تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : دراسة تحليلية للحديث **متجددة



ابو وليد البحيرى
2018-10-01, 04:59 AM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (1)


قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ـ رحمه الله ـ في كتاب العلم من صحيحه:
(باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)




حدثنا سعيد بن عفير قال حدثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: قال حميد بن عبد الرحمن سمعت معاوية خطيباً يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، و لا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)).

المبحث الأول: التخريج:
هذا الحديث رواه البخاري بتمامه في ثلاثة مواضع هذا أحدها، والثاني في (كتاب فرض الخمس) حيث قال: حدثنا حبان بن موسى أخبرنا عبد الله عن يونس عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، والله المعطي وأنا القاسم، ولا تزال هذه الأمة ظاهرة على من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون))، والثالث في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة) حيث قال: حدثنا إسماعيل حدثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أخبرني حميد قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم ويعطي الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله )).
ورواه مسلم في (كتاب الزكاة) من صحيحه دون الجملة الأخيرة في موضعين قال في الأول:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبه حدثنا زيد بن الحباب أخبرني معاوية بن صالح حدثني ربيعة بن يزيد الدمشقي عن عبد الله بن عامر اليحصبي قال: سمعت معاوية يقول: إياكم وأحاديث إلاّ حديثاً كان في عهد عمر، فإن عمر كان يخيف الناس في الله عزوجل، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما أنا خازن، فمن أعطيته عن طيب نفس فيبارك الله له فيه، ومن أعطيته عن مسألة وشرَه كان كالذي يأكل ولا يشبع)).
وقال في الثاني: حدثني حرملة بن يحيى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: حدثني حميد بن عبد الرحمن بن عوف قال سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو يخطب يقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم ويعطي الله)).
ورواه في (كتاب الإمارة) دون الجملة الوسطى فقال: حدثني إسحاق بن منصور أخبرنا كثير بن هشام حدثنا جعفر ـ وهو ابن برقان ـ حدثنا يزيد بن الأصم قال سمعت معاوية بن أبي سفيان ذكر حديثاً رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم أسمعه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم على منبره حديثاً غيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة)).
وقد روى الشيخان الجملة الأخيرة فقط في أحاديث أخرى غير هذه الأحاديث المذكورة.
وقال الترمذي في جامعه: (باب إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين)، حدثنا عليّ بن حجر حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرني عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)). وفي الباب عن عمر، وأبي هريرة، ومعاوية، هذا حديث حسن صحيح. انتهى.
ورواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بمثل الجملة الأولى عند الشيخين والترمذي، ورواه أيضاً من حديث معاوية رضي الله عنه ولفظه: ((الخير عادة، والشر لجاجة، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)).
ورواه ابن حبان في صحيحه فقال: أخبرنا ابن قتيبة وهو محمد بن الحسن ـ قال حدثنا حرملة بن يحيى قال حدثنا ابن وهب قال أنبأنا يونس عن ابن شهاب قال أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)).
ورواه البخاري تعليقاً في (باب العلم قبل القول والعمل) من (كتاب العلم) فقال: وقال صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقهه، وإنما العلم بالتعلم...))، قال الحافظ ابن حجر: كذا في رواية الأكثر، وفي رواية المستملي (يفهمه)، ثم أشار إلى أن البخاري وصله باللفظ الأول، ثم قال: وأما اللفظ الثاني فأخرجه ابن أبي عاصم في (كتاب العلم) من طريق ابن عمر عن عمر مرفوعاً وإسناده حسن.
والفقه هو الفهم قال الله تعالى: ( فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ) أي لا يفهمون، والمراد الفهم في الأحكام الشرعية قال: وقوله: ((وإنما العلم بالتعلم)) هو حديث مرفوع أيضاً أورده ابن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية أيضاً بلفظ: ((يا أيها الناس تعلموا، إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)). إسناده حسن إلاّ أن فيه مبهماً اعتضد بمجيئه من وجه آخر، وروى البزار نحوه من حديث ابن مسعود موقوفاً. ورواه أبو نعيم الأصبهاني مرفوعاً، وفي الباب عن أبي الدرداء وغيره، فلا يغتر بقول من جعله من كلام البخاري، والمعنى: ليس العلم المعتبر إلاّ المأخوذ من الأنبياء وورثتهم على سبيل التعلم. انتهى.
وقال الحافظ أبو بكر الهيثمي في (مجمع الزوائد): وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)). رواه الطبراني في الأوسط وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)). رواه الطبراني في الصغير ورجاله رجال الصحيح.
وعن عبد الله ـ يعني ابن مسعود رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين وألهمه رشده)). رواه البزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون. انتهى.
وأورد الحافظ المنذري في كتابه (الترغيب والترهيب) حديث ابن مسعود هذا، وقال: رواه البزار والطبراني في الكبير بإسناد لا بأس به، وأورد حديث معاوية عند الشيخين وابن ماجه وقال: ورواه أبو يعلى وزاد فيه: ((ومن لم يفقهه لم يبال به)). وروى حديث معاوية رضي الله عنه أبو نعيم في (الحلية) في ترجمة رجاء بن حيوة من رواية يونس بن ميسرة عنه، وفي ترجمة عليّ بن عبد الحميد من رواية عبد الله بن عامر عنه، ورواه بلفظ: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ويلهمه رشده)) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه في ترجمة شقيق بن سلمة من رواية أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي وائل عنه، وقال: غريب من حديث الأعمش تفرد به أبو بكر بن عياش.
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله): باب قوله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)). ثم روى بسنده إلى ابن عمر مرفوعاً: ((من يرد الله به خيراً يفقهه)). ورواه بسنده عنه عن أبيه عمر رضي الله عنهما مرفوعاً بلفظ: ((من يرد الله أن يهديه يفقهه))، ثم قال: أخبرنا محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكشي قال حدثنا سليمان بن داود الشاذكوني قال حدثنا عبد الواحد بن زياد قال حدثنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)). وفي هذا الباب حديث معاوية صحيح أيضاً: حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد بن مسرهد قال حدثنا يحيى القطان عن ابن عجلان قال حدثنا محمد بن كعب القرظي قال: كان معاوية بن أبي سفيان يخطب بالمدينة يقول: ((أيها الناس إنه لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع الله، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، سمعت هذه الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعواد)).
وأخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا عليّ بن محمد قال حدثنا أحمد بن داود قال حدثنا سحنون قال أخبرنا عبد الله بن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن (كذا، والصواب حميد بن عبد الرحمن)، قال سمعت معاوية وخطبنا فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على الحق أمر الله، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)). وروى نحوه بسنده إلى الإمام البخاري ومنه عن شيخه سعيد بن عفير بمثل سنده في (كتاب العلم) من صحيحه، وروى بسنده إلى كثير بن هشام في سند الحديث الذي أورده الإمام مسلم في (كتاب الإمارة) ومنه بمثل سنده ومتنه عنده. وروى بسنده إلى عبد الله بن محيريز عن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين)). انتهى. ورواه أبو داود الطيالسي بسنده إلى محمد بن كعب القرظي عن معاوية بنحو حديثه المتقدم ذكره عند ابن عبد البر.
خلاصة التخريج:
والخلاصة أن الجملة الأولى التي ترجم بها الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ وهي قوله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) رواها الشيخان، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، وابن أبي عاصم، والطبراني، وأبو يعلى، وأبو نعيم الأصبهاني، وأبو عمر بن عبد البر، وأبو داود الطيالسي، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. ورواها الترمذي والإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ورواها ابن ماجه، والطبراني في (الصغير)، وأبو عمر بن عبد البر، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ورواها ابن أبي عاصم، والطبراني في (الأوسط)، وأبو عمر بن عبد البر، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ورواها أبو عمر بن عبد البر من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ورواها البزار، والطبراني في (الكبير)، وأبو نعيم في (الحلية) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
من فوائد هذا التخريج:
(1) الوقوف على كثرة طرق الحديث، ومعلوم أن كثرة الطرق تحصل بها زيادة القوة.
(2) الوقوف على تصريح عبد الله بن وهب بالإخبار والإنباء كما في إحدى الروايات عند مسلم وكما عند ابن حبان، وعبد الله بن وهب قد وصفه ابن سعد بالتدليس كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري أن مدار أسباب الجرح على خمسة أشياء فذكر من بينها: دعوى الانقطاع في السند، بأن يدعي في الراوى أنه كان يدلس أو يرسل، ثم قال عند الجواب عن ذلك: وأما دعوى الانقطاع فمدفوعة عمن أخرج لهم البخاري لما علم من شرطه، ومع ذلك فحكم من ذكر من رجاله بتدليس أو إرسال أن تسبر أحاديثهم الموجودة عنده ـ أي البخاري ـ بالعنعنة، فإن وجد التصريح بالسماع فيها اندفع الاعتراض وإلا فلا.
وهذا الحديث قد رواه ابن وهب بالعنعنة عند البخاري، وقد صرح بالإخبار عند مسلم، والإنباء عند ابن حبان كما رأيت، فاندفع الاعتراض بعد حصر الطرق والوقوف عليها.
(3) معرفة المكان الذي خطب فيه معاوية رضي الله عنه وأنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، كما أشارت إلى ذلك إحدى روايات مسلم، وأوضحته رواية ابن عبد البر.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد بإيجاز:
الأول: أول رجال الإسناد سعيد بن عفير شيخ البخاري، وهو سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم بن يزيد بن الأسود الأنصاري مولاهم، أبو عثمان المصري، وقد ينسب إلى جده كما في إسناد هذا الحديث.
روى عن الليث، ومالك، وابن وهب، وغيرهم. وروى عنه البخاري في الصحيح والأدب المفرد، وخرّج حديثه مسلم، وأبو داود في القدر، والنسائي.
قال الحافظ في (التقريب): صدوق عالم في الأنساب وغيرها. وقال: وقد رد ابن عدي على السعدي في تضعيفه. وقال في (تهذيب التهذيب): وذكره ابن حبان في (الثقات). وقال إبراهيم بن الجنيد وابن معين: ثقة لا بأس به. وقال النسائي: سعيد بن عفير صالح، وابن أبي مريم أحب إليَّ منه. وقال الحاكم: يقال إن مصر لم تخرج أجمع للعلوم منه. وقال في (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال): قال ابن عدي صدوق ثقة. وقال الحافظ في (هدي الساري): ونقل عن الدولابي عن السعدي قال: سعيد بن عفير فيه غير لون من البدع، وكان مخلطاً غير ثقة. ثم تعقب ذلك ابن عدي فقال: هذا الذي قاله السعدي لا معنى له، ولا بلغني عن أحد في سعيد كلام، وهو عند الناس ثقة ولم ينسب إلى بدع، ولا كذب، ولم أجد له بعد استقصائي على حديثه شيئاً ينكر عليه سوى حديثين رواهما عن مالك. فذكرهما وقال: لعل البلاء فيهما من ابنه عبيد الله لأن سعيد بن عفير مستقيم الحديث. ثم قال الحافظ: قلت: لم يكثر عنه البخاري، وروى له مسلم والنسائي. وقال في (تهذيب التهذيب) ولد سنة 146 وتوفى سنة 226هـ.
الثاني: ابن وهب وهو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم، أبو محمد المصري الفقيه، ثقة حافظ عابد. قاله الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب).
روى عن عمرو بن الحارث، وحيوة بن شريح، والليث بن سعد، ويونس بن يزيد، وغيرهم. وروى عنه شيخه الليث بن سعد، وعبد الرحمن بن مهدي، وعليّ بن المديني، وحرملة بن يحيى، وغيرهم. قال فيه الإمام أحمد: كان ابن وهب له عقل ودين وصلاح. وقال: ما أصح حديثه وأثبته. وقال أحمد بن صالح: حدث ابن وهب بمائة ألف حديث. وقال ابن خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: نظرت في نحو ثلاثين ألفاً من حديث ابن وهب بمصر وغير مصر، لا أعلم أني رأيت له حديثاً لا أصل له، وهو ثقة. وقال ابن سعد: عبد الله بن وهب كان كثير العلم، ثقة فيما قال: حدثنا، وكان يدلس. وقال العجلي: مصري ثقة صاحب سنة، رجل صالح صاحب آثار. وعن ابن وضاح قال: كان مالك يكتب إلى عبد الله بن وهب: فقيه مصر، قال: وما كتبها مالك إلى غيره. ذكر ذلك وغيره الحافظ في (تهذيب التهذيب)، وقال: وقال ابن يونس: حدثني أبي عن جدي قال: سمعت ابن وهب يقول: ولدت سنة 125وطلبت العلم وأنا ابن سبع عشرة سنة. وكانت وفاته سنة 197 رحمه الله، وقد خرج حديثه الجماعة.
الثالث: يونس بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي ـ بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام ـ أبو يزيد مولى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ثقة إلاّ أن في روايته عن الزهري وهماً قليلاً، وفي غير الزهري خطأ. قاله الحافظ في (تقريب التهذيب).
روى عن الزهري، ونافع مولى ابن عمر، وهشام بن عروة، وغيرهم. وروى عنه الليث، والأوزاعي، وابن المبارك، وابن وهب، وغيرهم. كما في (تهذيب التهذيب). وقال الحافظ في (هدي الساري): قلت: وثقه الجمهور مطلقاً، وإنما ضعفوا بعض روايته حيث يخالف أقرانه أو يحدث من حفظه، فإذا حدّث من كتابه فهو حجة. قال ابن البرقي: سمعت ابن المديني يقول: أثبت الناس في الزهري مالك، وابن عيينة، ومعمر، وزياد بن سعد، ويونس من كتابه، وقد وثقه أحمد مطلقاً، وابن معين، والعجلي، والنسائي، ويعقوب بن شيبة، والجمهور، واحتج به الجماعة. وقال في التقريب: مات سنة تسع وخمسين ـ أي بعد المائة على الصحيح ـ، وقيل سنة ستين.
الرابع: ابن شهاب الزهري، وهو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري، وكنيته أبو بكر الفقيه الحافظ، متفق على جلالته وإتقانه. قاله الحافظ في (التقريب). وقال في (تهذيب التهذيب): الفقيه أبو بكر، الحافظ المدني، أحد الأئمة الأعلام، وعالم الحجاز والشام. انتهى.
وقد روى عن جماعة من الصحابة منهم: عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وأبو الطفيل، ومحمود بن الربيع. وروى عن الفقهاء السبعة وغيرهم. وروى عنه عطاء بن أبي رباح، وأبو الزبير المكي، والأوزاعي، وابن جريج، ويونس بن يزيد، والليث بن سعد، وهشيم، وسفيان بن عيينة، وغيرهم.
قال البخاري عن عليّ بن المديني: له نحو ألفي حديث. وقال ابن سعد: قالوا: وكان الزهري ثقة كثير الحديث، والعلم، والرواية، فقيهاً جامعاً. وقال ابن وهب عن الليث: كان ابن شهاب يقول: ما استودعت قلبي شيئاً فنسيته. وقال النسائي: أحسن أسانيد تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة، وذكر من بينها: الزهري عن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جده، والزهري عن عبيد الله عن ابن عباس. ذكر ذلك وغيره الحافظ في (تهذيب التهذيب). وقال ابن خلكان في (وفيات الأعيان): هو أحد الفقهاء والمحدثين والأعلام التابعين بالمدينة، رأى عشرة من الصحابة رضوان الله عليهم، وروى عنه جماعة من الأئمة منهم: مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري. وقال: وقيل لمكحول: من أعلم من رأيت؟ قال: ابن شهاب، قيل له: ثم مَن؟ قال: ابن شهاب، قيل له: ثم مَن؟ قال: ابن شهاب، وكان قد حفظ علم الفقهاء السبعة، وقال: وكان إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله فيشتغل بها عن كل شيء من أمور الدنيا، فقالت له امرأته يوماً: والله لهذه الكتب أشد عليَّ من ثلاث ضرائر. وقال: وتوفي ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، سنة أربع وعشرين ومائة، وقيل ثلاث وعشرين، وقيل خمس وعشرين ومائة، وهو ابن اثنتين وقيل ثلاث وسبعين سنة، وقيل مولده سنة إحدى وخمسين للهجرة، والله أعلم. انتهى. وقد خرج حديثه الجماعة رحمه الله.
وابن شهاب هو الذي قام بتدوين الحديث النبوي بأمر عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ لهذا يطلقون عليه ـ رحمه الله ـ أنه واضع علم الحديث رواية، ويقول السيوطي في ألفيته:
أول جامع الحديث والأثر ** ابن شهـاب آمـر لـه عمر
الخامس: حميد بن عبد الرحمن، وهو: حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني. عن أمه أم كلثوم بنت عقبة، وخاله عثمان، وطائفة. وعنه ابنه عبد الرحمن، وابن أخيه سعد، والزهري. وثقه أبو زرعة وقال: مات سنة خمس وتسعين، قاله الخزرجي في (خلاصة التذهيب). وقال الحافظ في (التقريب): ثقة من الثانية. وقال في (تهذيب التهذيب): إن كنيته أبو إبراهيم، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عثمان، وقال: قال العجلي وأبو زرعة وأبو خراش: ثقة. وقال: توفى سنة 95 وهو ابن ثلاث وسبعين سنة. انتهى. وقد خرّج حديثه الجماعة.
السادس: صحابي الحديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، قال الحافظ في (التقريب): معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموي أبو عبد الرحمن الخليفة، صحابي أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي، ومات في رجب سنة ستين، وقد قارب الثمانين. انتهى.
وقال في (تهذيب التهذيب): أسلم يوم الفتح، وقيل: قبل ذلك، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وأخته أم حبيبة. وعنه جرير بن عبد الله البجلي، والسائب بن يزيد الكندي، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقيس بن أبي حازم، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف، وأناس آخرون ذكرهم في (تهذيب التهذيب)، ثم قال: ولاه عمر بن الخطاب الشام بعد أخيه يزيد، فأقره عثمان مدة خلافته، ثم ولي الخلافة. قال ابن اسحاق: كان معاوية أميراً عشرين سنة، وخليفة عشرين سنة. انتهى.
وقال في (الخلاصة): له مائة وثلاثون حديثاً، اتفقا ـ البخاري ومسلم ـ على أربعة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة. وقال الموفق ابن قدامة المقدسي في (لمعة الاعتقاد): ((ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، وأحد خلفاء المسلمين )).
وقال شارح الطحاوية: ((وأول ملوك المسلمين معاوية رضي الله عنه، وهو خير ملوك المسلمين)) انتهى.
وقد حصل بينه وبين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه شيء من الخلاف، وكل منهما قد اجتهد، والمجتهد المصيب له أجران، والمجتهد المخطئ له أجر واحد وخطؤه مغفور، والواجب على كل مسلم أن يصون لسانه عما جرى بينهما خصوصاً، وعما جرى بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم عموماً، إلا بالكلام في الخير، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت))، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في (العقيدة الواسطية): ((ومن أصول أهل السنة والجماعة، سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله به في قوله تعالى: ( والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمن ولا تجعل في قلوبنا غلاّ للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) وطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه)).
وقال شارح الطحاوية: ((فمن أضل ممن يكون في قلبه غلّ على خيار المؤمنين، وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين))، وقال أيضاً بعد الإشارة إلى ما جرى بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما واعتذاره عنهما: ((ونقول في الجميع بالحسنى: ( والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمن ولا تجعل في قلوبنا غلاّ للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) والفتن التي كانت في أيامه ـ أي أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه ـ قد صان الله عنها أيدينا فنسأله تعالى أن يصون عنها ألسنتنا بمنه وكرمه)). انتهى.
ويقول الطحاوي ـ رحمه الله ـ في عقيدته: ((وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين، أهل الخبر والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلاّ بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل)).
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في (البداية والنهاية): وروى البيهقي عن الإمام أحمد أنه قال: ((الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ. فقيل له فمعاوية، قال: لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمان عليّ من عليّ، ورحم الله معاوية.
وقال: قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني عباد بن موسى حدثنا عليّ بن ثابت الجزري عن سعيد بن أبي عروبة عن عمر بن عبد العزيز قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت عليه وجلست، فبينا أنا جالس إذ أتي بعليّ ومعاوية فأدخلا بيتا وأجيف الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج عَليٌّ وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة، ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة)).
وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية فقال له: ولِمَ؟ قال: لأنه قاتل عليّاً، فقال له أبو زرعة: ويحك، إن رب معاوية رحيم وخصم معاوية خصم كريم، فأيش دخولك أنت بينهما؟ رضي الله عنهما.
وسئل الإمام أحمد عما جرى بين عليّ ومعاوية فقرأ: ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون )، وكذا قال غير واحد من السلف. وقال الأوزاعي: سئل الحسن عما جرى بين عليّ وعثمان فقال: ((كانت لهذا سابقة ولهذا سابقة، ولهذا قرابة ولهذا قرابة، فابتلي هذا، وعوفي هذا))، وسئل عما جرى بين عليّ ومعاوية فقال: ((كانت لهذا قرابة، ولهذا قرابة، ولهذا سابقة ولم يكن لهذا سابقة فابتليا جميعاً))، وقال أيضاً:وقال محمد بن يحيى بن سعيد: سئل ابن المبارك عن معاوية، فقال: ((ما أقول في رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمع الله لمن حمده، فقال خلفه: ربنا ولك الحمد))، فقيل له: أيهما أفضل هو أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: ((لتراب في منخري معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز)).
وقال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وغيره: سئل المعافى بن عمران: أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فغضب وقال للسائل: ((أتجعل رجلاً من الصحابة مثل رجل من التابعين؟ معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله)). وقال أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي: ((معاوية ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه)). وقال الميموني: ((قال لي أحمد بن حنبل: يا أبا الحسن، إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام)).
وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن رجل تنقص معاوية وعمرو بن العاص، أيقال له رافضي؟ فقال: ((إنه لم يجترىء عليهما إلاّ وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحداً من الصحابة إلاّ وله داخلة سوء)). وقال ابن المبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال: ((ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قط إلاّ إنساناً شتم معاوية فإنه ضربه أسواطاً)). إلى غير ذلك من الكلمات الجميلة المأثورة عن سلف هذه الأمة في حق خيار الخلق بعد النبيين والمرسلين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الإسناد الستة خرّج حديثهم الشيخان البخاري ومسلم، بل قد خرّج لهم أيضاً بقية أصحاب الكتب الستة ما عدا سعيد بن عفير شيخ البخاري فقد خرّج له مع الشيخين النسائي وأبو داود في القدر ولم يخرج حديثه الباقون.
(2) في سند الحديث تابعيان مدنيان قرشيان زُهريان هما: ابن شهاب الزهري وشيخه حميد بن عبد الرحمن بن عوف، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.
(3) في سند الحديث مصريان وهما: شيخ البخاري سعيد بن عفير وشيخ شيخه عبد الله بن وهب.
(4) نصف سند الحديث الأعلى قرشيون وهم: معاوية رضي الله عنه، وحميد بن عبد الرحمن، وابن شهاب الزهري، ونصفه الأدنى من الموالي فسعيد بن عفير مولى الأنصار، وابن وهب مولى القرشيين، ويونس بن يزيد مولى الأمويين.
(5) يونس بن يزيد الأيلي مولى معاوية بن أبي سفيان الأموي رضي الله عنه كما في (تهذيب التهذيب)، ففي سند الحديث مولى من أعلى وهو معاوية رضي الله عنه، ومولى من أسفل وهو يونس بن يزيد.
(6) قول معاوية رضي الله عنه في الحديث: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين...)) الخ. يسمى المرفوع من القول تصريحاً.
(7) إخبار حميد بن عبد الرحمن بالهيئة التي حصل فيها أداء الحديث من معاوية رضي الله عنه وهي كونه يخطب، يدل على ضبطه وإتقانه لما رواه، ومثل هذا يعد من الطرق التي يستفاد بها ذلك في رواية الراوي وتحمله عند المحدثين.
(8) عبد الله بن وهب مدلس وقد صرّح بالإخبار والإنباء كما تقدم إيضاح ذلك في فوائد التخريج، وابن شهاب الزهري وصفه الذهبي في (ميزان الاعتدال) بأنه يدلس نادراً، وهذا الحديث بصيغة (قال) الشبيهة (بعن) وقد صرّح بالإخبار عند البخاري في (كتاب الاعتصام)، وصرح بالتحديث عند مسلم في (الزكاة) وتقدم سياقهما في التخريج.
(9) إن تتبعنا لطرق هذا الحديث يسمى مثله في علم مصطلح الحديث الاعتبار.
ورواية إسماعيل بن أبي أويس عند البخاري، وحرملة بن يحيى عند مسلم، عن ابن وهب، تسمى متابعة تامة، لأن سعيد بن عفير توبع في رواية الحديث عن شيخه ابن وهب.
ورواية حبان بن موسى عن عبد الله عن يونس، وكذا الروايات الأخرى التي تلتقي أسانيدها مع إسناد سعيد بن عفير في الرواية عن معاوية رضي الله عنه تسمى متابعة قاصرة.
أما الروايات التي ورد بها الحديث من طريق صحابة آخرين وهم: عمر وابنه عبد الله، وابن عباس، وابن مسعود، وأبو هريرة رضي الله عنهم فتسمى شواهد.
(10) قال الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر): ((ومن المهم في هذا الفن معرفة من اختلف في كنيته ومن كثرت كناه))، وفي سند هذا الحديث حميد بن عبد الرحمن بن عوف قال فيه الحافظ في (تهذيب التهذيب): أبو إبراهيم، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عثمان.
(11) وقال في (نخبة الفكر) أيضاً: ((ومن المهم معرفة من وافقت كنيته اسم أبيه))، وفي سند هذا الحديث شاهد لذلك: فيونس الأيلي كنيته أبو يزيد واسم أبيه يزيد.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) هذا الحديث مشتمل على ثلاث جمل كل واحدة منها لها معنى قائم بنفسه، والموافق للترجمة منها هو الجملة الأولى، وذكر الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) أن الجمل الثلاث قد تتعلق جميعها بترجمة الباب من جهة إثبات الخير لمن تفقه في دين الله، وأن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط بل لمن يفتح الله عليه به، وأن من يفتح الله عليه بذلك لا يزال جنسه موجوداً حتى يأتي أمر الله.
(2) قوله (يفقهه في الدين) معناه يفهمه، يقال: فقُه بالضم إذا صار الفقه له سجية، وفقَه بالفتح إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقِه بالكسر إذا فهم، والمراد به الفهم في الأحكام الشرعية، أي الفهم الذي يثمر العمل ليكون فقهه وعلمه له لا عليه كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((والقرآن حجة لك أو عليك)).
(3) قال الحافظ في (الفتح): ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين، أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع فقد حرم الخير، وقد أخرج أبو يعلى حديث معاوية رضي الله عنه من وجه آخر ضعيف وزاد في آخره: ((ومن لم يتفقه في الدين لم يبال الله به))، والمعنى صحيح، لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيهاً ولا طالب فقه، فيصح أن يوصف بأنه ما أريد به الخير. انتهى.
(4) الحديث دال على مادلت عليه الآيات الكثيرة، والأحاديث المستفيضة من وصف الله بالإرادة، ومعلوم أن مذهب أهل السنة والجماعة في باب أسماء الله وصفاته: تنـزيهه عما نزّه عنه نفسه، وإثبات جميع ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، من الأسماء والصفات على الوجه اللائق بجلال الله، بدون تكييف ولا تمثيل، وبدون تأويل أو تعطيل، كما قال سبحانه وتعالى: ( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير )، وصفات الله تعلى كلها يقال في بعضها ما يقال في البعض الآخر، دون فرق بين صفة وصفة، فكل ما ثبت في الكتاب والسنة من العلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والقدرة، واليدين، والوجه، والغضب، والرضا، والاستواء على العرش، وغير ذلك، يجب إثباته له، واعتقاده على النهج الواضح الذي بينه الله بقوله ( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير )، وكما أن لله ذاتاً لا تشبه الذوات، فكذا صفاته الثابتة بالكتاب والسنة تثبت على الوجه اللائق بالله، دون أن يكون فيها مشابهاً لخلقه، فإنه يقال في الصفات ما قيل في الذات سواء بسواء، كما أنه يقال في بعض الصفات ما قيل في البعض الآخر سواء بسواء.
وإرادة الله تعالى عند أهل السنة نوعان دل عليهما كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم: (إحداهما) بمعنى المشيئة الكونية القدرية، و(الثانية) الإرادة الدينية الشرعية، والفرق بينهما:
أن الكونية القدرية شاملة لكل شيء، لا فرق فيها بين ما يحبه الله وما يبغضه، ولابد من وقوع ما تقتضيه، وأما الدينية الشرعية فهي خاصة فيما يحبه الله ويرضاه، ولا يلزم وقوع ذلك، فالله تعالى أراد من الإنس والجن شرعاً وديناً أن يعبدوه وحده، وذلك محبوب إليه، ولذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل، وأراد كوناً وقدراً في بعض عباده الخير، فاجتمع لهم الأمران الكوني والشرعي، وأراد في البعض الآخر غير ذلك فوقعت في حقه الكونية دون الدينية الشرعية، فالذي أراده كوناً وقدراً: أن يكون الناس فريقين فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير، ولابد من وقوع ذلك، ولو شاء غير ذلك لوقع، كما قال الله تعالى: ( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين )، وقال ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجِّنة والناس أجمعين )، أما بيان الحق والدعوة إليه فهو حاصل للكل، قال تعالى ( ألم نجعل له عينين* ولسانا وشفتين* وهديناه النجدين )، قال تعالى ( والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) فحذف مفعول الفعل (يدعو) إشارة إلى العموم فيه والشمول، وأظهر مفعول الفعل (يهدي) المفيد الخصوص، فالدعوة إلى الحق عامة للجميع والهداية خاصة فيمن وفقه الله.
وما قدّره الله وقضاه لابد من وقوعه كما تقدم بيانه، ونحن لا نعلم ذلك إلاّ بواحد من أمرين: (أحدهما) وقوع الشيء، فكل ما وقع علمنا أن الله قد شاءه، لأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فأي حركة تجري فهي بمشيئة الله، و(الثاني) حصول الإخبار بالشيء الغائب عنّا من الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، سواء كان ماضياً أو مستقبلاً، فإذا أخبر عن شيء ماض علمنا قطعاً بأنه كان ووقع كما أخبر، وإذا أخبر عن شيء مستقبل علمنا قطعاً بأنه لابد وأن يقع لأن الله قد شاءه، فالأخبار الماضية كأخبار بدء الخلق مثلاً، والمستقبلة كأخبار آخر الزمان ونهاية الدنيا وغير ذلك.
وليس معنى المشيئة الشاملة والإرادة القدرية أن الإنسان مسلوب الإرادة مجبور على أفعاله لا مشيئة له ولا اختيار، بل له مشيئة تابعة لمشيئة الله كما قال تعالى: ( ما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين )، ولهذا ندرك الفرق بين الحركات الاضطرارية كحركة المرتعش، والحركات الاختيارية من العقلاء كالبيع والشراء، وحصول الإحسان من البعض، والإساءة من البعض الآخر، فالاضطرارية لا دخل للعبد فيها، والاختيارية تجري بمشيئة العبد وإرادته التابعة لمشيئة الله وإرادته.
ومن أمثلة الإرادة الدينية في القرآن قوله تعالى: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )، وقوله ( والله يريد أن يتوب عليكم )، ومن أمثلة الكونية القدرية قوله تعالى( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم )، وقوله ( ولكن الله يفعل ما يريد )، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذين نحن بصدد الكلام عليه: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)).
(5) قوله (إنما أنا قاسم والله يعطي)، أعاد البخاري الحديث في (كتاب فرض الخمس) للاستدلال بهذه الجملة على أن قسمة الغنيمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه قاسم للمال حيث أمره الله، وساق مع هذا الحديث أحاديث أخرى منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسم أضع حيث أُمرت)). والمعنى: لا أعطي أحداً ولا أمنع أحداً إلاّ بأمر الله، وفي ذلك إثبات القضاء والقدر والإيمان بذلك، وأنه لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع الله، وأن العباد يتصرفون في المال بحق وبغير حق، بإرادتهم ومشيئتهم، وحصول قسمته بين الناس كما قسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مما قضاه الله كوناً وقدراً، وأمر به شرعاً وديناً.
(6) قوله (ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)، أعاد البخاري الحديث بتمامه في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة) للاستدلال بهذه الجملة على عدم خلو الأرض من معتصم بالكتاب والسنة حتى يأتي أمر الله، وأورد هذه الجملة فقط في (كتاب المناقب مشيراً إلى أن ذلك من علامات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهو منقبة لهذه الأمة.
(7) أمة محمد صلى الله عليه وسلم لها معنيان: معنى عام ومعنى خاص، فالأمة بالمعنى العام هي أمة الدعوة، وهم كل إنسان وكذا الجن من حين بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، فإن الدعوة موجهة إليهم كما قال صلى الله عليه وسلم في الخمس التي أعطيها دون من قبله: ((وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة)). ويدل للأمة بالمعنى العام قوله تعالى: ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ).
أما الأمة بالمعنى الخاص: فهي أمة الإجابة، وهم الذين أجابوا الدعوة ودخلوا في دين الله، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:( كنتم خير أمة أخرجت للناس )، وقوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا )الآية. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: ((ولن تزال هذه الأمة...)) الخ.
(8) قوله (ولن تزال هذه الأمة)، هو من العام المراد به الخصوص، فإن المراد به بعض الأمة كما دل على ذلك أدلة منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون)). أخرجه البخاري في (كتاب الاعتصام) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(9) في المراد بالطائفة المنصورة أقوال، جزم البخاري ـ رحمه الله ـ في صحيحه بأنهم أهل العلم بالآثار، وقال أحمد بن حنبل: ((إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم)). وقال القاضي عياض: ((أراد أحمد أهل السنة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث)). وقال النووي: ((يحتمل أن تكون هذه الطائفة فرقة من أنواع المؤمنين ممن يقيم أمر الله تعالى من مجاهد، وفقيه، ومحدث، وزاهد، وآمر بالمعروف، وغير ذلك من أنواع الخير، ولا يلزم اجتماعهم في مكان واحد، بل يجوز أن يكونوا متفرقين)). ذكر هذه الأقوال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري).
(10) (أمر الله): ذكر في الجملة الأخيرة مرتين لكل منهما معنى، فمعنى (أمر الله) في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله)) شرع الله ودينه، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد))، ومعنى أمر الله في قوله: (حتى يأتي أمر الله) ما قدره الله وقضاه من خروج ريح في آخر الزمان تقبض روح كل من في قلبه شيء من الإيمان، ويبقى شرار الناس الذين عليهم تقوم الساعة كما جاء ذلك في أحاديث صحيحة، منها ما رواه مسلم في صحيحه في (كتاب الفتن) في ذكر الأمور التي تجري في آخر الزمان وفيه: ((بينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة)).
والأمر كالإرادة يأتي لمعنى كوني قدري ومعنى ديني شرعي، وهذا الحديث فيه شاهد لكل من المعنيين.
(11) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
(1) الترغيب في طلب العلم والحث عليه.
(2) بيان فضل العلماء على سائر الناس.
(3) بيان فضل التفقه في الدين على سائر العلوم.
(4) إثبات صفة الإرادة لله تعالى.
(5) أن الفقه في الدين علامة لإرادة الله الخير بالعبد.
(6) إرشاد الناس إلى السنة وإعلانها على المنابر.
(7) الإيمان بالقضاء والقدر وأن المعطي المانع هو الله تعالى.
(8) بشارة هذه الأمة بأن الخير باق فيها.
(9) إخباره صلى الله عليه وسلم عما يستقبل وهو من الغيب الذي أطلعه الله عليه.
(10) إخباره بهذا المغيب من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم حيث وقع كما أخبر مدة أربعة عشر قرناً الماضية، ولابد من استمرار ذلك حتى يأتي أمر الله كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه.
(11) وجوب الإيمان بوقوع استمرار الحق، وأنه لا ينقطع حتى يأتي أمر الله كما جاء ذلك عن الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه.
(12) هذا الإخبار منه صلى الله عليه وسلم عما يستقبل أحد طريقي العلم بالشيء الذي قدره الله والطريق الثانية الوقوع.
(13) أن الطائفة المنصورة لها مخالفون ومناوؤون.
(14) الحث على التمسك بالكتاب والسنة ليكون العبد من هذه الطائفة.
(15) بيان أن أعداء هذه الطائفة لا يضرونها ولا يؤثرون على استمرار الحق.
(16) أن استمرار الحق في أمة محمد صلى الله عليه وسلم منقبة عظيمة لها.
(17) أن الإجماع حجة.

ابو وليد البحيرى
2018-10-06, 10:14 AM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (2)



قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في (بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)
حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن الزهري (ح) وحدثنا بشر بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس ومعمر عن الزهري نحوه قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فَلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة)).
المبحث الأول: التخريج:
هذا الحديث أورده البخاري في خمسة مواضع من صحيحه هذا أحدها، والثاني في (كتاب الصيام، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان)، ولفظه: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد أخبرنا ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة)).
والثالث: في (كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة)، ولفظه: حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة))، وعن عبد الله حدثنا معمر بهذا الإسناد نحوه، وروى أبو هريرة وفاطمة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن جبريل كان يعارضه القرآن)).
والرابع: في (كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم)، رواه عن شيخه عبدان بسنده في هذا الحديث، وبمثل لفظه عند بشر بن محمد إلاّ أنه بدون (كان) في قوله ((وكان أجود ما يكون...)) الخ.
والخامس: في (كتاب فضائل القرآن، باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم)، ولفظه: حدثنا يحيى بن قزعة حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة)).
وقد أخرج الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ هذا الحديث في (كتاب الفضائل) من صحيحه، فقال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا إبراهيم ـ يعني ابن سعد ـ عن الزهري (ح) وحدثني أبو عمران محمد بن جعفر بن زياد ـ واللفظ له ـ أخبرنا إبراهيم عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، أن جبريل عليه السلام كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة))، وحدثنا أبو بكر حدثنا ابن المبارك عن يونس (ح) وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري بهذا الإسناد نحوه. وروى قبل ذلك بحديثين بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس)).
وأخرج الحديث البخاري في (الأدب المفرد) عن شيخه موسى بن إسماعيل بمثل حديثه عنه في (كتاب الصيام) سنداً ومتناً.
وأخرجه النسائي في (كتاب الصوم، باب الفضل والجود في شهر رمضان)، عن شيخه سليمان بن داود عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله عن ابن عباس بنحو هذا الحديث عند البخاري.
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده من طرق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرج الجملة الأخيرة منه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز بسنده إلى عمر عن عبيد الله عن ابن عباس رضي الله عنه : ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجود من الريح المرسلة إذا نزل عليه جبريل عليه السلام يدارسه القرآن))، ثم قال غريب من حديث عمر لم نكتبه إلاّ من هذا الوجه.

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري في الإسناد الأول عبدان. قال الحافظ في (تهذيب التهذيب): عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد واسمه ميمون، وقيل: أيمن الأزدي العتكي، مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزي، الحافظ الملقب عبدان.
وقال الخزرجي في (الخلاصة): روى عن شعبة، ومالك، وابن المبارك. وعنه البخاري، والذهلي، وخلق.
وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): قال أحمد بن عبدة: تصدق عبدان في حياته بألف ألف درهم، وكَتَبَ كُتُبَ ابن المبارك بقلم واحد. وذكر توثيقه عن أبي رجاء محمد بن حمدويه، وقول الحاكم: كان إمام أهل الحديث ببلده.
وقال في (التقريب): ثقة، حافظ من العاشرة، مات سنة إحدى وعشرين في شعبان ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى ابن ماجه.
الثاني: شيخ البخاري في الإسناد الثاني بشر بن محمد. قال الخزرجي في (الخلاصة): بشر بن محمد السختياني أبو محمد المروزي، صدوق رمي بالإرجاء. عن ابن المبارك، وعنه البخاري، وقال: مات سنة أربع وعشرين ومائتين، وذكره ابن حبان في (الثقات) كما في (تهذيب التهذيب)، وهو من رجال البخاري دون بقية الجماعة.
الثالث: شيخ شيخي البخاري في الإسنادين عبد الله بن المبارك. قال الحافظ في (تهذيب التهذيب): عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي، مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزي، أحد الأئمة.
وقال في (تقريب التهذيب): ثقة، ثبت، فقيه، عالم، جواد، مجاهد، جمعت فيه خصال الخير، من الثامنة، مات سنة إحدى وثمانين ـ أي بعد المائة ـ، وله ثلاث وستون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وذكر في (تهذيب التهذيب) الكثير من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قول ابن عيينة: ((نظرت في أمر الصحابة فما رأيت لهم فضلاً على ابن المبارك إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وغزوهم معه)). وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع معمر بن راشد، ويونس بن يزيد، وغير واحد. وروى عنه عبد الرحمن بن مهدي، ومسلم بن إبراهيم، وغير واحد عند مسلم. وسرد في (تهذيب التهذيب) الكثير من أسماء شيوخه وتلامذته ومنهم: شيخاه وتلميذاه في هذا الحديث.
وقال الخزرجي في (الخلاصة): وترجمته كبيرة في الحلية لأبي نعيم، وتاريخ الحاكم.
الرابع: معمر بن راشد. قال الحافظ في (تقريب التهذيب): معمر بن راشد الأزدي، مولاهم، أبو عروة البصري نزيل اليمن، ثقة، ثبت، فاضل إلاّ أن في روايته عن ثابت والأعمش وهشام بن عروة شيئاً، وكذا فيما حدّث به بالبصرة، من كبار السابعة، مات سنة أربع وخمسين ـ أي بعد المائة ـ، وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في مقدمة الفتح: معمر بن راشد صاحب الزهري، كان من أثبت الناس فيه. وقال: أخرج له البخاري من روايته عن الزهري، وابن طاووس، وهمام بن منبه، ويحيى بن أبي كثير، وهشام بن عروة، وأيوب، وثمامة بن أنس، وعبد الكريم الجزري، وغيرهم، ولم يخرّج له من روايته عن قتادة ولا ثابت إلاّ تعليقاً، ولا من روايته عن الأعمش شيئاً، ولم يخرج له من رواية أهل البصرة عنه إلاّ ما توبعوا عليه عنه، واحتج به الأئمة كلهم. ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن ابن معين، والعجلي، ويعقوب بن شيبة، والنسائي، وذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه.
الخامس والسادس: يونس بن يزيد الأيلي وشيخه ابن شهاب الزهري وقد تقدم التعريف بهما في رجال إسناد الحديث الأول.
السابع:عبيد الله بن عبد الله. قال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أبو عبد الله الهذلي، حليف بني زهرة، أحد الفقهاء السبعة، سمع عبد الله بن عباس، وزيد بن خالد، وأبا هريرة، وأم قيس بنت محصن، وعائشة، وأبا سعيد الخدري عندهما ـ أي في الصحيحين ـ، وغير واحد عند مسلم. وروى عنه الزهري، وصالح بن كيسان، وموسى بن أبي عائشة عندهما، وغير واحد عند مسلم.
وقال الحافظ في (تقريب التهذيب): أبو عبد الله المدني، ثقة، فقيه، ثبت، من الثالثة، مات سنة أربع وتسعين، وقيل سنة ثمان، وقيل غير ذلك، ورمز لكونه من رجال الجماعة، ونقل في (تهذيب التهذيب) ثناء كثير من الأئمة عليه، وتوثيقهم له رحمه الله.
الثامن: صحابي الحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
قال الخزرجي في (الخلاصة): عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي، أبو العباس المكي ثم المدني ثم الطائفي، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وحبر الأمة وفقيهها، وترجمان القرآن، روى ألفا وستمائة وستين حديثاً، اتفقا ـ أي البخاري ومسلم ـ على خمسة وسبعين، وانفرد البخاري بثمانية وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين. وقال أيضاً: ابن عباس سمع من النبي صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين حديثاً وباقي حديثه عن الصحابة، واتفقوا على قبول مرسل الصحابي.
وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري مائتي حديث وسبعة عشر حديثاً. وقال في (تقريب التهذيب): ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن، فكان يسمى البحر والحبر لسعة علمه. وقال: مات سنة ثمان وستين بالطائف، وهو أحد المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة من فقهاء الصحابة، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): روى عنه سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وجماعة من التابعين عندهما، أي الصحيحين.
وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): فائدة: روي عن غندر أن ابن عباس لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ تسعة أحاديث، وعن يحيى القطان عشرة، وقال الغزالي في (المستصفى): أربعة، وفيه نظر، ففي الصحيحين عن ابن عباس مما صرّح فيه بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرة، وفيهما مما يشهد فعله نحو ذلك، وفيهما مما له حكم الصريح نحو ذلك فضلا عما ليس في الصحيحين.
المبحث الثالث، لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الإسنادين الثمانية خرّج أصحاب الكتب الستة حديثهم إلاّ شيخ البخاري في الإسناد الأول عبدان فلم يرو له ابن ماجه وروى له الباقون. وشيخه في الإسناد الثاني بشر بن محمد، فقد انفرد البخاري بإخراج حديثه.
(2) في سند الحديث تابعيان مدنيان هما: ابن شهاب الزهري، وشيخه عبيد الله بن عبد الله فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.
(3) في سند الحديث ثلاثة مروزيون وهم: شيخا البخاري: عبدان وبشر، وشيخ شيخيه: عبد الله بن المبارك.
(4) في سند الحديث أزديان ولاء وهما: شيخ البخاري عبدان، ومعمر بن راشد شيخ عبد الله بن المبارك.
(5) حرف (ح) يفيد تحويل الإسناد من إسناد إلى آخر، والفائدة من ذلك هي الاختصار وتلافي تكرار الأسماء، ومنتهى الإسنادين الزهري، ومنه يكون الإسناد واحداً هكذا.
قال البخاري: حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن الزهري (ح) وحدثنا بشر بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس ومعمر عن الزهري نحوه. قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس... الخ.
وإنما لم يجعل البخاري الطريقين طريقاً واحداً من عبد الله بن المبارك مع أنه هو ملتقى طريق عبدان بطريق بشر بن محمد، لأن عبد الله بن المبارك حدّث به عبدان عن يونس وحده، وحدث به بشر بن محمد عن يونس ومعمر معاً.
(6) قول عبد الله بن المبارك في الإسناد الثاني: أخبرنا يونس ومعمر عن الزهري نحوه: أي أن لفظ الحديث من رواية يونس، وأما رواية معمر فهي بمعناه، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث من فتح الباري.
وقال في شرحه لحديث جابر رضي الله عنه في الخمس التي أوتيها صلى الله عليه وسلم في أوائل (كتاب التيمم) وهو الحديث الآتي، وفي إسناده تحويل قال: وقد ظهر بالاستقراء من صنيع البخاري، أنه إذا أورد الحديث عن غير واحد فإن اللفظ يكون للأخير، والله أعلم. انتهى.
وعلى هذا فمتن الحديث لفظه من رواية بشر بن محمد شيخ البخاري في الإسناد الثاني، كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر.
(7) في سند الحديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة الذين يرد إطلاق هذا الوصف عليهم كثيراً، قال النووي في كتاب (الإشارات إلى أسماء المبهمات): اعلم أن من أفضل التابعين، وكبارهم، وسادتهم، الفقهاء السبعة فقهاء المدينة، فستة متفق عليهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار.
وفي السابع ثلاثة أقوال: (أحدها) أنه أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، نقله الحاكم أبو عبد الله عن فقهاء الحجاز، و(الثاني) أنه سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، قاله ابن المبارك، و(الثالث) أنه أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قاله أبو الزناد. انتهى.
وذكرهم ابن القيم في أوائل (إعلام الموقعين) على ما قاله أبو الزناد، وقال: قد نظمهم القائل فقال:
إذا قيل من في العلم سبعة أبحر ** روايتهم ليست عن العلم خارجة
فقل: هم عبيد الله، عروة، قاسم ** سعيد، أبو بكر، سليمان، خارجة

(8) صحابي الحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو أحد العبادلة، كما ذكر ذلك العلماء ومنهم ابن حجر كما تقدم النقل عنه من كتاب (تقريب التهذيب)، وقد قال العراقي في كتاب (المستفاد من مبهمات المتن والإسناد): اعلم أن في الصحابة ممن يسمى عبد الله مائتين وعشرين رجلاً، لكن اشتهر إطلاق اسم العبادلة على أربعة منهم: ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وابن عمرو بن العاص، كذا ذكرهم أهل الحديث وغيرهم.
(9) في سند الحديث عبدان، وهو لقب اشتهر به واسمه عبد الله بن عثمان، والزهري وهو محمد بن مسلم، وقد اشتهر بهذه النسبة كما أنه اشتهر أيضاً بالنسبة إلى جده شهاب، فيطلق عليه كثيراً إما الزهري، وإما ابن شهاب.
(10) قال الحافظ في (نخبة الفكر): ومن المهم في هذا الفن معرفة من وافقت كنيته اسم أبيه، وفي سند هذا الحديث أربعة من هؤلاء هم: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كنيته أبو العباس، وعبيد الله بن عبد الله كنيته أبو عبد الله، ويونس بن يزيد كنيته أبو يزيد، وبشر بن محمد كنيته أبو محمد.
(11) متن هذا الحديث من قبيل المرفوع من الفعل تصريحاً.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) معنى (أجود الناس): أكثر الناس جودًا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بكل ما تحتمله هذه الكلمة من معنى، جاد بنفسه في سبيل الله فكسرت رباعيته، وشج وجهه، وجاد بجاهه، وجاد بما أعطاه الله من المال، وجاد بالدلالة والإرشاد إلى كل ما ينفع العباد في الحال والمآل، وتحذيرهم من كل ضار في الحاضر والمستقبل.
(2) قوله (وكان أجود ما يكون في رمضان): أجود بالرفع في أكثر الروايات وفي بعضها بالنصب، فالرفع على أن أجود اسم كان والخبر محذوف، أو هو مبتدأ خبره في رمضان والجملة خبر كان واسمها ضمير، وأما النصب فعلى أنه خبر كان واسمها ضمير والتقدير: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة كونه في رمضان أجود منه في غيره.
(3) قوله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس): في هذه الجملة احتراس بليغ لئلا يتخيل من قوله: وكان أجود ما يكون في رمضان، أن الأجودية خاصة منه برمضان، فأثبت له الأجودية المطلقة أوّلاً، ثم عطف عليها زيادة ذلك في رمضان.
(4) الحكمة في زيادة جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن: أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والقرآن خلقه صلى الله عليه وسلم كما قالت عائشة رضي الله عنها: يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه. وأيضاً فرمضان موسم الخيرات، وزيادة الجود والكرم، وقد وصفه الله بأنه الذي أنزل فيه القرآن، فبمجموع ما ذكر من الوقت الفاضل وهو رمضان، والمنـزول به وهو القرآن، والنازل به وهو جبريل ومدارسته معه حصل المزيد في الجود، والله أعلم.
(5) قوله (فَلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة): هذه هي نتيجة مدارسة القرآن، والمراد بالريح المرسلة: ريح الرحمة التي يرسلها الله لإنزال الغيث العام كما قال الله تعالى: ( ومن ءاياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته )الآية، وقال تعالى ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا ) الآية.
(6) وصفت الريح المفضل عليها جوده صلى الله عليه وسلم بالمرسلة لأمرين: (الأول) إشارة إلى عموم النفع بجوده صلى الله عليه وسلم كما تعم الريح المرسلة بل هو أعم وأشمل منها، و(الثاني) احتراساً من الريح العقيم الضارة.
(7) قدم معمول أجود وهو بالخير لنكتة لطيفة وهي: أنه لو أخره لظن تعلقه بالمرسلة أي المرسلة بالخير وهو وإن كان لا يتغير به المعنى المراد من الوصف بالأجودية إلاّ أنه يفوت فيه التنصيص على مناط أجوديته صلى الله عليه وسلم التي سيق الكلام لإثباتها والتنويه بشأنها.
(8) قوله (فيدارسه القرآن): لفظ المدارسة يفيد حصولها من الجانبين، وحديث ابن عباس عند البخاري في (كتاب فضائل القرآن) يفيد حصولها من جانب النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله فيه: ((يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن))، ويدل لحصولها من جانب جبريل حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أورده البخاري في (كتاب فضائل القرآن) عقب حديث ابن عباس حيث قال رضي الله عنه: ((كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف في كل عام عشراً، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه)).
(9) هذا الحديث أورده البخاري في (بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقد قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) في وجه المناسبة: ((وفيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان، لأن نزوله إلى السماء جملة واحدة كان في رمضان كما ثبت من حديث ابن عباس، فكان جبريل يتعاهده في كل سنة فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه به مرتين كما ثبت في الصحيح عن فاطمة رضي الله عنها، وبهذا يجاب من سأل عن مناسبة إيراد هذا الحديث في هذا الباب، والله أعلم بالصواب)).
(10) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
(1) امتنان الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بجعله أجود الناس.
(2) الترغيب في الجود في كل وقت.
(3) الحث على الزيادة في الجود في شهر رمضان.
(4) استحباب الإكثار من قراءة القرآن في رمضان، والإشارة إلى أنها أفضل من سائر الأذكار، إذ لو كان الذكر أفضل أو مساوياً لفعله جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
(5) استحباب زيارة الصلحاء وأهل الخير.
(6) تكرار الزيارة إذا كان المزور لا يكره ذلك.
(7) جواز أن يقال رمضان بدون ذكر شهر.
(8) استعمال التشبيه وضرب الأمثلة في إيضاح ما يراد بيانه.
(9) حصول قراءة القرآن من جبريل عليه السلام في غير الوقت الذي نزل به على محمد صلى الله عليه وسلم.
(10) أن القرآن يطلق على بعضه وعلى معظمه، لأن أول رمضان من بعد البعثة لم يكن نزل من القرآن إلا بعضه، ثم كذلك كل رمضان بعده إلى رمضان الأخير، فكان قد نزل كله إلا ما تأخر نزوله بعد رمضان المذكور.
(11) تدارس القرآن بين القراء وهو من التعاون على البر والتقوى.
(12) أن مداومة قراءة القرآن سبب في الزيادة في الخير، وهو من ثواب الحسنة بحسنة بعدها.
(13) مذاكرة الفاضل بالخير والعلم وإن كان لا يخفى عليه ذلك لزيادة التذكرة والاتعاظ.
(14) أن تحصيل العبد لفضل الزمان إنما هو بزيادة العبادة فيه.
(15) أن الثمرة العظمى لقراءة القرآن أن يظهر أثرها على القارئ في أخلاقه، وأعماله، كما جاء في هذا الحديث من زيادة النبي صلى الله عليه وسلم في الخير عند مدارسة القرآن مع جبريل، وكما جاء عن عائشة رضي الله عنها أن خُلقه صلى الله عليه وسلم القرآن، تعني أنه يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه وكما جاء عنه صلى الله عليه وسلم التحذير من خلاف ذلك بقوله في الحديث الصحيح: ((والقرآن حُجة لك أو عليك)).
(16) تعظيم شهر رمضان لوصف الله له بإنزال القرآن فيه، ثم معارضته صلى الله عليه وسلم مع جبريل ما نزل منه فيه، ويلزم من ذلك كثرة نزول جبريل فيه وفي كثرة نزوله الخير الكثير.
(17) الإيمان بنـزول جبريل من السماء وصعوده، ومدارسته القرآن مع محمد صلى الله عليه وسلم، وهو من الإيمان بالملائكة الذي هو أحد أركان الإيمان الستة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور.

ابو وليد البحيرى
2018-10-10, 05:54 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (3)



قال البخاري ـ رحمه الله ـ في أوائل (كتاب التيمم) من صحيحه:


حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا هشيم (ح) قال وحدثني سعيد بن النضر قال أخبرنا هشيم قال أخبرنا سيار قال حدثنا يزيد ـ هو ابن صهيب الفقير ـ قال أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( أُعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلَت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأُعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة )) المبحث الأول: التخريج:
أورد البخاري هذا الحديث في (كتاب التيمم) عن شيخيه محمد بن سنان وسعيد بن النضر، وسياق المتن لفظ سعيد كما قال الحافظ ابن حجر في (الفتح)، وقد أعاد الحديث في (كتاب الصلاة) عن شيخه محمد بن سنان فقال: حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا هشيم قال حدثنا سيار ـ هو أبو الحكم ـ قال حدثنا يزيد الفقير قال حدثنا جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلَت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة، وأُعطيت الشفاعة))، وأورد طرفاً منه وهو قوله صلى الله عليه وسلم:((...وأحلت لي الغنائم...)) من رواية محمد بن سنان في (كتاب فرض الخمس).
وأخرج الحديث بتمامه مسلم في صحيحه عن شيخيه يحيى بن يحيى، وأبي بكر بن أبي شيبة عن هشيم بمثل إسناده عند البخاري ولفظه: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسافة شهر، وأُعطيت الشفاعة)). وأخرج الخصلة الأولى وهي نصره صلى الله عليه وسلم بالرعب ضمن حديث من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرج الخصلة الثانية من طريقين عن ربعي بن حِراش عن حذيفة رضي الله عنه، ومن طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرج الخصلة الثالثة من طريق عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرج الخصلة الخامسة من طريق عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((وأرسلت إلى الخلق كافة)).
وأخرج النسائي عن شيخه الحسن بن إسماعيل بن سليمان عن هشيم بهذا الإسناد، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه.
وقال الحافظ في (الفتح): ومدار حديث جابر هذا على هشيم بهذا الإسناد، وله شواهد من حديث ابن عباس، وأبي موسى، وأبي ذر، ومن رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، رواها كلها أحمد بأسانيد حسان.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري في الإسناد الأول محمد بن سنان: قال الحافظ في (تهذيب التهذيب): محمد بن سنان الباهلي، أبو بكر البصري المعروف بالعوقي، والعوقة حي من الأزد نزل فيهم، وذكر أنه روى عن إبراهيم بن طهمان، وفليح، وهشيم، وغيرهم. وأنه روى عنه البخاري، وأبو داود، وغيرهم. وذكر توثيقه عن جماعة منهم: ابن معين، والدار قطني. وقال في (تقريب التهذيب): ثقة ثبت، من كبار العاشرة، مات سنة ثلاث وعشرين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال البخاري، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي.
الثاني: شيخ البخاري في الإسناد الثاني سعيد بن النضر: قال الحافظ في (تهذيب التهذيب): سعيد بن النضر البغدادي، أبو عثمان، سكن آمل جيحون، روى عن هشيم، وعثمان بن عبد الرحمن الوقاصي وغيرهما. وعنه البخاري، والفضل بن أحمد بن سهل الآملي. ذكره ابن حبان في (الثقات). وقال في (تقريب التهذيب): ثقة من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال البخاري وحده.
الثالث: هشيم: قال الحافظ في (تقريب التهذيب): هشيم بالتصغير ابن بشير ـ بوزن عظيم ـ ابن القاسم بن دينار السلمي أبو معاوية بن أبي خازم ـ بمعجمتين ـ الواسطى، ثقة ثبت، كثير التدليس والإرسال الخفي، من السابعة، مات سنة ثلاث وثمانين ـ أي بعد المائة ـ وقد قارب الثمانين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): السلمي مولاهم، الواسطي، يكنى أبا معاوية أصله من بلخ، كان جده القاسم منها نزل واسط للتجارة. وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) كثيراً ممن روى عنهم وممن رووا عنه، وممن روى عنهم: حميدالطويل، وسيار أبو الحكم، وخالد الحذاء، والأعمش. ومن الذين رووا عنه: ابن المبارك، ووكيع، ويزيد بن هارون، وغيرهم.
وقال في مقدمة الفتح: هشيم بن بشير الواسطي أحد الأئمة، متفق على توثيقه، إلاّ أنه كان مشهوراً بالتدليس، وروايته عن الزهري خاصة لينة عندهم، فأما التدليس فقد ذكر جماعة من الحفاظ أن البخاري كان لا يخرج عنه إلاّ ما صرّح فيه بالتحديث، واعتبرت أنا هذا في حديثه فوجدته كذلك، إما أن يكون قد صرّح به في نفس الإسناد أو صرّح به من وجه آخر، وأما روايته عن الزهري فليس في الصحيحين منها شيء، واحتج به الأئمة كلهم، والله أعلم. انتهى.
ولكونه مشهوراً بالتدليس مثل به العراقي في ألفيته لوجود المدلسين في رجال الصحيح فقال:
وفي الصحيح عدّة كالأعمش ** وكهشيم بعـــده وفتــش

الرابع: سيار: قال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: سيار بن أبي سيار واسمه وردان أبو الحكم العنـزي الواسطي، يقال هو أخو مساور الوراق سمع الشعبي وثابتًا البناني ويزيد الفقير عندهما ـ أي في الصحيحين ـ وسليمان الأشجعي عند البخاري روى عنه شعبة وهشيم عندهما وقرة بن خالد عند مسلم، وذكر الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب توثيقه عن الإمام أحمد وابن معين والنسائي وقال في تقريب التهذيب: وهو أخو مساور الوراق لأمه، ثقة وليس هو الذي يروي عن طارق بن شهاب من السادسة، مات سنة اثنتين وعشرين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
الخامس: يزيد الفقير: قال الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب): يزيد بن صهيب الكوفي، أبو عثمان المعروف بالفقير ـ بفتح الفاء بعدها قاف ـ، قيل له ذلك لأنه كان يشكو فقار ظهره، ثقة من الرابعة، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى الترمذي.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وعنه سيار أبو الحكم عندهما ـ أي في الصحيحين ـ، وقيس بن سليم، وأبو عاصم محمد بن أيوب عند مسلم. وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن ابن معين، وأبي زرعة، والنسائي، وقال: قال أبو حاتم وابن خراش: صدوق، زاد ابن خراش: جليل عزيز الحديث. وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات). انتهى، ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
السادس: صحابي الحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: قال الحافظ في (تقريب التهذيب): جابر بن عبد الله بن عَمرو بن حرام ـ بمهملة وراء ـ الأنصاري ثمَّ السَّلَمي بفتحتين، صحابي ابن صحابي، غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن أربع وتسعين سنة، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.
وقال الخزرجي في (الخلاصة): أبو عبد الرحمن أو أبو عبد الله أو أبو محمد المدني، صحابي مشهور، له ألف وخمسمائة حديث وأربعون حديثاً، اتفقا ـ أي البخاري ومسلم ـ على ثمانية وخمسين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة وستة وعشرين، وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري تسعين حديثاً.

المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) هذا الحديث رواه البخاري عن شيخه محمد بن سنان عن هشيم ثم أتى بحرف (ح) الدالة على التحويل إلى إسناد آخر، فرواه عن شيخه سعيد بن النضر عن هشيم، وقد مرّ التنبيه على بعض ما يتعلق بالتحويل في الكلام على الحديث الثاني، وأضيف هنا: أن استعمال التحويل في الإسناد قليل عند البخاري بخلاف مسلم فإنه يستعمله كثيراً، والسر في ذلك أن البخاري ـ رحمه الله ـ يفرق الحديث على الأبواب، فيأتي به في موضع بإسناد للاستدلال به على حكم ثم يعيده مستدلاً به على حكم آخر بإسناد آخر، أما مسلم ـ رحمه الله ـ فيجمع الروايات ويسوقها مساقاً واحداً، فلذا يكثر عنده استعمال التحويل.
(2) استعمل البخاري ـ رحمه الله ـ التحويل في إسناد هذا الحديث ولم يجمع بين شيخيه مع كونهما حدثاه به عن هشيم، لأنه سمعه منهما متفرقين وكأنه سمعه من محمد بن سنان مع غيره، فلذلك جمع فقال: حدثنا، وسمعه من سعيد وحده فلذا أفرد فقال: حدثني. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في (الفتح).
(3) صيغة الأداء من محمد بن سنان عن هشيم (حدثنا)، ومن سعيد بن النضر عن هشيم (أخبرنا) قال الحافظ في (الفتح): وكأن محمداً سمعه من لفظ هشيم فلهذا قال: حدثنا، وكأن سعيداً قرأه أو سمعه يُقرأ على هشيم، لهذا قال: أخبرنا، ثم قال الحافظ بعد ذكره هذا والذي قبله: ومراعاة هذا كله على سبيل الاصطلاح.
(4) قال الحافظ في (الفتح): ثم إن سياق المتن لفظ سعيد، وقد ظهر بالاستقراء من صنيع البخاري أنه إذا أورد الحديث عن غير واحد فإن اللفظ يكون للأخير، والله أعلم.
(5) رجال الإسنادين في هذا الحديث اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلاّ يزيد الفقير فلم يرو له الترمذي، وشيخ البخاري في الإسناد الأوّل محمد بن سنان فلم يرو له مسلم والنسائي، وشيخه في الإسناد الثاني سعيد بن النضر فلم يرو له سوى البخاري.
(6) قال الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر): ومن المهم معرفة من نسب إلى غير ما يسبق إلى الفهم. انتهى. وفي إسناد هذا الحديث شاهدان لذلك: (الأوّل) محمد بن سنان الباهلي المعروف بالعوقي، والعوقة حي من الأزد، نسب إليهم لكونه نزل فيهم وليس منهم. (الثاني) يزيد الفقير، فإن المتبادر إلى الفهم أنه من الفقر وليس كذلك، وإنما كان يشكو فقار ظهره فقيل له الفقير لذلك.
(7) في سند الحديث واسطيان وهما: هشيم بن بشير وشيخه سيار أبو الحكم.
(8) في سند الحديث هشيم بن بشير وهو من المشهورين بالتدليس، وقد صرّح بالإخبار في هذا الإسناد، بل قد ذكر الحافظ ابن حجر أن كل ما في صحيح البخاري له مما صرّح فيه بالسماع كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
(9) في سند الحديث راويان نسبتهما (السلمي) وهما: جابر بن عبد الله الأنصاري السلمي، والثاني هشيم بن بشير السلمي.
قال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح: (السلمي) بالضم كثير وبالفتح في الأنصار فقط. انتهى. وقال النووي في (التقريب): (السلمي) في الأنصار بفتحها ويجوز في لغة كسر اللام، وبضم السين في بني سليم.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) لم يبين في هذا الحديث متى قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بيّن أنه في غزوة تبوك في الحديث الذي خرّجه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى وانصرف إليهم، فقال لهم: ((لقد أعطيت الليلة خمساً ما أعطيهن أحد قبل...)) الحديث. وهذا من الشواهد لرواية هشيم بن بشير التي أشار إليها الحافظ ابن حجر فيما تقدم.
(2) قوله (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي): مفهوم الحديث أنه لم يختص بغير الخمس المذكورة، وقد عدَّد الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) خصائص أخرى غيرها فبلغت بها سبع عشرة، وقال: يمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع. وقال: وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب (شرف المصطفى) أن عدد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء ستون خصلة.
وقد أشار السيوطي في شرحه لسنن النسائي إلى كلام الحافظ ابن حجر هذا، وأن ذلك دعاه إلى تتبعها، وأنه أفردها بمؤلف سماه (أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب)، قسمها فيه إلى قسمين: ما خص به عن الأنبياء، وما خص به عن الأمة، وبلغت عدّة القسمين أكثر من ألف خصيصة.
وقال الحافظ ابن حجر في الجمع بين هذا المفهوم وبين الأدلة الدالة على الخصائص الأخرى: وطريق الجمع أن يقال: لعلّه اطلع أولاً على بعض ما اختص به ثم اطلع على الباقي، ومن لا يرى مفهوم العدد حُجة يدفع هذا الإشكال من أصله.
(3) قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): وظاهر الحديث يقتضي أن كل واحدة من الخمس المذكورات لم تكن لأحد قبله وهو كذلك، ولا يعترض بأن نوحاً عليه السلام كان مبعوثاً إلى أهل الأرض بعد الطوفان، لأنه لم يبق إلاّ من كان مؤمناً معه وقد كان مرسلاً إليهم، لأن هذا العموم لم يكن من أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث الذي وقع، وهو انحصار الخلق بالموجودين بعد هلاك سائر الناس، وأمّا نبينا صلى الله عليه وسلم فعموم رسالته من أصل البعثة فثبت اختصاصه بذلك، وأما قول أهل الموقف لنوح كما صحَّ في حديث الشفاعة: أنت أول رسول إلى أهل الأرض. فليس المراد به عموم بعثته بل إثبات أولية رسالته، وعلى تقدير أن يكون مراداً فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى في عدّة آيات على أن إرسال نوح كان إلى قومه ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم.
(4) قوله (نصرت بالرعب مسيرة شهر): الرعب الوجل والخوف والفزع، قال الحافظ ابن حجر: مفهومه أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة، ولا في أكثر منها، أما ما دونها فلا، لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب (ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر) فالظاهر اختصاصه به مطلقاً، وإنما جعل الغاية شهراً لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه، وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق حتى لو كان وحده من غير عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده؟ فيه احتمال.
وقال العراقي في (طرح التثريب): وأما النصر بالرعب فهو أن الله تعالى كان يقذف الرعب في قلوب أعدائه لتخذيلهم، وورد في بعض طرقه أنه كان يسير الرعب بين يديه شهراً، معناه أنه كان إذا توجه إلى وجه من الأرض ألقى الله الرعب على من أمامه إلى مسيرة شهر.
(5) قوله (وجعلت لي الأرض مسجداً): أي موضع سجود، ويخص من هذا العموم ما تيقنت نجاسته، وما دل على منع الصلاة فيه كالمقبرة.
قال العراقي في (طرح التثريب): اختلف في بيان ما خصص به على الأمم قبله في ذلك، فقيل: إن الأمم الماضية لم تكن تباح الصلاة لهم إلا في مواضع مخصوصة كالبيع والكنائس، وقيل: كانوا لا يصلون إلاّ فيما يتيقنون طهارته من الأرض، وخصصت هذه الأمة بجواز الصلاة في جميع الأرض إلاّ ما تيقنت نجاسته. حكاهما القاضي عياض.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): والأظهر ما قاله الخطابي، وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع، ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ: ((وكان مَن قبلي إنما يصلون في كنائسهم)) وهذا نص في محل النـزاع، فثبتت الخصوصية، ويؤيده ما أخرجه البزار من حديث ابن عباس نحو حديث الباب، وفيه: ((ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه)).
(6) قوله (وطهوراً): الطهور ـ بفتح الطاء ـ أي المطهر لغيره، لأن الطهور لو كان المراد به الطاهر لم تثبت الخصوصية، والحديث إنما سيق لإثباتها، وهو يدل على أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض، ويؤيده رواية أبي أمامة عند البيهقي: ((فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة فلم يجد ماء، وجد الأرض طهوراً ومسجداً)). وعند أحمد: ((فعنده طهوره ومسجده))، وفي رواية عمرو بن شعيب: ((فأين أدركتني الصلاة تمسحت وصليت))، وخصّ بعض العلماء التيمم بالتراب مستدلاً بذكر لفظ (التراب) عند ابن خزيمة عن جابر، وفي حديث عليّ عند البيهقي وأحمد، كما أشار إلى ذلك كله وغيره الحافظ ابن حجر في (الفتح).
ونقل العراقي في (طرح التثريب) عن القرطبي ما معناه: أن ذكر التراب من قبيل ذكر الخاص محكوماً عليه بحكم العام، وهو لا يسقط عمومه ثم تعقب ذلك.
(7) قوله (فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل): أي بعد أن يتيمم حيث لا ماء، وذكر (الرجل) لا مفهوم له، أي وكذلك النساء، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه))، وقوله: ((من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من الغرماء)). والغرض من ذكر هذه الجملة بعد التي قبلها، دفع توهم اختصاصه بذلك كما اختصّ بالشفاعة.
(8) قوله (وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي): المغانم جمع مغنم، وفي رواية محمد بن سنان (الغنائم) وهي جمع غنيمة، وهي ما أخذ من الكفار في الحرب.
قال الخطابي: من تقدم على ضربين: منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه لكن كانوا إذا غنموا شيئاً لم يحل لهم أن يأكلوه وجاءت نار فأحرقته، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه تعليقاً: ((جعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري)). ومجيء النار وإحراقها الغنائم في الأمم السابقة ثبت في صحيح البخاري.
(9) قوله (وأعطيت الشفاعة): الشفاعة أنواع: منها: ما يختص به صلى الله عليه وسلم، ومنها: ما يشاركه فيها غيره، والذي اختص بها منها الشفاعة العظمى في إراحة الناس من الموقف، وهي المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، حيث يتخلى عنها آدم وأولو العزم من الرسل فتنتهي إليه فيقول: ((أنا لها))، ثم يشفع فيشفعه الله صلوات الله وسلامه عليه. ومنها: الشفاعة في عمه أبي طالب في تخفيف عذابه في النار فإنه مخصص لقوله تعالى: ( والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها )، ومنها: الشفاعة في خروج من ليس له عمل صالح سوى التوحيد من النار، لأن غيره يشفع لمن عنده أكثر من ذلك. قال الحافظ ابن حجر بعد عدّ هذه من خصائصه: وقد وقع في حديث ابن عباس: ((وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً)). وفي حديث عمرو بن شعيب: ((فهي لكم ولمن شهد أن لا إلا الله)). انتهى.
وقد ثبت في (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً)).

(10) قوله (وبُعثت إلى الناس عامة): دال على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم، ومن الأدلة على ذلك أيضاً قوله تعالى: ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا )، وقوله ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا )، وقوله ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا )، قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: ((لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلاّ دخل النار)). والمراد بالناس: كل من كان موجوداً من الإنس، من حين بعث صلوات الله وسلامه عليه إلى قيام الساعة.
ويدل لشمولها للجن عموم قوله في رواية أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم: ((وأرسلت إلى الخلق كافة)). وما ذكره الله تعالى عن استماعهم للقرآن وإيمانهم به في سورتي الأحقاف والجن، ثم ذهابهم إلى قومهم منذرين محذرين من مخالفته وعدم إجابته.
(11) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
(1) امتنان الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بخصائص يختص بها عن غيره.
(2) تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين.
(3) تحدث الإنسان بنعم الله تعالى عليه.
(4) تفضل الله على نبيه بنصره على أعدائه بالرعب الذي يقذفه في قلوبهم مسيرة شهر.
(5) أن النصر بيد الله إذا شاءه حصل ولو بدون أسباب ظاهرة.
(6) أن الأصل في الأرض الطهارة فلا تختص الصلاة فيها بموضع دون آخر ما لم تتيقن نجاسة البقعة.
(7) أن المراد بالطهور هو المطهر لغيره لأنه لو كان المراد به في الحديث الطاهر لم تثبت الخصوصية.
(8) أن التيمم يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في وصف الطهورية.
(9) أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض.
(10) كون الغنائم حلالا في حق هذه الأمة.
(11) إثبات الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
(12) عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
(13) تيسير الله تعالى على هذه الأمة ورفعه الحرج والإصر عنها.
(14) وجوب الإيمان بالمغيبات التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم ماضيها كعدم حل الغنائم للماضين ومستقبلها كإعطائه صلى الله عليه وسلم الشفاعة.
(15) أنه لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها.

(16) إظهار كرامة الآدمي إذ خلق من ماء وتراب وكل منهما طهور.
(17) أن الصلاة والطهارة لها في الجملة شرع لمن قبلنا.

ابو وليد البحيرى
2018-10-14, 04:03 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (4)

حديث قوله صلى الله عليه وسلم ( هل عليه من دين ؟ )




قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب الكفالة)



حدثنا أبو عاصم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بجنازة ليصلي عليها فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: لا، فصلى عليه ثم أُتي بجنازة أخرى فقال له: عليه من دين؟ قالوا: نعم، قال: فصلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: عليّ دينه يا رسول الله، فصلى عليه)).

المبحث الأول: التخريج:

انفرد البخاري عن مسلم بإخراج هذا الحديث، وقد أورده في موضعين: أحدهما هذا في (باب من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع). والثاني في (كتاب الحوالة، في باب: إذا أحال دين الميت على رجل جاز)، ولفظه: حدثنا المكي بن إبراهيم حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: ((كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أُتى بجنازة فقالوا: صلّ عليها، فقال: هل عليه دين؟ قالوا: لا، قال: فهل ترك شيئاً؟ قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أُتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول الله صلّ عليها، فقال: هل عليه دين؟ قيل: نعم، قال: فهل ترك شيئاً؟ قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها، ثم أُتي بالثالثة، فقالوا: صلّ عليها، قال: هل ترك شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فهل عليه دين؟، قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: صلّ عليه يا رسول الله وعَليَّ دَينه، فصلى عليه)).

ورواه النسائي في سننه ولفظه: ((أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فقالوا: يا نبي الله صلّ عليها، قال: هل ترك عليه دَيناً؟، قالوا: نعم، قال: هل ترك من شيء؟، قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم، قال رجل من الأنصار، يقال له أبو قتادة: صلّ عليه وعَليَّ دَينه، فصلى عليه)).

ورواه الترمذي والنسائي عن أبي قتادة رضي الله عنه بإسناد واحد واللفظ عند النسائي: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي برجل من الأنصار ليصلِّيَ عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صلوا على صاحبكم فإن عليه دَيناً. قال أبو قتادة: هو عليَّ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: بالوفاء؟ قال: بالوفاء، فصلى عليه)).

ورواه أبو داود والنسائي عن جابر رضي الله عنه ولفظه: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات وعليه دين، فأُتى بميت، فقال: أعليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة الأنصاري: هما عليَّ يا رسول الله، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك ديناً فعليَّ وفاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته)). وروى أبو هريرة رضي الله عنه نحواً من حديث جابر هذا، أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي، وأورد المنذري في الترغيب والترهيب حديث جابر رضي الله عنه بلفظ أطول من هذا، وقال: رواه أحمد بإسناد حسن والحاكم والدار قطني، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ورواه أبو داود وابن حبان في صحيحه باختصار.

وقال فيه الهيثمي في (مجمع الزوائد): رواه أحمد والبزار وإسناده حسن، وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد): وعن أسماء بنت يزيد قالت: ((دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة رجل من الأنصار، فلما وضع السرير تقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ثم التفت، فقال: على صاحبكم دين؟ قالوا: نعم يا رسول الله، ديناران، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: أنا بدينه يا نبي الله فصلّ عليه))، رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات.



المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ البخاري أبو عاصم: وهو كما قال الحافظ في (تقريب التهذيب): الضحاك بن مَخلد بن مسلم الشيباني، أبو عاصم النبيل البصري، ثقة، ثبت، من التاسعة، مات سنة اثنتي عشرة أو بعدها، أي بعد المائتين.

وقال في (تهذيب التهذيب): قيل إنه مولى بني شيبان، وقيل من أنفسهم، روى عن يزيد بن أبي عبيد، وابن أبي ذئب، وابن جريج، والأوزاعي، وأناس آخرين سماهم. وعنه جرير بن حازم ـ وهو من شيوخه ـ، والأصمعي والخريبِي وهما من أقرانه، وأحمد، وإسحاق، وعليّ بن المديني، وغيرهم. ثم قال: قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال العجلي: ثقة كثير الحديث، وكان له فقه. وقال أبو حاتم: صدوق، وهو أحب إليَّ من روح بن عبادة. وقال ابن سعد: كان فقيهاً. وقال عمر بن شبة: ((والله ما رأيت مثله)). وقال ابن خراش: ((لم ير في يده كتاب قط)). وقال الخليلي: ((متفق عليه زهداً، وعلماً، وديانة، واتقاناً)).

وقال ابن طاهر المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): قال عمرو بن عليّ: سمعت أبا عاصم يقول: ولدت سنة اثنتين وعشرين ومائة، ومات سنة اثنتي عشرة ومائتين وهو ابن تسعين سنة وأربعة أشهر. وقال أيضاً: ولدت أمي في سنة عشر ومائة، وولدت سنة اثنتين وعشرين ومائة، يعني ولدتني أمي في اثنتي عشر سنة. انتهى.

ونقل عنه الخزرجي في (الخلاصة) أنه قال: ((من طلب الحديث فقد طلب أعلى الأمور، فيجب أن يكون خير الناس)). وقال: قال الخطيب: روى عنه جرير بن حازم، ومحمد بن حبان، وبين وفاتهما مائة وإحدى وثلاثون سنة، وقد خرج حديثه الجماعة.

الثاني: يزيد بن أبي عبيد: وهو يزيد بن أبي عبيد الحجازي، أبو خالد الأسلمي مولى سلمة بن الأكوع، روى عن مولاه، وعمير مولى لآبي اللحم، وهشام بن عروة وهو أكبر منه. روى عنه بكير بن الأشج ومات قبله، ويحيى القطان، وحاتم بن إسماعيل، والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي، ويحيى بن راشد، وحماد بن مسعدة، وصفوان بن عيسى، ومكي بن إبراهيم، وأبو عاصم وغيرهم. قاله الحافظ في (تهذيب التهذيب).

وقال الآجري على أبي داود: ثقة، وذكره ابن حبان في (الثقات). وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال العجلي: حجازي، تابعي، ثقة. وقال ابن سعد: وكان ثقة، كثير الحديث. ذكر ذلك عنهم الحافظ في (تهذيب التهذيب). وقال في (تقريب التهذيب): ثقة، من الرابعة، مات سنة بضع وأربعين ـ أي بعد مائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

الثالث: صحابي الحديث سلمة بن الأكوع: وهو سلمة بن عمرو بن الأكوع واسم الأكوع سنان الأسلمي.

قال الحافظ في (تهذيب التهذيب): أبو مسلم، ويقال: أبو إياس، ويقال: أبو عامر، وقال: شهد بيعة الرضوان، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة. وعنه ابنه إياس، ومولاه يزيد بن أبي عبيد، وأناس آخرون سماهم، ثم قال: كان شجاعاً رامياً، ويقال: كان يسبق الفرس شداً على قدميه.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): له سبعة وسبعون حديثاً، اتفقا على ستة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بتسعة. وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري عشرين حديثاً. انتهى. وكانت وفاته سنة أربع وسبعين، وقد خرّج حديثه الجماعة.



المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسناد الثلاثة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم.

(2) في سند الحديث رجل اشتهر بكنيته ولقبه، وهو شيخ البخاري أبو عاصم النبيل، فإن اسمه الضحاك بن مخلد.

(3) في سند الحديث رجل روى عنه راو متقدم وراو متأخر، وهو أبو عاصم النبيل، قال الخطيب: روى عنه جرير بن حازم ومحمد بن حبان وبين وفاتيهما مائة وإحدى وثلاثون سنة. انتهى. وذلك من شواهد النوع المعروف في المصطلح بالسابق واللاحق، وهو أن يشترك اثنان في الرواية عن شيخ أحدهما فوق الشيخ المروى عنه في المرتبة مع تباعد ما بين وفاتيهما أي الراويين عن الشيخ.

(4) في هذا الإسناد مولى من أعلى وهو سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، ومولى من أسفل وهو يزيد بن أبي عبيد.

(5) ومن اللطائف في رجال الإسناد: أن أبا عاصم النبيل قد ولدته أمه وسنها اثنتا عشرة سنة، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك فيما نقله المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) عن عمرو بن عليّ.

(6) ذكر الحافظ ابن حجر أنه لم يقف على تسمية صاحب الجنازة الأول والثاني وهو من مبهمات المتن.

(7) حديث أبي عاصم النبيل هذا وحديث مكي بن إبراهيم المذكور في التخريج من ثلاثيات صحيح البخاري، والإسناد الثلاثي أعلى ما يكون عند البخاري، فإن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشخاص فقط: صحابي وتابعي وتابع تابعي، وقد حصل العلو في إسناد هذا الحديث، لأن وفاة سلمة بن الأكوع رضي الله عنه كانت سنة أربع وسبعون، وقد عاش مولاه يزيد بن أبي عبيد الذي روى الحديث عنه بعده نحواً من سبعين سنة، إذ كانت وفاته سنة بضع وأربعين ومائة، وعاش أبو عاصم النبيل الذي روى الحديث عن يزيد بن أبي عبيد بعده أكثر من ستين سنة، حيث كانت وفاته سنة اثنتي عشرة بعد المائتين.

فوائد تتعلق بالثلاثيات:

الأولى: الإسناد الثلاثي إسناد عال، والعلو في الإسناد مرغوب فيه عند المحدثين لكونه أقرب إلى الصحة وقلّة الخطأ، لأنه ما من راو من رجال السند إلاّ والخطأ جائز عليه، فكلما كثرت الوسائط وطال السند كثرت مظان تجويز الخطأ، وكلما قلَّت قلت، ومن أجل ذلك لم يرو البخاري عن الشافعي من طريق أصحابه الذين لقي الكثير منهم، لأنه عاصر كثيراً من أقران الشافعي، فروى عنهم مباشرة ما شاركهم الشافعي في روايته رغبة منه في علو الإسناد، وإن كان قد ذكر الشافعي في موضعين من صحيحه في (باب: وفي الركاز الخمس)، وفي (باب: تفسير العرايا)، كما أشار إلى ذلك ابن السبكي في ترجمة البخاري من كتابه (طبقات الشافعية الكبرى).

الثانية: عدد الأحاديث الثلاثية في صحيح البخاري اثنان وعشرون حديثاً، قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) في شرح حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه مرفوعاً: ((من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ معقده من النار)). قال: وهذا الحديث أول ثلاثي وقع في البخاري وليس فيه أعلى من الثلاثيات. وقد أفردت فبلغت أكثر من عشرين حديثاً. انتهى.

وقال في (كشف الظنون): ووقع له اثنان وعشرون حديثاً ثلاثيات الإسناد. وقال المباركفوري في مقدمة تحفة الأحوذي: وأما في صحيح البخاري فاثنان وعشرون ثلاثياً، قد أفردها العلماء بالتأليف كعليّ القاري الهروي وغيره. انتهى. وهذه العدة إنما هي بالأحاديث المكررة، وبإسقاط التكرار تكون ستة عشر حديثاً، وقد طبعت ثلاثيات البخاري مفردة ومشروحة.

الثالثة: عدد الصحابة الذين روى البخاري من طريقهم الأحاديث الثلاثية ثلاثة: (الأول) سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، له منها سبعة عشر حديثاً، و(الثاني) أنس بن مالك رضي الله عنه، له منها أربعة أحاديث، و(الثالث) عبد الله بن بسر رضي الله عنه، له منها حديث واحد.

أما شيوخه الذين روى عنهم هذه الثلاثيات فعدتهم خمسة وهم: مكي بن إبراهيم، وأبو عاصم النبيل، وعصام بن خالد، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وخلاد بن يحيى، وهم من أتباع التابعين. وأما شيوخ شيوخه فيها فعدتهم أربعة وهم: يزيد بن أبي عبيد، وحميد الطويل، وحريز بن عثمان، وعيسى بن طهمان، وهم من التابعين.

الرابعة: (أ) في جامع الترمذي ثلاثي واحد أورده في (كتاب الفتن) فقال: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري بن ابنة السدي الكوفي حدثنا عمر بن شاكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر))، هذا حديث غريب من هذا الوجه. انتهى.

قال المباركفوري في مقدمة تحفة الأحوذي: اعلم أنه ليس في جامع الترمذي ثلاثي غير حديث أنس المذكور. وقال: وليعلم أن بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في إسناد ثلاثي الترمذي المذكور اثنين وعشرين واسطة. فذكرهم، وكانت وفاة المباركفوري سنة 1353هـ رحمه الله. وعمر بن شاكر انفرد الترمذي بإخراج حديثه عن بقية أصحاب الكتب الستة، وقال الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب): إنه ضعيف.

(ب) في سنن ابن ماجه خمسة أحاديث ثلاثيات الإسناد كلها من طريق جبارة بن المغلس عن كثير بن سليم عن أنس رضي الله عنه ثلاثة منها في (كتاب الأطعمة)، وفي (كتاب الزهد) واحد، وواحد في (كتاب الطب)، وجبارة وكثير انفرد ابن ماجه عن بقية أصحاب الكتب الستة بأخراج حديثهما، وقال عنهما الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب): إنهما ضعيفان.

(ج) ذكر المباركفوري في مقدمة تحفة الأحوذي نقلا عن كتاب (الحطة) أنه ليس في صحيح مسلم ولا في سنن أبي داود والنسائي شيء من الأحاديث الثلاثيات الإسناد، فأعلى ما يكون عندهم الأحاديث الرباعيات الإسناد.

(د) ذكر المباركفوري أيضاً نقلا عن كتاب (الحطة) أن ثلاثيات الدارمي أكثر من ثلاثيات البخاري، وقال صاحب (كشف الظنون): ثلاثيات الدارمي هي خمسة عشر حديثاً وقعت في مسنده بسنده.

