شبيه بالعمد، شربت لا تدري يسقط أم لا . عسى لا يسقط. الدية على العاقلة"[45].
وبمثله قال أبو الحسن الماوردي بقوله: "وهكذا لو شربت الحامل دواء فأسقطت جنينا ميتا، روعي حال الدواء. فإن زعم علماء الطب أن مثله قد يسقط الأجنة، ضمنت جنينها، وإن قالوا: مثله لا يسقط الأجنة لم تضمنه، وإن أشكل وجوزوه ضمنته؛ لأن الظاهر من سقوطه أنه من حدوث شربه… كذا لو امتنعت الحامل من الطعام والشراب حتى ألقت جنينها…"[46].
ثانيا: آراء الفقهاء في حكم الإجهاض قبل نفخ الروح
وأما الجناية على الجنين قبل نفخ الروح فيه؛ أي في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل؛ ففي وجوب الغرة (وهي العقاب الدنيوي)، وإثم الجاني (وهو العقاب الأخروي)، سواء أكانت الجناية من الأم أو غيرها، اختلاف بين الفقهاء، ومرد اختلافهم راجع إلى رأيهم في المراد بـ"تصور الجنين وتخلقه"؛ أي في أي مرحلة يكون الجنين، ثم قول البعض أن الغرة بدل الحياة؛ فحيث لا حياة لا غرة.
وهذه أراء أئمة المذاهب الأربعة وبعض تلاميذتهم، والتي انقسم فيها الفقهاء إلى محرم ومانع للإجهاض في أي مرحلة من مراحل تخلق الجنين، وبين مجيز لذلك في مرحلة المضغة غير المخلقة، وبين مبيح للإسقاط في مرحلة الأربعين يوما، وبين مبيح بإطلاق كما سيأتي:
◄ رأي الإمام الغزالي والمالكية:
ومذهب الإمام الغزالي -وهو من الشافعية- التحريم مطلقا، فلا يجوز الجناية على الجنين في أي مرحلة من مراحل نموه، وقد قال" وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشا، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيا"[47].
وإليه ذهب المالكية في قول الدسوقي: "ولا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم ولو قبل الأربعين يوما، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعا"[48]، والرأي نفسه يذهب إليه كلٌّ من ابن العربي، والشيخ محمد عليش[49]، ويذهب الإمام ابن العربي إلى أن للولد ثلاثة أحوال "حال قبل الوجود ينقطع فيها بالعزل، وحال بعد قبض الرحم على المني فلا يجوز حينئذ لأحد التعرض له بالقطع من التولد. والحالة الثالثة بعد انخلاقه قبل أن تنفخ فيه الروح وهو أشد من الأولين في المنع والتحريم. فأما إذا نفخ فيه الروح فهو نفس بلا خلاف"[50].
" ومعنى ذلك أن المالكية (ومعهم بعض الشافعية) لا يجيزون الإسقاط قبل مضي أربعين يوما على الحمل، ولم يستثنوا حالة العذر"[51].
ويتضح من الأقوال السابقة أن اعتبارات تحريم إسقاط الجنين في أية مرحلة من مراحل نموه هي: إنسانيته وحقه في الحياة، وتحصل له هذه الانسانية باختلاط بويضة المرأة مع نطفة الرجل (النطفة الأمشاج) ثم نفخ الروح.
◄ رأي الحنابلة:
وبالتحريم قال الحنابلة أيضا، والتحريم عندهم لا يكون من مرحلة النطفة أو العلقة، بل من مرحلة المضغة، إذا ظهر فيها تخلق. جاء في المغني: "وإن أسقطت ما ليس فيه صورة آدمي فلا شيء فيه؛ لأنا لا نعلم أنه جنين… وإن ألقت مضغة فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية ففيه غرة، وإن شهدت أنه مبتدأ خلق آدمي لو بقي تصور، فيه وجهان، أصحها: لا شيء فيه لأنه لم يتصور فلم يجب فيه كالعلقة"[52]. كذلك جاء في الإنصاف عن الحنابلة[53]. فهنا الحنابلة قد فصلوا القول في مراحل الجنين.
فالراجح عند الحنابلة جواز الإسقاط قبل مرحلة المضغة، وهي المرحلة التي يبدأ فيها تخلق الجنين، استنادا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الآتي ذكره، فإن الإجهاض مباح قبل 42 يوما الأولى؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا مرّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال أي ربِّ أذكر أم أنثى}[54]. فاجتمع عند الحنابلة اعتباران لحرمة الإجهاض وإسقاط الجنين لأي عذر أو سبب، هما: تخلق الجنين، ونفخ الروح فيه.
◄ رأي الشافعية:
وتفصيل الشافعية للمسألة جاء موافقا لمذهب الحنابلة. فعن الإمام النووي أنه قال: "أن الغرة تجب إذا سقطت بالجناية ما ظهر فيه صورة آدمي، كعين أو أذن أو يد ونحوها، ويكفي الظهور في طرف، ولا يشترط في كلها… وإن قلن (القوابل): ليس فيه صورة خفية لكنه أصل آدمي ولو بقي لتصور، لم تجب الغرة على المذهب"[55]. وقال أيضا "فلو جنت الحامل على نفسها بشرب دواء أو غيره، فلا شيء لها من الغرة المأخوذة من عاقلتها، لأنها قاتلة"[56].