(هـ) ثلاثيات مسند الإمام أحمد عددها واحد وثلاثون وثلاثمائة، قد أفردت من المسند وشرحها الشيخ محمد السفاريني شرحاً نفيساً في مجلدين كبيرين.

(و) ثلاثيات مسند عبد بن حميد عددها واحد وخمسون حديثًا (1).



المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) أورد البخاري الحديث في (كتاب الكفالة) في (باب: من تكفل عن ميت دَينا فليس له أن يرجع). ووجه مطابقة الحديث للترجمة كما ذكر الحافظ في (فتح الباري): أنه لو كان لأبي قتادة أن يرجع عن الكفالة لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل المدين حتى يوفي أبو قتادة الدين، لاحتمال أن يرجع فيكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى على مدين دينه باق عليه، فدل على أنه ليس له أن يرجع. وأورده أيضاً في (كتاب الحوالة) من طريق مكي بن إبراهيم في (باب: إذا أحال دين الميت على رجل جاز)، ووجهه كما نقل الحافظ في (الفتح) عن ابن بطال أنه قال: إنما ترجم بالحوالة فقال: إن أحال دين الميت. ثم أدخل حديث سلمة وهو في الضمان لأن الحوالة والضمان عند بعض العلماء متقاربان، وإليه ذهب أبو ثور لأنهما ينتظمان في كون كل منهما نقل ذمّة رجل إلى ذمّة رجل آخر، والضمان في هذا الحديث نقل ما في ذمّة الميت إلى ذمة الضامن فصار كالحوالة سواء.

(2) قوله (إذ أُتي بجنازة): قال في القاموس: الجنازة الميت ويفتح، أو بالكسر الميت، وبالفتح السرير أو عكسه، وبالكسر السرير مع الميت. انتهى.

وقد أعيد الضمير مؤنثاً في قوله: ليصلى عليها. باعتبار لفظ الجنازة وهو مؤنث، ومذكراً في قوله: ((هل عليه من دين)) باعتبار المعنى وهو الميت، وقد زيدت (من) قبل المبتدأ المنكر في قوله: ((هل عليه من دين)) لتأكيد إفادة العموم في جنس الدين، أي: هل عليه دين؟، أيُّ دَين كان، قليلاً كان أو كثيراً.

(3) اشتمل هذا الحديث على ذكر جنازتين: سليم من الدَّين صلى عليه، ومدين أراد ترك الصلاة عليه لو لم يتحمل عنه دينه، وقد ذكر جنازة ثالثة في طريق مكي بن إبراهيم المذكور في التخريج، وهو مَن عليه دين وترك وفاء له وقد صلى عليه.

(4) لم يبين في الحديث قدر الدين، وقد بين في طريق مكي بن إبراهيم بأنه ثلاثة دنانير، قال الحافظ في (الفتح): وفي حديث جابر عند الحاكم ديناران، وأخرجه أبو داود من وجه آخر عن جابر نحوه، وكذلك أخرجه الطبراني من حديث أسماء بنت يزيد، ويجمع بينهما بأنه كان دينارين وشطراً، فمن قال ثلاثة جبر الكسر، ومن قال ديناران ألغاه، أو كان أصلهما ثلاثة، فوفى قبل موته ديناراً وبقي عليه ديناران، فمن قال ثلاثة فباعتبار الأصل، ومن قال ديناران فباعتبار ما بقي من الدين والأول أليق.

ووقع عند ابن ماجه من طريق أبي قتادة: ثمانية عشر درهماً، وهذا دون دينارين، وفي مختصر المزني من حديث أبي سعيد الخدري درهمين، ويجمع إن ثبت بالتعدد. ورجّح الشوكاني في (نيل الأوطار) القول بتعدد القصة مطلقاً.

وقال الحافظ في (الفتح) أيضاً: وقد وقعت هذه القصة مرة أخرى، فروى الدار قطني من حديث عليّ: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بجنازة لم يسأل عن شيء من عمل الرجل ويسأل عن دينه، فإن قيل عليه دين كفَّ، وإن قيل ليس عليه دين صلّى، فأتي بجنازة، فلما قام ليكبر سأل: هل عليه دين؟ فقالوا: ديناران، فعدل عنه فقال عليّ: هما عَليّ يا رسول الله، وهو بريء منهما فصلّى عليه، ثم قال لعليٍّ: جزاك الله خيراً وفك الله رهانك)) الحديث.

(5) لم يبين في هذا الحديث سبب السؤال عن الميت: هل عليه دين؟ وقد بين ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الشيخين قال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل: هل ترك لدينه وفاء؟ فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء، صلّى، وإلاّ قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: ((أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك ديناً فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته)).

(6) قال الحافظ في (الفتح): قال العلماء: كأن الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة على من عليه دين ليحرض الناس على قضاء الدين في حياتهم، والتوصل إلى البراءة منها، لئلا تفوتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهل كانت صلاته على من عليه دين محرمة عليه أو جائزة؟ وجهان: قال النووي: الصواب الجزم بجوازه مع وجود الضامن، كما في حديث مسلم، وحكى القرطبي أنه ربما كان يمتنع من الصلاة على من استدان ديناً غير جائز، وأما من استدان لأمر هو جائز فما كان يمتنع، وفيه نظر، لأن في حديث الباب ـ يعني حديث أبي هريرة ـ ما يدل على التعميم حيث قال: ((من توفي وعليه دين))، ولو كان الحال مختلفاً لبينه، ثم أورد حديثاً عن ابن عباس فيه التفصيل بين التحمل في البغي والإسراف، والتحمل في الحاجة، وقال: وهو ضعيف، وقال: قال الحازمي بعد أن أخرجه: لا بأس به في المتابعات، وقال: وليس فيه أن التفصيل المذكور كان مستمراً، وإنما فيه أنه طرأ بعد ذلك وأنه السبب في قوله: ((من ترك ديناً فعليَّ)). وقال الشوكاني في (نيل الأوطار): قال ابن بطال: هذا يعني من ترك ديناً فعلي. ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه دين، وقد حكى الحازمي إجماع الأمة على ذلك.

(7) أبو قتادة الذي تحمل الدين في الحديث: هو الحارث، ويقال: عمرو، ويقال: النعمان بن ربعي الأنصاري السلمي ـ بفتحتين ـ المدني، شهد أُحداً وما بعدها ولم يصح شهوده بدراً، ومات سنة أربع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وثلاثين والأوّل أصح وأشهر، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في (التقريب)، ورمز لكون حديثه مخرجاً في الكتب الستة.

(8) همَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بترك الصلاة على من عليه الدَّين، في الحديث حصل فيه فائدتان: إحداهما تعود إلى المتوفى وهي: أن أبا قتادة رضي الله عنه رقَّ له فتحمل دينه، فبرئت ذمته بذلك، والثانية تعود إلى الأحياء وهي: التحذير من الدَّين والتحريض على قضائه قبل الموت لئلا تترك الصلاة عليهم.

(9) صلاة الجنازة من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، والمتوفى أحوج ما يكون إلى ذلك الحق، فجدير بالمسلم أن يحرص على بذل هذا الحق لإخوانه المسلمين، لأنه يحب ذلك لنفسه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((ومن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يُؤتى إليه))، ولما في ذلك من الفائدة للمتوفى وللمصلي، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من صلى على الجنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراط يا رسول الله؟ قال: مثل جبل أُحد)).

(10) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) وجوب صلاة الجنازة وهي من حق المسلم على أخيه المسلم لقوله: ((فصلوا على صاحبكم)).

(2) أن صلاة الجنازة فرض كفاية حيث أراد النبي صلى الله عليه وسلم التخلي عنها لو لم يتحمل الدَّين عن الميت.

(3) أنه ينبغي لذوي الميت الاهتمام بشهود أهل الفضل والصلاح الصلاة على ميتهم.

(4) سؤال الإمام عن أحوال الرعية.

(5) مشروعية الضمان.

(6) جواز تحمل الدين عن الميت.

(7) براءة ذمة الميت بأداء غيره ما وجب عليه.

(8) التنفير من الدين والتحذير من تعاطيه إلاَّ مع الضرورة.

(9) حث المدينين على قضاء ديونهم، وتحريضهم على المبادرة إلى التخلص من تبعتها.

(10) الاكتفاء في لزوم الضمان على الضامن بمجرد التزامه وإن تأخر الأداء.

(11) أن الضامن ليس له الرجوع عن التزامه ما تكفل به.

(12) أن تفويت الإنسان على الناس حقوقهم قد يكون سبباً في تفويت حقه عليه.

(13) أن درأ المفاسد العامة مقدم على جلب المصالح الخاصة.

(14) أن الجزاء من جنس العمل، وأنه كما يدين الإنسان يُدان.

(15) أنه ليس للضامن الرجوع في مال الميت إن ظهر أن له مالاً.

(16) بيان ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من الأخلاق الفاضلة: من الرأفة، والشفقة، والرحمة بعضهم لبعض، فتحمل أبي قتادة رضي الله عنه الدَّين مثال واقعي لما وصفهم الله به في قوله: ( رحماء بينهم ).

(17) تأخير البيان إلى وقت الحاجة.












(1) تنبيه: الحديث الثلاثي عند الترمذي، والخمسة عند ابن ماجه، وثلاثيات الدارمي وعددها خمسة عشر حديثًا، وثلاثيات عبد بن حميد وعددها واحد وخمسون توجد مخطوطة بخط جميل ضمن مجموعة (رقم44) مجاميع في مكتبة عارف حكمت في المدينة المنورة.

ابو وليد البحيرى
2018-10-17, 07:57 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (5)

حديث: ( إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً )



قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب الجهاد، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة)



حدثنا مطر بن الفضل حدثنا يزيد بن هارون حدثنا العوام حدثنا إبراهيم أبو إسماعيل السكسكي قال: سمعت أبا بردة واصطحب هو ويزيد بن أبي كبشة في سفر، فكان يزيد يصوم في السفر فقال له أبو بردة: سمعت أبا موسى مراراً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)).

المبحث الأول: التخريج:

انفرد البخاري عن مسلم بإخراج هذا الحديث فأورده في هذا الموضع من صحيحه.

وقد رواه في (الأدب المفرد) فقال: (باب يكتب للمريض ما كان يعمل وهو صحيح)، حدثنا قبيصة بن عقبة قال: حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن القاسم بن مخيمرة عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أحد يمرض إلاَّ كتب له مثل ما كان يعمل وهو صحيح)).

وأخرجه أبو داود في (كتاب الجنائز) من سننه فقال: (باب إذا كان الرجل يعمل عملاً صالحاً فشغله عنه مرض أو سفر)، حدثنا محمد بن عيسى ومسدد ـ المعنى ـ قالا: حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب عن إبراهيم بن عبد الرحمن السكسكي عن أبي بردة عن أبي موسى قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول: ((إذا كان العبد يعمل عملاً صالحاً فشغله عنه مرض أو سفر، كتب له كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم))، ورواه أحمد في مسنده.

وورد بمعناه أحاديث، فعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أحد من الناس يصاب ببلاء في جسده إلاَّ أمر الله عزوجل الملائكة الذين يحفظونه فقال: اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة ما كان يعمل من خيرٍ ما كان في وثاقي))، قال الهيثمي في (مجمع الزوائد): رواه أحمد، والبزار، والطبراني في (الكبير)، ورجال أحمد رجال الصحيح، وأخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه فقال: على شرطهما، وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض، قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طليقاً حتى أطلقه أو ألقيه إليَّ)).

قال الهيثمي في (مجمع الزوائد): رواه أحمد وإسناده صحيح، وقال المنذري في (الترغيب والترهيب): وإسناده حسن، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ابتلَى الله عزوجل العبد المسلم ببلاء في جسده، قال الله عزوجل للملَك: اكتب له صالح عمله الذي كان يعمله، فإن شفاه غسله وطهره وإن قبضه غفر له ورحمه))، قال الهيثمي: رواه أبو يعلى وأحمد، ورجاله ثقات. انتهى.

ورواه أيضاً البخاري في (الأدب المفرد)، وعن شقيق بن عبد الله قال: مرض عبد الله بن مسعود فعدناه، فجعل يبكي فعوتب فقال: إني لا أبكي لأجل المرض لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المرض كفارة))، وأنا أبكي أنه أصابني على فترة ولم يصبني في حال اجتهاد، لأنه يكتب للعبد من الأجر إذا مرض ما كان يكتب له قبل أن يمرض فمنعه منه المرض. أخرجه رزين كما في (جامع الأصول) لابن الأثير، وكما في (مشكاة المصابيح)، وذكر الحافظ في (الفتح) أن الإسماعيلي أخرج حديث أبي موسى هذا من رواية هشيم عن العوام بن حوشب، وقال فيه أيضاً: ولرواية إبراهيم السكسكي عن أبي بردة متابع، أخرجه الطبراني من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده بلفظ: ((إن الله يكتب للمريض أفضل ما كان يعمل في صحته مادام في وثاقه)) الحديث، وفي حديث عائشة عند النسائي: ((ما من امرئ تكون له صلاة من الليل يغلبه عليها نوم أو وجع إلاَّ كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة))، وذكر حديث أبي هريرة رفعه: ((من توضأ فأحسن وضوءه، ثم خرج إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا، أعطاه الله مثل أجر من صلى وحضر، لا ينقص ذلك من أجره شيئاً))، وقال: أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وإسناده قوي. انتهى.

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ البخاري مطر بن الفضل: قال الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب): مطر بن الفضل المروزي ثقة من الحادية عشرة، قال الفربري مات عندنا، أي بعد الخمسين. انتهى. والمراد من قول الفربري المشار إليه: أنه مات في فِربَر بعد المائتين والخمسين.

وقال في (خلاصة تذهيب الكمال): مطر بن الفضل المروزي عن وكيع وغيره وعنه البخاري، قال ابن حبان: مستقيم الحديث. وقال أبو الفضل بن طاهر المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع يزيد بن هارون، وشبابة، وروح بن عبادة. روى عنه البخاري في (الصلاة) و(الجهاد) و(هجرة النبي صلى الله عليه وسلم). انتهى. وهو من رجال البخاري دون بقية أصحاب الكتب الستة.

الثاني: يزيد بن هارون: وهو يزيد بن هارون بن زاذان السلمي مولاهم، أبو خالد الواسطي، ثقة، متقن، عابد، من التاسعة، مات سنة ست ومائتين وقد قارب التسعين، قاله الحافظ في (تقريب التهذيب).

وقال في (الخلاصة): أحد الأعلام الحفاظ المشاهير، عن سليمان التيمي، وحميد الطويل، والجريري، وداود بن أبي هند، وخلق. وعنه بقية، وابن المديني، وأحمد، وإسحاق، وعبد بن حميد، وخلق. قال أحمد: كان حافظاً متقناً. وقال العجلي: ثقة ثبت. وقال أبو حاتم: إمام لا يسأل عن مثله. انتهى.

وقد أثنى عليه أئمة آخرون غير هؤلاء، وقال في (الجمع بين رجال الصحيحين): قال أحمد بن حنبل: ولد سنة ثمان عشرة ومائة. وقال ابن سعد: مات بواسط في غرة شهر ربيع الأول سنة ست ومائتين. انتهى. وقد خرج حديثه الجماعة.

الثالث: العوام: وهو ابن حوشب بن يزيد الشيباني، أبو عيسى الواسطي، ثقة، ثبت، فاضل، من السادسة، مات سنة ثمان وأربعين أي بعد المائة، قاله في (تقريب التهذيب)، وذكر في (تهذيب التهذيب) أنه روى عن أبي إسحاق السبيعي، ومجاهد، وسعيد بن جهمان، وإبراهيم بن عبد الرحمن السكسكي، وغيرهم. وروى عنه سفيان بين حبيب، وحفص بن عمر الرازي، وهشيم، ويزيد بن هارون، وغيرهم. وذكر أيضاً توثيق الإمام أحمد، وابن معين، وأبي زرعة، والعجلي، وابن سعد، والحاكم له، وقد خرّج حديثه الجماعة.

الرابع: إبراهيم أبو إسماعيل السكسكي: وهو إبراهيم بن عبد الرحمن بن إسماعيل السكسكي، أبو إسماعيل الكوفي مولى صُخير. قاله الحافظ في (تهذيب التهذيب)، وقال: روى عن عبد الله بن أبي أوفى، وأبي بردة بن أبي موسى، وأبي وائل، وغيرهم. وعنه العوام بن حوشب، ومسعر، وأبو خالد الدالاني، وغيرهم.

وقال في مقدمة (فتح الباري): قال أحمد: ضعيف. وقال النسائي: يكتب حديثه وليس بذلك القوي. وقال ابن عدي: لم أجد له حديثاً منكر المتن، وهو إلى الصدق أقرب. وقال الحاكم: قلت للدار قطني: لِمَ ترك مسلم حديثه؟ فقال: تكلم فيه يحيى بن سعيد. قلت بحجة؟ قال: هو ضعيف. ثم ذكر الحافظ أن له في الصحيح حديثين أحدهما عن عبد الله بن أبي أوفى في نزول قوله تعالى: ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلاً ) أخرجه في التفسير وغيره، وهذا له أصل من حديث ابن مسعود فهو شاهد له، والثاني من حديثه عن أبي بردة عن أبيه: ((إذا مرض العبد أو سافر)) الحديث.

وقال في (تهذيب التهذيب): وذكره ابن حبان في (الثقات). وقال في (تقريب التهذيب): صدوق ضعيف الحفظ من الخامسة. وقال الذهبي في (ميزان الاعتدال): كوفي صدوق، لينه شعبة والنسائي ولم يترك. انتهى. وقد روى له أيضاً أبو داود والنسائي، ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.

الخامس: أبو بردة: وهو أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقة من الثالثة، مات سنة أربع ومائة، وقيل غير ذلك، وقد جاوز الثمانين. قاله الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب)، وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أبيه، وعليّ، وحذيفة، وعبد الله بن سلام، وعن أناس آخرين سماهم، ثم قال: وعنه أولاده سعيد وبلال، وحفيده أبو بردة يزيد بن عبد الله بن أبي بردة، والشعبي وهو من أقرانه، وعاصم بن كليب، وإبراهيم بن عبد الرحمن السكسكي، وأناس آخرون سماهم. ثم ذكر توثيق ابن سعد، والعجلي، وابن خراش، وابن حبان له، وحديثه خرّجه الجماعة.

أما يزيد بن أبي كبشة فليس من رواة الحديث كما هو معلوم، وإنما أورد أبو بردة الحديث من أجل صيامه في السفر، وقد قال الحافظ في (فتح الباري): ويزيد بن أبي كبشة هذا شامي، واسم أبيه حيويل ـ بفتح المهملة وسكون التحتانية وكسر الواو وبعدها تحتانية أخرى ساكنة ثم لام ـ وهو ثقة ولي خراج السند لسليمان بن عبد الملك، ومات في خلافته، وليس له في البخاري ذكر إلاّ في هذا الموضع. انتهى.

السادس: صحابي الحديث أبو موسى الأشعري: وهو عبد الله بن قيس بن سلم ابن حضار ـ بفتح المهملة وتشديد الضاد المعجمة ـ أبو موسى الأشعري، صحابي مشهور، أمّره عمر ثم عثمان، وهو أحد الحكمين بصفين، مات سنة خمسين، وقيل بعدها، قاله الحافظ في (تقريب التهذيب).

وقال الخزرجي في (الخلاصة): له ثلاثمائة وستون حديثاً، اتفقا على خمسين، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة وعشرين. وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن عدة أحاديثه عند البخاري سبعة وخمسون حديثاً، وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وعليّ، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، وعمار بن ياسر، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم، وعنه أولاده: إبراهيم وأبو بكر وأبو بردة وموسى، وامرأته أم عبد الله، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأناس آخرون سماهم. وقال أيضاً: ومناقبه كثيرة. وقال في كتابه (الإصابة): واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض اليمن كزبيد، وعدن وأعمالها، واستعمله عمر على البصرة بعد المغيرة، فافتتح الأهواز ثم أصبهان، ثم استعمله عثمان على الكوفة ثم كان أحد الحكمين بصفين ثم اعتزل الفريقين. وقال أيضاً: وكان حسن الصوت بالقرآن، وفي الصحيح المرفوع: ((لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود)). انتهى. وحديثه في الكتب الستة.

المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) هذا الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ الدار قطني على البخاري، وقد تقدم أن جملة الأحاديث التي انتقدها الحفاظ على الإمام البخاري مائة وعشرة أحاديث، انفرد البخاري عن مسلم بثمانية وسبعين حديثاً، وشاركه مسلم في إخراج اثنين وثلاثين، ووجه الانتقاد في هذا الحديث من الدار قطني أنه قال: لم يسنده غير العوام بن حوشب، وخالفه مسعر فرواه عن إبراهيم السكسكي عن أبي بردة قوله ولم يذكر أبا موسى ولا النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وقد أجاب الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح عن هذا الانتقاد بجوابين قال فيهما: قلت: مسعر أحفظ من العوام بلا شك، إلاّ أن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي فهو في حكم المرفوع، وفي السياق قصة تدل على أن العوام حفظه، فإن فيه: اصطحب يزيد بن أبي كبشة وأبو بردة في سفر، فكان يزيد يصوم في السفر، فقال له أبو بردة: أفطر فإني سمعت أبا موسى مراراً يقول، فذكره. وقد قال أحمد بن حنبل: إذا كان في الحديث قصة دل على أن راويه حفظه، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله.

وهناك جوابان آخران (أحدهما): أنه ورد مسنداً من غير طريق العوام بن حوشب عند البخاري في (الأدب المفرد)، وقد تقدم سنداً ومتناً في التخريج، (الثاني): أن الحكم في تعارض الرفع والوقف والوصل والإرسال لمن أرسله أو وقفه إذا كان أحفظ، إنما هو قول لبعض العلماء، وقد رجّح كثير من العلماء أن الحكم لمن وصله أو رفعه، قال النووي في (التقريب): والصحيح أن الحكم لمن وصله أو رفعه، سواء كان المخالف له مثله أو أكثر، لأن ذلك زيادة ثقة وهي مقبولة.

وقال السيوطي في (التدريب): إنه الصحيح عند أهل الحديث والفقه والأصول. وقال أبو عمرو بن الصلاح في (علوم الحديث) في معرض تعداد الأقوال في المسألة: ومنهم من قال الحكم لمن أسنده إذا كان عدلاً ضابطاً، فيقبل خبره وإن خالفه غيره، سواء كان المخالف له واحداً أو جماعة. قال الخطيب: هذا القول هو الصحيح. ثم قال ابن الصلاح: قلت: وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله. وسئل البخاري عن حديث: ((لا نكاح إلا بوليٍّ)) فحكم لمن وصله وقال: الزيادة من الثقة مقبولة، فقال البخاري هذا مع أن من أرسله شعبة وسفيان وهما جبلان لهما من الحفظ والإتقان الدرجة العالية، ويلتحق بهذا ما إذا كان الذي وصله هو الذي أرسله، وصله في وقت وأرسله في وقت، وهكذا إذا رفع بعضهم الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفه بعضهم على الصحابي، أو رفعه واحد في وقت ووقفه هو أيضاً في وقت آخر، فالحكم على الأصح في كل ذلك لما زاده الثقة من الوصل والرفع، لأنه مثبت وغيره ساكت، ولو كان نافياً فالمثبت مقدم عليه لأنه علم ما خفي عليه. انتهى. وقال العراقي في ألفيته:

واحكم لوصل ثقة في الأظهر



وبهذه الأجوبة تتضح سلامة هذا الحديث من الانتقاد الذي وجهه الدار قطني إليه.

(2) رجال الإسناد الستة خرّج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلاّ شيخ البخاري مطر بن الفضل فقد انفرد البخاري بإخراج حديثه، وإلاّ إبراهيم السكسكي فلم يرو له مع البخاري سوى أبي داود والنسائي، وقد أخرج له البخاري حديثين كما ذكره الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري.

(3) العوام في الإسناد غير منسوب وهو ابن حوشب، ولا لبس في عدم نسبته لأنه ليس في رجال البخاري مَن اسمه العوام غيره، بل جملة من اسمه العوام عند أصحاب الكتب الستة ثلاثة هذا أحدهم وقد اتفقوا على إخراج حديثه، والثاني العوام بن حمزة المازني البصري، وهو من رجال الترمذي وحده، والثالث العوام بن عباد الواسطي وهو من رجال ابن ماجه وحده.

(4) هذا الحديث رواه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه أبي موسى رضي الله عنه فهو من رواية الأبناء عن الآباء.

(5) في سند هذا الحديث واسطيان وهما: يزيد بن هارون وشيخه العوام بن حوشب.

(6) يزيد بن أبي كبشة الذي أورد أبو بردة الحديث من أجل صيامه معه في السفر ليس له ذكر في صحيح البخاري إلا في هذا الموضع كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) هذا الحديث أورده البخاري في (كتاب الجهاد) لأن الجهاد لابد فيه من السفر غالباً.

(2) معنى الحديث: إذا مرض العبد المسلم وكان يعمل عملاً صالحاً قبل مرضه ومنعه منه المرض ونيته لولا المانع إدامته، أو سافر سفراً مباحاً ومنعه السفر مما قطعه على نفسه من الطاعة ونيته المداومة عليه، كتب له من الأجر قدر ثواب عمله في حال إقامته، وفي حال صحته.

(3) في الحديث شاهد لما يعرف في علم البلاغة باللف والنشر المقلوب، لأنه ذكر المرض والسفر أولاً ثم ذكر الإقامة والصحة ثانياً، فالإقامة في مقابل السفر، والصحة في مقابل المرض، ومن أمثلته في الكتاب العزيز قوله تعالى:( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون )، ومن أمثلة اللف والنشر المرتب في الكتاب العزيز قوله تعالى: ( وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا * وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا )،ومن أمثلته في السنة قوله صلى الله عليه وسلم : ((أحلت لنا ميتان ودمان، فأما الميتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكبد والطحال)).

(4) في الحديث شاهد لنوعي الفعل المسند إلى الفاعل، قال ابن هشام معرفاً الفاعل في (شذور الذهب): هو ما قدم الفعل أو شبهه عليه وأسند إليه على جهة قيامه به أو وقوعه منه. انتهى. فإن الفعل (سافر) يسند إلى العبد لكون السفر وقع منه، والفعل (مرض) يسند إلى العبد لكون المرض قام به.

(5) من فقه الحديث وما يتسنبط منه:

(1) ما كان عليه سلف هذه الأمة من اتباع السنة وإرشاد الناس إليها.

(2) المذاكرة في العلم والعناية بالأدلة.

(3) إثبات كتابة أعمال العباد.

(4) أن العبد المسلم إذا كان يعمل عملاً في حال صحته فمنعه المرض كتب له مثل عمله في حال الصحة.

(5) أن المسافر يكتب له مثل ما كان يعمل في حال الإقامة كذلك.

(6) تفضل الله على عباده وإنعامه عليهم بإثابتهم على ما فعلوه من الخير وما لم يتمكنوا من فعله.

(7) بيان ضعف المخلوق وأنه لا يخرج عن كونه عبداً لله، فلا يجوز أن يصرف له ما لا يستحقه.

(8) أن من مظاهر ضعف العبد طروء المرض عليه.

(9) حاجة الإنسان إلى السفر، وأفضله السفر في الجهاد، ومن أجل ذلك أورد البخاري هذا الحديث في (كتاب الجهاد).

(10) الرد على من زعم أن الأعذار المرخصة لترك الجماعة تسقط الكراهة والإثم خاصة من غير أن تكون محصلة للفضيلة.

(11) الترغيب في المداومة على الطاعة في الصحة والإقامة ليحظى العبد في الثواب فيهما وفي حال المرض والسفر.

ابو وليد البحيرى
2018-10-21, 04:16 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (6)




حديث: (أنت مع من أحببت)


قال البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب فضائل الصحابة رضوان الله عليهم):
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه: ((أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال:" وماذا أعددت لها "؟ قال: لا شيء إلاَّ أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال:" أنت مع من أحببت ")). قال أنس: فما فرحنا بشيء فرَحَنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنت مع من أحببت))، قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم.
المبحث الأول/ التخريج:
هذا الحديث أورده البخاري في أربعة مواضع من صحيحه هذا أحدها في (باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والثاني في (كتاب الأدب، باب ما جاء في قول الرجل: ويلك) ولفظه: حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا همام عن قتادة عن أنس: ((أن رجلاً من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى الساعة قائمة؟ فقال:" ويلك وما أعددت لها "؟ قال: ما أعددت لها إلاّ أني أحب الله ورسوله، فقال:" إنك مع من أحببت ")). فقلنا: ونحن كذلك؟ قال: " نعم "، ففرحنا يومئذ فرحاً شديداً، فمر غلام للمغيرة ـ وكان من أقراني ـ فقال: إن أخر هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة. واختصره شعبة عن قتادة: سمعت أنسًا عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والثالث في (كتاب الأدب، باب علامة الحب في الله) ولفظه: حدثنا عبدان أخبرنا أبي عن شعبة عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن أنس بن مالك: ((أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة يا رسول الله؟ فقال:" ما أعددت لها "؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة، ولا صوم، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال:" أنت مع من أحببت ")).
والرابع في (كتاب الأحكام، باب القضاء والفتيا في الطريق) ولفظه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير بن منصور عن سالم بن أبي الجعد حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((بينما أنا والنبي صلى الله عليه وسلم خارجان من المسجد فلقينا رجل عن سدة المسجد فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أعددت لها "؟ فكأن الرجل استكان، ثم قال: يا رسول الله ما أعددت لها كبير صيام، ولا صلاة، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: " أنت مع من أحببت ")).
وأخرج الحديث مسلم في (كتاب البر والصلة) من صحيحه عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب ومحمد بن عبد الله بن نمير وابن أبي عمر، وعن محمد بن رافع وعبد بن حميد، وعن أبي الربيع العتكي، وعن محمد بن عبيد الغبري، وعن عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، وعن محمد بن يحيى بن عبد العزيز اليشكري، وعن قتيبة وابن المثنى وابن بشار وأبي غسان المسمعي.
وأخرجه الترمذي في (الزهد) من جامعه عن ابن حجر.
وأخرج طرفاً منه وهو قوله: ((أنت مع من أحببت)) بلفظ: ((المرء مع من أحب)) البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من طرق متعددة، بل قد حكى بعض العلماء تواتر ذلك، قال ابن كثير في تفسير سورة الشورى: وقد روي من طرق تبلغ درجة التواتر في الصحاح، والحسان، والسنن، والمسانيد، وفي بعض ألفاظه: ((أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره فناداه فقال: يا محمد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من صوته: هاؤم، فقال له: متى الساعة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ويحك، إنها كائنة فما أعددت لها "؟ فقال:حب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم :" أنت مع من أحببت ")). فقوله في الحديث: ((المرء مع من أحب)) هذا متواتر لا محالة، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة، بل أمره بالاستعداد لها. انتهى.
وقال الحافظ في (الفتح) عند الكلام على حديث ((المرء مع من أحب)): وقد جمع أبو نعيم طرق هذا الحديث في جزء سماه (كتاب المحبين مع المحبوبين) وبلغ الصحابة فيه نحو العشرين، وفي رواية أكثرهم بهذا اللفظ وفي بعضها بلفظ أنس.
المبحث الثاني/ التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري سليمان بن حرب: قال الحافظ في (تهذيب التهذيب): سليمان بن حرب بن بجيل الأزدي الواشحي، أبو أيوب البصري، وواشح من الأزد سكن مكة وكان قاضيها.
وقال الخزرجي في (الخلاصة): أحد الأعلام الحفاظ عن شعبة، والحمادين، وجرير بن حازم وطبقتهم. وعنه البخاري، وأبو داود، وعمرو بن عليّ، وأحمد، وابن راهويه، ومن القدماء يحيى القطان ومحمد بن جعفر وخلق. انتهى.
وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن أبي حاتم، ويحيى بن أكثم، ويعقوب بن شيبة، والنسائي، وابن خراش، وابن حبان، وابن قانع، وابن عدي، وابن سعد. وقال عنه في (تقريب التهذيب): ثقة، إمام، حافظ، من التاسعة، مات سنة أربع وعشرين ـ أي بعد المائتين ـ وله ثمانون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
الثاني: حماد بن زيد: قال الحافظ في (تهذيب التهذيب): حماد بن زيد بن درهم الأزدي، الجهضمي، أبو إسماعيل البصري الأزرق، مولى آل جرير بن حازم.
وقال في (تقريب التهذيب): ثقة، ثبت، فقيه، قيل: إنه كان ضريراً ولعلّه طرأ عليه لأنه صح أنه كان يكتب، من كبار الثامنة، مات سنة تسع وسبعين ـ أي بعد المائة ـ وله إحدى وثمانون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقد روى عن ثابت البناني، وأنس بن سيرين، وعبد العزيز بن صهيب، وعاصم الأحول، وغيرهم، ذكرهم في (تهذيب التهذيب)، وذكر كثيراً ممن رووا عنه ومنهم: ابن المبارك، وابن مهدي، وابن وهب، والقطان، وابن عيينة وهو من أقرانه، والثوري وهو أكبر منه، وعارم، ومسدد، وسليمان بن حرب. ثم ذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك قول عبد الرحمن بن مهدي: ((أئمة الناس في زمانهم أربعة: سفيان الثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحماد بن زيد بالبصرة)). وقال وكيع، وقيل له: أيهما أحفظ؟ ـ أي الحمادين حماد بن زيد وحماد بن سلمة ـ، فقال: ((حماد بن زيد ما كنا نشبهه إلا بمسعر)). وقال يحيى بن يحيى النيسابوري: ((ما رأيت أحفظ منه)). انتهى. وكانت وفاته في السنة التي مات فيها الإمام مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ، وهو أحد الحمادين فيما إذا قيل في ترجمة من فوقهما في الطبقة روى عنه الحمادان، وفي ترجمة من دونهما روى عن الحمادين، والثاني منهما حماد بن سلمة بن دينار.
الثالث: ثابت: وهو ثابت بن أسلم البناني ـ بضم الموحدة وبنونين ـ مولاهم، أبو محمد البصري أحد الأعلام. عن ابن عمر، وعبد الله بن مغفل، وأنس، وخلق من التابعين، وعنه شعبة، والحمادان، ومعمر. قاله الخزرجي في (الخلاصة).
وقال الحافظ في (تقريب التهذيب): ثقة، عابد، من الرابعة، مات سنة بضع وعشرين ـ أي بعد المائة ـ وله ست وثمانون سنة. وذكر في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن العجلي، والنسائي، وابن سعد.
وقال أبو الفضل بن طاهر في (الجمع بين رجال الصحيحين): ويقال بنانة الذين منهم ثابت هم بنو سعد بن لؤي بن غالب، وقد خرج حديثه الجماعة.
الرابع: صحابي الحديث أنس: وهو أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، صحابي مشهور، مات سنة اثنتين وقيل ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة. قاله الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب).
وقال في (تهذيب التهذيب): أبو حمزة المدني، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزيل البصرة. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر الصديق، ومعاذ، وأبي ذر، وعدة من الصحابة رضي الله عنهم عندهما ـ أي في الصحيحين ـ. وروى عنه الزهري، ويحيى بن سعيد، والحسن، وقتادة، وثابت، وحميد، وغير واحد من التابعين عندهما. وقال: وكان آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم.
وقال الحافظ ابن حجر في (الإصابة): ومناقب أنس وفضائله كثيرة جداً، وقال: خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد المكثرين من الرواية عنه. وذكر في مقدمة الفتح: أن له عند البخاري مائتين وثمانية وستين حديثاً.
وقال الخزرجي في (الخلاصة): له ألف ومائتا حديث وستة وثمانون حديثاً، اتفقا ـ أي البخاري ومسلم ـ على مائة وثمانية وستين، وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين، ومسلم بأحد وسبعين. انتهى. وحديثه في الكتب الستة.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الإسناد الأربعة بصريون، فهو مسلسل بالرواة البصريين وهو من رباعيات البخاري.
(2) رجال الإسناد الأربعة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم.
(3) ومن اللطائف في ذلك: أن كلا من رواته يلي من روى عنه في مقدار العمر، فأنس رضي الله عنه عمره جاوز المائة والراوي عنه ثابت البناني وعمره ست وثمانون سنة، وعنه حماد بن زيد وعمره إحدى وثمانون سنة، وعنه سليمان بن حرب وعمره ثمانون سنة، وعنه الإمام البخاري وعمره اثنتان وستون سنة.
ومن جهة أخرى أن كل واحد من رواته قد بدئ اسمه بحرف متقدم في الترتيب على الذي يليه من الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه حتى الإمام البخاري محمد بن إسماعيل ـ رحمه الله ـ الهمزة ثم الثاء ثم الحاء ثم السين ثم الميم، فالباحث عن تراجمهم في كتب الرجال يجدهم في الكتب حسب ترتيبهم في هذا الإسناد.
(4) قال الخزرجي في (الخلاصة) في ترجمة ثابت البناني: روى عنه الحمادان. وقال في ترجمة سليمان بن حرب روى عن الحمادين، والمراد بهما حماد بن زيد وحماد بن سلمة وطبقتهما واحدة وهما بصريان، ولم يخرج البخاري لحماد بن سلمة في صحيحه في الأصول بل في التعليق.
(5) ثابت هو ابن أسلم البناني، وقد روى عن أنس غيره من التابعين ممن يشاركه في الاسم إلاّ أنه مشهور في الرواية عنه وقد لازمه سنوات عديدة تبلغ أربعين سنة كما في (تهذيب التهذيب).
(6) أنس هو ابن مالك الأنصاري رضي الله عنه، ولا لبس في عدم نسبته لأنه ليس في رجال البخاري من الصحابة ممن يسمى أنساً سواه وقد نسب في الإسناد في بعض الطرق عند البخاري كما تقدم في التخريج.
المبحث الرابع/ شرح الحديث:
(1) قوله (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة): وفي بعض روايات حديث أنس عند البخاري: ((أن رجلاً من أهل البادية))، وهذا الرجل ذكر الحافظ في (الفتح) أنه ذو الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد، وقال إن حديثه بذلك مخرج عند الدار قطني. انتهى.
والحديث عند الدار قطني: عن عبد الله ـ وهو ابن مسعود ـ قال: ((جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير فقال: يا محمد متى الساعة؟ فقال: " وما أعددت لها "؟ قال: لا والذي بعثك بالحق نبياً، ما أعددت لها من كبير صلاة، ولا صيام، إلاّ أني أحب الله ورسوله. قال:" فإنك مع من أحببت "))، قال: فذهب الشيخ فأخذ يبول في المسجد الخ.
(2) قوله (وماذا أعددت لها): أي ما العمل الصالح الذي أعددته لتلقى جزاءه إذا قامت الساعة. قال الحافظ: قال الكرماني: سلك مع السائل أسلوب الحكيم، وهو تلقي السائل بغير ما يطلب مما يهمه أو هو أهم.
(3) قوله (أنت مع من أحببت): قال الحافظ في (الفتح): أي ملحق بهم حتى تكون من زمرتهم، وبهذا يندفع إيراد أن منازلهم متفاوتة فكيف تصح المعية؟ فيقال: إن المعية تحصل بمجرد الاجتماع في شيء ما ولا تلزم في جميع الأشياء، فإذا اتفق أن الجميع دخلوا الجنة صدقت المعية وإن تفاوتت الدرجات.
(4) قول أنس رضي الله عنه: (فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت)، وفي صحيح مسلم قال أنس: (فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: فإنك مع من أحببت).
(5) قوله (فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر): جمع أنس رضي الله عنه بين النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه في المحبة، ومحبتهما رضي الله عنهما من محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن المحبة الصادقة تقتضي موافقة المحبوب في محبة ما يحبه وبغض ما يبغضه، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما حبيباه وصاحباه رضي الله عنهما، وقد قال الله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } وقد جمع الله بين النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما في الدنيا، وفي التربة في البرزخ، وهما معه في الجنة، وهما أفضل من ولدته النساء بعد الأنبياء والمرسلين، وأفضلهما الصديق رضي الله عنه، وبعد عمر في الفضل عثمان رضي الله عنه، ثم علي رضي الله عنه وعن سائر الصحابة أجمعين.
(6) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
(1) الرجوع إلى العلماء وسؤالهم عن أمور الدين.
(2) رفق العالم بالسائل وتوجيه عنايته إلى ما يعود عليه بالفوائد العظيمة.
(3) كمال نصح الرسول صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته وإرشادهم إلى ما فيه فوزهم وسعادتهم.
(4) أن من حسن إسلام المرء اشتغاله بما يعنيه وتركه ما لا يعنيه.
(5) أن الاستعداد للدار الآخرة والعمل لما بعد الموت هو الشيء المهم الذي يجب أن تصرف إليه الهمم.
(6) احتقار الإنسان لعمله وعدم اغتراره به وتيقنه أنه دائماً محل التقصير.
(7) عظم شأن محبة الله ورسوله، وفي الحديث الصحيح: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)) الحديث.
(8) حسن تصرف السائل وتسديده في الإجابة لما أعيد عليه السؤال.

(9) توجيه عناية المسلم إلى محبة الحق وأهله ليحظى بالسعادة، لأن المرء مع من أحب.
(10) عظم قدر الصحابة رضوان الله عليهم، وحرصهم على الخير، وبعدهم عن الشر وذلك في شدة فرحهم رضوان الله عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنت مع من أحببت)).
(11) أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم للواحد خطاب للجميع ما لم يدل دليل على التخصيص.
(12) فضل أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما، ومن أجل ذلك أورد البخاري هذا الحديث في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(13) تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومحبتهم لهما، ومعرفتهم قدرهما رضي الله عن الجميع.
(14) في قول أنس رضي الله عنه: وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، دلالة على توسل الإنسان إلى الله بعمله الصالح، وقد دلَّ على ذلك أيضاً حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار.

ابو وليد البحيرى
2018-10-24, 03:33 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (7)



حديث : ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما )




قال الإمام البخاري في (كتاب التفسير) من صحيحه:


حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا حبان حدثنا همام حدثنا ثابت حدثنا أنس قال: حدثني أبو بكر رضي الله عنه قال: ((كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين قلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما)).

المبحث الأول: التخريج:

أورد البخاري ـ رحمه الله ـ هذا الحديث في ثلاثة مواضع من صحيحه هذا أحدها في باب قوله تعالى: ( ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا )، والثاني في (باب مناقب المهاجرين وفضلهم) في (كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) ولفظه: حدثنا محمد بن سنان حدثنا همام عن ثابت عن أنس عن أبي بكر رضي الله عنه قال: ((قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما ))، والثالث في (باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة) ولفظه: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا همام عن ثابت عن أنس عن أبي بكر رضي الله عنه قال: ((كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي، فإذا أنا بأقدام القوم فقلت: يا نبي الله لو أن أحدهم طأطأ بصره رآنا، قال: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما)).

وأخرج الحديث مسلم في صحيحه، وهو أول حديث عنده في (كتاب فضائل الصحابة رضوان الله عنهم)، فقال: حدثني زهير بن حرب وعبد بن حميد وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، قال عبد الله: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا حبان بن هلال حدثنا همام حدثنا ثابت حدثنا أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق حدثه قال: ((نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)).

وأخرجه الإمام أحمد في مسنده فقال: حدثنا عفان قال حدثنا همام قال أخبرنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: ((قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في الغار ـ وقال مرة: ونحن في الغار ـ: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، قال: فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)).

ورواه الترمذي في التفسير من جامعه عن زياد بن أيوب البغدادي عن عفان بمثل سنده ومتنه في مسند الإمام أحمد. وقال هذا حديث حسن صحيح غريب، إنما يعرف من حديث همام تفرد به، وقد روى هذا الحديث حبان بن هلال وغير واحد عن همام نحو هذا.

وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): تنبيه: اشتهر أن حديث الباب تفرد به همام عن ثابت، وممن صرّح بذلك الترمذي والبزار، وقد أخرجه ابن شاهين في (الأفراد) من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت بمتابعة همام، وقد قدمت له شاهداً من حديث حبشي بن جنادة ـ يشير بذلك إلى ما أخرجه ابن عساكر عنه ـ ووجدت له آخر عن ابن عباس أخرجه الحاكم في (الإكليل). انتهى.

وقال الشوكاني في تفسيره: وأخرج ابن شاهين وابن مردويه وابن عساكر عن حبشي بن جنادة قال: قال أبو بكر: ((يا رسول الله لو أن أحداً من المشركين رفع قدمه لأبصرنا، فقال: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا)).



المبحث الثاني/ التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ البخاري عبد الله بن محمد: قال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن اليمان، أبو جعفر الجعفي البخاري المعروف بالمسندي، وإنما عرف به لأنه كان وقت الطلب يتبع الأحاديث المسندة ولا يرغب في المقاطيع والمراسيل. سمع سفيان بن عيينة، ويحيى بن آدم، وحرمي بن عمارة، وأناساً آخرين سماهم، وقال: وروى عنه البخاري في مواضع. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): وقال أبو حاتم صدوق. وذكره ابن حبان في (الثقات). وقال: كان متقناً. وقال أحمد بن سيار: من المعروفين بالعدالة والصدق، صاحب سنة، عرف بالإتقان والضبط، وقد رأيته بواسط حسن القامة، أبيض الرأس واللحية، ورجع إلى بخارى ومات بها. وقال: قال الحاكم: سمى المسندي لأنه أول من جمع مسند الصحابة بما وراء النهر، وإمام الحديث في عصره هناك بلا مدافعة. وقال الخليلي: ثقة متفق عليه. قال في (تقريب التهذيب): أبو جعفر البخاري المعروف بالمسندي ـ بفتح النون ـ ثقة، حافظ، جمع المسند، من العاشرة، مات سنة تسع وعشرين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال البخاري والترمذي.

الثاني: حبان ـ بفتح الحاء ـ: قال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): حبان بن هلال الباهلي، ويقال: الكناني البصري، يكنى أبا حبيب. سمع همام بن يحيى عندهما ـ أي في الصحيحين ـ، ثم ذكر جماعة سمع منهم عند البخاري، وجماعة سمع منهم عند مسلم، ثم قال: روى عنه أحمد، والدارمي عندهما، وعبد الله المسندي، ويحيى بن محمد بن السكن، وعليّ بن مسلم عند البخاري.

وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): وقال أحمد بن حنبل: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة. ونقل توثيقه عن ابن معين، والترمذي، والنسائي، وابن سعد، والعجلي، والبزار، والخطيب. وقال في (تقريب التهذيب): ثقة، ثبت، من التاسعة، مات سنة ست عشرة ومائتين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

الثالث: همام: قال الحافظ في (تهذيب التهذيب): همام بن يحيى بن دينار الأزدي العوذي المحلمي مولاهم، أبو عبد الله ويقال: أبو بكر البصري، روى عن عطاء بن أبي رباح، واسحاق بن أبي طلحة، وزيد بن أسلم، وثابت البناني، وجماعة آخرين سماهم، ثم قال: وعنه الثوري وهو من أقرانه، وابن المبارك، وابن علية، ووكيع، وابن مهدي، وحبان بن هلال، ويزيد بن هارون، وأناس آخرون سماهم. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، وأبي حاتم، والعجلي، والحاكم. وقال الحافظ في (تقريب التهذيب): ثقة ربما وهم، من السابعة، مات سنة أربع أو خمس وستين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال في مقدمة الفتح: همام بن يحيى البصري أحد الأثبات. وقال أيضاً: تكلم في بعض حديثه من حفظه. وقال الذهبي في (الميزان): أحد علماء البصرة وثقاتها.

الرابع والخامس: ثابت البناني وأنس بن مالك رضي الله عنه: وقد تقدم التعريف بهما في إسناد الحديث السادس.

السادس: أبو بكر رضي الله عنه: وهو أبو بكر الصديق بن أبي قحافة، اسمه عبد الله واسم أبيه عثمان. قال الحافظ في (تقريب التهذيب): عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو ابن كعب بن سعد بن تيم بن مرة التيمي، أبو بكر بن أبي قحافة، الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وله ثلاث وستون سنة، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): روى مائة واثنين وأربعين حديثاً، اتفقا ـ أي البخاري ومسلم ـ على ستة، وانفرد البخاري بأحد عشر، ومسلم بحديث. وعنه ولداه عبد الرحمن وعائشة، وعمر، وعليّ وخلق. وذكر الحافظ في مقدمة الفتح أن له عند البخاري اثنين وعشرين حديثاً. وقال الحافظ في (الإصابة): ولد بعد الفيل بسنتين وستة أشهر، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وسبق إلى الإيمان به، واستمر معه طول إقامته بمكة، ورافقه في الهجرة، وفي الغار، وفي المشاهد كلها إلى أن مات، وكانت الراية معه يوم تبوك، وحج في الناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع، واستقر خليفة في الأرض بعده، ولقبه المسلمون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أسلم أبوه، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر جماعة ممن رووا عنه من الصحابة وكبار التابعين وقال: قال سعيد بن منصور: حدثني صالح بن موسى حدثنا معاوية بن إسحاق عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: ((اسم أبي بكر الذي سماه به أهله عبد الله ولكن غلب عليه اسم عتيق)). وقال الحافظ أيضاً: وقال ابن إسحاق في (السيرة الكبرى): ((كان أبو بكر رجلاً مؤلفاً لقومه محبباً سهلاً، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلمهم بما كان منها من خير وشر، وكان تاجراً ذا خلق ومعروف، وكانوا يألفونه لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به، فأسلم على يديه عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف))، وذكر شيئاً من محاسنه وبذله المال في سبيل الله وإعتاق العبيد، ثم قال: وأخرج الدار قطني في الأفراد من طريق أبي إسحاق عن أبي يحيى قال: ((لا أحصي كم سمعت عليّاً يقول على المنبر: إن الله عزوجل سمى أبا بكر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم صديقاً))، ومناقب أبي بكر رضي الله عنه كثيرة جداً، وقد أفرده جماعة بالتصنيف، وترجمته في تاريخ ابن عساكر قدر مجلدة، ومن أعظم مناقبه قوله الله تعالى: ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا )، فإن المراد بصاحبه أبو بكر بلا نزاع، وقال: وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وهما في الغار: ((ما ظنك باثنين، الله ثالثهما)). والأحاديث في كونه معه في الغار كثيرة شهيرة ولم يشركه في هذه المنقبة غيره. وقال: وقد أطنب أبو القاسم بن عساكر في ترجمة الصديق، حتى أن ترجمته في تاريخه على كبره تجيء قدر ثمن عشره وهو مجلد من ثمانين مجلداً.

وقال في (فتح الباري) في أوائل (كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) بعد أن ذكر أنه كان يسمى عتيقاً: واختلف هل هو اسم له أصلي أو قيل له ذلك لأنه ليس في نسبه ما يعاب به، أو لقدمه في الخير وسبقه إلى الإسلام، أو قيل له ذلك لحسنه أو لأن أمه كان لا يعيش لها ولد، فلما ولد استقبلت البيت وقالت: اللهم هذا عتيقك من الموت، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بأن الله أعتقه من النار، وقد ورد في هذا الأخير حديث عن عائشة عند الترمذي، وآخر عن عبد الله بن الزبير عند البزار وصححه ابن حبان وزاد فيه: وكان اسمه قبل ذلك عبد الله بن عثمان، وعثمان اسم أبي قحافة لم يختلف في ذلك كما لم يختلف في كنية الصديق، ولقب الصديق لسبقه إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل كان ابتداء تسميته بذلك صبيحة الإسراء. وروى الطبراني من حديث عليّ أنه كان يحلف بأن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق، رجاله ثقات.

وأما نسبه فهو: عبد الله بن عثمان بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب وعدد آبائهما إلى مرة سواء، وأم أبي بكر سلمى وتكنى أم الخير بنت صخر بن عامر بن عمرو المذكور، أسلمت وهاجرت، وذلك معدود من مناقبه لأنه انتظم إسلام أبويه وجميع أولاده.

وقال ابن كثير في (البداية والنهاية): وقد ذكرنا ترجمة الصديق رضي الله عنه، وسيرته، وأيامه، وما روى من الأحاديث، وما روي عنه من الأحكام في مجلد، ولله الحمد والمنة.



المبحث الثالث/ لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسناد الستة خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة ما عدا شيخ البخاري فإنه لم يرو عنه مع البخاري سوى الترمذي.

(2) الإسناد مسلسل بصيغة من صيغ الأداء وهي صيغة التحديث، وقد قال الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر): وإن اتفق الرواة في صيغ الأداء أو غيرها فهو من الحالات المسلسل.

(3) أربعة من رجال الإسناد بصريون على نسق، وهم حبان وهمام وثابت وأنس.

(4) في الإسناد صحابيان، فالحديث من رواية صحابي عن صحابي.

(5) عبد الله بن محمد شيخ البخاري وقد أكثر من الرواية عنه، وجده اليمان الجعفي البخاري، هو الذي أسلم على يديه جد الإمام البخاري المغيرة بن بردزبه ونسب إلى الجعفيين لذلك، فجد البخاري المغيرة استفاد من جد عبد الله بن محمد الدلالة على الدخول في الإسلام، والبخاري استفاد من عبد الله بن محمد شيخه معرفة الأحاديث الصحيحة المسندة إلى خير الأنام عليه الصلاة والسلام.

(6) عبد الله بن محمد شيخ البخاري يقال له: المسندي ـ بفتح النون ـ وفي أصل هذه النسبة لطيفة من اللطائف وهي: أنه كان وقت الطلب معنياً بالأحاديث المسندة دون المرسلة والمنقطعة، فقيل له المسندي لذلك.

(7) قال الحافظ ابن حجر: عبد الله بن محمد هو الجعفي، وفي شيوخه عبد الله بن محمد جماعة منهم: أبو بكر بن أبي شيبة، ولكن حيث يطلق ذلك فالمراد به الجعفي لاختصاصه به وإكثاره عنه. انتهى. وهذا النوع يسمى في علم المصطلح (المهمل)، وهذه الطريقة التي ذكرها الحافظ ـ رحمه الله ـ مما يتبين به المراد.

(8) حبان ـ بفتح الحاء ـ وهو ابن هلال، وقد نسب في الإسناد عند مسلم ولا لبس في عدم نسبته، إذ ليس في رجال البخاري حبان بفتح الحاء غيره، ولا يلتبس بحبان بكسر الحاء أيضاً، وهو ابن موسى، لأنه لم يدرك هماماً كما أشار إلى هذا الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح.

(9) همام: هو ابن يحيى، ولا لبس في عدم نسبته لأن ما في رجال البخاري ممن يسمى هماماً سواه اثنان: همام بن الحارث وهمام بن منبه وليسا في طبقته.

(10) ثابت: هو ابن أسلم البناني، وقد روى عن أنس غيره من التابعين ممن يسمى ثابتاً، إلاّ أن البناني أخص به إذ هما معاً بصريان وقد صحبه أربعين سنة كما في (تهذيب التهذيب).

(11) أنس: هو ابن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لبس في عدم نسبته لأنه ليس في رجال البخاري من الصحابة ممن يسمى أنساً سواه، وقد نسب في الإسناد عند مسلم كما تقدم في التخريج.

(12) روى البخاري هذا الحديث في التفسير نازلاً إذ بينه وبين همام واسطتان: المسندي وحبان، أما الموضعان الآخران المذكوران في التخريج فالإسناد فيهما عال، إذ ليس بينه وبين همام فيهما إلا واسطة واحدة، ولعل الغرض من ذلك الإشارة إلى تعدد الطرق إلى همام، وأمر آخر وهو أن الثلاثة الذين رووا الحديث عن همام وهم: حبان بن هلال، ومحمد بن سنان، وموسى بن إسماعيل، بصريون، وحبان أشدهم تثبتاً. قال فيه الإمام أحمد كما في (تهذيب التهذيب): إليه المنتهى في التثبت بالبصرة. انتهى. وقد روى الحديث عنه عبد الله بن محمد المسندي شيخ البخاري، وقد قال عنه الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح: وهو من نبلاء مشايخه وإن كان قد لقي من هو أعلى إسناداً منه.

(13) صحابي الحديث هو أفضل البشر بعد الأنبياء والمرسلين، وقد اشتهر بكنيته كما اشتهر أبوه بالكنية، فهو يعرف بأبي بكر بن أبي قحافة، واسمه عبد الله، واسم أبيه عثمان، وقد أسلم أبواه وأولاده رضي الله عنهم وعن سائر الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) قول أبي بكر رضي الله عنه: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار): هو غار في جبل ثور، وذلك حين هاجرا من مكة إلى المدينة، وقد نوه الله بذلك في كتابه العزيز فقال: ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا )، وقد ورد ذكر ذلك في عدة أحاديث غير هذا الحديث منها: حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري في (باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة) وفيه قالت: ((فلحق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال))، ومنها حديث أبي سعيد في قصة بعث أبي بكر إلى الحج، أخرجه ابن حبان وفيه: ((أنت أخي وصاحبي في الغار)). ومنها حديث ابن عباس في قصته مع ابن الزبير أخرجه البخاري في التفسير، وفيه قول ابن عباس يعني ابن الزبير: وأما جده فصاحب الغار، يريد أبا بكر رضي الله عنه. ومنها حديث ابن عباس أيضاً أخرجه أحمد والحاكم من طريق عمرو بن ميمون عنه قال: ((كان المشركون يرمون عليّاً وهم يظنون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو بكر فقال: يا رسول الله، فقال له عليّ: إنه انطلق نحو بئر ميمون فأدركه، قال: فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار))، وروى عبد الله بن أحمد في زيادات المسند عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار)) الحديث، ورجاله ثقات كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري. وقد ذكر جميع هذه الأحاديث فيه. وقال في ترجمته في (الإصابة): والأحاديث في كونه كان معه في الغار كثيرة شهيرة، ولم يشركه في هذه المنقبة غيره.

(2) قوله (فرأيت آثار المشركين، قلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا): قال الحافظ في (الفتح): فيه مجيء (لو) الشرطية للاستقبال خلافاً للأكثر، واستدل من جوزه بمجيء الفعل المضارع بعدها كقوله: ( لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم )، وعلى هذا فيكون قاله حالة وقوفهم على الغار، وعلى القول الأكثر يكون قاله بعد مضيهم شكراً لله تعالى على صيانتهما منهم.

(3) قوله (ما ظنك باثنين، الله ثالثهما): قال الحافظ في (الفتح): ومعنى (ثالثهما) ناصرهما ومعينهما، وإلاّ فالله ثالث كل اثنين بعلمه. وقال النووي في شرح صحيح مسلم: معناه: ثالثهما بالنصر، والمعونة، والحفظ، والتسديد، وهو داخل في قوله تعالى: ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ).

(4) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

1/ الحديث منقبة عظيمة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال النووي: وهي من أجل مناقبه، والفضيلة من أوجه: منها هذا اللفظ ـ يعني ما ظنك باثنين الله ثالثهما ـ، ومنها بذله نفسه ومفارقة أهله في طاعة الله تعالى ورسوله، وملازمته النبي صلى الله عليه وسلم ومعاداة الناس فيه، ومنها جعله نفسه وقاية عنه، وغير ذلك.

2/ بيان عظيم توكل النبي صلى الله عليه وسلم على ربه تعالى.

3/ بيان مدى شدة عداوة المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذائهم له وحرصهم على قتله.

4/ الأخذ بأسباب السلامة والاحتياط في ذلك، حيث كمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار.

5/ اتخاذ الرفيق في السفر واختياره من ذوي الفضل والصلاح.

6/ عناية الصاحب بصاحبه وطمأنته إياه، وإدخاله السرور عليه.

7/ تسلية المقتفين لآثار المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحثهم على الصبر على ما يلاقونه في سبيل نشر الدعوة تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

8/ أن الداعي إلى الحق عرضة للأذى، وأن طريق الحق ليس مفروشاً بالورد، بل الأمر كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)).

9/ أن العاقبة لمن اتقى الله، وأن الله ناصر من نصر دينه، وأن الله مع أوليائه بالنصر والتأييد.

10/ تأدب أبي بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عبر (بمع) الدالة على التبعية في قوله رضي الله عنه: ((كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار)).

11/ تحدث الإنسان عما يجري له ولأصحابه في السفر وغيره، وذلك فيما إذا لم يكن هناك ما يستدعي الكتمان.

12/ في الحديث إثبات المعية لله تعالى، وهي على نوعين: معية عامة شاملة لجميع المخلوقات وهي المعية بالعلم، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة منها:

قوله تعالى: ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم ).

النوع الثاني: معية خاصة وهي معية الله لرسله وأوليائه بالنصر والتأييد، وأدلة هذا النوع كثيرة منها قوله تعالى فيما حكاه عن نبيه صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار: ( لا تحزن إن الله معنا )، وقوله تعالى: ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )، وقوله: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)).

وهذه النصوص لا تنافي النصوص الكثيرة الدالة على علوه وفوقيته، فهو مع المخلوقات بعلمه، ومع أوليائه بنصره وتأييده، وهو مستو على عرشه استواء يليق به، وقد جمع الله بين الاستواء على العرش ومعيته بعلمه لخلقه في قوله: ( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ).

ابو وليد البحيرى
2018-11-01, 01:50 AM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (8)


( إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع )


قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب الحج) من صحيحه:

حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: ((إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)).
المبحث الأول: التخريج:
هذا الحديث أورده البخاري في ثلاثة مواضع من (كتاب الحج) من صحيحه هذا أولها في (باب ما ذكر في الحجر الأسود)، والثاني في (باب الرمل في الحج والعمرة)، ولفظه: حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر قال أخبرني زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن: ((أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك)) فاستلمه، ثم قال: ((ما لنا وللرمل، إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله))، ثم قال: ((شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه)). والثالث في (باب تقبيل الحجر الأسود) ولفظه: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا ورقاء أخبرنا زيد بن أسلم عن أبيه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبّل الحجر وقال: ((لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّلك ما قبّلتك)).
ورواه مسلم في صحيحه من طرق فقال: وحدثني حرملة بن يحيى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس وعمرو (ح) وحدثني هارون بن سعيد الأيلي حدثني ابن وهب أخبرني عمرو عن ابن شهاب عن سالم أن أباه حدثه قال: قبَّل عمر بن الخطاب الحجر، ثم قال: ((أما والله لقد علمت أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)). زاد هارون في روايته، قال عمرو وحدثني بمثلها زيد بن أسلم عن أبيه أسلم وحدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن عمر قبّل الحجر وقال: ((إني لأقبلك، وإنّي لأعلم أنك حجر، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك)).
حدثنا خلف بن هشام والمقدمي وأبو كامل وقتيبة بن سعيد كلهم عن حماد، قال خلف: حدثنا حماد بن زيد عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت الأصلع يعني عمر بن الخطاب يقبل الحجر ويقول: ((والله إني لأقبلك، وإني أعلم أنك حجر، وأنك لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك)).
وفي رواية المقدمي وأبي كامل: رأيت الأصيلع. وحدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير جميعا عن أبي معاوية قال يحيى أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر يقبّل الحجر ويقول: ((إني لأقبلك وأعلم أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لم أقبلك))، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب جميعاً عن وكيع قال أبو بكر حدثنا وكيع عن سفيان عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة قال: رأيت عمر قبّل الحجر والتزمه وقال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيا)). وحدثنيه محمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن عن سفيان بهذا الإسناد قال: ((ولكني رأيت أبا القاسم بك حفيا))، ولم يقل: والتزمه.
ورواه أبو داود في سننه بمثل الإسناد الأول عند البخاري عن عمر: أنه جاء إلى الحجر فقبّله، فقال: ((إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك)).
وأخرجه النسائي فقال: أخبرنا محمود بن غيلان قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة: أن عمر قبَّل الحجر والتزمه وقال: ((رأيت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم بك حفياً))، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: أنبأنا عيسى بن يونس وجرير عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر جاء إلى الحجر فقال: ((إني لأعلم أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك))، ثم دنا منه فقبله. أخبرنا عمرو بن عثمان قال حدثنا الوليد بن حنظلة قال: رأيت طاووساً يمر بالركن فإن وجد عليه زحاماً مرّ ولم يزاحم، وإن رآه خالياً قبّله ثلاثاً، ثم قال: ((رأيت ابن عباس فعل مثل ذلك، وقال ابن عباس: رأيت عمر بن الخطاب فعل مثل ذلك، ثم قال: إنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك، ثم قال عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ذلك)).
ورواه الترمذي في جامعه فقال: حدثنا هناد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب يقبّل الحجر ويقول: ((إني أقبلك، وأعلم أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لم أقبلك))، قال: وفي الباب عن أبي بكر، وابن عمر. قال أبو عيسى: حديث عمر حديث حسن صحيح.
ورواه ابن ماجه في سننه فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعليّ بن محمد قالا حدثنا أبو معاوية حدثنا عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت الأصيلع عمر بن الخطاب يقبل الحجر ويقول: ((إني لأقبلك، وإني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)).
وروى مالك في (الموطأ) عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال وهو يطوف بالبيت للركن الأسود: ((إنما أنت حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك)) ثم قبّله.
وأخرج الحديث الدارمي في سننه عن مسدد وأبي عاصم بإسنادين عن ابن عمر عن عمر وعن ابن عباس رضي الله عنهم. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن ابن عباس عن عمر، وعن سويد بن غفلة عن عمر، وعن عبد الله بن سرجس عن عمر. ورواه الإمام أحمد في المسند من طرق نذكر منها طريقاً واحدة وهي قوله: حدثنا أسود بن عامر قال حدثنا زهير عن سليمان الأعمش حدثنا إبراهيم عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر نظر إلى الحجر فقال: ((أما والله لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)) ثم قبله. وقد صرّح الأعمش بالتحديث في هذه الطريق عند الإمام أحمد فانتفى احتمال تدليسه. وأخرج الحديث ابن الجارود في (المنتقى) والحميدي في مسنده.

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري محمد بن كثير: قال الحافظ في (تقريب التهذيب): محمد بن كثير العبدي، البصري، ثقة، لم يصب من ضعّفه، من كبار العاشرة، مات سنة ثلاث وعشرين ـ أي بعد المائتين ـ وله تسعون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): محمد بن كثير أبو عبد الله البصري، أخو سليمان، سمع أخاه سليمان، وشعبة، والثوري عند البخاري. روى عنه البخاري في مواضع، وروى مسلم عن عبد الله الدارمي عنه عن أخيه حديثاً في الرؤيا. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): قال ابن معين: لم يكن بثقة. وقال أحمد: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في (الثقات).
الثاني: سفيان: وهو الثوري كما قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري)، وقد قال فيه في (تقريب التهذيب): سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي، ثقة، حافظ، فقيه، عابد، إمام، حجة، من رؤوس الطبقة السابعة، وكان ربما دلس، مات سنة إحدى وستين ـ أي بعد المائة ـ وله أربع وستون، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أبيه، وأبي إسحاق الشيباني، وأبي إسحاق السبيعي، وعبد الملك بن عمير، والأعمش، وأناس آخرين سماهم. ثم قال: وروى عنه خلق لا يحصون، ذكر كثيراً منهم ومن بينهم: الأوزاعي، ومالك، ومسعر من أقرانه، وابن مهدي، وابن المبارك. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قول شعبة وابن عيينة وأبي عاصم وابن معين وغير واحد من العلماء: ((سفيان أمير المؤمنين في الحديث)). وقول ابن المبارك: ((كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان)). وقول الخطيب: ((كان إماماً من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام الدين، مجمعاً على إمامته، بحيث يستغني عن تزكيته مع الإتقان والحفظ، والمعرفة والضبط، والورع والزهد)). وقول النسائي: ((هو أجلّ من أن يقال فيه ثقة، وهو أحد الأئمة الذين أرجو أن يكون الله ممن جعله للمتقين إماماً)). وقال الذهبي في (الميزان): ((سفيان بن سعيد الحجة، الثبت، متفق عليه، مع أنه كان يدلس عن الضعفاء، ولكن له نقد وذوق ولا عبرة لقول من قال: يدلس ويكتب عن الكذابين)). انتهى. وهو أحد السفيانين فيما إذا قيل في ترجمة من فوقهما في الطبقة روى عنه السفيانان، وفي ترجمة من دونهما روى عن السفيانين، والثاني منهما سفيان بن عيينة.
الثالث: الأعمش: قال الحافظ في (التقريب): سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي، أبو محمد الكوفي الأعمش، ثقة حافظ، عارف بالقراءة، ورع لكنه يدلس، من الخامسة، مات سنة سبع وأربعين أو ثمان ـ أي بعد المائة ـ، وكان مولده أوّل إحدى وستين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في (تهذيب التهذيب): الأسدي الكاهلي مولاهم، وذكر كثيراً ممن روى عنهم من بينهم: عامر الشعبي، وإبراهيم النخعي، ومجاهد بن جبر، وكثيراً ممن رووا عنه ومنهم: شعبة، والسفيانان، وابن المبارك، وهشيم. ونقل كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن معين، والنسائي، والعجلي، وقال: ذكره ابن حبان في ثقات التابعين. وقال الذهبي في (الميزان): ((أحد الأئمة الأثبات، عداده في صغار التابعين، ما نقموا عليه إلاّ التدليس)). وقال: قلت: وهو يدلس وربما دلس عن ضعيف، ولا يدري به، فمتى قال: (حدثنا)، فلا كلام، ومتى قال: (عن) تطرق إليه احتمال التدليس إلاّ في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم، وابن أبي وائل، وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال.
الرابع: إبراهيم: وهو النخعي، كما صرّح به الحافظ في (فتح الباري)، وقال في (تهذيب التهذيب): إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود بن عمرو بن ربيعة ابن ذهل النخعي، أبو عمران الكوفي، الفقيه، روى عن خاليه الأسود وعبد الرحمن بنا يزيد، ومسروق، وعلقمة، وابن معمر، وهمام بن الحارث، وشريح القاضي، وسهم بن منجاب، وجماعة، وروى عن عائشة ولم يثبت سماعه منها. روى عنه الأعمش، ومنصور، وابن عون، وزبيد اليامي، وحماد بن أبي سليمان، ومغيرة بن مقسم الضبي، وخلق. وقال: وقال الحافظ أبو سعيد العلائي: هو مكثر من الإرسال، وجماعة من الأئمة صححوا مراسيله، وخص البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود.
وقال في (التقريب): ثقة إلاّ أنه يرسل كثيراً، وقال: مات سنة ست وتسعين وهو ابن خمسين أو نحوها، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الذهبي في (الميزان): إبراهيم بن يزيد النخعي، أحد الأعلام، يرسل عن جماعة، وقد رأى زيد بن أرقم وغيره، ولم يصح له سماع من صحابي. وقال: قلت: استقر الأمر على أن إبراهيم حجة، وأنه إذا أرسل عن ابن مسعود أو غيره فليس ذلك بحجة. انتهى.
الخامس: عابس بن ربيعة: قال في (التقريب): عابس ـ بموحدة مكسورة ثم مهملة ـ بن ربيعة النخعي، الكوفي، ثقة مخضرم، من الثانية، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن عمر، وعليّ، وحذيفة، وعائشة. وعنه أولاده عبد الرحمن وإبراهيم وأسماء، وأبو إسحاق السبيعي، وإبراهيم بن يزيد النخعي. وذكر توثيقه عن النسائي، وابن سعد. وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات)، وقال: قلت: قال أبو نعيم: في الصحابة. انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
السادس: صحابي الحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قال الحافظ في (تقريب التهذيب): عمر بن الخطاب بن نفيل ـ بنون وفاء مصغراً ـ بن عبد العزى بن رياح ـ بتحتانية ـ بن عبد الله بن قرط ـ بضم القاف ـ بن رزاح ـ براء ثم زاي خفيفة ـ بن عدي بن كعب القرشي العدوي، أمير المؤمنين، مشهور، جم المناقب، استشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وولى الخلافة عشر سنين ونصفاً، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة. وذكر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري ستين حديثاً.
وقال الخزرجي في (الخلاصة): عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي، أبو حفص المدني، أحد فقهاء الصحابة، ثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأول من سمي أمير المؤمنين، له خمسمائة وتسعة وثلاثون حديثاً، اتفقا على عشرة، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر. وعنه أبناؤه عبد الله وعاصم وعبيد الله وعلقمة بن وقاص، وغيرهم، شهد بدراً والمشاهد، وولي أمر الأمة بعد أبي بكر رضي الله عنهما، وفتح في أيامه عدة أمصار، أسلم بعد أربعين رجلاً، عن ابن عمر مرفوعاً: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه))، ولما دفن، قال ابن مسعود: ((ذهب اليوم بتسعة أعشار العلم))، استشهد في آخر سنة ثلاث وعشرين، ودفن في أول سنة أربع وعشرين وهو ابن ثلاث وستين، وصلى عليه صهيب، ودفن في الحجرة النبوية، ومناقبه جمة. انتهى.
وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وأبي بن كعب، روى عنه أولاده عبد الله وعاصم وحفصة وعثمان وعليّ، وأناس آخرون من الصحابة ومن التابعين سماهم، ثم ذكر كثيراً من مناقبه في الجاهلية والإسلام، ثم قال: ومناقبه وفضائله كثيرة جداً. وترجم له الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية)، وذكر الكثير من مناقبه، ثم قال في ختام ترجمته: ((وقد ذكر ابن جرير ترجمة طويلة لعمر بن الخطاب، وكذلك أطال ابن الجوزي في سيرته، وشيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في تاريخه، وقد جمعنا متفرقات كلام الناس في مجلد مفرد، وأفردنا لما أسنده وروي عنه من الأحكام مجلداً آخر كبيراً مرتباً على أبواب الفقه، ولله الحمد)). ثم ذكر بعض حوادث سنة ثلاث وعشرين نقلاً عن تاريخ الذهبي، ثم قال: ((ثم ذكر ـ يعني الذهبي ـ ترجمة عمر بن الخطاب، فأطال فيها وأكثر وأطنب، وأتى بمقاصد كثيرة مهمة، وفوائد جمة، وأشياء حسنة، فأثابه الله الجنة)). انتهى. وذكر ترجمته المحب الطبري في الرياض النضرة في خمسين ورقة.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الإسناد الستة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم.
(2) في الإسناد ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم: الأعمش، وإبراهيم النخعي، وعابس بن ربيعة.
(3) في الإسناد أربعة كوفيون على نسق وهم: سفيان الثوري، والأعمش، وإبراهيم النخعي، وعابس بن ربيعة.
(4) في الإسناد نخعيان وهما: إبراهيم وعابس.
(5) في الإسناد اثنان ممن وصفوا بالتدليس وهما: سفيان الثوري والأعمش، وقد صرّح الأعمش بالتحديث كما في مسند الإمام أحمد، وتقدم في التخريج، ولم أقف لسفيان على تصريح بالسماع.
(6) إبراهيم بن يزيد النخعي من أصحاب المراسيل من التابعين، كما تقدم في ترجمته، وهو من فقهاء التابعين ومن أولياته، كما جاء في (زاد المعاد) لابن القيم عند الكلام على حديث غمس الذباب في الطعام إذا وقع فيه: التعبير عن الذباب وما يشبهه بما لا نفس له سائله قال ابن القيم: ((وأوّل من حفظ عنه في الإسلام أنه تكلم بهذه اللفظة فقال: ما لا نفس له سائله، إبراهيم النخعي، وعنه تلقاه الفقهاء.
(7) في إسناد الحديث رجل من الذين وصفوا بأنهم أمراء المؤمنين في الحديث وهو: سفيان الثوري، وصفه بذلك شعبة، وابن عيينة، وأبو عاصم، وابن معين، وغير واحد من العلماء كما في (تهذيب التهذيب).
(8) في الإسناد رجل من المخضرمين وهو عابس بن ربيعة، والمخضرمون هم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام ولم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، وهم معدودون في كبار التابعين.
(9) الأعمش لقب لُقِّب به سليمان بن مهران، وقد اشتهر بلقبه كما اشتهر باسمه، ومعرفة مثل ذلك من الأمور المهمة لئلا يظن الواحد اثنين إذا ذكر في موضع بالاسم وفي آخر باللقب.
(10) أول المتن سياقه كلام عابس بن ربيعة الراوي عن عمر رضي الله عنه لا كلام عمر كما قد يتوهم من ذكر (عن عمر) والمعنى: عن عابس أن عمر جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: الخ. ولما ذكر المنذري هذا الحديث في مختصره لسنن أبي داود قال: عن عابس بن ربيعة عن عمر أنه جاء إلى الحجر الخ.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) هذا الحديث أورده البخاري في (باب ما ذكر في الحجر الأسود)، ولم يذكر غيره من الأحاديث في هذا الباب. قال الحافظ ابن حجر في شرحه: وكأنه لم يثبت عنده فيه على شرطه شيء غير ذلك، وقد وردت فيه أحاديث فذكر بعضها ومنها: حديث ابن عباس مرفوعاً: ((نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بني آدم))، أخرجه الترمذي وصححه، وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق لكنه اختلط، وجرير ممن سمع منه بعد اختلاطه، لكن له طريق أخرى في (صحيح ابن خزيمة) فيقوى بها، وقد رواه النسائي من طريق حماد بن سلمة عن عطاء مختصراً ولفظه: ((الحجر الأسود من الجنة))، وحماد ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط، وفي (صحيح ابن خزيمة) أيضاً عن ابن عباس مرفوعاً: ((إن لهذا الحجر لساناً وشفتين يشهدان لمن استلمه يوم القيامة بحق))، وصححه أيضاً ابن حبان والحاكم، وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم أيضاً. انتهى.
(2) قوله (لا تضر ولا تنفع): قال الحافظ ابن حجر: أي إلاّ بإذن الله، وقد روى الحاكم من حديث أبي سعيد أن عمر لما قال هذا، قال له عليّ بن أبي طالب: إنه يضر وينفع. وذكر أن الله لما أخذ المواثيق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر، قال: وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق، يشهد لمن استلمه بالتوحيد)). وفي إسناده أبو هارون العبدي وهو ضعيف جداً. انتهى. وقد أشار إلى حديث أبي سعيد هذا الشوكاني في (نيل الأوطار) وقال: ولكنه يشد عضده حديث ابن عباس، يعني الحديث الذي تقدم في حكاية كلام الحافظ ابن حجر.
(3) قوله (إني أعلم أنك حجر...) الخ: خاطب عمر رضي الله عنه الحجر ليسمع الحاضرين، فهو من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة. قال الطبري: إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار، كما كانت العرب تفعل بالجاهلية، فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته، كما كانت الجاهلية تعتقده بالأوثان. انتهى.
(4) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
(1) مشروعية تقبيل الحجر الأسود.
(2) المنع من تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله.
(3) بيان السنن بالقول والفعل.
(4) أن الأصل في أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم التشريع للأمة ما لم يدل دليل على التخصيص به.
(5) وجوب التسليم للشارع في أمور الدين، والتعويل على ما يثبت عنه في ذلك.
(6) أن التسليم للشارع لا يتوقف على معرفة حكمة الأمر أو النهي.
(7) بيان أن الحجر الأسود ليس مصدراً للنفع أو الضر لذاته.
(8) أن على الإمام أو العالم إذا خشي أن يفهم من فعل الشيء المشروع فهماً خاطئاً أن يبادر إلى بيان الحق وإزالة اللبس.
(9) كمال نصح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه للأمة وشفقته على المسلمين.
(10) تأكيد الكلام إذا اقتضى حال المبين لهم ذلك، فإن عمر رضي الله عنه صدّر كلامه بإن المؤكدة في هذا الحديث، وفي بعض روايات الحديث زيادة التأكيد بالقسم واللام.
(11) العناية في بيان الحق وخاصة ما يتعلق بأمر العقيدة.
(12) مدى حكمة الفاروق رضي الله عنه في بيانه لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتوفيق الله له وتسديده، وهذا مصداق قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: ((لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر)).

ابو وليد البحيرى
2018-11-09, 03:19 AM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (9)


( بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم )

قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في أواخر (كتاب الإيمان) من صحيحه:
حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن إسماعيل قال حدثني قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
المبحث الأول/ التخريج:
هذا الحديث أخرجه البخاري في سبعة مواضع من صحيحه هذا أحدها في (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة، لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)))، و(الثاني) في (كتاب مواقيت الصلاة، باب البيعة على إقام الصلاة)، قال فيه: حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا يحيى قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا قيس عن جرير بن عبد الله قال: فذكره، و(الثالث) في (كتاب الزكاة، باب البيعة على إيتاء الزكاة)، قال: حدثنا ابن نمير قال حدثني أبي حدثنا إسماعيل عن قيس قال: قال جرير بن عبد الله: فذكره، و(الرابع) في (كتاب البيوع، باب هل يبيع حاضر لباد بغير أجر، وهل يعينه أو ينصحه؟)، قال: حدثنا عليّ بن عبد الله حدثنا سفيان عن إسماعيل عن قيس سمعت جريراً رضي الله عنه يقول: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والسمع والطاعة، والنصح لكل مسلم))، و(الخامس) في (كتاب الشروط، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة)، قال: حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة قال سمعت جريراً رضي الله عنه يقول: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترط عليَّ: والنصح لكل مسلم))، و(السادس) يلي هذا الحديث عن مسدد بمثل سنده ومتنه سواء بسواء، و(السابع) في (كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس؟)، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم أخبرنا سيار عن الشعبي عن جرير بن عبد الله قال: ((بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني: فيما استطعت والنصح لكل مسلم)).
وأخرج الحديث مسلم في (كتاب الإيمان) من صحيحه فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير وأبو أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن جرير قال: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم))، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير قالوا: حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة سمع جرير بن عبد الله يقول: ((بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم))، حدثنا سريج بن يونس ويعقوب الدورقي قالا: حدثنا هشيم عن سيار عن الشعبي عن جرير قال: ((بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني: ((فيما استطعت، والنصح لكل مسلم))، قال يعقوب في روايته قال حدثنا سيار، وأخرجه أبو داود في سننه في (كتاب الأدب، باب في النصيحة)، قال: حدثنا عون بن عمرو حدثنا خالد عن يونس عن عمرو بن سعيد عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن جرير قال: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وأن أنصح لكل مسلم))، قال: وكان إذا باع الشيء أو اشتراه، قال: أما إن الذي أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناك فاختر. وأخرجه النسائي في سننه في (كتاب البيعة، باب البيعة على النصح لكل مسلم)، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد قال حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة عن جرير قال: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم))، أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية عن يونس عن عمرو بن سعيد عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال جرير: ((بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وأن أنصح لكل مسلم))، وفي (باب البيعة فيما يستطيع الإنسان)، قال: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا هشيم قال حدثنا سيار عن الشعبي عن جرير بن عبد الله قال: ((بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني: فيما استطعت، والنصح لكل مسلم)).
المبحث الثاني/ التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري مسدد: قال الحافظ في (التقريب): مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مستورد الأسدي البصري، أبو الحسن، ثقة حافظ، يقال: إنه أوّل من صنّف المسند بالبصرة، من العاشرة، مات سنة ثمان وعشرين ـ أي بعد المائتين ـ، ويقال: اسمه عبد الملك بن عبد العزيز، ومسدد لقبه، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى مسلم وابن ماجه.
وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، وهشيم، ووكيع، والقطان، وابن علية، وأناس آخرين سماهم. وروى عنه البخاري، وأبو داود، وغيرهم. ثم ذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك: قول جعفر بن أبي عثمان: قلت لابن معين عمن أكتب بالبصرة؟ قال: ((اكتب عن مسدد فإنه ثقة ثقة))، وقال محمد بن هارون الفلاس عن ابن معين: صدوق. وقال النسائي: ثقة. وقال العجلي: مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مستورد، الأسدي البصري، ثقة، كان يملي عليَّ حتى أضجر ،قال: أبا الحسن اكتب، فيملي عليَّ بعد ضجري خمسين حديثاً. قال: فأتيت في الرحلة الثانية فأصبت عليه زحاماً، فقلت: قد أخذت بحظي منك، قال: وكان أبو نعيم يسألني عن نسبه فأخبره فيقول: يا أحمد هذه رقية العقرب. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ثقة. وقال ابن قانع: كان ثقة. وذكره ابن حبان في (الثقات).
الثاني: يحيى: وهو القطان. قال الخزرجي في (الخلاصة): يحيى بن سعيد بن فروخ التميمي، أبو سعيد الأحول القطان، البصري، الحافظ الحجة، أحد أئمة الجرح والتعديل. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): مولى بني تميم. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): روى عن سليمان التيمي، وحميد الطويل، وإسماعيل بن أبي خالد، وغيرهم سماهم. ثم قال: وعنه ابنه محمد بن يحيى بن سعيد، وحفيده أحمد بن محمد، وأحمد، وإسحاق، وعليّ بن المديني، ويحيى بن معين، وعمرو بن عليّ الفلاس، ومسدد، وغيرهم. ثم ذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه في ورقتين ومن ذلك: قال عليّ بن المديني: ((ما رأيت أثبت من يحيى القطان)). وقال إبراهيم بن محمد التيمي: ((ما رأيت أعلم بالرجال من يحيى القطان)). وقال عبد الله بن أحمد: ((سمعت أبي يقول: حدثني يحيى القطان، وما رأت عيناي مثله)). وقال أحمد: ((كان إليه المنتهى في التثبت بالبصرة)). وقال ابن خزيمة عن بندار: ((حدثنا يحيى بن سعيد إمام أهل زمانه)). وقال ابن سعد: ((كان ثقة مأموناً رفيعاً حجةً)). وقال العجلي: ((بصري ثقة في الحديث، كان لا يحدث إلاّ عن ثقة)). وقال أبو زرعة: ((كان من الثقات الحفاظ)). وقال أبو حاتم: ((حجة حافظ)). وقال النسائي: ((ثقة ثبت مرضي، وكان الثوري يتعجب من حفظه، واحتج به الأئمة كلهم وقالوا: من تركه يحيى تركناه)). وقال الحافظ في (التقريب): ثقة، متقن، حافظ، إمام، قدوة، من كبار التاسعة، مات سنة ثمان وتسعين ـ أي بعد المائة ـ وله ثمان وسبعون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
الثالث: إسماعيل: وهو ابن أبي خالد: قال الحافظ في (تقريب التهذيب): إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي مولاهم، البصري، ثقة، ثبت، من الرابعة، مات سنة ست وأربعين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي البجلي مولاهم، الكوفي، واسم أبي خالد سعد، ويقال: هرمز، ويقال: كثير، يكنى أبا عبد الله. وذكر في (تهذيب التهذيب) أنه روى عن جماعة من الصحابة ومن التابعين سماهم، وقال: روى عن قيس بن أبي حازم وأكثر عنه، ثم قال: وعنه شعبة، والسفيانان، وزائدة، وابن المبارك، وهشيم، ويحيى القطان، ويزيد بن هارون، وعبيد الله بن موسى وهو آخر ثقة حدث عنه، ويحيى بن هاشم السمسار أحد المتروكين وهو آخر من حدث عنه مطلقاً. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قال ابن المبارك عن الثوري: ((حفاظ الناس ثلاثة: إسماعيل، وعبد الملك بن أبي سليمان، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهو ـ يعني إسماعيل ـ أعلم الناس بالشعبي، وأثبتهم فيه. ونقل توثيقه عن ابن مهدي، وابن معين، والنسائي، والعجلي، ويعقوب بن أبي شيبة، وأبي حاتم، ويعقوب بن سليمان.
الرابع: قيس بن أبي حازم: قال الحافظ في (التقريب): قيس بن أبي حازم البجلي، أبو عبد الله الكوفي، ثقة، من الثانية مخضرم، ويقال له رؤية، وهو الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة، مات بعد التسعين أو قبلها، وقد جاوز المائة وتغير، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في (تهذيب التهذيب): قيس بن أبي حازم، واسمه حصين بن عوف، ويقال: عوف بن عبد الحارث، ويقال: عبد عوف بن الحارث بن عوف البجلي الأحمسي، أبو عبد الله الكوفي، أدرك الجاهلية، ورحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه فقُبض وهو في الطريق، وأبوه له صحبة، ويقال: إن لقيس رؤية ولم يثبت، ثم ذكر جماعة كثيرين من الصحابة روى عنهم، ثم ذكر جماعة رووا عنه ومنهم: إسماعيل بن أبي خالد، ونقل توثيقه عن جماعة، وقال: قال ابن خراش: كوفي جليل وليس في التابعين أحد روى عن العشرة إلاّ قيس بن أبي حازم. وقال الذهبي في (الميزان): ثقة، حجة، كاد أن يكون صحابياً، وثقه ابن معين والناس، وقال: أجمعوا على الاحتجاج به، ومن تكلم فيه آذى نفسه.
الخامس: صحابي الحديث: جرير بن عبد الله رضي الله عنه: قال الحافظ في (تقريب التهذيب): جرير بن عبد الله بن جابر البجلي صحابي مشهور، مات سنة إحدى وخمسين، وقيل بعدها، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة. وذكر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري عشرة أحاديث.
وقال الخزرجي في (الخلاصة): له مائة حديث، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بستة، وقال: ويلقب بيوسف هذه الأمة أي لجماله. وقال في (تهذيب التهذيب): جرير بن عبد الله بن جابر، وهو السليل بن مالك بن نضر بن ثعلبة بن جشم بن عوف البجلي، القسري، أبو عمرو، وقيل: أبو عبد الله اليماني، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، ومعاوية. وعنه أولاده المنذر وعبيد الله وأيوب وإبراهيم، وابن ابنه أبو زرعة بن عمرو، وأنس، وأبو وائل، وزيد بن وهب، وزياد بن علاقة، والشعبي، وقيس بن أبي حازم، وغيرهم سماهم. وقال: قال عبد الملك بن عمر: ((رأيت جرير بن عبد الله وكأن وجهه شقة قمر)). وقال عمر بن الخطاب: ((يرحمك الله نعم السيد كنت في الجاهلية، ونعم السيد أنت في الإسلام)). وقال في (الإصابة): ((وكان جرير جميلاً)). قال عمر: ((هو يوسف هذه الأمة، وقدمه عمر في حروب العراق على جميع بجيلة، وكان لهم أثر عظيم في فتح القادسية، ثم سكن جرير الكوفة، وأرسله عليٌّ رسولاً إلى معاوية، ثم اعتزل الفريقين وسكن فرقيسيا حتى مات سنة إحدى وقيل أربع وخمسين، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى ذي الخلصة فهدمها)).
المبحث الثالث/ لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الإسناد الخمسة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلا شيخ البخاري مسدداً فلم يرو له مسلم ولا ابن ماجه وروى له الباقون.
(2) شيخ البخاري مسدد وشيخ شيخه يحيى بن سعيد القطان بصريان.
(3) ثلاثة من رجال الإسناد وهم: جرير وقيس وإسماعيل اتفقوا في أربعة أشياء: (1) كلهم بجليون.(2) ثلاثتهم كوفيون.(3) كل منهم يكنى أبا عبد الله.(4) خرج أصحاب الكتب الستة حديثهم.
(4) إسماعيل بن أبي خالد روى عنه الحكم بن عتيبة ويحيى بن هاشم وبين وفاتيهما نحو من مائة وعشر سنوات، قاله الخطيب، كما نقله الحافظ في (تهذيب التهذيب) وهذا النوع يسمى في علم المصطلح (السابق واللاحق) وتقدم نظيره في لطائف إسناد الحديث الثالث.
(5) قيس بن أبي حازم من المخضرمين وهو التابعي الوحيد الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة المبشرين بالجنة كما في (التقريب) وغيره.
(6) صحابي الحديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال فيه الحافظ في (الإصابة): وكان جرير جميلاً، قال عمر: هو يوسف هذه الأمة.
(7) شيخ البخاري هو مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مستورد بن مرعبل، وقد قال أبو نعيم لما ذكر له نسبه هذا: ((هذه رقية العقرب)) كما في (تهذيب التهذيب) و(الجمع بين رجال الصحيحين).
(8) قال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح نقلاً عن ابن طاهر المقدسي: وقلما يورد ـ يعني البخاري ـ حديثاً واحداً في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد، وقال في شرح حديث كفران العشير في (كتاب الإيمان) من صحيح البخاري: فلا يوجد في كتابه حديث على صورة واحدة في موضعين فصاعداً إلاّ نادراً. انتهى.
وهذا الحديث من ذلك النادر، فإنه أورده سنداً ومتناً في موضعين: أحدهما في أواخر (كتاب الإيمان)، والثاني في (كتاب الشروط، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة).
المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) قوله (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم): قال الحافظ في (الفتح): والمراد بالبيعة: البيعة على الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أوّل ما يشترط بعد التوحيد إقامة الصلاة لأنها رأس العبادات البدنية، ثم أداء الزكاة لأنها رأس العبادات المالية، ثم يعلم كل قوم ما حاجتهم إليه أمس، فبايع جريراً على النصيحة، لأنه كان سيد قومه، فأرشده إلى تعليمهم بأمره بالنصيحة لهم، وبايع وفد عبد القيس على أداء الخمس، لكونهم كانوا أهل محاربة مع من يليهم من كفار مضر.
(2) قوله (والنصح لكل مسلم): قال الحافظ في (الفتح): قال المازري: النصيحة مشتقة من نصحت العسل إذا صفيته، يقال نصح الشيء إذا خلص، ونصح له القول إذا أخلصه له، أو مشتقة من النصح، وهي الخياطة بالمنصحة وهي الإبرة، والمعنى: أنه يلم شعث أخيه بالنصح كما تلم المنصحة، ومنه التوبة النصوح، كأن الذنب يمزق الدين والتوبة تخيطه.
(3) قوله (والنصح لكل مسلم): قال الحافظ في (الفتح): التقييد بالمسلم للأغلب وإلاّ فالنصح للكافر معتبر، بأن يدعى إلى الإسلام ويشار عليه بالصواب إذا استشار.
(4) قوله (والنصح لكل مسلم): في هذه الجملة التعميم في النصح وفي المنصوح له، فيشمل كل ما يفيد المنصوح له ويعود عليه بالنفع الدنيوي والأخروي، وأما المنصوح له فتحته صنفان: (الأول) ولاة أمور المسلمين منهم، و(الثاني) عامة المسلمين، فالنصح لولاة أمور المسلمين يكون بالسمع والطاعة لهم بالمعروف، وإعانتهم على الخير، وتحذيرهم من الشر، والدعاء لهم بالتوفيق والتسديد، وأن يجعلهم الله هداة مهتدين، وأن يعز بهم الإسلام، ويقمع بهم المبطلين، والنصح لعامة المسلمين يكون بإرشادهم إلى الخير، وتحذيرهم من الشر، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها.
(5) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
(1) مبايعة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام.
(2) بيان أهمية الصلاة والزكاة وعظم شأنهما في الإسلام.
(3) قرنه صلى الله عليه وسلم بين الصلاة والزكاة في الحديث كما قُرن بينهما في الكتاب العزيز.
(4) تقديم الصلاة على الزكاة وأنها أعظم أركان الإسلام بعد التوحيد.
(5) بيان عظم شأن النصح للمسلمين واهتمام الشارع به.
(6) بذل المسلم النصيحة وتعميمها.

ابو وليد البحيرى
2018-11-13, 01:13 AM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (10)



حديث ( على كل مسلم صدقة )



قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب الأدب) من صحيحه:


حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " على كل مسلم صدقة ". قالوا: فإن لم يجد قال: " فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق "، قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل؟ قال: " فيعين ذا الحاجة الملهوف "، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: " فليأمر بالخير أو قال بالمعروف "، قال: فإن لم يفعل؟ قال: " فليمسك عن الشر فإنه له صدقة ".

المبحث الأول/ التخريج:


أورد البخاري هذا الحديث في موضعين من صحيحه هذا أحدهما في (باب: كل معروف صدقة)، والثاني في (كتاب الزكاة، باب على كل مسلم صدقة فمن لم يجد فليعمل بالمعروف)، ولفظه: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة حدثنا سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((على كل مسلم صدقة، قالوا: يا نبي الله فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة)).

وأخرجه مسلم في (كتاب الزكاة) من صحيحه فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن شعبة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((على كل مسلم صدقة، قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق، قال: قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قال: قيل له: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير، قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال يمسك عن الشر فإنها له صدقة)). وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة بهذا الإسناد.

ورواه النسائي في (كتاب الزكاة، باب صدقة العبد)، فقال: أخبرني محمد بن عبد الأعلى قال حدثنا خالد قال حدثنا شعبة قال أخبرني ابن أبي بردة قال سمعت أبي يحدث عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((على كل مسلم صدقة، قيل: أرأيت إن لم يجدها؟ قال: يعتمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قيل: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قيل: فإن لم يفعل؟ قال: يأمر بالخير، قيل: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر فإنها صدقة)).

وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة وفيه: ((على كل مسلم صدقة في كل يوم))، وفيه قال: ((يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر))، أي بزيادة (في كل يوم)، (وينهى عن المنكر) على ما في الصحيحين. وأخرج الحديث الإمام أحمد في (المسند) عن شعبة بطريقين إليه. وأخرجه البخاري في (الأدب المفرد).

المبحث الثاني/ التعريف برجال الإسناد:


الأول: شيخ البخاري آدم: وهو ابن أبي إياس، واسمه عبد الرحمن العسقلاني، أصله خراساني، يكنى أبا الحسن، نشأ ببغداد، ثقة، عابد، من التاسعة، مات سنة إحدى وعشرين ومائتين، ذكر ذلك في (تقريب التهذيب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى مسلم وابن ماجه.


وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): إن أباه اسمه عبد الرحمن بن محمد بن الحسن مولى تيم أو تميم، أصله من خراسان، سكن عسقلان، سمع شعبة، وابن أبي ذئب، والليث، وشيبان بن عبد الرحمن، وإسرائيل بن يونس، وحفص بن ميسرة. روى عنه البخاري في غير موضع.

وقال في (تهذيب التهذيب): نشأ ببغداد، وارتحل في الحديث فاستوطن عسقلان إلى أن مات، وقال: قال أبو داود: ثقة. وقال أحمد: كان مكيناً عند شعبة. وقال أحمد: كان من الستة أو السبعة الذين يضبطون الحديث عند شعبة. وقال ابن معين: ثقة ربما حدث عن قوم ضعفاء. وقال أبو حاتم: ثقة مأمون، متعبد من خيار عباد الله. وقال ابن سعد: سمع من شعبة سماعاً كثيراً. وقال العجلي: ثقة. وذكره ابن حبان في (الثقات).

الثاني: شعبة: قال في (تهذيب التهذيب): شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي، الأزدي مولاهم، أبو بسطام الواسطي ثم البصري، ثم ذكر جماعة روى عنهم سرد أسماءهم في خمس صفحات تقريباً، وذكر جماعة رووا عنه، ثم ذكر ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قول الإمام أحمد: ((كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن ـ يعني في الرجال ـ وبصره بالحديث وتثبته وتنقيته للرجال)). وقال ابن مهدي: كان الثوري يقول: ((شعبة أمير المؤمنين في الحديث)). وقال وكيع: ((إني لأرجو أن يرفع الله لشعبة في الجنة درجات لذبِّه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)). وقال ابن سعد: ((كان ثقة مأموناً، ثبتاً، حجة، صاحب حديث)). وقال صالح جزرة: ((أول من تكلم في الرجال شعبة ثم تبعه القطان ثم أحمد ويحيى)). وقال أبو بكر بن منجويه: ((وكان من سادات أهل زمانه حفظاً، واتقاناً، وورعًا، وفضلاً، وهو أوّل من فتش بالعراق عن أمر المحدثين، وجانب الضعفاء والمتروكين، وصار علَما يُقتدى به، وتبعه عليه بعده أهل العراق)). وقال الحاكم: ((شعبة إمام الأئمة في معرفة الحديث بالبصرة، رأى أنس بن مالك وعمرو بن سلمة الصحابيين، وسمع من أربعمائة من التابعين)). وقال في (تقريب التهذيب): ثقة، حافظ، متقن، وقال: وكان عابداً، من السابعة، مات سنة ستين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.


وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): كان مولده سنة ثلاث وثمانين، مات سنة ستين ومائة في أولها، وله يوم مات سبع وسبعون سنة، قال عليّ بن المديني: كان أكبر من سفيان الثوري بعشر سنين رحمهم الله.

الثالث: سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري: قال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع أباه عندهما ـ أي في الصحيحين ـ وأنس بن مالك عند مسلم، روى عنه شعبة عندهما، وأبو إسحاق الشيباني عند البخاري، وعمرو بن دينار، وزيد بن أبي أنيسة، وزكريا بن أبي زائدة، ومجمع بن يحيى، وقتادة عند مسلم. وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن ابن معين، والعجلي، وأبي حاتم، والنسائي، وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات)، وقال: قال ابن أبي حاتم في (المراسيل): لم يسمع ابن أبي بردة من ابن عمر شيئاً، إنما يروي عن أبيه عنه، وروايته عن جده منقطعة لم يسمع منه شيئاً.


وقال في (تقريب التهذيب): سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري الكوفي، ثقة، ثبت، وروايته عن ابن عمر مرسلة، من الخامسة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): وقال الصريفيني: مات سنة 168، كذا بخط مغلطاي ولعله وثلاثين بدل وستين. انتهى.

الرابع والخامس: أبو بردة وأبو موسى الأشعري: وقد سبق التعريف بهما في رجال إسناد الحديث الخامس.


المبحث الثالث/ لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسناد الخمسة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلاّ شيخ البخاري آدم بن أبي إياس فلم يرو له مسلم ولا ابن ماجه وروى له الباقون.

(2) ثلاثة من رجاله كوفيون وهم: أبو موسى رضي الله عنه وابنه وحفيده.

(3) روى الحديث سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده، قال الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر: ((وجمع الحافظ صلاح الدين العلائي من المتأخرين مجلداً كبيراً في معرفة من روى عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: وقد لخصت كتابه المذكور وزدت عليه تراجم كثيرة جداً، وأكثر ما وقع فيه ما تسلسلت فيه الرواية عن الآباء بأربعة عشر أباً)). انتهى.

(4) آدم هو ابن أبي إياس، ولم ينسبه البخاري لانتفاء اللبس إذ ليس في شيوخه من يسمى آدم سواه، بل ليس في رجال صحيحه غيره إلاّ رجلاً واحداً وهو آدم بن عليّ العجلي، وهو من التابعين، وقد روى له هو والنسائي، وقد انفرد البخاري عن مسلم بالرواية لهذين، كما انفرد مسلم عن البخاري بالرواية لآدم بن سليمان القرشي الكوفي، ولم يرو له إلا حديثاً واحداً في (كتاب الإيمان) من صحيحه في الآيتين من آخر سورة البقرة، فليس في صحيح مسلم من يسمى آدم سواه، ولم يرد ذكره إلاّ في موضع واحد من صحيحه، وقد روى له الترمذي والنسائي.

وهؤلاء الثلاثة هم جملة من يسمى آدم في رجال الكتب الستة.

(5) شعبة هو ابن الحجاج، ولا لبس في عدم نسبته لأنه ليس في رجال البخاري من يسمى شعبة غيره.

(6) في الإسناد رجل وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث وهو شعبة بن الحجاج، وصفه بذلك سفيان الثوري كما في (تهذيب التهذيب).

المبحث الرابع/ شرح الحديث:

(1) قوله (على كل مسلم صدقة): ورد في مسند الطيالسي تقييد ذلك في كل يوم كما تقدم في التخريج، وهذه الصدقة قال الحافظ في (الفتح): على سبيل الاستحباب المتأكد أو على ما هو أعم من ذلك، والعبارة صالحة للإيجاب والاستحباب كقوله صلى الله عليه وسلم: ((على المسلم ست خصال))، فذكر منها ما هو مستحب اتفاقاً. انتهى.

(2) قوله (قالوا فإن لم يجد): أي ما يتصدق به، قال الحافظ: كأنهم فهموا من لفظ الصدقة العطية، فسألوا عمن ليس عنده شيء، فبين لهم أن المراد بالصدقة: ما هو أعم من ذلك، ولو بإغاثة الملهوف والأمر بالمعروف.

(3) قوله (فيعين ذا الحاجة الملهوف): أي المستغيث سواء كان عاجزاً أو مظلوماً، فيعينه بالفعل أو بالقول أو بهما معاً.

(4) قوله (فليأمر بالخير ـ أو قال ـ بالمعروف): أي وينهى عن المنكر، لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر متلازمان، وقد جاء الجمع بينهما في رواية أبي داود الطيالسي في مسنده كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في التخريج.

(5) قوله (فليمسك عن الشر فإنه له صدقة): المراد بالشر: ما منعه الشرع والضمير في (فإنه) يعود إلى الإمساك، وفي الرواية الأخرى (فإنها له صدقة) بالضمير المؤنث باعتبار الخصلة من الخير التي هي الإمساك، والضمير في له يعود إلى المسلم الممسك عن الشر.

(6) قوله (فليمسك عن الشر فإنه له صدقة): قال الزين بن المنير كما في (الفتح): إنما يحصل ذلك للممسك عن الشر إذا نوى بالإمساك القربة بخلاف محض الترك، والإمساك أعم من أن يكون عن غيره، فكأنه تصدق عليه بالسلامة منه، فإن كان شره لا يتعدى نفسه فقد تصدق على نفسه بأن منعها من الإثم. انتهى.

(7) وقال الزين بن المنير كما في (الفتح) أيضاً: وليس ما تضمنه الخبر من قوله: (فإن لم يجد) ترتيباً، وإنما هو للإيضاح لما يفعله من عجز عن خصلة من الخصال المذكورة، فإنه يمكنه خصلة أخرى، فمن أمكنه أن يعمل بيده فيتصدق، وأن يغيث الملهوف، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويمسك عن الشر فليفعل الجميع.

(8) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:

(1) الحث على الصدقة.

(2) أن الصدقة كما تطلق على إنفاق المال تطلق على جميع أفعال الخير.

(3) التنبيه على العمل والتكسب للاستفادة والإفادة.

(4) الحث على فعل الخير مهما أمكن.

(5) أن من قصد فعل خصلة من خصال الخير فتعسر عليه ذلك فلينتقل إلى فعل غيرها.

(6) أن أعمال الخير تنـزل منزلة الصدقات في الأجر ولاسيما في حق من لا يقدر عليها.

(7) أن الصدقة في حق القادر عليها أفضل من الأعمال القاصرة.

(8) في الحديث تسلية للعاجز عن فعل المندوبات إذا كان عجزه عن ذلك عن غير اختيار.

(9) أن الأحكام تجري على الغالب، لأن في المسلمين من أخذ الصدقة المأمور بصرفها وقد قال: ((على كل مسلم صدقة)).

(10) مراجعة العالم في تفسير المجمل وتخصيص العام.

(11) فضل التكسب وعمل الإنسان بيده لما فيه من الإغناء عن ذل السؤال، وإفادة الغير.

(12) تقديم النفس والبدء بالأهم فالمهم لقوله: ((فينفع نفسه ويتصدق)).

(13) أن كل شيء يفعله المرء أو يقوله من الخير يكتب له صدقة.

(14) أن الصدقة بمعناها العام لا تختص بأهل اليسار، بل كل واحد قادر على أن يفعلها في أكثر الأحوال بغير مشقة.

(15) أن خصال الخير تتفاضل وبعضها أولى من بعض.

(16) الحث على إعانة المحتاج ولاسيما الملهوف.

(17) الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(18) أن الترك عمل وكسب للعبد يثاب عليه إذا كان من أجل الله.

(19) أن الإحسان إلى الغير والشفقة على الخلق متأكد، وهو إما بمال حاصل أو ممكن التحصيل، أو بغير مال وذلك إما فعل وهو الإعانة، أو قول وهو الأمر بالمعروف، أو ترك وهو الإمساك عن الشر مع قصد القربة.

(20) حرص الصحابة رضوان الله عليهم على معرفة الحق وتبين درجات الخير.

(21) أن إمساك المسلم عن الشر صدقة منه على نفسه أو على غيره مع نفسه.

(22) أنه لا أقل من الإمساك عن الشر إن لم يحصل من المسلم فعل الخير مع ذلك.

ابو وليد البحيرى
2018-11-19, 12:04 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (11)



حديث ( أي الإسلام خير )


قال البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب الإيمان) من صحيحه:
حدثنا عمرو بن خالد قال حدثنا الليث عن يزيد عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ((أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)).
المبحث الأول/ التخريج:
أورد البخاري هذا الحديث في ثلاثة مواضع من صحيحه هذا أولها في (باب إطعام الطعام من الإسلام)، والثاني في (كتاب الإيمان) أيضاً في (باب إفشاء السلام من الإسلام) ولفظه: حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مثله، والثالث في (كتاب الاستئذان، باب السلام للمعرفة وغير المعرفة) ولفظه: حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث قال حدثني يزيد عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو: ((أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت وعلى ومن لم تعرف)).
ورواه مسلم في صحيحه فقال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث (ح) وحدثنا محمد بن رمح بن المهاجر أخبرنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو مثله. ورواه أبو داود في (كتاب الأدب) من سننه عن قتيبة بن سعيد عن الليث بمثل إسناده ومتنه. وأخرجه النسائي في (كتاب الإيمان) من سننه بمثل سنده ومتنه عند أبي داود.
ورواه ابن ماجه في (كتاب الأطعمة، باب إطعام الطعام) فقال: حدثنا محمد بن رمح أنبأنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو: ((أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)).
ورواه الإمام أحمد في (المسند) فقال: حدثنا حجاج وأبو النضر قالا: حدثنا ليث حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو: ((أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، أي الأعمال خير؟ قال: أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)).
والحديث رواه البخاري في (الأدب المفرد، باب التسليم بالمعرفة وغيرها) عن شيخه قتيبة بن سعيد بمثل إسناده ومتنه في الصحيح، وفي (باب من كره تسليم الخاصة) عن عبد الله بن صالح عن الليث بمثل إسناده ومتنه. ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن أبي بكر بن خلاد عن الحارث بن أبي أسامة عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث بمثل إسناده ومتنه. وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة حامد بن سعدان بإسناده إليه عن ابن رمح وابن زغبة عن الليث بمثل سنده ومتنه.

المبحث الثاني/ التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري عمرو بن خالد: قال الحافظ في (التقريب): عمرو بن خالد بن فروخ بن سعيد التميمي، ويقال: الخزاعي، أبو الحسن الحراني، نزيل مصر، ثقة، من العاشرة، مات سنة تسع وعشرين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال البخاري وابن ماجه.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع الليث بن سعد وزهير بن معاوية روى عنه البخاري في مواضع، وقال: مات بمصر سنة تسع وعشرين ومائتين. وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن العجلي، والدار قطني، ومسلمة. وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات). وقال الذهبي في (الميزان): ثقة مشهور.
الثاني: الليث ـ وهو ابن سعد ـ: قال الحافظ في (التقريب): الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث المصري، ثقة، ثبت، فقيه، إمام مشهور، من السابعة، مات في شبعان سنة خمس وسبعين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال الخزرجي في (الخلاصة): ((الفهمي مولاهم، الإمام، عالم مصر وفقيهها ورئيسها)). وقال الذهبي في (الميزان): ((أحد الأعلام والأئمة الأثبات، ثقة حجة بلا نزاع)). وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن أحمد، وابن سعد، وابن معين، وابن المديني، والعجلي، والنسائي، ويعقوب بن شيبة. وقال: قال ابن حبان في (الثقات): ((كان من سادات أهل زمانه فقهاً، وورعاً، وعلماً، وفضلاً، وسخاء)). وقال ابن أبي مريم: ((ما رأيت أحداً من خلق الله أفضل من الليث، وما كانت خصلة يتقرب بها إلى الله إلاّ كانت تلك الخصلة في الليث)). وقال أبو يعلى الخليلي: ((كان إمام وقته بلا مدافعة)).
وقال النووي في شرح صحيح مسلم مبيناً فضل الليث ومكانته: ((وأما الليث بن سعد رضي الله عنه فإمامته وجلالته وصيانته وبراعته، وشهادة أهل عصره بسخائه وسيادته، وغير ذلك من جميل حالاته، أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، ويكفي في جلالته شهادة الإمامين الجليلين الشافعي وابن بكير ـ رحمهما الله تعالى ـ أن الليث أفقه من مالك رضي الله عنهم أجمعين، فهذان صاحبا مالك ـ رحمه الله ـ وقد شهدا بما شهدا، وهما بالمنـزلة المعروفة من الإتقان والورع وإجلال مالك ومعرفتهما بأحواله، هذا كله مع ما قد علم من جلالة مالك وعظم فقهه رضي الله عنه)).
قال محمد بن رمح: ((كان دخل الليث ثمانين ألف دينار، ما أوجب الله تعالى عليه زكاة قط)). وقال قتيبة: ((لما قدم الليث أهدى له مالك من طرف المدينة فبعث إليه ألف دينار، وكان الليث مفتي أهل مصر في زمانه)). انتهى. وقد أفرد الحافظ ابن حجر ترجمته في جزء سماه (الرحمة الغيثية بالترجمة الليثية)، قال: ورتبتها على ثمانية أبواب على عدد أبواب الجنة.
الثالث: يزيد ـ وهو ابن أبي حبيب ـ: قال الحافظ في (التقريب): يزيد بن أبي حبيب المصري، أبو رجاء، واسم أبيه سويد، واختلف في ولائه، ثقة فقيه، وكان يرسل، من الخامسة، مات سنة ثمان وعشرين ـ أي بعد المائة ـ وقد قارب الثمانين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وذكر في (تهذيب التهذيب) بعض ثناء الأئمة عليه وتوثيقه عن ابن سعد، وأبي زرعة، والعجلي، وذكره ابن حبان في (الثقات). وقال ابن أبي حاتم: عن أبيه يزيد بن أبي حبيب عن عقبة بن عامر مرسل.
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: وأما يزيد بن أبي حبيب فكنيته أبو رجاء وهو تابعي. قال ابن يونس: ((وكان مفتي أهل مصر في زمانه، وكان حليماً عاقلاً، وكان أول من أظهر العلم بمصر، والكلام في الحلال والحرام، وقبل ذلك كانوا يتحدثون بالفتن والملاحم والترغيب بالخير)). انتهى.
الرابع: أبو الخير: قال الحافظ في (التقريب): مرثد بن عبد الله اليزني ـ بفتح التحتانية والزاي بعدها نون ـ أبو الخير المصري، ثقة فقيه، من الثالثة، مات سنة تسعين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): ويزن بطن من حمير، سمع عقبة بن عامر، وعبد الله بن عمرو، وأبا عبد الله الصنابحي، وعبد الرحمن بن عسيلة عندهما ـ أي في الصحيحين ـ، وعبد الرحمن بن وعلة عند مسلم. روى عنه يزيد بن أبي حبيب عندهما، وجعفر بن ربيعة وعبد الرحمن بن شماسة عند مسلم.
وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): قال ابن يونس: كان مفتي أهل مصر في زمانه. وقال العجلي: تابعي ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة وله فضل وعبادة، ووثقه يعقوب بن سفيان.
الخامس: صحابي الحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال في (التقريب): عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد ـ بالتصغير ـ بن سعد بن سهم السهمي، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، أحد السابقين المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة ليال الحرة على الأصح، بالطائف على الراجح، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.
وقال الخزرجي في (الخلاصة): عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي، أبو محمد، بينه وبين أبيه إحدى عشرة سنة، له سبعمائة حديث، اتفقا على سبعة عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): كان بينه وبين أبيه ثلاث عشرة سنة، وقال إنه أسلم قبل أبيه، وكان يسكن مكة ثم خرج إلى الشام وانتقل إلى مصر، سمع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر الصديق عندهما، وروى عنه مسروق، وأبو الخير مرثد، وحميد بن عبد الرحمن، وأبو العباس الشاعر، وغير واحد، قال يحيى بن بكير: مات سنة خمس وستين، وقائل يقول: سنة ثمان وستين وسنه اثنتان وتسعون.
وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري ستة وعشرين حديثاً، وقال في (تهذيب التهذيب): ((ولم يكن بينه وبين أبيه في السن سوى إحدى عشرة سنة، وأسلم قبل أبيه، وكان مجتهداً في العبادة غزير العلم)). وقال في (الإصابة): روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، وعن عمر، وأبي الدرداء، ومعاذ، وابن عوف، وعن والده عمرو. وقال أبو نعيم: حدث عنه من الصحابة: ابن عمر، وأبو أمامة، والمسور، والسائب بن يزيد، وأبو الطفيل، وعدد كثير من التابعين.
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: ((فأما عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فجلالته، وفقهه، وكثرة حديثه، وشدة ورعه وزهادته، وإكثاره من الصلاة والصيام، وسائر العبادات، وغير ذلك من أنواع الخير، فمعروفة مشهورة لا يمكن استقصاؤها فرضي الله عنه)).

المبحث الثالث/ لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الإسناد الخمسة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم ماعدا شيخ البخاري فلم يرو له منهم مع البخاري سوى ابن ماجه.
(2) رجال الإسناد الخمسة مصريون، فهو مسلسل بالرواة المصريين، والتسلسل بالرواة المصريين قليل. قال النووي في شرحه لهذا الحديث في (صحيح مسلم): وقد رواه مسلم عن شيخه محمد بن رمح عن الليث بمثل إسناده عند البخاري، قال: ((وهذا من عزيز الأسانيد في مسلم بل في غيره، فإن اتفاق جميع الرواة في كونهم مصريين في غاية القلة، ويزداد قلة باعتبار الجلالة)). ثم أخذ يبين جلالة كل منهم وفضله.
(3) ومن اللطائف في ذلك أن أربعة من أصحاب الكتب الستة وهم: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، اتفقوا في رواية هذا الحديث سنداً ومتناً، وشيخهم جميعاً فيه قتيبة بن سعيد.
(4) ذكر الحافظ في (الفتح) أنه لا يعرف اسم الرجل السائل في هذا الحديث، فهو يعتبر من مبهمات المتن.
(5) في الإسناد ثلاثة كل منهم مفتي مصر في زمانه وهم: أبو الخير، ويزيد بن أبي حبيب، والليث بن سعد.
(6) أبو الخير ويزيد بن أبي حبيب تابعيان، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.
(7) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أحد العبادلة الفقهاء الأربعة في الصحابة وهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على الحديث الثاني.
(8) من اللطائف في ترجمة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ما ذكر من أن بينه وبين أبيه إحدى عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة.

المبحث الرابع/ شرح الحديث:
(1) قوله (أي الإسلام خير؟): معناه أي خصال الإسلام خير؟ وخير: أفعل تفضيل حذفت الهمزة من أوله، وكما يرد أفعل تفضيل كما هنا يرد اسماً في مقابلة الشر، وقد جمع الله تعالى بينهما في قوله تعالى في سورة الأنفال:{يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أُخذ منكم}، فالأولى ما يقابل الشر، والثانية أفعل تفضيل.
(2) قوله (أي الإسلام خير؟): مقول لقول محذوف، أي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أي الإسلام خير))، وقد صرّح بذلك في (سنن ابن ماجه) حيث قال: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أي الإسلام خير؟. وتقدم في التخريج.
(3) قوله (تطعم الطعام...) الخ: قال الحافظ في (الفتح): هو في تقدير المصدر، أي أن تطعم ومثله تسمع بالمعيدي. انتهى. وقد ورد ذكر (أن) قبل الفعل في مسند الإمام أحمد كما تقدم في التخريج.
(4) قوله (تطعم الطعام): قال في (الفتح): ذكر الإطعام ليدخل فيه الضيافة و غيرها.
(5) قوله (وتقرأ السلام): قال في (الفتح): وتقرأ بلفظ مضارع القراءة بمعنى تقول، قال أبو حاتم السجستاني: تقول اقرأ عليه السلام ولا تقول: أقرئه السلام، فإذا كان مكتوباً قلت: أقرئه السلام، أي اجعله يقرأه. انتهى. ولعل هذا باعتبار الغالب، فقد ورد لفظ (أقرئه السلام) في غير المكتوب، كما في قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمحمد صلى الله عليه وسلم: ((أقرئ أمتك مني السلام)) الحديث.
(6) قوله (على من عرفت ومن لم تعرف): قال في (الفتح): أي لا تخص به أحداً تكبراً أو تصنعاً، بل تعظيماً لشعائر الإسلام، ومراعاة لأخوة المسلم، فإن قيل اللفظ عام فيدخل الكافر والمنافق والفاسق، أجيب بأنه خص بأدلة أخرى أو أن النهي متأخر وكان هذا عاماً لمصلحة التأليف، وأما من شك فيه فالأصل البقاء على العموم حتى يثبت الخصوص، وقال في موضع آخر: قال النووي: ((وهذا العموم مخصوص بالمسلم فلا يبتدئ السلام على كافر)). قلت: ((قد تمسك به من أجاز ابتداء الكافر بالسلام، ولا حجة فيه لأن الأصل مشروعية السلام للمسلم، فيحمل قوله (من عرفت) عليه، وأما (من لم تعرف) فلا دلالة فيه، بل إن عرف أنه مسلم فذاك وإلا فلو سلم احتياطاً لم يمنع حتى يعرف أنه كافر)).
وقال ابن بطال: ((في مشروعية السلام على غير المعرفة استفتاح للمخاطبة للتأنيس، ليكون المؤمنون كلهم إخوة فلا يستوحش أحد من أحد، وفي التخصيص ما قد يوقع في الاستيحاش ويشبه صدود المتهاجرين المنهي عنه)). انتهى.
(7) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
1/ حرص الصحابة رضوان الله عليهم على الخير ومعرفة الحق.
2/ الرجوع إلى العلماء وسؤالهم عن أمور الدين.
3/ إثبات تفاضل خصال الإسلام.
4/ البحث عن الفاضل من خصال الخير لإيلائه مزيد العناية.
5/ إخلاص العمل لله رجاء مثوبته.
6/ استعمال التواضع والإرشاد إليه.
7/ الحث على إفشاء السلام وأنه من خير خصال الإسلام.
8/ الحث على إطعام الطعام وأنه من خير خصال الإسلام.
9/ فيه دلالة على إكرام الضيف.
10/ بذل السلام للمعرفة وغير المعرفة.

11/ أنه لو ترك السلام على من لم يعرف احتمل أن يظهر أنه من معارفه فقد يوقعه في الاستيحاش منه.
13/ الإرشاد إلى أسباب تآلف القلوب، واستجلاب ما يؤكد ذلك بين المؤمنين بالقول والفعل، من التهادي، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، وغير ذلك.

ابو وليد البحيرى
2018-11-24, 12:04 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (12)


حديث: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )


قال البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب فرض الخمس) من صحيحه:
حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن عمرو قال سمعت أبا وائل قال: حدثنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ((قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، ويقاتل ليرى مكانه، من في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).

المبحث الأول/ التخريج:
هذا الحديث أورده الإمام البخاري في أربعة مواضع من صحيحه هذا أحدها في (باب من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره)، والثاني في (كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً)، ولفظه: حدثنا عثمان قال أخبرنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن أبي موسى قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما القتال في سبيل الله، فإن أحدنا يقاتل غضباً ويقاتل حمية؟ فرفع إليه رأسه، قال: وما رفع إليه رأسه إلاّ أنه كان قائماً، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عزوجل)). والثالث في (كتاب الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا)، ولفظه: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عمرو عن أبي وائل عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)). والرابع في (كتاب التوحيد، باب: { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين }، ولفظه: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن أبي موسى قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).
وأخرجه الإمام مسلم في (كتاب الجهاد) من صحيحه فقال: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار ـ واللفظ لابن المثنى ـ قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا وائل قال: حدثنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: ((أن رجلاً أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله)). حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وإسحاق بن إبراهيم ومحمد بن العلاء، قال إسحاق: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن أبي موسى قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)). وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش عن شقيق عن أبي موسى قال: ((أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، الرجل يقاتل منا شجاعة فذكر مثله. وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن أبي موسى الأشعري: ((أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال في سبيل الله عزوجل فقال: الرجل يقاتل غضباً، ويقاتل حمية، قال: فرفع رأسه إليه، وما رفع رأسه إليه إلاّ أنه كان قائماً، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).
ورواه أبو داود في سننه في (كتاب الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، فقال: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي وائل عن أبي موسى: أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل ليحمد، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل حتى تكون كلمة الله هي أعلى، فهو في سبيل الله عزوجل)). حدثنا عليّ بن مسلم حدثنا أبو داود عن شعبة عن عمرو قال: سمعت من أبي وائل حديثا أعجبني فذكر معناه.
وأخرجه النسائي في (الجهاد) من سننه (باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا) فقال: أخبرنا إسماعيل بن مسعود قال حدثنا خالد قال حدثنا شعبة أن عمرو بن مرة أخبرهم قال: سمعت أبا وائل قال: حدثنا أبو موسى الأشعري قال: ((جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل ليذكر، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عزوجل)).
ورواه الترمذي في جامعه في (أبواب الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا)، فقال: حدثنا هناد، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق بن سلمة عن أبي موسى قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)). قال أبو عيسى: وفي الباب: عن عمر، وهذا حديث حسن صحيح.
ورواه ابن ماجه في (كتاب الجهاد) من سننه (باب النية في القتال)، فقال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن أبي موسى قال: ((سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).
وأخرجه أيضاً الإمام أحمد في مسنده، وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) في ترجمة عمرو بن مرة، وفي ترجمة سفيان الثوري، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده.

المبحث الثاني/ التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري محمد بن بشار: قال الحافظ في (التقريب): محمد بن بشار بن عثمان العبدي البصري، أبو بكر بندار، ثقة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين ـ أي بعد المائتين ـ وله بضع وثمانون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): يلقب بنداراً، لأنه كان بنداراً في الحديث جمع حديث البصرة، وكان ممن يحفظ حديثه، سمع محمد بن جعفر غندراً، وابن أبي عدي محمداً، وعبد الوهاب الثقفي، وغير واحد عندهما. روى عنه البخاري، ومسلم وأكثر، ولد سنة سبع وستين ومائة، في السنة التي مات فيها حماد بن سلمة.
وقال الخزرجي في (الخلاصة): روى عنه الجماعة، وابن خزيمة، وابن صاعد، وخلق. وقال عنه أبو بكر البصري: الحافظ بندار، أحد أوعية العلم. ونقل الحافظ في مقدمة الفتح توثيقه عن العجلي، والنسائي، وابن خزيمة، وسماه إمام أهل زمانه، والفرهياني، والذهلي، ومسلمة، وأبي حاتم الرازي. وقال الذهبي في (الميزان): قد احتج به أصحاب الصحاح كلهم، وهو حجة بلا ريب، وقال: كان من أوعية العلم.
الثاني: غندر ـ واسمه محمد بن جعفر ـ: قال الحافظ في (تهذيب التهذيب): محمد بن جعفر الهذلي مولاهم، أبو عبد الله البصري، المعروف بغندر، صاحب الكرابيس، روى عن شعبة فأكثر، وجالسه نحواً من عشرين سنة، وكان ربيبه، وذكر جماعة روى عنهم، ثم ذكر بعض الذين رووا عنه ومنهم: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وعليّ بن المديني، وبندار.
وقال في (تقريب التهذيب): ثقة، صحيح الكتاب إلاّ أن فيه غفلة، من التاسعة، مات سنة ثلاث أو أربع وتسعين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في مقدمة الفتح: أحد الأثبات المتقنين، من أصحاب شعبة، اعتمده الأئمة كلهم، حتى قال عليّ بن المديني: ((هو أحب إليَّ من عبد الرحمن بن مهدي في شعبة)). وقال ابن المبارك: ((إذا اختلف الناس في شعبة، فكتاب غندر حكم بينهم)). لكن قال أبو حاتم: ((يكتب حديثه عن غير شعبة ولا يحتج به)). قلت: أخرج البخاري له عن شعبة كثيراً، وأخرج له حديثاً عن معمر، وآخر عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند توبع فيهما، وروى له الباقون. انتهى.
وقال الذهبي في (الميزان): أحد الأثبات المتقنين ولاسيما في شعبة، وقال: وقال يحيى بن معين: ((كان غندر أصح الناس كتاباً، أراد بعض الناس أن يخطئه فلم يقدر، أخرج إلينا كتاباً، وقال: اجهدوا أن تخرجوا فيه خطأ. فما وجدنا شيئاً، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً منذ خمسين سنة)).
الثالث: شعبة ـ وهو ابن الحجاج ـ: تقدم في رجال إسناد الحديث العاشر.
الرابع: عمرو ـ وهو ابن مرة ـ كما في الإسناد عند مسلم وتقدم في التخريج.
قال في (تقريب التهذيب): عمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق الجملي ـ بفتح الجيم والميم ـ المرادي، أبو عبد الله الكوفي الأعمى، ثقة عابد، كان لا يدلس ورمي بالإرجاء، من الخامسة، مات سنة ثمان عشرة ومائة، وقيل: قبلها، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في مقدمة الفتح: أحد الأثبات، من صغار التابعين، متفق على توثيقه إلا أن بعضهم تكلم فيه لأنه كان يرى الإرجاء. وقال شعبة: كان لا يدلس، وقد احتج به الجماعة. ونقل في (تهذيب التهذيب) ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قول مسعر: ((لم يكن بالكوفة أحب إلي ولا أفضل منه))، وقوله: كان عمرو من معادن الصدق.
الخامس: أبو وائل ـ وهو شقيق بن سلمة ـ: قال الحافظ في (تقريب التهذيب): شقيق بن سلمة الأسدي، أبو وائل، الكوفي، ثقة مخضرم، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز وله مائة سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة
وقال الخزرجي في (الخلاصة): أحد سادة التابعين مخضرم، عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، ومعاذ بن جبل، وطائفة. وعنه الشعبي، وعمرو بن مرة، ومغيرة بن مقسم، ومنصور، وزبيد. وذكر في (تهذيب التهذيب) توثيق الأئمة له وثناءهم عليه، ومن ذلك: قول ابن معين: ثقة لا يسأل عن مثله. وقول ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة.
السادس: صحابي الحديث أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وقد تقدم في رجال إسناد الحديث الخامس.

المبحث الثالث/ لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الإسناد الستة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم، فهو مسلسل بالرواة الذين خرج لهم البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
(2) النصف الأعلى من رجال الإسناد كوفيون وهم: أبو موسى وأبو وائل وعمرو بن مرة، والنصف الأدنى بصريون وهم: شعبة وغندر وبندار.
(3) شيخ البخاري محمد بن بشار يلقب بنداراً، و قد اشتهر بلقبه وهو شيخ لبقية أصحاب الكتب الستة أيضاً كل منهم روى عنه مباشرة.
(4) شيخ شيخ البخاري غندر وهو لقب اشتهر به كما اشتهر باسمه أيضاً، وهو محمد بن جعفر، وقد ذكر هنا باللقب، كما يذكر في مواضع من صحيح البخاري بالاسم أيضاً، وقد ذكر بالاسم في سند هذا الحديث عند مسلم كما تقدم في التخريج.
(5) أبو وائل الراوي عن أبي موسى، اسمه شقيق بن سلمة، وقد اشتهر بكنيته كما اشتهر باسمه، وقد جاء ذكره في رجال إسناد هذا الحديث عند مسلم بالاسم وبالكنية كما تقدم في التخريج، كما ورد ذكره بالاسم في إسناد هذا الحديث عند الترمذي وابن ماجه كما في التخريج أيضاً، ومعرفة مثل ذلك من الأمور المهمة في مصطلح الحديث، قال الحافظ في شرحه لنخبة الفكر: ((ومن المهم في هذا الفن معرفة كنى المسمين ممن اشتهر باسمه وله كنية، لا يؤمن أن يأتي في بعض الراوية مكنياً، لئلا يظن أنه آخر، ومعرفة أسماء المكنين وهو عكس الذي قبله)). انتهى.
(6) في الإسناد تابعيان وهما: أبو وائل وعمرو بن مرة، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.
(7) هذا الحديث رواه البخاري من طريقين إلى شعبة، في (كتاب الجهاد) بينه وبين شعبة سليمان بن حرب، وفي (كتاب فرض الخمس) بينه وبينه واسطتان: محمد بن بشار وغندر، وإنما رواه نازلاً هنا مع روايته له عالياً في (كتاب الجهاد) إشارة إلى تعدد الطرق إلى شعبة، ولأن الطريق النازلة فيها ميزة وهي: أن الراوي فيها عن شعبة محمد بن جعفر الملقب بغندر، وهو أثبت الناس في شعبة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في أقوال الأئمة في ترجمته، وقد أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث أورده البخاري في (كتاب الإيمان) من طريقين في (باب ظلم دون ظلم)، روى الحديث في إحدى الطريقين عالياً بينه وبين شعبة أبو الوليد الطيالسي، ورواه نازلاً في الطريق الأخرى بينه وبين شعبة بشر بن خالد ومحمد بن جعفر المعروف بغندر، قال الحافظ: وغندر أثبت الناس في شعبة ولهذا أخرج المؤلف روايته مع كونه أخرج الحديث عالياً عن أبي الوليد. انتهى.

المبحث الرابع/ شرح الحديث:
(1) الأعرابي السائل في هذا الحديث: قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): يصلح أن يفسر بلاحق بن ضميرة، وحديثه عند أبي موسى المديني في الصحابة. من طريق عفير بن معدان سمعت لاحق بن ضميرة الباهلي قال: ((وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن الرجل يلتمس الأجر والذكر، فقال: لا شيء له)) الحديث. وفي إسناده ضعف. انتهى.
(2) قوله (يقاتل للمغنم أي لطلب الغنيمة. والرجل يقاتل ليذكر): أي ليذكر بين الناس ويشتهر بالشجاعة، وفي بعض روايات هذا الحديث: ((ويقاتل شجاعة))، وقوله: (ويقاتل ليرى مكانه): وفي رواية: (ويقاتل رياء)، وفي رواية: (ويقاتل حمية)، وفي رواية: (ويقاتل غضباً): قال الحافظ ابن حجر بعد الإشارة إلى تلك الروايات: فالحاصل من رواياتهم أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء: طلب المغنم، وإظهار الشجاعة، والرياء، والحمية، والغضب. وكل منها يتناوله المدح والذم فلهذا لم يحصل الجواب بالإثبات ولا بالنفي.
(3) قوله (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا): قال الحافظ في (الفتح): المراد بكلمة الله: دعوة الله إلى الإسلام، ويحتمل أن يكون المراد: أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط، بمعنى أن لو أضاف إلى ذلك سبباً من الأسباب المذكورة أخل بذلك، ويحتمل أن لا يخل إذا حصل ضمناً لا أصلاً ومقصوداً، وبذلك صرح الطبري فقال: إذا كان أصل الباعث هو الأوّل لا يضره ما عرض له بعد ذلك، وبذلك قال الجمهور، لكن روى أبو داود والنسائي من حديث أبي أمامة بإسناد جيد قال: جاء رجل فقال: ((يا رسول الله، أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ قال: لا شيء له))، فأعادها ثلاثاً كل ذلك يقول: لا شيء له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبل من العمل إلاّ ما كان له خالصاً وابتُغي به وجهه))، ويمكن أن يحمل هذا على من قصد الأمرين معاً على حد واحد، فلا يخالف المرجح أولا فتصير المراتب خمساً، أن يقصد الشيئين معاً، أو يقصد أحدهما صرفاً، أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضمناً، فالمحذور أن يقصد غير الإعلاء، فقد يحصل الإعلاء ضمناً وقد لا يحصل، ويدخل تحته مرتبتان، وهذا ما دل عليه حديث أبي موسى ودونه أن يقصدهما معاً فهو محذور أيضاً على ما دل عليه حديث أبي أمامة، والمطلوب أن يقصد الإعلاء صرفاً، وقد يحصل غير الإعلاء وقد لا يحصل، ففيه مرتبتان أيضاً، قال ابن أبي جمرة: ((ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأوّل قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه)). انتهى، ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمناً لا يقدح في الإعلاء، إذا كان الإعلاء هو الباعث الأصلي، ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حوالة قال: ((بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقدامنا لنغنم، فرجعنا ولم نغنم شيئاً، فقال: اللهم لا تكلهم إليَّ)) الحديث.
(4) (كلمة الله): في هذا الحديث بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله))، وهو من إطلاق الكلمة مراداً بها الكلام ومنه قوله تعالى: { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعد إلا الله ولا نشرك به شيئا } الآية.
(5) قوله (فهو في سبيل الله): سبيل الله الطريق الموصلة إليه، وتطلق على كل ما شرعه الله، كما تطلق مراداً بها الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، ومن الأوّل قوله تعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة }، ومن الثاني هذا الحديث.
(6) في إجابة النبي صلى الله عليه وسلم السائل بقوله: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله): شاهد لما يعرف في فن البلاغة بأسلوب الحكيم، فإن هذا الجواب مشتمل على إجابته عما سأل عنه وزيادة مع اختصاره وإيجازه، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لو أجابه بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل الله، احتمل أن يكون ما عدا ذلك كله في سبيل الله وليس كذلك، فعدل إلى لفظ جامع عدل به عن الجواب عن ماهية القتال إلى حال المقاتل، فتضمن الجواب وزيادة، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: (فهو) راجعاً إلى القتال الذي في ضمن (قاتل) أي: فقتاله قتال في سبيل الله، واشتمل طلب إعلاء كلمة الله على طلب رضاه، وطلب ثوابه، وطلب دحض أعدائه، وكلها متلازمة. قال ذلك الحافظ ابن حجر، وقال: قال ابن بطال: إنما عدل النبي صلى الله عليه وسلم عن لفظ جواب السائل لأن الغضب والحمية قد يكونان لله، فعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك إلى لفظ جامع فأفاد دفع الإلباس وزيادة الإفهام.
(7) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
(1) الرجوع إلى العلماء وسؤالهم عن أمور الدين.
(2) بيان أن الأعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة، والحديث شاهد لحديث: ((إنما الأعمال بالنيات)).
(3) أن الفضل الذي ورد في المجاهدين مختص بمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
(4) جواز السؤال عن العلة.
(5) تقدم العلم على العمل.
(6) ذم الحرص على الدنيا وعلى القتال لحظ النفس في غير الطاعة.
(7) إطلاق الكلمة مراداً بها الكلام.
(8) أن من حسن إجابة المفتي أن تكون فتواه وافية بغرض السائل وزيادة.

ابو وليد البحيرى
2018-11-27, 09:20 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (13)



حديث ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه )




قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب الإيمان) من صحيحه:


حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم (ح) وحدثنا آدم قال حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)).

المبحث الأول/ التخريج:

هذا الحديث أورده الإمام البخاري في صحيحه في موضع واحد في (باب حب الرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان)، أورده عقب حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فوالذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده)).

وروى مسلم حديث أنس هذا في (كتاب الإيمان) من صحيحه فقال: وحدثني زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن علية (ح) وحدثنا شيبان بن أبي شيبة حدثنا عبد الوارث كلاهما عن عبد العزيز عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن عبد ـ وفي حديث عبد الوارث (الرجل) ـ حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين)). حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)).

ورواه النسائي في (باب علامة الإيمان) فقال: أخبرنا حميد بن مسعدة قال حدثنا بشر ـ يعنى ابن المفضل ـ قال حدثنا شعبة عن قتادة أنه سمع أنساً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)). أخبرنا الحسين بن حريث قال: أنبأنا إسماعيل عن عبد العزيز (ح) وأنبأنا عمران بن موسى قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا عبد العزيز عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وأهله والناس أجمعين)).

ورواه ابن ماجه في أوائل سننه فقال: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)). وأخرجه الإمام أحمد في مسنده.



المبحث الثاني/ التعريف برجال الإسناد:

أول رجال الإسناد الأول: شيخ البخاري يعقوب بن إبراهيم: قال الحافظ في (التقريب): يعقوب بن إبراهيم بن كثير بن أفلح العبدي مولاهم، أبو يوسف الدورقي، ثقة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين ـ أي بعد المائتين ـ وله ست وتسعون سنة، وكان من الحفاظ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): روى عن يحيى بن أبي زائدة، ومعتمر بن سليمان، وعبد العزيز بن أبي حازم، وخلق. وعنه الجماعة.

قال الخطيب: كان حافظاً متقناً، صنف المسند. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): العبدي مولى عبد القيس، أبو يوسف الدورقي، الحافظ البغدادي.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): يكنى أبا يوسف أخو أحمد القيسي مولى لعبد القيس، وليس من بلد دورق، وإنما كانوا يلبسون قلانس تسمى الدورقية فنسبوا إليها. وقال: قال أبو العباس السراج: ولد يعقوب سنة ست وستين ومائة وكان بينه وبين أخيه أحمد سنتان، ومات سنة اثنتين وخمسين ومائتين.

الثاني: ابن علية: قال الحافظ في (التقريب): إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم، أبو بشر البصري، المعروف بابن علية، ثقة حافظ، من الثامنة، مات سنة ثلاث وتسعين ـ أي بعد المائة ـ وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): الأسدي البصري، مولى بني أسد بن خزيمة، يكنى أبا بشر، وأمه علية مولاة لبني أسد، ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيق الأئمة له وثناءهم عليه، ومن ذلك قول شعبة: ((إسماعيل بن علية ريحانة الفقهاء))، وقوله أيضاً: ((ابن علية سيد المحدثين))، وقول أحمد: ((إليه المنتهى في التثبت بالبصرة))، وقول ابن المديني: ((ما أقول إن أحداً أثبت في الحديث من ابن علية)). انتهى. وقال الذهبي في (الميزان): ((وكان حافظاً فقيهاً كبير القدر)).

الثالث: عبد العزيز بن صهيب: قال الحافظ في (التقريب): عبد العزيز بن صهيب البناني ـ بموحدة ونونين ـ البصري، ثقة، من الرابعة، مات سنة ثلاثين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): عبد العزيز بن صهيب البناني بن سعد بن لؤي بن غالب مولاهم، البصري، عن أنس وشهر. عنه شعبة والحمادان. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): البناني مولاهم، البصري الأعمى. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، وابن سعد، والنسائي، والعجلي.

الرابع: صحابي الحديث في الإسنادين أنس بن مالك رضي الله عنه، وتقدم في رجال إسناد الحديث السادس.

أما بقية رجال الإسناد الثاني فأوّلهم: شيخ البخاري آدم بن أبي إياس، وقد تقدم في رجال إسناد الحديث العاشر.

الثاني: شعبة بن الحجاج، وتقدم في رجال إسناد الحديث العاشر أيضاً.

الثالث: قتادة، قال في (التقريب): قتادة بن دعامة السدوسي، أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، يقال: ولد أكمه، وهو رأس الطبقة الرابعة، مات سنة بضع عشرة ـ أي بعد المائة ـ ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): أبو الخطاب البصري، الأكمه، أحد الأئمة الأعلام، حافظ مدلس، روى عن أنس، وابن المسيب، وابن سيرين، وخلق. وعنه أيوب، وحميد، وحسين المعلم، والأوزاعي، وشعبة، وعلقمة. انتهى.

وقال الذهبي في (الميزان): حافظ، ثقة، ثبت لكنه مدلس، ورمي بالقدر. قال يحيى بن معين: ((ومع هذا فاحتج به أصحاب الصحاح لاسيما إذا قال: حدثنا، مات كهلاً)). انتهى. وقال الحافظ في مقدمة الفتح: قتادة بن دعامة البصري، التابعي الجليل، أحد الأثبات المشهورين، كان يضرب به المثل في الحفظ، إلاّ أنه كان ربما دلس. وقال ابن معين: رمي بالقدر، وذكر ذلك عن جماعة. وأما أبو داود فقال: لم يثبت عندنا عن قتادة القول بالقدر، والله أعلم. واحتج به الجماعة. انتهى.

وترجم له في (تهذيب التهذيب) بأكثر من خمس صفحات، ومما ذكره من الثناء عليه قول ابن سيرين: ((قتادة هو أحفظ الناس))، وقول بكر بن عبد الله المزني: ((ما رأيت الذي هو أحفظ منه، ولا أجدر أن يؤدي الحديث كما سمعه))، ونقل عن بعض العلماء وصفه بالتدليس، ونقل عن بعضهم أنه روى عن جماعة لم يسمع منهم فهو متصف بالإرسال والتدليس.



المبحث الثالث/ لطائف الإسناد وما فيه ما الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسنادين السبعة خرّج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلاّ شيخ البخاري في الإسناد الثاني آدم بن أبي إياس فلم يرو له مسلم وابن ماجه.

(2) رجال الإسنادين السبعة بصريون إلاّ شيخي البخاري يعقوب فهو بغدادي وآدم عسقلاني نشأ ببغداد.

(3) يعقوب بن إبراهيم الدورقي شيخ البخاري وقد توفي قبله بأربع سنوات، وقد شاركه في الرواية عنه مباشرة بقية أصحاب الكتب الستة.

ومما يحسن ذكره هنا أن يعقوب بن إبراهيم هذا ومحمد بن بشار الملقب بنداراً ومحمد بن المثنى الملقب الزمن، قد ماتوا في سنة واحدة وهي سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكل واحد منهم شيخ لأصحاب الكتب الستة، وقد اتفقوا أيضاً في سنة الولادة إلاَّ أن يعقوب ولد قبلهما بسنة واحدة، حيث كانت ولادته سنة ست وستين ومائة، أما محمد بن بشار ومحمد بن المثنى فقد ولدا في السنة التي مات فيها حماد بن سلمة ـ أي سنة سبع وستين ومائة ـ ولهذا لما ذكر الحافظ ابن حجر محمد بن المثنى في (التقريب) قال: ((وكان هو وبندار فرسي رهان وماتا في سنة واحدة))، وللبخاري شيخ رابع توفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين أيضاً وهو زياد بن أيوب الطوسي البغدادي، وولد في السنة التي ولد فيها يعقوب بن إبراهيم.

(4) رجال الإسناد الأول كلهم من الموالى إلا الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه، وابن علية أسدي ولاء من جهة أبيه وأمه.

(5) ابن علية: هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، وعلية اسم أمه اشتهر بالنسبة إليها، وكان يقول: ((من قال لي ابن علية فقد اغتابني))، ومعرفة مثل هذه النسبة من الأمور المهمة في علم مصطلح الحديث، قال الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر: ((ومن المهم معرفة من نسب إلى غير أبيه كالمقداد بن الأسود نسب إلى الأسود الزهري، لكونه تبناه، وإنما هو مقداد بن عمرو، أو إلى أمه كابن علية وهو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، أحد الثقات، وعلية اسم أمه اشتهر بها، وكان لا يحب أن يقال له ابن علية، ولهذا كان يقول الشافعي: أنبأنا إسماعيل الذي يقال له ابن علية)). انتهى.

فإذا ذكر مع اسمه اسم أبيه أو اسم أبيه وجده ثم ذكر منسوباً إلى أمه فإنه يتعين شيئان: أحدهما أن يعرب (ابن) في النسبة إلى أمه إعراب (ابن) في نسبته إلى أبيه، والثاني أن تثبت الألف في (ابن) في نسبته إلى أمه، وقد نبه على هذا النووي في شرحه لصحيح مسلم في (كتاب الإيمان) لما جاء ذكر المقداد بن عمرو بن الأسود الكندي وقال: ((ولهذا الاسم نظائر منها: عبد الله بن عمرو ابن أم مكتوم، وعبد الله بن أبي ابن سلول، وعبد الله بن مالك ابن بحينة، ومحمد بن عليّ ابن الحنفية، وإسماعيل بن إبراهيم ابن علية، وإسحاق بن إبراهيم ابن راهويه، ومحمد بن يزيد ابن ماجه، فكل هؤلاء ليس الأب فيهم ابناً لمن بعده، فيتعين أن يكتب (ابن) بالألف وأن يعرب بإعراب الابن المذكور أولاً، فأم مكتوم زوجة عمرو، وسلول زوجة أبي، وبحينة زوجة مالك وأم عبد الله، وكذلك الحنفية زوجة عليّ رضي الله عنه، وعلية زوجة إبراهيم، وراهويه هو إبراهيم والد إسحاق، وكذلك ماجه هو يزيد، فهما لقبان، والله أعلم)). ثم أشار إلى وجه ذكر النسبة إلى الأب والنسبة إلى الأم معاً في بعض الأحوال فقال: ومرادهم في هذا كله تعريف الشخص بوصفيه ليكمل تعريفه، فقد يكون الإنسان عارفاً بأحد وصفيه دون الآخر، فيجمعون بينهما ليتم التعريف لكل أحد.

(6) قتادة: هو ابن دعامة، ولا لبس في عدم نسبته في الإسناد لأنه ليس في رجال البخاري من يسمى قتادة سواه إلا قتادة بن النعمان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(7) ذكر الحافظ ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر: أن أرفع مراتب التعديل الوصف بأفعل، كأوثق الناس، أو أثبت الناس، أو إليه المنتهى في التثبت. انتهى.

وفي رجال هذا الإسناد من وصف بذلك، فابن علية قال فيه الإمام أحمد: إليه المنتهى في التثبت في البصرة. وقال فيه ابن المديني: ما أقول إن أحداً أثبت في الحديث من ابن علية. وقتادة بن دعامة، قال فيه ابن سيرين: قتادة هو أحفظ الناس. وقال بكر بن عبد الله المزني: ما رأيت الذي هو أحفظ منه، ولا أجدر أن يؤدي الحديث كما سمعه.

(8) قتادة من المعروفين بالتدليس، والراوي عنه في هذا الحديث شعبة بن الحجاج وهو لا يروى عنه إلا ما سمعه، وقد صرح بالسماع في روايته لهذا الحديث كما في سنن النسائي، وتقدم في التخريج. قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) في شرحه لهذا الحديث: ورواية شعبة عن قتادة مأمون فيها من تدليس قتادة، لأنه كان لا يسمع منه إلا ما سمعه، وقد وقع التصريح به في هذا الحديث في رواية النسائي. انتهى.

(9) المتن المسوق رواية قتادة عن أنس، وهو قريب من سياق حديث أبي هريرة وفيه زيادة عليه: (والناس أجمعين)، أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في (الفتح) وقال: واقتصر ـ يعني البخاري ـ على سياق قتادة لموافقته لسياق حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(10) قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): ولفظ عبد العزيز مثله ـ يعني مثل لفظ قتادة ـ إلاَّ أنه قال كما رواه ابن خزيمة في صحيحه عن يعقوب شيخ البخاري بهذا الإسناد: (من أهله وماله) بدل (من والده وولده)، وكذا لمسلم من طريق ابن علية، وكذا للإسماعيلي من طريق عبد الوارث بن سعيد عن عبد العزيز ولفظه: ((لا يؤمن الرجل))، وهو أشمل من جهة، و(أحدكم) أشمل من جهة، وأشمل منهما رواية الأصيلي (لا يؤمن أحد)، فإن قيل: فسياق عبد العزيز مغاير لسياق قتادة، وصنيع البخاري يوهم اتحادهما في المعنى وليس كذلك، فالجواب: أن البخاري يصنع مثل هذا نظراً إلى أصل الحديث لا إلى خصوص ألفاظه. انتهى.

(11) ساق البخاري ـ رحمه الله ـ الإسناد الأول إلى آخره، ثم عطف عليه الإسناد الثاني ولم يحول الإسناد قبل الوصول إلى أنس رضي الله عنه وهو المروى عنه في الإسنادين معاً، ولعلّ السر في ذلك تغاير صيغة الرواية من أنس رضي الله عنه، فسياق روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق عبد العزيز بن صهيب: عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسياق روايته من طريق قتادة: قال النبي صلى الله عليه وسلم.

(12) الإسنادان من أولهما إلى أنس رضي الله عنه متحدان سياقاً، فالبخاري يقول في الرواية عن كل من شيخيه: حدثنا، وكل من شيخيه يقول عن شيخه: حدثنا، وشيخا شيخيه ابن علية وشعبة كل منهما يقول عن شيخه: عن، وقتادة وعبد العزيز يقولان: عن أنس رضي الله عنه.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) قوله (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه...) الخ: قال الحافظ ابن حجر: أي إيماناً كاملاً. قال الشيخ عبد الرؤوف المناوي في (فيض القدير): أي إيماناً كاملاً. وقال في قوله: (حتى أكون أحب إليه): غاية لنفي كمال الإيمان، ومن كمل إيمانه علم أن حقيقة الإيمان لا تتم إلا بترجيح حبه على حب كل من ولده ووالده والناس أجمعين.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في (فتح المجيد): (لا يؤمن أحدكم): أي الإيمان الواجب والمراد كماله، حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إلى العبد من ولده ووالده والناس أجمعين، بل ولا يحصل هذا الكمال إلاّ بأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه كما في الحديث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلاّ من نفسي. فقال:" والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك "، فقال له عمر: فإنك الآن أحب إليَّ من نفسي. فقال:" الآن يا عمر "))، رواه البخاري، فمن قال: أن المنفى هو الكمال، فإن أراد الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق، وإن أراد أن المنفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قاله شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ، فمن ادعى محبة النبي صلى الله عليه وسلم بدون متابعته وتقديم قوله على قول غيره فقد كذب كما قال تعالى:{ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين َ }، فنفي الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن كل مسلم يكون محباً بقدر ما معه من الإسلام، وكل مسلم لابد أن يكون مؤمناً وإن لم يكن مؤمناً الإيمان المطلق، لأن ذلك لا يحصل إلاَّ لخواص المؤمنين.

وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه (تيسير العزيز الحميد): لا يؤمن أحدكم: أي لا يحصل له الإيمان الذي تبرأ به ذمته ويستحق به دخول الجنة بلا عذاب حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من أهله وولده ووالده والناس أجمعين، بل لا يحصل له ذلك حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه أيضاً كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه فساقه، وقال: فمن لم يكن كذلك فهو من أصحاب الكبائر إذا لم يكن كافراً، فإنه لا يعهد في لسان الشرع نفي اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته، فأما إذا كان الفعل مستحباً في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب.

وقال أيضاً: وأكثر الناس يدَّعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما ذكر فلابد من تصديق ذلك بالعمل والمتابعة له وإلاَّ فالمدَّعي كاذب، فإن القرآن بين أن المحبة التي في القلب تستلزم العمل الظاهر بحسبها كما قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}.

(2) قوله (حتى أكون أحب إليه من والده وولده): ورد في بعض الروايات عند مسلم وغيره: (من أهله وماله) بدل (من والده وولده)، قال الحافظ ابن حجر: وذكر الولد والوالد أدخل في المعنى لأنهما أعزّ على العاقل من الأهل والمال، بل يكونان أعزّ من نفسه.

(3) قوله (من والده): لفظ الوالد يشمل الوالدة إن أريد به من له الولد، أو يقال: اكتفى بذكر أحدهما كما يكتفى عن أحد الضدين بالآخر. قاله الحافظ ابن حجر في (الفتح).

(4) قوله (والناس أجمعين): وذكره بعد الوالد والولد من عطف العام على الخاص، وهل يشمل النفس؟ قال الحافظ في (الفتح): الظاهر دخوله. انتهى. وتقدم حديث عمر الذي هو نص في نفس الإنسان، ويدل على ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما))، فإن النفس مما سواهما.

(5) قوله (من والده وولده): قدّم الوالد على الولد في رواية أنس هذه ورواية أبي هريرة عند البخاري، والسر في ذلك تقدمه في الزمان والإجلال، أو للأكثرية، لأن كل أحد له والد من غير عكس، وقدّم الولد على الوالد في رواية النسائي لمزيد الشفقة.

(6) وهل الحكم الذي اشتمل عليه هذا الحديث يكون لسائر الأنبياء والمرسلين أيضاً؟ قال الحافظ في (الفتح): محبة جميع الرسل من الإيمان، لكن الأحبية مختصة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(7) قال الحافظ في (الفتح): ومن علامة الحب المذكور أن يعرض على المرء لو خيِّرَ بين فقد غرض من أغراضه أو فقد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ـ أن لو كانت ممكنة ـ، فإن كان فقدها ـ أن لو كانت ممكنة ـ أشد عليه من فقد شيء من أغراضه، فقد اتصف بالأحبية المذكورة ومن لا فلا، وليس ذلك محصوراً في الوجود والفقد، بل يأتي مثله في نصر سنته والذَبِّ عن شريعته وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ونقل عن النووي أنه قال: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة والمطمئنة، فإن من رجّح جانب المطمئنة كان حبه للنبي صلى الله عليه وسلم راجحاً، ومن رجّح جانب الأمارة كان حكمه بالعكس. انتهى.

ومعنى ذلك: أن لو تعارض عند الإنسان فعل شيء يحبه الله ورسوله قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، ونفسه الأمارة بالسوء لا ترتاح إلى فعله، فإن قدّم فعل ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تهواه نفسه حصل له الاتصاف بالأحبية المذكورة في الحديث، وإن قدّم ما تهواه نفسه كان بالعكس. وقال الكرماني: ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم إرادة طاعته وترك مخالفته، وهو من واجبات الإسلام.

وقال ابن القيم في النونية:

فهـو المطاع وأمره العالي على * أمر الورى وأمــر ذي السلطان

وهـو المقدم في محبتنــا على * الأهليــن والأزواج والولـدان

وعلى العباد جميعهم حتى على الـ * ـنفس التي قـد ضمهـا الجنبان

(8) السر في الأحبية الثابتة في الحديث: كونه صلى الله عليه وسلم سبب هداية الناس الذين بعثه الله إليهم، إذ أخرجهم الله به من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، فلما كان سبب المحبة بين المحب والمحبوب ما يحصل من النفع للمحب، كانت محبة الرسول صلى الله عليه وسلم مقدمة على محبة أعزّ الناس إلى الإنسان، لأن النفع الذي حصل للمسلم بسبب الرسول صلى الله عليه وسلم هو بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، ولهذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم أجر عمله ومثل أجور من آمن به من حين بعثه الله إلى قيام الساعة، لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي دلّ الناس على الخير، ومن دلَّ على هدى كان له من الأجر مثل أجور من فعله كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(9) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:

(1) وجوب تقديم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على أعزّ الناس إلى الإنسان.

(2) أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة وهي تابعة لمحبة الله لازمة لها.

(3) أن الأعمال من الإيمان لأن المحبة عمل القلب.

(4) أنه قد ينفى الإيمان عن شخص ولا يخرج بذلك عن الإسلام.

(5) أنه إذا كان هذا شأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فما الظن بمحبة الله؟

(6) الإشارة إلى ما يجب للوالد من التوقير والإجلال، وما يجب للولد من الشفقة.

(7) البدء بالأهم فالمهم.

(8) الإشارة إلى أهمية التفكر لأن الأحبية المذكورة تعرف به وذلك أن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها، أما نفسه فهو أن يريد بقاءها سالمة من الآفات، هذا حقيقة المطلوب، وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالاً ومآلاً، فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الله به من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة وإما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره، لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه، ولا شك أن حظ الصحابة رضوان الله عليهم من هذا المعنى أتم، لأن هذا ثمرة المعرفة وهم بها أعلم، والله الموفق. قاله الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في مؤلفه العظيم (فتح الباري).

ابو وليد البحيرى
2018-12-02, 10:15 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (14)





حديث ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان )




قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب الإكراه) من صحيحه:

حدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب الطائفي حدثنا عبد الوهاب حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)).

المبحث الأول/ التخريج:

أورد البخاري ـ رحمه الله ـ هذا الحديث في أربعة مواضع من صحيحه هذا أحدها في (باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر)، والثاني في (كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان)، رواه عن شيخه محمد بن المثنى بمثل روايته عن محمد بن عبد الله بن حوشب متناً وسنداً وسياقاً، إلاَّ أن فيه نسبة عبد الوهاب (الثقفي) وأنس رضي الله عنه يقول فيه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثالث في (كتاب الإيمان) أيضاً (باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان)، ولفظه: حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبداً لا يحبه إلاّ لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار))، والرابع في (كتاب الأدب، باب الحب في الله)، ولفظه: حدثنا آدم حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلاَّ لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)).

ورواه مسلم في (كتاب الإيمان) من صحيحه فقال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن يحيى بن أبي عمر ومحمد بن بشار جميعاً عن الثقفي، قال ابن أبي عمر حدثنا عبد الوهاب عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاَّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يقذف في النار)).

حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان يحب المرء لا يحبه إلاَّ لله، ومن كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه)). حدثنا إسحاق بن منصور أنبأنا النضر بن شميل أنبأنا حماد عن ثابت عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو حديثهم غير أنه قال: ((من أن يرجع يهودياً أو نصرانياً)).

ورواه الترمذي في (كتاب الإيمان) من جامعه عن ابن أبي عمر عن عبد الوهاب بمثل إسناده ومتنه عند مسلم إلاَّ أن فيه بدل (حلاوة الإيمان) (طعم الإيمان)، وقال قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد رواه قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه النسائي في (كتاب الإيمان) أيضاً فقال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال أنبأنا جرير عن منصور عن طلق بن حبيب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان وطعمه: أن يكون الله عزوجل ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب في الله ويبغض في الله، وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحب إليه من أن يشرك بالله شيئاً)). أخبرنا سويد بن نصر قال حدثنا عبد الله عن شعبة عن قتادة قال سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من أحب المرء لا يحبه إلا لله عزوجل، ومن كان الله عزوجل ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه)). أخبرنا عليّ بن حجر قال حدثنا إسماعيل عن حميد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث من كان فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يرجع إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار)). ورواه الإمام أحمد في (المسند) عن عبد الوهاب بإسناده وفيه: ((كما يكره أن يوقد له نار فيقذف فيها)). وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) قبيل ترجمة الصديق رضي الله عنه، وفي ترجمة أبي قلابة. وأخرجه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) في ترجمة محمد بن الحسن المؤذن الأنباري.

المبحث الثاني/ التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ البخاري محمد بن عبد الله بن حوشب الطائفي: قال الحافظ ابن حجر في (التقريب): محمد بن عبد الله بن حوشب بمهملة ثم معجمة بوزن جعفر الطائفي، نزيل الكوفة، صدوق، من العاشرة، ورمز لكونه من رجال البخاري.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع إبراهيم بن سعد وهشيماً، وعبد الوهاب الثقفي، روى عنه البخاري في تفسير سورة النساء ومواضع. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): قال ابن شاهين في (الثقات): قال ابن معين: ليس به بأس. انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.

الثاني: عبد الوهاب ـ وهو الثقفي ـ كما ورد منسوباً في رواية محمد بن المثنى عند البخاري. قال الحافظ في (التقريب): عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي، أبو محمد البصري، ثقة تغير قبل موته بثلاث سنين، من الثامنة، مات سنة أربع وتسعين ـ أي بعد المائة ـ عن نحو من ثمانين سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع أيوب السختياني، ويحيى بن سعيد، وخالد الحذاء، وعبيد الله بن عمر عندهما ـ أي في الصحيحين ـ وغير واحد عند مسلم. روى عنه بندار، وأبو موسى عندهما، وذكر جماعة رووا عنه عند البخاري، وجماعة عند مسلم. ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن ابن معين، والعجلي، وذكره ابن حبان في (الثقات).

وقال عليّ بن المديني: ((ليس في الدنيا كتاب عن يحيى ـ يعني ابن سعيد الأنصاري ـ أصح من كتاب عبد الوهاب، وكل كتاب عن يحيى فهو عليه كَل)). وقال الترمذي: سمعت قتيبة يقول: ((ما رأيت مثل هؤلاء الأربعة: مالك، والليث، وعبد الوهاب الثقفي، وعباد بن عباد)).

وقال في مقدمة الفتح: أحد الأثبات، وقال ـ بعد نقل تغيره عن بعض المحدثين ـ قلت: احتج به الجماعة ولم يكثر البخاري عنه، والظاهر أنه إنما أخرج له عمن سمع منه قبل اختلاطه كعمرو بن عليّ وغيره، بل نقل العقيلي أنه لما اختلط حجبه أهله فلم يرو في الاختلاط شيئاً، والله أعلم.

الثالث: أيوب ـ وهو السختياني ـ: قال الحافظ في (التقريب): أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني ـ بفتح المهملة بعدها معجمة ثم مثناة ثم تحتانية وبعد الألف نون ـ أبو بكر البصري، ثقة، ثبت، حجة، من كبار الفقهاء العباد، من الخامسة، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة وله خمس وستون، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): أبو بكر البصري مولى عنـزة، ويقال: مولى جهينة، رأى أنس بن مالك، وروى عن عمرو بن سلمة الجرمي، وحميد بن هلال، وأبي قلابة، وأناس آخرين سماهم. وعنه الأعمش وهو من أقرانه، وقتادة وهو من شيوخه، والحمادان، والسفيانان، وشعبة، وعبد الوارث، ومالك، وابن إسحاق، وسعيد بن أبي عروبة، وابن علية، وخلق كثير. ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيقه والثناء عليه عن كثرين، ومن ذلك قول شعبة: حدثني أيوب وكان سيد الفقهاء. وقول ابن عيينة: ما لقيت مثل أيوب. وقول ابن سعد: كان ثقة ثبتاً في الحديث، جامعاً كثير العلم، حجة عدلاً. وقول مالك: كان من العالمين العاملين الخاشعين.

الرابع: أبو قلابة: قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن زيد بن عمرو، أبو عامر الجرمي، أبو قلابة البصري، ثقة فاضل كثير الإرسال، قال العجلي: فيه نصب يسير، من الثالثة، مات بالشام ـ هارباً من القضاء ـ سنة أربع ومائة، وقيل بعدها، ورمز لكونه من رجال الجماعة. انتهى. روى عن جماعة من الصحابة وأرسل عن آخرين ذكرهم في (تهذيب التهذيب)، ونقل توثيقه عن ابن سعد، والعجلي، وابن خراش.

الخامس: الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه: تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.



المبحث الثالث/ لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسناد الخمسة خرّج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلاّ شيخ البخاري محمد بن عبد الله بن حوشب الطائفي فلم يرو له منهم سوى البخاري.

(2) رجال الإسناد كلهم بصريون إلاّ شيخ البخاري فإنه طائفي ثم كوفي.

(3) شيخ شيخ البخاري عبد الوهاب ـ وهو ابن عبد المجيد الثقفي ـ لم ينسبه في الإكراه ونسبه في الإيمان، ولا لبس في عدم نسبته لأنه ليس في رجال البخاري من يسمى عبد الوهاب سواه.

(4) عبد الوهاب بن عبد المجيد تغير قبل وفاته بثلاث سنين، والحكم في رواية المختلط عند المحدثين أن ما حدث به قبل الاختلاط إذا تميز قبل، وإذا لم يتميز توقف فيه، وعبد الوهاب الثقفي لم يحدث بعد اختلاطه، قال الذهبي في (الميزان) بعد أن نقل عن بعض المحدثين تغيره: قلت: لكنه ما ضر تغيره حديثه، فإنه ما حدث بحديث في زمن التغير. قال العقيلي: حدثنا الحسين بن عبد الله الذارع حدثنا أبو داود قال: تغير جرير بن حازم وعبد الوهاب الثقفي فحجب الناس عنهم. انتهى.

(5) في الإسناد تابعيان وهما: أيوب السختياني وشيخه أبو قلابة، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.

(6) أبو قلابة: كنية اشتهر بها عبد الله بن زيد الجرمي وهو من التابعين، وهناك رجل آخر اشتهر بأبي قلابة أيضاً إلاّ أنه متأخر عن هذا وهو بصري يكنى أبا محمد ويلقب بأبي قلابة، وهو من شيوخ ابن ماجه ولم يرو له الباقون، مات سنة ست وسبعين ومائتين وهو عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن عبد الملك الرقاشي.




المبحث الرابع/ شرح الحديث:

(1) قوله (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان): (ثلاث) مبتدأ وخبره الجملة بعده، وجاز الابتداء بالنكرة لأن التنوين عوض عن المضاف إليه أي ثلاث خصال، (وكن فيه) يحتمل أن تكون تامة أي وجدن فيه، ويحتمل أن تكون ناقصة والتقدير: من كن مجتمعة فيه.

(2) معنى ( حلاوة الإيمان ): قال النووي: استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق في رضى الله عزوجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإيثار ذلك على عرض الدنيا.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في (فتح المجيد): الحلاوة هنا هي التي يعبر عنها بالذوق لما يحصل به من لذة القلب، ونعيمه، وسروره، وغذائه، وهي شيء محسوس يجده أهل الإيمان في قلوبهم.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في (فتح المجيد): أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئاً واشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى، قال: فحلاوة الإيمان المتضمنة للّذة والفرح تتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة وتفريعها ودفع ضدها، فتكميلها أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما، قال: وتفريعها أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، قال: ودفع ضدها أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار. انتهى.

(3) قوله (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما): قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): معناه أن من استكمل الإيمان علم أن حق الله ورسوله آكد عليه من حق أبيه وأمه وزوجه وجميع الناس، لأن الهدى من الضلال والخلاص من النار إنما كان بالله على لسان رسوله، ومن علامات محبته نصر دينه بالقول والفعل والذَّب عن شريعته والتخلق بأخلاقه. وقال النووي: ومحبة العبد ربه سبحانه وتعالى بفعل طاعته وترك مخالفته وكذلك محبة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في (فتح المجيد): ومحبة الله تستلزم محبة طاعته، فإنه يحب من عبده أن يطيعه والمحب يحب محبوبه ولابد، ومن لوازم محبة الله أيضاً محبة أهل طاعته كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده، فمحبة ما يحبه الله ومن يحبه الله من كمال الإيمان.

وقال أيضاً: ومن علامات محبة الله ورسوله، أن يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله، ويؤثر مرضاته على ما سواه، ويسعى في مرضاته ما استطاع، ويبعد عما حرمه الله ويكرهه أشد الكراهة، ويتابع رسوله، ويمتثل أمره ويترك نهيه، كما قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ}، فمن آثر أمر غيره على أمره وخالف ما نهى عنه فذلك علَم على عدم محبته لله ورسوله، فإن محبة الرسول من لوازم محبة الله، فمن أحب الله وأطاعه أحب الرسول وأطاعه ومن لا فلا كما في آية المحنة ونظائرها. انتهى. ويعنى بآية المحنة قوله تعالى في سورة آل عمران: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}، فقد قال ـ رحمه الله ـ عند الكلام عليها: وهذه تسمى آية المحنة قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله تعالى آية المحنة: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}، إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها، فدليلها وعلامتها: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفائدتها محبة المرسل لكم، فما لم تحصل منكم المتابعة فمحبتكم له غير حاصلة ومحبته لكم منتفية.

وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)). ولهذا قال:{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول. انتهى.

وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: المراد في الحديث: أن يكون الله ورسوله عند العبد أحب إليه مما سواهما حباً قلبياً كما في بعض الأحاديث: ((أحبوا الله بكل قلوبكم))، فيميل بكليته إلى الله وحده حتى يكون وحده محبوبه ومعبوده، وإنما يحب من سواه تبعاً لمحبته، كما يحب الأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين لما كان يحبهم ربه سبحانه، وذلك موجب لمحبة ما يحبه سبحانه وكراهة ما يكره، وإيثار مرضاته على ما سواه والسعي فيما يرضيه ما استطاع، وترك ما يكره، فهذه علامات المحبة الصادقة ولوازمها.

وقال ابن رجب في كتابه (جامع العلوم والحكم) في شرحه لحديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)) ما ملخصه: معنى الحديث: أن الإنسان لا يكون مؤمناً كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أمر به، ويكره ما نهى عنه، وقد ورد القرآن بمثل هذا المعنى في غير موضع قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، وذم سبحانه من كره ما أحب الله وأحب ما كرهه الله، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }، وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}، فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحب الله، محبة توجب له الإتيان بما وجب عليه منه، فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب إليه منه كان ذلك فضلاً، وأن يكره ما كرهه تعالى، كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنـزيهاً كان ذلك فضلاً، والمحبة الصحيحة تقتضي المتابعة والموافقة في حب المحبوبات وبغض المكروهات، فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه، أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما كرهه الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئاً يخالف ذلك، بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله، أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه، دلَّ ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة، فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله. انتهى.

هذه بعض النقول عن العلماء في بيان المحبة الصادقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم التي تطابق فيها القول والعمل، والتي هي سبب لمحبة الله تعالى للعبد.

وإذا أراد الإنسان أن يقف يقيناً على مقدار ما في قلبه من المحبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فليعرض أقواله وأفعاله على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن وافقت الشرع المحمدي كان ذلك دليلاً على صدق المحبة، وإن خالفته دلَّ على أن دعوى المحبة كاذبة، ولو أن إنساناً مثلاً ادعى أنه بار بوالديه، محب لهما، ثم أمراه أو أحدهما بأمر هو هين عليه، وليس معصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فتلكّأ وعصى أمرهما ظهر لكل عاقل أن دعواه كاذبة، ويكون صادقاً إذا طابقت أعماله أقواله.

(4) في قوله (مما سواهما) شيئان، أحدهما: التعبير (بما) دون (من) والسر في ذلك: ليعم من يعقل ومن لا يعقل. والثاني: الضمير المثنى عائد إلى الله ورسوله، وهو يدل على جواز مثل هذه التثنية، ويستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم للخطيب الذي قال في خطبته (ومن يعصهما): ((بئس خطيب القوم أنت))، وأمره بأن يقول: ومن يعص الله ورسوله، أن ذلك ممنوع منه، ووجه الجمع بين الحديثين: أن الخطب يراد بها الإيضاح بخلاف ما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ. وقيل: إن تثنية الضمير هنا إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغية إذا لم ترتبط بالأخرى، فمن يدَّعي حب الله مثلاً ولا يحب رسوله لا ينفعه ذلك. أما أمر الخطيب بالإفراد فلأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية. وهناك وجوه أخرى ذكرها الحافظ ابن حجر في (الفتح)، وهذان الوجهان من أحسن ما قيل في الجمع بين الحديثين.


(5) قوله صلى الله عليه وسلم: ((أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)): قد دلَّ القرآن العزيز على ما ثبت في هذا الحديث مع الوعيد لمن أخل بذلك، وذلك في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{23} قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوه َا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ{24} }

(6) قوله (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله): وذلك من لوازم محبة الله تعالى، قال شارح الطحاوية: ((فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره، فغير الله يحب في الله لا مع الله، فإن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق لمحبوبه في كل حال، والله يحب المحسنين ويحب المتقين ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ونحن نحب من أحبه الله، والله لا يحب الخائنين، ولا يحب المفسدين، ولا يحب المستكبرين، ونحن لا نحبهم أيضاً، ونبغضهم موافقة له سبحانه وتعالى، فالمحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته. انتهى.

(7) قوله (وأن يكره أن يعود في الكفر): قال الحافظ ابن حجر: فإن قيل فلم عدى العود (بفي) ولم يعد (بإلى)؟ فالجواب: أنه ضمنه معنى الاستقرار، وكأنه قال: يستقر فيه، ومثله قوله تعالى: { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا }.

(8) قوله (وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)، وفي رواية آدم عند البخاري في (كتاب الأدب): ((وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه))، قال الحافظ ابن حجر: وهي أبلغ من لفظ حديث الباب، لأنه سوى فيه بين الأمرين، وهنا جعل الوقوع في نار الدنيا أولى من الكفر الذي أنقذه الله بالخروج منه من نار الأخرى.

(9) قوله في رواية آدم في (كتاب الأدب): (بعد إذ أنقذه الله منه): قال الحافظ في (الفتح): والإنقاذ أعم من أن يكون بالعصمة منه ابتداء بأن يولد على الإسلام ويستمر، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان كما وقع لكثير من الصحابة، وعلى الأول فيحمل قوله: يعود. على معنى الصيرورة بخلاف الثاني فإن العود فيه على ظاهره.

(10) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:

(1) وجوب تقديم محبة الله ورسوله على كل ما سواهما.

(2) أن للإيمان حلاوة يجدها من وجدت فيه الخصال الثلاث المذكورة في الحديث.

(3) أن من لوازم محبة الله: الحب في الله والبغض في الله.

(4) أن تمكن محبة الله في قلب المؤمن يقتضي كراهة الكفر بالله وأهله.

(5) أن الوقوع في نار الدنيا أحب إلى العبد المؤمن حقاً من العود في الكفر لأنه يؤدي إلى دخول نار الآخرة والخلود فيها.

(6) في الحديث إشارة إلى التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، فالخصلتان الأولى والثانية من الأول، والثالثة من الثاني.

(7) في الحديث دليل على أنه لا بأس في الجمع بين الله ورسوله في ضمير تثنية.

(8) التنفير من الكفر بالله والتحذير منه.

(9) استعمال التشبيه وضرب الأمثلة.

(10) في الحديث دليل على تفاضل الناس في الإيمان، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وذلك أن من وجدت فيه الخصال الثلاث وجد حلاوة الإيمان بخلاف غيره.