ووافقهما الإمام الماوردي فيما يخص المضغة، حيث قال: "وإن المضغة لا يتعلق بها[57] ما سوى الغرة"[58]، ثم قال: "ومحصول هذه الأحوال التي جاءت في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 12-14). يرجع إلى ثلاثة أقسام: مضغة، وما قبلها، وما بعدها"[59]. ومؤدى كلامه أن لتصور الجنين اعتبارًا في جناية الإسقاط، وهو مذهب الحنابلة -كما رأينا- في جواز إسقاط الجنين قبل الاثنين والأربعين (42) يوما الأولى.
◄ رأي الأحناف:
وبمثل القول الأخير للشافعية قال الإمام السرخسي من الأحناف في قوله: "ثم الماء في الرحم ما لم يفسد فهو معد للحياة، فيجعل كالحي في إيجاب الضمان بإتلافه… وجناية الأب أغلظ من جناية الأجنبي لأنه انضم إلى تعمده القتل بغير حق وارتكابه ما هو محظور مع قطيعة الرحم"[60].
وإليه كذلك ذهب صاحب بدائع الصنائع في تعليل وجوب الغرة للجنين بقوله: "ولأن الجنين إذا كان حيا فقد فوت الضارب حياته، وتفويت الحياة قتل؛ وإن لم يكن حيّا فقد منع من حدوث الحياة فيه فيضمن… وسواء استبان خلقه أو بعض خلقه… وإن لم يستبن شيء من خلقه فلا شيء فيه لأنه ليس بجنين إنما هو مضغة"[61]. وهو المنقول عن الإمام المرغيناني الحنفي، فقد قال: "والجنين الذي استبان بعض خلقه بمنزلة الجنين التام في جميع الأحكام؛ لأن بهذا القدر يتميز عن العلقة والدم، فكان نفسا، والله أعلم"[62].
إلا أن صاحب تكملة شرح فتح القدير يعارضه في كلامه الأول بقوله: "وليس بسديد؛ فإن تيقن كونه معدا للحياة ممنوع لجواز أن يفسد الماء في الرحم فحينئذ ينتفي استعداده للحياة"[63]. ومقتضى قول صاحب "تكملة شرح فتح القدير" هو جواز الإسقاط قبل نفخ الروح، ما لم يتخلق. وإليه كذلك ذهب ابن عابدين بعد إيراده أقوال الكثير من علماء الأحناف، قال ابن عابدين: "ولا يخفى أنها تأثم لو استبان خلقه ومات بفعلها"[64].
ومما نستخلصه من أقوال فقهاء المذاهب الأربعة أن:
الإجهاض بعد نفخ الروح لأي عذر من الأعذار محرم تحريم قاطع، سوى عذر علاج الحامل للحفاظ على صحتها.
وأما قبل نفخ الروح فالمسألة فيها تفصيل وأراء بحسب المرحلة التي بها الجنين؛ فإن الإمام الغزالي وأئمة المذهب المالكي متفقون على تحريم الإجهاض مطلقا، أي منذ أن يكون نطفة إلى إلى مرحلة ماقبل نفخ الروح فيه، على أساس أن النطفة مستعدة لقبول الحياة، والجناية عليها ممنوعة بأي حال من الأحوال؛ ففي أجهاض الجنين في مراحله الأولى تعدٍ على إنسانيته وحقه في الحياة، حتى أن الإمام الغزالي وصف إفساد إلتقاء النطفة مع البويضة بالجناية، وإفساد المضغة والعلقة جناية أفحش من سابقتها، وهكذا... وهو القول الذي ذهب إليه بعض أئمة الأحناف، مثل الإمام السرخسي.
أما الحنابلة والشافعية وبعض الفقهاء الحنفية فإنهم ذهبوا إلى أن منع التعدي على الجنين يكون من مرحلة المضغة فقط لا قبلها؛ لأنه لم يتصور بعد، وأما في المرحلة الثانية من المضغة، وإن ظهر تصور قليل فإن الراجح أنه لا يعد تعديا أو جناية، فأساس التعدي هو بدأ تخلق الجنين، وأما قبلها فإن المسألة مباحة، أي جواز إسقاط الجنين قبل الاثني والأربعين يوما، وهي " المرحلة التي يكون فيها الجنين وسطا بين الوجود الإنساني وخلافه"[65].
والحاصل من مناقشتنا لمختلف الأقوال هو اتفاق المذاهب الثلاثة خلافا للمذهب المالكي والإمام الغزالي في جواز إسقاط الجنين، وعدم وجوب الغرة على الجاني في المرحلة الأولى من مراحل تكون الجنين، حتى مرحلة المضغة، لأنها بداية التخلق، وتَكوُّن صورة الجنين؛ فعندها تحرم الجناية عليه بأي طريق، ولأي عذر؛ فالاعتبار في حرمة الإسقاط يعود إلى ظهور بعض معالم التخلق في الجنين غير الكامل، ثم نفخ الروح في الجنين كامل الخلقة، خلافا للمالكية والإمام الغزالي الذين ذهبوا إلى حرمة فعل الإسقاط بدءا من استقرار الماء في الرحم.
المبحث الخامس: آراء الفقهاء المعاصرين والأطباء في حكم الإجهاض
يتبع