ابو وليد البحيرى
2018-12-10, 06:17 AM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (15)



حديث ( فقولوا: عبد الله ورسوله )


قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب أحاديث الأنبياء) من صحيحه:
حدثنا الحميدي حدثنا سفيان قال: سمعت الزهري يقول أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر:سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله).
المبحث الأول/ التخريج:
هذا الحديث أورده البخاري في باب قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ}مريم16، وأورده ضمن خطبة خطبها عمر رضي الله عنه وذلك في (كتاب المحاربين) في (باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت)، وسنده: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس، وسياق محل الشاهد منه قول عمر رضي الله عنه: ألا ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أُطري عيسى بن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله)، وهذا الحديث مما انفرد به البخاري عن مسلم.
وأخرجه الحميدي في مسنده عن سفيان بهذا الإسناد ومتنه: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده ورسوله). وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن هشيم عن الزهري، وعن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، وعن إسحاق بن عيسى الطباخ عن مالك بن أنس عن الزهري مطولاً، وعن سفيان بن عيينة عن الزهري، كلها عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهما، وسياق رواية سفيان: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبده ورسوله). وقد أشار الحافظ ابن كثير في تفسيره في آخر سورة النساء إلى أن عليّ بن المديني رواه عن سفيان بن عيينة عن الزهري بمثل رواية أحمد في مسنده وقال: وقال عليّ بن المديني: هذا حديث صحيح مسند. انتهى.
ورواه الدارمي في سننه في (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تطروني)، فقال: أخبرنا عثمان بن عمر حدثنا مالك عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما تطري النصارى عيسى بن مريم، ولكن قولوا: عبد الله ورسوله).
المبحث الثاني/ التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري الحميدي: قال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله بن الزبير بن عبد الله ابن حميد، وإليه ينسب أبو بكر الحميدي القرشي المكي، سمع سفيان بن عيينة، وكان من أثبت الناس فيه، وقال: جالسته تسع عشرة سنة أو نحوها، والوليد بن مسلم، ووكيعاً، ومروان بن معاوية، وبشر بن بكير. روى عنه البخاري في أول كتابه حديث: (الأعمال بالنيات) وغير موضع، وقال فيه الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب): ثقة، حافظ، فقيه، أجل أصحاب ابن عيينة، من العاشرة، مات سنة تسع عشرة ـ أي بعد المائتين وقيل بعدها ـ، قال الحاكم: كان البخاري إذا وجد الحديث عند الحميدي لا يعدوه إلى غيره. ورمز لكونه من رجال البخاري، وأبي داود، والنسائي، والترمذي، ومسلم في مقدمة صحيحه، وابن ماجه في التفسير.
وقال الحافظ في شرحه لأول حديث في صحيح البخاري: هو أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى منسوب إلى حميد بن أسامة ـ بطن من بني أسد ـ ابن عبد العزى بن قصي، رهط خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، يجتمع معها في أسد، ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي، وهو إمام كبير مصنف، رافق الشافعي في الطلب عن ابن عيينة وأخذ عنه الفقه، ورحل معه إلى مصر، ورجع بعد وفاته إلى مكة إلى أن مات بها سنة تسع عشرة ومائتين.
وفي (تهذيب التهذيب) لابن حجر قال أحمد: ((الحميدي عندنا إمام))، وقال أبو حاتم: ((هو أثبت الناس في ابن عيينة، وهو رئيس أصحابه، وهو ثقة إمام))، وقال يعقوب بن سفيان: ((حدثنا الحميدي، وما لقيت أنصح للإسلام وأهله منه))، وفيه غير ذلك من ثناء الأئمة عليه رحمه الله.
الثاني: سفيان ـ وهو ابن عيينة ـ: قال الحافظ في (تقريب التهذيب): سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي، أبو محمد الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ فقيه، إمام حجة إلا أنه تغير حفظه بآخره، وكان ربما دلس لكن عن الثقات، من رؤوس الطبقة الثامنة، وكان أثبت الناس في عمرو بن دينار، مات في رجب سنة ثمان وتسعين ـ أي بعد المائة ـ وله إحدى وتسعون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في شرحه لأول حديث في صحيح البخاري: هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي، أبو محمد المكي، أصله ومولده الكوفة، وقد شارك مالكاً في كثير من شيوخه وعاش بعده عشرين سنة، وكان يذكر أنه سمع من سبعين من التابعين.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): يكنى أبا محمد الهلالي، سكن مكة، وقيل: اسم جده أبي عمران ميمون، مولى بني عبد الله بن رويبة من بني هلال بن عامر، سمع الزهري، وعمرو بن دينار، وغير واحد من التابعين، وغيرهم عندهما ـ أي في الصحيحين ـ، وروى عنه أبو نعيم الفضل، وأبو الوليد الطيالسي، وعبد الله بن موسى، والحميدي، وعليّ بن المديني، وغيرهم عند البخاري، وسعيد بن منصور، وقتيبة، وبشر بن الحكم، ويحيى بن يحيى، وغير واحد عند مسلم.
وقال الذهبي في (الميزان): أحد الأثبات الأعلام، أجمعت الأمة على الاحتجاج به، وكان يدلس، لكن المعهود منه أنه لا يدلس إلاَّ عن ثقة، وكان قوى الحفظ، وما في أصحاب الزهري أصغر سناً منه، ومع هذا فهو من أثبتهم. ونقل عن ابن عمار عن يحيى القطان: أن ابن عيينة اختلط سنة سبع وتسعين ومائة، فمن سمع منه فيها فسماعه لا شيء، ثم ذكر الذهبي أنه سمع منه فيها محمد بن عاصم صاحب الجزء العالي، وقال: ويغلب على ظنّي أن سائر شيوخ الأئمة الستة سمعوا منه قبل سنة سبع، فأما سنة ثمان وتسعين ففيها مات ولم يلقه أحد فيها، لأنه توفي قبل قدوم الحاج بأربعة أشهر.
ونقل في (تهذيب التهذيب) الكثير من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قول ابن حبان في (الثقات): ((كان من الحفاظ المتقنين وأهل الورع والدين))، وقول اللالكائي: ((هو مستغن عن التزكية لتثبته وإتقانه، وأجمع الحفاظ أنه أثبت الناس في عمرو بن دينار))، وقول ابن مهدي: ((كان أعلم الناس بحديث أهل الحجاز))، وقول ابن وهب: ((ما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله من ابن عيينة))، وقال أبو مسلم المستملي: ((سمعت ابن عيينة يقول: سمعت من عمرو بن دينار ما لبث نوح في قومه)).
وذكر ابن حبان في مقدمة صحيحه أنه لا يحتج بأخبار الثقات العدول من المدلسين إلاَّ ما بينوا السماع فيما رووا، ثم قال: اللهم إلا أن يكون المدلس يعلم أنه ما دلس قط إلاَّ عن ثقة، فإذا كان كذلك قبلت روايته وإن لم يبين السماع، وهذا ليس في الدنيا إلاّ سفيان بن عيينة وحده فإنه كان يدلس، ولا يدلس إلاّ عن ثقة متقن، ولا يكاد يوجد لسفيان بن عيينة خبر دلس فيه إلاّ وجد ذلك الخبر بعينه قد بين سماعه عن ثقة مثل نفسه. انتهى.
الثالث: الزهري محمد بن مسلم بن شهاب: تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.
الرابع: عبيد الله بن عبد الله ـ وهو ابن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة ـ تقدم في رجال إسناد الحديث الثاني.
الخامس: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أحد العبادلة الأربعة من فقهاء الصحابة وتقدم في رجال إسناد الحديث الثاني، وأضيف هنا أن العبادلة الأربعة نظمهم السيوطي في ألفيته فقال:
والبـحـر وابنا عمر عُمرو ** وابن الزبير في اشتهار يجرى
دون ابن مسعود لهم عبادلة ** وغلطوا من غير هذا مال له

السادس: عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابي الجليل، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وثاني الخلفاء الراشدين، صاحب المناقب العظيمة، الذي لا يسلك فجاً إلاّ وهرب الشيطان من ذلك الفج بشهادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تقدم في رجال الحديث الثامن.

المبحث الثالث/ لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الإسناد الستة خرّج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلاّ شيخ البخاري فإن مسلماً لم يخرّج له في الصحيح، وروى له في المقدمة، وابن ماجه روى له في التفسير.
(2) شيخ البخاري وشيخ شيخه مكيان وبقية رجال الإسناد مدنيون.
(3) في الإسناد صحابيان وتابعيان، فالحديث من رواية صحابي عن صحابي وهو أيضاً من رواية تابعي عن تابعي.
(4) اجتمع في الإسناد أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهو: عبد الله بن عباس، وأحد الفقهاء السبعة من التابعين وهو: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود.
(5) اشتمل هذا الإسناد على أربع من صيغ الأداء وهي التحديث، والسماع، والإخبار، والعنعنة.
(6) هذا الإسناد مماثل في الجملة لإسناد أوّل حديث أخرجه البخاري في صحيحه وهو حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، فالصحابي فيهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وشيخ البخاري وشيخ شيخه فيهما الحميدي وسفيان بن عيينة.
(7) سفيان بن عيينة من المدلسين، وهو معروف بالتدليس عن الثقات خاصة، وقد تقدم قول ابن حبان فيه: ((وهذا يعني التدليس عن الثقات خاصة، ليس في الدنيا إلا سفيان بن عيينة وحده، فإنه كان يدلس ولا يدلس إلاّ عن ثقة متقن، ولا يكاد يوجد لسفيان بن عيينة خبر دلس فيه إلاّ وجد ذلك الخبر بعينه قد بين سماعه عن ثقة مثل نفسه)). انتهى. وهذا الحديث قد صرّح في روايته له بالسماع من الزهري في هذا الإسناد.
(8) ابن شهاب الزهري: وصفه الذهبي في (الميزان) بأنه يدلس نادراً، وقد صرّح بالإخبار في رواية هذا الحديث عن عبيد الله، فانتفى احتمال التدليس.
(9) شيخ البخاري اشتهر بالنسبة إلى جده حميد، ولهذا يذكره البخاري وغيره مقتصرين على النسبة، وقد اشتهر بهذه النسبة رجل آخر من رجال الحديث لكنه متأخر كثيراً عن هذا، وهو أبو عبد الله محمد بن فتوح بن عبد الله بن فتوح ابن حميد الحميدي الأندلسي، المتوفى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، مؤلف كتاب (الجمع بين الصحيحين) وكتاب (جذوة المقتبس) وغيرهما.
(10) سفيان بن عيينة: هو أحد السفيانين فيما إذا قيل في ترجمة رجل دونهما: روى عن السفيانين، أو رجل فوقهما روى عنه السفيانان، والثاني منهما سفيان الثوري وقد تقدم في رجال إسناد الحديث الثامن.


المبحث الرابع/ شرح الحديث:
(1) قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم): الإطراء: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه. والمعنى: لا تمدحوني بالباطل أو لا تجاوزوا الحد في مدحي فتغلوا كما غلت النصارى في عيسى فادعوا ألوهيته.
(2) قوله (فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله): أي صفوني بذلك كما وصفني به ربي وقولوا عبد الله ورسوله، وقد وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك في أشرف المقامات فقال في ذكر الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}الإس اء1، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ }الجن19، وقال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}النجم10، وقال: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}البقر 23، وبذلك استحق التقديم على الناس في الدنيا والآخرة، ولذلك يقول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام يوم القيامة إذا طلبوا منه الشفاعة بعد غيره من الأنبياء: (اذهبوا إلى محمد، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)، فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته لله تعالى، قاله شارح الطحاوية.
(3) قوله (كما أطرت النصارى ابن مريم): قد بين الله تعالى في كتابه العزيز ما كان عليه النصارى من الغلو، وحذرهم من ذلك، ومن ذلك قوله تعالى في سورة النساء: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً}النساء1 71.
(4) قوله (فقولوا: عبد الله ورسوله): جمع صلى الله عليه وسلم بين وصفه بكونه عبد الله ووصفه بكونه رسوله، دفعاً للإفراط والتفريط، دفعاً للإفراط والإطراء والغلو، لأنه عبد الله تعالى، ودفعاً للتقصير والتفريط بترك متابعته، وعدم الأخذ بسنته والسير على نهجه الذي أرسله الله به، ورحم الله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب إذ يقول: (عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب بل يطاع ويتبع). وهذا هو مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، فإن معناها كما قال رحمه الله: (طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع).
(5) لما كان أهل الكتاب بالنسبة لعيسى عليه الصلاة والسلام طرفي نقيض النصارى في جانب الإفراط، حيث غلوا فيه ورفعوه إلى المنـزلة التي لا يستحقها، والتي لا تليق إلاّ بالله وحده لا شريك له، وفي جانب التفريط أيضاً حيث حرّفوا وبدّلوا، خالفوا الشريعة التي جاء بها عيسى صلى الله عليه وسلم، وفي جانب التفريط أيضاً اليهود الذين يقتلون الأنبياء، وينتقصون عيسى صلى الله عليه وسلم ويصفونه وأمه بما هم برآء منه، لما كان أهل الكتاب في الطرفين المتناقضين، حذرنا الله من سلوك سبيلهم، وأمرنا في كل ركعة من ركعات الصلاة أن نسأله الهداية للصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير الطريق التي سلكها أعداؤه من المغضوب عليهم والضالين.
وقد جمع صلى الله عليه وسلم بينه وبين عيسى صلى الله عليه وسلم في وصف كل منهما بأنه عبد الله ورسوله حيث قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل). وسر الجمع بينهما عليهما الصلاة والسلام ووصفهما بكونهما عبدي الله ورسوليه، بيان أن عقيدة الإسلام في حق عيسى عليه الصلاة والسلام: أنه عبد الله ورسوله، فلا يغلى فيه غلو النصارى من جانب، ولا يقصر في حقه كما قصرت النصارى من جانب آخر، وكما جفت اليهود لعنة الله عليهم، وبيان أن الواجب في حق محمد صلى الله عليه وسلم وصفه بذلك وعدم الإفراط والتفريط، وأن وصفه بأنه عبد الله يقتضي اعتقاد أنه لا يستحق أن يصرف له شيء مما لا يستحقه إلاّ الله تعالى، ووصفه بأنه رسول الله يقتضي تصديقه في جميع ما يخبر به من أخبار في الماضي وفي المستقبل، وفي ما هو موجود غير مشاهد لنا، ويقتضي طاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه، وتقديم محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والوالد والولد والناس أجمعين، وأن لا يعبد الله إلاّ على وفق ما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه، هذه عقيدة المسلمين في عيسى عليه الصلاة والسلام وفي محمد صلى الله عليه وسلم، وسط بين طرفي الإفراط والتفريط. ولقد أحسن الشاعر إذ يقول:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ** كلا طرفي قصـد الأمــور ذميم

(6) قوله (لا تطروني...) الخ: هذا منه صلى الله عليه وسلم سد للذرائع التي تؤدي إلى الشرك بالله، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما من خير إلاّ دلّ الأمة عليه، وما من شر إلاّ حذرها منه، وكل ما كان الشيء أخطر كانت العناية به أعظم، فالشرك لما كان أعظم الذنوب وأظلم الظلم على الإطلاق، وهو الذنب الذي لا يغفره الله والذي حرم الله على صاحبه الجنة ومأواه النار، لما كان بهذه الخطورة حذّر منه صلى الله عليه وسلم غاية التحذير، ومنع من أي وسيلة تؤدي إليه، كما منع من إطرائه في هذا الحديث، لئلا يفضي ذلك إلى أعظم محذور، وكما لعن صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى في اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد وهو في شدة المرض الذي مات فيه، كل ذلك حماية منه صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد، وسد للطرق التي تنتهي إلى الشرك، فصلوات الله وسلامه الأتمّان الأكملان على البشير النذير والسراج المنير الذي أرشد الناس إلى كل خير، وحذرهم من كل شر.
(7) مدح الرسول صلى الله عليه وسلم منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم. فالمحمود هو أن يوصف بكل كمال يليق بالإنسان، فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس وأنصحهم وأخشاهم لله وأتقاهم، وأفصحهم لساناً وأقواهم بياناً، وأرجحهم عقلاً، وأكثرهم أدباً، وأوفرهم حلماً، وأكملهم قوة وشجاعة وشفقة، وأكرهم نفساً، وأعلاهم منـزلة، وكل وصف هو كمال في حق الإنسان فلسيد ولد آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ منه القسط الأكبر والحظ الأوفر، وكل وصف يعتبر نقصاً في الإنسان فهو أسلم الناس منه وأبعدهم عنه، فلقد اتصف بكل خلق كريم، وسلم من أدنى أي وصف ذميم، وحسبه شرفاً قول الله تعالى فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}القلم4، قد والله بلغ البلاغ المبين، وأدى الأمانة على أكمل وجه، ونصح للأمة غاية النصح، ببيان ليس وراءه بيان، ونصح يفوق نصح أي إنسان، فكل ثناء على سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم من هذا القبيل فهو حق مع الحذر من تجاوز الحد والخروج عن الحق، وما أحلى وأجمل وصفه صلى الله عليه وسلم بكونه عبد الله ورسوله تحقيقاً لرغبته عليه الصلاة والسلام وامتثالاً لأمره في قوله في هذا الحديث: (وقولوا عبد الله ورسوله).
والمدح المذموم هو الذي يتجاوز فيه الحد ويقع به المادح في المحذور الذي لا يرضاه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن يوصف صلى الله عليه وسلم بما لا يجوز أن يوصف به إلاَّ الله تبارك وتعالى، أو أن يصرف له صلى الله عليه وسلم ما لا يستحقه إلا الباري جل وعلا. ومن ذلك بعض الأبيات التي قالها البوصيري في البردة مثل قوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك عند حلول الحادث العمم

فهذا المعنى الذي اشتمل عليه هذا البيت لا يجوز أن يصرف لغير الله عزوجل، ولا يستحقه إلاّ هو وحده لا شريك له، فهو الذي يعاذ به ويلاذ به، ويلتجأ إليه، ويعتصم بحبله، ويعول عليه، وهو الذي قال صلى الله عليه وسلم مبينا تفضله وامتنانه على عباده، وأنه ما بهم من نعمة فمنه تفضلاً وامتناناً: " لن يدخل أحدكم بعمله الجنة "، قالوا: ولا أنت لا رسول الله؟ قال:" ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل "، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء كما قال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}ال مل62 أي: لا أحد سواه يكون كذلك لا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، فضلا عمن سواهما.وقال تعالى:{وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}يونس1 07، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ}الإسرا 67، وقال: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}الن ل53، والحاصل أن المدح الذي اشتمل عليه هذا البيت مدح بالباطل الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون حقاً لو قال منادياً ربه:
يا خالق الخلق ما لي مَن ألوذ به ** سواك عند حلول الحادث العمم

ومثل قوله أيضاً يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ** ومن علومك علم اللوح والقلم

وهذا لا يليق إلاّ بمن بيده ملكوت كل شيء سبحانه وتعالى، فهو القائل عن نفسه: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}النحل53، والقائل عنه نبيه صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك) الحديث، فهو وحده الذي من جوده الدنيا والآخرة، وهو وحده الذي من علمه علم اللوح والقلم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو لا يملك إلاّ ما أعطاه الله، ولا يعلم من الغيب إلاّ ما أطلعه عليه، وقد أمره الله أن يقول: {لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}الأنع م50.
وقال له: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً}الجن21، وثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} لشعراء214، قال: (يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف لا أغنى عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سليني ما شئت من مالي، لا أغنى عنك من الله شيئاً).
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره قال: (لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك) الحديث.
(8) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
(1) نشر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإعلانها على المنابر.
(2) كمال نصح الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته وبلاغه البلاغ المبين.
(3) سد الذرائع التي تؤدي إلى الشرك.
(4) بيان ما وقع فيه النصارى من الغلو في عيسى عليه الصلاة والسلام.
(5) تحذير هذه الأمة أن تقع فيما وقعت فيه النصارى.
(6) الجمع بين الأمر والنهي، وأن على المفتي إذا أرشد إلى المنع من محذور أن يدل على مأمور به هو خير.
(7) وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه عبد الله ورسوله امتثالاً لأمره.
(8) الإشارة في الجمع بين وصفه بكونه عبد الله ووصفه بكونه رسوله إلى دفع الإفراط والتفريط.
(9) بيان أنه صلى الله عليه وسلم لا يخرج عن أن يكون عبدًا لله تعالى حيث قال: " إنما أنا عبده ".

ابو وليد البحيرى
2018-12-18, 04:07 AM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (16)



حديث: ( حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً )


قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب الرقاق) من صحيحه:
حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام حدثنا قتادة حدثنا أنس بن مالك عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل فقال:" يا معاذ "، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: " يا معاذ "، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال:" يا معاذ بن جبل "، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: " هل تدري ما حق الله على عباده "؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال:" حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً "، ثم سار ساعة ثم قال:" يا معاذ بن جبل "، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال:" هل تدري ماحق العباد على الله إذا فعلوه "؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال:" حق العباد على الله أن لا يعذبهم ".


المبحث الأول/ التخريج:
أورد البخاري في صحيحه هذا الحديث في خمسة مواضع هذا أحدها في (باب من جاهد نفسه في طاعة الله)، والثاني في (كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار)، ولفظه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم سمع يحيى بن آدم حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن معاذ رضي الله عنه قال: ((كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، فقال: يا معاذ هل تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً. فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا)). والثالث في (كتاب اللباس، باب إرداف الرجل خلف الرجل) وسياق سنده ومتنه مماثل تماماً لما في (باب من جاهد نفسه في طاعة الله) إلاّ أنه بدون حرف النداء في الجملة الأولى أي: قال معاذ مجيباً النبي صلى الله عليه وسلم: (لبيك رسول الله وسعديك). والرابع في (كتاب الاستئذان، باب من أجاب بلبيك وسعديك) ولفظه: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا همام عن قتادة عن أنس عن معاذ قال: ((أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا معاذ، قلت: لبيك وسعديك، ثم قال مثله ثلاثاً: هل تدري ما حق الله على العباد؟ قلت: لا، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار ساعة فقال: يا معاذ، قلت: لبيك وسعديك، قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم)). حدثنا هدبة حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس عن معاذ بهذا. والخامس في (كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى) ولفظه: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي حصين والأشعث بن سليم سمعاً الأسود بن هلال عن معاذ بن جبل قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. أتدري ما حقهم عليه؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم)).
وأخرجه مسلم في (كتاب الإيمان) من صحيحه عن شيخه هداب بن خالد الأزدي بمثل إسناده ومتنه عند البخاري في (كتاب اللباس)، ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي الأحوص بمثل إسناده ومتنه عند البخاري في (كتاب الجهاد)، ورواه عن محمد بن المثنى وابن بشار عن محمد بن جعفر بمثل إسناده ونحو متنه عند البخاري في (كتاب التوحيد)، ورواه عن شيخه القاسم بن زكريا عن حسين عن زائدة عن أبي حصين بنحو حديث شيوخه المذكورين.
وروى أبو داود في سننه في (كتاب الجهاد، باب في الرجل يسمي دابته) عن شيخه هناد بن السري بإسناده إلى معاذ قوله: ((كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له: عفير)).
وأخرجه الترمذي في آخر (كتاب الإيمان) من جامعه فقال: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، قال: أتدري ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم))، هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن معاذ بن جبل.

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري هدبة بن خالد: قال الحافظ ابن حجر في (التقريب): هدبة ـ بضم أوله وسكون الدال بعدها موحدة ـ بن خالد بن الأسود القيسي، أبو خالد البصري، ويقال له: هدّاب ـ بالتثقيل وفتح أوله ـ ثقة عابد، تفرد النسائي بتليينه، من صغار التاسعة، مات سنة بضع وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال الشيخين وأبي داود.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): هدبة بن خالد بن الأسود بن هدبة، أبو خالد القيسي، البصري، أخو أمية، ويقال: هدّاب، سمع هماماً عندهما ـ أي في الصحيحين ـ وحماد بن سلمة، وسليمان بن المغيرة عند مسلم. روى عنه البخاري، ومسلم، مات سنة ست أو سبع أو ثمان وقيل خمس وثلاثين ومائتين. انتهى.
ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن ابن معين ومسلمة بن القاسم. وقال الذهبي في (الميزان): هدبة بن خالد القيسي البصري، ولقبه هدّاب، ثقة عالم، صاحب حديث ومعرفة، وعلو إسناد، شهد جنازة شعبة، وروى عن جرير بن حازم، وحماد بن سلمة، وأبان بن يزيد. وعنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والفريابي، وأبو يعلى، والبغوي، والناس. وثقه ابن معين وغيره، وقال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن عدي بعد أن ذكره في (الكامل): لا أعرف له حديثاً منكراً. وأما النسائي فقال: ضعيف، وقواه مرة أخرى. وقال عبدان الأهوازي: كنا لا نصلي خلف هدبة من طول صلاته، يسبح في السجود نيفاً وثلاثين تسبيحة، وكان أشبه خلق الله بهشام بن عمار، لحيته ووجهه وكل شيء منه حتى صلاته، توفى سنة خمس وثلاثين ومائتين.
وقال الحافظ في مقدمة الفتح بعد ذكر تضعيف النسائي له: قلت: لعله ضعفه في شيء خاص، وقد أكثر عنه مسلم، ولم يخرج عنه البخاري سوى أحاديث يسيرة من روايته عن همام. انتهى.
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: وقد ذكره مسلم في مواضع من الكتاب يقول في بعضها هدبة وفي بعضها هدّاب، واتفقوا على أن أحدهما اسم والآخر لقب، ثم اختلفوا في الاسم منهما فذكر الخلاف، وقال: وذكره البخاري في تاريخه فقال هدبة بن خالد، ولم يذكره هداباً، فظاهره أنه اختار أن هدبة هو الاسم، والبخاري أعرف من غيره، فإنه شيخ البخاري ومسلم ـ رحمهم الله أجمعين ـ والله أعلم. انتهى.
الثاني: همام ـ وهو ابن يحيى الأزدي البصري ـ تقدم في رجال إسناد الحديث السابع.
الثالث: قتادة ـ وهو ابن دعامة بن قتادة السدوسي البصري ـ تقدم في رجال إسناد الحديث الثالث عشر.
الرابع: أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه، تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.
الخامس: صحابي الحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: قال الحافظ ابن حجر في (التقريب): معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن، من أعيان الصحابة، شهد بدراً وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن، مات بالشام سنة ثمان عشرة، مشهور، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.
وقال الخزرجي في (الخلاصة): أبو عبد الرحمن المدني، أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة وشهد بدراً والمشاهد، له مائة وسبعة وخمسون حديثاً، اتفقا ـ أي البخاري ومسلم ـ على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث.
وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح: أن له عند البخاري ستة أحاديث. وقال الحافظ في ترجمته في (الإصابة): الإمام المقدم في علم الحلال والحرام، وقال: شهد بدراً وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وأمّره النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، والحديث بذلك في الصحيح من رواية ابن عباس عنه، وقال: وفي سنن أبي داود عن معاذ بن جبل قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأحبك...)) الحديث في القول بعد كل صلاة، وعده أنس بن مالك فيمن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الصحيح. وفيه عن عبد الله بن عمرو رفعه: ((اقرؤوا القرآن من أربعة...)) فذكره فيهم، وقال: وقال أبو نعيم في (الحلية): ((إمام الفقهاء، وكنـز العلماء، شهد العقبة وبدراً والمشاهد، كان من أفضل شباب الأنصار حلماً وحياء وسخاء، وكان جميلاً وسيماً)).
وقال الحافظ ابن حجر أيضاً: وفي حديث أبي قلابة عن أنس عند الترمذي وغيره في ذكر بعض الصحابة مرفوعاً: ((وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ))، وفي مرسل أبي عون الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يأتي معاذ يوم القيامة أمام الناس برتوة))، أخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه، وأورده ابن عساكر من طريق عن محمد بن الخطاب، وقال: ومناقبه كثيرة جداً، وقدم من اليمن في خلافة أبي بكر، وكان وفاته بالطاعون في الشام سنة سبع عشرة أو التي بعدها وهو قول الأكثر، وعاش أربعاً وثلاثين سنة، وقيل غير ذلك. انتهى.

المبحث الثالث/ لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الإسناد الستة خرّج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلاّ شيخ البخاري فلم يرو له مع البخاري سوى مسلم وأبي داود.
(2) رجال الإسناد كلهم بصريون إلاّ معاذ بن جبل رضي الله عنه فإنه مدني.
(3) في الإسناد صحابيان: معاذ بن جبل وأنس بن مالك رضي الله عنهما، فالحديث من رواية صحابي عن صحابي.
(4) صيغة الأداء في الإسناد التحديث إلاّ في رواية أنس عن معاذ رضي الله عنهما فهي العنعنة.
(5) قتادة من المعروفين بالتدليس، وقد صرّح في هذا الإسناد بالتحديث، فأمن بذلك احتمال تدليسه.
(6) قال الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر): ومن المهم معرفة من وافقت كنيته اسم أبيه، وفي هذا الإسناد شاهد لذلك فهدبة شيخ البخاري كنيته أبو خالد واسم أبيه خالد.
(7) معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلاّ آخرة الرحل. ومثل هذا من الصيغ التي يستدل بها على أن الراوي قد ضبط ما رواه، قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) في شرح قوله: (ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل). وفائدة ذكره المبالغة في شدة قربه ليكون أوقع في نفس سامعه أنه ضبط ما رواه.
(8) معاذ بن جبل رضي الله عنه رديف النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث، ومن الأمور اللطيفة التي تدل على عناية سلف هذه الأمة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً وتقريراً، ما ذكره الحافظ ابن حجر في (الفتح) عن ابن منده حيث قال في شرحه لهذا الحديث في (كتاب اللباس): وقد أفرد ابن منده أسماء من أردفه النبي صلى الله عليه وسلم خلفه فبلغوا ثلاثين نفساً.
(9) قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: تنبيه. هذا من الأحاديث التي أخرجها البخاري في ثلاثة مواضع عن شيخ واحد بسند واحد، وهي قليلة في كتابه جداً ولكنه أضاف إليه في (الاستئذان) موسى بن إسماعيل، وقد تتبع بعض من لقيناه ما أخرجه في موضعين بسند، فبلغ عدتها زيادة على العشرين، وفي بعضها يتصرف في المتن بالاختصار منه. انتهى.
وقد مرّ في لطائف إسناد الحديث التاسع وهو قول جرير رضي الله عنه: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم))، أنه منها ومنها أيضاً حديث حذيفة رضي الله عنه: ((نزلت الأمانة في جذر قلوب الرجال))، الحديث. أورده البخاري في (كتاب الرقاق) وفي (كتاب الفتن) بإسناد واحد مع الاتفاق في المتن أيضاً، وتقدم في المقدمة ما ذكره صاحب (كشف الظنون): أن التي ذكرها البخاري سنداً ومتناً معاداً، ثلاثة وعشرون حديثاً.

المبحث الرابع/ شرح الحديث:
(1) هذا الحديث أول حديث أورده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد)، وذلك لاشتمال هذا الحديث بوضوح على بيان حق الله على عباده، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ((حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً))، وهذا الحق الذي بينه الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث، مشتمل على النفي والإثبات الذي اشتملت عليه (لا إله إلا الله)، فإن قوله (أن يعبدوه) إثبات، وقوله (ولا يشركوا به شيئاً) نفي، والمراد بذلك نفى جميع أنواع العبادة عن كل ما سواه، وإثباتها لله وحده لا شريك له، فكما أنه سبحانه وتعالى المنفرد بالخلق والإيجاد والإحياء والإماتة، فيجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له، وهذا النفي والإثبات الذي اشتملت عليه هذه الجملة التي بين بها الرسول الكريم ـ عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ حق الله على عباده، جاء في آيات كثيرة، أورد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه المذكور كثيراً منها قبيل إيراد هذا الحديث ومنها قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}الن ل36، فقوله:{أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ}، إثبات وهو بمعنى: إلا الله، وقوله: {وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}نفي وهو بمعنى: لا إله، فتحصل من النفي والإثبات معنى ( لا إله إلا الله ) التي هي كلمة الإخلاص، ومنها قوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}الإسرا 23 الآية، فهي بمعنى (لا إله إلا الله)، ومنها قوله تعالى:{وَاعْبُدُ واْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً}النساء36 فجملة الأمر إثبات، وجملة النهي نفي، فهي بمعنى (لا إله إلا الله)، وتنكير (شيئاً) لإفادة عدم الإشراك به أي شيء كان، وأن يخص بالعبادة وحده لا شريك له، ومنها قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئا}الأنعام151 الآية، أي: أن تخصوه بالعبادة وحده دون أن تجعلوا له شريكاً في شيء منها، وختمت هذه الآيات بقوله تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}الأنع م153، فقوله: {فَاتَّبِعُوهُ} إثبات،{وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ} نهي مؤداه النفي، فهي بمعنى: (لا إله إلا الله)، أما الآية التي افتتح بها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ذلك المؤلَّف العظيم في توحيد الله تعالى فهي قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}ا ذاريات56، وقد اشتملت على بيان الحكمة في خلق الثقلين الجن والإنس، وهي أن يعبدوا الله وحده ويخصوه بجميع أنواع العبادة، ولا يصرفوا لغيره شيئاً منها.
(2) قوله (بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم): قال الحافظ في (الفتح): الردف والرديف: الراكب خلف الراكب بإذنه، وردف كل شيء مؤخره، وأصله الركوب على الردف وهو العجز، ولهذا قيل للراكب الأصلي: ركب صدر الدابة، وردفت الرجل إذا ركبت وراءه، وأردفته إذا أركبته وراءك.
(3) قوله: (ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل): قال الحافظ في (الفتح): الرحل للبعير كالسرج للفرس، وآخرة ـ بالمد وكسر المعجمة بعدها راء ـ هي العود الذي جعل خلف الراكب يستند إليه، وفائدة ذكره المبالغة في شدة قربه ليكون أوقع في نفس سامعه أنه ضبط ما رواه. وقال الحافظ: ووقع في رواية عمرو بن ميمون عن معاذ: ((كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له: عفير))، ووقع عند أحمد من رواية عبد الرحمن بن غنم عن معاذ: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على حمار يقال له: يعفور رسنه من ليف))، قال: ويمكن الجمع بأن المراد بآخرة الرحل: موضع آخرة الرحل للتصريح هنا بكونه كان على حمار، وإلى ذلك أشار النووي، ومشى ابن الصلاح على أنهما قضيتان. انتهى.
(4) قوله (لبيك): المراد به إجابة بعد إجابة، أو إجابة لازمة. قاله الحافظ ابن حجر في (الفتح). وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: والأظهر أن معناها: إجابة لك بعد إجابة للتأكيد.
(5) قوله (وسعديك): قال النووي: ومعنى سعديك، أي ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة، وقال ابن هشام في (أوضح المسالك): (وسعديك) بمعنى إسعاداً لك بعد إسعاد. وقال في (باب الإضافة) بعد أن قسم المضاف إلى المضمر إلى قسمين وذكر ما يضاف إلى كل مضمر وهو (وحد) قال: وما يختص بضمير المخاطب وهو مصادر مثناة لفظاً ومعناها: التكرار، وهي لبيك بمعنى إقامة على إجابتك بعد إقامة، وسعديك بمعنى إسعاداً لك بعد إسعاد، ولا تستعمل إلاّ بعد لبيك. انتهى. ثم ذكر ألفاظاً أخرى تختص بالإضافة إلى ضمير المخاطب أيضاً.

وقال الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه في (كتاب العلم) من صحيح البخاري قوله (قال: لبيك يا رسول الله وسعديك): اللب ـ بفتح اللام ـ معناه هنا: الإجابة والسعد المساعدة، كأنه قال: لباً لك وإسعاداً لك، ولكنهما ثنيا على معنى التأكيد والتكثير، أي إجابة بعد إجابة، وإسعاداً بعد إسعاد. انتهى.
(6) قوله (هل تدري ما حق الله على العباد؟): قال الحافظ في (الفتح): ((الحق كل موجود متحقق أو ما سيوجد لا محالة، ويقال للكلام الصدق حق، لأن وقوعه متحقق لا تردد فيه، وكذا الحق المستحق على الغير إذا كان لا تردد فيه، والمراد هنا: ما يستحقه الله على عباده مما جعله محتماً عليهم)). قاله ابن التيمي في (التحرير). وقال القرطبي: ((حق الله على عباده هو ما وعدهم به من الثواب وألزمهم إياه بخطابه)).
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه (تيسير العزيز الحميد): قوله (أتدري ما حق الله على العباد): الدراية هي المعرفة، وأخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم، فإن الإنسان إذا سئل عن مسألة لا يعلمها ثم أخبر بها بعد الامتحان بالسؤال عنها، فإن ذلك أدعى لفهمها وحفظها، وهذا من حسن إرشاده وتعليمه صلى الله عليه وسلم.
(7) قوله (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)، قال الحافظ في (الفتح): المراد بالعبادة: عمل الطاعة واجتناب المعاصي، وعطف عليها عدم الشرك لأنه تمام التوحيد، والحكمة في عطفه على العبادة، أن بعض الكفرة كانوا يدعون أنهم يعبدون الله ولكنهم كانوا يعبدون آلهة أخرى فاشترط نفي ذلك، والجملة حالية والتقدير: يعبدونه في حال عدم الإشراك به. قال ابن حبان: عبادة الله: إقرار باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح، ولهذا قال في الجواب: فما حق العباد إذا فعلوا ذلك فعبر بالفعل ولم يعبر بالقول.
(8) قوله (هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟) أي: إذا فعلوا حقه تعالى فالضمير يرجع إلى قوله (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً).
(9) قوله (حق العباد على الله أن لا يعذبهم) قال الحافظ في (الفتح): قال القرطبي: ((حق العباد على الله ما وعدهم به من الثواب والجزاء فحق ذلك ووجب بحكم وعده الصدق وقوله الحق الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر ولا الخلف في الوعد)).
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في (تيسير العزيز الحميد): وحق العباد على الله معناه: أنه متحقق لا محالة، لأنه قد وعدهم ذلك جزاء على توحيده، ووعده حق إن الله لا يخلف الميعاد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في (تيسير العزيز الحميد): ((كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل، ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول لا معنى للاستحقاق إلاّ أنه أخبر بذلك ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقاً زائداً على هذا، كما دلَّ عليه الكتاب والسنة قال تعالى:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} لروم47، ولكن أهل السنة يقولون هو الذي كتب على نفسه الرحمة، وأوجب هذا الحق على نفسه لم يوجبه عليه مخلوق، والمعتزلة يدعون أنه أوجب عليه بالقياس على الخلق، وأن العباد هم الذين أطاعوه دون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك)). انتهى.
(10) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
(1) بيان حق الله على عباده.
(2) بيان حق العباد على الله إذا أدّوا حقه.
(3) جواز الإرداف على الدابة إذا كانت مطيقة.
(4) فضل معاذ بن جبل رضي الله عنه.
(5) تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الدواب مع الإرداف عليها.
(6) الإرشاد إلى الطريقة المفيدة في التعليم، وهي إخراج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أبلغ في النفس وأوقع في فهم المتعلم.
(7) تكرار السؤال لتأكيد الاهتمام بما يخبر به المعلم.
(8) حسن أدب معاذ بن جبل رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(9) أن على المسؤول إذا سئل عن شيء لا يعلمه، أن يكل العلم إلى عالمه وهو أولى من قوله: لا أدري، لأن قوله (الله أعلم) يفيد ما يفيده لا أدري مع اشتماله على الثناء على الله سبحانه.

ابو وليد البحيرى
2018-12-23, 08:05 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (17)



حديث: ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )



قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب الأيمان والنذور) من صحيحه:

حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب ـ وهو يسير في ركب يحلف بأبيه ـ فقال: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).



المبحث الأول/ التخريج:

أورد البخاري هذا الحديث في خمسة مواضع من صحيحه هذا أحدها في (باب "لا تحلفوا بآبائكم")، والثاني في (كتاب الشهادات، باب كيف يستحلف؟) ولفظه: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جويرية قال: ذكر نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، والثالث في (كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية) ولفظه: حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا من كان حالفاً فلا يحلف إلاّ بالله، فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: لا تحلفوا بآبائكم)، والرابع في (كتاب الأدب) في (باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأوّلاً أو جاهلاً) ولفظه: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله وإلاّ فليصمت). والخامس في (كتاب التوحيد، باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها) ولفظه: حدثنا أبو نعيم حدثنا ورقاء عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف بالله).

ورواه مسلم عن تسعة من مشايخه بأسانيده إلى نافع بمثل رواية البخاري في (كتاب الأدب)، ورواه عن أربعة من مشايخه عن إسماعيل عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر بمثل رواية البخاري في (أيام الجاهلية).

ورواه الترمذي في جامعه في (كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله) ولفظه: حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه سمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر وهو يقول: وأبي وأبي فقال: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، فقال عمر: فو الله ما حلفت به بعد ذلك ذاكراً ولا آثراً. قال: وفي الباب: عن ثابت بن الضحاك، وابن عباس، وأبي هريرة، وقتيلة، وعبد الرحمن بن سمرة.

قال أبو عيسى: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح. قال أبو عيسى: قال أبو عبيد: معنى قوله (ولا آثراً) أي: لم آثره عن غيري، يقول: لم أذكره عن غيري. حدثنا هناد حدثنا عبدة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر وهو في ركب وهو يحلف بأبيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ليحلف حالف بالله أو ليسكت)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه النسائي في (باب التشديد في الحلف بغير الله تعالى) فقال: أخبرنا عليّ بن حجر عن إسماعيل ـ وهو ابن جعفر ـ قال حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله، وكانت قريش تحلف بآبائها، فقال: لا تحلفوا بآبائكم)، أخبرني زياد بن أيوب قال حدثنا ابن علية قال حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال حدثني رجل من بني غفار في مجلس سالم بن عبد الله قال سالم بن عبد الله: سمعت عبد الله ـ يعني ابن عمر ـ وهو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، ورواه في (باب الحلف بالآباء) عن شيخيه عبيد الله بن سعيد، وقتيبة بن سعيد بمثل رواية قتيبة بن سعيد عند الترمذي.

ورواه ابن ماجه في (كتاب الكفارات، باب من حلف له بالله فليرض) ولفظه: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة حدثنا أسباط بن محمد عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يحلف بأبيه فقال: (لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض بالله فليس من الله).

ورواه مالك في (الموطأ) عن نافع عن ابن عمر ومتنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).

ورواه البخاري في صحيحه عن سعيد بن عفير بسنده إلى سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر عن عمر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، قال عمر: فو الله ما حلفت بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذاكراً ولا آثراً. وروى نحوه النسائي وابن ماجه.

وللحديث شواهد كثيرة منها: ما رواه النسائي وأبو داود بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون).

وقال الحافظ في (الفتح): ووقع في (مصنف ابن أبي شيبة) من طريق عكرمة قال: قال عمر: حدثت قوماً فقلت: لا وأبي، فقال رجل من خلفي: (لا تحلفوا بآبائكم)، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك والمسيح خير من آبائكم)، قال الحافظ: وهذا مرسل يتقوى بشواهده.

ومنها ما رواه الترمذي في جامعه حيث قال: حدثنا قتيبة حدثنا أبو خالد الأحمر عن الحسن بن عبيد الله عن سعد بن عبيدة أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا يحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وفسر هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله (فقد كفر أو أشرك) على التغليظ، والحجة في ذلك حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر يقول: وأبي وأبي فقال: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال في حلفه:واللات والعزى فليقل:لا إله إلا الله)، قال أبو عيسى: هذا مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرياء شرك)، وقد فسر بعض أهل العلم هذه الآية: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}الكهف110 الآية، قال: لا يرائي.

ورواه أبو داود في سننه فقال: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن إدريس قال: سمعت الحسن بن عبيد الله عن سعد بن عبيدة قال: سمع ابن عمر رجلاً يحلف والكعبة فقال له ابن عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد أشرك).



المبحث الثاني/ التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ البخاري عبد الله مسلمة ـ وهو القعنبي ـ: قال الحافظ ابن حجر في (التقريب): عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي الحارثي، أبو عبد الرحمن البصري، أصله من المدينة وسكنها مدة، ثقة عابد، كان ابن معين وابن المديني لا يقدمان عليه في الموطأ أحداً، من صغار التاسعة، مات في أول سنة إحدى وعشرين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى ابن ماجه.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي التيمي المدني، سكن البصرة، يكنى أبا عبد الرحمن، سمع مالك بن أنس، وإبراهيم بن سعد، وغير واحد. روى عنه البخاري ومسلم وأكثرا. انتهى.

ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيقه والثناء عليه، ومن ذلك: قول عبد الله بن داود الخريبي: ((حدثني القعنبي عن مالك، وهو والله عندي خير من مالك))، وقول ابن سعد: ((كان عابداً فاضلاً، قرأ عن مالك كتبه))، وقول العجلي: ((بصري ثقة، رجل صالح، قرأ مالك عليه نصف الموطأ، وقرأ هو على مالك النصف الباقي))، وقول ابن زرعة: ((ما كتبت عن أحد أجل في عيني منه))، وقول الحنيني: ((كنا عند مالك فقيل: قدم القعنبي، فقال مالك: قوموا بنا إلى خير أهل الأرض)). انتهى. وقال الذهبي في (العبر): ((وهو أوثق من روى الموطأ)).

الثاني: مالك ـ وهو ابن أنس ـ: قال الحافظ في (التقريب): مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي، أبو عبد الله المدني، الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبتين، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر، من السابعة، مات سنة تسع وسبعين ـ أي بعد المائة ـ وكان مولده سنة ثلاث وتسعين. وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. ونقل في (تهذيب التهذيب) الكثير من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك: قول ابن عيينة: ((ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بشأنهم))، وقول الشافعي: ((مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين)). وقول النسائي: ((ما عندي بعد التابعين أنبل من مالك، ولا أجل منه، ولا أوثق، ولا آمن على الحديث منه، ولا أقل رواية عن الضعفاء، ما علمناه حدث عن متروك إلا عبد الكريم)). وقول ابن حبان في (الثقات): ((كان مالك أول من انتقى الرجال من الفقهاء بالمدينة، وأعرض عمن ليس بثقة في الحديث، ولم يكن يروي إلا ما صح، ولا يحدث إلا عن ثقة مع الفقه والدين، والفضل والنسك، وبه تخرج الشافعي)). وقول ابن مهدي: ((ما رأيت رجلاً أعقل من مالك))، ثم قال في ختام ترجمته: ومناقبه كثيرة جداً لا يحتمل هذا المختصر استيعابها، وقد أفردت بالتصنيف. وقال الذهبي في (العبر): قال معن القزاز وجماعة: ((حملت بمالك أمه ثلاث سنين))، وقال: قال ابن عيينة ـ وبلغه موت مالك ـ: ((ما ترك على ظهر الأرض مثله))، وترجم له في (تذكرة الحفاظ) وقال: قد كنت أفردت ترجمة مالك في جزء وطولتها في تاريخي الكبير. انتهى.

الثالث: نافع مولى عبد الله بن عمر: قال الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب): نافع أبو عبد الله المدني، مولى ابن عمر، ثقة ثبت فقيه مشهور، من الثالثة، مات سنة سبع عشر ومائة أو بعد ذلك، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): نافع الفقيه مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدني، أصابه ابن عمر في بعض مغازيه، ونقل توثيق الأئمة له وثناءهم عليه، ومن ذلك قول البخاري: ((أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر)). وقول مالك: ((كنت إذا سمعت من نافع يحدث عن ابن عمر لا أبالي أن لا أسمعه من غيره)). وقول الخليلي: ((نافع من أئمة التابعين بالمدينة، إمام في العلم، متفق عليه، صحيح الرواية، منهم من يقدمه على سالم ومنهم من يقارنه به، ولا يعرف له خطأ في جميع ما رواه)).

الرابع: صحابي الحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمن، ولد بعد المبعث بيسير، واستصغر يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وهو أحد المكثرين من الصحابة والعبادلة، وكان من أشد الناس اتباعاً للأثر، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو أول التي بعدها، ورمز لكونه حديثه في الكتب الستة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): له ألف (1) وستمائة حديث وثلاثون حديثاً، اتفقا ـ أي البخاري ومسلم ـ على مائة وسبعين، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين. وذكر الحافظ في مقدمة الفتح: أن له عند البخاري مائتين وسبعين حديثاً. وقال ابن كثير في ترجمته في (البداية والنهاية): أبو عبد الرحمن المكي ثم المدني، أسلم قديماً مع أبيه ولم يبلغ الحلم، وهاجرا وعمره عشر سنين، وقد استصغر يوم أحد، فلما كان يوم الخندق أجازه وهو ابن خمس عشرة سنة، فشهدها وما بعدها، وهو شقيق حفصة بنت عمر أم المؤمنين أمهما زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون، وذكر كثيراً من أخلاقه الفاضلة وسجاياه الحميدة رضي الله عنه وعن أبيه وأخته وسائر الصحابة أجمعين.



المبحث الثالث/ لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسناد الأربعة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم ما عدا شيخ البخاري عبد الله بن مسلمة القعنبي فلم يرو له ابن ماجه.

(2) رجال الإسناد الأربعة مدنيون، وابن عمر رضي الله عنه مكي ثم مدني، وشيخ البخاري مدني ثم بصري.

(3) رجال الإسناد الأربعة: كنية اثنين منهم أبو عبد الله وهما: مالك بن أنس وشيخه نافع مولى ابن عمر، وكنية اثنين منهم أبو عبد الرحمن وهما: ابن عمر رضي الله عنه، وعبد الله بن مسلمة القعنبي.

(4) نافع هو مولى عبد الله بن عمر من أسفل، وعبد الله مولى نافع من أعلى، فالحديث من رواية مولى من أسفل عن مولى من أعلى.

(5) هذا الإسناد مشتمل على السلسلة التي وصفها البخاري بأنها أصح الأسانيد على الإطلاق وهي: رواية مالك عن نافع عن ابن عمر. ويقال لها: السلسلة الذهبية. وفي (تهذيب التهذيب): قال محمد بن إسحاق الثقفي: سئل محمد بن إسماعيل عن أصح الأسانيد فقال: مالك عن نافع عن ابن عمر.

(6) صيغ الأداء في جميع الإسناد (عن) إلا في رواية البخاري عن شيخه فهي التحديث. ويسمى مثل ذلك الإسناد المعنعن. والحكم في الإسناد المعنعن حمله على السماع متى كان الذي روى بالعنعنة سالماً من التدليس، أما إذا كان مدلساً فالحكم فيه التوقف لأنه يحتمل السماع، ويحتمل أن هناك واسطة بينه وبين من روى عنه بالعنعنة، فإن صرح بالسماع قبل وزال احتمال التدليس.

(7) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة في الصحابة وسبقت الإشارة إليهم في إسناد الحديث الثاني، وهو أحد المكثرين فيهم من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي في الدرجة التالية بعد أبي هريرة رضي الله عنه.

(8) شيخ البخاري مشتهر باسمه ونسبته فيقال له عبد الله بن مسلمة، ويقال له القعنبي، وليس في رجال الكتب الستة من اسم أبيه مسلمة ممن يسمى عبد الله سواه.



المبحث الرابع/ شرح الحديث:

(1) قوله (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم): ورد النهى عن الحلف بغير الله على صيغ مختلفة هذا أحدها.

ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم).

ومنها قوله: (ألا من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله).

ومنها قوله: (لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلاّ بالله، ولا تحلفوا إلاّ وأنتم صادقون).

ومنها قول ابن عمر رضي الله عنهما: (لا يُحلف بغير الله، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك").

(2) قوله (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت): قال في (الفتح): قال العلماء: السر في النهى عن الحلف بغير الله، أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، وظاهر الحديث تخصيص الحلف بالله خاصة لكن قد اتفق الفقهاء أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته العلية، وقال: وكأن المراد بقوله (بالله) الذات لا خصوص لفظ الله.

(3) السر في التنصيص على الآباء في منع الحلف بهم مع أن الحكم شامل لهم ولغيرهم أن الحلف بالآباء هو سبب الحديث، ولكونه عادة جاهلية كما في رواية البخاري في (باب أيام الجاهلية) ولفظه: (ألا من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله، فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: لا تحلفوا بآبائكم).

(4) النهي عن الحلف بغير الله لا يعارضه ما ورد في القرآن من إقسامه تعالى ببعض مخلوقاته، فذاك خاص به سبحانه، فهو سبحانه يقسم في كتابه بنفسه وبما شاء من مخلوقاته، وليس لغيره أن يقسم إلاّ به (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).

(5) النهي عن الحلف بغير الله قد يعارضه ما ورد في حديث: (أفلح وأبيه إن صدق)؛ والجواب عن ذلك ما قاله الحافظ ابن حجر في (الفتح) بعد إشارته إلى الحديث المشار إليه قال: فإن قيل: ما الجامع بين هذا وبين النهي عن الحلف بالآباء؟ أجيب: بأن ذلك كان قبل النهي، أو بأنها كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف، كما جرى على لسانهم عقرى حلقى. وما أشبه ذلك ثم ذكر وجوها أخرى وقال: وأقوى الأجوبة الأولان.

(6) جاء عن سلف هذه الأمة ما يبين سلامتهم من الحلف بغير الله وبعدهم عن التعلق بغيره سبحانه، وبيان خطورة هذا الأمر، فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول بعد أن قال له الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال: (فو الله ما حلفت بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذاكراً ولا آثراً).

وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): قال الشعبي: (لأن أقسم بالله فأحنث، أحب إليَّ من أن أحلف بغيره فأبر)، ثم قال: وجاء مثله عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر.

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ في (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد)، في (باب قول الله تعالى:{فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}الب رة22 قال: وقال ابن مسعود: ((لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقاً)).

وقال حفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كتاب (فتح المجيد): ((ومن المعلوم أن الحلف بالله كاذباً كبيرة من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر وإن كان أصغر، فإذا كان هذا حال الشرك الأصغر فكيف بالشرك الأكبر الموجب للخلود بالنار، كدعوة غير الله، والاستغاثة به، والرغبة إليه، وإنزال حوائجه به)).

وقال حفيده الشيخ سليمان بن عبد الله في كتاب (تيسير العزيز الحميد): ((وإنما رجح ابن مسعود رضي الله عنه الحلف بالله كاذباً على الحلف بغيره صادقاً، لأن الحلف بالله توحيد والحلف بغيره شرك، وإن قدر الصدق في الحلف بغير الله فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك، ذكره شيخ الإسلام ـ يعني ابن تيمية ـ، ثم قال: وفيه دليل على أن الحلف بغير الله صادقاً أعظم من اليمين الغموس، وفيه دليل على أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، وفيه شاهد للقاعدة المشهورة وهي: ارتكاب أقل الشرَّين ضرراً إذا كان لابد من أحدهما)). انتهى.

وهذا الأثر الذي أورده الشيخ محمد بن عبد الوهاب في (كتاب التوحيد) عن ابن مسعود رضي الله عنه قد ذكره الحافظ المنذري في كتاب (الترغيب والترهيب) في (باب الترهيب من الحلف بغير الله) فقال: وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لأن أحلف بالله كاذباً أحبّ إليَّ من أن أحلف بغيره وأنا صادق)، ثم قال: رواه الطبراني موقوفاً، ورواته رواة الصحيح.

(7) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:

(1) النهي عن الحلف بالآباء وبكل من سوى الله.

(2) وجوب قصر الحلف على أن يكون بالله.

(3) قضاء الإسلام على العادات المذمومة في الجاهلية.

(4) الإشارة إلى عدم الإكثار من اليمين حيث قال: (من كان حالفاً).

(5) أن الإنسان عند الحلف أمامه أمران لا ثالث لهما: إما الحلف بالله، وإما السكوت وعدم الحلف بغيره، ولو كان ذلك الغير بالغاً من التعظيم اللائق به ما بلغ كأنبياء الله ورسله وملائكته والكعبة، فلا يجوز أن يقول المسلم في حلفه: والنبي، وجبريل، والكعبة، وبيت الله، وحياتي، وحياتك، وحياة فلان، وغير ذلك من المخلوقات، لأن الحلف بغير الله لا يرضاه الله ولا يرضاه رسوله صلى الله عليه وسلم، بل جاءت سنة المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بتحريمه والتحذير منه، وتقدم في الكلام على هذا الحديث ذكر بعض الأحاديث الصريحة في ذلك، وقد قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}الحش 7، وقد نهانا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن نحلف بغير الله فيتحتم علينا الانتهاء عن ذلك، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً }الأحزاب36، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}النور63.


اللهم أرنا الحق حقاً ووفقنا لاتباعه، وأرنا الباطل باطلاً ووفقنا لاجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

ابو وليد البحيرى
2018-12-28, 08:49 AM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (18)


حديث: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)




قال البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب فضائل القرآن) من صحيحه.

حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة قال أخبرني علقمة بن مرثد سمعت سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))، قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال: وذلك الذي أقعدني مقعدي هذا، حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه)).



المبحث الأول/ التخريج:

انفرد البخاري عن مسلم في إخراج هذا الحديث فرواه من هذين الطريقين في (باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه).

ورواه أبو داود في سننه في (كتاب الصلاة، باب في ثواب قراءة القرآن) ولفظه: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)).

ورواه الترمذي في جامعه في أبواب (فضائل القرآن، باب ما جاء في تعليم القرآن) فقال: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود أنبأنا شعبة أخبرني علقمة بن مرثد قال سمعت سعد بن عبيدة يحدث عن أبي عبد الرحمن عن عثمان بن عفان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)). قال أبو عبد الرحمن: فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا، وعلم القرآن في زمن عثمان حتى بلغ الحجاج بن يوسف، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، حدثنا محمود بن غيلان حدثنا بشر بن السري حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم ـ أو أفضلكم ـ من تعلم القرآن وعلمه))، هذا حديث حسن صحيح، هكذا روى عبد الرحمن بن مهدي وغير واحد عن سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن أبي عبد الرحمن عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسفيان لا يذكر فيه (عن سعد بن عبيدة)، وقد روى يحيى بن سعيد القطان هذا الحديث عن سفيان وشعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا بذلك محمد بن بشار، وحدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان وشعبة، قال محمد بن بشار: وهكذا ذكره يحيى بن سعيد عن سفيان وشعبة غير مرة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال محمد بن بشار: وأصحاب سفيان لا يذكرون فيه (عن سفيان عن سعد بن عبيدة)، قال محمد بن بشار: وهو أصح. قال أبو عيسى: وقد زاد شعبة في إسناد هذا الحديث سعد بن عبيدة، وكأنَّ حديث سفيان أصح، قال عليّ بن عبد الله: قال يحيى بن سعيد: ((ما أحد يعدل عندي شعبة وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان)). قال أبو عيسى: سمعت أبا عمار يذكر عن وكيع قال: قال شعبة: سفيان أحفظ مني وما حدثني سفيان عن أحد بشيء إلا وجدته كما حدثني، وفي الباب عن علي وسعد.

ورواه ابن ماجه في أوائل سننه في (باب: فضل من تعلم القرآن وعلمه) فقال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد القطان حدثنا شعبة وسفيان عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال شعبة: خيركم، وقال سفيان: ((أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه))، حدثنا عليّ بن محمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه)).

ورواه الدارمي في سننه في (كتاب فضائل القرآن، باب خياركم من تعلم القرآن وعلمه) بمثل الإسناد الأول ـ عند البخاري ـ ومتنه: ((إن خيركم من علم القرآن أو تعلمه))، قال: أقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال: ذلك أقعدني مقعدي هذا.

ورواه الإمام أحمد في (المسند) فقال: حدثنا وكيع حدثنا سفيان وعبد الرحمن عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن أبي عبد الرحمن عن عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه))، وقال: حدثنا محمد بن حعفر وبهز وحجاج قالوا: حدثنا شعبة قال: سمعت علقمة بن مرثد يحدث عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن خيركم من علم القرآن أو تعلمه))، قال محمد بن حعفر وحجاج: فقال أبو عبد الرحمن: فذاك الذي أقعدني هذا المقعد. قال حجاج قال شعبة: ولم يسمع أبو عبد الرحمن من عثمان ولا من عبد الله، ولكن قد سمع من عليّ قال عبد الله بن أحمد: قال أبي، وقال بهز: عن شعبة قال علقمة بن مرثد: أخبرني، وقال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))، حدثنا عفان حدثنا شعبة أخبرني علقمة بن مرثد وقال فيه: ((من تعلم القرآن أو علمه))، وقال حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان وشعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال سفيان: أفضلكم، وقال شعبة: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)).

وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة بمثل إسناد البخاري ومتنه وقال فيه: قال أبو عبد الرحمن: فذاك أقعدني مقعدي هذا.

وأخرجه الخطيب البغدادي في ترجمة أحمد بن محمد الأدمي بإسنادين إلى أبي نعيم الفضل بن دكين عن موسى الفراء عن علقمة بن مرثد عن أبي عبد الرحمن عن عثمان ولفظه: ((خياركم ـ أو أفضلكم ـ من تعلم القرآن وعلمه))، ورواه في ترجمة أحمد بن الحسين أبي زرعة الرازي بإسناده إلى أبي حنيفة ومسعر وسفيان وشعبة وقيس وغيرهم عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن عثمان، ولفظه: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))، وفي ترجمة عبد الوهاب بن عثمان المخبزي بإسناده إلى قيس بن الربيع عن علقمة عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن عثمان بلفظ الذي قبله.

وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) في ترجمة أبي عبد الرحمن السلمي بإسنادين إلى شعبة عن علقمة عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن عثمان، رواه عن شعبة فيهما سليمان بن حرب وحجاج ويعلى بن عباد وداود بن المحبر، ولفظه: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))، قال أبو عبد الرحمن: فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا، ثم قال أبو نعيم: هذا حديث صحيح متفق عليه، رواه عن شعبة يحيى بن سعيد القطان ويزيد بن زريع ويعقوب الحضرمي والناس. ورواه الثوري عن علقمة، واختلف فيه فرواه وكيع وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق وأبو نعيم والفريابي وعامة أصحابه عن علقمة عن أبي عبد الرحمن من دون سعد، ورواه يحيى بن سعيد القطان عنه مقروناً بشعبة بإدخال سعد بن علقمة وأبي عبد الرحمن، وممن وافق شعبة والثوري عليه قيس بن الربيع ومحمد بن أبان الجعفي ومسعر من رواية خلف بن ياسين عن أبيه عنه. وممن رواه عن علقمة من دون سعد: عمرو بن قيس الملائي والجراح بن الضحاك ومسعر بن كدام من رواية محمد بن بشر عنه، وعبد الله بن عيسى بن أبي يعلى والربيع بن المركس وموسى الفراء وعمرو بن النعمان الحضرمي وأبو اليسع وسعدان بن يزيد اللخمي وأيوب عن جابر وسلمة بن صالح وعثمان بن مقسم البري. وممن رواه عن أبي عبد الرحمن السلمي سوى سعد وعلقمة: الحسنُ بن عبد الله النخعي وأبو عبد الأعلى الثعلبي وعبد الملك بن عمير وعبد الكريم وعطاء بن السائب وعاصم بن أبي النجود، واختلف على عاصم فيه فرواه أبو نعيم ويحيى السحيلي وغيرهما عن شريك عن عاصم عن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن مسعود، ورواه حيوة بن المغلس عن شريك عن عاصم عن أبي عبد الرحمن عن عثمان.

وللحديث شواهد من حديث عبد الله بن عمرو، أخرجه الخطيب في ترجمة أحمد بن إبراهيم أبي بكر البزار، ومن حديث عليّ رضي الله عنه أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في (زوائد المسند)، والترمذي في جامعه، والدارمي في سننه. ومن حديث سعد بن أبي وقاص أخرجه ابن ماجه والدارمي في سننه.

ومن شواهده أيضاً ما ذكره أبو نعيم في (الحلية) في ترجمة أبي عبد الرحمن السلمي بعد إيراد من رواه منتهيا إلى أبي عبد الرحمن قال: وممن رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم: عثمان وعليّ وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وأبو هريرة وأبو أمامة وأنس بن مالك، ورواه عن عليّ: النعمان والحسين بن سعد، ورواه عن سعد بن أبي وقاص ابنه مصعب، ورواه عن أبي هريرة أبو سلمة، ورواه عن أبي أمامة الشعبي، ورواه عن أنس سليمان التيمي وأبو هدبة. انتهى.

ومن شواهده أيضاً ما أخرجه أبو نعيم في (الحلية) من حديث أنس رضي الله عنه في ترجمة سليمان بن طرخان التيمي، وأخرجه الطبراني في (الصغير) ذكره في (مجمع الزوائد) وقال: وفيه محمد بن سنان القزاز وثقه الدار قطني وضعفه جماعة. ومنها ما أخرجه الخطيب البغدادي من حديث عبد الله بن مسعود في ترجمة محمد بن بكير بن واصل الحضرمي، وأخرجه الطبراني في (الكبير) و(الأوسط) ذكره في (مجمع الزوائد) وقال: وإسناده فيه شريك وعاصم وكلاهما ثقة وفيهما ضعف.



المبحث الثاني/ التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ البخاري في الإسناد حجاج بن منهال: قال الحافظ في (التقريب): حجاج بن المنهال الأنماطي أبو محمد السلمي مولاهم البصري، ثقة فاضل، من التاسعة، مات سنة ست عشرة أو سبع عشرة ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن جرير بن حازم، والحمادين، وشعبة، وعبد العزيز الماجشون، وهمام، ويزيد بن إبراهيم التستري، وغيرهم. وعنه البخاري، وروى له الباقون بواسطة الدارمي، وبندار، وأبو موسى، وصاعقة، والخلال، وأناس آخرون سماهم، ونقل توثيقه عن أحمد، وأبي حاتم، والعجلي، والنسائي، وابن سعد، وابن قانع.

الثاني: شعبة ـ وهو ابن الحجاج أبو بسطام البصري ـ تقدم في رجال إسناد الحديث العاشر.

الثالث: علقمة بن مرثد: قال الحافظ في (التقريب): علقمة بن مرثد ـ بفتح الميم وسكون الراء بعدها مثلثة ـ الحضرمي، أبو الحارث الكوفي، ثقة، من السادسة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): روى عن أبي عبد الرحمن السلمي وسويد بن غفلة، وعنه مسعر وشعبة والثوري. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع سعد بن عبيدة عندهما ـ يعني البخاري ومسلم ـ. ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن النسائي، ويعقوب بن سفيان، وذكره ابن حبان في (الثقات)، ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته، وإنما قال الحافظ في (تهذيب التهذيب): وقال خليفة بن خياط: توفي في آخر ولاية خالد القسري على العراق. انتهى. وكانت نهاية ولايته على العراق سنة عشرين ومائة كما في (البداية والنهاية) لابن كثير.

الرابع: سعد بن عبيدة: قال الحافظ في (التقريب): سعد بن عبيدة السلمي أبو حمزة الكوفي، ثقة، من الثالثة، مات في ولاية عمر بن هبيرة على العراق، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سعد بن عبيدة أبو حمزة السلمي ختن أبي عبد الرحمن، سمع ابن عمر، والبراء بن عازب، وأبا عبد الرحمن عندهما، والمستورد عند مسلم. روى عنه منصور، والأعمش، وحصين بن عبد الرحمن، وعلقمة بن مرثد عندهما. ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن ابن معين، والنسائي، وابن سعد، والعجلي، ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.

الخامس: أبو عبد الرحمن السلمي، اسمه عبد الله بن حبيب: قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن حبيب بن ربيعة ـ بفتح الموحدة وتشديد الياء ـ أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي، المقرى، مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة، ثقة ثبت، من الثانية، مات بعد السبعين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن عمر، وعثمان، وعليّ، وسعد، وعن جماعة من الصحابة سماهم، وعنه إبراهيم النخعي، وعلقمة بن مرثد، وسعد بن عبيدة، وأناس آخرون سماهم. ونقل توثيقه عن العجلي، والنسائي، ومحمد بن عمر. وقول ابن عبد البر: هو عند جميعهم ثقة. وقال في (تهذيب التهذيب): قال أبو إسحاق السبيعي: ((أقرأ القرآن في المسجد أربعين سنة))، وقال عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن: ((صمت لله ثمانين رمضان)).

السادس: صحابي الحديث أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان رضي الله عنه: قال الحافظ في (التقريب): عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي، أمير المؤمنين، ذو النورين، أحد السابقين الأولين، والخلفاء الأربعة، والعشرة المبشرة، استشهد في ذي الحجة بعد عيد الأضحى سنة خمس وثلاثين، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة وعمره ثمانون، وقيل أكثر وقيل أقل، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): أبو عمرو المدني، ذو النورين، وأمير المؤمنين، ومجهز جيش العسرة، وأحد العشرة، وأحد الستة، هاجر الهجرتين، له مائة وستة وأربعون حديثاً، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بخمسة، وعنه أبناؤه أبان وسعيد وعمرو وأنس ومروان بن الحكم وخلق، غاب عن بدر لتمريض ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهم، قال ابن عمر: ((كنا نقول على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان))، وقال ابن سيرين: ((كان يحيي الليل كله بركعة))، وذكر الحافظ في مقدمة الفتح أن له عند البخاري تسعة أحاديث.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): أبو عبد الله يكنى بابنه من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال أبو عمر. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس أسلمت، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد بعد الفيل بست سنين على الصحيح، وكان ربعة حسن الوجه، رقيق البشرة، عظيم اللحية، بعيد ما بين المنكبين. وقال: وزوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته رقية عثمان، وماتت عنده في أيام بدر، فزوجه بعدها أختها أم كلثوم، فلذلك كان يلقب ذا النورين. وقال: وجاء من أوجه متواترة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة، وعدّه من أهل الجنة وشهد له بالشهادة. وروى أبو خيثمة في (فضائل الصحابة) من طريق الضحاك عن النـزال بن سبرة: قلنا لعليّ: حدثنا عن عثمان، قال: ((ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين))، وقال: ((وهو أوّل من هاجر إلى الحبشة ومعه زوجته رقية، تخلف عن بدر لتمريضها، فكتب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، وتخلف عن بيعة الرضوان لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعثه إلى مكة فأشيع أنهم قتلوه، فكان ذلك سبب البيعة فضرب إحدى يديه على الأخرى وقال: هذه عن عثمان))، وقال ابن مسعود لما بويع: ((بايعنا خيرنا ولم نأل))، وقال عليّ: ((كان عثمان أوصلنا للرحم))، وكذا قالت عائشة لما بلغها قتله: ((قتلوه، وإنه لأوصلهم للرحم وأتقاهم للرب)).

وقد قال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): ذو النورين، ومن تستحي منه الملائكة، ومن جمع الأمة على مصحف واحد وقت الاختلاف، ومن افتتح نوابه إقليم خراسان وإقليم المغرب، وكان من السابقين الصادقين القائمين الصائمين المنفقين في سبيل الله، وممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وزوّجه بابنتيه رقية وأم كلثوم y أجمعين. وقال: وكان ممن جمع بين العلم والعمل والصيام والتهجد والإتقان والجهاد في سبيل الله وصلة الأرحام. انتهى.

أما بقية رجال الإسناد الثاني ممن لم يتقدم ذكرهم في الإسناد الأول:

فالأول: شيخ البخاري أبو نعيم ـ وهو الفضل بن دكين ـ: قال الحافظ في (التقريب): الفضل بن دكين الكوفي، واسم دكين عمرو بن حماد بن زهير التيمي مولاهم، الأحول، أبو نعيم الملائي ـ بضم الميم ـ مشهور بكنيته، ثقة ثبت، من التاسعة، مات سنة ثمان عشرة وقيل تسع عشرة ـ أي بعد المائتين ـ وكان مولده سنة ثلاثين ـ أي بعد المائة ـ وهو من كبار شيوخ البخاري، ورمز لكونه من رجال الجماعة، وترجمته في (تهذيب التهذيب) تبلغ ست صفحات فيها الكثير من ثناء الأئمة عليه.

وقال الحافظ في مقدمة الفتح: الفضل بن دكين، أبو نعيم الكوفي، أحد الأثبات، قرنه أحمد بن حنبل في التثبت بعبد الرحمن بن مهدي، وقال: كان أعلم بالشيوخ من وكيع، وقال مرة: كان أقل خطأ من وكيع، والثناء عليه في الحفظ والتثبت إلاّ أن بعض الناس تكلم فيه بسبب التشيع، ومع ذلك فصح عنه أنه قال: ما كتبت علي الحفظة أنني سببت معاوية احتج به الجماعة.

والثاني: سفيان، وهو الثوري، تقدم في رجال إسناد الحديث الثامن.



المبحث الثالث/ لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسنادين الثمانية خرّج حديثهم أصحاب الكتب الستة.

(2) رجال الإسنادين الثمانية كوفيون إلاّ عثمان رضي الله عنه فهو مدني، وإلاّ حجاج بن منهال وشيخه شعبة فهما بصريان.

(3) ثلاثة من رجال الإسناد الأول نسبة كل منهم (السلمي)، وحجاج بن منهال مولاهم، وسعد بن عبيدة كما أنه يوافق شيخه أبا عبد الرحمن السلمي في هذه النسبة يوافقه أيضاً في كونه مثله من أهل الكوفة، وهو زوج ابنة أبي عبد الرحمن السلمي.

(4) أبو عبد الرحمن السلمي اشتهر بكنيته، واسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة كما تقدم.

(5) الإسناد الأول: اشتمل على أربع من صيغ الأداء وهي: التحديث والإخبار والسماع والعنعنة، والإسناد الثاني: اشتمل على صيغتي التحديث والعنعنة.

(6) علقمة بن مرثد له في صحيح البخاري ثلاثة أحاديث فقط، هذا أحدها والثاني في (كتاب الجنائز)، والثالث في (مناقب الصحابة)، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث في (فتح الباري).

(7) في الإسناد تابعيان وهما: أبو عبد الرحمن السلمي وصهره سعد بن عبيدة، والراوي عن سعد هو علقمة بن مرثد، وقد قال عنه الحافظ في (الفتح): وهو من ثقات أهل الكوفة من طبقة الأعمش. انتهى. والأعمش من صغار التابعين، وقد أدرك علقمة زمن الصحابة إذ كانت وفاته في آخر ولاية خالد القسري على العراق، وكان آخر ولايته سنة عشرين بعد المائة، فإن ثبت لقاؤه أحداً من الصحابة كان عدد التابعين في هذا الإسناد ثلاثة.

(8) هذا الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الحفاظ على البخاري في صحيحه والبالغ عددها مائة وعشرة أحاديث كما تقدم.

وقد انتقده الدار قطني من وجهين: أحدهما كون شعبة زاد في الإسناد الأول سعد بن عبيدة بن علقمة وأبي عبد الرحمن، ورواه سفيان عن علقمة عن أبي عبد الرحمن دون زيادة سعد، قال الدار قطني كما في مقدمة الفتح: أخرج البخاري حديث الثوري عن علقمة بن مرثد عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))، وأخرجه أيضاً من حديث شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن عثمان وقال فيه: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال الدار قطني: فقد اختلف شعبة والثوري في إسناده فأدخل شعبة بين علقمة وبين أبي عبد الرحمن سعد بن عبيدة، وقد تابع شعبة على زيادته من لا يحتج به، وتابع الثوري جماعة ثقات.

الوجه الثاني من وجهي الانتقاد: ما ذكر من أن أبا عبد الرحمن السلمي لم يسمع من عثمان كما تقدم عن الترمذي في التخريج، قال الدار قطني كما في مقدمة الفتح أيضاً: وقال حجاج بن محمد عن شعبة: لم يسمع أبو عبد الرحمن من عثمان شيئاً.

وقد أشار إلى هذين الوجهين الحافظ في (الفتح) فقال: قوله عن سعد بن عبيدة، كذا يقول شعبة، يدخل بن علقمة بن مرثد وأبي عبد الرحمن( سعد بن عبيدة)، وخالفه سفيان الثوري فقال: عن علقمة عن أبي عبد الرحمن ولم يذكر سعد بن عبيدة، وقد أطنب الحافظ أبو العلاء العطار في كتابه (الهادي في القرآن) في تخريج طرقه، فذكر ممن تابع شعبة ومن تابع سفيان جمعاً كثيراً، وأخرجه أبو بكر بن أبي داود في أول (الشريعة) له وأكثر من تخريج طرقه أيضاً، ورجّح الحفاظ رواية الثوري وعدّوا رواية شعبة من المزيد في متصل الأسانيد. وقال الترمذي: كأن رواية سفيان أصح من رواية شعبة، وقال: وقد قال أحمد حدثنا حجاج بن محمد عن شعبة قال: لم يسمع أبو عبد الرحمن السلمي من عثمان، ونقل ابن أبي داود عن يحيى بن معين مثل ما قال شعبة، وذكر الحافظ أبو العلاء أن مسلماً سكت عن إخراج هذا الحديث في صحيحه. انتهى.

والجواب عن الوجه الأول: ما قاله الحافظ ابن حجر في (الفتح): وأما البخاري فأخرج الطريقين فكأنه ترجح عنده أنهما جميعاً محفوظان، فيحمل على أن علقمة سمعه أولاً من سعد ثم لقي أبا عبد الرحمن فحدثه به، أو سمعه مع سعد من أبي عبد الرحمن فثبته فيه سعد، وقد أجاب بنحو هذا في مقدمة الفتح أيضاً.

والجواب عن الوجه الثاني من وجوه:

الأول: قال الحافظ في مقدمة الفتح: وأما كون أبي عبد الرحمن لم يسمع من عثمان فيما زعم شعبة، فقد أثبت غيره سماعه عنه وقال البخاري في (التاريخ الكبير): سمع من عثمان، والله أعلم.

الثاني: قال الحافظ في (الفتح): قلت: قد وقع في بعض الطرق التصريح بتحديث عثمان لأبي عبد الرحمن، وذلك فيما أخرجه ابن عدي في ترجمة عبد الله بن محمد بن أبي مريم من طريق ابن جريج عن عبد الكريم عن أبي عبد الرحمن حدثني عثمان وفي إسناده مقال.

الثالث: قال الحافظ في (الفتح) عقب ذكر الذي قبله مباشرة: لكن ظهر لي أن البخاري اعتمد في وصله وفي ترجيح لقاء أبي عبد الرحمن لعثمان على ما وقع في رواية شعبة عن سعد بن عبيدة من الزيادة، وهي أن أبا عبد الرحمن أقرأ من زمن عثمان إلى زمن الحجاج، وأن الذي حمله على ذلك هو الحديث المذكور، فدل على أنه سمعه في ذلك الزمان، وإذا سمعه في ذلك الزمان ولم يوصف بالتدليس اقتضى ذلك سماعه ممن عنعنه عنه وهو عثمان رضي الله عنه، ولاسيما مع ما اشتهر بين القراء أنه قرأ القرآن على عثمان، وأسندوا ذلك عنه من رواية عاصم بن أبي النجود وغيره، فكان هذا أولى من قول من قال: إنه لم يسمع منه.



المبحث الرابع/ شرح الحديث:

(1) قوله (خيركم من تعلم القرآن وعلمه): خيركم: أفعل تفضيل، حذفت الهمزة من أوله وقد تقدم في الحديث الحادي عشر أنها تأتي اسماً في مقابل الشر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))، وترد أفعل تفضيل! ومنه قول السائل في الحديث الحادي عشر: أي الإسلام خير؟، ومثله قوله هنا: خيركم من تعلم القرآن وعلمه.

(2) قوله (خيركم من تعلم القرآن وعلمه): قال المناوي في (فيض القدير): أي خير المتعلمين والمعلمين من كان تعلمه وتعليمه في القرآن، إذ خير الكلام كلام الله، فكذا خير الناس بعد النبيين من اشتغل به. وقال القاري في (المرقاة) كما نقله المباركفوري في (تحفة الأحوذي): ولا يتوهم أن العمل خارج عنهما، لأن العلم إذا لم يكن مورثاً للعمل ليس علماً في الشريعة إذ أجمعوا على أن من عصى الله فهو جاهل. انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): لا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل، وهو من جملة من عَنى سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} صلت33، والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن وهو أشرف الجميع، وعكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام كما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا}الأنعام1 57، فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه؟ قلنا: لا، لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس، لأنهم كانوا أهل اللسان فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدري من بعدهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سجية، فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك، لا من كان قارئاً أو مقرئاً محضاً لا يفهم شيئاً من معاني ما يقرؤه أو يقرئه، فإن قيل: فيلزم أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم غناء في الإسلام بالمجاهدة، والرباط، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً؟ قلنا: حرف المسألة يدور على النفع المتعدي، فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل، فلعل (من) مضمرة في الخبر، ولابد مع ذلك من مراعاة الإخلاص في كل صنف منهم، ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس مخصوصين خوطبوا بذلك كان اللائق بحالهم ذلك، أو المراد خير المتعلمين من يعلم غيره لا من يقتصر على نفسه، أو المراد مراعاة الحيثية لأن القرآن خير الكلام، فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن، وكيفما كان فهو مخصوص بمن علم وتعلم بحيث يكون قد علم ما يجب عليه عينا. انتهى.

(3) قوله (قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج): أي حتى ولي الحجاج على العراق، قال الحافظ ابن حجر: بين أول خلافة عثمان وآخر ولاية الحجاج اثنتان وسبعون سنة إلا ثلاثة أشهر، وبين آخر خلافة عثمان وأول ولاية الحجاج للعراق ثمان وثلاثون سنة، ولم أقف على تعيين ابتداء إقراء أبي عبد الرحمن وآخره، فالله أعلم بمقدار ذلك، ويعرف من الذي ذكرته أقصى المدة وأدناها، والقائل: وأقرأ أبو عبد الرحمن هو: سعد بن عبيدة، فإنني لم أر هذه الزيادة إلا من رواية شعبة عن علقمة. انتهى.

(4) قوله (قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا) القائل هو أبو عبد الرحمن السلمي، والمعنى أن الحديث الذي حدث به عثمان في أفضلية من تعلم القرآن وعلمه حمل أبا عبد الرحمن أن قعد يعلم الناس القرآن لتحصيل تلك الفضيلة، قاله الحافظ ابن حجر في (فتح الباري).


(5) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:

(1) الحث على تعلم القرآن وتعليمه.

(2) بيان فضل من تعلم القرآن وعلمه.

(3) تنبيه العالم إلى نفع غيره بما علمه.

(4) بيان ما كان عليه سلف هذه الأمة من اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل بالعلم، إذ أن أبا عبد الرحمن جلس لإقراء القرآن عملاً بهذا الحديث الذي بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقبله أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه راوي هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن من أعظم مناقبه جمع القرآن ليتيسر للناس قراءته وإقراؤه، وكان تالياً لكتاب الله حتى في آخر لحظاته رضي الله عنه، فإن الأوباش الذين قتلوه، قتلوه وهو يتلو القرآن، وذكر أنه كان عند قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَه مُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}البق ة137، كما في الأثر الذي أورده ابن كثير في تفسيره لهذه الآية من سورة البقرة.

ابو وليد البحيرى
2019-01-02, 03:37 AM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (19)



حديث : (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ...)



قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب التفسير) من صحيحه:

حدثنا آدم حدثنا شعبة عن الأعمش قال: سمعت سعد بن عبيدة يحدث عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي – رضي الله عنه - قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم - في جنازة فأخذ شيئاً فجعل ينكت به الأرض فقال: ((ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة، قالوا يا رسول الله: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: ( فَأَمَّا مَن أَعطَى وَاتَّقَى ( 5 ) وَصَدَّقَ بِالحُسْنى ( الآية.



المبحث الأول: التخريج:

أورد البخاري ـ رحمه الله ـ هذا الحديث في عشرة مواضع من صحيحه ستة منها في تفسير سورة ( وَالَّليلِ إِذَا يَغشَى ) هذا أحدها، والثاني: رواه عن شيخه أبي نعيم عن سفيان عن الأعمش عن سعد بن عبيدة، والثالث: رواه عن شيخه مسدد عن عبد الواحد عن الأعمش عن سعد بن عبيدة، والرابع: عن شيخه بشر بن خالد عن محمد بن جعفر عن شعبة عن سعد بن عبيدة، والخامس: عن شيخه يحيى عن وكيع عن الأعمش عن سعد بن عبيدة، والسادس: عن شيخه عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن سعد بن عبيدة، والسابع: في (كتاب الجنائز، باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله)، رواه عن شيخه عثمان بن أبي شيبة بمثل إسناده ومتنه في (كتاب التفسير)، والثامن: في (كتاب الأدب، باب الرجل ينكت الشيء بيده في الأرض)، رواه عن شيخه محمد بن بشار عن ابن أبي عدي عن شعبة عن سليمان ـ وهو الأعمش ـ ومنصور عن سعد بن عبيدة، والتاسع: في (كتاب القدر، باب: ( وَكَانَ أَمرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقدُوراً ) ، رواه عن شيخه عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش عن سعد بن عبيدة، العاشر: في (كتاب التوحيد) في (باب قول الله تعالى: ( وَلَقَد يَسَّرنَا القُرءَانَ لِلذِّكرِ ) وسنده: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن منصور والأعمش سمعا سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن عليّ – رضى الله عنه - عن النبي – صلى الله عليه وسلم - ، وكل هذه الأسانيد العشرة تنتهي إلى سعد بن عبيدة، والمتن في بعضها مختصر، وفي البعض الآخر مطول، ورواية آدم عن شعبة المثبتة هنا من أتمها سياقاً.

ورواه مسلم في (كتاب القدر) من صحيحه عن شيوخه: عثمان بن أبي شيبة وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم عن جرير عن منصور عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن عليّ، ومتنه قريب من متن رواية عثمان بن أبي شيبة عند البخاري في الجنائز والتفسير، ورواه عن شيخه أبي بكر بن أبي شيبة وهناد بن السري عن أبي الأحوص عن منصور بمثل إسناد الذي قبله وبنحو متنه، ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وأبي سعيد الأشج عن وكيع، وعن شيخه ابن نمير عن أبيه عن الأعمش، وعن شيخه أبي كريب عن أبي معاوية عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عليّ، ومتنه أخصر من رواية عثمان بن أبي شيبة، ورواه بإسناد آخر بنحو الذي قبله فقال: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن منصور والأعمش أنهما سمعا سعد بن عبيدة يحدثه عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عليّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم - بنحوه.

ورواه أبو داود في سننه في (كتاب السنة، باب في القدر) فقال: حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا المعتمر قال سمعت منصور بن المعتمر يحدث عن سعد بن عبيدة عن عبد الله بن حبيب أبي عبد الرحمن السلمي عن عليّ عليه السلام قال:كنا في جنازة فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فجلس ومعه مخصرة، فجعل ينكت بالمخصرة في الأرض، ثم رفع رأسه فقال: ((ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلاّ قد كتب الله مكانها من النار أو من الجنة، إلا قد كتبت شقية أو سعيدة. قال: فقال رجل من القوم: يا نبي الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقوة ليكونن إلى الشقوة؟، قال: ((اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون للسعادة، وأما أهل الشقوة فييسرون للشقوة))، ثم قال نبي الله: ( فَأَمَّا مَن أَعطَى وَاتَّقَى ( 5 ) وَصَدَّقَ بِالحُسنَى ( 6 ) فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسرَى ( 7 ) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاستَغنَى ( 8 ) وَكَذَّبَ بِالحُسنَى ( 9 ) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلعُسرَى ).

ورواه الترمذي في جامعه في تفسير سورة ( وَالَّليلِ إِذَا يَغشَى ) عن محمد بن بشار عن عبد الرحمن بن مهدي عن زائدة بن قدامة عن منصور بن المعتمر عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عليّ – رضي الله عنه - بنحو ما تقدم عند أبي داود، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه في أبواب القدر عن الحسن بن عليّ الحلواني عن عبد الله بن نمير، ووكيع عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عليّ – رضي الله عنه - ، ومتنه أخصر من الذي قبله، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ورواه ابن ماجه في أوائل سننه فقال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع (ح) وحدثنا عليّ بن محمد حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عليّ قال: كنا جلوساً عند النبي – صلى الله عليه وسلم - وبيده عود فنكت في الأرض، ثم رفع رأسه، فقال: ((ما منكم من أحد إلاّ وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، قيل يا رسول الله، أفلا نتكل، قال: لا، اعملوا ولا تتكلوا، فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ ( فَأَمَّا مَن أَعطَى وَاتَّقَى ( 5 ) وَصَدَّقَ بِالحُسنَى ( 6 ) فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسرَى ( 7 ) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاستَغنَى ( 8 ) وَكَذَّبَ بِالحُسنَى ( 9 ) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلعُسرَى ) ، ورواه الإمام أحمد في (المسند).



المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ البخاري آدم ـ وهو ابن أبي إياس العسقلاني ـ تقدم في رجال إسناد الحديث العاشر.

الثاني: شعبة ـ وهو ابن الحجاج بن الورد البصري ـ تقدم في رجال إسناد الحديث العاشر أيضاً.

الثالث: الأعمش ـ وهو سليمان بن مهران الكوفي ـ تقدم في إسناد الحديث الثامن.

الرابع والخامس: سعد بن عبيدة وشيخه أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي تقدما في رجال إسناد الحديث الثامن عشر.

السادس: صحابي الحديث أمير المؤمنين، وابن عم سيد الأولين والآخرين، ورابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، أحد الستة الذين جعل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - الأمر إليهم شورى من بعده، أبو الحسن عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه - : قال الحافظ في (التقريب): عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي ابن عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وزوج ابنته، من السابقين الأولين، المرجح أنه أوّل من أسلم، وهو أحد العشرة، مات في رمضان سنة أربعين، وهو يومئذ أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السنة، وله ثلاث وستون سنة على الأرجح، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): عليّ بن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، أبو الحسن بن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وختنه على بنته، أمير المؤمنين يكنى أبا تراب، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهي أوّل هاشمية ولدت هاشمياً، له خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثاً، اتفقا على عشرين، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر، شهد بدراً والمشاهد كلها، روى عنه أولاده الحسن والحسين ومحمد وفاطمة وعمر وابن عباس والأحنف وأمم.

قال أبو جعفر: كان شديد الأدمة ربعة إلى القصر، وهو أول من أسلم من الصبيان جمعاً بين الأقوال، قال له النبي – صلى الله عليه وسلم - : ((أنت مني بمنـزلة هارون من موسى))، وفضائله كثيرة، استشهد ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت أو خلت من رمضان سنة أربعين، وهو حينئذ أفضل من على وجه الأرض.

وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري تسعة وعشرين حديثاً، وقال في (الإصابة): أبو الحسن أول الناس إسلاماً في قول كثير من أهل العلم، ولد قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح، فربي في حجر النبي – صلى الله عليه وسلم - ولم يفارقه، وشهد معه المشاهد إلاّ غزوة تبوك، فقال له بسبب تأخيره بالمدينة: ((ألا ترضى أن تكون مني بمنـزلة هارون من موسى؟)) وزوجه بنته فاطمة، وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد، ولما آخى النبي – صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه قال له: ((أنت أخي))، ومناقبه كثيرة حتى قال الإمام أحمد: ((لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لعليّ))، وتتبع النسائي ما خص به من دون الصحابة فجمع من ذلك شيئاً كثيراً بأسانيد أكثرها جياد. وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): أبو الحسن الهاشمي، قاضي الأئمة، وفارس الإسلام، وختن المصطفى – صلى الله عليه وسلم - ، كان ممن سبق إلى الإسلام ولم يتلعثم، وجاهد في الله حق جهاده، ونهض بأعباء العلم والعمل، وشهد له النبي – صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وقال: ((من كنت مولاه فعليّ مولاه))، وقال له: ((أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي))، وقال: ((لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق))، ومناقب هذا الإمام جمة أفردتها في مجلد وسميته (بفتح المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه -).

وقال الحافظ ابن حجر في (الإصابة): ومن خصائص عليّ: قوله – صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر: ((لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه))، فلما أصبح رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ، غدوا كلهم يرجو أن يعطاها، فقال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _: ((أين عليّ بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يشتكي عينيه، فأتي به فبصق في عينيه، فدعا له فبرأ، فأعطاه الراية ))، أخرجاه في الصحيحين من حديث سهل بن سعد. انتهى. وقد روى هذا الحديث غير سهل أكثر من اثني عشر صحابياً ذكرهم في (تهذيب التهذيب).



المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسناد الستة خرّج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلاّ شيخ البخاري آدم بن أبي إياس فلم يخرج له مسلم وابن ماجه.

(2) رجال الإسناد كوفيون إلاّ شيخ البخاري فهو عسقلاني وشيخ شيخه فإنه بصري.

(3) الأعمش من المعروفين بالتدليس كما تقدم التنويه بذلك، وقد صرّح بالسماع في إسناد هذا الحديث فأمن احتمال تدليسه، وقد صرّح بالسماع في رواية البخاري في (كتاب التوحيد)، وفي بعض الطرق عند مسلم كما تقدم في التخريج.

(5) هذا الحديث أورده البخاري عن شيخه عثمان بن أبي شيبة في (كتاب الجنائز)، ثم أعاده في تفسير ( وَالَّليلِ إِذَا يَغشَى ) بمثل إسناده ومتنه في (الجنائز)، فيكون هذا من المواضع النادرة في صحيح البخاري كما تقدم التنبيه على ذلك في لطائف إسناد الحديث التاسع والحديث السادس عشر.

(5) رجال هذا الإسناد تقدم ذكرهم في بعض الأحاديث المتقدمة إلا الصحابي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب _ رضي الله عنه _، وتقدم بعض اللطائف المتعلقة بهم فأغنى عن إعادتها.

(6) ذكر الحافظ في مقدمة (الفتح): أنه لم يقف على اسم صاحب الجنازة المذكور في الحديث، فهو من مبهمات المتن.



المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) قوله (كان النبي _ صلى الله عليه وسلم _ في جنازة فأخذ شيئاً، فجعل ينكت به الأرض): جاء في بعض الروايات ـ كما تقدم في التخريج ـ أن ذلك كان في بقيع الغرقد، وجاء في بعضها بيان ذلك الشيء الذي ينكت به الأرض وأنه عود، وفي بعضها مخصرة وهي العصا، سميت بذلك لأنها تحمل تحت الخصر غالباً للاتكاء عليها، ومعنى ينكت: يخط في الأرض خطاً يسيراً مرة بعد مرة، وذلك فعل المفكر المهموم.

(2) قوله (قالوا: يا رسول الله أفلا نتكل): ورد في بعض النصوص تعيين السائلين، ففي بعضها سراقة بن مالك بن جعشم، وفي بعضها شريح بن عامر الكلابي، وفي بعضها عمر _ رضي الله عنه _ ، وفي بعضها أبو بكر _ رضي الله عنه _ ، قال الحافظ ابن حجر بعد ذكرها: والجمع بينها تعدد السائلين عن ذلك.

(3) قوله (أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟): قال الحافظ ابن حجر: والفاء معقبة لشيء محذوف تقديره: فإذا كان كذلك أفلا نتكل؟، وحاصل السؤال: ألا نترك مشقة العمل فإنا سنصير إلى ما قدر علينا؟، وحاصل الجواب: لا مشقة لأن كلاًّ ميسر لما خلق له وهو يسيرٌ على من يسره الله.

قال الطيبي: الجواب من الأسلوب الحكيم: منعهم عن ترك العمل وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية، وزجرهم عن التصرف في الأمور المغيبة، فلا يجعلوا العبادة وتركها سبباً مستقلاً لدخول الجنة والنار، بل هي علامات فقط. انتهى.

(4) هذا الحديث أصل في باب القضاء والقدر، وأنه قد سبق قضاء الله تعالى بكون المكلفين فريقين: فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير.

قال النووي: قال الإمام أبو المظفر السمعاني: ((سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس ومجرد العقول، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء النفس، ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب، لأن القدر سرٌّ من أسرار الله تعالى التي ضربت من دونها الأستار، اختص الله به وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم، لما علمه من الحكمة، وواجبنا أن نقف حيث حد لنا ولا نتجاوزه، وقد طوى الله تعالى علم القدر عن العالم، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب)). انتهى.

وقال الطحاوي في عقيدة أهل السنة: ((وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه كما قال الله تعالى في كتابه: ( لا يُسئَلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُسأَلُونَ ))، وقال: ((فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه))، وقال: ((فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً)).



من فقه الحديث، وما يستنبط منه:

(1) مشروعية اتباع الجنازة.

(2) أن متبع الجنازة عليه أن يتذكر الآخرة وأن يظهر عليه أثر ذلك.

(3) موعظة العالم أصحابه عند القبور.

(4) إثبات القدر، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

(5) مراجعة العالم والاستفسار منه عما قد يشكل.

(6) أن السعادة والشقاوة بتقدير الله وقضائه.

(7) الرد على الجبرية لأن التيسير ضد الجبر، لأن الجبر لا يكون إلاّ عن كره، ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلاّ وهو غير كاره له.

(8) الرد على القدرية لأن أفعال العباد وإن صدرت عنهم فقد سبق علم الله بوقوعها بتقديره سبحانه وتعالى.

(9) أن العمل الطيب أمارة على الخير، والعكس بالعكس.

(10) النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكل ميسر لما خلق له.


(11) أن السنة تبين القرآن وتوضحه وتدل عليه.

ابو وليد البحيرى
2019-01-15, 05:41 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (20)




حديث ( كلمتان حبيبتان إلى الرحمن .. )




قال الإمام البخاري في آخر (كتاب التوحيد) من صحيحه:

حدثني أحمد بن إشكاب حدثنا محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال: قال النبي _ صلى الله عليه وسلم _ : ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)).

المبحث الأول: التخريج:

أورد البخاري هذا الحديث في ثلاثة مواضع من صحيحه هذا أحدها وهو آخر حديث في صحيح البخاري في ( باب قول الله تعالى: ( وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسطَ ))، والثاني في (كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح) ولفظه: حدثنا زهير بن حرب حدثنا ابن فضيل عن عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ عن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ قال: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن:سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده))، والثالث في (كتاب الأيمان والنذور، باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم، فصلى أو قرأ أو سبح أو حمد أو هلل فهو على نيته) ولفظه: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا محمد بن فضيل حدثنا عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ : ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)).

ورواه مسلم في (كتاب الذكر والدعاء) من صحيحه فقال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب وأبو كريب ومحمد بن طريف البجلي قالوا: حدثنا ابن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)).

وأخرجه الترمذي في (أبواب الدعاء) من جامعه (باب ما جاء في فضل التسبيح، والتكبير، والتهليل، والتحميد) ولفظه: حدثنا يوسف بن عيسى حدثنا محمد بن الفضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال: قال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ : ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)). قال هذا حديث حسن غريب صحيح.

ورواه ابن ماجه في سننه في (كتاب الأدب، باب فضل التسبيح) فقال: حدثنا أبو بشر وعلي بن محمد قالا حدثنا محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال: قال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ : ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)).

ورواه الإمام أحمد في (المسند) عن شيخه محمد بن فضيل بمثل إسناده ومتنه عند البخاري في (كتاب الأيمان والنذور).

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ البخاري أحمد بن إشكاب: قال الحافظ في (التقريب): أحمد بن إشكاب الحضرمي، أبو عبد الله الصفار، واسم إشكاب مجمع ـ وهو بكسر الهمزة بعدها معجمة ـ ثقة حافظ، من الحادية عشرة، مات سنة سبع عشرة أو بعدها ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال البخاري وحده.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): أحمد بن إشكاب أبو عبد الله الصفار، الكوفي، سكن مصر، سمع محمد بن فضيل بن غزوان، روى عنه البخاري وقال: آخر ما لقيته بمصر سنة سبع عشرة ومائتين. ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن يعقوب بن شيبة، وأبي حاتم، والعجلي.

الثاني: محمد بن فضيل: قال الحافظ في (التقريب): محمد بن فضيل بن غزوان ـ بفتح المعجمة وسكون الزاي ـ الضبي مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفي، صدوق عارف، رمي بالتشيع، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ـ أي بعد المائةـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في مقدمة الفتح: محمد بن فضيل بن غزوان، الكوفي، أبو عبد الرحمن الضبي، من شيوخ أحمد، وله تصانيف، وثقه العجلي وابن معين. وقال أحمد: كان شيعياً حسن الحديث. وقال أبو زرعة: صدوق من أهل العلم. وقال النسائي: لا بأس به. وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقاً، كثير الحديث، شيعياً، وبعضهم لا يحتج به.

قلت ـ أي الحافظ ابن حجر ـ: إنما توقف فيه من توقف لتشيعه. وقال: قال أحمد بن عليّ الأبار: حدثنا أبو هاشم سمعت ابن فضيل يقول: ((رحم الله عثمان ولا رحم الله من لا يترحم عليه))، قال: ((ورأيت عليه آثار أهل السنة والجماعة رحمه الله))، احتج به الجماعة. انتهى.

الثالث: عمارة بن القعقاع: قال الحافظ في (التقريب): عمارة بن القعقاع بن شبرمة ـ بضم المعجمة والراء بينهما موحدة ساكنة ـ، الضبي ـ بالمعجمة والموحدة ـ، الكوفي، ثقة أرسل عن ابن مسعود، وهو من السادسة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن ابن معين، والنسائي، وابن سعد، ويعقوب بن سفيان.

الرابع: أبو زرعة: قال الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب): أبو زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي، قيل: اسمه هرم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جرير، ثقة، من الثالثة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن ابن معين وابن خراش.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): هرم بن عمرو بن جرير بن عبد الله، أبو زرعة البجلي، الكوفي، سمع أبا هريرة، وجده جرير بن عبد الله عندهما. وقال: روى عنه أبو حيان التيمي، وعليّ بن مدرك، وعمارة بن القعقاع عندهما.

الخامس: صحابي الحديث أبو هريرة _ رضي الله عنه _ : قال الحافظ في (تقريب التهذيب): أبو هريرة الدوسي، الصحابي الجليل، حافظ الصحابة، اختلف في اسمه واسم أبيه، قيل: عبد الرحمن بن صخر ثم ذكر أقوالاً قال بعدها: واختلف في أيها الأرجح؟ فذهب الأكثرون إلى الأوّل، وذهب جمع من النسابين إلى عمرو بن عامر، مات سنة سبع، وقيل: سنة ثمان، وقيل: سنة تسع وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): أبو هريرة، اسمه عبد الرحمن بن صخر الدوسي، الحافظ، له خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثاً، اتفقا على ثلاثمائة وخمسة وعشرين، وانفرد البخاري بتسعة وسبعين، ومسلم بثلاثة وتسعين.

وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري أربعمائة وستة وأربعين حديثاً. وترجم له الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) في اثنتي عشرة صفحة، وذكر الكثير من مناقبه _ رضي الله عنه _، وقال: وروى أبو هريرة عن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ الكثير الطيب، وكان من حفاظ الصحابة، وروى عن أبي بكر، وعمر، وأبي بن كعب، وأسامة بن زيد، ونضرة بن أبي نضرة، والفضل بن العباس، وكعب الأحبار، وعائشة أم المؤمنين، وحدث عنه خلائق من أهل العلم. وقال: قال البخاري: روى عنه نحو من ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم، وقال: وقد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم.

المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسناد الخمسة خرّج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلاّ شيخ البخاري أحمد بن إشكاب فقد انفرد البخاري بإخراج حديثه.

(2) رجال الإسناد كوفيون إلاّ الصحابي فإنه مدني.

(3) الصحابي والتابعي في الإسناد كل منهما اشتهر بكنيته، وكل منهما اختلف في اسمه.

(4) الصحابي في هذا الإسناد هو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في (الإصابة): وقد أجمع أهل الحديث على أنه أكثر الصحابة حديثاً. وقال النووي في (التقريب): وأكثرهم حديثا أبو هريرة ثم ابن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وعائشة.

وقد بين السيوطي في شرحه (تدريب الراوي) عدد ما لكل واحد منهم من الحديث فذكر عدد ما لأبي هريرة _ رضي الله عنه _ ، وهو يوافق العدد الذي تقدم ذكره نقلاً عن (الخلاصة) للخزرجي، وذكر أن الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما: ألفا حديث وستمائة وثلاثون حديثاً، والذي رواه أنس _ رضي الله عنه _ : ألفا حديث ومائتان وستة وثمانون حديثاً(1)، والذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما: ألف وستمائة وستون حديثاً، والذي رواه جابر: ألف وخمسمائة وأربعون حديثاً. والذي روته عائشة رضي الله عنها: ألفان ومائتا حديث وعشرة أحاديث، ثم قال السيوطي: وليس في الصحابة من يزيد حديثه على ألف غير هؤلاء إلاّ أبا سعيد فإنه روى ألفا ومائة وسبعين حديثاً. وقد نظم السيوطي هؤلاء الصحابة السبعة الذين زاد حديث كل منهم على ألف حديث في ألفيته في علوم الحديث فقال:






والمكثرون في رواية الأثــر
وأنــس والبحــر كالخدري







أبــو هريرة يليــه ابن عمر
وجـــابر وزوجــة النبي







(5) هذا الحديث من أمثلة الفرد المطلق، فقد تفرد في روايته أبو هريرة _ رضي الله عنه _ ، وتفرد في روايته عن أبي هريرة أبو زرعة، وتفرد به عن أبي زرعة عمارة بن القعقاع، وتفرد به عن عمارة محمد بن فضيل، ثم كثر رواته عن محمد بن فضيل، وذكر الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث أنه لم ير هذا الحديث إلاّ من طريق محمد بن فضيل بهذا الإسناد، ولما ذكر تخريج الترمذي له وقوله عقبه: حسن صحيح غريب، قال: قلت: وجه الغرابة فيه ما ذكرته من تفرد محمد بن فضيل وشيخه وشيخ شيخه وصحابيه. انتهى.

ومثل هذا الحديث في ذلك، الحديثُ الذي جعله البخاري ـ رحمه الله ـ فاتحة كتابه وهو حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، فإنه فرد مطلق أيضاً، تفرد بروايته عن عمر علقمة بن وقاص الليثي، وتفرد به عن علقمة محمد بن إبراهيم التيمي، وتفرد به عن محمد بن إبراهيم يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم اشتهر عن يحيى بن سعيد، ففاتحة صحيح البخاري فرد مطلق وخاتمته فرد مطلق.

(6) حديث أبي هريرة _ رضي الله عنه _ هذا هو آخر حديث أورده البخاري في (الجامع الصحيح)، فهو خاتمة صحيحه، وقد تبعه بعض المصنفين في الحديث: في جعله خاتمة كتبهم، ومن هؤلاء الحافظ المنذري ختم به كتابه (الترغيب والترهيب)، ومنهم ابن حجر العسقلاني ختم به كتابه (بلوغ المرام من أدلة الأحكام).



المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) قوله (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن... الخ): كلمتان خبر مقدم مبتدؤه سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، والنكتة في تقديم الخبر تشويق السامع إلى المبتدأ، وكلما طال الكلام في وصف الخبر حسن تقديمه، لأن كثرة الأوصاف الجميلة تزيد السامع شوقاً. قاله الحافظ ابن حجر في (فتح الباري).

(2) أوصاف الخبر الثلاثة (حبيبتان وخفيفتان وثقيلتان): الأوّل حبيبة بمعنى محبوبة، والثاني والثالث فعيلة بمعنى فاعلة.

(3) قوله (حبيبتان إلى الرحمن): قال الحافظ ابن حجر: وخص لفظ الرحمن بالذكر، لأن المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله تعالى على عباده، حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الجزيل.

(4) قوله (خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان): قال الحافظ ابن حجر: وصفهما بالخفة والثقل لبيان قلة العمل وكثرة الثواب.

(5) قوله (ثقيلتان في الميزان): هو من نصوص الوعد التي يعول عليها المرجئة معرضين عن نصوص الوعيد، ويقابلهم الخوارج والمعتزلة الذين يغلبون نصوص الوعيد ويغفلون عن نصوص الوعد، ومذهب أهل السنة والجماعة وسط بين الطرفين المتناقضين، طرف الإفراط وطرف التفريط، فهم يأخذون بنصوص الوعد والوعيد معاً، فيجمعون بين الخوف والرجاء، ولا يقولون كما تقول المرجئة: ((إنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة))، ولا يقولون كما تقول الخوارج والمعتزلة بخروج مرتكب الكبيرة من الإيمان في الدنيا وخلوده في النار في الآخرة، وإنما يرون أن العاصي مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فليس عندهم من أهل الإيمان المطلق (الكامل) ولا يمنعونه مطلق الاسم، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، هذا حكمه عندهم في الدنيا، أما في الآخرة فكل ذنب دون الشرك فأمر صاحبه إلى الله، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه في النار عقوبة لجريمته ثم يخرجه منها ويدخله الجنة، فمآله إلى الجنة ولابد، ولهذا يجمع الله بين الترغيب والترهيب في كتابه العزيز فيقول: (( نَبِّىء عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 49 ) وَأَنَّ عَذَابِي هَوَ العَذَابُ الأَلِيمُ )) ، ويقول: (( إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمُ )) ، ويقول: (( اعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) يرشد بذلك عباده إلى أن يخافوه ويرجوه، فلا يأمنون مكر الله لرجائهم المجرد عن الخوف، ولا يقنطون من رحمته لخوفهم المجرد عن الرجاء، بل كما قال تعالى عن أوليائه: (( إِنَّهُم كَانُوا يُسَرِعُونَ في الخَيرَاتِ وَيَدعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ )) ، وقال تعالى: (( وَالَّذِينَ يُؤتُونَ مَا ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ أَنَّهُم إِلَى رَبِّهِم رَاجِعُونَ )).

وقد نقل الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث عن ابن بطال أنه قال: ((هذه الفضائل الواردة في فضل الذكر إنما هي لأهل الشرف في الدين والكمال، كالطهارة من الحرام والمعاصي العظام، فلا تظن أن من أدمن الذكر، وأصرّ على ما شاءه من شهواته، وانتهك دين الله وحرماته، أنه يلتحق بالمطهرين المقدسين، ويبلغ منازلهم بكلام أجراه على لسانه، ليس معه تقوى ولا عمل صالح)). انتهى.

(6) قوله (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم): المعنى: أنزه الله عن كل ما لا يليق به، قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): وسبحان اسم منصوب على أنه واقع موقع المصدر لفعل محذوف تقديره: سبحت الله سبحاناً، كسبحت الله تسبيحاً، ولا يستعمل غالباً إلاّ مضافاً وهو مضاف إلى المفعول، أي سبحت الله، ويجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل أي نزه الله نفسه، والمشهور الأوّل، وقد جاء غير مضاف في الشعر كقوله:

سبحانه ثم سبحانا أنزهه .......................

وقال في قوله (وبحمده): قيل: الواو للحال، والتقدير أسبح الله متلبساً بحمدي له من أجل توفيقه، وقيل: عاطفة، والتقدير أسبح الله وأتلبس بحمده.

(7) قوله (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم): قال الحافظ ابن حجر فيما نقله عن شيخه أبي حفص عمر البلقيني في أواخر مقدمة الفتح قال: ((وهاتان الكلمتان ومعناهما، جاء في ختام دعاء أهل الجنان لقوله تعالى: (( دَعوَاهُم فِيهَا سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُم فِيهَا سَلامٌ وَأخِرُ دَعوَاهُم أَنِ الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ )) .

(8) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:

(1) الحث على المواظبة على هذا الذكر والتحريض على ملازمته.

(2) إثبات صفة المحبة لله تعالى.

(3) الجمع بين تنـزيه الله تعالى والثناء عليه في الدعاء.

(4) بيان الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ لأمته الأسباب التي تقربهم إلى الله وتثقل موازينهم في الدار الآخرة.

(5) إثبات الميزان وجاء في بعض النصوص إثبات أن له كفتين.

(6) إثبات وزن أعمال العباد.

(7) التنبيه على سعة رحمة الله حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الجزيل.

(8) الإشارة بخفة هاتين الكلمتين على اللسان إلى أن التكاليف شاقة على النفس، ومن أجل ذلك قال _ صلى الله عليه وسلم _ : ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)).

وقد جاء عن بعض السلف التعليل لثقل الحسنة وخفة السيئة فقال: ((لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فلذلك ثقلت، فلا يحملنك ثقلها على تركها، والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فلذلك خفت، فلا تحملنك خفتها على ارتكابها.

(9) إطلاق الكلمة مراداً بها الكلام.

(10) جواز السجع إذا وقع بغير كلفة.

(11) إيراد الحكم المرغب في فعله بلفظ الخبر لأن المقصود من سياق هذا الحديث الأمر بملازمة الذكر المذكور.

(12) الإشارة إلى امتثال قوله تعالى: (( وَسَبِح بِحَمدِ رَبِّكَ )) .

هذا ما يسر الله جمعه وتحريره من الكلام على عشرين حديثاً من صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، والتمهيد لها بتعريف موجز بالإمام البخاري وصحيحه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وكان الفراغ من ذلك في يوم السبت الموافق الحادي عشر من شهر صفر سنة تسعين بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.

اللهم اجعلنا ممن أردت به الخير ففقهته في دينك، فسار على النهج القويم الذي بعثت به رسولك الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، اللهم أجرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، واختم لنا هذه الحياة بخاتمة السعادة، واجعلنا اللهم ممن يثقل ميزانه بالحسنات، إنك جواد كريم ملك بَرّ رؤوف رحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
















(1) تقدم النقل عن (الخلاصة) للخزرجي ص 91، وهو يخالف هذا، والظاهر صحة ما هنا.

ابو وليد البحيرى
2019-01-21, 04:56 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (21)


حديث (إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب)




قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الإيمان من صحيحه:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب وإسحاق بن إبراهيم جميعًا عن وكيع قال أبو بكر: حدثنا وكيع عن زكريا بن إسحاق قال: حدثني يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس عن معاذ بن جبل قال أبو بكر ربما قال وكيع عن ابن عباس أن معاذا قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افْتَرَضَ عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.

المبحث الأول: التخريج:

روى مسلم ـ رحمه الله ـ هذا الحديث من هذه الطريق ثم عقبه بطرق أخرى فقال: حدثنا ابن أبي عمر حدثنا بشر بن السري حدثنا زكريا بن إسحاق (ح) وحدثنا عبد بن حميد حدثنا أبو عاصم عن زكريا بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال: ((إنك ستأتي قوماً...))، بمثل حديث وكيع.

حدثنا أمية بن بسطام العيشي حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح ـ وهو ابن القاسم ـ عن إسماعيل بن أمية عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن قال: ((إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله ، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوقَ كرائم أموالهم)).

وهذه الطرق عند مسلم مدارها على يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد، إلا أن المتن في الطريق الأولى من مسند معاذ رضي الله عنه، وفي بقية الطرق من مسند ابن عباس رضي الله عنهما، أما سائر الروايات الآتية عند البخاري وغيره فهي من مسند ابن عباس وكلها عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد.

وأخرجه البخاري في صحيحه في سبعة مواضع قال في أولها ـ وهو أول حديث عنده في كتاب الزكاة ـ: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن زكريا بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن فقال: ((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)).

والثاني: في (كتاب الزكاة) في (باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة)، رواه عن شيخه أمية بن بسطام بمثل إسناده ونحو متنه عند مسلم.

والثالث: في (كتاب الزكاة) أيضاً في (باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا)، قال فيه:

حدثنا محمد أخبرنا عبد الله أخبرنا زكريا بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ((إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)).

والرابع: في (كتاب المظالم، باب الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم) قال فيه: حدثنا يحيى بن موسى حدثنا وكيع حدثنا زكريا بن إسحاق المكي عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال: ((اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب)).

والخامس: في (كتاب المغازي) في (باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع). أخرجه عن شيخه حبان بن موسى عن عبد الله بن المبارك عن زكريا بن إسحاق بمثل إسناده ومتنه في (باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا).

والسادس والسابع: في (كتاب التوحيد) في (باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى). وهو أول حديث عنده في (كتاب التوحيد) قال فيهما: حدثنا أبو عاصم حدثنا زكريا بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن...، وحدثني عبد الله بن الأسود حدثنا الفضل بن العلاء حدثنا إسماعيل بن أمية عن يحيى بن عبد الله بن محمد بن صيفي أنه سمع أبا معبد مولى ابن عباس يقول سمعت ابن عباس يقول: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا نحو اليمن قال له: ((إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس)).

ورواه أبو داود في (كتاب الزكاة) من سننه في (باب في زكاة السائمة) قال فيه: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا زكريا بن إسحاق المكي عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن...، وساق متنه بنحو سياقه عند مسلم من حديث وكيع إلا أن فيه: ((فإن هم أطاعوك لذلك)) بدل قوله: ((فإن هم أطاعوا لذلك)) وفيه ((فإنها ليس بينها وبين الله حجاب)) بدل ((فإنه ليس بينها وبين الله حجاب))، وهو عنده من مسند ابن عباس رضي الله عنهما.

وأخرجه الترمذي في جامعه في (كتاب الزكاة، باب كراهية أخذ خيار المال في الصدقة) رواه عن شيخه أبي كريب عن وكيع بمثل إسناده ومتنه عند مسلم إلا أنه من مسند ابن عباس لا من مسند معاذ.

وأخرج طرفاً منه في (كتاب البر) وهو قوله: ((اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)). بإسناده في (كتاب الزكاة)، وقال: قال أبو عيسى: وفي الباب عن أنس وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وأبي سعيد، وهذا حديث حسن صحيح وأبو معبد اسمه نافذ. انتهى.

وأخرجه النسائي في موضعين من (كتاب الزكاة) في سننه أولهما في (باب وجوب الزكاة) وهو أول حديث عنده في (كتاب الزكاة) قال فيه: أخبرنا محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي عن المعافى عن زكريا بن إسحاق المكي قال حدثنا يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله عزوجل فرض عليهم خمس صلوات في يوم وليلة، فإن هم ـ يعني أطاعوك بذلك ـ فأخبرهم أن الله عزوجل فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوك بذلك فاتق دعوة المظلوم)).

والثاني في (باب إخراج الزكاة من بلد إلى بلد) قال فيه: أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك قال حدثنا وكيع قال حدثنا زكريا بن إسحاق وكان ثقة عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذ بن جبل إلى اليمن فقال: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب...)) وساق متنه بنحو حديث وكيع عند مسلم.

وأخرجه ابن ماجه في سننه، وهو أول حديث عنده في (كتاب الزكاة، باب فرض الزكاة) قال فيه: حدثنا علي بن محمد حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا زكريا بن إسحاق المكي عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال، وساق متنه بمثل متنه عند مسلم من حديث وكيع.

وأخرج طرفاً منه الدارمي في سننه في (كتاب الزكاة، باب النهي عن أخذ الصدقة من كرائم أموال الناس) فقال: أخبرنا أبو عاصم عن زكريا عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال: ((إياك وكرائم أموالهم)).

وأخرجه الدار قطني في أواخر (كتاب الزكاة) من سننه من طريقين إلى يحيى بن عبد الله بن صيفي.

والحديث من هذه الطرق جميعها من مسند ابن عباس لا من مسند معاذ، إلا في هذه الطريق الواحدة عند مسلم عن شيوخه أبي بكر وأبي كريب وابن راهويه، وقد قال النووي في شرحه لهذا الحديث في صحيح مسلم بعد أن أشار إلى أن الرواية الأولى عند مسلم تقتضي أن الحديث من مسند معاذ والروايتين الأخيرتين تقتضيان أن الحديث من مسند ابن عباس: ((ووجه الجمع بينهما أن يكون ابن عباس سمع الحديث من معاذ فرواه تارة عنه متصلاً وتارة أرسله، فلم يذكر معاذاً وكلاهما صحيح، كما قدمنا أن مرسل الصحابي إذا لم يعرف المحذوف يكون حجة، فكيف وقد عرفناه في هذا الحديث أنه معاذ، ويحتمل أن ابن عباس سمعه من معاذ وحضر القضية، فتارة رواها بلا واسطة لحضوره إياها، وتارة رواها عن معاذ، إما لنسيانه الحضور أو لمعنى آخر، والله أعلم)).

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرحه للحديث في (كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا): قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن)، كذا في جميع الطرق إلاّ ما أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب وإسحاق بن إبراهيم ثلاثتهم عن وكيع فقال فيه: عن ابن عباس عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فعلى هذا فهو من مسند معاذ، وظاهر سياق مسلم أن اللفظ مدرج لكن لم أر ذلك في غير رواية أبي بكر بن أبي شيبة، وسائر الروايات أنه من مسند ابن عباس)، فقد أخرجه الترمذي عن أبي كريب عن وكيع فقال فيه: عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا، وكذا هو في مسند إسحاق بن إبراهيم ـ وهو ابن راهويه ـ قال: حدثنا وكيع، وكذا رواه عن وكيع أحمد في مسنده، وأخرجه أبو داود عن أحمد، وسيأتي في (المظالم) عن يحيى بن موسى عن وكيع كذلك، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه عن محمد بن عبد الله المخرمي وجعفر بن محمد الثعلبي وللإسماعيلي من طريق أبي خيثمة وموسى بن السدي، والدار قطني من طريق يعقوب بن إبراهيم الدورقي وإسحاق بن إبراهيم البغوي كلهم عن وكيع كذلك، فإن ثبتت رواية أبي بكر فهو من مرسل ابن عباس، لكن ليس حضور ابن عباس لذلك ببعيد، لأنه كان في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهو إذ ذاك مع أبويه بالمدينة.

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ مسلم أبو بكر بن أبي شيبة: وهو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، إبراهيم بن عثمان الواسطي الأصل، أبو بكر بن أبي شيبة الكوفي ثقة حافظ صاحب تصانيف، من العاشرة مات سنة خمس وثلاثين ومائتين. قاله الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى الترمذي. وقال الخزرجي في (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال): عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي بموحدة مولاهم أبو بكر بن أبي شيبة الكوفي الحافظ، أحد الأعلام وصاحب المصنف، عن شريك وهشيم وابن المبارك وجرير بن عبد الحميد وابن عيينة وخلق، وعنه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه وأبو زرعة وعثمان بن خرزاذ وأحمد بن علي المروزي وخلق. قال أبو زرعة: ما رأيت أحفظ منه. وقال الخطيب: كان متقناً حافظاً، صنف التفسير وغيره. انتهى. وذكره الذهبي في (الميزان) وقال: وثقه الجماعة وما كاد يسلم...، ثم بين رأيه فيه قائلا: قلت: أبو بكر ممن قفز القنطرة وإليه المنتهى في الثقة. انتهى. وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) كثيراً من شيوخه وتلاميذه، ونقل توثيقه عن العجلي وأبي حاتم وابن خراش وابن قانع، وقول أبي عبيد القاسم: انتهى العلم إلى أربعة: فأبو بكر أسردهم له، وأحمد أفقههم فيه، ويحيى أجمعهم له، وعلي أعلمهم به. وقول ابن حبان فيه: كان متقناً حافظاً دينا، ممن كتب وجمع وصنّف وذاكر، وكان أحفظ أهل زمانه للمقاطيع. وختم ترجمته الحافظ في (تهذيب التهذيب) بقوله: وفي الزهرة: روى عنه البخاري ثلاثين حديثاً ومسلم ألفاً وخمسمائة وأربعين حديثا.

الثاني: شيخ مسلم أبو كريب: قال الحافظ في (التقريب): محمد بن العلاء بن كريب الهمداني أبو كريب الكوفي، مشهور بكنيته، ثقة حافظ، من العاشرة مات سنة سبع وأربعين ـ أي بعد المائتين ـ وهو ابن سبع وثمانين سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة، وسمى في (تهذيب التهذيب) عدداً من شيوخه وتلاميذه، وذكر جملة من ثناء العلماء عليه وتوثيقه عن النسائي ومسلمة بن قاسم وقال: وذكره ابن حبان في الثقات. وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه البخاري خمسة وسبعين حديثاً ومسلم خمسمائة وستة وخمسين حديثاً.

الثالث: شيخ مسلم إسحاق بن إبراهيم: قال الحافظ في (التقريب): إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي، أبو محمد بن راهويه المروزي، ثقة حافظ مجتهد قرين أحمد بن حنبل. ذكر أبو داود أنه تغير قبل موته بيسير، مات سنة ثمان وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ وله اثنان وسبعون، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى ابن ماجه. وذكر الذهبي في (الميزان) وابن حجر في (تهذيب التهذيب) أن كنيته أبو يعقوب. وقال الخزرجي في (الخلاصة): الإمام الفقيه الحافظ العلم، ولد سنة إحدى وستين ومائة، عن معتمر بن سليمان والدراوردي وابن عيينة وبقية وابن علية، وخلق بالحجاز والشام والعراق وخراسان، وعنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال: ثقة مأمون أحد الأئمة. قال أحمد: لا أعلم لإسحاق نظيراً، إسحاق عندنا من أئمة المسلمين، وإذا حدثك أبو يعقوب أمير المؤمنين فتمسك به. وقال الخفاف: أملى علينا إسحاق أحد عشر ألف حديث من حفظه ثم قرأها يعني في كتابه فما زاد ولا نقص.

الرابع: شيخ شيوخ البخاري وكيع: قال الحافظ في (التقريب): وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي ـ بضم الراء وهمزة ثم مهملة ـ أبو سفيان الكوفي، ثقة حافظ عابد، من كبار التاسعة، مات في آخر سنة ست أو أول سنة سبع وتسعين ـ أي بعد المائة ـ وله سبعون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وترجم له في (تهذيب التهذيب) في سبع صفحات، ذكر فيها عدداً ممن روى عنهم، وعدداً ممن رووا عنه، ومن الذين روى عنهم: أبوه وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وابن جريج، والأوزاعي، ومالك، وزكريا بن إسحاق، وزكريا بن أبي زائدة، وسفيان الثوري، وشعبة.

ومن الذين رووا عنه: عبد الرحمن بن مهدي، وأحمد، وعليّ، ويحيى، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وأبو خيثمة، والحميدي، والقعنبي، وغيرهم. وذكر فيها كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك: قول عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه: ((ما رأيت أوعى للعلم من وكيع ولا أحفظ منه)). وقول عليّ بن خشرم: ((رأيت وكيعاً، وما رأيت بيده كتاباً قط، إنما هو يحفظ، فسألته عن دواء الحفظ؟ فقال: ترك المعاصي، ما جربت مثله للحفظ)). وقول ابن سعد: ((كان ثقة مأموناً عالياً، رفيع القدر كثير الحديث حجّة)). وقول العجلي: ((كوفي ثقة عابد صالح أديب، من حفاظ الحديث وكان يفتي)). وقول إسحاق بن راهويه: ((كان حفظه طبعاً، وحفظنا بتكلف)).

الخامس: زكريا بن إسحاق: قال الحافظ في (التقريب): زكريا بن إسحاق المكي ثقة رمي بالقدر، من السادسة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن عمرو بن دينار، وأبي الزبير، وإبراهيم بن ميسرة، ويحيى بن عبد الله بن صيفي، وغيرهم. وعنه أزهر بن القاسم، وروح بن عبادة، وبشر بن السري، وابن المبارك، وعبد الرزاق، ووكيع، وأبو عامر العقدي، وأبو عاصم، وغيرهم.

ونقل توثيقه عن أحمد وابن معين وأبي داود وابن سعد ووكيع والبرقي والحاكم. وقال الذهبي في (الميزان): ثقة حجة مشهور. قال ابن معين: قدري ثقة. انتهى، ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.

السادس: يحيى بن عبد الله بن صيفي: قال الحافظ في (التقريب): يحيى بن عبد الله بن محمد بن صيفي المكي، ثقة من السادسة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام، وأبي معبد مولى ابن عباس، وأبي سلمة بن سفيان، وعتاب بن حنين، وسعيد بن جبير. وعنه ابن جريج، وإسماعيل بن أمية، وزكريا بن إسحاق، وعبد الله بن أبي نجيح، وغيرهم. ونقل توثيقه عن ابن معين والنسائي وابن سعد. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.

السابع: أبو معبد واسمه نافذ: قال الحافظ في (التقريب): نافذ ـ بفاء ومعجمة ـ أبو معبد مولى ابن عباس المكي، ثقة من الرابعة مات سنة أربع ومائة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): نافذ أبو معبد مولى ابن عباس حجازي روى عن مولاه. وعنه عمرو بن دينار، ويحيى بن عبد الله بن صيفي، وأبو الزبير، وسليمان الأحول، والقاسم بن أبي بزة، وفرات القزاز. ونقل توثيقه عن أحمد وابن معين وأبي زرعة، وقال: وذكره ابن حبان في الثقات.

الثامن: ابن عباس رضي الله عنهما: وهو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي أبو العباس المكي ثم المدني ثم الطائفي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وحبر الأمة وفقيهها وترجمان القرآن، وهو أحد المكثرين في الصحابة من رواية الحديث، وأحد العبادلة الأربعة، مات في الطائف سنة ثمان وستين، وحديثه في الكتب الستة، وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الثاني من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

التاسع: معاذ بن جبل رضي الله عنه: وهو أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي المدني، مات بالشام سنة ثمان عشرة، وحديثه في الكتب الستة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث السادس عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسناد التسعة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلا شيخ البخاري أبا بكر بن أبي شيبة فلم يخرج حديثه الترمذي، وشيخه إسحاق بن إبراهيم بن راهويه فلم يخرّج له ابن ماجه.

(2) في الإسناد ثلاثة كوفيون وهم: أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب ووكيع، وأربعة مكيون وهم: زكريا بن إسحاق ويحيى بن عبد الله بن صيفي وأبو معبد وابن عباس.

(3) في الإسناد مولى من أعلى وهو: ابن عباس، ومولى من أسفل هو: أبو معبد، فالحديث من رواية مولى من أسفل عن مولى من أعلى.

(4) في الإسناد رجل وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث وهو: إسحاق بن راهويه، وصفه بذلك أحمد بن حنبل.

(5) في الإسناد ثلاثة اشتهروا بكناهم وهم: أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب محمد بن العلاء وأبو معبد مولى ابن عباس.

(6) وكيع في الإسناد غير منسوب وهو: ابن الجراح، ولا لبس في عدم نسبته لأنه ليس في رجال صحيح مسلم من يسمى بهذا الاسم غيره، بل جملة من يسمى وكيعاً في الكتب الستة ثلاثة: الأول وكيع بن الجراح وقد اتفقوا على إخراج حديثه، والثاني وكيع ابن عدس وهو من رجال الأربعة، والثالث وكيع بن محرز وهو من رجال ابن ماجه وحده.

(7) في الإسناد إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في (تهذيب التهذيب): وقال الآجري: سمعت أبا داود يقول: إسحاق بن راهويه تغير قبل أن يموت بخمسة أشهر، وسمعت منه في تلك الأيام فرميت به. انتهى. والحكم في رواية المختلط عند المحدثين قبول ما حدّث به قبل الاختلاط دون ما كان بعده. وقد قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: واعلم أن ما كان من هذا القبيل محتجاً به في الصحيحين، فهو مما علم أنه أخذ قبل الاختلاط.

(8) في الإسناد صحابيان: ابن عباس ومعاذ رضي الله عنهما، فهو من رواية صحابي عن صحابي.

(9) قال في الإسناد أولاً: عن ابن عباس عن معاذ بن جبل ثم قال: قال أبو بكر: ربما قال وكيع عن ابن عباس أن معاذا قال.

قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: هذا الذي فعله مسلم ـ رحمه الله ـ نهاية التحقيق والاحتياط والتدقيق، فإن الرواية الأولى قال فيها: (عن معاذ)، والثانية: (أن معاذا)، وبين (أنَّ) و(عن) فرق، فإن الجماهير قالوا: (أنَّ) (كـعن)، فيحمل على الاتصال. وقال جماعة: لا تلتحق (أنَّ) بـ (عن)، بل تحمل (أنَّ) على الانقطاع ويكون مرسلاً، ولكنه هنا يكون مرسل صحابي، له حكم المتصل على المشهور من مذاهب العلماء، ثم قال: فاحتاط مسلم ـ رحمه الله ـ وبيّن اللفظين، والله أعلم.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) هذا الحديث صدر به البخاري (كتاب الزكاة) و(كتاب التوحيد) من صحيحه، وصدر به أيضاً النسائي وابن ماجه (كتاب الزكاة) من سننهما، وتبعهم في ذلك بعض المصنفين في الحديث، كالحافظ عبد الغني المقدسي في (عمدة الأحكام)، والمجد بن تيمية في (منتقى الأخبار)، والحافظ ابن حجر في (بلوغ المرام)، والشيخ أحمد بن عبد الهادي المقدسي في (المحرر في الحديث)، والإمام البغوي في (مصابيح السنة) وغيرهم، ولعل ذلك لاشتمال هذا الحديث على فرضية الزكاة مع التحذير من الظلم فيها.

(2) قول معاذ رضي الله عنه: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم) بينت الروايات الأخرى أن بعثه هذا كان إلى اليمن وهو في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث في الموضع الثالث من مواضع إيراد البخاري هذا الحديث في (كتاب الزكاة): وكان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي صلى الله عليه وسلمكما ذكره المصنف ـ يعني البخاري ـ في أواخر المغازي، وقيل كان ذلك في أواخر سنة تسع عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك. رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك، وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه، ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر، وقيل: بعثه عام الفتح ستة ثمان، واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها، واختلف هل كان معاذا والياً أو قاضياً؟ فجزم ابن عبد البر بالثاني، والغساني بالأول. انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في (فتح المجيد): ومن فضائل معاذ رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن مبلغاً عنه ومفقهاً ومعلماً وحاكماً.

(3) قوله (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب): قال الحافظ في الفتح: هي كالتوطئة للوصية، لتستجمع همته عليها لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان، وليس فيه أن جميع من يقدم عليهم من أهل الكتاب، بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم وإنما خصهم بالذكر تفضيلاً لهم على غيرهم.

(4) قوله (فادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله وأني رسول الله)، وفي بعض الروايات (وأن محمداً رسول الله)، وفي بعضها (فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عزوجل)، وفي بعضها (إلى أن يوحدوا الله): ولا تنافي بينها فإن المراد بعبادة الله توحيده، وبتوحيده الشهادة له بذلك ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وإنما بدئ بهما لأنهما أصل وأساس لغيرهما، فلا ينفع أي عمل بدونهما

وجمع بينهما لتلازمهما وأنه لا تنفع واحدة منهما بدون الأخرى، فلابد للدخول في الإسلام من الإتيان بهما معاً. ولهذا جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً واحداً وركناً أساسياً في أركان الإسلام الخمسة كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان)). متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. فهما معاً الركن الأول والأساسي في هذه الأركان الخمسة.

(5) قوله (فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة). عدى الفعل أطاع باللام، وهو يتعدى بنفسه لأنه ضمن معنى انقاد. واستدل بهذه الجملة على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع حيث دعوا إلى الإيمان فقط ثم دعوا إلى العمل، ورتب ذلك عليه بالفاء. وتعقب هذا الاستدلال بأن مفهوم الشرط مختلف في الاحتجاج به، وبأن الترتيب في الدعوة لا يستلزم الترتيب في الوجوب، كما أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب، وقد قدمت إحداهما على الأخرى في هذا الحديث ورتبت الأخرى عليها بالفاء، فلا يلزم من عدم الإتيان بالصلاة إسقاط الزكاة، وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال هذا أحدها، والثاني: أنهم مخاطبون بها، والثالث: أنهم مخاطبون من الفروع بالمنهي عنه دون المأمور به. وأرجحها أنهم مخاطبون بها مطلقاً وهم مطالبون بها، وبتقديم الشهادتين عليها لأنهما أصل بنفسهما وأساس لغيرهما، فيعذبون بسبب ترك الفروع علاوة على عذابهم بترك الأصول


(6) قوله: بعد إعلامهم بفرضية الصلاة والزكاة (فإن هم أطاعوا لذلك) يحتمل أن المراد بالإطاعة: الإقرار والالتزام، ويحتمل الفعل. قال الحافظ في (الفتح): والذي يظهر أن المراد: القدر المشترك بين الأمرين، فمن امتثل بالإقرار أو الفعل كفاه أو بهما فأولى، وقد وقع في رواية الفضل بن العلاء بعد ذكر الصلاة (فإذا صلوا) وبعد ذكر الزكاة (فإذا أقروا فخذ منهم).

(7) ذكر في الحديث الفقراء دون المساكين. وفي آية قسمة الصدقات ذكرا معاً، وهما من الألفاظ التي إذا جمع بينهما في الذكر فرّق بينهما في المعنى، وإذا أفرد أحدهما عن الآخر كما في هذا الحديث، شمل معناهما جميعاً، فإذا فسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئًا وفسر المسكين بأنه الذي يجد بعض الكفاية مثلاً عند الجمع بينهما، فإنه في حالة ذكر الفقير وحده كما في هذا الحديث أو ذكر المسكين وحده يكون المذكور شاملاً لمن لا يجد شيئاً أو يجد بعض الكفاية.

(8) قوله (فإياك وكرائم أموالهم): (كرائم) منصوب بفعل مضمر وجوباً وهي جمع كريمة أي نفيسة، قيل: هي الجامعة للكمال الممكن في حقها من غزارة لبن، وجمال صورة، وكثرة لحم وصوف. وقيل: هي خيار المال وأنفسه وأكثره ثمناً. وقيل: هي ما يؤثر صاحب المال نفسه بها. وهذه الأقوال هي من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، فلا تنافي بينها، وإنما حذّر صلى الله عليه وسلممن أخذ كرائم الأموال لأن الزكاة شرعت لمواساة الفقراء، فلا يناسب فيها الإجحاف بأموال الأغنياء بدون رضاهم.

(9) في الحديث: النهي عن أخذ كرائم الأموال، ولا تعرض فيه لما سواها وهو صنفان: وسط ورديء، فتجب من أوساط المال دون رديئه لحديث عبد الله بن معاوية الغاضري مرفوعاً وفيه: ((ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره)) رواه أبو داود والطبراني.


(10) قوله (واتق دعوة المظلوم). أي اجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وترك الظلم. والسر في ذكرها بعد التحذير من أخذ كرائم الأموال، الإشارة إلى أن أخذ الكرائم ظلم. وإنما جاء على هذا السياق للتحذير والتنفير من مطلق الظلم الشامل لما ذكر وغيره.

(11) قوله (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). أي ليس لها صارف يصرفها ولا مانع، والمراد: أنها مقبولة وإن كان عاصياً، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد مرفوعاً. دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً، ففجوره على نفسه. قال الحافظ في (الفتح): وإسناده حسن، وهو وإن كان مطلقاً فهو مقيد بالحديث الصحيح الدال على أن الداعي على ثلاث مراتب: إما أن يعجل له ما طلب، وإما أن يدخر له أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله. وهذه الجملة التي ختم بها الحديث تعليل للاتقاء المأمور به في الجملة قبلها.

(12) لم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلمفي وصيته لمعاذ الصوم والحج، وهما من أركان الإسلام مع أن بعث معاذ رضي الله عنه إلى اليمن كان في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أجيب عن ذلك بأجوبة من أحسنها: ما ذكره الحافظ في (الفتح) عن شيخه شيخ الإسلام ـ والظاهر أنه أبو حفص عمر البلقيني ـ قال: إذا كان الكلام في بيان الأركان لم يخل الشارع منه شيء كحديث ابن عمر: ((بني الإسلام على خمس))، فإذا كان في الدعاء إلى الإسلام اكتفى بالأركان الثلاثة: الشهادة والصلاة والزكاة، ولو كان بعد وجود فرض الصوم والحج كقوله تعالى:
في موضعين من براءة، مع أن نزولها بعد فرض الصوم والحج قطعاً، وحديث ابن عمر أيضاً: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة))، وغير ذلك من الأحاديث. قال: والحكمة في ذلك أن الأركان الخمسة اعتقادي وهو الشهادة، وبدني وهو الصلاة، ومالي وهو الزكاة، فاقتصر في الدعاء إلى الإسلام عليها لتفرع الركنين الأخيرين عليها، فإن الصوم بدني محض والحج بدني مالي أيضاً، فكلمة الإسلام هي الأصل وهي شاقة على الكفار، والصلوات شاقة لتكررها، والزكاة شاقة لما في جبلة الإنسان من حب المال، فإذا أذعن المرء لهذه الثلاثة كان ما سواها أسهل عليه بالنسبة إليها، والله أعلم.

(13) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) بعث الإمام الدعاة إلى دين الله سبحانه وتعالى.

(2) دعوته صلى الله عليه وسلمإلى الدين بنفسه وبواسطة رسله.

(3) رسم الخطة للدعاة إلى الإسلام.

(4) تنبيه الداعي إلى أحوال المدعوين للاستعداد لهم وأخذ الحيطة قبل لقائهم.

(5) أن أول شيء يدعى إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

(6) أنه يبدأ في الدعوة بالأهم فالأهم.

(7) أنه لابد في الدخول في الإسلام من الإتيان بالشهادتين معاً فلا تكفي واحدة منهما بدون الأخرى.

(8) أن الكفار يدعون إلى التوحيد قبل القتال.

(9) أن أساس دين الإسلام الإقرار لله بالوحدانية ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة.

(10) أنه لا يشترط للدخول في الإسلام التلفظ بالتبرؤ من كل دين يخالف الإسلام لأن النطق بالشهادتين مستلزم لذلك.

(11) تدرج الداعي والمعلم في الدعوة والتعليم.

(12) قبول خبر الواحد العدل ووجوب العمل به.

(13) بيان عظم شأن الصلاة وأنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين.

(14) أن الصلوات الخمس تجب في كل يوم وليلة.

(15) أن الوتر ليس بواجب.

(16) بعث الإمام العمال لجباية الزكاة.

(17) عظة الإمام عماله وأمرهم بتقوى الله وتحذيرهم من الظلم.

(18) أن الزكاة أوجب أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة.

(19) أن صرف الزكاة في مصارفها إلى الإمام أو من ينيبه.

(20) التعبير بقوله (تؤخذ من أغنيائهم)، يفيد أنه إذا لم يقم بدفعها أُخذت منه قهراً.

(21) أن الزكاة لا تدفع إلى كافر غير المؤلف قلبه.

(22) جواز دفع الزكاة إلى صنف واحد.

(23) الإشارة إلى الفرق بين الغني والفقير، وأن الغني من تؤخذ منه الزكاة والفقير من تدفع إليه الزكاة.

(24) أنه لا زكاة على الفقير.

(25) الاقتصار على ذكر الفقراء يفيد أن حقهم في الزكاة آكد من حق غيرهم من بقية الأصناف.

(26) وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون.

(27) إطلاق لفظ الصدقة على الزكاة المفروضة.

(28) إضافة الأموال إلى الأغنياء والنهي عن أخذ الكرائم منها يفيد التمليك التام لهم وأنها حرام على غيرهم بدون رضاهم.

(29) المنع من أخذ المصدق خيار المال في الصدقة من غير رضا صاحب المال.

(30) أن أخذ المصدق خيار المال بدون رضا صاحبه ظلم.

(31) التنبيه إلى المنع من جميع أنواع الظلم.

(32) بيان عظم تحريم الظلم وأن عاقبته وخيمة.

(33) أن للمظلوم أن يدعو على من ظلمه.

(34) أن دعوة المظلوم مستجابة.

(35) أن المال إذا تلف قبل التمكن من الأداء سقطت الزكاة.

(36) الإشارة إلى أن من تجاوز ما جاء به الشرع وصف بالظلم.

(37) فضل معاذ بن جبل رضي الله عنه.

(38) أن الزكاة تصرف في فقراء البلد الذي أخذت من أغنيائه لقوله (في فقرائهم) وتعقب بأن الضمير للمسلمين فلا مانع من نقلها إلى بلد آخر، ولا شك في أولوية فقراء بلد المال إذا كانوا أشد حاجة من غيرهم.

(39) أن الكفار غير مخاطبين بالفروع، وقد تعقب هذا الاستدلال كما تقدم.

(40) أن من ملك نصاباً لا يعطى من الزكاة.

ابو وليد البحيرى
2019-01-23, 10:17 AM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (22)




حديث لما حضرت أبي طالب الوفاة



قال الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في كتاب الإيمان من صحيحه: وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي أخبرنا عبد الله بن وهب، قال أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عمّ قل: لا إله إلاّ الله كلمة أشهد لك بها عند الله))، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملّة عبد المطلب. وأبى أن يقول: لا إله إلاّ الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك)). فأنزل الله عزوجل:( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) التوبة:113، وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ) yإِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ ) القصص:56.

المبحث الأول: التخريج

أورد مسلم ـ رحمه الله ـ هذا الحديث من طرق هذه إحداها ثم قال عقبها: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر (ح)، وحدثنا حسن الحلواني وعبد بن حميد قالا حدثنا يعقوب وهو ابن إبراهيم بن سعد قال: حدثني أبي عن صالح كلاهما عن الزهري بهذا الإسناد مثله غير أن حديث صالح انتهى عند قوله: فأنزل الله عزوجل

فيه ولم يذكر الآيتين وقال في حديثه: ويعودان في تلك المقالة وفي حديث معمر مكان هذه الكلمة فلم يزالا به.

ـ حدثنا محمد بن عباد وابن أبي عمر قالا حدثنا مروان عن يزيد ـ وهو ابن كيسان ـ عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه عند الموت: ((قل: لا إله إلاّ الله، أشهد لك بها يوم القيامة))، فأبى، فأنزل الله ( yإِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) الآية.

ـ حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا يزيد بن كيسان عن أبي حازم الأشجعي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: ((قل: لا إله إلاّ الله أشهد لك بها يوم القيامة))، قال: لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك. فأنزل الله ( yإِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) .

وأخرجه البخاري في خمسة مواضع من صحيحه، أولها في (كتاب الجنائز، باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلاّ الله). قال فيه: حدثنا إسحاق أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثني أبي عن صالح عن ابن شهاب قال أخبرني سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساق متنه بنحوه عند مسلم إلاّ أن فيه: ويعودان بتلك المقالة. وليس فيه ذكر الآية الثانية، وفيه التنصيص على أن الآية الأولى أنزلت في أبي طالب حيث قال: فأنزل الله تعالى فيه ) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ) الآية.

والثاني: في باب قصة أبي طالب قال فيه: حدثنا محمود حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل فقال: ((أي عم قل: لا إله إلاّ الله كلمة أحاج لك بها عند الله))، قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب. فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لأستغفرن لك ما لم أُنه عنه))، فنزلت: )مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( .ونزلت: ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (.

والثالث: في تفسير سورة براءة، باب ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ (. قال فيه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أي عم قل: لا إله إلاّ الله أحاج لك بها عند الله))، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لأستغفرن لك ما لم أنه عنك))، فنزلت ) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (.

والرابع: في تفسير سورة القصص، باب ) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ (. قال فيه: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة...، وساق متنه بنحوه عند مسلم إلاّ أن فيه: ((أحاج لك بها عند الله)) بدل ((أشهد لك))، وفيه ((ويعيدانه بتلك المقالة))، وفيه ((على ملّة عبد المطلب)) بدون: هو.

والخامس: في (كتاب الأيمان والنذور، باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم فصلى أو قرأ أو سبح أو كبر أو حمد أو هلل فهو على نيته). رواه عن شيخه أبي اليمان بإسناده في تفسير سورة القصص، ومتنه: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((قل: لا إله إلاّ الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)).

وأخرجه النسائي في (كتاب الجنائز) من سننه في النهي عن الاستغفار للمشركين فقال: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال حدثنا محمد ـ وهو ابن ثور ـ عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال: ((أي عم، قل: لا إله إلاّ الله، كلمة أحاج لك بها عند الله عزوجل))، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى كان آخر شيء كلمهم به: على ملّة عبد المطلب. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك))، فنزلت ) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ (.

وأخرجه الإمام أحمد في مسنده فقال: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه، ومتنه مثل متن حديث معمر عن الزهري عند النسائي.

وأخرجه الترمذي في تفسير سورة القصص من جامعه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال فيه: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد عن يزيد بن كيسان حدثني أبو حازم الأشجعي ـ هو كوفي، اسمه سلمان مولى عزة الأشجعية ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: ((قل: لا إله إلاّ الله، أشهد لك بها يوم القيامة))، فقال: لولا أن تعيرني قريش أن ما يحمله عليه الجزع لأقررت بها عينك. فأنزل الله عزوجل: ) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ (. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلاّ من حديث يزيد بن كيسان. انتهى. وتقدمت رواية مسلم حديث أبي هريرة من طريقين إلى يزيد بن كيسان.

وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن يحيى بن سعيد القطان عن يزيد بن كيسان حدثني أبو حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه فذكره بنحوه.

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ مسلم حرملة بن يحيى: وهو حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران بن قراد التجيبي ـ بضم المثناة وكسر الجيم بعدها ياء ساكنة ثم موحدة ـ المصري أبو حفص صاحب الشافعي، صدوق من الحادية عشرة، مات سنة ثلاث أو أربع وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ وكان مولده سنة ستين ـ أي بعد المائة ـ، قاله الحافظ في التقريب، ورمز لكونه من رجال مسلم والنسائي وابن ماجه، وقال في تهذيب التهذيب: روى عن ابن وهب فأكثر، وعن الشافعي ولازمه وأيوب بن سويد الرملي وبشر بن بكر وأبي صالح عبد الغفار بن داود الحراني ويحيى بن عبد الله بن بكير وغيرهم. وعنه مسلم وابن ماجه، وروى له النسائي بواسطة أحمد بن الهيثم الطرسوسي وغيرهم سماهم، ونقل في تهذيب التهذيب شيئاً من كلام الأئمة فيه، ومن ذلك قول أبي حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال الدوري عن يحيى: شيخ لمصر يقال له حرملة، كان أعلم الناس بابن وهب. وقال العقيلي: كان أعلم الناس بابن وهب وهو ثقة إن شاء الله. وذكره ابن حبان في الثقات وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال وقال: أحد الأئمة الثقات وراوية ابن وهب وصاحب الشافعي روى عنه مسلم وابن قتيبة العسقلاني والحسن بن سفيان وخلق، ولكثرة ما روى انفرد بغرائب. وقال: قال ابن عدي: قد تبحرت حديث حرملة وفتشته الكثير، فلم أجد في حديثه ما يجب أن يضعف من أجله. ثم قال الذهبي: قلت: يكفيه أن ابن معين قد أثنى عليه وهو أصغر من ابن معين. قال عياش عن ابن معين قال: شيخ بمصر يقال له حرملة، أعلم الناس بابن وهب. وقال أبو عمر الكندي: كان حرملة فقيهاً لم يكن أحد أكتب عن ابن وهب منه وذلك لأن ابن وهب قد استخفى في منزله سنة وأشهراً لما طلب ليتولى القضاء.

الثاني: عبد الله بن وهب، وهو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم أبو محمد المصري الفقيه، ثقة حافظ عابد من التاسعة، مات سنة سبع وتسعين ـ أي بعد المائة ـ وله اثنتان وسبعون سنة. قاله في التقريب، ورمز لكونه من رجال الجماعة، وقد ذكرت ترجمته وترجمة شيخه يونس بن يزيد وشيخ شيخه ابن شهاب الزهري في رجال إسناد الحديث الأول من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

الثالث: يونس وهو ابن يزيد بن أبي النجاد الأيلي ـ بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام ـ أبو يزيد مولى آل أبي سفيان، ثقة إلاّ أن في روايته عن الزهري وهماً قليلاً وفي غير الزهري خطأ، من كبار السابعة، مات سنة تسع وخمسين ـ أي بعد المائة على الصحيح ـ قاله الحافظ في تقريب التهذيب، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

الرابع: ابن شهاب، قال الحافظ في (التقريب): محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب الزهري، وكنيته أبو بكر الفقيه الحافظ، متفق على جلالته وإتقانه، وهو من رؤوس الطبقة الرابعة، مات سنة خمس وعشرين ـ أي بعد المائة وقيل: قبل ذلك بسنة أو سنتين ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

الخامس: سعيد بن المسيب، قال الحافظ في التقريب: سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار من كبار الثانية، اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل، وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه. مات بعد التسعين، وقد ناهز الثمانين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): المدني يكنى أبا محمد كان ختن أبي هريرة على ابنته وأعلم الناس بحديثه، سمع عثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب، وأباه المسيب، وأبا هريرة، وعبد الله بن عمر، وحكيم بن حزام، وأبا سعيد الخدري، وعائشة رضي الله عنها عندهما ـ أي في الصحيحين ـ إلى أن قال: روى عنه الزهري محمد بن عبد الله، وعمرو بن مرّة، وقتادة عندهما.

وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) الكثير من ثناء العلماء عليه، من ذلك: قال نافع عن ابن عمر: هو والله أحد المتقنين. وقال قتادة: ما رأيت أحداً قط أعلم بالحلال والحرام منه. وقال محمد بن إسحاق عن مكحول: طفت الأرض كلها في طلب العلم فما لقيت أعلم منه. وقال سليمان بن موسى: كان أفقه التابعين. وقال عثمان الحارثي عن أحمد: أفضل التابعين سعيد بن المسيب. وقال عليّ بن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علماً من سعيد بن المسيب. قال: وإذا قال سعيد: مضت السنة فحسبك به، قال: هو عندي أجل التابعين. وقال أبو زرعة: مدني قرشي ثقة إمام. وقال أبو حاتم: ليس في التابعين أنبل منه، وهو أثبتهم في أبي هريرة. وقال ابن حبان في (الثقات): كان من سادات التابعين فقهاً وديناً وورعاً وعبادة وفضلاً، وكان أفقه أهل الحجاز وأعبر الناس لرؤيا، ما نودي بالصلاة من أربعين سنة إلاّ وسعيد في المسجد. انتهى.

وسعيد هو أحد فقهاء المدينة السبعة المشهورين، وقد ذكرتهم في شرح الحديث الثاني من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

السادس: صحابي الحديث. المسيب بن حزن: بفتح المهملة وسكون الزاي، ابن أبي وهب المخزومي، أبو سعيد له ولأبيه صحبة، عاش إلى خلافة عمر رضي الله عنه، قاله الحافظ في التقريب، ورمز لكون حديثه في الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي.

وقال الخزرجي في (خلاصة تذهيب الكمال): المسيب بن حزن ـ بإسكان الزاي ـ بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ ـ بمعجمة ـ بن عمران بن مخزوم المخزومي، له سبعة أحاديث، اتفقا ـ أي البخاري ومسلم ـ على حديثين، وانفرد البخاري بآخر وعنه ابنه سعيد. وذكر الحافظ في (مقدمة فتح الباري) أن له في صحيح البخاري ثلاثة أحاديث.

المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث.

(1) رجال الإسناد الستة حديثهم في الكتب الستة إلاّ الصحابي فليس له في جامع الترمذي وسنن ابن ماجه رواية، وإلاّ شيخ مسلم حرملة بن يحيى فلم يرو له البخاري وأبو داود والترمذي.

(2) شيخ مسلم وشيخه في الإسناد مصريان والزهري وسعيد بن المسيب وأبوه مدنيون.

(3) سعيد بن المسيب أحد فقهاء المدينة السبعة المشهورين.

(4) المسيب بن حزن رضي الله عنهما، له في صحيح مسلم حديثان، هذا أحدهما والثاني عن ابنه سعيد قال: ((كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الشجرة، قال: فانطلقنا في قابل حاجين، فخفي علينا مكانها...)) الحديث.

(5) الحديث من رواية سعيد بن المسيب عن أبيه فهو من رواية الأبناء عن الآباء.

(6) المسيب بن حزن وأبوه حزن بن أبي وهب رضي الله عنهما صحابيان، وقد ألف الشيخ محمد بن أحمد بن عبد الباري الأهدل كتاباً خاصاً بهذا النوع سماه (بغية أهل الأثر في من اتفق له ولأبيه صحبة خير البشر)، وذكر في آخره أنه فرغ من تأليفه سنة 1226هـ.

(7) المسيب بن حزن رضي الله عنه لم يرو عنه إلاّ ابنه سعيد. قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب: وعدّه الأزدي وغيره في من لم يرو عنه إلا واحد. وقال النووي في شرحه هذا الحديث في صحيح مسلم: وهو حديث اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في صحيحيهما من رواية سعيد بن المسيب عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يروه عن المسيب إلاّ ابنه سعيد. كذا قاله الحافظ.

وفي هذا رد على الحاكم أبي عبد الله بن الحافظ ـ رحمه الله ـ في قوله: لم يخرج البخاري ولا مسلم ـ رحمهما الله ـ عن أحد ممن لم يرو عنه إلاّ راو واحد. ولعلّه أراد من غير الصحابة، والله أعلم.

(8) في الإسناد عبد الله بن وهب، وصفه ابن سعد بالتدليس كما في ترجمته في تهذيب التهذيب، وقد صرح في رواية هذا الحديث بالإخبار، وفي الإسناد أيضاً ابن شهاب الزهري، وقد وصفه الذهبي في (ميزان الاعتدال) بأنه يدلس نادراً، وقد صرح بالإخبار في رواية هذا الحديث عن سعيد بن المسيب.

(9) حرملة بن يحيى ولد في السنة التي مات فيها جده حرملة بن عمران كما في تراجمهما في (تقريب التهذيب)، وكل منهما من رجال صحيح مسلم، وكنية كل منهما أبو حفص، وهما مصريان، وعبد الله بن وهب يروي عن حرملة الجد، ويروي عنه حرملة الحفيد.

(10) قال الإمام أبو عمرو ابن الصلاح في كتابه (علوم الحديث): يصح التحمل قبل وجود الأهلية فتقبل رواية من تحمل قبل الإسلام، وروى بعده. انتهى.

ورواية المسيب هذا الحديث من شواهد ذلك، فإن المسيب قد تأخر إسلامه ووفاة أبي طالب كانت قبل الهجرة، وقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح: يحتمل أن يكون المسيب حضر هذه القصة، فإن المذكورين ـ يعني أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية ـ من بني مخزوم وهو من بني مخزوم أيضاً، وكان الثلاثة يومئذ كفاراً، فمات أبو جهل على كفره وأسلم الآخران.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) قوله (لما حضرت أبا طالب الوفاة) اسم أبي طالب: عبد مناف، واشتهر بكنيته، وكان شقيق عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك أوصى به عبد المطلب عند موته إليه، فكفله إلى أن كبر واستمر على نصره بعد أن بعث إلى أن مات أبو طالب وذلك في السنة العاشرة من البعث، وكان يذُبُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرد عنه كل من يؤذيه وهو مقيم مع ذلك على دين قومه، وأخباره في حياطته والذَّبِّ عنه معروفة مشهورة.

هذا ملخص ما ذكره عنه الحافظ ابن حجر في شرحه هذا الحديث في (كتاب الجنائز) من صحيح البخاري، وقال فيه: من عجائب الاتفاق أن الذين أدركهم الإسلام من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم أربعة لم يسلم منهم اثنان وأسلم اثنان، وكان اسم من لم يسلم ينافي أسامي المسلمين وهما أبو طالب واسمه عبد مناف، وأبو لهب واسمه عبد العزّى بخلاف من أسلم وهما حمزة والعباس.

(2) قوله (لما حضرت أبا طالب الوفاة) قال النووي في شرح صحيح مسلم: المراد قربت وفاته وحضرت دلائلها وذلك قبل المعاينة والنزع ولو كان في حال المعاينة والنزع لما نفعه الإيمان لقول الله تعالى: ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ (، ويدل على أنه قبل المعاينة محاورته للنبي صلى الله عليه وسلم ومع كفار قريش. انتهى.

وقال الحافظ في (الفتح): ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة لكن رجا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقر بالتوحيد ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه بخصوصه وتسوغ شفاعته صلى الله عليه وسلم لمكانه منه، قال: ويؤيد الخصوصية أنه بعد أن امتنع من الإقرار بالتوحيد وقال: هو على ملّة عبد المطلب ومات على ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الشفاعة له بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة لغيره، وكان ذلك من الخصائص في حقه. ذكره في شرح هذا الحديث في تفسير سورة القصص، وقال فيه أيضاً: وفي الحديث: أن من لم يعمل خيراً قط إذا ختم عمره بشهادة ألا إله إلاّ الله حكم بإسلامه وأجريت عليه أحكام المسلمين، فإن قارن نطق لسانه عقد قلبه نفعه ذلك عند الله تعالى بشرط أن لا يكون وصل إلى حد انقطاع الأمل من الحياة وعجز عن فهم الخطاب ورد الجواب وهو وقت المعاينة وإليه الإشارة بقوله تعالى: ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ (. والله أعلم.

(3) قوله (جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية)، قال الحافظ في الفتح: وعبد الله بن أبي أمية، أي ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وهو أخو أم سلمة التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وقد أسلم عبد الله هذا يوم الفتح واستشهد في تلك السنة في غزوة حنين. انتهى. أما أبو جهل، فاسمه عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي، وقد مات كافراً.

(4) قوله (يا عم قل: لا إله إلاّ الله)، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد: أمره أن يقولها فأبى أبو طالب أن يقولها، لعلم أبي طالب بما دلت عليه من نفي الشرك بالله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، فإن من قالها عن علم ويقين فقد برىء من الشرك والمشركين ودخل في الإسلام، لأنهم يعلمون ما دلت عليه، وفي ذلك الوقت لم يكن بمكة إلاّ مسلم أو كافر، فلا يقولها إلاّ من ترك الشرك وبرىء منه، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة كان فيها المسلمون الموحدون والمنافقون الذين يقولونها بألسنتهم، وهم يعرفون معناها لكن لا يعتقدونها لما في قلوبهم من العداوة والشك والريب، فهم مع المسلمين بظاهر الأعمال دون الباطن، وفيها اليهود وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر ووادعهم بأن لا يخونوه ولا يظاهروا عليه عدواً، كما هو مذكور في كتب الحديث والسير.

(5) قوله (كلمة أشهد لك بها عند الله)، وفي بعض الروايات (أحاج لك بها عند الله)، قال الحافظ في الفتح: كلمة بالنصب على البدل من لا إله إلاّ الله أو الاختصاص، ويجوز الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف.

وقال أيضاً: وكأنه عليه الصلاة والسلام فهم من امتناع أبي طالب من الشهادة في تلك الحالة، أنه ظنّ أن ذلك لا ينفعه لوقوعه عند الموت، أو لكونه لم يتمكن من سائر الأعمال كالصلاة وغيرها فلذلك ذكر له المحاججة، وأما لفظ الشهادة فيحتمل أن يكون ظن أن ذلك لا ينفعه إذ لم يحضر حينئذ أحد من المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فطيب قلبه بأن يشهد له بها فينفعه.

(6) قول أبي جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب؟.

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد: ذكراه الحجة الملعونة التي يحتج بها المشركون على المرسلين كقول فرعون لموسى: فما بال القرون الأولى. وقوله تعالى: ) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (.

(7) قول أبي طالب: هو على ملة عبد المطلب. قال الحافظ في الفتح: وأراد بذلك نفسه، ويحتمل أن يكون قال: أنا، فغيرها الراوي أنفة أن يحكي كلام أبي طالب استقباحا للفظ المذكور، وهي من التصرفات الحسنة. وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه (تيسير العزيز الحميد) بعد أن ذكر كلام الحافظ وقال: إنه الظاهر، قال: وقد رواه الإمام أحمد بلفظ أنا فدل على ما ذكرناه.

(8) قوله (أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك) فأنزل الله عزوجل: ) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ( الآية، الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة لعمه أبي طالب الشفاعة في السلامة من العذاب، أما تخفيف العذاب فقد حصلت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك كما جاء في أحاديث صحيحة، منها في صحيح البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر عنده عمه فقال: ((لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه)). ومنها حديث ابن عباس في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه)). وهذه الشفاعة من الشفاعات الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم وفي ذلك تخصيص لقوله تعالى: ) فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (، ولقوله تعالى: ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا (.

(9) نفى الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم هداية العباد بقوله: ) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (، وأثبت له الهداية في قوله: ) وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(، ولا تنافي بين الآيتين، فإن الهداية المنفية هداية التوفيق والتسديد لأنها خاصة بالله وحده، أما المثبتة فهي هداية الدلالة والإرشاد.

(10) ليس في الحديث قول: محمد رسول الله، مع قول: لا إله إلاّ الله. وقد قال الحافظ في الفتح في ذلك: وإنما عرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه ـ يعني أبا طالب ـ أن يقول: لا إله إلاّ الله، ولم يقل فيها: محمد رسول الله، لأن الكلمتين صارتا كالكلمة الواحدة، ويحتمل أن يكون أبو طالب كان يتحقق أنه رسول الله ولكن لا يقر بتوحيد الله فاقتصر على أمره له بقول: لا إله إلاّ الله، فإذا أقرّ بالتوحيد لم يتوقف عن الشهادة بالرسالة.

(11) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) جواز زيارة القريب المشرك وعيادته.

(2) عرض الإسلام على الكافر عند الموت.

(3) تكرار تلقين الكافر شهادة الحق رجاء هدايته.

(4) أن التوبة مقبولة ولو في مرض الموت ما لم يصل إلى الغرغرة.

(5) أن الكافر إذا شهد شهادة الحق نجا من العذاب لأن الإسلام يجبُّ ما قبله.

(6) الحرص في الدعوة إلى الله عزوجل.

(7) حرصه صلى الله عليه وسلم ورغبته الشديدة في إسلام عمه أبي طالب.

(8) أن أبا طالب مات على الكفر ولم يدخل في الإسلام.

(9) تأكيد الراوي عدم إسلام أبي طالب.

(10) أن أبا جهل وأبا طالب وأمثالهم من الكفرة يعلمون معنى لا إله إلاّ الله.

(11) ما كان عليه أهل الجاهلية من التعصب لملّة الآباء والأجداد.

(12) أن أهل الجاهلية على نحل مختلفة، منها ملّة عبد المطلب وكلها تقابل الحق كما في قوله تعالى: ) وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ (.

(13) معارضة دعاة الباطل الدعوة إلى الحق.

(14) التلطف في خطاب القريب ونداؤه بوصف القرابة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((يا عم)).

(15) مضرّة جلساء السوء على الإنسان.

(16) أنه لابد للدخول في الإسلام من التلفظ بكلمة التوحيد وهي (لا إله إلاّ الله).

(17) أنه لا يلزم تقديم كلمة (أشهد) بين يدي كلمة التوحيد لقوله صلى الله عليه وسلم لعمه: ((قل: لا إله إلاّ الله)).

(18) إطلاق الكلمة مراداً بها الكلام.

(19) أن من حسن أدب المتكلم عند حكاية الكلام السيء الصادر من غيره بضمير التكلم الإتيان به بضمير الغيبة.

(20) أن هداية التوفيق والتسديد لا تكون إلاّ لله وحده.

(21) جواز الحلف من غير استحلاف.

(22) أن حلف الحالف يكون بالله لا بغيره.

(23) تحريم الاستغفار للمشركين.

(24) امتثال الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ربه واجتنابه نهيه، وهو عليه الصلاة والسلام القدوة الحسنة لأمته.

(25) أن صيغة (ما كان له كذا) لها حكم صيغة النهي، وهو خبر بمعنى الطلب.

(26) أن قوله تعالى: ) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ( نزل في شأن أبي طالب وموته على غير ملّة الإسلام.

(27) أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.

(28) أن السنة تفسِّر القرآن وتدل عليه.

(29) في عدم إسلام أبي طالب مع قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدّة حرصه صلى الله عليه وسلم على إسلامه تنبيه على عدم التعويل على القرابة والنسب، وصَدَقَ الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم إذ يقول في الحديث الصحيح: ((ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه)).

(30) في عدم إسلام أبي طالب الذي حصل منه الإحسان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصه على إسلامه دلالة واضحة على أنه لا يفزع في قضاء الحاجات وتفريج الكربات والنجاة من العذاب إلاّ إلى من بيده ملكوت كل شيء سبحانه وتعالى.
فلو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل خلق الله من هداية القلوب وتفريج الكروب ونحو ذلك شيء، لكان أحق الناس بذلك وأولاهم به عمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويؤويه.

ابو وليد البحيرى
2019-01-27, 05:26 AM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (23)



حديث لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ)



قال الإمام مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس وأبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

المبحث الأول: التخريج:

أخرج مسلم هذا الحديث بهذا اللفظ عن شيخه أبي بكر بن أبي شيبة، وأخرجه عن أربعة من شيوخه فقال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرم قالا أخبرنا عيسى - وهو ابن يونس - (ح) وحدثنا منجاب بن الحارث التميمي أخبرنا ابن مسهر (ح) وحدثنا أبو كريب أخبرنا ابن إدريس، كلهم عن الأعمش بهذا الإسناد قال أبو كريب قال ابن إدريس حدثنيه أولاً أبي عن أبان بن تغلب عن الأعمش ثم سمعته منه.

وأخرجه البخاري في ثمانية مواضع من صحيحه، أولها في (كتاب الإيمان، باب ظلم دون ظلم) قال فيه: حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة (ح) قال وحدثني بشر قال حدثنا محمد عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

والثاني: في (كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: ( َواتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) قال فيه: حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش قال حدثني إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) قلنا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ((ليس كما تقولون: (وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) بشرك، أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

والثالث والرابع: في (كتاب أحاديث الأنبياء) أيضاً في (باب قول الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) ) قال فيهما: حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ). قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فنـزلت: (لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

حدثنا إسحاق حدثنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ((ليس ذلك إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

والخامس: في (كتاب التفسير، باب (وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) قال فيه: حدثني محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت: (وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) قال أصحابه: وأينا لم يظلم؟ فنـزلت: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

والسادس: في تفسير (سورة لقمان، باب: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) قال فيه: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه ليس بذاك، ألا تسمع إلى قول لقمان لابنه: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)).

والسابع: في (كتاب استتابة المرتدين، باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة). وهو أوّل حديث في هذا الكتاب، رواه عن شيخه قتيبة بمثل إسناده ومتنه في تفسير (سورة لقمان) المتقدم قبله.

والثامن: في (كتاب استتابة المرتدين، باب ما جاء في المتأوّلين). قال فيه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا وكيع (ح) حدثنا يحيى حدثنا وكيع عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

وأخرجه الترمذي في (كتاب التفسير) من جامعه قال فيه: حدثنا عليّ بن خشرم أخبرنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله، وأينا لا يظلم نفسه؟ قال: ((ليس ذلك إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه الإمام أحمد في مسنده فقال حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) شق ذلك على الناس وقالوا: يا رسول الله، فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: ((إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). إنما هو الشرك)).

وأخرجه ابن أبي حاتم من طريقين إلى الأعمش كما في تفسير ابن كثير لسورة الأنعام.

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ البخاري أبو بكر بن أبي شيبة: تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.

الثاني: عبد الله بن إدريس وهو عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي - بسكون الواو- أبو محمد الكوفي، ثقة فقيه عابد، من الثامنة مات سنة اثنتين وتسعين - أي بعد المائة - وله بضع وسبعون سنة. قاله الحافظ في (التقريب) ورمز لكونه من رجال الجماعة. وذكر في (تهذيب التهذيب) أسماء جماعة روى عنهم منهم: أبوه وعمه داود والأعمش وغيرهم. وجماعة رووا عنه منهم: مالك بن أنس - وهو من شيوخه - وابن المبارك ومات قبله، ويحيى بن آدم وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وإسحاق بن راهويه وابنا أبي شيبة وغيرهم، ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قول أحمد: كان نسيج وحده. وقول يحيى بن معين: هو ثقة في كل شيء. وقول أبي حاتم: هو حجة يحتج به، وهو إمام من أئمة المسلمين ثقة. وقول النسائي: ثقة ثبت. ونقل توثيقه أيضاً عن ابن سعد وابن حبان وابن خراش والعجلي والخليلي وابن المديني.

الثالث: أبو معاوية وهو محمد بن خازم - بمعجمتين - أبو معاوية الضرير الكوفي عمي وهو صغير، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش وقد يهم في حديث غيره، من كبار التاسعة، مات سنة خمس وتسعين - أي بعد المائة - وله اثنتان وثمانون سنة وقد رُمي بالإرجاء. قاله الحافظ في (التقريب) ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الخزرجي في (الخلاصة): محمد بن خازم - بمعجمتين - التميمي مولاهم، أبو معاوية الضرير أحد الأعلام، عن الأعمش وسهيل بن أبي صالح وعاصم الأحول وخلق. وعنه أحمد وإسحاق وابن المديني وابن معين وأبو خيثمة وخلق. وروى عنه من شيوخه: الأعمش وابن جريج.

قال أحمد كان في غير الأعمش مضطرباً. وقال العجلي: ثقة يرى الإرجاء. وقال يعقوب بن شيبة: ربما دلس. قال ابن معين: مات سنة خمس وتسعين ومائة. انتهى. ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن العجلي ويعقوب بن شيبة والنسائي، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وكان يدلس، وكان مرجئاً.

الرابع: وكيع - وهو ابن الجراح - تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.

الخامس: الأعمش - وهو سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي - أبو محمد الكوفي الأعمش، ثقة حافظ عارف بالقراءة ورع لكنه يدلس، من الخامسة، مات سنة سبع وأربعين أو ثمان - أي بعد المائة - وكان مولده أوّل إحدى وستين. قاله الحافظ في (التقريب) ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته وترجمة شيخه إبراهيم النخعي في رجال إسناد الحديث الثامن من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

السادس: إبراهيم - وهو النخعي - قال الحافظ في (التقريب): إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي أبو عمران الكوفي الفقيه، ثقة إلا أنه يرسل كثيراً، من الخامسة، مات سنة ست وتسعين وهو ابن خمسين أو نحوها، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

السابع: علقمة، وهو علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، ثقة ثبت فقيه عابد من الثانية، مات بعد الستين وقيل بعد السبعين. قاله الحافظ في (التقريب) ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الخزرجي في (الخلاصة): أبو شبل الكوفي أحد الأعلام مخضرم. عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وابن مسعود وحذيفة وطائفة. وعنه: إبراهيم النخعي والشعبي وسلمة بن كهيل وخلق. وقال في (تهذيب التهذيب): وعنه: ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد بن قيس، وابن أخته إبراهيم بن يزيد النخعي وإبراهيم بن سويد النخعي وغيرهم سماهم، وقال: قال مغيرة عن إبراهيم: كان علقمة عقيماً. وقال ابن المديني: أعلم الناس بعبد الله علقمة والأسود وعبيدة والحارث. وقال أبو المثنى رياح: إذا رأيت علقمة، فلا يضرك أن لا ترى عبد الله أشبه الناس به سمتاً وهدياً، وإذا رأيت إبراهيم، فلا يضرك أن لا ترى علقمة. ونقل توثيقه عن أحمد وابن معين وعثمان بن سعيد.

الثامن: صحابي الحديث عبد الله - وهو عبد الله بن مسعود بن غافل بمعجمة وفاء - بن حبيب الهذلي أبو عبد الرحمن، من السابقين الأولين ومن كبار العلماء من الصحابة، مناقبه جمّة، وأمّره عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين أو في التي بعدها بالمدينة. قاله الحافظ في (التقريب) ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): شهد بدراً والمشاهد، وروى ثمانمائة حديث وثمانية وأربعين حديثاً اتفقا - أي البخاري ومسلم - على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين. وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري أن له في صحيح البخاري خمسة وثمانين حديثاً. وقال في الإصابة: أحد السابقين الأولين، أسلم قديماً وهاجر الهجرتين وشهد بدراً والمشاهد بعدها، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم وكان صاحب نعليه، وحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالكثير.

المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسناد الثمانية كلهم كوفيون، فهو مسلسل بالرواة الكوفيين، وهو من سداسيات صحيح مسلم.

(2) رجال الإسناد كلهم اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلاّ شيخ مسلم أبا بكر بن أبي شيبة فلم يخرج له الترمذي.

(3) في الإسناد راويان اشتهرا بالكنية وهما: أبو بكر بن أبي شيبة - واسمه عبد الله بن محمد - وأبو معاوية - واسمه محمد خازم -.

(4) في الإسناد راو اشتهر بلقبه وهو الأعمش واسمه سليمان بن مهران.

(5) في الإسناد راويان وصفا بالتدليس وهما: أبو معاوية وشيخه الأعمش، وقد صرحا بالتحديث في رواية هذا الحديث، أما الأعمش ففي (صحيح البخاري) في (كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:( َواتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) وأما أبو معاوية ففي مسند الإمام أحمد وتقدم سياقهما في التخريج.

(6) في الإسناد ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم: الأعمش وإبراهيم النخعي وعلقمة بن قيس. وقد قال النووي في شرحه لصحيح مسلم عند ذكر إسناده: هذا إسناد رجاله كوفيون، كلهم حفاظ متقنون في نهاية الجلالة، ومنهم ثلاثة أئمة جلة فقهاء تابعيون بعضهم عن بعض: سليمان الأعمش وإبراهيم النخعي وعلقمة بن قيس. وقل اجتماع مثل هذا الذي اجتمع في هذا الإسناد، والله أعلم.

(7) هذا الحديث رواه البخاري في ثمانية مواضع من صحيحه، وقد اتفق موضعان منها سنداً ومتناً شيخه فيهما قتيبة بن سعيد، أحدهما في تفسير (سورة لقمان، باب(لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)). والثاني في (كتاب استتابة المرتدين، باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة)، وهذا من المواضع القليلة في صحيح البخاري التي لا تبلغ ثلاثين موضعاً، وقد ذكرت بعض أمثلة منها عند الكلام على الحديث التاسع، والحديث السادس عشر، والحديث التاسع عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

(8) من الطرق الأخرى التي خرَّج مسلم الحديث منها روايته إياه عن شيخه أبي كريب عن ابن إدريس عن الأعمش قال بعد ذكر هذه الطريق: قال أبو كريب: قال ابن إدريس: حدثنيه أوّلا أبي عن أبان بن تغلب عن الأعمش ثم سمعته منه انتهى. وهذا يفيد أن هذه الطريق عالية إذ نقص فيها رجلان بالنسبة لطريق أبيه وهما أبوه وأبان بن تغلب.

(9) في الإسناد فقيهان نخعيان وهما: إبراهيم بن يزيد النخعي وخاله علقمة بن قيس النخعي.

(10) في الإسناد رواية الأعمش عن شيخه إبراهيم النخعي عن شيخه علقمة بن قيس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد وصفت هذه السلسلة بأنها أصح الأسانيد، وصفها بذلك يحيى بن معين، قال أبو عمرو ابن الصلاح في كتابه (علوم الحديث): وفيما نرويه عن يحيى بن معين أنه قال: أجودها - يعني الأسانيد - الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) هذا الحديث فيه أن آية لقمان وهي قوله: (لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).كانت معلومة عندهم ولذلك نبههم عليها، وفي بعض روايات هذا الحديث التي تقدمت في التخريج عند البخاري في (كتاب الإيمان) وغيره ما يفيد أن سؤالهم هذا هو سبب نزول آية لقمان، وقد أشار الحافظ ابن حجر في (الفتح) إلى الجمع بين هذه الروايات: بأنه يحتمل أن يكون نزولها وقع في الحال فتلاها عليهم ثم نبههم، فتلتئم الروايتان.

(2) الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، ولا شك أن من جعل العبادة لغير الله فقد وضعها في غير موضعها وصرفها عمن لا يستحقها سواه سبحانه وتعالى، إلى من لا يستحقها بحال من الأحوال وهو المخلوق المربوب المدبر، الذي كان بعد أن لم يكن والذي ليس له من نفسه إلا العدم لولا إيجاد الله تعالى له.

(3) قوله: شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: فالصحابة رضي الله عنهم حملوا الظلم على عمومه، والمتبادر إلى الأفهام منه وهو وضع الشيء في غير موضعه، وهو مخالفة الشرع فشق عليهم، إلى أن أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمراد بهذا الظلم، قال الخطابي: ((إنما شق عليهم، لأن ظاهر الظلم الافتيات بحقوق الناس وما ظلموا به أنفسهم من ارتكاب المعاصي، فظنوا أن المراد معناه الظاهر، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومن جعل العبادة لغير الله فهو أظلم الظالمين)).

(4) قال الحافظ في (الفتح): فإن قيل: فالعاصي قد يعذب، فما هو الأمن والاهتداء الذي حصل له؟ فالجواب: أنه آمن من التخليد في النار، ومهتد إلى طريق الجنة، والله أعلم. انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (الإيمان) بعد أن ذكر أن الظلم ثلاثة أنواع: الشرك، وظلم العبد نفسه، وظلم العباد بعضهم بعضاً. قال: ((فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومن لم يسلم من ظلمه نفسه كان له الأمن والاهتداء مطلقاً، بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى، وقد هداه إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه نفسه، وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: إنما هو الشرك. أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام، فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام ولا الاهتداء التام الذي يكونون به مهتدين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، من غير عذاب يحصل لهم، بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله عليهم، ولابد لهم من دخول الجنة)).

(5) قوله: (وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم) ، قال الحافظ في (الفتح): أي لم يخلطوا، تقول: لبَسْت الأمرَ بالتخفيف ألبسه بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل أي خلطته، وتقول: لبِست الثوبَ ألبَسه بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل.

(6) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) بيان عظم الشرك بالله وأنه أظلم الظلم وأبطل الباطل.

(2) تفسير القرآن بالقرآن.

(3) أن السنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه.

(4) ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من الرغبة في الخير والحذر من الشر.

(5) أن العام يحمل على عمومه حتى يرد دليل الخصوص.

(6) أن النكرة في سياق النفي تعم.

(7) حمل العام على الخاص.

(8) أن الظلم درجات أعظمها وأشدها خطراً الشرك بالله.

(9) أن من لم يشرك بالله مهتد وله الأمن.

(10) أن من أشرك بالله فهو ضال وغير آمن.

(11) أن المعاصي دون الشرك وتختلف في الحكم عنه.

(12) تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة.

(13) تسمية الشرك ظلماً ووصفه بأنه عظيم.

(14) أن الظلم في الآية من العام المراد به الخصوص.

(15) تحذير المسلم من الوقوع في الشرك ليكون مهتدياً آمناً.
(16) اعتبار مفهوم الصفة وبيان أنه حُجة.

ابو وليد البحيرى
2019-01-31, 07:53 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (24)




حديث (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله....)

قال الإمام مسلم رحمه الله في آخر (كتاب القدر) من صحيحه:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير قالا حدثنا عبد الله بن إدريس عن ربيعة بن عثمان عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان)).
المبحث الأول: التخريج:
أخرج الإمام مسلم هذا الحديث في هذا الموضع من صحيحه ولم يكرره لا في هذا الموضع ولا في غيره، وهو من الأحاديث التي انفرد بها عن البخاري.
ورواه ابن ماجه في موضعين من سننه، أولهما في أوائل سننه في (باب في القدر) ولفظه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد الطنافسي قالا حدثنا عبد الله بن إدريس عن ربيعة بن عثمان عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان)).
والثاني: في (كتاب الزهد، باب التوكل واليقين) ولفظه: حدثنا محمد بن الصباح أنبأنا سفيان بن عيينة عن ابن عجلان عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن غلبك أمر فقل: قدر الله وما شاء فعل، وإياك واللو فإنَّ اللو تفتح عمل الشيطان)).
وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عمرو بن عثمان المكي قال فيه: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن عيينة عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وكلٌّ على خير، واحرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن فاتك شيء فقل كذا قدر، وكذا كان، وإياك ولو فإنها مفتاح عمل الشيطان)). غريب من حديث ابن عيينة عن ابن عجلان.
وأخرجه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) في ترجمة عمرو بن عثمان المذكور ولفظه: أخبرني أبو سعد الماليني - قراءة - أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر ابن حيان قال: أملى علينا عمرو بن عثمان المكي الصوفي قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن عيينة عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة - أو غير أبي هريرة، الشك من أبي عبد الله - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن فاتك شيء فقل كذا قدر، وكذا كان، وإياك ولو فإنها مفتاح عمل الشيطان)). فهذا يدل على معنى التوكل بالتكسب، فإذا فاتهم الأمر بعد الكسب قالوا كذا أراد الله، وكذا قدر الله. ثم قال الخطيب: قلت: ما بعد ذكر الشيطان هو كلام عمرو المكي وليس بكلام النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ مسلم أبو بكر بن أبي شيبة تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.
الثاني: شيخ مسلم ابن نمير: وهو محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني بسكون الميم، الكوفي أبو عبد الرحمن، ثقة حافظ فاضل من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين - أي بعد المائتين -. قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع أباه ومحمد بن بشر وعبد الله بن إدريس عندهما - أي في الصحيحين -. روى عنه البخاري ومسلم في مواضع كثيرة. وذكر في (تهذيب التهذيب) كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك: قال أبو إسماعيل الترمذي: كان أحمد بن حنبل يعظم محمد بن عبد الله بن نمير تعظيماً عجباً، ويقول: أي فتى هو؟. وعن أحمد أيضاً قال: هو درّة العراق. ونقل توثيقه عن العجلي وأبي حاتم والنسائي وابن وضاح وابن قانع.
الثالث: عبد الله بن إدريس تقدم في رجال إسناد الحديث الثالث.
الرابع: ربيعة بن عثمان: قال الخزرجي في (الخلاصة): ربيعة بن عثمان بن ربيعة بن عبد الله ابن الهدير التميمي حفيد الذي تقدم - يعني ربيعة بن عبد الله -، عن محمد بن يحيى بن حبان ونافع. وعنه ابن المبارك وابن إدريس. وثقه ابن معين، قال النسائي: ليس به بأس. قال أبو زرعة: ليس بذاك القوي، له عندهم فرد حديث. ورمز لكونه من رجال مسلم وابن ماجه والنسائي في (عمل اليوم والليلة)، وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): المدني، يكنى أبا عثمان، سمع محمد بن يحيى بن حبان في القدر، روى عنه عبد الله بن إدريس - يعني في صحيح مسلم -، وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): له عندهم حديث: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)). ونقل توثيقه عن الواقدي وابن نمير والحاكم، وقال في (التقريب): صدوق له أوهام، من السادسة، مات سنة أربع وخمسين - أي بعد المائة - وهو ابن سبع وسبعين سنة.
الخامس: محمد بن يحيى بن حبان: وهو محمد بن يحيى بن حبان - بفتح المهملة وتشديد الموحدة - ابن منقذ الأنصاري المدني، ثقة فقيه، من الرابعة، مات سنة إحدى وعشرين - أي بعد المائة - وهو ابن أربع وسبعين سنة. قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع أنس بن مالك وعمه واسع بن حبان وعبد الله بن محيريز والأعرج عندهما، وقال: روى عنه يحيى الأنصاري وعبيد الله بن عمر ومالك وربيعة بن أبي عبد الرحمن عندهما - أي في الصحيحين - والليث بن سعد عند البخاري، ثم ذكر جماعة رووا عنه عند مسلم ومنهم: ربيعة بن عثمان. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): قال ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الواقدي: كانت له حلقة في مسجد المدينة، وكان يفتي، ثقة كثير الحديث.
السادس: الأعرج: وهو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، أبو داود المدني مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبت عالم، من الثالثة، مات سنة سبع عشرة - أي بعد المائة -، قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع أبا هريرة وغير واحد، روى عنه الزهري وصالح بن كيسان وأبو الزناد وجعفر بن ربيعة وزيد بن أسلم وسعد بن إبراهيم عندهما. ثم ذكر جماعة رووا عنه عند مسلم منهم: محمد بن يحيى بن حبان. ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن ابن سعد وابن المديني والعجلي وأبي زرعة وابن خراش.
السابع: أبو هريرة رضي الله عنه: أكثر الصحابة حديثاً، وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث العشرين من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الإسناد السبعة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلا شيخ مسلم أبا بكر بن أبي شيبة فلم يخرج له الترمذي، وإلا ربيعة بن عثمان فلم يخرج له منهم إلاّ مسلم وابن ماجه والنسائي في عمل اليوم والليلة.
(2) ثلاثة من رجال الإسناد كوفيون وهم: أبو بكر بن أبي شيبة، وابن نمير، وعبد الله بن إدريس، وأربعة منهم مدنيون وهم الباقون.
(3) اثنان من رجال الإسناد اشتهرا بالكنية وهما: أبو هريرة رضي الله عنه واسمه عبد الرحمن بن صخر على الراجح، وأبو بكر بن أبي شيبة واسمه عبد الله بن محمد.
(4) في الإسناد رجل اشتهر بلقبه وهو: الأعرج واسمه عبد الرحمن بن هرمز.
(5) ربيعة بن عثمان من رجال مسلم دون البخاري وليس له في صحيح مسلم وسنن ابن ماجه سوى هذا الحديث الواحد، وجده ربيعة بن عبد الله من رجال البخاري دون مسلم وليس له في صحيح البخاري إلا حديث واحد موقوف، رواه عنه عثمان بن عبد الرحمن التيمي في (كتاب سجود القرآن) كما ذكره المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين).
المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) قوله (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف). المراد: القوة في طاعة الله عز وجل، والرغبة في تحصيلها والعمل على ذلك ودعوة الغير إليها، والعناية في ذلك، فإن وجدت القوة البدنية التي يتمكن المؤمن بها من تحقيق هذه المطالب العالية واستعملت في ذلك، كانت القوة أتم ونتائجها أكمل وأجل.
(2) قوله (وفي كل خير). أي في كل من المؤمن القوي والضعيف خير، وذلك لاتصافهما معاً بالإيمان مع ما يكون عند الضعيف من العمل أيضاً، وهذه الجملة ذكرت بعد الجملة قبلها احتراساً عند المفاضلة لئلا يستهان بالمفضول، ونظير ذلك قوله تعالى عن النبيين الكريمين داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ*َفَه َمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ) ثم قال: (وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً). وكلمة (خير) تأتي أفعل تفضيل حذفت منه الهمزة، وتأتي اسماً في مقابل (الشر)، وقد جاء ذكرهما معاً في هذا الحديث. فهي في قوله: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)) أفعل تفضيل، وفي قوله: ((وفي كل خير)) اسم في مقابل الشر.
(3) قوله (احرص على ما ينفعك). عمم فيما يحرص عليه ليكون شاملاً لكل نافع في الدنيا والآخرة، والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع، فيحرص المؤمن على كل ما فيه سعادته في العاجل والآجل.
(4) قوله (واستعن بالله). بعد أن أمر المؤمن بالأخذ بالأسباب فيما ينفعه، أرشده الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن يكون مستعيناً بالله معتمداً عليه، فإن كل خير إنما هو بتوفيقه وتسديده ومعونته، فالأسباب لا تنفع إن لم يجعلها نافعة، لأنه سبحانه خالق الأسباب والمسببات، فالمؤمن مأمور بأن يأخذ بالسبب المشروع دون تعويل عليه، وإنما يعول على مسبب الأسباب الذي بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
(5) قوله (ولا تعجز). وبعد أن أمر المؤمن بالحرص على ما ينفع والاستعانة بالله في تحصيله، نهى عن ضد ذلك وهو العجز والكسل الذي تضعف معه الهمم وتهن العزائم، والذي ينتج منه الفشل والعاقبة الوخيمة.
(6) قوله (وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان). أي إذا فعلت ما أمكن من الأسباب وحصل مع ذلك فوات مطلوبك، فارض بقضاء الله وقدره، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا تضف ذلك إلى أسباب فتقول: لو أني فعلت كان كذا وكذا، فإن الأسباب لا تنفع إن لم يجعلها مسبب الأسباب نافعة، إنما عليك أن تقول: قدر الله وما شاء فعل، فترضى وتسلم.
(7) هذا الحديث فيه النهي عن استعمال (لو) وقد جاء استعمالها في أحاديث ولا تنافي بينها، لأن النهي محمول على التحسر من شيء فائت، واستعمالها في تمني الخير وإخبار عن شيء مستقبل.
(8) هذا الحديث يشتمل على فوائد عظيمة منتظمة، وهو من جوامع كلمه صلوات الله وسلامه عليه، فإنه أوّلاً ذكر المفاضلة بين المؤمن القوي والمؤمن الضعيف، وبين أن القوي خير وأحب إلى الله من الضعيف، وفي ذلك حث على الأخذ بأسباب القوة والاستزادة من الخير، ثم ذكر أن كلا منهما لديه الخير، وفيه فضل مشترك بينهما وإن زاد القوي على الضعيف ما كان به خيراً وأحب إلى الله منه. ثم أكد ذلك بالأمر بالحرص على ما ينفع في العاجل والآجل، وأرشد مع الأخذ بالأسباب إلى التعويل على مسبب الأسباب بقوله (واستعن بالله)، ثم حذّر مما ينافي الحرص على النافع والاستعانة بالله في تحصيله وهو العجز والكسل، ثم أرشد إلى ما يجب فعله عند فوات المطلوب بأن لا يفتح الإنسان على نفسه باباً للشيطان بأن يقول: لو أني فعلت كان كذا وكذا. وأرشد إلى ما فيه الخير والتسليم لقدر الله والعمل على ما يرضيه سبحانه بقوله: ((ولكن قل قدر الله وما شاء فعل)) فصلوات الله وسلامه على البشير النذير الذي أرشد إلى كل خير وحذّر من كل شر.
(9) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
(1) إثبات صفة المحبة لله تعالى.
(2) أن محبته تعالى تتفاضل، فهي للمؤمن القوي أعظم منها للمؤمن الضعيف.
(3) تفاضل الناس في الإيمان.
(4) أن الإيمان يزيد وينقص.
(5) أن الإيمان سبب لمحبة الله تعالى.
(6) الحث على تقوية العبد إيمانه.
(7) أنه عند المفاضلة بين الفاضل والمفضول ينوه بالفضل المشترك بينهما لئلا يتوهم القدح في المفضول لقوله صلى الله عليه وسلم ((وفي كل خير)).
(8) أمر المؤمن بالحرص على ما ينفعه في دنياه وأخراه بفعل أسبابه المشروعة النافعة.
(9) تقييد الذي يحرص عليه المؤمن بكونه نافعاً.
(10) أمر المؤمن بأن يستعين بالله في تحصيل مطلوبه.
(11) أخذ المؤمن بالأسباب المؤدية إلى حصول المطلوب بدون تعويل عليها.
(12) أن الاستعانة لا تكون إلا بالله وحده فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى.
(13) افتقار العبد إلى توفيق الله ومعونته ولو بذل ما بذل من الأسباب.
(14) النهي عن العجز والكسل في الأمور النافعة.
(15) الإرشاد إلى أسباب تقوية الإيمان.
(16) وجوب الإيمان بالقضاء والقدر والرضا والتسليم لما قدره الله وقضاه.
(17) النهي عن استعمال (لو) تسخطاً ولوماً للقدر.

(18) إرشاد المؤمن عند فوات مطلوبه أن يقول: (قدر الله وما شاء فعل).
(19) أن استعمال (لو) مفتاح لعمل الشيطان.
(20) سد الذرائع التي تفضي إلى الشر وتوقع في المحذور.

ابو وليد البحيرى
2019-02-08, 09:02 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (25)




حديث ( من دعا إلى هدى )





قال الإمام مسلم رحمه الله في آخر كتاب العلم من صحيحه: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وابن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل ـ يعنون ابن جعفر ـ عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ?صلى الله عليه وسلم قال: ((من دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)).

المبحث الأول: التخريج:

انفرد مسلم عن البخاري بإخراج هذا الحديث، فأخرجه في هذا الموضع من صحيحه ولم يكرره، وأخرجه أبو داود في سننه في (كتاب السنة، باب لزوم السنة) فقال: حدثنا يحيى بن أيوب حدثنا إسماعيل ـ يعني ابن جعفر ـ قال أخبرني العلاء ـ يعني ابن عبد الرحمن ـ عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، فذكره بمثل لفظ مسلم، وأخرجه الترمذي في جامعه في (كتاب العلم، باب ما جاء فيمن دعا إلى هدى فاتبع أو إلى ضلالة)، فقال: حدثنا عليّ بن حجر أخبرنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره بمثل لفظ مسلم إلا أن فيه (يتبعه) بدل (تبعه)، ورواه ابن ماجه في أوائل سننه (باب من سن سنة حسنة أو سيئة) قال فيه: حدثنا أبو مروان محمد بن عثمان العثماني حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكره بمثل لفظ مسلم إلا أن فيه (اتبعه) بدل (تبعه)، وفيه (من دعا إلى ضلالة فعليه من الإثم) بدل (كان عليه من الإثم).

وله شواهد كثيرة منها حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه بلفظ: ((من سَنَّ في الإسلام سُنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء)) أخرجه مسلم في (صحيحه) من طرق متعددة عنه، وأخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه. ومنها حديث حذيفة رضي الله عنه بنحو حديث جرير، رواه أحمد والحاكم. ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه ابن ماجه. ومنها حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سَنَّ سنة حسنة فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد مماته حتى تترك، ومن سَنَّ سنة سيئة فعليه إثمها حتى تترك ومن مات مرابطاً جرى عليه عمل المرابط حتى يبعث يوم القيامة))، رواه الطبراني في (الكبير) بإسناد لا بأس به كما في (الترغيب والترهيب) للمنذري. ومنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أوّل من سَنَّ القتل))، رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((الدال على الخير كفاعله)) رواه البزار من حديث أنس. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله أو قال عامله)) رواه مسلم وغيره. وقد ذكر هذه الشواهد وغيرها الحافظ المنذري في كتابه (الترغيب والترهيب).

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ مسلم يحيى بن أيوب: قال الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب): يحيى بن أيوب المقابري بفتح الميم والقاف ثم موحدة مكسورة البغدادي العابد، ثقة من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ وله سبع وسبعون سنة، ورمز لكونه من رجال مسلم وأبي داود ومن رجال البخاري في خلق أفعال العباد والنسائي في مسند عليّ. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): يحيى بن أيوب العابد أبو زكريا البغدادي سمع إسماعيل بن علية، وإسماعيل بن جعفر، ومروان بن معاوية، وعباد بن عباد، وهشيماً، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن وهب، وخلف بن خليفة. روى عنه مسلم في غير موضع، وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) شيئاً من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن الحسين بن فهم وابن قانع.

الثاني: شيخ مسلم قتيبة بن سعيد: وهو قتيبة بن سعيد بن جميل ـ بفتح الجيم ـ ابن طريف الثقفي أبو رجاء البغلاني ـ بفتح الموحدة وسكون المعجمة ـ يقال اسمه يحيى وقيل عليّ، ثقة ثبت من العاشرة، مات سنة أربعين ـ أي بعد المائتين ـ عن تسعين سنة. قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): ابن طريف بن عبد الله الثقفي مولاهم البغلاني، بغلان بلخ، يكنى أبا رجاء. سمع الليث بن سعد، وإسماعيل بن جعفر، وسفيان بن عيينة، وغيرهم سماهم عندهما ـ أي في الصحيحين ـ وقال: روى عنه البخاري ومسلم في غير موضع في الصحيحين. وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) أسماء كثير ممن روى عنهم، وممن رووا عنه، وكثيراً من ثناء الأئمة عليه وتوثيقه عن ابن معين، وأبي حاتم، والنسائي، والحاكم، ومسلمة بن قاسم.

الثالث: شيخ مسلم ابن حجر: وهو عليّ بن حجر ـ بضم أوله ـ ابن إياس السعدي أبو الحسن المروزي الحافظ، عن شريك، وإسماعيل بن جعفر، ومعقل بن زياد، وهشيم، وخلائق. وعنه البخاري ومسلم، والترمذي، والنسائي ووثقه، مات سنة أربع وأربعين ومائتين. قاله الخزرجي في (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال)، ورمز لكونه من رجال البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

وقال الحافظ في (التقريب): المروزي نزيل بغداد ثم مرو، ثقة حافظ من صغار التاسعة، مات سنة أربع وأربعين ـ أي ومائتين ـ وقد قارب المائة أو جاوزها. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): عليّ بن حجر بن إياس بن مقاتل بن مشمرخ أبو الحسن السعدي المروزي. ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) شيئاً من ثناء الأئمة عليه وتوثيقه عن النسائي والحاكم.

الرابع: شيخ شيوخ مسلم إسماعيل بن جعفر: قال الحافظ ابن حجر في (التقريب): إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري الزرقي أبو إسحاق القارئ، ثقة ثبت من الثامنة، مات سنة ثمانين ـ أي بعد المائة ـ ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الخزرجي في (الخلاصة): الزرقي مولاهم أبو إسحاق المدني القارئ أحد الكبار. عن عبد الله بن دينار، والعلاء بن عبد الرحمن، وحميد. وعنه قتيبة، وعليّ بن حجر، ويحيى بن يحيى. له نحو خمسمائة حديث، وثقه أحمد بن حنبل، توفي سنة ثمانين ومائة. ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن أحمد وأبي زرعة، والنسائي، وابن معين، وابن سعد، وابن المديني، والخليلي، والحاكم.

الخامس: العلاء: وهو ابن عبد الرحمن، قال الحافظ في (التقريب): العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي ـ بضم المهملة وفتح الراء بعدها قاف ـ أبو شبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة، المدني صدوق ربما وهم من الخامسة، مات سنة بضع وثلاثين ـ أي بعد المائة ـ ورمز لكونه من رجال مسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبخاري في (جزء القراءة خلف الإمام).

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): الحرقي مولى الحرقة المدني، وحرقة من جهينة. وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: أبوه وابن عمر، وأنس، وجماعة رووا عنه منهم: ابن جريج، ومالك، والسفيانان، ومحمد وإسماعيل ابنا جعفر بن أبي كثير، وغيرهم. ونقل بعض كلام الأئمة فيه وتوثيقه عن أحمد، وابن سعد، وقال في ختام ترجمته: وقد أخرج له مسلم من حديث المشاهير دون الشواذ. وقال الترمذي: هو ثقة عند أهل الحديث.

السادس: أبو العلاء: وهو عبد الرحمن بن يعقوب الجهني المدني، مولى الحرقة ـ بضم المهملة وفتح الراء بعدها قاف ـ ثقة من الثالثة. قاله الحافظ في (التقريب) ورمز لكونه من رجال مسلم، والأربعة، والبخاري في (جزء القراءة خلف الإمام).

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع أبا هريرة، روى عنه ابنه العلاء في غير موضع ـ أي في صحيح مسلم ـ، وفي (تهذيب التهذيب): قال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في (الثقات). وذكره ابن المديني مع الأعرج وغيره من أصحاب أبي هريرة. وقال العجلي: تابعي ثقة انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.

السابع: صحابي الحديث أبو هريرة رضي الله عنه وقد تكرر ذكره.

المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديث ثلاثة من رجال الإسناد وهم: أبو هريرة رضي الله عنه، وإسماعيل بن جعفر، وقتيبة بن سعيد.

(2) رجال الإسناد مدنيون إلا شيوخ مسلم الثلاثة: فيحيى بغدادي، وقتيبة بغلاني بغلان بلخ، وعليّ بن حجر مروزي.

(3) العلاء بن عبد الرحمن وأبوه تابعيان مدنيان، اتفقا في أنهما معاً من رجال مسلم والأربعة والبخاري في (جزء القراءة خلف الإمام).

(4) قتيبة هو الرجل الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم في الكتب الستة، ولهذا لا لبس في عدم نسبته لو لم ينسب لعدم المشارك له في هذا الاسم.

(5) هذا الإسناد بهذا السياق من أوله إلى آخره يرد ذكره كثيراً في (صحيح مسلم)، ومن الأحاديث التي رواها مسلم بهذا الإسناد حديث: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)).

(6) في الإسناد أربعة من الموالي وهم: قتيبة بن سعيد، وإسماعيل بن جعفر، والعلاء بن عبد الرحمن وأبوه.

(7) القائل: (يعنون ابن جعفر) في الإسناد مسلم، وضمير الجمع يرجع إلى شيوخه الثلاثة، قال ذلك للإيضاح والبيان، ولم ينسبه دون أن يقول: (يعنون) لأن شيوخه عند التحديث لم ينسبوه، فلو نسبه كان ناسباً إليهم ما لم يقولوه، وهذا هو الغاية في الدقة والأمانة في النقل.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) هذا الحديث يدل دلالة واضحة على عظم مثوبة الدعاة إلى الله على بصيرة وهدى، كما يدل على عظم إثم من دعا إلى ضلالة، وأن على الإنسان أن يقوم بما يستطيعه من الدعوة إلى الحق ليحظى بهذا الثواب الجزيل الذي تفضل الله به لدعاة الهدى، كما أن عليه أن يكون على حذر من الضلالة والإضلال ليسلم من عواقبهما الوخيمة وأضرارهما العظيمة، ولما ذكر المنذري في (الترغيب والترهيب) جملة من الأحاديث في هذا المعنى ومن بينها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)). قال بعد ذلك: وناسخ العلم النافع له أجره وأجر من قرأه أو نسخه أو عمل به من بعده ما بقي خطه والعمل به لهذا الحديث وأمثاله، وناسخ غير النافع مما يوجب الإثم عليه وزره ووزر من قرأه أو نسخه أو عمل به من بعده ما بقي خطه والعمل به لما تقدم من الأحاديث من سن سنة حسنة أو سيئة، والله أعلم)). انتهى.

(2) قوله (من دعا إلى هدى، ومن دعا إلى ضلاله). عام يشمل الدعوة إليهما بالقول أو الفعل أو الإشارة أو الكتابة، وتنكير المدعو إليه في الحديث يدل على شمول كل ما يطلق عليه أنه هدى وأنه ضلالة قلَّ أم كثر، كبر أم صغر.

(3) المراد بالهدى: كل مأمور به في كتاب الله عزوجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والمراد بالضلالة: ما لم يكن على هدي الكتاب والسنة كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ)).

(4) قوله (كان له من الأجر مثل أجور من تبعه). هذا هو جزاء الدعاة إلى الله على بصيرة. وقوله (لا ينقص ذلك). اسم الإشارة يرجع إلى هذا الجزاء. وقوله (كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه). بيان لعقوبة الدعاة إلى الضلالة، واسم الإشارة بعده يرجع إلى هذه العقوبة.

(5) قوله (لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً). وقوله (لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً). ضمير الجمع في أجورهم وآثامهم يعود إلى (من) الموصولة قبلهما باعتبار المعنى، وتنكير (شيئاً) في نهاية الجملتين في سياق النفي يفيد العموم والشمول للقليل والكثير، أي لا ينقص أي شيء قليلاً كان أو كثيراً، وإنما أتى بهذه الجملة بعد ذكر ثواب الدعاة إلى الهدى لدفع توهم أن أجر الدعاة يكون بالتنقيص من أجر أتباعهم، ففي ذلك إدخال السرور على الدعاة والمدعوين معاً. وأتى بالجملة الثانية بعد ذكر عقوبة الدعاة إلى الضلالة لئلا يتوهم أن عقوبة الدعاة، إنما هي بالتنقيص من عقوبة المستجيبين لدعوتهم، ففي ذلك حسرة على الدعاة والمدعوين معاً، لأن أوزار المدعوين ليست مقسومة بينهم وبين الذين أضلوهم، بل أوزارهم عليهم وعلى المضلين مثلها.

(6) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) فضل الدعوة إلى الله عزوجل وعظم مثوبتها.

(2) خطورة الدعوة إلى الضلال وشدة مضرتها.

(3) الحث على طلب العلم النافع لتحصيل أهلية القيام بالدعوة على بصيرة وهدى.

(4) الترغيب في الدعوة إلى الهدى.

(5) الترهيب من الدعوة إلى الضلال.

(6) انتفاع الداعي إلى الحق باستجابة المدعوين وفعلهم ما دعاهم إليه من الخير.

(7) تضرر الداعي إلى الضلال باستجابة المدعوين وفعلهم ما دعاهم إليه من الشر.

(8) استمرار وصول الثواب للداعي إلى الله في حياته وبعد مماته باستمرار الانتفاع بدعوته.

(9) استمرار وصول الإثم للداعي إلى الضلال في حياته وبعد مماته باستمرار تضرر المدعوين بدعوته.

(10) أن الحق له دعاة يدعون إليه وكذلك الباطل له دعاة.

(11) الجمع بين الترغيب والترهيب فعند الترغيب في الخير يذكر معه الترهيب من الشر.

(12) أن كل نوع من أنواع الهدى كبيراً كان أو صغيراً يثاب عليه الداعي إليه بمثل أجور المنتفعين بدعوته.

(13) أن كل نوع من أنواع الضلال كبيراً كان أو صغيراً يعاقب عليه الداعي إليه بمثل آثام المتضررين بدعوته.

(14) أن الأجر الذي يحصل عليه الداعي إلى الحق بانتفاع المدعوين بدعوته ليس منقوصاً من أجورهم.

(15) أن الإثم الذي يحصل عليه الداعي إلى الضلال بتضرر المدعوين بدعوته ليس منقوصاً من آثامهم.

(16) أن الداعي إلى الضلال لا يحمل أوزار الذين تسبب في إضلالهم بل هي عليهم لفعلهم وعليه مثلها لتسببه.

(17) أن للرسول صلى الله عليه وسلم مثل أجور أمته من حين بعثه الله إلى قيام الساعة، لأن كل خير عرفته أمته إنما هو بدعوته وإرشاده صلوات الله وسلامه عليه، وإذاً فأي إنسان يحب أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم زيادة ثواب بسببه، عليه أن يكثر من الصلاة والسلام عليه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان. وعليه أن يفعل ما أرشد إليه من أفعال الخير ويبتعد عما حذّر منه من الشر ويتخذه صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة فيما يأتي ويذر، فإن الله يثيب نبيه صلى الله عليه وسلم بمثل ثواب الذي وفقه الله للانتفاع بدعوته والسير على نهجه صلى الله عليه وسلم ، لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي دلَّ أمته على كل خير وحذّرها من كل شر، ومن دلَّ على هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً كما نطق بذلك الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه الأتمان الأكملان عليه وعلى إخوانه النبيين، وعلى آله وصحابته الغرّ الميامين وعلى جميع من سار على نهجه القويم إلى يوم الدين.

(18) بيان فضل السلف على الخلف، لأنَّ كل خير عند الخلف إنما وصل إليهم بواسطة السلف.

(19) تنبيه المدعوين إلى اتباع دعاة الهدى والحذر من دعاة الضلالة.

(20) أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء، لأن حياتهم التي نوه الله بذكرها في القرآن من جملة أجورهم، وهم إنما جاهدوا في سبيل الله حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه بدعوته وإرشاده صلى الله عليه وسلم ، فله صلى الله عليه وسلم في قبره حياة أكمل من حياتهم.

ابو وليد البحيرى
2019-02-08, 09:05 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (26)



حديث ((خير صفوف الرجال أولها.......))


قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الصلاة من صحيحه: حدثنا زهير بن حرب حدثنا جرير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)).
المبحث الأول، التخريج:
انفرد مسلم عن البخاري بإخراج هذا الحديث فرواه عن سهيل من طريقين هذه أحدهما ثم قال في الثانية: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز يعني الدراوردي عن سهيل بهذا الإسناد.
وأخرجه أبو داود في (كتاب الصلاة) من سننه (باب صف النساء وكراهية التأخر عن الصف الأول) فقال: حدثنا محمد بن الصباح البزّاز حدثنا خالد وإسماعيل بن زكريا عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)).
وأخرجه الترمذي في (كتاب الصلاة) من جامعه (باب ما جاء في فضل الصف الأول) فقال: حدثنا قتيبة حدثنا عبد العزيز بن محمد عن سهيل بمثل إسناده ومتنه عند مسلم، ثم قال: وفي الباب عن جابر، وابن عباس، وأبي سعيد، وأبي، وعائشة، والعرباض بن سارية، وأنس، ثم قال: قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
وأخرجه النسائي في (كتاب الصلاة) من سننه (باب ذكر خير صفوف النساء وشر صفوف الرجال)، فقال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا جرير عن سهيل بمثل إسناده ومتنه عند مسلم.
وأخرجه ابن ماجه في (كتاب الصلاة) من سننه (باب صفوف النساء) فقال: حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، وعن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها، وخير صفوف الرجال أوّلها وشرها آخرها)). وأخرجه من حديث جابر رضي الله عنه فقال: حدثنا علي بن محمد حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير صفوف الرجال مقدمها وشرّها مؤخرها، وخير صفوف النساء مؤخرها وشرّها مقدمها)).
وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) في ترجمة سفيان الثوري فقال: حدثنا أبو بكر بن خلاد حدثنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها))، ثم قال: مشهور من حديث الثوري.
وقال الحافظ المنذري في (الترغيب والترهيب) بعد أن ساق حديث أبي هريرة هذا، وعزاه لمسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، قال: وروي عن جماعة من الصحابة منهم: ابن عباس، وعمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وأبو سعيد، وأبو أمامة، وجابر بن عبد الله، وغيرهم.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ مسلم زهير بن حرب: قال الحافظ في (التقريب): زهير بن حرب بن شداد، أبو خيثمة النسائي، نزيل بغداد ثقة ثبت، روى عنه مسلم أكثر من ألف حديث، من العاشرة مات سنة أربع وثلاثين - أي بعد المائتين - وهو ابن أربع وسبعين، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى الترمذي.
وقال الخزرجي في (الخلاصة): زهير بن حرب بن شداد الحرشي - بفتح المهملتين بعدهما معجمة - مولاهم أبو خيثمة النسائي الحافظ. عن جرير بن عبد الحميد، وهشيم، وابن عيينة، وحفص بن غياث، وخلق. وعنه البخاري ومسلم أكثر من ألف حديث، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي بواسطة وقال: ثقة مأمون. وقال يعقوب بن شيبة: زهير أثبت من أبي بكر بن أبي شيبة. قال ابنه أحمد: ولد سنة ستين ومائة، ومات سنة أربع وثلاثين ومائتين. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): مولى بني الحريش بن كعب، وكان اسم جده اشتال فعرب شدّاداً، ثم ذكر جماعة روى عنهم، وجماعة رووا عنه، وذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن معين، والنسائي، والحسين بن فهم، والخطيب البغدادي، وابن قانع، وأبي حاتم الرازي، وابن وضاح.
الثاني: جرير: وهو ابن عبد الحميد، قال الحافظ في (التقريب): جرير بن عبد الحميد بن قُرط - بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة - الضبي الكوفي نزيل الري وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، قيل: كان في آخر عمره يهم من حفظه. مات سنة ثمان وثمانين - أي بعد المائة - وله إحدى وسبعون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): أبو عبد الله الرازي القاضي، ولد بقرية من قرى أصبهان، ونشأ بالكوفة ونزل الري. ثم ذكر جماعة روى عنهم منهم: عبد الملك بن عمير، والأعمش، وسهيل بن أبي صالح، وغيرهم سماهم. وجماعة رووا عنه منهم: إسحاق، وابنا أبي شيبة، وقتيبة، وعبدان، وأبو خيثمة، وغيرهم سماهم. وذكر شيئاً من كلام الأئمة فيه، ونقل توثيقه عن أبي حاتم الرازي، والنسائي، وأبي أحمد الحاكم، والخليلي. وقال: قال أبو القاسم اللالكائي: مجمع على ثقته. وذكر المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) بعض من روى عنهم ورووا عنه في الصحيحين معاً وفي أحدهما، وذكر أنه روى عن سهيل، وروى عنه أبو خيثمة في (صحيح مسلم) ثم قال: ولد في السنة التي مات فيها الحسن سنة عشر ومائة، ومات سنة سبع وثمانين ومائة بالري.
الثالث: سهيل: وهو ابن أبي صالح، قال الحافظ في (التقريب): سهيل بن أبي صالح، ذكوان السمان أبو يزيد المدني، صدوق تغير حفظه بأخرة، روى له البخاري مقروناً وتعليقاً، من السادسة، مات في خلافة المنصور، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في مقدمة الفتح: سهيل بن أبي صالح السمان، أحد الأئمة المشهورين المكثرين، وثقه النسائي والدار قطني وغيرهما. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن معين: صويلح. وقال البخاري: كان له أخ فوجد عليه، فساء حفظه. ثم قال الحافظ: قلت: له في البخاري حديث واحد في الجهاد، مقرون بيحيى بن سعيد الأنصاري، كلاهما عن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد، وذكر له حديثين آخرين متابعة في (الدعوات)، واحتج به الباقون. انتهى.
والحديث الذي في الجهاد عن سهيل، متنه: ((من صام يوماً في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)). وقد قال الحافظ في شرحه في الفتح: وسهيل بن أبي صالح لم يخرج له البخاري موصولاً إلا هذا، ولم يحتج به لأنه قرنه بيحيى بن سعيد. انتهى.
وذكر المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) إخراج البخاري له هذا الحديث وقال: وليس لسهيل في كتابه غير هذا الحديث الواحد، وذكر جماعة روى عنهم، وجماعة رووا عنه عند مسلم، ومن المروى عنهم: أبوه، وعبد الله بن دينار، وعطاء بن يزيد الليثي، وغيرهم. ومن الذين رووا عنه: جرير بن عبد الحميد، والثوري، وابن عيينة، وغيرهم.
الرابع: أبو صالح ذكوان: قال في (التقريب): ذكوان أبو صالح السمان الزيات، المدني، ثقة ثبت، وكان يجلب الزيت إلى الكوفة، من الثالثة، مات سنة إحدى ومائة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): المدني مولى جويرية بنت الأحمس الغطفاني، ثم ذكر جماعة روى عنهم منهم: أبو هريرة، وأبو الدرداء، وأبو سعيد، وغيرهم سماهم. وجماعة رووا عنه منهم: أولاده: سهيل وصالح وعبد الله، وغيرهم سماهم. ثم ذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، وأبي حاتم، وأبي زرعة، وابن سعد، والساجي، والحربي، والعجلي. وقال الإمام أحمد في توثيقه فيما حكاه عنه ابنه عبد الله: ثقة ثقة من أجلِّ الناس وأوثقهم.
الخامس: أبو هريرة رضي الله عنه، وقد تكرر ذكره.
المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الإسناد الخمسة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلا شيخ مسلم زهير بن حرب فلم يخرج له الترمذي.
(2) شيخ مسلم زهير بن حرب نسائي ثم بغدادي وشيخ شيخه جرير بن عبد الحميد كوفي ثم رازي نسبة إلى الري، وبقية رجال الإسناد الثلاثة مدنيون.
(3) شيخ مسلم في هذا الإسناد زهير بن حرب أكثر من الرواية عنه في صحيحه وهو يلي أبا بكر بن أبي شيبة في الإكثار عنه، وقد اتفق هذان الشيخان لمسلم وهما أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب في أن أحاديثهما في صحيح مسلم زادت على ألف حديث، وكل منهما خرج حديثه الجماعة سوى الترمذي، وكل منهما شيخ البخاري ومسلم، وأبي داود، وابن ماجه، وكل منهما روى عنه النسائي بواسطة، وتقاربا في زمن الوفاة، إذ كانت وفاة أبي بكر سنة خمس وثلاثين ومائتين، ووفاة زهير سنة أربع وثلاثين بعد المائتين.
(4) ثلاثة من رجال الإسناد من الموالي وهم: زهير بن حرب، وسهيل بن أبي صالح وأبوه.
(5) في الإسناد راويان تغير حفظهما في آخر حياتهما وهما: جرير بن عبد الحميد وشيخه سهيل بن أبي صالح، وقد ذكر النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم أن ما كان من هذا القبيل في الصحيحين محتجاً به فهو مما أُخذ عنه قبل الاختلاط.
(6) جرير - هو ابن عبد الحميد - وهو أحد الجريرين فيما إذا قيل في ترجمة من فوقهما روى عنه الجريران، وفي ترجمة من دونهما روى عن الجريرين، والثاني منهما جرير بن حازم.
(7) سهيل بن أبي صالح روى عنه البخاري حديثاً واحداً موصولاً قرنه بيحيى بن سعيد الأنصاري في (كتاب الجهاد، باب فضل الصوم في سبيل الله) ولفظه: ((من صام يوماً في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)).وليس له في صحيح البخاري سوى هذا الحديث الواحد.
(8) سهيل بن أبي صالح روى هذا الحديث عن أبيه، فهو من رواية الأبناء عن الآباء.
المبحث الرابع، شرح الحديث:
(1) هذا الحديث يدل على أفضلية الصف الأوّل للرجال ويقابله الصف المؤخر، وهذا الحكم ثابت لهم سواء صلوا وحدهم أو معهم نساء، ويدل على أن النساء إذا صلين مع الرجال، فالصف الأفضل في حقهن آخر الصفوف ويقابله الصف المقدم على العكس من الرجال، والظاهر أن هذا خاص في صلاتهن مع الرجال، أما لو صلين وحدهن وإمامتهن امرأة فأفضل صفوفهن أولها.
(2) خير وشر أفعلا تفضيل، حذفت منهما الهمزة ويأتيان اسمين متقابلين كقوله تعالى(فمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ{7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)
(3) قوله (خير صفوف الرجال أولها). وجه خيريته على غيره، أن فيه خصالاً لا توجد في غيره من الصفوف منها: كونه الأقرب إلى الإمام للتمكن من سماع قراءته، والتبكير إلى الصلاة للتمكن من تحصيله على الوجه المشروع ولاستغفاره صلى الله عليه وسلم لأهله ثلاثاً. رواه ابن ماجه، والنسائي، وابن خزيمة في (صحيحه)، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجا للعرباض كما في (الترغيب والترهيب) للحافظ المنذري، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)) رواه أحمد بإسناد لا بأس به، والطبراني، وغيره من حديث أبي أُمامة كما في (الترغيب والترهيب) أيضاً، ولما فيه من البعد عن النساء والافتتان بهن.
(4) قوله (وشر صفوف الرجال آخرها)، أي لما فيه من البعد عن الإمام والقرب من النساء الذي هو سبب في تعلق القلب بهن وحصول الافتتان بهن.
(5) قوله (وخير صفوف النساء آخرها). قال الشوكاني في (نيل الأوطار): إنما كان خيرها لما في الوقوف فيه من البعد عن مخالطة الرجال، بخلاف الوقوف بالصف الأول من صفوفهن فإنه مظنة المخالطة لهم وتعلق القلب بهم، المتسبب عن رؤيتهم وسماع كلامهم ولهذا كان شرها.
(6) وإذا كان شر صفوف الرجال هو القريب من شر صفوف النساء لما في ذلك من مظنة الفتنة على الجانبين، مع أن الغالب في الذين يأتون إلى المساجد أنهم أكثر سلامة من الذين يتكاسلون عن إتيانها، فإن اختلاط الرجال بالنساء في المدارس والجامعات والمؤسسات وغيرها، ولاسيما مع قيام النساء بما يدعو إلى الفتنة، يتنافى تمام المنافاة مع هدي الإسلام بل هو محادة لتعاليمه البناءة وأهدافه السامية، نسأل الله السلامة والعافية، وصدق الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم إذ يقول: ((ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)). أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
(7) من فقه الحديث وما يستنبط منه.
(1) مشروعية الصفوف للصلاة للرجال والنساء.
(2) الترغيب في الصف الأول للرجال.
(3) بيان فضل الصف الأول للرجال وأنه خير صفوفهم.
(4) أن آخر صفوف الرجال هو شر صفوفهم.
(5) جواز إتيان النساء المساجد وصلاتهن مع الرجال.
(6) ترغيب النساء في الصف المؤخر من صفوفهن إذا صلين مع الرجال.
(7) أن الصف الأول من صفوف النساء مع الرجال هو شر صفوفهن.
(8) مشروعية صلاة الجماعة.
(9) عدم جواز اصطفاف النساء مع الرجال.
(10) تأخر صفوف النساء عن صفوف الرجال.
(11) الإشارة إلى أن تباعد صفوف النساء عن صفوف الرجال أولى من تقاربها.
(12) تفاضل أعمال الخير وكون بعضها أفضل من بعض.
(13) اختلاف النساء عن الرجال في بعض الأحكام.
(14) الإشارة إلى أن صلاة النساء في البيوت أفضل من صلاتهن في المساجد.
(15) أن الشيء الواحد يكون محبوباً باعتبار ومكروهاً باعتبار آخر، فالصف المؤخر للرجال يحب لما فيه من الإتيان بالصلاة جماعة، ويكره لتأخر أهله وقربهم من النساء.
(16) الإشارة إلى أن النساء فتنة للرجال يخشى عليهم من الافتتان بهن.
(17) التنبيه إلى سد الذرائع التي تفضي إلى الفتنة وتوقع في المحذور.
(18) كمال نصح الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، ومدى حرصه على تحصيلها لأسباب الفلاح وابتعادها عن الشر ووسائله.
(19) الجمع بين الترغيب والترهيب، فعند الترغيب فيما فيه الخير يحذر مما فيه الشر.

(20) أنه عند ذكر الأحكام الخاصة بالرجال والأحكام الخاصة بالنساء يقدم ذكر ما يتعلق بالرجال على ما يتعلق بالنساء.

ابو وليد البحيرى
2019-02-12, 12:36 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (27)


(إن الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفسها.....)




قال الإمام مسلم رحمه الله في آخر كتاب الإيمان من صحيحه: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد ومحمد بن عبيد الغبري ـ واللفظ لسعيد ـ قالوا حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به)).
المبحث الأول: التخريج:
أخرج مسلم هذا الحديث من هذه الطريق ثم قال عقبه: حدثنا عمرو الناقد وزهير بن حرب قالا حدثنا إسماعيل بن إبراهيم (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عليّ بن مسهر وعبدة بن سليمان (ح) وحدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا حدثنا ابن أبي عدي كلهم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عمّا حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به)). وحدثني زهير بن حرب حدثنا وكيع حدثنا مسعر وهشام (ح) وحدثني إسحاق بن منصور أخبرنا الحسين بن عليّ عن زائدة عن شيبان جميعاً عن قتادة بهذا الإسناد مثله.
وأخرجه البخاري في ثلاثة مواضع من صحيحه، أولها: في (كتاب العتق، باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه) فقال: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا مسعر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تكلّم)).
والثاني: في (كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق، والكره، والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق، والشرك وغيره) فقال: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام حدثنا قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم)). وقال قتادة: إذا طلق في نفسه فليس بشيء.
والثالث: في (كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسياً في الأيمان) فقال: حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا مسعر حدثنا زرارة بن أوفى عن أبي هريرة يرفعه قال: ((إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم)) ورواه أبو داود في (كتاب الطلاق) من سننه (باب في الوسوسة بالطلاق) فقال: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تجاوز لأمتي عما لم تتكلم به أو تعمل به وبما حدثت به أنفسها)).
ورواه الترمذي في (كتاب الطلاق) من جامعه (باب ما جاء فيمن يحدث نفسه بطلاق امرأته) فقال: حدثنا قتيبة حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تجاوز الله لأمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به)) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الرجل إذا حدّث نفسه بالطلاق لم يكن شيء حتى يتكلم به.
ورواه النسائي في (كتاب الطلاق) من سننه (باب من طلق في نفسه) فقال: أخبرنا إبراهيم بن الحسن وعبد الرحمن بن محمد بن سلام قالا حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال عبد الرحمن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى تجاوز عن أمتي كل شيء حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل)).
أخبرنا عبيد الله بن سعيد قال حدثنا ابن إدريس عن مسعر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل تجاوز لأمتي ما وسوست به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به))، أخبرني موسى بن عبد الرحمن قال حدثنا حسين الجعفي عن زائدة عن شيبان عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل به)).
وأخرجه ابن ماجه في (كتاب الطلاق) من سننه (باب من طلق في نفسه ولم يتكلم به) فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عليّ بن مسهر وعبدة بن سليمان (ح) وحدثنا حميد بن مسعدة حدثنا خالد بن الحارث جميعاً عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم به)). وأخرجه في (باب طلاق المكره والناسي) فقال: حدثنا هشام بن عمار حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز لأمتي عما توسوس به صدورها ما لم تعمل به أو تتكلم به وما استكرهوا عليه)).

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ مسلم سعيد بن منصور، وهو سعيد بن منصور بن شعبة أبو عثمان الخراساني نزيل مكة، ثقة مصنف، وكان لا يرجع عما في كتابه لشدّة وثوقه به، مات سنة سبع وعشرين ـ أي بعد المائتين وقيل بعدها ـ من العاشرة. قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع فليح بن سليمان عندهما ـ أي في الصحيحين ـ وأبا عوانة وغيره سماهم عند مسلم، ثم قال: روى عنه مسلم وأكثر، وروى البخاري عن يحيى بن موسى حدث عنه حديثاً واحداً في آخر (كتاب الصلاة). وقال الخزرجي في (الخلاصة): له في البخاري فرد حديث. انتهى. وهذا الحديث أخرجه قبيل (كتاب الجمعة، باب سرعة انصراف النساء من الصبح وقلة مقامهن في المسجد). وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) الكثير من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن نمير، وابن خراش، وأبي حاتم، وابن حبان، وابن قانع، والخليلي، ومسلمة بن قاسم.
الثاني: شيخ مسلم قتيبة بن سعيد تقدم في رجال إسناد الحديث الخامس.
الثالث: شيخ مسلم محمد بن عبيد الغبري، قال الحافظ في التقريب: محمد بن عبيد بن حساب ـ بكسر الحاء وتخفيف السين المهملة ـ الغبري ـ بضم المعجمة وتخفيف الموحدة المفتوحة ـ البصري، ثقة من العاشرة، مات سنة ثمان وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ ورمز لكونه من رجال مسلم، وأبي داود، والنسائي. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن حماد بن زيد، وأبي عوانة، وجعفر بن سليمان الضبعي، وغيرهم سماهم، ثم قال: روى عنه مسلم، وأبو داود، وروى النسائي عن زكريا بن يحيى السجزي عنه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن النسائي، ومسلمة، وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه مسلم عشرين حديثاً.
الرابع: أبو عوانة، قال الحافظ في التقريب: وضاح ـ بتشديد المعجمة ثم مهملة ـ ابن عبد الله اليشكري ـ بالمعجمة ـ الواسطى البزاز، أبو عوانة مشهور بكنيته، ثقة ثبت من السابعة، مات سنة خمس أو ست وسبعين ـ أي بعد المائة ـ ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): اليشكري مولى يزيد بن عطاء، أبو عوانة الواسطي البزاز، كان من سبي جرجان، ثم ذكر جماعة روى عنهم منهم: قتادة، والأعمش، والأسود بن قيس، وغيرهم سماهم. وجماعة رووا عنه منهم: عبد الرحمن بن مهدي، وسعيد بن منصور، وقتيبة بن سعيد، ومحمد بن عبيد بن حساب، وحجاج بن منهال، وغيرهم سماهم. ثم ذكر الكثير من كلام الأئمة فيه وثنائهم عليه في كتابه، وختم ترجمته بقول ابن عبد البر فيه: أجمعوا على أنه ثقة ثبت فيما حدّث من كتابه. وقال: إذا حدّث من حفظه ربما غلط. انتهى. وقال الذهبي في (الميزان): مجمع على ثقته وكتابه متقن بالمرة.
الخامس: قتادة، وهو قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، يقال: ولد أكمه، وهو رأس الطبقة الرابعة، مات سنة بضع عشرة ـ أي بعد المائة ـ، قاله في (التقريب) ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت رجال إسناد الحديث الثالث عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
والسادس: زرارة بن أوفى، قال الحافظ في (التقريب): زرارة ـ بضم أوله ـ ابن أوفى العامري الحرشي ـ بمهملة وراء مفتوحتين ثم معجمة ـ أبو حاجب البصري قاضيها، ثقة عابد من الثالثة، مات فجأة في الصلاة سنة ثلاث وتسعين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع أبا هريرة، وعمران بن حصين، وسعد بن هشام عندهما ـ أي في الصحيحين ـ وأسيد بن جابر عند مسلم، روى عنه قتادة عندهما، ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن النسائي، وابن سعد، والعجلي، وقال: قال أبو حبان القصاب: صلى بنا زرارة الفجر، ولما بلغ ) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ، َفذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ( شهق شهقة فمات.
السابع: أبو هريرة t وقد تكرر ذكره.

المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الإسناد السبعة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلا شيخ مسلم محمد بن عبيد الغبري فلم يرو له منهم مع مسلم سوى أبي داود والنسائي.
(2) في الإسناد ثلاثة بصريون وهم: محمد بن عبيد الغبري، وقتادة، وزرارة بن أوفى.
(3) في الإسناد راويان اشتهرا بالكنية وهما: أبو هريرة رضي الله عنه، وأبو عوانة.
(4) في الإسناد تابعيان وهما: قتادة، وزرارة، فهو من رواية تابعي عن تابعي.
(5) قتادة وصف بالتدليس، وقد صرّح بالتحديث في رواية هذا الحديث عن زرارة كما في صحيح البخاري في (كتاب الأيمان والنذور) وتقدم في التخريج.
(6) سعيد بن منصور شيخ مسلم ليس له في صحيح البخاري سوى حديث واحد أخرجه عنه في (كتاب الصلاة) قبيل (كتاب الجمعة) في (باب سرعة انصراف النساء من الصبح وقلة مقامهن في المسجد)، رواه عنه بواسطة يحيى بن موسى.
(7) أبو عوانة، كنية اشتهر بها وضاح بن عبد الله اليشكري المتوفى سنة خمس أو ست وسبعين ومائة، وقد اشتهر بهذه الكنية أيضاً شخص آخر من المحدثين إلاّ أنه متأخر عن هذا وهو: أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفرائيني المتوفى سنة ست عشرة وثلاثمائة، وهو صاحب المستخرج على صحيح مسلم.
(8) زرارة بن أوفى من الثقات العبّاد وقد مات فجأة في الصلاة، قال ابن كثير في تفسيره في سورة المدثر: وقد روينا عن زرارة بن أوفى قاضي البصرة أنه صلى بهم الصبح فقرأ هذه السورة فلما وصل إلى قوله تعالى: ) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ، َفذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ، عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ). شهق شهقة ثم خرَّ ميتاً رحمه الله تعالى.
(9) ذكر الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر) أن من المهم في علم المصطلح معرفة الأنساب وهي تقع إلى القبائل، وإلى الأوطان، وإلى الصنائع والحرف. انتهى.
وقد اجتمعت هذه النسب الثلاث في ترجمة أبي عوانة في (تقريب التهذيب) فاليشكري نسبة إلى قبيلة، والواسطي نسبة إلى وطن، والبزاز نسبة إلى حرفة.
(10) خرج مسلم الحديث عن ثلاثة من شيوخه ثم قال: واللفظ لسعيد: أي إن المتن الذي ساقه من راوية سعيد بن منصور لفظاً، أما الآخران فبالمعنى، وهذه طريقة مسلم ـ رحمه الله ـ عندما يروي الحديث عن جماعة من شيوخه في إسناد واحد يبين من له اللفظ منهم.

المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) قوله (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها). قال النووي في شرح صحيح مسلم: ضبط العلماء (أنفسها) بالنصب والرفع وهما ظاهران إلا أن النصب أظهر وأشهر. قال القاضي عياض: أنفسها بالنصب ويدل عليه قوله: إن أحدنا يحدث نفسه. قال: قال الطحاوي: ((وأهل اللغة يقولون (أنفسها) بالرفع يريدون بغير اختيارها كما قال الله تعالى: ) وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ (، والله أعلم)).
(2) قوله (تجاوز) أي عفا وغفر، والمراد بالأمة: أمة الإجابة وهم الذين استجابوا للدعوة فدخلوا في الإسلام. قال الحافظ في (الفتح): والمراد نفي الحرج عما يقع في النفس، حتى يقع العمل بالجوارح أو القول باللسان على وفق ذلك. وقال أيضاً: وظاهر الحديث أن المراد بالعمل عمل الجوارح لأن المفهوم من لفظ (ما لم يعمل) يشعر بأن كل شيء في الصدر لا يؤاخذ به سواء توطن به أو لم يتوطن.
وقال النووي في شرح صحيح مسلم: ((قال المازري: مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب أن من عزم على المعصية بقلبه، ووطّن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه، ويحمل ما وقع في هذه الأحاديث وأمثالها، على أن ذلك فيمن لم يوطن نفسه على المعصية، وإنما مرّ ذلك بفكره من غير استقرار، ويسمى هذا هماً، ويفرق بين الهم والعزم. هذا مذهب القاضي أبي بكر، وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين وأخذوا بظاهر الحديث)). قال القاضي عياض: عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر، للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب، لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب سيئة وليست السيئة التي همَّ بها، لكونه لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة، لكن نفس الإصرار والعزم معصية فتكتب معصية، فإذا عملها كتبت معصية ثانية، فإن تركها خشية لله كتبت حسنة، كما في الحديث: ((إنما تركها من جرائي))، فصار تركه لها لخوف الله تعالى ومجاهدة نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة، فأما الهم الذي لا يكتب، فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم. ثم قال النووي في نهاية كلام القاضي عياض: وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر ومن ذلك قوله تعالى: ) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ...( الآية. وقوله: ) اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (، والآيات في هذا كثيرة، وقد تظاهرت نصوص الشرع وإجماع العلماء على تحريم الحسد، واحتقار المسلمين، وإرادة المكروه بهم، وغير ذلك من أعمال القلوب وعزمها، والله أعلم. انتهى.

(3) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
(1) سعة فضل الله وإحسانه إلى عباده.
(2) الإشارة إلى عظيم قدر الأمة المحمدية.
(3) أن التجاوز عما يقع في النفس من خصائص هذه الأمة.
(4) أن حديث النفس لا يسمى كلاماً.
(5) التنبيه إلى حفظ اللسان إلا في الخير، والجوارح إلا فيما هو معروف.
(6) أن الإنسان إذا حدث نفسه بالطلاق لم يقع بمجرد ذلك.
(7) أن الإنسان إذا كتب طلاق امرأته وقع الطلاق لأنه عزم بقلبه وعمل بكتابته.
(8) أن الكلام هو ما يسمع من المتكلم.
(9) الرد على من قال إن كلام الله معنى قائم في نفسه لم يسمع منه، بل هو سبحانه يتكلم إذا شاء كيف شاء بكلام يسمعه من شاء، سمعه جبريل عليه السلام، وسمعه موسى عليه السلام، وسمعه محمد صلى الله عليه وسلم ليلة عرج به إلى السماء، وكلامه صفة من صفاته يجب إثباتها على الوجه اللائق به سبحانه، بدون تكييف أو تشبيه، وبدون تأويل أو تعطيل.

(10) أن الإنسان يؤاخذ في أقواله وأعماله.

ابو وليد البحيرى
2019-02-12, 12:39 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (28)

شرح حديث ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه ليورثنه)).





قال الإمام مسلم رحمه الله في كتابه البر والصلة والآداب من صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس (ح) وحدثنا قتيبة ومحمد بن رمح عن الليث بن سعد (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبدة ويزيد بن هارون كلهم عن يحيى بن سعيد (ح) وحدثنا محمد بن المثنى (واللفظ له) حدثنا عبد الوهاب ـ يعني الثقفي ـ سمعت يحيى بن سعيد أخبرني أبو بكر ـ وهو ابن محمد بن عمرو بن حزم ـ أن عمرة حدثته أنها سمعت عائشة تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه ليورثنه)).

المبحث الأول: التخريج:

هذا الحديث رواه مسلم من هذه الطرق عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها، ورواه من طريق أخرى إليها فقال: حدثني عمرو الناقد حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.

ورواه البخاري في (كتاب الأدب) من صحيحه (باب الوصاة بالجار) فقال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني مالك عن يحيى بن سعيد قال أخبرني أبو بكر بن محمد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).

ورواه أبو داود في (كتاب الأدب) من سننه (باب في حق الجوار) فقال: حدثنا مسدد حدثنا حماد عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى قلت ليورثنه)).

ورواه الترمذي في (كتاب البر والصلة) من جامعه (باب ما جاء في حق الجوار) فقال: حدثنا قتيبة حدثنا الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر ـ هو ابن محمد بن عمرو بن حزم ـ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

ورواه ابن ماجه في (كتاب الأدب) من سننه (باب حق الجوار) فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون وعبدة بن سليمان (ح) وحدثنا محمد بن رمح أنبأنا الليث بن سعد جميعاً عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).

وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ولفظه عندهما: ((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).

وأخرجه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وفيهما: أن عبد الله بن عمرو ذبح شاة فقال: أهديتم لجاري اليهودي؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)). وهذا لفظ أبي داود ونحوه لفظ الترمذي وقال عقبه: وفي الباب عن عائشة، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، والمقداد بن الأسود، وعقبة بن عامر، وأبي شريح، وأبي أمامة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي هذا الحديث عن مجاهد عن عائشة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً.

وأخرجه الترمذي في جامعه، وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومتنه عندهما مثل متن حديث عائشة في (صحيح البخاري).

وقال المنذري في (الترغيب والترهيب): وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته الجدعاء في حجة الوداع يقول: ((أوصيكم بالجار)) حتى أكثر، فقلت: إنه يورثه. رواه الطبراني بإسناد جيد. انتهى. وفيه أنه حصل لأبي أمامة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل عليه السلام.

وقال المنذري أيضاً: وعن رجل من الأنصار قال: خرجت مع أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا به قائم وإذا رجل مقبل عليه، فظننت أنه له حاجة فجلست، فوالله لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى جعلت أرثى له من طول القيام ثم انصرف، فقمت إليه فقلت: يا رسول الله، لقد قام هذا الرجل حتى جعلت أرثى لك من طول القيام. قال: ((أتدري من هذا ؟ قلت: لا، قال: جبريل صلى الله عليه وسلم مازال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام)). رواه أحمد بإسناد جيد ورواته رواة الصحيح، وقال المنذري بعد سياق جملة من الأحاديث المشتملة على هذا المتن: وقد روي هذا المتن من طرق كثيرة وعن جماعة من الصحابة رضي الله عنه.

المبحث الثاني: التعريف بالرواة في الإسناد:

الأول: شيخ مسلم قتيبة بن سعيد وقد تقدم في رجال إسناد الحديث الخامس.

الثاني: شيخ مسلم محمد بن رمح، وهو محمد بن رمح بن المهاجر التجيبي مولاهم المصري، ثقة ثبت من العاشرة، مات سنة اثنتين وأربعين ـ أي بعد المائتين ـ، قاله الحافظ في (تقريب التهذيب) ورمز لكونه من رجال مسلم وابن ماجه. وقال في (تهذيب التهذيب): محمد بن رمح بن المهاجر بن المحرر بن سالم التجيبي، مولاهم أبو عبد الله المصري الحافظ حكى عن مالك، وروى عن مسلمة بن عليّ الخشني، وابن لهيعة، والليث، ومفضل بن فضالة، ونعيم بن حماد، وجماعة. وعنه مسلم، وابن ماجه، وعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، وغيرهم سماهم. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه وتوثيقه عن ابن الجنيد، وأبي داود، وابن ماكولا، وابن يونس، ومسلمة، وذكره ابن حبان في (الثقات)، وقال فيه النسائي: ما أخطأ في حديث واحد. وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه مسلم مائة حديث وواحد وستين حديثاً.

الثالث: شيخ مسلم أبو بكر بن أبي شيبة تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.

الرابع: شيخ مسلم محمد بن المثنى، قال الحافظ في (التقريب): محمد بن المثنى بن عبيد العنـزي - بفتح النون والزاي - أبو موسى البصري المعروف بالزمن، مشهور بكنيته وباسمه، ثقة ثبت من العاشرة، وكان هو وبندار فرسي رهان وماتا في سنة واحدة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): محمد بن المثنى بن عبيد بن قيس بن دينار العنزي، أبو موسى البصري الحافظ، المعروف بالزمن، روى عن عبد الله بن إدريس، وأبي معاوية، وخالد بن الحارث، ويزيد بن زريع، وعبد الوهاب الثقفي، وغيرهم سماهم. وروى عنه الجماعة، وغيرهم سماهم، وذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قال الخطيب: كان ثقة ثبتاً احتج سائر الأئمة بحديثه. وقال الذهبي: حجّة. وقال السلمي عن الدار قطني: كان أحد الثقات. وقدمه على بندار، قال: وقد سئل عمرو بن عليّ عنهما فقال: ثقتان يقبل منهما كل شيء إلا ما تكلم به أحدهما في الآخر، قال: وكان في أبي موسى سلامة، وقال: مسلمة ثقة مشهور من الحفاظ. انتهى. وكانت وفاته سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وولادته سنة سبع وستين بعد المائة.

الخامس: مالك بن أنس، قال في (التقريب): مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر ابن عمرو الأصبحي، أبو عبد الله المدني الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين وكبير المتثبتين، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر. من السابعة، مات سنة تسع وسبعين ـ أي بعد المائة ـ وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث السابع عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

السادس: الليث بن سعد، قال في (التقريب): الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري، ثقة ثبت فقيه، إمام مشهور، من السابعة، مات في شعبان سنة خمس وسبعين ـ أي بعد المائة ـ ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الحادي عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

السابع: عبدة ـ وهو ابن سليمان ـ قال في (التقريب): عبدة بن سليمان الكلابي أبو محمد الكوفي، يقال اسمه عبد الرحمن، ثقة ثبت من صغار الثامنة، مات سنة سبع وثمانين ـ أي بعد المائة وقيل بعدها ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: إسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعاصم الأحول، وغيرهم. وجماعة رووا عنه منهم: أحمد، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وغيرهم. وذكر توثيقه عن أحمد، وابن معين، والعجلي، وابن سعد، وعثمان بن أبي شيبة، والدار قطني.

الثامن: يزيد بن هارون، قال في (التقريب): يزيد بن هارون بن زاذان السلمي مولاهم، أو خالد الواسطي، ثقة متقن عابد، من التاسعة، مات سنة ست ومائتين، وقد قارب التسعين، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الخامس من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

التاسع: عبد الوهاب الثقفي، قال في (التقريب): عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي، أبو محمد البصري، ثقة تغير قبل موته بثلاث سنين، من الثامنة، مات سنة أربع وتسعين ـ أي بعد المائة، عن نحو من ثمانين سنة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الرابع عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

العاشر: يحيى بن سعيد ـ وهو الأنصاري ـ قال الحافظ في التقريب: يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري المدني، من الخامسة، مات سنة أربع وأربعين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الخزرجي في (الخلاصة): يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة الأنصاري النجاري، قاضي المدينة. عن أنس، وابن المسيب، والقاسم، وعراك بن مالك، وخلق. وعنه الزهري، والأوزاعي، ومالك، والسفيانان، والحمادان، والجريران، وأمم.

قال المديني: له نحو ثلاثمائة حديث. وقال ابن سعد: ثقة حجة كثير الحديث. وقال أبو حاتم: يوازي الزهري في الكثرة. وقال أحمد: يحيى بن سعيد أثبت الناس. وذكر المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين)، والحافظ في (تهذيب التهذيب) أنه يكنى أبا سعيد. وذكر في (تهذيب التهذيب) الكثير من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن سعد، والعجلي، والنسائي، وأحمد، ويحيى بن معين، وأبي حاتم، وأبي زرعة. وذكر عن يحيى بن سعيد القطان أنه كان يدلس قال: لما سئل عنه وعن محمد بن عمرو بن علقمة: أما محمد بن عمرو فرجل صالح ليس بأحفظ للحديث، وأما يحيى بن سعيد فكان يحفظ ويدلس.

الحادي عشر: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال في (التقريب): أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري النجاري ـ بالنون والجيم ـ المدني القاضي، اسمه وكنيته واحد، وقيل: إنه يكنى أبا محمد، ثقة عابد من الخامسة، مات سنة عشرين ومائة، وقيل غير ذلك، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): قاضي أهل المدينة زمن سليمان وعمر بن عبد العزيز، يقال: اسمه أبو بكر وكنيته أبو محمد، سمع عمرو بن سليم، وعمرة بنت عبد الرحمن، وعباد بن تميم، وعمر بن عبد العزيز عندهما ـ أي في الصحيحين ـ وقال: روى عنه يحيى الأنصاري، وابنه عبد الله بن أبي بكر عندهما. وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) أسماء جماعة روى عنهم، وجماعة رووا عنه وقال: وروى عن خالته عمرة بنت عبد الرحمن، وقال: قال ابن سعد: فولد محمد بن عمرو بن حزم عثمان وأبا بكر الفقيه، وأم كلثوم، وأمهم كبشة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، وذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن معين، وابن خراش، والواقدي.

الثاني عشر: عمرة وهي بنت عبد الرحمن، قال الحافظ في (التقريب): عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية، أكثرت عن عائشة، ثقة، ماتت قبل المائة ويقال بعدها، ورمز لكون حديثها في الكتب الستة. وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة رووا عنها منهم: ابنها أبو الرجال، وابن أختها أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وابنه عبد الله بن أبي بكر، ويحيى وسعد وعبد ربه أولاد سعيد بن قيس الأنصاري، وغيرهم سماهم، وذكر أنها روت عن عائشة، وأختها لأمها أم هشام بن حارثة بن النعمان، وحبيبة بنت سهل، وأم حبيبة حمنة بنت جحش. وذكر ثناء الأئمة عليها، ونقل توثيقها عن ابن معين، والعجلي، وابن المديني.

الثالث عشر: عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قال الحافظ في (التقريب): عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين، أفقه النساء مطلقاً، وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ خديجة ففيها خلاف شهير، ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح، ورمز لكون حديثها في الكتب الستة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها، التيمية أم عبد الله الفقيهة، أم المؤمنين الربانية، حبيبة النبي صلى الله عليه وسلم ، لها ألفان ومئتان وعشرة أحاديث، اتفقا ـ أي البخاري ومسلم ـ على مائة وأربعة وسبعين، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، ومسلم بثمانية وستين.

وعنها: مسروق، والأسود، وابن المسيب، وعروة، والقاسم، وخلق. قال عليه الصلاة والسلام: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)). وقال عروة: ما رأيت أعلم بالشعر من عائشة، وقال القاسم: كانت تصوم الدهر. وقال هشام بن عروة: توفيت سنة سبع وخمسين، ودفنت بالبقيع. وذكر الحافظ في مقدمة الفتح أن لها في صحيح البخاري مائتين واثنين وأربعين حديثاً.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، المبرأة من قول أهل الإفك من فوق سبع سموات، تكنى بابن أختها عبد الله بن الزبير، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم عندهما ـ أي في الصحيحين ـ، روت عن أبيها أبي بكر الصديق، وجدامة بنت وهب عند مسلم. روى عنها مسروق، وعروة، وغير واحد عندهما، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وغير واحد عند مسلم. تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً، ولم يتزوج بكراً غيرها، وهي بنت ست، قبل الهجرة بسنتين، وبنى بها وهي بنت تسع، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة سنة، بين سحرها ونحرها، وكانت أحب أزواجه إليه وأكثرهن علماً وأفصحهن لساناً، توفيت سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة تسع وخمسين رضي الله عنها. وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) جماعة روت عنهم، وكثيرين رووا عنها. وقال: قال الشعبي: كان مسروق إذا حدث عن عائشة قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله تعالى، المبرأة من فوق سبع سموات، ثم ذكر الكثير من الثناء عليها رضي الله عنها وأرضاها.

وقال الحافظ ابن حجر في ترجمتها في (الإصابة): وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، وذكر كثيراً من مناقبها رضي الله عنها.




المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) أحد عشر راوياً من الرواة في الإسناد اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم، أما الاثنان الباقيان فهما: شيخ مسلم (أبو بكر بن أبي شيبة) ولم يخرج حديثه الترمذي، وشيخ مسلم (محمد بن رمح) ولم يخرج له منهم سوى مسلم وابن ماجه.

(2) قتيبة بغلاني من بغلان بلخ، ومحمد بن رمح والليث بن سعد مصريان، ويزيد بن هارون واسطي، وأبو بكر بن أبي شيبة وعبدة بن سليمان كوفيان، وعبد الوهاب الثقفي ومحمد بن المثنى بصريان، وباقي الإسناد وهم: مالك بن أنس، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعمرة بنت عبد الرحمن، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها مدنيون.

(3) قتيبة بن سعيد ذكره مسلم منسوباً في الطريق الأولى، وغير منسوب في الطريق الثانية، ولا لبس في عدم نسبته لأنه الرجل الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم في رجال الكتب الستة.

(4) محمد بن المثنى مشهور باسمه، وكنيته أبو موسى، وقد اشتهر بها أيضاً، ومعرفة ذلك من الأمور المهمة في علم مصطلح الحديث، لئلا يظن الواحد اثنين إذا ذكر في موضع بالاسم وفي آخر بالكنية.

(5) محمد بن المثنى شيخ لأصحاب الكتب الستة، كل منهم روى عنه مباشرة، ولقبه الزمن، ومثله في ذلك أيضاً: محمد بن بشار الملقب بنداراً، وقد اتفق معه في سنة الولادة وسنة الوفاة، حيث ولدا معاً في السنة التي مات فيها حماد بن سلمة، وهي سنة سبع وستين ومائة، وماتا في سنة اثنتين وخمسين ومائتين، ولهذا قال الحافظ في ترجمته في (التقريب): كان هو وبندار فرسي رهان وماتا في سنة واحدة.

(6) في الإسناد راويان اشتهرا بالكنية بأبي بكر وهما: ابن أبي شيبة، وابن محمد بن عمرو بن حزم، وقيل: إنها اسم لابن محمد بن عمرو بن حزم وكنيته أبو محمد.

وقال النووي في ترجمته في (تهذيب الأسماء): فكان للكنية كنية. ونقل عن الخطيب البغدادي أنه قال: لا نظير له في هذا إلاّ أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ـ أي أنه اسمه أبو بكر ـ وكنيته أبو عبد الرحمن.

(7) عبدة ذكر في الإسناد غير منسوب وهو ابن سليمان، وقد نسب في الإسناد عند ابن ماجه، وتقدم في التخريج، ولا لبس في عدم نسبته لأنه ليس في رجال مسلم من يسمى عبدة سواه.

(8) الطرق التي روى مسلم الحديث منها: عن يحيى بن سعيد الأنصاري أربع، وقد استعمل فيها التحويل مراراً، وتقدم أن مسلماً يستعمل التحويل بكثرة بخلاف البخاري، لأن مسلماً يجمع طرق الحديث في موضع واحد غالباً، أما البخاري فيفرق الحديث على الأبواب لغرض الاستدلال.

(9) الضمير في كلهم في الإسناد يرجع إلى شيوخ شيوخ مسلم الأربعة وهم: مالك بن أنس، والليث بن سعد، وعبدة بن سليمان، ويزيد بن هارون، ولم يذكر طريق عبد الوهاب الثقفي معهم بل أخرها، ولعل السر في ذلك أن الأربعة المذكورين روايتهم عن يحيى بن سعيد بصيغة عن. أما رواية عبد الوهاب عن يحيى فهي بصيغة: سمعت.

(10) طريقة مسلم التي سلكها في كتابه: أنه إذا روى الحديث عن عدد من شيوخه نص على من له اللفظ منهم، فإنه رواه من طرق أربع وعند ذكر الطريق الرابعة وهي طريق محمد بن المثنى قال: واللفظ له. أي أن لفظ المتن الذي ساقه من رواية محمد بن المثنى. أما الباقون فبالمعنى، أما البخاري فقد ذكر الحافظ ابن حجر في (الفتح) أنه عُرف بالاستقراء من صنيع البخاري أنه إذا ذكر أكثر من طريق فاللفظ للأخير منها.

(11) لما ذكر في الإسناد عبد الوهاب قال: يعنى الثقفي، ولما ذكر أبا بكر قال: وهو ابن محمد بن عمرو بن حزم، ومثل هذا يرد كثيراً في الصحيحين، والغرض من ذلك الإيضاح والبيان، لأن الذين رووا عنهم ذكروهم بدون هذه النسبة، فحصلت الزيادة الموضحة المبينة وجاءت على هذه الصيغة دون أن يقال: عبد الوهاب الثقفي أو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، لأن الذين رووا عنهم لم ينسبوهم، فلو ذكرت نسبتهم بهذه الصيغة لكان مضافاً إليهم ما لم يقولوه، ولو اقتصر على ما ذكروه دون إيضاح احتمل أن يلتبس الأمر على بعض الناس، وبسلوك هذه الطريق الموضحة يزول كل من المحذورين المذكورين.

(12) محمد بن رمح شيخ مسلم، ذكر الحافظ في (التقريب) والخزرجي في (الخلاصة) أن نسبته التجيبي مولاهم، ومن شيوخ مسلم حرملة بن يحيى التجيبي، وقد تقدم في رجال إسناد الحديث الثاني. وهذه النسبة بضم التاء المعجمة باثنتين من فوقها وكسر الجيم وتسكين الياء تحتها نقطتان، وفي آخرها باء موحدة كما في (اللباب) لابن الأثير، وذكر أن هذه النسبة إلى تجيب وهو اسم أم عدي وسعد بني أشرس بن شبيب بن السكون نسب ولدهما إليها، وإلى محلة بمصر، ثم مثل لمن ينسب إلى القبيلة بحرملة بن يحيى، ولمن ينسب إلى المحلة بمحمد بن رمح بن المهاجر، ويشكل على الأخير أن الحافظ في (التقريب) والخزرجي في (الخلاصة) قالا عنه: التجيبي مولاهم، وهو يفيد أن نسبته إلى القبيلة، لكن ذكر النووي في ترجمة حرملة في (تهذيب الأسماء) نقلاً عن أحمد بن الحباب النسابة أنه قال: وهذه القبيلة نزلت مصر وبها محلة تنسب إليها. انتهى، وعلى هذا فإن النسبة إلى المحلة لا تنافي النسبة إلى القبيلة.

(13) يحيى بن سعيد الأنصاري وصفه يحيى بن سعيد القطان بأنه يدلس. وقد صرّح بالإخبار في روايته هذا الحديث عند مسلم، وعند البخاري أيضاً كما في التخريج.

(14) هذا الإسناد فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم: يحيى بن سعيد، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعمرة بنت عبد الرحمن.

(15) في الإسناد يحيى بن سعيد وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وهما تابعيان، مدنيان، أنصاريان، نجاريان، كل منهما تولى قضاء المدينة.

(16) يحيى بن سعيد الأنصاري سمع من عمرة بنت عبد الرحمن مباشرة، وروى عنها بواسطة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كما هنا، فروايته عن أبي بكر هذه من رواية الأقران المعروف في علم المصطلح، وهو أن يشترك تلميذان في الرواية عن شيخ ويكون أحد التلميذين روى عن زميله، فلو كان كل منهما قد روى عن الآخر سمي مدبجا.

(17) عمرة هي بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة خالة الراوي عنها في هذا الإسناد وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ولم ينسبها في الإسناد، ولا لبس في عدم نسبتها لأنه ليس في النساء اللاتي خرج حديثهن في صحيح مسلم من يسمى بهذا الاسم غيرها، وقد ذكر الحافظ في (تقريب التهذيب) ممن يسمى عمرة ستاً كلهن يروين عن عائشة رضي الله عنها، أربع منهن ليس لهن رواية في الكتب الستة، وواحدة منهن خرّج لها أبو داود في سننه، وهي في الطبقة الرابعة، أما عمرة بنت عبد الرحمن فحديثها في الكتب الستة.

(18) يحيى بن سعيد الأنصاري وصفه أحمد بن حنبل بصفة تعتبر أعلى مراتب التعديل حيث قال فيه: يحيى بن سعيد أثبت الناس. قال الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر): وأرفعها ـ يعني مراتب التعديل ـ الوصف بأفعل كأوثق الناس أو أثبت الناس.

(19) عبد الوهاب الثقفي تغير قبل موته بثلاث سنين، وتقدم أن ما كان في الصحيحين من الرواية عن المختلطين محمول على أن الرواية عنهم كانت قبل الاختلاط، على أن عبد الوهاب الثقفي لم يحدث بعد اختلاطه لأن الناس حجبوا عنه، كما ذكر ذلك الذهبي في ترجمته في (ميزان الاعتدال).

(20) الصحابية في هذا الحديث عائشة رضي الله عنها، الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها وجدها وأمها وإخوتها وسائر الصحابة أجمعين، وهي الصحابية الوحيدة التي زاد حديثها في الكتب الستة على ألف حديث، إذ بلغ جملة مالها في هذه الكتب ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، كما في (الخلاصة) للخزرجي، و(تدريب الراوي) للسيوطي.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) قوله (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه ليورثنه). قال في (الفتح): أي يأمر عن الله بتوريث الجار من جاره، واختلف في المراد بهذا التوريث فقيل: يجعل له مشاركة في المال بفرض سهم يعطاه مع الأقارب، وقيل: المراد أن ينـزل منـزلة من يرث بالبر والصلة، والأوّل أظهر، فإن الثاني استمر والخبر مشعر بأن التوريث لم يقع، ويؤيده ما أخرجه البخاري من حديث جابر نحو حديث الباب بلفظ: ((حتى ظننت أنه يجعل له ميراثاً)). وقال أيضاً: واسم الجار يشمل المسلم، والكافر، والعابد، والفاسق، والصديق، والعدو، والغريب، والبلدي، والنافع، والضار، والقريب، والأجنبي، والأقرب داراً والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها، وهلم جراً إلى الواحد، وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى، كذلك فيعطى كل حقه بحسب حاله، وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجح أو يساوى، وقد حمله عبد الله بن عمرو أحد من روى الحديث على العموم، فأمر لما ذبحت له شاة أن يهدى منها لجاره اليهودي، أخرجه البخاري في (الأدب المفرد) والترمذي وحسنه.

(2) قال الحافظ في الفتح: وليس في شيء من طرقه ـ يعنى الحديث ـ بيان لفظ وصية جبريل إلاّ أن الحديث يشعر بأنه بالغ في تأكيد حق الجار وقال: قال الشيخ محمد بن أبي جمرة: حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة، كالهدية والسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية، وقد نفى صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يأمن جاره بوائقه، وهي مبالغة تنبئ عن تعظيم حق الجار، وأن إضراره من الكبائر، قال: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح، والذي يشمل الجميع إرادة الخير له وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخص الصالح وهو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه، وتبيين محاسنه والترغيب فيه برفق، ويعظ الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضاً، ويستر عليه زلـله عن غيره، وينهاه برفق فإن أفاد فيه وإلا فيهجره قاصداً تأديبه على ذلك مع إعلامه بالسبب ليكف. انتهى.

(3) قال الحافظ في (الفتح): وقال ابن أبي جمرة: إذا أكد حق الجار مع الحائل بين الشخص وبينه، وأمر بحفظه وإيصال الخير إليه، وكف أسباب الضرر عنه، فينبغي له أن يراعي حق الحافظين الذين ليس بينه وبينهم جدار ولا حائل، فلا يؤذيهما بإيقاع المخالفات في مرور الساعات، فقد جاء أنهما يسران بوقوع الحسنات ويحزنان بوقوع السيئات، فينبغي مراعاة جانبهما وحفظ خواطرهما بالتكثير من عمل الطاعات والمواظبة على اجتناب المعصية، فهما أولى برعاية الحق من كثير من الجيران. انتهى.

(4) قال البخاري في صحيحه: (باب حق الجوار في قرب الأبواب) وساق بسنده إلى عائشة رضي الله عنها، قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: ((إلى أقربهما منك باباً)).

فالأقرب باباً أولى بالهدية فيما إذا لم يكن الإهداء إلى الجميع، قال الحافظ في شرحه: قيل: الحكمة فيه أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها، فيتشوف لها بخلاف الأبعد، وأن الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره من المهمات ولاسيما في أوقات الغفلة.

(5) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) الوصية في البر والصلة.

(2) التأكيد في وصية الجار بجاره والمبالغة في شأنها.

(3) تكرار الوصية في الجار لإظهار العناية به.

(4) الإيمان بالملائكة.

(5) التنبيه إلى أولوية أقارب الإنسان ولاسيما الوارثين ببره وإحسانه.

(6) أن من أكثر من شيء من أعمال البر يرجى له الانتقال إلى ما هو أعلى منه.

(7) أن الظن إذا كان في طريق الخير جاز ولو لم يقع المظنون، بخلاف ما إذا كان في طريق الشر.

(8) جواز الطمع في الفضل إذا توالت النعم.


(9) التحدث بما يقع في النفس من أمور الخير.

(10) تنبيه الإنسان إلى رعاية حق الملائكة الموَكلين بحفظه، بأن يدخل عليهم السرور بفعله الطاعات ولا يسيء إليهم وإلى نفسه بفعل المعاصي.

ابو وليد البحيرى
2019-02-15, 10:45 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (29)



حديث ((عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت....))

قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب البر والصلة والآداب من صحيحه:حدثني عبد الله بن محمد بن أسماء بن عبيد الضبعي حدثنا جويرية ـ يعني ابن أسماء ـ عن نافع عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)).
المبحث الأول، التخريج:
أخرج مسلم هذا الحديث عن ابن عمر من طرق هذه إحداها ثم قال عقبها: حدثني هارون بن عبد الله وعبد الله بن جعفر بن يحيى بن خالد جميعاً عن معن بن عيسى عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمعنى حديث جويرية، وحدثنيه نصر بن عليّ الجهضمي حدثنا عبد الأعلى عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((عذبت امرأة في هرة أوثقتها فلم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض))، وأخرجه من هذه الطرق الثلاث في (كتاب قتل الحيات وغيرها).
وأخرجه البخاري في ثلاثة مواضع من صحيحه أولها في (كتاب الشرب والمساقاة، باب فضل سقي الماء) فقال: حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً، فدخلت فيها النار، قال: فقالوا ـ والله أعلم ـ: لا أنت أطعمتها ولا سقيتها حين حبستها، ولا أنت أرسلتها فأكلت من خشاش الأرض)).
والثاني: في (كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم) فقال: حدثنا نصر بن عليّ أخبرنا عبد الأعلى حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دخلت النار امرأة في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خَشاش الأرض))، قال: وحدثنا عبيد الله عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
والثالث: في (كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل) فقال: حدثني عبد الله بن محمد بن أسماء حدثنا جويرية بن أسماء عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عذبت امرأة في هرة ربطتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)). وأخرجه الدارمي في سننه في (كتاب الرقاق، باب دخلت امرأة النار في هرة) فقال: أخبرنا الحكم بن مبارك أنا مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دخلت امرأة في النار في هرة فقيل: لا أنت أطعمتها وسقيتها، ولا أنت أرسلتها فتأكل من خشاش الأرض)). وأخرجه البخاري وابن ماجه من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه ضمن حديث الكسوف عن جابر رضي الله عنه ولفظه: ((وعرضت عليَّ النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرّة لها، ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)). وفي رواية أخرى عنه قال: ((رأيت في النار امرأة حميرية سوداء طويلة)) ولم يقل من بني إسرائيل، وفي رواية أخرى عنه: ((وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً)). ورواه ابن ماجه في (سننه)، والإمام أحمد في (المسند) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ مسلم عبد الله بن محمد بن أسماء بن عبيد الضبعي ـ بضم المعجمة وفتح الموحدة ـ أبو عبد الرحمن البصري، ثقة جليل من العاشرة، مات سنة إحدى وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ، قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال البخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن عمِّه جويرية بن أسماء، ومهدي بن ميمون، وحفص بن غياث، وابن المبارك، وغيرهم. وعنه البخاري ومسلم، وأبو داود، وروى له أبو داود أيضاً والنسائي بواسطة الذهلي، وأبي بكر محمد بن إسماعيل الطبراني، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن أبي حاتم، وابن قانع، وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه البخاري اثنين وعشرين حديثاً، ومسلم سبعة عشر حديثاً.
الثاني: جويرية بن أسماء، قال الحافظ في (التقريب): جويرية: تصغير جارية بن أسماء بن عبيد الضبعي ـ بضم المعجمة وفتح الموحدة ـ البصري صدوق من السابعة، مات سنة ثلاث وسبعين ـ أي بعد المائة ـ ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى الترمذي. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أبيه، ونافع، والزهري، وبديح مولى عبد الله بن جعفر، ومالك بن أنس وهو من أقرانه، وغيرهم. وعنه حبان بن هلال، وحجاج بن منهال، وابن أخته سعيد بن عامر الضبعي، وابن أخيه عبد الله بن محمد بن أسماء، وغيرهم سماهم. وقال: قال ابن معين: ليس به بأس. وقال أحمد: ثقة ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح.
الثالث: نافع وهو مولى ابن عمر، قال الحافظ في (التقريب): نافع أبو عبد الله المدني مولى ابن عمر، ثقة ثبت فقيه مشهور من الثالثة، مات سنة سبع عشرة ومائة أو بعد ذلك، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته وترجمة مولاه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في رجال إسناد الحديث السابع عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
الرابع: عبد الله بن عمر، قال في (التقريب): عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبد الرحمن، ولد بعد المبعث بيسير، واستصغر يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وهو أحد المكثرين من الصحابة والعبادلة، وكان من أشد الناس اتباعاً للأثر، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو أول التي تليها، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.


المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الإسناد الأربعة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلا شيخ مسلم فإنه لم يرو له الترمذي وابن ماجه، وإلا شيخ شيخه جويرية فلم يرو له الترمذي.
(2) نصف الإسناد الأعلى من أهل المدينة ونصفه الأدنى من أهل البصرة.
(3) نافع مولى ابن عمر من أسفل، وابن عمر مولى نافع من أعلى، فالحديث من رواية مولى من أسفل عن مولى من أعلى. وعبد الله بن محمد شيخ مسلم هو ابن أخي جويرية، وقد روى هذا الحديث عن عمه جويرية.
(4) نصف الإسناد الأدنى الرواية فيه بالتحديث ونصفه الأعلى بالعنعنة.
(5) صيغة تحمل مسلم عن شيخه (حدثني) وصيغة تحمل شيخه عن شيخ شيخه (حدثنا)، ووجه الإفراد في الاصطلاح أن الراوي سمع وحده، ووجه الجمع أنه سمع ومعه غيره.
(6) هذا الإسناد رباعي، والإسناد الرباعي هو أعلى أسانيد صحيح مسلم، بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه أربعة، وليس في صحيحه أعلى من الرباعيات.
(7) هذا الحديث رواه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما من ثلاث طرق رواه عالياً من هذه الطريق، ورواه نازلاً من الطريقين الأخريين بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم في كل منهما خمسة، وتقدم سياقهما في التخريج.
(8) نصف الإسناد الأعلى نافع عن ابن عمر، وفي إحدى الطريقين النازلتين مالك عن نافع عن ابن عمر وهذه السلسلة هي أصح الأسانيد عند البخاري.
(9) المرأة التي ذكرت في الحديث ذكر الحافظ ابن حجر في (الفتح) أنه لم يقف على تسميتها، وهذا من أمثلة المبهم في المتن.
(10) هذا الحديث أورده مسلم في (كتاب البر والصلة والآداب) وأورده في (كتاب قتل الحيات ونحوها)، وهو من الأحاديث القليلة في (صحيح مسلم) التي أوردها في أكثر من موضع، وقد أحصاها الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي وبلغت عنده مائة وسبعة وثلاثين حديثاً كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
(11) الصحابي في الحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ولم ينسبه في الإسناد، ولا لبس في عدم نسبته هنا لاشتهار نافع مولاه بالرواية عنه.
(12) الصحابي في الحديث هو أحد العبادلة الأربعة في الصحابة، وهو أحد المكثرين من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) قوله (عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار). المعنى أن عذاب المرأة ودخولها النار سببه سجنها الهرة دون أن تطعمها حتى ماتت وحرف (في) في الموضعين للسببية ومثله قوله تعالى:( لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
(2) قوله (عذبت امرأة). ذكر الحافظ ابن حجر في (الفتح) أنه لم يقف على اسمها ووقع في رواية أنها حميرية، وفي أخرى أنها من بني إسرائيل قال: ولا تضاد بينهما، لأن طائفة من حمير كانوا قد دخلوا في اليهودية فنسبت إلى دينها تارة، وإلى قبيلتها أخرى.
(3) وهل هذه المرأة مسلمة أو كافرة؟ قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: ظاهر الحديث أنها كانت مسلمة، وإنما دخلت النار بسبب الهرة. وذكر القاضي: أنه يجوز أنها كافرة عذبت بكفرها، وزيد في عذابها بسبب الهرة، واستحقت ذلك لكونها ليست مؤمنة تغفر صغائرها باجتناب الكبائر. قال النووي: هذا كلام القاضي. وصوب ما قدم من أنها مسلمة وتعقب كلام القاضي بقوله: وهذه المعصية ليست صغيرة بل صارت بإصرارها كبيرة، وليس في الحديث أنها تخلد في النار. انتهى.
قال الحافظ في (الفتح): ويؤيد كونها كافرة ما أخرجه البيهقي في (البعث والنشور) وأبو نعيم في (تاريخ أصبهان) من حديث عائشة، وفيه قصة لها مع أبي هريرة، وهو بتمامه عند أحمد. انتهى.
(4) قوله (في هرة). أي بسببها كما تقدم، والهرة أنثى السنور، والهر الذكر، ويجمع الهر على هررة كقرد وقردة، وتجمع الهرّة على هرر كقربة وقرب. قاله في (الفتح).
(5) قوله (سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لاهي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض). هذا هو سبب دخول المرأة النار، و(خشاش الأرض): المراد به هوام الأرض وحشراتها كالفأرة ونحوها.
(6) قوله (عذبت امرأة في هرة). التنكير في المرأة والهرة لإرادة الوحدة، أي عذبت امرأة واحدة بسبب هرة واحدة، وهذا الحكم لا يخص هذه المرأة بل من عمل عملها استحق مثل عقوبتها، وإنما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحذر أمته مثل هذا العمل.
(7) جاء في حديث أسماء بنت أبي بكر عند البخاري وابن ماجه ذكر كيفية تعذيب المرأة في النار وأن الهرة تخدشها فهي تعذب بها.
(8) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
(1) التحذير من أسباب دخول النار.
(2) جواز اتخاذ الهرة في البيت.
(3) تحريم تعذيب الهرة وغيرها من الحيوان الذي لا يؤذي.
(4) أن تعذيب الإنسان بغير حق يحرم من باب أولى.
(5) أنه لا مانع من حبس الهرة في البيت بشرط سقيها وإطعامها.
(6) أن الجزاء من جنس العمل فكما عذبت المرأة الهرة بحبسها وإهمالها عذبت بدخولها النار.
(7) أنه لا يجب إطعام الهر إلا عند حبسه.
(8) تفخيم شأن الذنب ولو كان صغيراً، وأن الإصرار على الصغائر يلحقها بالكبائر.
(9) الإيمان بالغيب.
(10) إثبات عذاب البرزخ.
(11) إثبات وصول عذاب النار إلى مستحقه قبل يوم القيامة.

(12) التنبيه على العناية بالسجناء والإحسان إليهم.

(13) أن النار موجودة الآن.
(14) وجوب سقي وإطعام السجين على من سجنه.
(15) أن الإنسان إذا لم يحصل منه الإحسان فلا أقل من الابتعاد عن الإساءة.

ابو وليد البحيرى
2019-02-15, 10:49 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (30)


شرح حديث(( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة...))

قال الإمام مسلم رحمه الله في أوائل كتاب الفضائل من صحيحه: حدثني الحكم بن موسى أبو صالح حدثنا هقل ـ يعني ابن زياد ـ عن الأوزاعي حدثني أبو عمار حدثني عبد الله بن فروخ حدثني أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأوّل من ينشق عنه القبر، وأوّل شافع وأوّل مشفع)).
المبحث الأول: التخريج:
هذا الحديث انفرد مسلم عن البخاري بإخراجه وقد أخرجه في هذا الموضع، ولم يكرره في هذا الموضع، ولا في غيره، وقد رواه أبو داود في سننه في (كتاب السنة، باب في التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) فقال: حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن أبي عمار عن عبد الله بن فروخ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أنا سيد ولد آدم، وأوّل من تنشق عنه الأرض، وأوّل شافع وأوّل مشفع)). ورواه الإمام أحمد في (المسند) فقال: حدثنا محمد بن مصعب حدثنا الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، فذكره ومتنه مثل لفظه عند أبي داود تماماً.
وللحديث شواهد كثيرة عن جماعة من الصحابة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض)) رواه الترمذي في جامعه، وقال: حديث حسن صحيح. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل شافع، وأوّل مشفع ولا فخر، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر)) رواه ابن ماجه في سننه، ورواه الإمام أحمد في (المسند) عن أبي سعيد، ولفظه: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل شافع يوم القيامة ولا فخر)). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إنه لم يكن نبي إلا له دعوة قد تنجزها في الدنيا، وإني قد اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي ولا فخر)). ثم ذكر شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف، رواه الإمام أحمد في (المسند). وأخرجه الدارمي في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: ((إني لأوّل الناس تنشق الأرض عن جمجمتي يوم القيامة ولا فخر، وأعطى لواء الحمد ولا فخر، وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من يدخل الجنة يوم القيامة ولا فخر)). وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) عن أنس بهذا اللفظ.
وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه في ترجمة أحمد بن محمد بن القربيطي عن أنس بلفظ: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر)).
وقد وردت الجملة الأولى من الحديث في الصحيحين وغيرهما في صدر حديث الشفاعة العظمى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((أنا سيد الناس يوم القيامة)).
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ مسلم الحكم بن موسى، قال الحافظ في (التقريب): الحكم بن موسى بن أبي زهير البغدادي أبو صالح القنطري، صدوق من العاشرة، مات سنة اثنتين وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال مسلم، والنسائي، وابن ماجه، ولكونه روى عنه البخاري تعليقاً، وأبو داود في (المراسيل). وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم: إسماعيل بن عياش، وابن المبارك، وهقل بن زياد وغيرهم سماهم، ثم قال: روى عنه البخاري تعليقاً، ومسلم، وأبو داود في (المراسيل)، وروى له النسائي، وابن ماجه بواسطة عمرو بن منصور، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن سعد، وصالح جزرة، وابن قانع.
الثاني: هقل بن زياد، وهو هقل ـ بكسر أوله وسكون القاف ثم لام ـ ابن زياد السكسكي ـ بمهملتين مفتوحتين بينهما كاف ساكنة ـ الدمشقي نزيل بيروت، قيل: هو لقب واسمه محمد أو عبد الله، وكان كاتب الأوزاعي، ثقة من التاسعة، مات سنة تسع وسبعين ـ أي بعد المائة أو بعدها. قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى البخاري.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): هقل بن زياد بن عبيد السكسكي الشامي قبيلة من اليمن، يكنى أبا عبد الله، سمع الأوزاعي في الصلاة والبيوع، وشرف النبي صلى الله عليه وسلم ، روى عنه الحكم بن موسى. انتهى. ويعني بذلك الذي له في صحيح مسلم.
وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): السكسكي مولاهم، وقال: روى عن الأوزاعي، وحريز بن عثمان، وخالد بن دريك، وغيرهم سماهم. وعنه ابنه محمد، والليث بن سعد وهو أكبر منه، وأبو مسهر، والحكم بن موسى، وهشام بن عمار، وغيرهم سماهم. وذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قول أحمد بن حنبل: لا يكتب حديث الأوزاعي عن أوثق من هقل. ونقل توثيقه عن ابن معين، وأبي زرعة الرازي، والعجلي، والنسائي.
الثالث: الأوزاعي، قال في (التقريب): عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي، أبو عمرو، الفقيه ثقة جليل من السابعة، مات سنة سبع وخمسين ـ أي بعد المائة ـ ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال ابن الأثير في (اللباب) بعد أن ذكر قول السمعاني (أن هذه النسبة إلى قرى متفرقة بالشام جمعت وقيل لها الأوزاع): ((والصواب أن الأوزاع بطن من ذي الكلاع من اليمن، وقيل الأوزاع بطن من همدان، وقيل اسم الأوزاع مرسد بن زيد بن شدد بن زرعة بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن هميسع بن خمير، منهم أبو عمرو الأوزاعي، وعدادهم في همدان نزلوا الشام فنسبت القرى التي سكنوها إليهم، والله أعلم)).
وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): نزل بيروت في آخر عمره فمات بها مرابطاً. ثم ذكر جماعة روى عنهم منهم: شداد أبو عمار، وعطاء بن أبي رباح، وقتادة، وغيرهم سماهم. وجماعة رووا عنه منهم: مالك، وشعبة، والثوري، وابن المبارك، وهقل بن زياد، وغيرهم سماهم. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه من ذلك قول ابن مهدي: الأئمة في الحديث أربعة: الأوزاعي، ومالك، والثوري، وحماد بن زيد. وقول ابن حبان في (الثقات): كان من فقهاء أهل الشام وقرائهم وزهادهم، وكان السبب في موته: أنه كان مرابطا ببيروت فدخل الحمام فزلق فسقط وغشي عليه، ولم يعلم به حتى مات. ونقل توثيقه عن ابن معين، وابن سعد، والعجلي.
الرابع: أبو عمار، قال الحافظ في (التقريب): شداد بن عبد الله القرشي أبو عمار، الدمشقي ثقة يرسل من الرابعة. ورمز لكونه من رجال البخاري في (الأدب المفرد)، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): شداد بن عبد الله القرشي الأموي الدمشقي أبو عمار، مولى معاوية بن أبي سفيان، سمع أبا أسماء عمرو بن مرثد، وأبا أمامة الباهلي، وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن فروخ. روى عنه الأوزاعي، وعكرمة بن عمار. ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن العجلي، وأبي حاتم، والدار قطني، ويعقوب بن سفيان، ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
الخامس: عبد الله بن فروخ، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن فروخ التيمي مولى عائشة، المدني، نزل الشام، ثقة من الثالثة. ورمز لكونه من رجال مسلم وأبي داود.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع عائشة في الزكاة، وأبا هريرة في شرف النبي صلى الله عليه وسلم ، روى عنه أبو سلام ممطور، وشداد أبو عمار. ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن العجلي، وختم ترجمته بقوله: روى له مسلم حديثين، أخرج أبو داود أحدهما وهو: ((أنا سيد ولد آدم))، والآخر في (الذكر بعدد المفاصل)، وقال الذهبي في (ميزان الاعتدال) راداً على من قال: إنه مجهول، قال: بل صدوق مشهور، حدّث عنه جماعة، وثقه العجلي. انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
السادس: أبو هريرة رضي الله عنه. وقد تكرر ذكره.

المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديث اثنين من رجال الإسناد وهما: أبو هريرة رضي الله عنه، والأوزاعي، ولم يخرج البخاري في صحيحه للأربعة الباقين في الأصول، وقد احتج ببعضهم في غيرها.
(2) أبو هريرة رضي الله عنه مدني، وعبد الله بن فروخ مدني نزل الشام، وشيخ مسلم بغدادي، والبقية دمشقيون.
(3) نسبة الأوزاعي قيل إنها إلى وطن، وذكر ابن الأثير في (اللباب) أن الصواب أنها نسبة إلى قبيلة من اليمن، واسمه عبد الرحمن بن عمرو واشتهر بهذه النسبة.
(4) هقل هو الشخص الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم في رجال الكتب الستة، ولهذا لا لبس في عدم نسبته لو لم ينسب، وكانت وفاته في السنة التي توفي فيها الإمام مالك رحمه الله.
(5) عبد الله بن فروخ ليس له في (صحيح مسلم) سوى حديثين، هذا أحدهما، والثاني في (كتاب الزكاة) في الذكر بعدد المفاصل، كما ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمته في (تهذيب التهذيب).
(6) في الإسناد راويان اشتهرا بالكنية وهما: أبو هريرة رضي الله عنه، وأبو عمار.
(7) في الإسناد تابعيان وهما: أبو عمار، وعبد الله بن فروخ، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.
(8) صيغة الأداء في الإسناد التحديث في خمسة مواضع، وكلها بصيغة الإفراد إلا في رواية شيخ مسلم فهي بالجمع، ورواية شيخ شيخه بالعنعنة.
(9) الإمام الأوزاعي توفي مرابطاً في بيروت، وسبب وفاته أنه دخل الحمام فزلق فسقط وغشي عليه ولم يعلم به حتى مات.


المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) هذا الحديث يدل على أربعة من الأمور التي امتاز بها صلى الله عليه وسلم على غيره، وقد ألف في خصائصه وميزاته صلى الله عليه وسلم مؤلفات منها: كتاب (شرف المصطفى) لأبي سعيد النيسابوري، ذكره الحافظ ابن حجر في (فتح الباري)، والسيوطي في شرحه لسنن النسائي، ومنها (أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب) للسيوطي.
(2) هذه الخصائص التي اختص بها صلى الله عليه وسلم ذكرها تحدثا بنعمة الله عليه، وإعلاماً لأمته بمنـزلته ليعتقدوا ذلك ولينـزلوه صلى الله عليه وسلم المنـزلة اللائقة به من الإجلال والتعظيم والمحبة والمتابعة، وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم أمته بمنـزلته عند الله لأنه لا سبيل للأمة إلى معرفة ذلك إلا بواسطته صلى الله عليه وسلم والتلقي عنه، إذ لا نبي بعده يخبر عن عظيم منـزلته عند ربه، كما أخبر أمته بفضائل الأنبياء قبله.
(3) هذا الحديث يدل على تفضيله صلى الله عليه وسلم على غيره من البشر، ويدل للمفاضلة بين الأنبياء والمرسلين قوله تعالى: ) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ(، وقوله تعالى: ) وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ( وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على المنع من تفضيل بعضهم على بعض في قصة تخاصم اليهودي مع المسلم وترافعهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا تفضلوا بين أنبياء الله)). وفي لفظ: ((لا تفضلوني على موسى)). وقد أجيب عن ذلك بأجوبة ذكرها النووي وغيره.
منها: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التفضيل قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فلما علم أخبر به.
ومنها: أن النهي إنما هو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص المفضول.
ومنها: أن النهي عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة والفتنة كما هو سبب الحديث.
(4) قوله صلى الله عليه وسلم : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)) فيه التقييد بيوم القيامة، ورواية أبي داود مطلقة بدون تقييد، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وإنما قيد ذلك بيوم القيامة لأن سؤدده يظهر يوم القيامة لكل أحد دون منازعة أو معاندة، وقد أوضح صلى الله عليه وسلم ذلك في حديث الشفاعة العظمى حيث قال في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون لم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون إلى ما أنتم فيه، ألا ترون إلى ما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم...)) وهو حديث طويل فيه: أنهم يأتون إلى أولى العزم من الرسل، فكل منهم يعتذر عن التقدم لهذه الشفاعة حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم ، فيتقدم لها فيشفعه الله صلوات الله وسلامه عليه.
(5) قوله صلى الله عليه وسلم : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة))، فيه إطلاق لفظ السيد على المخلوق، وقد جاء إطلاق ذلك أيضاً في أحاديث صحيحة كثيرة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما قد يفيد خلاف ذلك، قال أبو داود في (كتاب الأدب) من سننه في (باب في كراهية التمادح): حدثنا مسدد حدثنا بشر ـ يعني ابن المفضل ـ حدثنا أبو سلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن مطرف قال: قال أبي: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: ((السيد الله تبارك وتعالى))، قلنا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا. فقال: ((قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان)). ورجال إسناده بعضهم من رجال الصحيحين معاً، والبعض الآخر من رجال أحدهما. وقال عنه صاحب (عون المعبود): وحديث عبد الله بن الشخير إسناده صحيح، وأخرجه أيضاً أحمد في (مسنده). وقال في شرح هذا الحديث: قال السيوطي: قال الخطابي: قوله صلى الله عليه وسلم : ((السيد الله)) أي السؤدد كله حقيقة لله عزوجل، وأن الخلق كلهم عبيد الله، وإنما منعهم أن يدعوه سيداً مع قوله: ((أنا سيد ولد آدم)) لأنهم قوم حديث عهدهم بالإسلام، وكانوا يحسبون أن السيادة بالنبوة كهي بأسباب الدنيا، وكان لهم رؤساء يعظمونهم وينقادون لأمرهم.
وقوله: ((قولوا بقولكم)) أي قولوا بقول أهل دينكم وملتكم، وادعوني نبياً ورسولاً كما سماني الله تعالى في كتابه، ولا تسموني سيداً كما تسمون رؤساءكم وعظماءكم ولا تجعلوني مثلهم، فإني لست كأحدهم إذ كانوا يسودونكم في أسباب الدنيا، وأنا أسودكم بالنبوة والرسالة فسموني نبياً ورسولاً.
وقوله: ((أو بعض قولكم)) فيه حذف واختصار ومعناه: دعوا بعض قولكم واتركوه واقتصدوا فيه بلا إفراط، أو دعوا سيداً وقولوا نبياً ورسولاً.
وقوله: ((لا يستجرينكم الشيطان)) معناه: لا يتخذنكم جرياً والجري الوكيل، ويقال الأجير. انتهى كلام السيوطي. وقال السندي: أي لا يستعملنكم الشيطان فيما يريد من التعظيم للمخلوق بمقدار لا يجوز. انتهى.
هذا من أوجه الجمع بين هذه الأحاديث، ويجمع بينها أيضاً: بأن السيادة الحقيقية التي هي الغاية في الكمال، لا تليق إلا بالله وحده كما يدل عليه حديث عبد الله بن الشخير، وأنه لا مانع من إطلاق لفظ السيد على المخلوق كما يدل عليه حديث أبي هريرة وغيره من الأحاديث الكثيرة، لكن مع الحذر من الاسترسال في وصف المخلوق إلى ما يفضي إلى الغلو ومجاوزة الحد، والوقوع في المحذور الذي لا يرضاه الله عز وجل ولا يرضاه رسوله صلى الله عليه وسلم ، كالذي حصل لصاحب البردة، فإنه أثنى على الرسول صلى الله عليه وسلم فيها كثيراً بما هو حق، إلا أنه تجاوز الحد في بعض ثنائه عليه حيث أضاف إليه مالا يصلح أن يضاف إلا إلى الله وحده، كدعواه بأنه لا يلاذ عند حدوث المصائب إلاّ به صلى الله عليه وسلم ، وأن الدنيا والآخرة من جوده صلى الله عليه وسلم ، وأن علم اللوح والقلم من علمه صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن هذه الأوصاف لا تليق إلا بالله وحده، فهو الذي لا يلاذ إلاّ به سبحانه في دفع البلاء، وهو القائل عن نفسه ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ) وهو القائل لنبيه صلى الله عليه وسلم : (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً)، وهو سبحانه وحده الذي من جوده الدنيا والآخرة، وهو وحده الذي من علمه علم اللوح والقلم. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقدر إلاّ على ما أقدره الله عليه، ولا يعلم من الغيب إلاّ ما أطلعه الله عليه. وقد قال الله تعالى له: ( قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ) وقال تعالى( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ{187} قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{188})، وقد بشّر وأنذّر على أكمل وجه صلى الله عليه وسلم ، وهذا الذي اشتمل عليه حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه من أمثلة حمايته صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك.
(6) قوله ((وأول من ينشق عنه القبر)). فيه دلالة على أنه أوّل من يبعث، ويشكل على هذا ما أخرجه البخاري في أول (كتاب الخصومات) من صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بصعقة الأولى))، فإنه صلى الله عليه وسلم حين يبعث يجد موسى آخذاً بقائمة من قوائم العرش، مع أن موسى ممن قُبر في الحياة الدنيا. وقد قال صلى الله عليه وسلم يعني نفسه: ((وأول من ينشق عنه القبر)). وقد أجيب عن ذلك: بأن هذا اللفظ في حديث أبي سعيد وَهْمٌ من راويه، وأن الصواب ما وقع عند أبي سعيد وغيره بلفظ: ((فأكون أول من يفيق))، وهذه الصعقة تكون بعد البعث إذا جاء الله لفصل القضاء، ويكون صلى الله عليه وسلم أوّل الناس أفاق من هذه الصعقة قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، وإما أن يكون لم يصعق معهم لأنه صعق في الدنيا لما تجلى ربه للجبل فجعله دكاً. وتكون تلك الرواية المشكلة دخل على الراوي فيها حديث قصة موسى في حديث: ((وأول من ينشق عنه القبر)). فجاء الإشكال، وقد جزم بهذا شارح الطحاوية وعزاه لأبي الحجاج المزي، وابن القيم، وابن كثير.
وعلى هذا تكون أولية النبي صلى الله عليه وسلم في انشقاق القبر عنه على بابها لم يتقدمه موسى ولا غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويكون التردد في شأن موسى عند الإفاقة من الصعقة التي تكون للناس يوم القيامة، والله أعلم.
(7) قوله: ((وأول شافع وأول مشفع)). ذكر صلى الله عليه وسلم أوليته في التقدم للشفاعة وأوليته في إجابة الشفاعة، قال النووي في شرح صحيح مسلم: إنما ذكر الثاني لأنه قد يشفع اثنان فيشفع الثاني منهما قبل الأوّل، والله أعلم انتهى. فهو صلى الله عليه وسلم أول الشافعين، وأوّل المشفعين، وهو سيد الشفعاء عند الله، وطلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم له ثلاث حالات: الحالة الأولى: لما كان صلى الله عليه وسلم حياً الحياة الدنيوية، فإن أصحابه رضي الله عنه يطلبون منه الدعاء فيدعو الله تعالى لهم، كما كان صلى الله عليه وسلم يشفع لبعضهم عند بعض، ويوصي أصحابه بذلك فيقول: ((اشفعوا تؤجروا)).
الحالة الثانية: في حياته البرزخية في قبره، وفي هذه الحالة لا يجوز أن يطلب منه دعاء أو شفاعة، بل لا تطلب شفاعته صلى الله عليه وسلم إلاّ من الله وحده، فيقول الإنسان في دعائه: اللهم شفِّع فيَّ نبيك، أو اللهم اجعلني في زمرة الفائزين بشفاعته، ونحو ذلك. وقد أشار صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في (كتاب المرضى) من صحيحه عن عائشة رضي الله عنها إلى أن طلب الدعاء والشفاعة منه في حال حياته الدنيوية دون البرزخية، وفيه قالت عائشة: وا رأساه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك)).
الحالة الثالثة: يوم القيامة بعد البعث، وفي هذه الحالة تطلب منه الشفاعة لكنها لا تكون إلا لمن رضي الله قوله وعمله بعد أن يأذن للشافع في الشفاعة فيكرمه بذلك كما قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ( وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى )، وقوله تعالى: ( لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعا ) وقوله: ) َمن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( وقوله: ) يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً(، وغير ذلك من الآيات الدالة على أن الشفاعة ملك الله، وأنه لا يشفع الشافعون لديه إلاّ بعد الإذن لهم في التقدم للشفاعة، ولا يشفعون إلاّ لمن رضي الله قوله وعمله.
(8) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
(1) تفضل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بخصائص خصّه بها.
(2) تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على البشر.
(3) إثبات التفاضل بين الأنبياء.
(4) تحدث الإنسان بنعم الله عليه.
(5) جواز إطلاق السيد على المخلوق.
(6) أن يوم القيامة هو الوقت الذي يظهر سؤدده صلى الله عليه وسلم لكل من الأولين والآخرين دون منازعة أو معاندة.
(7) إثبات البعث.
(8) أن القبور تنشق عن المقبورين عند البعث.
(9) الإيمان بالغيب.
(10) أن المقبورين باقون في القبور حتى يبعثوا سواء في ذلك من لا تأكله الأرض كالأنبياء وغيرهم ممن شاء الله أن لا تأكله ومن تأكله.
(11) إثبات أنه صلى الله عليه وسلم أول الناس بعثاً وخروجاً من القبر.
(12) الرد على المتقولين أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من المقبورين يخرجون من قبورهم فيراهم البعض يقظة ويصافحونهم ويكلمونهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء التي نوه الله بشأنها في القرآن، ويخرج منه عند البعث إذا انشق عنه وقبره صلى الله عليه وسلم أوّل القبور انشقاقاً عن صاحبه.
(13) إثبات شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم .
(14) أنه صلى الله عليه وسلم أوّل من يشفع فلا يتقدمه أحد.

(15) إثبات أن غيره صلى الله عليه وسلم يشفع عند الله.
(16) أن الله تعالى يقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم .

(17) أنه صلى الله عليه وسلم أوّل المشفعين.
(18) إثبات أن غيره من الشفعاء يشفعه الله سبحانه.

ابو وليد البحيرى
2019-02-19, 10:05 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (31)




شرح حديث: (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا....)

قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الفضائل من صحيحه: حدثني محمد بن حاتم حدثنا ابن مهدي حدثنا سليم عن سعيد بن ميناء عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي)).

المبحث الأول: التخريج:
هذا الحديث انفرد مسلم عن البخاري بإخراجه من حديث جابر رضي الله عنه ولم يكرره، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) فقال: حدثنا عفان حدثنا سليم بن حيان حدثنا سعيد بن ميناء عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره بمثل متنه عند مسلم إلاّ أن فيه تقديم الفراش على الجنادب.
وأخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه من طريقين إليه، من طريق أبي الزناد عن الأعرج عنه، ومن طريق معمر عن همام عنه. وأخرجه البخاري عن أبي هريرة في (كتاب الرقاق)، وأخرج طرفاً منه في (كتاب أحاديث الأنبياء) كلاهما من طريق أبي الزناد عن الأعرج عنه. وأخرجه الترمذي في آخر (كتاب الأمثال) من جامعه من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه من ثلاث طرق إليه: من طريق معمر عن همام عنه، ومن طريق أبي الزناد عن الأعرج عنه، ومن طريق جعفر عن يزيد بن الأصم عنه.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: محمد بن حاتم، وهو محمد بن حاتم بن ميمون البغدادي السمين، صدوق ربما وهم، وكان فاضلاً من العاشرة، مات سنة خمس أو ست وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ. قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال مسلم وأبي داود. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن وكيع، وابن عيينة، وابن علية، وابن مهدي، وغيرهم سماهم. وروى عنه مسلم، وأبو داود، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن عدي، والدار قطني، وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه مسلم ثلاثمائة حديث.
الثاني: ابن مهدي قال الحافظ في (التقريب): عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري مولاهم أبو سعيد البصري، ثقة، ثبت، حافظ، عارف بالرجال والحديث. قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه. من التاسعة، مات سنة ثمان وتسعين ـ أي بعد المائة ـ وهو ابن ثلاث وسبعين سنة. ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): العنبري وقيل الأزدي مولاهم، أبو سعيد البصري اللؤلؤي الحافظ الإمام العلم. ثم ذكر جماعة روى عنهم منهم: جرير بن حازم، ومالك، وشعبة، والسفيانان، والحمادان، وسليم بن حيان. وجماعة رووا عنه منهم: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعليّ بن المديني، ويحيى بن معين. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قول علي بن المديني: إذا اجتمع يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل لم أحدث عنه، فإذا اختلفا، أخذت بقول عبد الرحمن، لأنه أقصدهما وكان في يحيى تشدد. وقول أحمد بن سنان: سمعت عليّ بن المديني يقول: كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس، قالها مراراً. وقول ابن حبان في (الثقات): كان من الحفاظ المتقنين وأهل الورع في الدين، ممن حفظ، وجمع، وتفقه، وصنف، وحدّث، وأبى الرواية إلاّ عن الثقات. وقول الشافعي: لا أعلم له نظيراً في الدنيا. انتهى. وقال الذهبي في (العبر): الحافظ، أحد أركان الحديث بالعراق.
الثالث: سليم، وهو ابن حيان كما قال النووي. قال الحافظ في (التقريب): ابن حيان ـ بمهملة وتحتانية ـ الهذلي البصري، ثقة من السابعة، ورمز لكونه من رجال البخاري، وأبي داود، والترمذي، وكذا رمز في (تهذيب التهذيب)، وسقط منهما الرمز لمسلم، ولعله من النساخ أو الطابعين. وقال في (تهذيب التهذيب): سليم ـ بالفتح ـ ابن حيان بن بسطام الهذلي البصري، روى عن أبيه، وسعيد بن ميناء، وعمرو بن دينار، وقتادة، ومروان الأصغر، وغيرهم. وعنه: ابنه عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، والنسائي.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سليم بن حيان الهذلي من أهل البصرة، سمع سعيد بن ميناء، ومروان الأصغر عندهما ـ أي في الصحيحين ـ، وعمرو بن دينار عند البخاري. روى عنه يزيد بن هارون، وعبد الصمد بن عبد الوارث عندهما، ومحمد بن سنان العَوَقي، ويحيى القطان عند البخاري، وعبد الرحمن بن مهدي، وبهز بن أسد، وعبيد الله بن عبد المجيد، وعفان بن مسلم أي عند مسلم. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
الرابع: سعيد بن ميناء، قال في (تهذيب التهذيب): سعيد بن ميناء المكي ويقال المدني، أبو الوليد مولى البختري بن أبي ذياب. ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى النسائي، وقال: روى عن عبد الله بن الزبير، وجابر، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، والأصبغ بن نباتة، والقاسم بن محمد. وعنه: حنظلة بن أبي سفيان، وسليم بن حيان، وأيوب السختياني، وابن جريج، وابن إسحاق، وعدة. ونقل توثيقه عن ابن معين، وأبي حاتم، والنسائي. وقال في (التقريب): ثقة من الثالثة. انتهى.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع جابر بن عبد الله عندهما ـ أي في الصحيحين ـ وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير عند مسلم. روى عنه سليم بن حيان، وحنظلة بن أبي سفيان عندهما، وزيد بن أبي أنيسة، ويعقوب عند مسلم. انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
الخامس: الصحابي جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال الحافظ في (التقريب): جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام ـ بمهملة وراء ـ الأنصاري ثم السلمي ـ بفتحتين ـ صحابي ابن صحابي، غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين وهو ابن أربع وتسعين سنة. ورمز لكونه من رجال الجماعة، وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الثالث من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) اثنان من رجال الإسناد اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم وهما: جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، وعبد الرحمن بن مهدي، وقد خرج البخاري في صحيحه لرجال الخمسة إلاّ شيخ مسلم محمد بن حاتم فلم يخرج له شيئاً.
(2) شيخ مسلم محمد بن حاتم بغدادي، وعبد الرحمن بن مهدي وسليم بن حيان بصريان، وسعيد بن ميناء حجازي مكي أو مدني، وجابر رضي الله عنه مدني.
(3) شيخ مسلم محمد بن حاتم لا يشاركه أحد من المحمدين في رجال مسلم في اسم الأب، فهو الوحيد في المحمدين الذي يسمى أبوه حاتماً في رجال صحيح مسلم، وقد خرج عنه مسلم في صحيحه ثلاثمائة حديث، ويوافقه في الاسم واسم الأب شيخ البخاري محمد بن حاتم بن بزيع، وقد روى عنه البخاري في (الصلاة) و(مناقب عثمان) و(عمرة الحديبية)، مات سنة تسع وأربعين ومائتين كما في (الجمع بين رجال الصحيحين) للمقدسي، وذلك من أمثلة النوع المعروف (بالمتفق والمفترق)، قال الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر): ثم الرواة إن اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم فصاعداً، واختلف أشخاصهم فهو (المتفق والمفترق)، وقال في شرح النخبة: وفائدة معرفته خشية أن يظن الشخصان شخصاً واحداً.
(4) شيخ مسلم محمد بن حاتم من ذوي الألقاب في المحدثين ولقبه السمين.
(5) شيخ شيخ مسلم عبد الرحمن بن مهدي وصف بصفات هي من أرفع مراتب التعديل، منها قول ابن المديني: كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس. وقول الشافعي: لا أعلم له نظيراً في الدنيا. وقول الذهبي: هو أحد أركان الحديث في العراق.
(6) قال الحافظ في ترجمة ابن مهدي في (تهذيب التهذيب): العنبري وقيل الأزدي مولاهم، أبو سعيد البصري اللؤلؤي. انتهى. فالنسبة في الأول إلى قبيلة وفي الثاني إلى وطن وفي الثالث إلى حرفة وهي بيع اللؤلؤ. قال ابن الأثير في (اللباب في تهذيب الأنساب): اللؤلؤي ـ بضم اللامين بينهما واو ساكنة وفي آخرها واو ثانية ـ هذه النسبة لجماعة يبيعون اللؤلؤ منهم: الإمام أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن اللؤلؤي البصري، ثم ذكر جماعة ينسبون هذه النسبة.
(7) سليم ـ بفتح السين ـ بن حيان هو الشخص الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم في رجال الصحيحين، أما من يسمى سليم ـ بضم السين ـ فهم كثيرون، قال الحافظ ابن حجر في كتابه (تبصير المنتبه بتحرير المشتبه): سليم ـ بالضم ـ كثير، وبالفتح سليم بن حيان وهو في الصحيحين، لم يوجد فيهما بفتح السين وكسر اللام غيره. انتهى. وهذا النوع يسمى في علم المصطلح (المؤتلف والمختلف) وهو: أن تتفق الأسماء خطاً وتخلتف نطقاً سواء كان مرجع الاختلاف النقط أو الشكل.
(8) الصحابي في الحديث هو أحد الصحابة السبعة المكثرين من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم الذين زاد حديثهم على ألف حديث وقد نظمهم السيوطي في ألفيته فقال:




والمكثرون في رواية الأثر





أبو هريرة يليه ابن عمر





وأنس والبحر كالخدري





وجابر وزوجة النبي





المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) هذا الحديث اشتمل على تمثيل ما يقوم به صلى الله عليه وسلم من التحذير من النار والتنفير من أسباب الوقوع فيها، وإيضاح أسباب السلامة منها، برجل أوقد ناراً فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها وجعل يذبُّهن عنها، وهو تشبيه مركب، ولهذا قال الحافظ في (الفتح): والمراد تمثيل الجملة بالجملة لا تمثيل فرد بفرد. وقال أبو بكر بن العربي في شرح جامع الترمذي: المعنى في هذا الحديث بديع، ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فيه المثل لثلاثة بثلاثة (أحدها) تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم برجل، (الثاني) تمثيل الأمة بالفراش وشبهها بما يتهافت بالنار، (الثالث) ضرب النار في الدنيا مثلاً لنار الآخرة التي نار الدنيا جزء منها. وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: ومقصود الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة وحرصهم على الوقوع في ذلك، مع منعه إياهم وقبضه على مواضع المنع منهم، بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه وضعف تمييزه، وكلاهما حريص على هلاك نفسه ساع في ذلك بجهله. وقال الغزالي كما في (فتح الباري): التمثيل وقع على صورة الإكباب على الشهوات من الإنسان بإكباب الفراش على التهافت في النار، ولكن جهل الآدمي أشد من جهل الفراش، لأنها باغترارها بظواهر الضوء إذا احترقت انتهى عذابها في الحال، والآدمي يبقى في النار مدة طويلة أو أبدا، والله المستعان. وقال الحافظ: وحاصل التمثيل: أنه شبه تهافت أصحاب الشهوات في المعاصي التي تكون سبباً في الوقوع في النار، بتهافت الفراش بالوقوع في النار اتباعاً لشهواتها، وشبه ذَبَّه العصاة عن المعاصي بما حذرهم به وأنذرهم بذَبِّ صاحب النار الفراش عنها.
(2) قال النووي في شرح صحيح مسلم: أما الفَراش فقال الخليل: هو الذي يطير كالبعوض. وقال غيره: ما تراه كصغار البق يتهافت في النار. وأما الجنادب فجمع جندب وفيها ثلاث لغات: جندب بضم الدال وفتحها والجيم مضمومة فيهما، والثالثة حكاها القاضي بكسر الجيم وفتح الدال. والجنادب هذا الصرار الذي يشبه الجراد. وقال أبو حاتم: الجندب على خلقة الجراد له أربعة أجنحة كالجرادة وأصغر منها يطير ويصر بالليل صراً شديداً، وقيل غيره. وقال: والحجز جمع حجزة وهي معقد الإزار والسراويل، وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ((وأنا آخذ بحجزكم)) فروي بوجهين: (أحدهما) اسم فاعل بكسر الخاء وتنوين الذال، و(الثاني) فعل مضارع بضم الذال بلا تنوين، والأول أشهر وهما صحيحان، وأما تفلتون فروي بوجهين: (أحدهما) فتح التاء والفاء واللام المشددة، و(الثاني) ضم التاء وإسكان الفاء وكسر اللام المخففة، وكلاهما صحيح، يقال أفلت مني وتفلت إذا نازعك الغلبة والهرب ثم غلب وهرب. انتهى.
(3) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
(1) ما اتصف به صلى الله عليه وسلم من الشفقة والرحمة والحرص على نجاة أمته.
(2) كمال نصحه صلى الله عليه وسلم لأمته وإيضاحه وبيانه أسباب سعادتها ونجاتها.
(3) ضرب الأمثلة في إيضاح ما يراد بيانه.
(4) تنبيه المعلمين والمرشدين إلى الخير إلى سلوك مثل هذه الطريق الناجحة في التعليم والإرشاد.
(5) التحذير من ارتكاب أسباب الوقوع في النار.
(6) تشبيه العصاة بالفراش والجنادب في الجهل وعدم التمييز وتعاطي أسباب هلاك النفس.
(7) الإشارة إلى أن النار محفوفة بالشهوات.
(8) الحث على اتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والتمسك بما جاء به من الحق والهدى.

(9) التنبيه إلى عدم جواز التعذيب في نار الدنيا.
(10) تنبيه المسلم إلى السعي في خلاص نفسه وغيره من الهلاك.

ابو وليد البحيرى
2019-02-19, 10:08 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (32)


حديث (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل......)




قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب المساجد ومواضع الصلاة من صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم ـ واللفظ لأبي بكر ـ قال إسحاق: أخبرنا، وقال أبو بكر: حدثنا زكريا بن عدي عن عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مُرة عن عبد الله بن الحارث النجراني قال: حدثني جندب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك)).
المبحث الأول: التخريج:
هذا الحديث انفرد مسلم عن البخاري بإخراجه، فأخرجه في هذا الموضع من صحيحه عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه ولم يكرره، وقد أخرجه أبو عوانة في مستخرجه على صحيح مسلم فقال: حدثنا أبو داود الحراني قال حدثنا عبد الله بن جعفر بن غيلان (ح) وحدثنا أبو أمية قال حدثنا زكريا بن عدي قالا حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث قال حدثني جندب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((قد كان لي فيكم إخوة وأصدقاء، وإني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، وإن الله عزوجل قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك))، وهذا الحديث يشتمل على أمرين:
(أحدهما) إثبات منقبة عظيمة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، و(الثاني) النهي عن اتخاذ القبور مساجد.
أما منقبة الصديق رضي الله عنه فقد عدها السيوطي في كتابه (الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة) عدّها من قبيل المتواتر فقال: حديث ((لو كنت متخذاً خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا)) أخرجه الشيخان عن أبي سعيد، وابن عباس، والبخاري عن ابن الزبير، ومسلم عن ابن مسعود وجندب البجلي، والترمذي عن أبي المعلى وأبي هريرة، والبزار عن أنس، والطبراني عن ابن عمر وابن عباس وأبي واقد وعائشة. انتهى. وأما النهي عن اتخاذ القبور مساجد فقد ورد فيه أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما، وحديث جندب بن عبد الله البجلي هذا، أورده المجد بن تيمية في المنتقى، وقال الشوكاني في تخريجه: وفي الباب عن عائشة عند الشيخين، والنسائي وعن أبي هريرة عند الشيخين، وأبي داود والنسائي وعن ابن عباس عند أبي داود والترمذي وحسنه، وله حديث آخر عند الشيخين والنسائي، وعن أسامة بن زيد عند أحمد والطبراني بإسناد جيد، وعن زيد بن ثابت عند الطبراني بإسناد جيد أيضاً، وعن ابن مسعود عند الطبراني بإسناد جيد أيضاً، وعن أبي عبيدة بن الجراح عند البزار، وعن عليّ عند البزار أيضاً، وعن أبي سعيد عند البزار أيضاً وفي إسناده عمر بن صهبان وهو ضعيف، وعن جابر عند ابن عدي.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول والثاني: شيخا مسلم أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وقد مر ذكرهما في رجال إسناد الحديث الأول.
الثالث: زكريا بن عدي، قال الحافظ في (التقريب): زكريا بن عدي بن الصلت التيمي مولاهم، أبو يحيى نزيل بغداد ـ وهو أخو يوسف ـ ثقة جليل يحفظ، من كبار العاشرة، مات سنة إحدى عشرة أو اثنتى عشرة ومائتين. ورمز لكونه من رجال البخاري في (الأدب المفرد)، ومسلم، وأبي داود في (المراسيل)، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وكذا في (تهذيب التهذيب) و(خلاصة تذهيب تهذيب الكمال)، لكن ذكره المقدسي فيمن اتفق البخاري ومسلم على الإخراج له، وذكر أنه سمع ابن المبارك في الصحيحين، ومروان بن معاوية عند البخاري، وعبيد الله بن عمرو الرقي ويزيد بن زريع عند مسلم، وقال: روى عنه محمد بن عبد الرحيم في (الوصايا)، و(غزوة أحد) عند البخاري، وإسحاق الحنظلي، وأحمد الدارمي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وغيرهم سماهم عند مسلم. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): الكوفي نزيل بغداد، ثم ذكر جماعة روى عنهم، وجماعة رووا عنه، ثم ذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن العجلي وابن خراش وابن سعد.
الرابع: عبيد الله بن عمرو، قال في (التقريب): عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الرقي أبو وهب الأسدي، ثقة فقيه ربما وهم، من الثامنة، مات سنة ثمانين ـ أي بعد المائة ـ عن ثمانين إلا سنة. ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): الأسدي مولاهم، أبو وهب الجزري الرقي، روى عن عبد الملك بن عمير، وعبد الله بن محمد بن عقيل، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأعمش، وابن أبي أنيسة، وغيرهم سماهم.
وعنه بقية، وعبد الله بن جعفر الرقي، وزكريا بن عدي، ويوسف بن عدي، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن معين والنسائي، وأبي حاتم، وابن سعد، والعجلي، وابن نمير، وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات)، وقال: كان راوياً لزيد بن أبي أنيسة.
الخامس: زيد بن أبي أنيسة، قال في (التقريب): زيد بن أبي أنيسة الجزري أبو أسامة، أصله من الكوفة ثم سكن الرُّها، ثقة له أفراد، من السادسة، مات سنة تسع عشرة وقيل سنة أربع وعشرين ـ أي بعد المائة ـ وله ست وثلاثون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): زيد بن أبي أنيسة واسمه زيد الجزري، أبو أسامة الرهاوي، كوفي الأصل الغنوي مولاهم، روى عن أبي إسحاق السبيعي، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن مرة، والمنهال بن عمرو، وغيرهم سماهم. وعنه: مالك، ومسعر، ومعقل بن عبيد الله، وأبو عبد الرحيم الحراني، وعبيد الله بن عمرو الرقي وهو راويته، وغيرهم. ونقل توثيقه عن ابن معين، وعمرو بن عبد الله الأودي، والعجلي، وأبي داود، ويعقوب بن سفيان، والذهلي، وابن نمير، والبرقي. وقال ابن سعد: كان يسكن الرها، مات بها، وكان ثقة كثير الحديث فقيهاً، راوية للعلم. وحكى العقيلي عن أحمد: أن حديثه حسن مقارب، وأن فيه لبعض النكرة وهو على ذلك حسن الحديث. وعده المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) ممن خرج له مسلم دون البخاري، وقال: الغنوي مولى لغني بن عمر الجزري، سكن الرها. انتهى.
وذكره الحافظ في مقدمة (الفتح) وقال: متفق على الاحتجاج به وتوثيقه. ثم ذكر ما نقل عن الإمام أحمد في تليينه، ثم قال: قلت: في صحيح البخاري حديثه عن المنهال بن عمرو. انتهى.
السادس: عمرو بن مرة، قال في (التقريب): عمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق الجملي ـ بفتح الجيم والميم ـ المرادي أبو عبد الله الكوفي الأعمى، ثقة عابد، كان لا يدلس ورُمي بالإرجاء، من الخامسة، مات سنة ثمان عشرة ومائة وقيل قبلها، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الثاني عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
السابع: عبد الله بن الحارث النجراني، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن الحارث الزبيدي ـ بضم الزاي ـ النجراني ـ بنون وجيم ـ الكوفي، المعروف بالمكتب، ثقة من الثالثة، ورمز لكونه من رجال مسلم، والأربعة، والبخاري في (الأدب المفرد)، وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن ابن مسعود، وجندب بن عبد الله البجلي، وطليق بن قيس، وأبي كثير الزبيدي، وغيرهم.
وعنه: عمرو بن مرة، وحميد بن عطاء الأعرج، وأبو سنان ضرار بن مرة، والمغيرة بن عبد الله اليشكري. قال الدوري عن ابن معين: ثبت. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في (الثقات). انتهى.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): عبد الله بن الحارث قال بعضهم: النجراني، وقال بعضهم: الزبيدي المكتب، الكوفي، سمع جندباً في (الصلاة)، روى عنه عمرو بن مرة ـ أي في صحيح مسلم ـ. انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
الثامن: الصحابي جندب، وهو ابن عبد الله رضي الله عنه ، قال الحافظ في (التقريب): جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي ثم العلقي ـ بفتحتين ثم قاف ـ أبو عبد الله وربما نسب إلى جده، له صحبة، ومات بعد الستين، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الخزرجي في (الخلاصة): له ثلاثة وأربعون حديثاً، اتفقا على سبعة، وانفرد مسلم بخمسة. روى عنه الحسن، وابن سيرين، وأبو مجلز، مات بعد الستين. انتهى. وذكر الحافظ في مقدمة الفتح أن له في (صحيح البخاري) ثمانية أحاديث. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): كان بالكوفة ثم انتقل إلى البصرة ثم خرج منها، وحديثه عند أهل المصرين، يعنى أهل الكوفة وأهل البصرة.
المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) روى مسلم الحديث عن شيخيه أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، ثم بيَّن من له اللفظ منهما وهو أبو بكر، ثم بيَّن صيغة الأداء عند كل منهما وهي الإخبار في رواية إسحاق، والتحديث في رواية أبي بكر، وهذه طريقة مسلم رحمه الله التي سلكها في صحيحه وأكثر من استعمالها فيه.
(2) صيغة الأداء في رواية إسحاق بن إبراهيم بن راهويه هي الإخبار، وهذه هي الطريقة التي سلكها إسحاق، يستعمل (أخبرنا) دون (حدثنا)، قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) ـ في شرح حديث نزول عيسى بن مريم عليه السلام في (كتاب الأنبياء) من صحيح البخاري، وقد رواه البخاري عن إسحاق غير منسوب ـ: قوله (حدثنا إسحاق) هو ابن إبراهيم المعروف بابن راهويه، وإنما جزمت بذلك مع تجويز أبي عليّ الجياني أن يكون هو أو إسحاق بن منصور لتعبيره بقوله (أخبرنا يعقوب بن إبراهيم)، لأن هذه العبارة يعتمدها إسحاق بن راهويه، كما عرف بالاستقراء من عادته أنه لا يقول إلاّ (أخبرنا) ولا يقول (حدثنا)، وقال: وقد أخرج أبو نعيم في (المستخرج) هذا الحديث من مسند إسحاق بن راهويه وقال: أخرجه البخاري عن إسحاق. انتهى.
(3) في الإسناد راو وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث وهو: إسحاق بن راهويه كما تقدم في الحديث الأول.
(4) زكريا بن عدي، رمز الحافظ في (التقريب) و(تهذيب التهذيب) لكونه من رجال البخاري في (الأدب المفرد)، وكذا رمز الخزرجي في (الخلاصة)، وقال الحافظ في ترجمته في (تهذيب التهذيب): وروى عنه البخاري في غير (الجامع). انتهى.
وليس الأمر كذلك بل قد خرج له البخاري في (الصحيح) حديثين رواهما عنه بواسطة محمد بن عبد الرحيم صاعقة: أحدهما في (كتاب الوصايا) والثاني في (غزوة أحد). كما ذكر ذلك المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين)، والحديث الذي في (الوصايا) يرويه عن مروان بن معاوية وهو في وصية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، وفيه: ((الثلث والثلث كثير)). أما الحديث الذي في غزوة أحد، فيرويه عن عبد الله بن المبارك وهو في صلاته صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد.
(5) زكريا بن عدي هو أخو يوسف بن عدي كما في (التقريب)، ويوسف من رجال البخاري دون مسلم، وليس له في صحيح البخاري إلاّ حديث واحد أخرجه عنه في تفسير سورة (حم السجدة).
(6) عبيد الله بن عمرو الرقي شيخ زكريا بن عدي، ليس له إلاّ حديث واحد في صحيح البخاري في تفسير سورة (حم السجدة) يرويه عنه يوسف بن عدي أخو زكريا.
(7) زيد بن أبي أنيسة، عده المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) من رجال مسلم دون البخاري، وليس الأمر كذلك فهو من رجال البخاري أيضاً، وليس له في (صحيح البخاري) سوى حديث واحد في تفسير (سورة حم السجدة)، وهو الحديث الذي رواه عنه عبيد الله بن عمرو، ورواه عن عبيد الله يوسف بن عدي، فهم ثلاثة أشخاص يروى بعضهم عن بعض، وليس لهم في (صحيح البخاري) سوى ذلك الموضع، وزيد بن أبي أنيسة يرويه عن المنهال بن عمرو وليس في (صحيح البخاري) غيره أيضاً سوى حديث واحد وهو حديث تعويذ النبي صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين، وهو في (كتاب الأنبياء).
(8) عبد الله بن الحارث النجراني يلقب المكتب، وليس له في (صحيح مسلم) سوى هذا الحديث الواحد كما أشار إليه المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين).
(9) رجال الإسناد الثمانية خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلاّ أنَّ أبا بكر بن أبي شيبة لم يخرج له الترمذي، وإسحاق بن إبراهيم لم يخرج له ابن ماجه، وزكريا بن عدي لم يخرج له أبو داود في السنن وروى له في (المراسيل)، وعبد الله بن الحارث النجراني لم يخرج له البخاري.
(10) زيد بن أبي أنيسة قال فيه ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث فقيهاً، راوية للعلم. انتهى. توفي وعمره ست وثلاثون سنة. قال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): مات شاباً لم يكتهل.
(11) هذا الحديث انتقده الدار قطني على مسلم فقال: وأخرج مسلم أيضاً حديث زكريا بن عدي عن عبيد الله بن عمرو عن زيد عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث حدثني جندب سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، وإني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل))، قال خالفه أبو عبد الرحيم قال فيه: عن حميد النجراني عن حريث، رجل مجهول، والحديث صحيح من رواية أبي سعيد وابن مسعود. انتهى.
ولم يتعرض النووي في شرحه هذا الحديث في (صحيح مسلم) لذكر هذا الانتقاد، ولعل ذلك لكون الدار قطني نفسه حكم بصحة الحديث عن أبي سعيد وابن مسعود، والحديث كما لا يخفى متواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، رواه عنه كثيرون من أصحابه رضي الله عنه ، وتقدم في التخريج ذكر السيوطي له في المتواتر، وذكر من روى عنه من الصحابة رضي الله عنه ، والذي اشتهر بالكنية بأبي عبد الرحيم من رجال الكتب الستة خالد بن أبي يزيد الحراني، قال عنه الحافظ في (التقريب): ثقة من السادسة، مات سنة أربع وأربعين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال مسلم والبخاري في (الأدب المفرد)، وأبي داود، والنسائي، أخرج مسلم في صحيحه له حديثاً في (رمي جمرة العقبة) رواه عن أحمد بن حنبل عن محمد بن سلمة عنه عن زيد بن أبي أنيسة، كما ذكره المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين).
ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن ابن معين، وأبي القاسم البغوي، وقال: قال أحمد وأبو حاتم: لا بأس به. وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: حسن الحديث متقن فيه. هذا هو كل ما ذكره في (تهذيب التهذيب) في توثيقه والثناء عليه. أما زكريا بن عدي، فقد قال عنه الحافظ في (التقريب): ثقة جليل يحفظ. ونقل توثيقه في (تهذيب التهذيب) عن العجلي، وابن خراش، وابن سعد. وقال عنه ابن معين: لا بأس به. وقال المنذر بن شاذان: ما رأيت أحفظ منه، جاءه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فقالا له: أخرج إلينا كتاب عبيد الله بن عمرو. فقال: ما تصنعون بالكتاب، خذوا حتى أملي عليكم كله. وكان يحدث عن أصحاب الأعمش فيميز ألفاظهم. وقال عباس الدوري: حدثنا زكريا بن عدي وكان من خيار خلق الله، وإذا قارنا بين زكريا بن عدي وأبي عبد الرحيم الحراني وجدنا أن زكريا بن عدي من رجال الجماعة، خرج له البخاري حديثين، وخرج له مسلم كثيراً، ووجدنا الثناء عليه أكثر منه على أبي عبد الرحيم، على أن أبا عبد الرحيم لم يخرج له البخاري شيئاً ولم يخرج له مسلم سوى حديث واحد، فمخالفته لزكريا بن عدي لا تؤثر شيئاً على روايته كما يبدو، ومما لا يخفى أن زكريا بن عدي متأخر عن أبي عبد الرحيم، وعبيد الله بن عمرو الرقي شيخه شارك أبا عبد الرحيم في الرواية عن زيد بن أبي أنيسة.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) هذا الحديث اشتمل على عنصرين أساسيين: (أحدهما) بيان منـزلة أبي بكر الصديق وفضله رضي الله عنه ، و(الثاني) التحذير من اتخاذ القبور مساجد، ولما كان من عادة مسلم ـ رحمه الله ـ أنه لا يكرر الحديث في أكثر من موضع غالباً، أورد هذا الحديث في مواضع الصلاة مستدلاً به وبغيره من الأحاديث في معناه على تحريم اتخاذ القبور مساجد، لأن العنصر الثاني من العنصرين اللذين اشتمل عليهما الحديث خطره عظيم، والمعصية فيه كبيرة، لأن الوقوع فيه وسيلة من وسائل الشرك، وذريعة من ذرائع صرف حق الخالق إلى المخلوق، وهذا مثال من أمثلة دقة الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه واختياره للحديث المشتمل على عدة مسائل الموضع الأولى والأليق.
(2) لما كان اتخاذ القبور مساجد من أسباب الوقوع في الشرك، كانت العناية في التحذير منه كبيرة، فجاء المنع منه على صيغ مختلفة وطرق شتى، بل وكان ذلك في أواخر أيامه صلى الله عليه وسلم ، بل وفي أواخر لحظاته صلوات الله وسلامه عليه، فثبت في الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال ـ وهو كذلك ـ: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، يحذر ما صنعوا.
وقولهما رضي الله عنهما في الحديث (لما نزل) يعنيان الموت، وقد اشتمل هذا الحديث على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الدعاء على اليهود والنصارى باللعن.
والأمر الثاني: بيان سبب اللعن وهو اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد.
والأمر الثالث: بيان الغرض من ذكر ذلك وهو تحذير هذه الأمة من الوقوع فيما وقع فيه اليهود والنصارى، فيستحقوا اللعنة. وقد صرح بالنهى عن ذلك في حديث جندب المذكور وغيره. وثبت في الصحيحين أيضاً أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، قالت: فلولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. وثبت في الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). وثبت في الصحيحين أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها، وصف الذين يبنون المساجد على القبور بأنهم شرار الخلق عند الله، لما ذكرت أم حبيبة وأم سلمة كنيسة رأتاها في الحبشة وما فيها من الصور، قال صلى الله عليه وسلم : ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور))، ثم قال: ((أولئك شرار الخلق عند الله)).
وهذه الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتملت على التحذير من اتخاذ القبور مساجد مطلقاً، وبعضها يفيد حصول ذلك منه قبل أن يموت بخمس، وبعضها يفيد حصوله في مرضه الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم ، والتحذير من ذلك جاء على صيغ متعددة، فجاء بصيغة الدعاء باللعنة على اليهود والنصارى، وجاء بصيغة الدعاء بمقاتلة الله لليهود، وجاء بوصف المتصفين بذلك بأنهم شرار الخلق عند الله، وجاء بصيغة (لا) الناهية في قوله: ((ألا فلا تتخذوا القبور مساجد))، وبصيغة لفظ النهي بقوله: ((إني أنهاكم عن ذلك)). وهذا من كمال نصحه لأمته صلى الله عليه وسلم ، وحرصه على نجاتها، وشفقته عليها صلى الله وبارك عليه، وجزاه أوفى جزاء وأثابه أتم مثوبة.
(3) واتخاذ القبور مساجد يشمل بناء المسجد على القبر، كما قال صلى الله عليه وسلم في النصارى: ((أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)). وهو في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، ويشمل قصدها واستقبالها في الصلاة كما قال صلى الله عليه وسلم : ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) أخرجه مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه ، ويشمل السجود على القبر من باب أولى، إذ هو أخص من الصلاة إليه.
(4) وهذا الحكم الثابت في هذه الأحاديث المتواترة من تحريم اتخاذ القبور مساجد أجمع عليه العلماء كما حكاه ابن تيمية رحمه الله، وقد ألّف في هذه المسألة العلامة الشوكاني المتوفى سنة (1250هـ) رسالة سماها (شرح الصدور بتحريم رفع القبور) أجاد فيها وأفاد، قال فيها: ((اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم، من لدن الصحابة إلى هذا الوقت، أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعلها، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين، لكنه وقع للإمام يحيى مقالة تدل على أنه يرى أنه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، ولم يقل بذلك غيره، ولا روي عن أحد سواه، ومن ذكرها من المؤلفين في كتب الفقه من الزيدية فهو جري على قوله واقتداء به، ولم نجد القول بذلك ممن عاصره أو تقدم عصره عليه، لا من أهل البيت، ولا من غيرهم، ثم ذكر أن صاحب (البحر) الذي هو مدرس كبار الزيدية، ومرجع مذهبهم، ومكان البيان لخلافهم في ذات بينهم، وللخلاف بينهم وبين غيرهم، لم ينسب القول بجواز رفع القباب والمشاهد على قبور الفضلاء إلاّ إلى الإمام يحيى وحده، فقال ما نصه: مسألة الإمام يحيى، لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، والملوك لاستعمال المسلمين ولم ينكر)). انتهى.
إلى أن قال الشوكاني رحمه الله: ((فإذا عرفت هذا تقرّر لك أن هذا الخلاف واقع بين الإمام يحيى وبين سائر العلماء من الصحابة والتابعين ومن المتقدمين من أهل البيت، والمتأخرين، ومن أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم، ومن جميع المجتهدين أولهم وآخرهم، ولا يعترض هذا بحكاية من حكى قول الإمام يحيى في مؤلفه ممن جاء بعده من المؤلفين، فإن مجرد حكاية القول لا يدل على أن الحاكي يختاره ويذهب إليه....)).
إلى أن قال رحمه الله: ((فإذا أردت أن تعرف هل الحق ما قاله الإمام يحيى أو ما قاله غيره من أهل العلم؟ فالواجب عليك ردّ هذا الاختلاف إلى ما أمرنا الله بالرد إليه وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ...، ثم ذكر بعض الآيات المقتضية ذلك وبين وجه دلالتها على المطلوب، ثم ذكر جملة من الأحاديث الكثيرة الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في تحريم اتخاذ القبور مساجد، والتي مر ذكر بعضها، وبين أن ذلك يفضي بفاعله إلى الشرك بالله.
ثم قال: ((فلاشك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات، هو ما يزينه الشيطان للناس من رفع القبور، ووضع الستور عليها، وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسين، فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بُنيت عليه قبة، فدخلها ونظر على القبور الستور الرائعة، والسرج المتلألئة، وقد سطعت حوله مجامر الطيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيماً لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنـزلة، ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى ضلال العباد، مما يزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر مالا يقدر عليه إلاّ الله سبحانه، فيصير في عداد المشركين، وقد يحصل له هذا الشرك بأول رؤية لذلك القبر الذي صار على تلك الصفة، وعند أوّل زورة له، إذ لابد أن يخطر بباله أن هذه العناية البالغة من الأحياء بمثل هذا الميت، لا تكون إلاّ لفائدة يرجونها منه، إما دنيوية، أو أخروية، فيستصغر نفسه بالنسبة إلى من يراه من أشباه العلماء زائراً لذلك القبر، وعاكفاً عليه، ومتمسحاً بأركانه، وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبر يخادعون من يأتي إليه من الزائرين، يهولون عليهم الأمر، ويصنعون أموراً من أنفسهم وينسبونها إلى الميت، على وجه لا يفطن له من كان من المغفلين، وقد يصنعون أكاذيب مشتملة على أشياء يسمونها كرامات لذلك الميت، ويبثونها في الناس ويكررون ذكرها في مجالسهم، وعند اجتماعهم بالناس، فتشيع وتستفيض ويتلقاها من يحسن الظن بالأموات، ويقبل عقله ما يروى عنهم من الأكاذيب، فيرويها كما سمعها، ويتحدث بها في مجالسه، فيقع الجهال في بلية عظيمة من الاعتقاد الشركي، وينذرون على ذلك للميت بكرائم أموالهم، ويحبسون على قبره من أملاكهم ما هو أحبها إلى قلوبهم، لاعتقادهم أنهم ينالون بجاه ذلك الميت خيراً عظيماً، وأجراً كبيراً، ويعتقدون أن ذلك قربة عظيمة، وطاعة نافعة، وحسنة متقبلة، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطان من إخوانه من بني آدم على ذلك القبر، فإنهم إنما فعلوا تلك الأفاعيل، وهولوا على الناس بتلك التهاويل، وكذبوا تلك الأكاذيب، لينالوا جانباً من الحطام من أموال الطغام الأغتام، وبهذه الذريعة الملعونة، والوسيلة الإبليسية، تكاثرت الأوقاف على القبور، وبلغت مبلغاً عظيماً، حتى بلغت غلاَّت ما يوقف على المشهورين منهم ما لو اجتمعت أوقافه لبلغ ما يقتاته أهل قرية كبيرة من قرى المسلمين، ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة لأغنى الله بها طائفة كبيرة من الفقراء، وكلها من النذر في معصية الله، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا نذر في معصية الله))، وهي أيضاً من النذر الذي لا يبتغي به وجه الله، بل كلها من النذور التي يستحق بها فاعلها غضب الله وسخطه، لأنها تفضي بصاحبها إلى ما يفضي به اعتقاد الإلهية في الأموات، من تزلزل قدم الدين، إذ لا يسمح بأحب أمواله وألصقها بقلبه إلا وقد زرع الشيطان في قلبه من محبة وتعظيم وتقديس ذلك القبر وصاحبه، والمغالاة في الاعتقاد فيه ما لا يعود به إلى الإسلام سالماً، نعوذ بالله من الخذلان...)).
إلى أن قال: ((وأما ما استدل به الإمام يحيى حيث قال: لاستعمال المسلمين ذلك ولم ينكروه فقول مردود، لأن علماء المسلمين ما زالوا في كل عصر يروون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في لعن من فعل ذلك، ويقررون شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك في مدارسهم، ومجالس حفاظهم، يرويها الآخر عن الأوّل، والصغير عن الكبير، والمتعلم عن العالم، من لدن أيام الصحابة إلى هذه الغاية، وأوردها المحدثون في كتبهم المشهورة من الأمهات، والمسندات، والمصنفات، وأوردها المفسرون في تفاسيرهم، وأهل الفقه في كتبهم الفقهية، وأهل الأخبار والسير في كتب الأخبار والسير، فكيف يقال إن المسلمين لم ينكروا على من فعل ذلك، وهم يروون أدلة النهي عنه واللعن لفاعله خلفاً عن سلف في كل عصر، ومع هذا فلم يزل علماء الإسلام منكرين لذلك مبالغين في النهي عنه، وقد حكى ابن القيم عن شيخه تقي الدين ـ رحمهما الله ـ وهو الإمام المحيط بمذهب سلف هذه الأمة وخلفها، أنه قد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد على القبور، ثم قال: وصرّح أصحاب أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة، لكن ينبغي أن يحمل على كراهة التحريم إحساناً للظن بهم، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه)). انتهى.
هذا تلخيص لما اشتملت عليه رسالة هذا الإمام من الإيضاح والتحقيق في هذه المسألة التي تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وأجمع العلماء على حكمها، ومع ذلك فقد تحقق للشيطان مراده في كثير من البلاد الإسلامية من مخالفة كثير من الناس ما تواتر وانعقد عليه الإجماع من تحريم البناء على القبور واتخاذها مساجد. وكأن الإجماع في نظرهم انعقد على جواز واستحباب ذلك فالله المستعان ونعوذ بالله من الخذلان.
(5) قول (جندب رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس). يدل على ضبط جندب رضي الله عنه في روايته هذا الحديث، حيث علم مع الحديث الزمن الذي قيل فيه هذا الحديث، ويدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا القول، وبيَّن هذا الحكم في أواخر أيامه، ويدل على أن هذا الحكم محكم غير منسوخ، ويدل على مزيد عنايته صلى الله عليه وسلم في بيان هذا الحكم، حيث قال ذلك قبل أن يموت بخمس ليال، بل لقد حذّر من ذلك في اللحظات التي نزل به الموت فيها، وهذا من كمال نصحه لأمته صلى الله عليه وسلم ، فإنه صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله رحمة للعالمين صار يقول: ((يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) لأنها كلمة التوحيد التي تثبت العبادة لله وحده، وتنفيها عن كل ما سواه، ولما كان في اللحظات الأخيرة حذّر من الوسائل التي تفضي إلى الإخلال بما تضمنته هذه الكلمة، من إخلاص العبادة لله وحده، فإخلاص العبادة لله وحده به بدأ صلى الله عليه وسلم دعوته لأمته، وبالتحذير من الإخلال بذلك ختم حياته الدنيوية صلوات الله وسلامه عليه.
(6) قوله (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل). قال النووي: معنى أبرأ: أي أمتنع من هذا وأنكره، والخليل هو المنقطع إليه، وقيل: المختص بشيء دون غيره، قيل: هو مشتق من الخلة ـ بفتح الخاء ـ وهي الحاجة، وقيل: من الخلة ـ بضم الخاء ـ وهي تخلل المودة في القلب، فنفى صلى الله عليه وسلم أن تكون حاجته وانقطاعه إلى غير الله تعالى، وقيل: الخليل من لا يتسع القلب لغيره. انتهى.
(7) قوله (فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا): فيه إثبات الخلة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، كما أنها ثابتة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: (واتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (، والخلة هي نهاية المحبة، والفرق بينها وبين المحبة العموم والخصوص، فكل خلة محبة، وليست كل محبة خلة، فالخلة ثبتت لإبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والمحبة ثبتت لهما ولغيرهما، فهما عليهما الصلاة والسلام خليلا الله وحبيباه، وغيرهم من أنبياء الله والصالحين من عباده أحباؤه. والخلة أكمل من المحبة ولهذا لم تثبت خلة الله لأحد سواهما، بخلاف المحبة كما في قوله: (واللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )، (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ )، وفي ذلك رد على من يخص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والحق أن الخلة خاصة بهما، والمحبة عامة، ومما يدل أيضاً على أن الخلة أكمل من المحبة، أنه صلى الله عليه وسلم نفى أن يكون له خليل غير ربه، مع أنه أخبر بأنه يحب عائشة وأباها وغيرهم من الصحابة رضي الله عنه .
(8) قوله (ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا). فيه إثبات هذه المنقبة العظيمة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وهو دليل واضح غاية الوضوح على أفضليته وتفوقه على جميع الصحابة الكرام رضي الله عنه في الفضل، وأنه لا يساويه أحد بل ولا يدانيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وفي إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قبل أن يموت بخمس تنبيه على أنه الأولى من غيره في النيابة عنه بعد وفاته، لاسيما وقد قدمه لإمامة الناس في الصلاة في مرضه، ولم يرض بأن يقوم مقامه أحد في الصلاة بهم، وقد تم ذلك، فاتفق المسلمون على تولية أمرهم خيرهم وأفضلهم رضي الله عنه وعن سائر الصحابة أجمعين.
(9) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
(1) كمال نصح الرسول صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته وحرصه على سلامتها ونجاتها.
(2) ضبط جندب رضي الله عنه وإتقانه في رواية الحديث حيث ضبط مع الحديث الزمن الذي قيل فيه هذا الحديث.
(3) أن الأحكام التي اشتمل عليها هذا الحديث محكمة غير منسوخة لصدورها في أواخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم .
(4) براءته صلى الله عليه وسلم مما لا يسوغ فعله.
(5) ثبوت خلة الله لمحمد صلى الله عليه وسلم كما أنها ثابتة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام.
(6) أن خلة الله خاصة بالخليلين محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
(7) أن الخلة أكمل من المحبة.
(8) بيان عظم منـزلته صلى الله عليه وسلم عند ربه.
(9) أن خلته صلى الله عليه وسلم خاصة بالله تعالى.
(10) أنه لا يصلح له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ من المخلوقين خليلاً.
(11) أنه لو أمكن حصول خلته صلى الله عليه وسلم لأحد من الخلق لكان أحق الناس بذلك أبو بكر رضي الله عنه .
(12) بيان فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتفوقه على غيره في الفضل.
(13) الإشارة إلى أنه أولى الصحابة بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
(14) الرد على من يخص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد عليهما الصلاة والسلام، بل الخلة خاصة بهما، والمحبة عامة لهما ولغيرهما من أولياء الله.
(15) الإخبار عما لا يكون أن لو كان كيف يكون، فإن حصول خلته صلى الله عليه وسلم لا يكون لأحد سوى الله ولو حصل ذلك لكان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه .
(16) تحذيره صلى الله عليه وسلم من اتخاذ القبور مساجد.
(17) أن فتنة اتخاذ القبور مساجد أصيب بها من كان قبلنا وتحذيرنا من سلوك سبيلهم في ذلك.
(18) إخباره صلى الله عليه وسلم عن أحوال الماضين وهو من الغيب الذي أطلعه الله عليه.
(19) التحذير من الغلو في الصالحين لإفضائه إلى الشرك.
(20) المبالغة في التحذير من اتخاذ القبور مساجد في الجمع بين صيغتي النهي في قوله: ((ألا فلا تتخذوا القبور مساجد)). وقوله: ((إني أنهاكم عن ذلك)).
(21) إثبات صفة الخلة لله تعالى.
(22) أن أحباء الله متفاوتون في محبته إياهم.

ابو وليد البحيرى
2019-02-19, 10:11 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (33)



الحلقة (33) حديث (لا تسبوا أصحابي.....)



قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب فضائل الصحابة من صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وأبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)).

حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تسبوا أحداً من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحد ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)).

المبحث الأول، التخريج:

هذا الحديث أورده مسلم ـ رحمه الله ـ من هذين الطريقين ثم قال: حدثنا أبو سعيد الأشج وأبو كريب قالا: حدثنا وكيع عن الأعمش (ح) وحدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي (ح) وحدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا حدثنا ابن أبي عدي جميعاً عن شعبة عن الأعمش بإسناد جرير، وأبي معاوية بمثل حديثهما، وليس في حديث شعبة و وكيع ذكر عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد.

وأخرجه البخاري في (كتاب فضائل الصحابة) من صحيحه فقال: حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن الأعمش قال: سمعت ذكوان يحدث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))، تابعه جرير، وعبد الله بن داود، وأبو معاوية، ومحاضر عن الأعمش.

وأخرجه أبو داود في سننه في (كتاب السنة، باب في النهي عن سب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم )، فقال: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)). وأخرجه الترمذي في (كتاب المناقب) من جامعه فقال: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود قال أنبأنا شعبة عن الأعمش قال: سمعت ذكوان أبا صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه)). قال هذا حديث حسن صحيح، ومعنى قوله (نصيفه): يعني نصف المد. حدثنا الحسن بن عليّ الخلال ـ وكان حافظاً ـ حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

وأخرجه ابن ماجه في أوائل سننه فقال: حدثنا محمد بن الصباح حدثنا جرير (ح) وحدثنا عليّ بن محمد حدثنا وكيع (ح) وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو معاوية جميعاً عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه)).

وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) فقال: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه)).

وأخرجه عن أبي سعيد الخدري من طريق وكيع وشعبة عن الأعمش بمثل لفظه عند الترمذي، وأخرجه من حديث شعبة عن الأعمش بمثل لفظه عند البخاري.

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ مسلم يحيى بن يحيى التميمي، قال الحافظ في (التقريب): يحيى بن يحيى بن بكير بن عبد الرحمن التميمي أبو زكريا النيسابوري، ثقة ثبت إمام، من العاشرة، مات سنة ست وعشرين ـ أي بعد المائتين على الصحيح ـ، ورمز لكونه من رجال البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن مالك، وسليمان بن بلال، والحمادين، وغيرهم سماهم. ثم قال: وعنه البخاري، ومسلم، وروى الترمذي عن مسلم عنه، وروى النسائي عن عبيد الله بن فضالة ومحمد بن يحيى الذهلي عنه، وأبو الأزهر أحمد بن الأزهر، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم سماهم. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك: قال صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه: ما أخرجت خراسان بعد ابن المبارك مثله. وقال إسحاق بن راهويه: ما رأيت مثله وما رأى مثل نفسه. قال: وهو أثبت من عبد الرحمن بن مهدي. قال: ومات يوم مات وهو إمام لأهل الدنيا. وقال بشر بن الحكم النيسابوري: حزرنا في جنازة يحيى بن يحيى مائة ألف إنسان.

الثاني والثالث: شيخا مسلم أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب محمد بن العلاء، وقد مر ذكرهما في رجال إسناد الحديث الأول.

الرابع والخامس: أبو معاوية وشيخه الأعمش وقد مر ذكرهما في رجال إسناد الحديث الثالث.

السادس: أبو صالح السمان تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.

السابع: أبو هريرة رضي الله عنه وقد تكرر ذكره.

أما بقية رجال الإسناد الثاني فأولهم: شيخ مسلم عثمان بن أبي شيبة، قال الحافظ في (التقريب): عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفي، ثقة، حافظ شهير، وله أوهام، وقيل: كان لا يحفظ القرآن، من العاشرة، مات سنة تسع وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ وله ثلاث وثمانون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى الترمذي. وكذا رمز في (تهذيب التهذيب)، والخزرجي في (الخلاصة)، لكن ذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) أنه روى عنه الجماعة سوى الترمذي، وسوى النسائي فروى في (اليوم والليلة) عن زكريا بن يحيى السجزي عنه، وفي مسند عليّ عن أبي بكر المروزي عنه. وقال في (تهذيب التهذيب): العبسي مولاهم أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفي، صاحب المسند والتفسير.

ثم ذكر جماعة روى عنهم منهم: هشيم، وحميد بن عبد الرحمن الرواسي، وعبدة بن سليمان، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم سماهم. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن معين، وقال: ذكره ابن حبان في (الثقات)، وختم ترجمته بقوله: وفي (الزهرة) روى عنه البخاري ثلاثة وخمسين حديثاً، ومسلم مائة وخمسة وثلاثين حديثاً. وقال الحافظ في مقدمة (فتح الباري): وثقه يحيى بن معين، وابن نمير، والعجلي، وجماعة.

الثاني: جرير، وهو ابن عبد الحميد، تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.

الثالث: أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال الحافظ في (التقريب): سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري، أبو سعيد الخدري، له ولأبيه صحبة، اُستصغر بأُحد ثم شهد ما بعدها، وروى الكثير، ومات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين، وقيل سنة أربع وسبعين، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): بايع تحت الشجرة، وشهد ما بعد أُحد، وكان من علماء الصحابة، له ألف ومائة حديث وسبعون حديثاً، اتفقا على ثلاثة وأربعين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم باثنين وخمسين. وذكر الحافظ في مقدمة فتح الباري أن له في (صحيح البخاري) ستة وستين حديثاً. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن أبيه، وأخيه لأمه قتادة بن النعمان، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وزيد بن ثابت، وأبي قتادة الأنصاري، وعبد الله بن سلام، وأسيد بن حضير، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، ومعاوية، وجابر بن عبد الله. وعنه ابنه عبد الرحمن، وزوجته زينب بنت كعب بن عجرة، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم سماهم.

المبحث الثالث: لطائف الإسنادين وما فيهما من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث.

(1) يحيى بن يحيى التميمي ذكره الدهلوي في (بستان المحدثين) من رواة الموطأ عن مالك، وصيغة الأداء التي يستعملها في الرواية عنه (قرأت على مالك) وهي كثيرة في صحيح مسلم، وهو غير يحيى بن يحيى الليثي صاحب الرواية المشهورة للموطأ، فإن يحيى الليثي لم يخرج له أصحاب الكتب الستة شيئاً، وقد شارك يحيى التميمي في الاسم واسم الأب، والرواية عن مالك، وذلك من أمثلة النوع المسمى في علم مصطلح الحديث (بالمتفق والمفترق).

(2) عثمان بن أبي شيبة شيخ مسلم في الإسناد الثاني هو أخو أبي بكر بن أبي شيبة في الإسناد الأول، وعثمان أكبر من أبي بكر، وتوفى عثمان بعد أبي بكر بأربع سنوات، وأبو بكر أحفظ وأكثر رواية من عثمان، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر: أن من المهم في علم المصطلح معرفة الإخوة والأخوات، وقال: وقد صنف فيه القدماء كعلي بن المديني. انتهى. وهذا من أمثلة ذلك.

(3) ستة من رجال الإسنادين كوفيون وهم: أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، ومحمد بن العلاء، وأبو معاوية، وجرير بن عبد الحميد، والأعمش، وثلاثة مدنيون وهم: الصحابيان والراوي عنهما أبو صالح السمان، أما العاشر وهو يحيى بن يحيى فهو نيسابوري.

(4) أبو معاوية وشيخه الأعمش مدلسان، وقد صرح الأعمش بالسماع من أبي صالح في (صحيح البخاري) و(جامع الترمذي) كما في التخريج، وصرح أبو معاوية بالتحديث في روايته عن الأعمش كما في مسند الإمام أحمد، وتقدم في التخريج.

(5) في رجال الإسنادين تابعيان وهما: الأعمش، وأبو صالح السمان، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.

(6) الصحابيان في الإسنادين من السبعة المكثرين من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين زادت رواية كل منهم عن ألف حديث، وأبو هريرة رضي الله عنه أكثر السبعة حديثاً، وأبو سعيد رضي الله عنه أقل السبعة حديثاً.

(7) خمسة من رجال الإسنادين ذكروا بالكنية، وقد اشتهروا بها وهم: أبو هريرة رضي الله عنه واسمه عبد الرحمن بن صخر، وأبو سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك، وأبو صالح واسمه ذكوان، وأبو معاوية واسمه محمد بن خازم، وأبو بكر بن أبي شيبة واسمه عبد الله بن محمد، وفي الإسناد الأول محمد بن العلاء وكنيته أبو كريب، وقد اشتهر بها أيضاً، وفيهما الأعمش هو لقب اشتهر به واسمه سليمان بن مهران.

(8) سبعة من رجال الإسنادين خرّج حديثهم في الكتب الستة، ولم يخرّج الترمذي لأبي بكر بن أبي شيبة، وأخوه عثمان لم يخرّج له الترمذي والنسائي، ويحيى بن يحيى التميمي لم يخرّج له أبو داود وابن ماجه.

(9) قال الحافظ ابن حجر في ترجمة يحيى بن يحيى في (تهذيب التهذيب): وروى الترمذي عن مسلم عنه، أي روى عنه الترمذي بواسطة مسلم ولم يرو الترمذي عن مسلم سوى حديث واحد، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في ترجمة الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ، فإن كان لم يرو عنه إلا بواسطة مسلم فقط فليس له في جامع الترمذي سوى حديث واحد وهو حديث: ((احصوا هلال شعبان لرمضان)).

(10) حديث أبي هريرة رضي الله عنه مما انتقد على مسلم، قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) في شرحه حديث أبي سعيد عند البخاري من رواية شعبة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد ومتابعة جرير بن عبد الحميد وعبد الله بن داود وأبي معاوية ومحاضر لشعبة في الرواية عن الأعمش: وقد خرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، ويحيى بن يحيى ثلاثتهم عن أبي معاوية، لكن قال فيه: عن أبي هريرة بدل أبي سعيد، وهو وهم كما جزم به خلف، وأبو مسعود، وأبو عليّ الجياني وغيرهم، وحاصل ما ذكره الحافظ ابن حجر في الاستدلال على الوهم ثلاثة أمور:

الأول: أن الرواة مطبقون على رواية هذا الحديث عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد لا عن أبي هريرة ومنهم شيوخ مسلم في هذا الحديث.

الثاني: قال الحافظ في (الفتح): قال المزي: كأن مسلماً وهم في حال كتابته، فإنه بدأ بطريق أبي معاوية، ثم ثنى بحديث جرير فساقه بإسناده ومتنه، ثم ثلث بحديث وكيع، وربَّع بحديث شعبة ولم يسق إسنادهما بل قال: بإسناد جرير وأبي معاوية. فلولا أن إسناد جرير وأبي معاوية عنده واحد لما أحال عليهما معاً، فإن طريق وكيع وشعبة جميعاً تنتهي إلى أبي سعيد دون أبي هريرة اتفاقاً. انتهى كلامه يعني المزي.

الثالث: قال الحافظ في (الفتح): وأخرج أبو نعيم أيضاً من رواية أحمد ويحيى بن عبد الحميد وأبي خيثمة وأحمد بن جواس كلهم عن أبي معاوية فقال: عن أبي سعيد، وقال بعده: أخرجه مسلم عن أبي بكر، وأبي كريب، ويحيى بن يحيى، فدل على أن الوهم وقع فيه ممن دون مسلم، إذ لو كان عنده عن أبي هريرة لبينه أبو نعيم، ويقوي ذلك أن الدار قطني مع جزمه في (العلل) بأن الصواب أنه من حديث أبي سعيد لم يتعرض في تتبعه أوهام الشيخين إلى رواية أبي معاوية هذه. انتهى.

وقد أوضح الحافظ في (الفتح) طرق هذا الحديث، وأن الصواب فيها عن أبي سعيد لا عن أبي هريرة، وقال في ختام كلامه: وقد أمليت على هذا الموضع جزءاً مفرداً لخصت مقاصده هنا بعون الله تعالى. انتهى.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) هذا الحديث هو مسك الختام للأحاديث التي أوردها الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه في (كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنه ) فإنه أورد في هذا الكتاب الفضائل الخاصة بكل صحابي، ثم الفضائل العامة للصحابة، وختمها بهذا الحديث المشتمل على بيان منـزلتهم العظيمة عند الله، وما أعده من الثواب الجزيل لهم، والدال على أن العمل الكثير والكثير من غيرهم لا يساوي العمل القليل منهم رضي الله عنه وأرضاهم، وأن الواجب على كل مسلم ناصح لنفسه أن لا يذكرهم إلا بخير، وأن يصون لسانه عن ذكرهم بسوء، وجعلُ الإمام مسلم هذا الحديث خاتمة الأحاديث الدالة على فضلهم رضي الله عنه من حسن ترتيبه وبديع تنظيمه في صحيحه، فكأن لسان حاله يقول بعد أن ذكر فضائلهم الخاصة وفضائلهم العامة رضي الله عنه : من ذا الذي تحدثه نفسه بالنطق بكلمة واحدة فيها غمز لهؤلاء الصفوة المختارة من البشر لصحبة خير البشر صلى الله عليه وسلم ، الذين يفوق قليلهم كثير غيرهم، والذين متعهم الله في هذه الحياة الدنيا برؤيته صلى الله عليه وسلم ، وسماع كلامه، ونصرته وتأييده، وحمل سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأجيال اللاحقة، والذين حصل لهم شرف صحبته ونسبتهم إليه ـ وأكرم بها من نسبة ـ في قوله (أصحابي)، أفمثل هؤلاء يسبون أو مثل هؤلاء يفكر في القدح فيهم، إلا مخذول مرذول قد استحوذ عليه الشيطان، نعوذ بالله من الخذلان.

(2) هذا الحديث أورده مسلم في صحيحه من طريق أبي معاوية، وعقبها بطريق جرير بن عبد الحميد، وقد اشتملت طريق جرير على بيان سبب الحديث وهو ما جرى بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، فإذا كان سيف الله خالد بن الوليد وغيره ممن أسلم بعد الحديبية لا يساوي العمل الكثير منهم القليل من عبد الرحمن بن عوف وغيره ممن تقدم إسلامه، مع أن الكل تشرف بصحبته صلى الله عليه وسلم ، فكيف بمن لم يحصل له شرف الصحبة بالنسبة إلى أولئك الأخيار، إن البون لشاسع وإن الشقة لبعيدة، فما أبعد الثرى عن الثريا، بل وما أبعد الأرض السابعة عن السماء السابعة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

(3) هذا الحديث في فضل الصحابة رضي الله عنه ، وهو قطرة من بحور الكتاب والسنة الزاخرة بفضائلهم رضي الله عنه وأرضاهم، فإن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مملوءان من ذكرهم بالخير والثناء عليهم بالجميل، فقد قال الله تعالى: (وَالسَّابِقُون الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )وقال تعالى: ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ).

وقال الله تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (.

وقال تعالى في بيان مصارف الفيء:( ِللْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ{8} وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{9 } وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).

هذه ثلاث آيات من سورة الحشر، الأولى منها في المهاجرين، والثانية في الأنصار، والثالثة في الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار مستغفرين لهم، سائلين الله أن لا يجعل في قلوبهم غِلاًّ لهم، وليس وراء هذه الأصناف الثلاثة إلاَّ الخذلان والوقوع في حبائل الشيطان، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها لعروة بن الزبير بشأن بعض هؤلاء المخذولين: ((يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم))، أخرجه مسلم في أواخر صحيحه، وقال النووي في شرحه بعد ذكر آية الحشر، وبهذا احتج مالك في أنه لاحق في الفيء لمن سب الصحابة رضي الله عنه ، لأن الله تعالى إنما جعله لمن جاء بعدهم ممن يستغفر لهم.

وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية: وما أحسن ما استنبط الإمام مالك ـ رحمه الله ـ من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم: ) رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ(.

وقال صلى الله عليه وسلم : ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)). أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عمران بن حصين وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))، والله أعلم ذكر الثالث أم لا. وأخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: ((القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث)). وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم)). وروى ابن بطة بإسناد صحيح كما في (منهاج السنة) لابن تيمية عن ابن عباس أنه قال: ((لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فلمقام أحدهم ساعة ـ يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم ـ خير من عمل أحدكم أربعين سنة))، وفي رواية وكيع: ((خير من عمل أحدكم عمره)).

ولما ذكر سعيد بن زيد رضي الله عنه العشرة المبشرين بالجنة قال: ((والله لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه، خير من عمل أحدكم ولو عمِّر عمر نوح))، أخرجه أبو داود والترمذي.

وعن جابر رضي الله عنه قال: قيل لعائشة: إن ناساً يتناولون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر. فقالت: ((وما تعجبون من هذا، انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر)). أخرجه رزين كما في (جامع الأصول) ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)).

(4) الصحابي هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام، والصحابة عدول بتعديل الله تعالى لهم، وثنائه عليهم، وثناء رسوله صلى الله عليه وسلم . قال النووي في (التقريب) الذي شرحه السيوطي في (تدريب الراوي): ((الصحابة كلهم عدول، من لابس الفتن وغيرهم، بإجماع من يعتد به)). انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر في (الإصابة): ((اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة)). انتهى. ولهذا لا تضر جهالة الصحابي فإذا قال التابعي: عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم . لم يؤثر ذلك في المروي لأن الجهالة في الصحابة لا تضر لأنهم كلهم عدول. قال الخطيب البغدادي في كتاب (الكفاية): ((كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يلزم العمل به إلاّ بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم، سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن))، ثم ساق بعض الآيات والأحاديث في فضلهم رضي الله عنه ، ثم قال: ((على أنه لو لم يرد من الله عزوجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليه من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنـزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين، الذين يجيئون بعدهم أبد الآبدين)). وروى بإسناده عن أبي زرعة قال: ((إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة)).

(5) مذهب أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط بين المفرطين الغالين، الذين يرفعون من يعظمون منهم إلى مالا يليق إلا بالله، وبين المفرِّطين الجافين، الذين ينتقصونهم ويسبونهم، فهم وسط بين طرفي الإفراط والتفريط، يحبونهم جميعاً، وينـزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف، فلا يرفعونهم إلى مالا يستحقون، ولا يقصرون بهم عما يليق بهم، فألسنتهم رطبة بذكرهم بالجميل اللائق بهم، وقلوبهم عامرة بحبهم، وما صح فيما جرى بينهم من خلاف فهم فيه مجتهدون، إما مصيبون ولهم أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإما مخطئون ولهم أجر الاجتهاد وخطؤهم مغفور، وليسوا معصومين بل هم بشر يصيبون ويخطئون، ولكن ما أكثر صوابهم بالنسبة لصواب غيرهم، وما أقل خطأهم إذا نسب إلى خطأ غيرهم، ولهم من الله المغفرة والرضوان، وكتب أهل السنة مملوءة من بيان هذه العقيدة الصافية النقية في حق أولئك الأخيار الذين ما كانوا ولا يكونون رضي الله عنه وأرضاهم، ومن ذلك قول الطحاوي في (عقيدة أهل السنة): ((ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان)).

وقال ابن أبي زيد القيرواني المالكي في مقدمة رسالته المشهورة: ((وأن خير القرون القرن الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون، أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليّ رضي الله عنه أجمعين، وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلاّ بأحسن ذكر، والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج، ويظن بهم أحسن المذاهب)).

وقال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب (السنة): ((ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين، والكف عن الذي جرى بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحداً منهم، فهو مبتدع رافضي، حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة)). وقال: ((لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم، ولا يطعن على أحد منهم، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه، ثم يستتيبه فإن تاب قبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يتوب ويراجع)).

وقال الإمام أبو عثمان إسماعيل الصابوني في كتاب (عقيدة السلف وأصحاب الحديث): ((ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم أو نقصاً فيهم، ويرون الترحم على جميعهم، والموالاة لكافتهم)).

هذه أربعة نماذج من أقوال السلف الصالح فيما يجب اعتقاده في حق خيار الخلق بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم ورضي الله عن الصحابة أجمعين. ومما ينبغي التفطن له أن القدح في هؤلاء الصفوة المختارة رضي الله عنه قدح في الدين، لأنه لم يصل إلى من بعدهم إلا بواسطتهم، وأن القدح فيهم لا يضرهم شيئاً بل يفيدهم كما في حديث المفلس ولا يضير القادح إلا نفسه، فمن وجد في قلبه محبة لهم وسلامة من الغلّ لهم، وصان لسانه من التعرض لهم بسوء، فليحمد الله على هذه النعمة، وليسأل الله الثبات على هذا الهدى، ومن كان في قلبه غلّ لهم، وأطلق لسانه بذكرهم بما لا يليق بهم، فليتق الله في نفسه، ويقلع عن هذه الجرائم، وليتب إلى الله، مازال باب التوبة مفتوحاً قبل أن يندم حيث لا ينفع الندم.

(6) قوله (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). المعنى: لو تصدق أحدكم بصدقة تشبه جبل أحد في كثرتها وضخامتها، فإن هذه الصدقة لا يساوي ثوابها ثواب مدّ أو نصف مدّ يتصدق به صحابي، والمد مكيال يقدر بربع الصاع، ومعنى نصيفه أي: نصف المدّ. قال الحافظ في (الفتح): النصيف بوزن رغيف هو النصف، كما يقال عشر وعشير وثمن وثمين، وقيل النصيف مكيال دون المدّ.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم: وسبب تفضيل نفقتهم أنها كانت في وقت الضرورة وضيق الحال بخلاف غيرهم، لأن إنفاقهم كان في نصرته وحمايته صلى الله عليه وسلم ، وذلك معدوم بعده، وكذا جهادهم وسائر طاعتهم، وقد قال الله تعالى: ( لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً) الآية، هذا كله مع ما كان في أنفسهم من الشفقة، والتودد، والخشوع، والتواضع، والإيثار، والجهاد في الله حق جهاده، وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل ولا تنال درجتها بشيء.

(7) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) بيان فضل الصحابة وعظم منـزلتهم رضي الله عنه .

(2) تحريم سب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والمبالغة في ذلك.

(3) أن النهي عن سب الصحابة عام في جميعهم لقوله: ((لا تسبوا أحداً من أصحابي)).

(4) جواز الحلف من غير استحلاف.

(5) تعظيم الله والثناء عليه في القسم.

(6) في الحديث دلالة على أن قوله صلى الله عليه وسلم : ((من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت))، ليس المقصود منه قصر الحلف على أن يكون بلفظ الجلالة.

(7) أن العمل الكثير من غير الصحابة لا يساوي العمل القليل منهم.

(8) بيان ما أعدّه الله للصحابة من جزيل الثواب.

(9) التنبيه إلى أن التشبيه والتمثيل يكون في ما هو جلي واضح.


(10) التنبيه إلى أن اللائق في حق الصحابة الثناء عليهم وذكرهم بالجميل.

(11) أن الصحابة أفضل ممن بعدهم، وأن كل فرد منهم أفضل من أي فرد سواهم.

(12) أن ثواب المطيعين بفضل الله يتفضل على من شاء بما شاء.

ابو وليد البحيرى
2019-02-24, 01:06 AM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (34)




حديث (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)

قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها من صحيحه:حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت وحميد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)). وحدثني زهير بن حرب حدثنا شبابة حدثني ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
المبحث الأول: التخريج:
انفرد مسلم عن البخاري بإخراج هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه ، ووافقه في إخراجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، فأخرجه في (كتاب الرقاق) من صحيحه (باب حجبت النار بالشهوات) فقال: حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره))، وأخرجه الترمذي في جامعه عن أنس رضي الله عنه ، فقال في (كتاب صفة الجنة، باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات): حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا حماد بن سلمة عن حميد وثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات))، هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه.
ورواه الدارمي في سننه عن أنس رضي الله عنه ، فقال في (كتاب الرقاق، باب حفت الجنة بالمكاره): أخبرنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات))، وأخرج حديث أنس الإمام أحمد في (المسند) فقال: حدثنا حسن حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)). وقال: حدثنا غسان بن الربيع حدثنا حماد عن ثابت وحميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات))، وقال: حدثنا عفان حدثنا حماد أنبأنا ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)). وأخرج الترمذي عقب حديث أنس المذكور حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها. قال: فجاءها فنظر إليها وإلى ما أعدّ الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه قال: فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها. قال: فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره، فرجع إليه فقال: فوعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، قال: اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها. فإذا هي يركب بعضها بعضاً فرجع إليه فقال: فوعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات فقال: ارجع إليها. فرجع إليها فقال: فوعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها)). هذا حديث حسن صحيح. انتهى.
وأخرج هذا الحديث أبو داود في (كتاب السنة) من سننه، وأخرجه النسائي في أوائل (كتاب الأيمان والنذور) من سننه، وأخرجه الإمام أحمد في مواضع عن أبي هريرة رضي الله عنه في (المسند)، وذكر الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) أن هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسنادين
الأول: شيخ مسلم في الإسناد الأول: عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي الحارثي أبو عبد الرحمن البصري، أصله من المدينة وسكنها مدة، ثقة عابد، كان ابن معين وابن المديني لا يقدمان عليه في الموطأ أحداً، من صغار التاسعة، مات في أول سنة إحدى وعشرين ـ أي بعد المائتين ـ بمكة، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى ابن ماجه، وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث السابع عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
الثاني: حماد بن سلمة، قال في (التقريب): حماد بن سلمة بن دينار البصري أبو سلمة، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بأخره، من كبار الثامنة، مات سنة سبع وستين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى البخاري، وروى له تعليقاً.
وقال الذهبي في (ميزان الاعتدال): حماد بن سلمة بن دينار، الإمام، العلم، أبو سلمة البصري، عن ابن عمران الجوني، وثابت، وابن أبي مليكة، وعبد الله بن كثير الداري، وخلق. وعنه مالك، وشعبة، وسفيان، وابن مهدي، وعارم، وعفان، وأمم، وكان ثقة له أوهام. قال أحمد: هو أعلم الناس بحديث خاله حميد الطويل وأثبتهم فيه. وقال ابن معين: هو أعلم الناس بثابت. وقال آخر: إذا رأيت الرجل يقع في حماد فاتهمه على الإسلام.
وذكر الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قال ابن المبارك: دخلت البصرة فما رأيت فيها أحداً أشبه بمسالك الأول من حماد بن سلمة. وقال ابن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، والساجي، وابن سعد، والعجلي، والنسائي. وقال الذهبي في (الميزان): قال يونس المؤدب: مات حماد في المسجد وهو يصلي.
الثالث: حميد وهو الطويل، قال الحافظ في (التقريب): حميد بن أبي حميد الطويل أبو عبيدة البصري، اختلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، ثقة مدلس، وعابه زائدة لدخوله في شيء من أمر الأمراء، من الخامسة، مات سنة اثنتين ويقال ثلاث وأربعين ـ أي بعد المائة ـ وهو قائم يصلي، وله خمس وسبعون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أنس بن مالك، وثابت البناني، وموسى بن أنس، وغيرهم سماهم، ثم قال: وعنه ابن أخته حماد بن سلمة، ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو من أقرانه، وحماد بن زيد، والسفيانان، وشعبة، ومالك، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن معين، والعجلي، وأبي حاتم، وابن خراش، والنسائي، وابن سعد.
وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): وكان قائماً يصلي فمات فجأة ـ رحمه الله ـ في آخر سنة اثنتين وأربعين ومائة. وقال: قال الأصمعي: رأيته ولم يكن بطويل ولكن طويل اليدين، وقيل: بل كان في جيرانه رجل قصير اسمه حميد فقالوا: حميد الطويل ليتميز من القصير.
الرابع: ثابت وهو البناني، قال في (التقريب): ثابت بن أسلم البناني ـ بضم الموحدة ونونين مخففتين ـ أبو محمد البصري، ثقة عابد من الرابعة، مات سنة بضع وعشرين ـ أي بعد المائة ـ وله ست وثمانون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته وترجمة شيخه أنس بن مالك رضي الله عنه في رجال إسناد الحديث السادس من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
الخامس: أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال في (التقريب): أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خدمه عشر سنين صحابي مشهور، مات سنة اثنتين وقيل ثلاث وتسعين وقد جاوز المائة، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.
أما رجال الإسناد الثاني فأولهم: زهير بن حرب شيخ مسلم تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.
الثاني: شبابة، قال الحافظ في (التقريب): شبابة بن سوار المدائني أصله من خراسان، يقال كان اسمه مروان مولى بني فزارة، ثقة حافظ رمي بالإرجاء، من التاسعة، مات سنة أربع أو خمس أو ست ومائتين، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الحافظ في مقدمة الفتح: شبابة بن سوار أبو عمرو المدائني وثقه ابن معين، وابن المديني، وابن سعد، وأبو زرعة، وعثمان بن أبي شيبة، وغيرهم. ثم ذكر أقوالاً لبعض الأئمة يعيبونه بالإرجاء، ونقل عن أبي زرعة أنه رجع عنه.
وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع شعبة وورقاء عندهما، وإسرائيل عند البخاري، ثم ذكر جماعة روى عنهم عند مسلم، ثم ذكر جماعة رووا عنه عند البخاري، وجماعة رووا عنه عند مسلم منهم: أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير وإسحاق، وغيرهم.
الثالث: ورقاء، قال الحافظ في (التقريب): ورقاء بن عمر اليشكري أبو بشر الكوفي نزيل المدائن، صدوق في حديثه عن منصور لين، من السابعة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: أبو إسحاق السبيعي، وزيد بن أسلم، وأبو الزناد. وجماعة رووا عنه منهم: ابن المبارك، ومعاذ بن معاذ، وشبابة بن سوار. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، ووكيع. وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): توفي ورقاء سنة نيف وستين ومائة.
الرابع: أبو الزناد، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن ذكوان القرشي أبو عبد الرحمن المدني المعروف بأبي الزناد، ثقة فقيه، من الخامسة، مات سنة ثلاثين ـ أي بعد المائة وقيل بعدها ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أنس، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن الأعرج وهو راويته، وغيرهم. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: الأعمش، ومالك، وورقاء بن عمر، والسفيانان. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قال حرب عن أحمد: كان سفيان يسميه أمير المؤمنين. وقال البخاري: أصح أسانيد أبي هريرة، أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، والعجلي، وأبي حاتم، وابن سعد، والنسائي، والساجي، وأبو جعفر الطبري.
الخامس: أبو هريرة رضي الله عنه وقد تكرر ذكره.
المبحث الثالث: لطائف الإسنادين وما فيهما من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الإسناد الأول بصريون فهو مسلسل بالرواة البصريين.
(2) الإسناد الأول رباعي، والإسناد الرباعي أعلى أسانيد صحيح مسلم، ورجال الإسناد خمسة إلا أن اثنين منهم وهما: ثابت وحميد في درجة واحدة من حيث الرواية عن أنس.
(3) حماد بن سلمة يروي عن خاله حميد الطويل وكل منهما مات فجأة وهو يصلي.
(4) حميد هو الطويل وهو لقَب لقِّب به، وقيل: إنه لم يكن طويلاً وإنما هو طويل اليدين، وقيل: إن له جاراً قصيراً اسمه حميد فقيل له حميد الطويل ليتميز عنه.
(5) حماد بن سلمة يروي هذا الحديث عن ثابت وحميد وهو أعلم الناس بحديثهما كما ذكره الذهبي في الميزان.
(6) حميد وصف بالتدليس وقد روى هذا الحديث عن أنس بالعنعنة إلاّ أنه قرن في الإسناد بثابت البناني.
(7) حماد بن سلمة هو أحد الحمادين فيما إذا قيل في ترجمة من فوقهما روى عنه الحمادان وفي ترجمة من دونهما روى عن الحمادين، وهما بصريان والثاني حماد بن زيد. قال الخزرجي في (الخلاصة) عقيب ترجمتهما: فصل، إذا روى عفان عن حماد غير منسوب فهو ابن سلمة، وكذا حجاج بن منهال وهدبة وسليمان بن حرب، وعارم إذا روى عنه ينسبه، وانفرد عن ابن سلمة بهز بن أسد وموسى بن إسماعيل. قاله الحافظ أبو الحجاج.
(8) في الإسناد الأول تابعيان رويا عن أنس رضي الله عنه وهما: حميد الطويل وثابت البناني، وحميد يروي عن ثابت أيضاً.
(9) في الإسناد الثاني راويان اشتهرا باللقب وهما: الأعرج واسمه عبد الرحمن بن هرمز، وأبو الزناد واسمه عبد الله بن ذكوان، وكنيته أبو عبد الرحمن، لقبه أبو الزناد هو لقب على صيغة الكنية.
(10) أبو الزناد وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وصفه بذلك سفيان الثوري.
(11) الإسناد الثاني اشتمل على السلسلة التي وصفت بأنها أصح أسانيد أبي هريرة، قال البخاري: أصح أسانيد أبي هريرة أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.
(12) أبو الزناد تابعي والأعرج تابعي فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.
(13) ثمانية من رجال الإسنادين اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم وهم: الصحابيان، والتابعيون الأربعة، وشبابة، وورقاء، أما الباقون فلم يرو البخاري لحماد بن سلمة احتجاجاً بل تعليقاً، ولم يرو ابن ماجه لعبد الله بن مسلمة القعنبي، ولم يرو الترمذي لزهير بن حرب.
(14) ساق مسلم الإسناد إلى أنس رضي الله عنه وذكر متن الحديث، ثم ساق الإسناد الثاني إلى أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال بمثله، والمعنى: أن لفظ المتن عند أبي هريرة مثل لفظه عند أنس، وهذا بخلاف التعبير بنحوه، لأنها تطلق على الاتفاق في المعنى دون اللفظ، ونقل أبو عمرو بن الصلاح في (علوم الحديث) عن الحاكم أنه قال: إن مما يلزم الحديثي من الضبط والإتقان أن يفرق بين أن يقول (مثله) أو يقول (نحوه)، فلا يحل له أن يقول (مثله) إلاّ بعد أن يعلم أنهما على لفظ واحد، ويحل له أن يقول (نحوه) إذا كان على مثل معانيه، والله أعلم. انتهى.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) قوله (حفت): من الحفاف، وهو ما يحيط بالشيء حتى لا يتوصل إليه إلاّ بتخطيه، والمكاره التي حفت بها الجنة، ما أمر المكلف بمجاهدة نفسه فيه فعلاً وتركاً، وأطلق عليهما المكاره لمشقتها على العامل وصعوبتها عليه، والشهوات التي حفت بها النار ما يستلذ من أمور الدنيا مما منع الشرع من تعاطيه.
قال النووي في شرح صحيح مسلم: ((قال العلماء: هذا من بديع الكلام، وفصيحه، وجوامعه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم من التمثيل الحسن، ومعناه: لا يوصل إلى الجنة إلاّ بارتكاب المكاره، والنار بالشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة، والإحسان إلى المسيء، والصبر على الشهوات، ونحو ذلك.
وأما الشهوات التي النار محفوفة بها، فالظاهر أنها الشهوات المحرمة كالخمر، والزنا، والنظر إلى الأجنبية، والغيبة، واستعمال الملاهي، ونحو ذلك. وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذه، لكن يكره الإكثار منها مخافة أن يجر إلى المحرمة، أو أن يقسي القلب، أو يشغل عن الطاعات، أو يحوج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا للصرف فيها، ونحو ذلك. انتهى.
وقال الحافظ في (الفتح) في شرح حديث الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه الذي اتفق مع مسلم في إخراجه قال: وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم ، وبديع بلاغته في ذم الشهوات وإن مالت إليها النفوس، والحض على الطاعات وإن كرهتها النفوس وشقت عليها، وقد ورد إيضاح ذلك من وجه آخر عن أبي هريرة، ثم ساق حديث إرسال جبريل إلى الجنة المتقدم، ثم قال: فهذا يفسر رواية الأعرج يعني الحديث الذي أخرجه البخاري.
(2) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
(1) أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن.
(2) الحديث مثال لجوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم .
(3) أن الجنة محفوفة بما يشق على النفوس من التكاليف، فلابد لسالك طريقها من الصبر على المكاره.
(4) أن الشهوات قد حفت بها النار، فعلى المسلم أن يصبر عنها ويحذر من الوقوع فيها.
(5) الحث على الطاعة وإن كرهتها النفوس.
(6) ذم الشهوات وإن مالت إليها النفوس.
(7) أن الصبر على المكاره عاقبته حسنة.
(8) أن تعاطي الشهوات عاقبته وخيمة.

(9) الإيمان بالغيب.
(10) التنبيه إلى الحكمة في حف الجنة بالمكاره والنار بالشهوات ليتميز المؤمنون بالغيب وغيرهم.

ابو وليد البحيرى
2019-02-24, 01:08 AM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (35)



حديث (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)




قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها من صحيحه:حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت وحميد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)). وحدثني زهير بن حرب حدثنا شبابة حدثني ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.

المبحث الأول: التخريج:

انفرد مسلم عن البخاري بإخراج هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه ، ووافقه في إخراجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، فأخرجه في (كتاب الرقاق) من صحيحه (باب حجبت النار بالشهوات) فقال: حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره))، وأخرجه الترمذي في جامعه عن أنس رضي الله عنه ، فقال في (كتاب صفة الجنة، باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات): حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا حماد بن سلمة عن حميد وثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات))، هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه.

ورواه الدارمي في سننه عن أنس رضي الله عنه ، فقال في (كتاب الرقاق، باب حفت الجنة بالمكاره): أخبرنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات))، وأخرج حديث أنس الإمام أحمد في (المسند) فقال: حدثنا حسن حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)). وقال: حدثنا غسان بن الربيع حدثنا حماد عن ثابت وحميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات))، وقال: حدثنا عفان حدثنا حماد أنبأنا ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)). وأخرج الترمذي عقب حديث أنس المذكور حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها. قال: فجاءها فنظر إليها وإلى ما أعدّ الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه قال: فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها. قال: فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره، فرجع إليه فقال: فوعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، قال: اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها. فإذا هي يركب بعضها بعضاً فرجع إليه فقال: فوعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات فقال: ارجع إليها. فرجع إليها فقال: فوعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها)). هذا حديث حسن صحيح. انتهى.

وأخرج هذا الحديث أبو داود في (كتاب السنة) من سننه، وأخرجه النسائي في أوائل (كتاب الأيمان والنذور) من سننه، وأخرجه الإمام أحمد في مواضع عن أبي هريرة رضي الله عنه في (المسند)، وذكر الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) أن هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم.

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسنادين

الأول: شيخ مسلم في الإسناد الأول: عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي الحارثي أبو عبد الرحمن البصري، أصله من المدينة وسكنها مدة، ثقة عابد، كان ابن معين وابن المديني لا يقدمان عليه في الموطأ أحداً، من صغار التاسعة، مات في أول سنة إحدى وعشرين ـ أي بعد المائتين ـ بمكة، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى ابن ماجه، وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث السابع عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

الثاني: حماد بن سلمة، قال في (التقريب): حماد بن سلمة بن دينار البصري أبو سلمة، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بأخره، من كبار الثامنة، مات سنة سبع وستين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى البخاري، وروى له تعليقاً.

وقال الذهبي في (ميزان الاعتدال): حماد بن سلمة بن دينار، الإمام، العلم، أبو سلمة البصري، عن ابن عمران الجوني، وثابت، وابن أبي مليكة، وعبد الله بن كثير الداري، وخلق. وعنه مالك، وشعبة، وسفيان، وابن مهدي، وعارم، وعفان، وأمم، وكان ثقة له أوهام. قال أحمد: هو أعلم الناس بحديث خاله حميد الطويل وأثبتهم فيه. وقال ابن معين: هو أعلم الناس بثابت. وقال آخر: إذا رأيت الرجل يقع في حماد فاتهمه على الإسلام.

وذكر الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قال ابن المبارك: دخلت البصرة فما رأيت فيها أحداً أشبه بمسالك الأول من حماد بن سلمة. وقال ابن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، والساجي، وابن سعد، والعجلي، والنسائي. وقال الذهبي في (الميزان): قال يونس المؤدب: مات حماد في المسجد وهو يصلي.

الثالث: حميد وهو الطويل، قال الحافظ في (التقريب): حميد بن أبي حميد الطويل أبو عبيدة البصري، اختلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، ثقة مدلس، وعابه زائدة لدخوله في شيء من أمر الأمراء، من الخامسة، مات سنة اثنتين ويقال ثلاث وأربعين ـ أي بعد المائة ـ وهو قائم يصلي، وله خمس وسبعون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أنس بن مالك، وثابت البناني، وموسى بن أنس، وغيرهم سماهم، ثم قال: وعنه ابن أخته حماد بن سلمة، ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو من أقرانه، وحماد بن زيد، والسفيانان، وشعبة، ومالك، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن معين، والعجلي، وأبي حاتم، وابن خراش، والنسائي، وابن سعد.

وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): وكان قائماً يصلي فمات فجأة ـ رحمه الله ـ في آخر سنة اثنتين وأربعين ومائة. وقال: قال الأصمعي: رأيته ولم يكن بطويل ولكن طويل اليدين، وقيل: بل كان في جيرانه رجل قصير اسمه حميد فقالوا: حميد الطويل ليتميز من القصير.

الرابع: ثابت وهو البناني، قال في (التقريب): ثابت بن أسلم البناني ـ بضم الموحدة ونونين مخففتين ـ أبو محمد البصري، ثقة عابد من الرابعة، مات سنة بضع وعشرين ـ أي بعد المائة ـ وله ست وثمانون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته وترجمة شيخه أنس بن مالك رضي الله عنه في رجال إسناد الحديث السادس من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

الخامس: أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال في (التقريب): أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خدمه عشر سنين صحابي مشهور، مات سنة اثنتين وقيل ثلاث وتسعين وقد جاوز المائة، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.

أما رجال الإسناد الثاني فأولهم: زهير بن حرب شيخ مسلم تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.

الثاني: شبابة، قال الحافظ في (التقريب): شبابة بن سوار المدائني أصله من خراسان، يقال كان اسمه مروان مولى بني فزارة، ثقة حافظ رمي بالإرجاء، من التاسعة، مات سنة أربع أو خمس أو ست ومائتين، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الحافظ في مقدمة الفتح: شبابة بن سوار أبو عمرو المدائني وثقه ابن معين، وابن المديني، وابن سعد، وأبو زرعة، وعثمان بن أبي شيبة، وغيرهم. ثم ذكر أقوالاً لبعض الأئمة يعيبونه بالإرجاء، ونقل عن أبي زرعة أنه رجع عنه.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع شعبة وورقاء عندهما، وإسرائيل عند البخاري، ثم ذكر جماعة روى عنهم عند مسلم، ثم ذكر جماعة رووا عنه عند البخاري، وجماعة رووا عنه عند مسلم منهم: أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير وإسحاق، وغيرهم.

الثالث: ورقاء، قال الحافظ في (التقريب): ورقاء بن عمر اليشكري أبو بشر الكوفي نزيل المدائن، صدوق في حديثه عن منصور لين، من السابعة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: أبو إسحاق السبيعي، وزيد بن أسلم، وأبو الزناد. وجماعة رووا عنه منهم: ابن المبارك، ومعاذ بن معاذ، وشبابة بن سوار. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، ووكيع. وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): توفي ورقاء سنة نيف وستين ومائة.

الرابع: أبو الزناد، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن ذكوان القرشي أبو عبد الرحمن المدني المعروف بأبي الزناد، ثقة فقيه، من الخامسة، مات سنة ثلاثين ـ أي بعد المائة وقيل بعدها ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أنس، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن الأعرج وهو راويته، وغيرهم. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: الأعمش، ومالك، وورقاء بن عمر، والسفيانان. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قال حرب عن أحمد: كان سفيان يسميه أمير المؤمنين. وقال البخاري: أصح أسانيد أبي هريرة، أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، والعجلي، وأبي حاتم، وابن سعد، والنسائي، والساجي، وأبو جعفر الطبري.

الخامس: أبو هريرة رضي الله عنه وقد تكرر ذكره.

المبحث الثالث: لطائف الإسنادين وما فيهما من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسناد الأول بصريون فهو مسلسل بالرواة البصريين.

(2) الإسناد الأول رباعي، والإسناد الرباعي أعلى أسانيد صحيح مسلم، ورجال الإسناد خمسة إلا أن اثنين منهم وهما: ثابت وحميد في درجة واحدة من حيث الرواية عن أنس.

(3) حماد بن سلمة يروي عن خاله حميد الطويل وكل منهما مات فجأة وهو يصلي.

(4) حميد هو الطويل وهو لقَب لقِّب به، وقيل: إنه لم يكن طويلاً وإنما هو طويل اليدين، وقيل: إن له جاراً قصيراً اسمه حميد فقيل له حميد الطويل ليتميز عنه.

(5) حماد بن سلمة يروي هذا الحديث عن ثابت وحميد وهو أعلم الناس بحديثهما كما ذكره الذهبي في الميزان.

(6) حميد وصف بالتدليس وقد روى هذا الحديث عن أنس بالعنعنة إلاّ أنه قرن في الإسناد بثابت البناني.

(7) حماد بن سلمة هو أحد الحمادين فيما إذا قيل في ترجمة من فوقهما روى عنه الحمادان وفي ترجمة من دونهما روى عن الحمادين، وهما بصريان والثاني حماد بن زيد. قال الخزرجي في (الخلاصة) عقيب ترجمتهما: فصل، إذا روى عفان عن حماد غير منسوب فهو ابن سلمة، وكذا حجاج بن منهال وهدبة وسليمان بن حرب، وعارم إذا روى عنه ينسبه، وانفرد عن ابن سلمة بهز بن أسد وموسى بن إسماعيل. قاله الحافظ أبو الحجاج.

(8) في الإسناد الأول تابعيان رويا عن أنس رضي الله عنه وهما: حميد الطويل وثابت البناني، وحميد يروي عن ثابت أيضاً.

(9) في الإسناد الثاني راويان اشتهرا باللقب وهما: الأعرج واسمه عبد الرحمن بن هرمز، وأبو الزناد واسمه عبد الله بن ذكوان، وكنيته أبو عبد الرحمن، لقبه أبو الزناد هو لقب على صيغة الكنية.


(10) أبو الزناد وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وصفه بذلك سفيان الثوري.

(11) الإسناد الثاني اشتمل على السلسلة التي وصفت بأنها أصح أسانيد أبي هريرة، قال البخاري: أصح أسانيد أبي هريرة أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.

(12) أبو الزناد تابعي والأعرج تابعي فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.

(13) ثمانية من رجال الإسنادين اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم وهم: الصحابيان، والتابعيون الأربعة، وشبابة، وورقاء، أما الباقون فلم يرو البخاري لحماد بن سلمة احتجاجاً بل تعليقاً، ولم يرو ابن ماجه لعبد الله بن مسلمة القعنبي، ولم يرو الترمذي لزهير بن حرب.

(14) ساق مسلم الإسناد إلى أنس رضي الله عنه وذكر متن الحديث، ثم ساق الإسناد الثاني إلى أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال بمثله، والمعنى: أن لفظ المتن عند أبي هريرة مثل لفظه عند أنس، وهذا بخلاف التعبير بنحوه، لأنها تطلق على الاتفاق في المعنى دون اللفظ، ونقل أبو عمرو بن الصلاح في (علوم الحديث) عن الحاكم أنه قال: إن مما يلزم الحديثي من الضبط والإتقان أن يفرق بين أن يقول (مثله) أو يقول (نحوه)، فلا يحل له أن يقول (مثله) إلاّ بعد أن يعلم أنهما على لفظ واحد، ويحل له أن يقول (نحوه) إذا كان على مثل معانيه، والله أعلم. انتهى.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) قوله (حفت): من الحفاف، وهو ما يحيط بالشيء حتى لا يتوصل إليه إلاّ بتخطيه، والمكاره التي حفت بها الجنة، ما أمر المكلف بمجاهدة نفسه فيه فعلاً وتركاً، وأطلق عليهما المكاره لمشقتها على العامل وصعوبتها عليه، والشهوات التي حفت بها النار ما يستلذ من أمور الدنيا مما منع الشرع من تعاطيه.

قال النووي في شرح صحيح مسلم: ((قال العلماء: هذا من بديع الكلام، وفصيحه، وجوامعه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم من التمثيل الحسن، ومعناه: لا يوصل إلى الجنة إلاّ بارتكاب المكاره، والنار بالشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة، والإحسان إلى المسيء، والصبر على الشهوات، ونحو ذلك.

وأما الشهوات التي النار محفوفة بها، فالظاهر أنها الشهوات المحرمة كالخمر، والزنا، والنظر إلى الأجنبية، والغيبة، واستعمال الملاهي، ونحو ذلك. وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذه، لكن يكره الإكثار منها مخافة أن يجر إلى المحرمة، أو أن يقسي القلب، أو يشغل عن الطاعات، أو يحوج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا للصرف فيها، ونحو ذلك. انتهى.

وقال الحافظ في (الفتح) في شرح حديث الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه الذي اتفق مع مسلم في إخراجه قال: وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم ، وبديع بلاغته في ذم الشهوات وإن مالت إليها النفوس، والحض على الطاعات وإن كرهتها النفوس وشقت عليها، وقد ورد إيضاح ذلك من وجه آخر عن أبي هريرة، ثم ساق حديث إرسال جبريل إلى الجنة المتقدم، ثم قال: فهذا يفسر رواية الأعرج يعني الحديث الذي أخرجه البخاري.

(2) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن.

(2) الحديث مثال لجوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم .

(3) أن الجنة محفوفة بما يشق على النفوس من التكاليف، فلابد لسالك طريقها من الصبر على المكاره.

(4) أن الشهوات قد حفت بها النار، فعلى المسلم أن يصبر عنها ويحذر من الوقوع فيها.

(5) الحث على الطاعة وإن كرهتها النفوس.

(6) ذم الشهوات وإن مالت إليها النفوس.

(7) أن الصبر على المكاره عاقبته حسنة.

(8) أن تعاطي الشهوات عاقبته وخيمة.

(9) الإيمان بالغيب.
(10) التنبيه إلى الحكمة في حف الجنة بالمكاره والنار بالشهوات ليتميز المؤمنون بالغيب وغيرهم.

ابو وليد البحيرى
2019-02-24, 01:11 AM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (36)


حديث إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء


قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب البر والصلة والآداب من صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا سفيان بن عيينة عن بريد بن عبد الله عن جده عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم (ح) وحدثنا محمد بن العلاء الهمداني ـ واللفظ له ـ حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة)).
المبحث الأول: التخريج:
هذا الحديث رواه مسلم من هذين الطريقين، وقد رواه البخاري في موضعين من صحيحه، أولهما في (كتاب البيوع، باب في العطار وبيع المسك)، فقال: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا أبو بردة بن عبد الله قال: سمعت أبا بردة بن أبي موسى عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحاً خبيثة)). والثاني في (كتاب الذبائح والصيد، باب المسك)، فقال: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)).
وأخرجه أبو داود في (كتاب الأدب) من سننه عن أنس رضي الله عنه فقال: (باب من يؤمر أن يجالس): حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذكر: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن، والفاجر الذي يقرأ القرآن والفاجر الذي لا يقرأ القرآن، ثم قال: ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكير، إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه)). وهو عنده أيضاً من طريق أخرى عن أنس رضي الله عنه .
وأخرج حديث أبي موسى الإمام أحمد في (المسند) فقال: حدثنا سفيان عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى رواية قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ومثل الجليس الصالح مثل العطار إن لم يحذك من عطره علقك من ريحه، ومثل الجليس السوء مثل الكير إن لم يحرقك نالك من شرره، والخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به مؤتجراً أحد المتصدقين)). وقال في موضع آخر: حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عاصم الأحول عن أبي كبشة قال: سمعت أبا موسى يقول على المنبر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مثل الجليس الصالح كمثل العطار إن لا يحذك يعبق بك من ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير)).
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول والثاني: شيخا مسلم أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء الهمداني أبو كريب، تقدم ذكرهما في رجال إسناد الحديث الأول.
الثالث: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الأوّل سفيان بن عيينة، قال في (التقريب): سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي أبو محمد، الكوفي ثم المكي، ثقة، حافظ، فقيه، إمام، حجة، إلاّ أنه تغير حفظه بأخرة، وكان ربما دلس لكن عن الثقات، من رؤوس الطبقة الثامنة، وكان أثبت الناس في عمرو بن دينار، مات في سنة ثمان وتسعين ـ أي بعد المائة ـ وله إحدى وتسعون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الخامس عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
الرابع: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثاني أبو أسامة، قال الحافظ في (التقريب): حماد بن أسامة القرشي مولاهم الكوفي، أبو أسامة مشهور بكنيته، ثقة، ثبت ربما دلس، وكان بأخرة يحدث من كتب غيره، من كبار التاسعة، مات سنة إحدى ومائتين وهو ابن ثمانين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن هشام بن عروة، وبريد بن عبد الله بن أبي بردة، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وغيرهم سماهم. ثم قال: وعنه الشافعي، وأحمد بن حنبل، ويحيى، وإسحاق بن راهويه، وأبو خيثمة، وقتيبة، وابنا أبي شيبة، وغيرهم وسماهم. ثم ذكر بعض ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قول أحمد: كان ثبتاً ما كان أثبته لا يكاد يخطئ. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، وابن سعد، والعجلي. وقال في مقدمة فتح الباري: اتفقوا على توثيقه وشذّّ الأزدي فذكره في الضعفاء.
الخامس: بريد بن عبد الله، قال الحافظ في (التقريب): بريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري الكوفي، ثقة يخطئ قليلاً، من السادسة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال الخزرجي في (الخلاصة): بريد بن عبد الله بن أبي بردة الأشعري، أبو بردة الكوفي، عن جده، والحسن، وعطاء. وعنه السفيانان، وحفص بن غياث، وأبو نعيم، وأبو أسامة.
وقال الحافظ في مقدمة فتح الباري: وثقه ابن معين، والعجلي، والترمذي، وأبو داود. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: ليس بالمتين يكتب حديثه. انتهى.
وقال الذهبي في (الميزان): قال ابن عدي: روى عنه الأئمة، ولم يرو عنه أحد أكثر من أبي أسامة، وأحاديثه عنه مستقيمة وهو صدوق، وأرجو أن لا يكون به بأس. انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
السادس: أبو بردة، قال الحافظ في (التقريب): أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقة من الثالثة، مات سنة أربع ومائة وقيل: غير ذلك، وقد جاوز الثمانين، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته وترجمة أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في رجال إسناد الحديث الخامس من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
السابع: أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار ـ بفتح المهملة وتشديد الضاد المعجمة ـ أبو موسى الأشعري، صحابي مشهور، أمره عمر ثم عثمان، وهو أحد الحكمين بصفين، مات سنة خمسين وقيل: بعدها، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.
المبحث الثالث: لطائف الإسنادين وما فيهما من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الإسنادين السبعة كوفيون، فهما مسلسلان بالرواة الكوفيين، وابن عيينة كوفي ثم مكي.
(2) رجال الإسنادين السبعة خرّج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلا شيخ مسلم أبا بكر بن أبي شيبة فلم يخرّج له الترمذي.
(3) الإسنادان كما اتفقا في أن رجالهما كوفيون، اتفقا في صيغ الأداء من أولهما إلى آخرهما فاتفقا في التحديث في موضعين وفي باقي الإسنادين بالعنعنة.
(4) أبو أسامة ممن وافقت كنيته اسم أبيه، فهو أبو أسامة واسم أبيه أسامة، وبريد ممن وافقت كنيته كنية جدّه فكل منهما يكنى أبا بردة.
(5) أربعة من رجال الإسنادين ذكروا بكناهم وقد اشتهروا بها وهم: أبو بكر بن أبي شيبة واسمه عبد الله بن محمد، وأبو أسامة واسمه حماد بن أسامة، وأبو بردة واسمه عامر أو الحارث، وأبو موسى رضي الله عنه واسمه عبد الله بن قيس، وفي الإسناد الثاني محمد بن العلاء الهمداني وكنيته أبو كريب وقد اشتهر بكنيته كما اشتهر باسمه.
(6) أبو بكر بن أبي شيبة شيخ مسلم يذكره مسلم بكنيته، قال الحافظ في (الفتح) في (باب فضل الفقر) في (كتاب الرقاق) قال: وقد أكثر عنه المصنف ـ يعني البخاري ـ وكذا مسلم لكن مسلم يكنيه دائماً والبخاري يسميه وقلّ أن كناه.
(7) في الإسناد رواية الأبناء عن الآباء، فبريد يرويه عن جده أبي بردة وأبو بردة يرويه عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه .
(8) بريد بن عبد الله اشتهر باسمه دون كنيته، وجده أبو بردة اشتهر بكنيته دون اسمه، بل قد اختلف في اسمه فقيل: عامر وقيل الحارث.
(9) في الإسناد الأول سفيان بن عيينة وهو مدلس لكنه لا يدلس إلا عن ثقة، وذكر أبو حاتم بن حبان في مقدمة صحيحه أنه الشخص الوحيد الذي لا يدلس إلا عن الثقات. وقد روى هذا الحديث عن بريد بالعنعنة وكذا أبو أسامة مدلس وقد روى الحديث عن بريد بالعنعنة. ولم أقف لهما على تصريح بالسماع لكن قد قال النووي في مقدمة شرح صحيح مسلم: واعلم أن ما كان في الصحيحين عن المدلسين بعن ونحوها فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى.
(10) سفيان بن عيينة اختلط قبل وفاته بسنة واحدة، وقد تقدم أن ما كان في الصحيحين عن المختلطين فهو مما علم أنه روي عنهم قبل الاختلاط.
(11) سفيان بن عيينة هو أحد السفيانين فيما إذا قيل عن شخص: روى عن السفيانين وعن آخر روى عنه السفيانان، والثاني منهما سفيان الثوري.
(12) في نهاية الإسناد الأول حرف (ح) الدال على التحويل في الإسناد، وملتقى الإسنادين بريد بن عبد الله فعنده يتحد الإسنادان، ولم يضع مسلم حرف التحويل عند الوصول إليه لاختلاف الإسنادين في ذكره وذكر جده، فإن بريداً ذكر في الإسناد الأول منسوباً ولم ينسب في الإسناد الثاني، وشيخه قيل فيه في الإسناد الأول (عن جده) أما في الإسناد الثاني فقيل (عن أبي بردة).
(13) بريد هو الرجل الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم في رجال الصحيحين.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) ضرب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المثل للجليس الصالح، وما يستفيده جليسه من فوائد كبيرة في أمور دينه ودنياه، بحامل المسك الذي لا يعدم جليسه منه فائدة إما كبيرة أو صغيرة، فمن يجالس حامل المسك، إما أن يستفيد منه مسكاً عن طريق الهبة أو عن طريق الابتياع، وأقل أحواله أن يشم ريحاً طيبة، وكذا من يجالس أهل التقى والصلاح، يستفيد منهم الإرشاد إلى الخير والدلالة على ما ينفع، ليسلك سبيله كما يستفيد منهم معرفة الضار، ليجتنبه ويكون على حذر منه، فيألف بمجالستهم الخير ويعود نفسه عليه حتى يكون له خلقاً، ويبغض الشر والأشرار ويربأ بنفسه عن فعله والميل إلى أهله.
وكما ضرب صلى الله عليه وسلم المثل للجليس الصالح بحامل المسك، ضرب المثل للجليس السوء بنافخ الكير، الذي لا يعدم من يجلس عنده مضرة ما في بدنه أو ثيابه، وأقل أحواله ما يشمه من ريح خبيثة، وكذا جليس السوء ضرره على جليسه كبير، والمصيبة عليه عظيمة، يحبب إليه الشر ويرغبه فيه، ويزهده في الخير ويثنيه عنه، يأمر جليسه بالمنكر وينهاه عن المعروف، ومن أوضح الأمثلة لأضرار جلساء السوء ما ثبت في الصحيحين في قصة وفاة أبي طالب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رغبه في الإسلام، ودعاه إليه عند الموت، عارض هذه الدعوة الخيرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية وقالا: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب. وكلما أعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الحق أعادا عليه الدعوة إلى الإبقاء على الباطل، والاستمرار عليه حتى كان آخر ما كلمهم به أنه على ملة عبد المطلب، والعياذ بالله.
(2) قال النووي في شرح صحيح مسلم: وفيه طهارة المسك واستحبابه، وجواز بيعه، وقد أجمع العلماء على جميع هذا، ولم يخالف فيه من يعتد به، ونقل عن الشيعة نجاسته، والشيعة لا يعتد بهم في الإجماع. ومن الدلائل على طهارته الإجماع وهذا الحديث وهو قوله: ((وإما أن تبتاع منه)) والنجس لا يصح بيعه، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يستعمله في بدنه، ورأسه، ويصلي به، ويخبر بأنه أطيب الطيب، ولم يزل المسلمون على استعماله وجواز بيعه.
(3) في الحديث شاهد لما يعرف في البلاغة باللف والنشر المرتب، فإنه ذكر المشبه وهو الجليس الصالح والجليس السوء، والمشبه به وهو حامل المسك ونافخ الكير، ثم وضح ذلك بادئاً بالجليس الصالح ثم الجليس السوء، ومن أمثلته في الكتاب العزيز قوله تعالى: ( وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً).
(4) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
(1) ضرب الأمثلة لإيضاح ما يراد بيانه.
(2) الترغيب في مجالسة أهل التقى والصلاح.
(3) الترهيب من مخالطة جلساء السوء.
(4) التنبيه إلى أن المنفعة من الجليس الصالح محققة.
(5) التنبيه إلى أن المضرة من جليس السوء حاصلة.
(6) تنبيه المرشدين والمعلمين إلى الجمع بين الترغيب والترهيب.
(7) الاستدلال على القرين بقرينه وإلحاق الشيء بشبيهه ونظيره.
(8) طهارة المسك واستعماله.
(9) جواز بيع المسك.
(10) التنبيه إلى أولوية احتراف بيع الطيب.

ابو وليد البحيرى
2019-03-01, 12:28 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (37)



حديث (سددوا وقاربوا وأبشروا...)







قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب صفة القيامة من الجنة والنار من صحيحه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عبد العزيز بن محمد أخبرنا موسى بن عقبة (ح) وحدثني محمد بن حاتم ـ واللفظ له ـ حدثنا بهز حدثنا وهيب حدثنا موسى بن عقبة قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل الجنة أحداً عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلَّ)).

وحدثناه حسن الحلواني حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا عبد العزيز بن المطلب عن موسى بن عقبة بهذا الإسناد ولم يذكر (وأبشروا).

المبحث الأول: التخريج:

أخرج مسلم ـ رحمه الله ـ هذا الحديث من هذه الطرق الثلاث عن موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عائشة رضي الله عنها.

وأخرجه من حديث جابر من طريقين عن الأعمش عن أبي سفيان عنه مرفوعاً بلفظ: ((قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله، قالوا: يا رسول الله ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل))، وهذا اللفظ ساقه مسلم من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، ثم عقبه بطريق جابر المذكورة ولم يسق لفظه بل قال مثله.

وأخرجه عن جابر من حديث معقل عن أبي الزبير عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار، ولا أنا، إلا برحمة من الله))، وأخرج مسلم وسط الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه من تسع طرق بألفاظ متقاربة، وليس في جميعها ذكر آخره وفي بعضها ذكر أوله.

وأخرج البخاري حديث عائشة من طريقين في (كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل) قال في أولهما: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا سليمان عن موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قلّ)). وقال في ثانيهما: حدثنا عليّ بن عبد الله حدثنا محمد بن الزبرقان حدثنا موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يدخل أحداً الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة))، قال أظنه عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة، وقال عفان: حدثنا وهيب عن موسى بن عبقة قال سمعت أبا سلمة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((سددوا وأبشروا)).

وأخرج البخاري آخره عن عائشة من ثلاث طرق: إحداها عن مسروق سألت عائشة رضي الله عنها: أي العمل كان أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: ((الدائم)). والثانية عن هشام بن عروة عن أبيه عنها أنها قالت: ((كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه)). والثالثة عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عنها رضي الله عنها أنها قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((أدومها وإن قلّ)). وقال: ((أكلفوا من العمل ما تطيقون)).

وأخرجه البخاري في (كتاب الرقاق) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ: ((لن ينجي أحداً منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله برحمة، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا)).

وأخرجه عن أبي هريرة في (كتاب المرضى) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لن يدخل أحداً عمله الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا، ولا يتمنين أحدكم الموت، إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب)).

وأخرجه ابن ماجه في (كتاب الزهد) من سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قاربوا وسددوا، فإنه ليس أحد منكم بمنجيه عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل.

وأخرجه الدارمي في (كتاب الرقاق) من سننه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قاربوا وسددوا، واعلموا أن أحداً منكم لن ينجيه عمله. قالوا: يا رسول الله ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)).

وأخرج أحمد في المسند حديث عائشة رضي الله عنها فقال: حدثنا عفان قال حدثنا وهيب قال حدثنا موسى بن عقبة قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذكره ومتنه مثل متنه في صحيح مسلم، إلاّ أن فيه (ويسروا) بدل (وبشروا)، وقال أيضاً: حدثنا يعقوب قال حدثنا عبد العزيز بن المطلب عن موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ)).

وأخرجه في المسند أيضاً في موضعين من حديث جابر رضي الله عنه دون ذكر آخره وليس في أوله (وبشروا)، وأخرج وسطه أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . وأخرج وسطه في (المسند) أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في واحد وعشرين موضعاً وفي بعضها ذكر أوله.

المبحث الثاني: التعريف بالرواة في الأسانيد الثلاثة.

الأول: شيخ مسلم في الإسناد الأول إسحاق بن إبراهيم تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.

الثاني: شيخ مسلم في الإسناد الثاني محمد بن حاتم تقدم في رجال إسناد الحديث الحادي عشر.

الثالث: شيخ مسلم في الإسناد الثالث حسن الحلواني، قال الحافظ في (التقريب): الحسن بن عليّ بن محمد الهذلي، أبو عليّ الخلال الحلواني ـ بضم المهملة ـ نزيل مكة، ثقة حافظ، له تصانيف، من الحادية عشرة، مات سنة اثنتين وأربعين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى النسائي.

وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن عبد الله بن نمير، وأبي أسامة، ويحيى بن آدم، ويعقوب بن إبراهيم، وغيرهم سماهم. ثم قال: روى عنه الجماعة سوى النسائي، وإبراهيم الحربي، وجعفر الطيالسي، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن يعقوب بن شيبة، والنسائي، والخطيب البغدادي.

الرابع: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الأول: عبد العزيز بن محمد، قال الحافظ في (التقريب): عبد العزيز بن محمد بن عبيد الدراوردي أبو محمد الجهني مولاهم، المدني، صدوق، كان يحدث من كتب غيره فيخطئ. قال النسائي: حديثه عن عبيد الله العمري منكر. من الثامنة، مات سنة ست أو سبع وثمانين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال في (تهذيب التهذيب): أبو محمد المدني مولى جهينة. وقال ابن سعد: دراورد قرية بخراسان، وذكر جماعة روى عنهم منهم: زيد بن أسلم، وشريك بن عبد الله بن أبي نمر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وموسى بن عقبة، ويزيد بن الهاد. وذكر جماعة رووا عنه منهم: الشافعي، وابن مهدي، وابن وهب، ووكيع، وإسحاق بن إبراهيم.

وذكر بعض كلام الأئمة فيه ومن ذلك قول أحمد: كان معروفاً بالطلب، وإذا حدث من كتابه فهو صحيح، وإذا حدث من كتب الناس وهِمَ، وكان يقرأ من كتبهم ويخطئ، وربما قلب حديث عبد الله بن عمر يرويها عن عبيد الله بن عمر. ونقل توثيقه عن مالك، وابن معين، والعجلي.

وقال في مقدمة فتح الباري: أبو محمد المدني، أحد مشاهير المحدثين، وثقه يحيى بن معين، وابن المديني. وقال: قلت: روى له في (البخاري) حديثين، قرنه فيهما بعبد العزيز بن أبي حازم وغيره، وأحاديث يسيرة أفرده، لكنه أوردها بصيغة التعليق في المتابعات، واحتج به الباقون. وقال الذهبي في (الميزان): وقال معن بن عيسى: يصلح الدراوردي أن يكون أمير المؤمنين.

الخامس: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثاني: بهز وهو ابن أسد، قال الحافظ في (التقريب): بهز بن أسد العمي، أبو الأسود البصري، ثقة ثبت من التاسعة، مات بعد المائتين وقيل قبلها، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن شعبة، وحماد بن سلمة، ووهيب بن خالد، وسليم بن حيان، وسليمان بن المغيرة، وهارون بن موسى النحوي، ويزيد بن إبراهيم التستري، وجرير بن حازم، وغيرهم. وعنه أحمد بن حنبل، وعبد الرحمن بن بشر بن الحكم، وبندار، ويعقوب الدورقي، ومحمد بن حاتم السمين، وعبد الله بن هاشم الطوسي، وأبو بكر بن خلاد، وعدة.

قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت. وذكر غير ذلك من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن معين، وأبي حاتم، وابن سعد، ويحيى بن سعيد، والعجلي. وقال في ختام ترجمته: وقال أحمد: هؤلاء الثلاثة أصحاب الشكل والنقط، يعني بهزا وحبان وعفان.

السادس: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثالث: يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال الحافظ في (التقريب): يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو يوسف المدني، نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار التاسعة، مات سنة ثمان ومائتين. ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: أبوه، وشعبة، وابن أخي الزهري، والليث، وعبد العزيز بن المطلب. وجماعة رووا عنه منهم: أحمد، وعليّ، وإسحاق، وابن معين، والمسندي، والحلواني. ونقل توثيقه عن ابن معين، والعجلي، وابن سعد.

السابع: شيخ شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثاني: وهيب وهو ابن خالد، قال الحافظ في (التقريب): وهيب بالتصغير، ابن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم، أبو بكر البصري، ثقة ثبت، لكنه تغير قليلاً بأخرة، من السابعة، مات سنة خمس وستين ـ أي بعد المائة وقيل بعدها ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: حميد الطويل، وأيوب، وخالد الحذاء، وموسى بن عقبة. وجماعة رووا عنه منهم: إسماعيل بن علية، وابن المبارك، وابن مهدي، والقطان، ويحيى بن آدم، وبهز بن أسد، وحبان بن هلال، وعفان، وعارم، وهدبة بن خالد. وذكر بعض كلام الأئمة في الثناء عليه، ونقل توثيقه عن أبي داود، والعجلي، وأبي حاتم، وابن سعد.

الثامن: شيخ شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثالث: عبد العزيز بن المطلب، قال الحافظ في (التقريب): عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي، أبو طالب، المدني، صدوق، من السابعة، مات في خلافة المنصور. ورمز لكون البخاري روى له تعليقاً، ولكونه من رجال مسلم، والترمذي، وابن ماجه.

وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أبيه، وأخيه الحكم، وموسى بن عقبة، وغيرهم سماهم. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: يعقوب بن إبراهيم بن سعد، وأبو عامر العقدي، وإسماعيل بن أبي أويس. ثم قال: قال ابن معين: صالح. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال محمد بن المثنى: ما سمعت ابن مهدي يحدث عنه. وقال الذهبي في (الميزان): قال أبو عبد الله الحاكم: هو صدوق، استشهد به مسلم في مواضع. ثم قال الذهبي. قلت: منها عن سهيل، وعن صفوان بن سليم، وموسى بن عقبة، وعنه يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ومعن، وإسماعيل بن أبي أويس، وابن أبي فديك. انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.

التاسع: ملتقى الأسانيد الثلاثة موسى بن عقبة، قال الحافظ في (التقريب): موسى بن عقبة بن أبي عياش ـ بتحتانية معجمة ـ الأسدي مولى آل الزبير، ثقة فقيه، إمام في المغازي، من الخامسة، لم يصح أن ابن معين لينه، مات سنة إحدى وأربعين ـ أي بعد المائة وقيل بعد ذلك ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة

وقال في مقدمة فتح الباري: موسى بن عقبة المدني، مشهور، من صغار التابعين، صنف المغازي وهو من أصح المصنفات في ذلك، ووثقه الجمهور. وقال ابن معين: كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح الكتب. وقال مرة: في روايته عن نافع شيء، ليس هو فيه كمالك وعبيد الله بن عمر. ثم قال الحافظ: قلت: فظهر أن تليين ابن معين له، إنما هو بالنسبة إلى رواية مالك وغيره لا فيما انفرد به، وقد اعتمده الأئمة كلهم. وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: أم خالد بنت سعيد بن العاص زوج الزبير رضي الله عنهما، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، ونافع مولى ابن عمر. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، ومحمد وإسماعيل بنا جعفر، ووهيب بن خالد، والسفيانان، وسليمان بن بلال، وابن جريج، والدراوردي. وذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن سعد، ومالك، وأحمد، وابن معين، والعجلي، والنسائي.

العاشر: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال الحافظ في (التقريب): أبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري، المدني، قيل اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل، ثقة مكثر، من الثالثة، مات سنة أربع وتسعين، وكان مولده سنة بضع وعشرين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال النووي في (تهذيب الأسماء واللغات): وهو مدني من كبار التابعين، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة على أحد الأقوال، وقال: واتفقوا على جلالة أبي سلمة وإمامته، وعظيم قدره، وارتفاع منـزلته، روينا عن محمد بن سعد قال: كان ثقة فقيهاً كثير الحديث. وقال أبو زرعة: هو ثقة إمام.

الحادي عشر: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقدم ذكرها في إسناد الحديث الثامن.

المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) ستة من الرواة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم وهم: عائشة رضي الله عنها، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وموسى بن عقبة، ووهيب، وبهز، وعبد العزيز الدراوردي.

(2) ستة من الرواة مدنيون وهم: عائشة رضي الله عنها، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وموسى بن عقبة، والدراوردي، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد، وعبد العزيز بن المطلب.

(3) اثنان من الرواة تابعيان وهما: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وموسى بن عقبة، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.

(4) ملتقى الأسانيد الثلاثة موسى بن عقبة، والإسناد الأول عال بالنسبة إلى الإسنادين الآخرين، لأنه بين مسلم وموسى بن عقبة في الإسناد الأول واسطتان، وبينه وبينه في كل من الإسنادين الآخرين ثلاثة.

(5) الواسطتان بين مسلم وموسى بن عقبة في الإسناد الأول إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وقد وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث ـ كما تقدم في رجال إسناد الحديث الأول ـ، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وقد قال فيه معن بن عيسى: يصلح أن يكون أمير المؤمنين.

(6) شيخ مسلم في الإسناد الأول هو أيضاً شيخ للبخاري، وأبي داود، والترمذي، والنسائي. وشيخه في الإسناد الثالث حسن الحلواني شيخ للباقين سوى النسائي، فكل من إسحاق بن راهويه وحسن الحلواني شيخ للبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي رووا عنهما مباشرة وبدون واسطة، وإسحاق شيخ للنسائي أيضاً، والحلواني شيخ لابن ماجه أيضاً، أما شيخ مسلم في الإسناد الثاني محمد بن حاتم بن ميمون فهو شيخ لأبي داود أيضاً، ولم يرو له الأربعة الباقون.

(7) بهز بن أسد وصفه أحمد بن حنبل بصفة هي من أرفع صيغ التعديل حيث قال فيه: إليه المنتهى في التثبت.

(8) اثنان من الرواة وافقت كنية كل منهما اسم أبيه وهما: شيخ شيخه في الإسناد الأول الدراوردي اسم أبيه محمد وكنيته أبو محمد، وشيخه في الإسناد الثالث حسن الحلواني اسم أبيه عليّ وكنيته أبو عليّ.

(9) قال مسلم ـ رحمه الله ـ في روايته عن شيخيه إسحاق بن راهويه وحسن الحلواني: (حدثنا) وقال في روايته عن شيخه محمد بن حاتم (حدثني)، فالصيغة الأولى لكونه سمع منه هو وغيره، والصيغة الثانية لكونه سمع منه وحده، وصيغة التحديث مع إفراد الضمير يستعملها مسلم كثيراً في الرواية عن شيخه محمد بن حاتم بن ميمون.

(10) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف اشتهر بكنيته، واختلف في اسمه فقيل: عبد الله، وقيل: إسماعيل، وقيل: إن اسمه كنيته.

(11) أبو سلمة بن عبد الرحمن هو سابع الفقهاء السبعة المشهورين في المدينة، على ما قاله الحاكم أبو عبد الله. وقال ابن المبارك: سابعهم سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وقال أبو الزناد: السابع أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.

(12) أبو سلمة بن عبد الرحمن سابع الفقهاء السبعة على ما قاله الحاكم، وقد توفي سنة أربع وتسعين، وفي هذه السنة توفي أيضاً أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، سابع الفقهاء السبعة على ما قاله أبو الزناد، وفيها توفي من الفقهاء السبعة، سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.

(13) في الإسناد راويان تغير حفظهما في آخر حياتهما وهما: إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، ووهيب بن خالد، وقد تقدم كلام النووي أن ما كان في الصحيحين عن المختلطين محمول على أنه أخذ عنهم قبل الاختلاط.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) قوله (سددوا وقاربوا وأبشروا)، قال النووي في شرح صحيح مسلم: ومعنى (سددوا وقاربوا): اطلبوا السداد واعملوا به، وإن عجزتم عنه فقاربوه أي: اقربوا منه، والسداد الصواب، وهو بين الإفراط والتفريط، فلا تغلوا ولا تقصروا. انتهى.

وقال الحافظ في (فتح الباري) في بيان معنى السداد: ومعناه: اقصدوا السداد أي الصواب، وقال: اعملوا واقصدوا بعملكم الصواب، أي اتباع السنة من الإخلاص وغيره، ليقبل عملكم فتنـزل عليكم الرحمة. وقال في معنى (وقاربوا): أي لا تُفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة، لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل فتفرِّطوا. انتهى. والسداد الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هو الحق والصواب، ولابد فيه من أمرين: (أحدهما) أن يكون العمل لله خالصاً، لا شركة لغيره فيه. و(الثاني) أن يكون على النهج الذي جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم . وهذان هما الركنان الأساسيان للعمل الصالح، إخلاص واتباع، إخلاص العبادة لله وحده، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا إشراك بغير الله، ولا إبتداع في الدين ما لم يأذن به الله.

وقوله صلى الله عليه وسلم : (وأبشروا) أي إذا قمتم بما أمرتم به من سلوك سبيل السداد فأبشروا بالثواب الجزيل، الذي يتفضل الله به على من أخلص له العبادة، وسار على الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.

(2) قوله (فإنه لن يدخل الجنة أحدًا عمله): وردت هذه الجملة بألفاظ متعددة متقاربة، ومعناها: أن دخول الجنة والتمتع بنعيمها لا يحصل للعبد بمجرد العمل، بل بتفضل الله وإحسانه، فهو الذي وفق العبد للعمل الصالح وأعانه على فعله، وامتن عليه بقبوله، وتفضل بالمثوبة عليه، فله الفضل والمنة قبل العمل وعنده وبعده،(وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ)، ( وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا).

قال النووي في شرح هذا الحديث ونحوه من الأحاديث في (صحيح مسلم): ((وفي ظاهر هذه الأحاديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحداً الثواب والجنة بطاعته، وأما قوله تعالى: ( أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( [الأحقاف:14]،) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( [الزخرف:72]. ونحوهما من الآيات الدالة على أن الأعمال يدخل بها الجنة فلا يعارض هذه الأحاديث، بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها، وقبولها، برحمة الله تعالى وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل وهو مراد الأحاديث، ويصح أنه دخل بالأعمال أي بسببها وهي من الرحمة، والله أعلم)). انتهى.

(3) قوله (قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله منه برحمة): قال الحافظ في (الفتح): قال الكرماني: إذا كان كل الناس لا يدخلون الجنة إلاّ برحمة الله، فوجه تخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر، أنه إذا كان مقطوعاً له بأنه يدخل الجنة ثم لا يدخلها إلا برحمة الله، فغيره يكون في ذلك بطريق الأولى.

ثم قال الحافظ: قلت: وسبق إلى تقرير هذا المعنى الرافعي في أماليه فقال: لما كان أجر النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعة أعظم، وعمله في العبادة أقوم، قيل له: ولا أنت؟ أي لا ينجيك عملك مع عظم قدره، فقال: لا، إلا برحمة الله. وقد ورد جواب هذا السؤال بعينه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم من حديث جابر بلفظ: ((لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار، ولا أنا، إلا برحمة من الله تعالى)). انتهى.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم: ومعنى يتغمدني برحمته: يلبسنيها ويغمدني بها، ومنه أغمدت السيف وغمدته إذا جعلته في غمده وسترته به. انتهى.

(4) قوله (واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل): دال على أن العمل الذي يدوم عليه فاعله ولو كان قليلاً، هو أحب العمل إلى الله، وذلك أن العبد إذا داوم على الأعمال الصالحة، فهو حري أن يختم الله له بخير، فإنه إذا وافاه الأجل يوافيه على حالة حسنة، بخلاف الذي لا يداوم على العمل الصالح وينقطع عنه، فقد يوافيه أجله في حالة الترك.

وقال الحافظ في (الفتح): والحكمة في ذلك: أن المديم للعمل يلازم الخدمة فيكثر التردد إلى باب الطاعة كل وقت، ليجازى بالبر لكثرة تردده، فليس هو كمن لازم الخدمة مثلاً ثم انقطع، وأيضاً فالعامل إذا ترك العمل صار كالمعرض بعد الوصل، فيتعرض للذم والجفاء، ومن ثم ورد الوعيد في حق من حفظ القرآن ثم نسيه، والمراد بالعمل هنا الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات. انتهى.

(5) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) الأمر بسلوك طريق السداد.

(2) تنبيه سالكي طريق السداد إلى الحذر من الإفراط والتفريط.

(3) بشارة من سلك طريق السداد بالتفضل عليه والإحسان إليه من الرب سبحانه وتعالى.

(4) أن العامل لا يعول على عمله في دخول الجنة والنجاة من النار.

(5) تفضل الله على عباده وإحسانه إليهم.

(6) أن دخول الجنة ليس عوضاً عن العمل بل برحمة الله وفضله.

(7) الرد على المعتزلة القائلين أن الجنة عوض عن العمل وأن دخولها بمحض الأعمال.

(8) حرص الصحابة رضي الله عنه على معرفة الحق وسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عما يخفى عليهم.

(9) مراجعة المتعلم العالم في إيضاح المجمل وتفسير المشكل.

(10) أن قوله صلى الله عليه وسلم : ((لن يدخل الجنة أحداً عمله)). من العام الباقي على عمومه.

(11) دخول النبي صلى الله عليه وسلم في خطابه للأمة ما لم يدل دليل على عدم الدخول.

(12) حث المسلم على أن يعمل الصالحات وأن يكون راجياً ثواب الله ورحمته خائفاً من عذابه وعقوبته.

(13) الإشارة إلى الحث على المداومة على العمل.

(14) أن العمل الدائم ولو قل هو أحب العمل إلى الله.

(15) التنبيه إلى أنه إذا جمع في العمل بين الدوام والكثرة بدون إفراط كان أفضل.

(16) أن الأعمال الصالحة محبوبة لله.

(17) إثبات صفة المحبة لله على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى.

(18) أن الأعمال الصالحة متفاوتة في محبة الله إياها.

ابو وليد البحيرى
2019-03-01, 12:31 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (38)



حديث ((ليس أحد يحاسب إلا هلك....))

قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها من صحيحه وحدثني عبد الرحمن بن بشر بن الحكم العبدي حدثنا يحيى ـ يعني ابن سعيد القطان ـ حدثنا أبو يونس القشيري حدثنا ابن أبي ملكية عن القاسم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس أحد يحاسب إلا هلك، قلت، يا رسول الله أليس الله يقول: حساباً يسيراً؟ قال: ذاك العرض، ولكن من نوقش الحساب هلك)).
وحدثني عبد الرحمن بن بشر حدثني يحيى ـ وهو القطان ـ عن عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من نوقش الحساب هلك))، ثم ذكر بمثل حديث أبي يونس.
المبحث الأول: التخريج:
روى مسلم ـ رحمه الله ـ هذا الحديث من هذين الطريقين، ورواه أيضاً من طريقين غيرهما، فقال قبل هذين الطريقين: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعليّ بن حجر جميعاً عن إسماعيل، قال أبو بكر: حدثنا ابن علية عن أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من حوسب يوم القيامة عذب. فقلت: أليس قد قال الله عزوجل: ( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً)؟ فقال: ليس ذاك الحساب، إنما ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب)).
حدثني أبو الربيع العتكي وأبو كامل قالا: حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب بهذا الإسناد نحوه.
وأخرجه البخاري في أربعة مواضع من صحيحه، أولها في (كتاب العلم، باب من سمع شيئاً فراجع حتى يعرفه). والثاني في (كتاب التفسير، باب ( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً). والثالث والرابع في (كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب).
وأخرجه أبو داود في (كتاب الجنائز) من سننه. وأخرجه الترمذي في (كتاب صفة القيامة)، وفي (كتاب التفسير) من جامعه.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها، ومن طريق نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها، ومن طريق عبيد الله بن أبي زياد عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها، ومن طريق بكار بن عبد الله بن وهب الصنعاني عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها، ومن طريق عبد الجبار بن ورد عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ مسلم عبد الرحمن بن بشر، قال الحافظ في (التقريب): عبد الرحمن بن بشر بن الحكم العبدي، أبو محمد النيسابوري، ثقة، من صغار العاشرة، مات سنة ستين ـ أي بعد المائتين وقيل بعدها ـ، ورمز لكونه من رجال البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه.
وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: سفيان بن عيينة، وعبد الرزاق بن همام، وبهز بن أسد، ويحيى بن سعيد القطان. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: البخاري، وإبراهيم الحربي، وابن خزيمة. ثم ذكر بعض الثناء عليه، وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه البخاري ثلاثة أو أربعة، ومسلم ثلاثة وعشرين.
الثاني: يحيى بن سعيد القطان، قال في (التقريب): يحيى بن سعيد بن فروخ ـ بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وسكون الواو ثم معجمة ـ التميمي، أبو سعيد القطان البصري، ثقة متقن، حافظ، إمام قدوة، من كبار التاسعة، مات سنة ثمان وتسعين ـ أي بعد المائة ـ وله ثمان وسبعون، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث التاسع من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
الثالث: أبو يونس القشيري، قال الحافظ في (التقريب): حاتم بن أبي صغيرة ـ بكسر الغين المعجمة ـ أبو يونس البصري، وأبو صغيرة اسمه مسلم وهو جده لأمه، وقيل زوج أمه، ثقة من السادسة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): القشيري أو الباهلي مولاهم، البصري، وأبو صغيرة أبو أمه أو زوج أمه. روى عن عطاء، وعمرو بن دينار، وابن أبي مليكة، وسماك بن حرب، والنعمان بن سالم، وأبي قزعة، وغيرهم. وعنه شعبة، وابن المبارك، وابن أبي عدي، والقطان، وروح بن عبادة، وعبد الله بن بكر السهمي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وغيرهم. ونقل توثيقه عن ابن معين، وأبي حاتم، والنسائي، وأحمد. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
الرابع: عثمان بن الأسود، قال في (التقريب): عثمان بن الأسود بن موسى المكي مولى بني جمح، ثقة ثبت، من كبار السابعة، مات سنة ستين ـ أي بعد المائة أو قبلها ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: سليمان الأحول، وابن أبي مليكة، وسالم بن عبد الله بن عمر، وسعيد بن جبير. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: الثوري، وعبد الله بن إدريس، وابن المبارك، والقطان. ونقل توثيقه عن يحيى القطان، وأحمد، وابن معين، وأبي حاتم، وابن سعد، والعجلي، وابن نمير.
الخامس: ابن أبي مليكة، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة بالتصغير، ابن عبد الله بن جدعان، اسم أبي مليكة زهير التيمي، المدني، أدرك ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثقة فقيه، من الثالثة، مات سنة سبع عشرة ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وفي (تهذيب التهذيب) و(الخلاصة) و(الجمع بين الصحيحين): المكي، وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم من الصحابة والتابعين منهم: العبادلة الأربعة، وأسماء، وعائشة، وأم سلمة رضي الله عنه ، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: حميد الطويل، وأيوب، وجرير بن حازم، وعثمان بن الأسود، وأبو يونس حاتم بن أبي صغيرة، ونافع بن عمر الجمحي، والليث. ونقل توثيقه عن أبي زرعة، وأبي حاتم، وابن سعد، وقال: قال العجلي: مكي تابعي ثقة. وقال ابن حبان في (الثقات): رأى ثمانين من الصحابة.
السادس: القاسم بن محمد، قال الحافظ في (التقريب): القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي، ثقة، أحد الفقهاء بالمدينة، قال أيوب: ما رأيت أفضل منه. من كبار الثالثة، مات سنة ست ومائة على الصحيح، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أبيه، وعمته عائشة، وعن العبادلة، وعبد الله بن جعفر، وأبي هريرة، وغيرهم سماهم. ثم قال: روى عنه ابنه عبد الرحمن، والشعبي وسالم بن عبد الله بن عمر وهما من أقرانه، ويحيى وسعد بنا سعيد الأنصاري، وابن أبي مليكة، ونافع مولى ابن عمر، والزهري، وغيرهم سماهم. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه رحمه الله.
السابع: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقد مرَّ ذكرها في إسناد الحديث الثامن.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) الرواة السبعة في الإسنادين خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلا شيخ مسلم عبد الرحمن بن بشر فلم يخرج له الترمذي والنسائي.
(2) في الإسناد مدنيان وهما: عائشة وابن أخيها القاسم بن محمد، ومكيان وهما: ابن أبي مليكة وعثمان بن الأسود، وبصريان وهما: أبو يونس القشيري ويحيى بن سعيد القطان، والسابع نيسابوري وهو عبد الرحمن بن بشر شيخ مسلم.
(3) في الإسناد راو اشتهر باسمه وبكنيته وهو: أبو يونس القشيري واسمه حاتم بن أبي صغيرة، ولهذا يأتي ذكره بالكنية أحياناً وأحياناً بالاسم.
(4) ذكر الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر): أن من المهم في علم المصطلح معرفة من نسب إلى غير أبيه، وفي هذا الإسناد شاهد لذلك: فأبو يونس القشيري اسمه حاتم بن أبي صغيرة وأبو صغيرة أبو أمه أو زوج أمه.
(5) في الإسناد راو اشتهر بالنسبة إلى جده وهو: ابن أبي مليكة فهو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة.
(6) في الإسناد راو هو أحد الفقهاء السبعة في المدينة وهو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
(7) في الإسناد تابعيان وهما: القاسم بن محمد، وابن أبي مليكة، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.
(8) ابن أبي مليكة يروي عن القاسم عن عائشة في الإسناد الأول، ويروى عن عائشة كما في الإسناد الثاني، وروايته عن القاسم من رواية الأقران.
(9) يحيى بن سعيد القطان قال فيه الإمام أحمد: كان إليه المنتهى في التثبت بالبصرة. وهي من أرفع مراتب التعديل.
(10) هذا الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الدار قطني على البخاري ومسلم في الصحيحين. قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: هذا مما استدركه الدار قطني على البخاري ومسلم، وقال: اختلف العلماء عن ابن أبي مليكة، فروي عنه عن عائشة، وروى عنه عن القاسم عنها، وهذا استدراك ضعيف لأنه محمول على أنه سمع من القاسم عن عائشة وسمعه أيضاً منها بلا واسطة فرواه بالوجهين، وقد سبقت نظائر هذا. انتهى.
وقال الحافظ في مقدمة الفتح: قال الدار قطني: وأخرجا جميعاً حديث أيوب وعثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة عن عائشة: ((من حوسب عذب)). وأخرجه البخاري من حديث نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة كذلك. وأخرجاه من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة على الاختلاف. ثم قال الحافظ: قلت: في رواية البخاري من حديث عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة: سمعت عائشة، فالظاهر أنه أخرجه على الاحتمال بأن يكون ابن أبي مليكة سمعه من القاسم عن عائشة، ثم سمعه من عائشة فحدث به على الوجهين كما في نظائره.


المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) بين صلى الله عليه وسلم أن الحساب الذي يكون صاحبه هالكاً هو الحساب مع المناقشة، وذلك بعد أن استشكلته عائشة مع قوله تعالى: )فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه ِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ) حيث أن الآية أثبتت الحساب مع النجاة، وبهذا البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبين أنه لا منافاة بين الآية والحديث، فالهلاك الذي يكون لمن حوسب فيما إذا نوقش الحساب، والنجاة التي تكون لمن حوسب حساباً يسيراً فيمن لم يناقش الحساب، وهذا هو وجه الجمع بين الآية والحديث.
(2) قوله صلى الله عليه وسلم : ((ذاك العرض)): الإشارة إلى الحساب الذي تضمنته الآية. وقوله: (نوقش) من المناقشة، وأصلها الاستخراج ومنه نقش الشوكة إذا استخرجها.
(3) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
(1) فقه عائشة ودقة فهمها رضي الله عنها.
(2) ما كانت عليه أم المؤمنين رضي الله عنها من الحرص على تفهم معاني الحديث.
(3) أن الصحابة رضي الله عنه جمعوا بين العلم والعمل.
(4) أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتضجر من المراجعة في العلم.
(5) مراجعة المتعلم للعالم وسؤاله عما يشكل.
(6) مقابلة السنة بالكتاب والكتاب بالسنة.
(7) إثبات الحساب.
(8) تفاوت الناس في الحساب.
(9) جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
(10) أن السنة مفسرة ومبينة للكتاب.
(11) إثبات العرض.
(12) إثبات البعث لأن ما ذكر في الحديث دال عليه وتابع له.
(13) الإيمان بالغيب.

(14) أن مثل سؤال عائشة رضي الله عنها ليس داخلاً فيما نهي عنه في قوله: ( اَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء) الآية.
(15) أن من حصلت له المناقشة في الحساب هلك.
(16) أن كل ناج من الهلاك لم يناقش الحساب.
(17) تفضل الله وامتنانه على العباد وإحسانه إليهم.

ابو وليد البحيرى
2019-03-01, 12:35 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (39)


الحلقة ( 39) حديث (قولوا: اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد.....)



قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الصلاة من صحيحه:حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار ـ واللفظ لابن المثنى ـ قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الحكم قال: سمعت ابن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)).
حدثنا زهير بن حرب وأبو كريب قالا حدثنا وكيع عن شعبة ومسعر عن الحكم بهذا الإسناد مثله، وليس في حديث مسعر: ألا أهدي لك هدية؟.
حدثنا محمد بن بكار حدثنا إسماعيل بن زكريا عن الأعمش وعن مسعر وعن مالك بن مغول كلهم عن الحكم بهذا الإسناد مثله غير أنه قال: وبارك على محمد، ولم يقل: اللهم.
المبحث الأول: التخريج:
أخرج مسلم ـ رحمه الله ـ هذا الحديث من هذه الطرق الثلاث عن الحكم ـ وهو ابن عتيبة ـ عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة رضي الله عنه . وأخرجه من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه ولفظه: قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم)).
وأخرجه من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه ولفظه: قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)).
وأخرجه البخاري من حديث كعب بن عجرة في (كتاب الأنبياء) من صحيحه فقال: حدثنا قيس بن حفص وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا أبو قرة مسلم بن سالم الهمداني قال:حدثني عبد الله بن عيسى سمع عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم . فقلت: بلى فاهدها إليّ. فقال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ فإن الله علمنا كيف نسلم. قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)).
وأخرجه في تفسير سورة الأحزاب فقال: حدثني سعيد بن يحيى حدثنا أبي حدثنا مسعر عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة رضي الله عنه ، قيل: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد، فذكره بمثل لفظه في صحيح مسلم. وأخرجه في (كتاب الدعوات) فقال: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا الحكم قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية، إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد)). ولفظه كلفظ مسلم أيضاً. وأخرجه من حديث أبي حميد الساعدي في موضعين، ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في موضعين أيضاً.
وأخرجه أبو داود في (كتاب الصلاة) من سننه (باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد)، فقال: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: قلنا أو قالوا: يا رسول الله أمرتنا أن نصلي عليك وأن نسلم عليك، فأما السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد))، حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا شعبة بهذا الحديث قال: ((صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم))، حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن بشر عن مسعر عن الحكم بإسناده بهذا قال: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)). قال أبو داود: رواه الزبير بن عدي عن ابن أبي ليلى كما رواه مسعر إلا أنه قال: ((كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد)) وساق مثله. وأخرجه أيضاً من حديث أبي حميد الساعدي، ومن حديث أبي مسعود الأنصاري، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
وأخرجه الترمذي في (كتاب الصلاة، باب ما جاء في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم )، فقال: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو أسامة عن مسعر والأجلح ومالك بن مغول عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: قلنا: يا رسول الله هذا السلام عليك قد علمنا، فكيف الصلاة عليك؟ قال: ((قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد)). قال محمود: قال أبو أسامة: وزادني زائدة عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ونحن نقول: وعلينا معهم. قال: وفي الباب عن عليّ، وأبي حميد، وأبي مسعود، وأبي سعيد، وطلحة، وبريدة، وزيد بن خارجة ويقال ابن حارثة، وأبي هريرة. قال أبو عيسى: حديث كعب بن عجرة حديث حسن صحيح، وعبد الرحمن بن أبي ليلى كنيته أبو عيسى، وأبو ليلى اسمه يسار.
وأخرج النسائي في (كتاب الصلاة) من سننه حديث كعب بن عجرة من ثلاث طرق، وأخرجه أيضاً من حديث أبي مسعود الأنصاري، ومن حديث طلحة بن عبيد الله، ومن حديث زيد بن خارجة، ومن حديث أبي سعيد الخدري، ومن حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه .
وأخرج حديث كعب بن عجرة، ابن ماجه في سننه فقال في (كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها): حدثنا عليّ بن محمد حدثنا وكيع حدثنا شعبة (ح) وحدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة عن الحكم قال: سمعت ابن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية، خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا: قد عرفنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد)). وأخرجه أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري، ومن حديث أبي حميد الساعدي، ومن حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
وأخرجه الدارمي في سننه من حديث كعب بن عجرة، ومن حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنهما. وأخرج حديث كعب بن عجرة الإمام أحمد في (المسند) في أكثر من موضع.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ مسلم محمد بن المثنى، تقدم في رجال إسناد الحديث الثامن.
الثاني: شيخ مسلم محمد بن بشار، قال في (التقريب): محمد بن بشار بن عثمان العبدي البصري، أبو بكر بندار، ثقة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين ـ أي بعد المائتين ـ وله بضع وثمانون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته وترجمة شيخه محمد بن جعفر في رجال إسناد الحديث الثاني عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
الثالث: شيخ مسلم زهير بن حرب، تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.
الرابع: شيخ مسلم أبو كريب، تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.
الخامس: شيخ مسلم محمد بن بكار، قال الحافظ في (التقريب): محمد بن بكار بن الريان الهاشمي مولاهم، أبو عبد الله البغدادي الرصافي، ثقة، من العاشرة، مات سنة ثمان وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ، وله ثلاث وتسعون سنة، ورمز لكونه من رجال مسلم، وأبي داود.
وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن إسماعيل بن جعفر، وابن المبارك، وفليح بن سليمان، وإسماعيل بن زكريا، وغيرهم سماهم. ثم قال: روى عنه مسلم، وأبو داود، وابنه إبراهيم، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن معين، والدار قطني، وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه مسلم تسعة أحاديث.
السادس: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الأول: محمد بن جعفر، قال الحافظ في (التقريب): محمد بن جعفر الهذلي البصري، المعروف بغندر، ثقة، صحيح الكتاب، إلاّ أن فيه غفلة، من التاسعة، مات سنة ثلاث أو أربع وتسعين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
السابع: شيخ شيخي مسلم في الإسناد الثاني: وكيع بن الجراح، تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.
الثامن: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثالث: إسماعيل بن زكريا، قال الحافظ في (التقريب): إسماعيل بن زكريا بن مرة الخلقاني ـ بضم المعجمة وسكون اللام بعدها قاف ـ أبو زياد الكوفي، لقبه شقوصاً ـ بفتح المعجمة وضم القاف الخفيفة وبالمهملة ـ صدوق يخطئ قليلاً، من الثامنة، مات سنة أربع وسبعين ـ أي بعد المائة وقيل قبلها ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أبي بردة بن أبي موسى، وعاصم الأحول، والأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبي إسحاق الشيباني، وطلحة بن يحيى، ومالك بن مغول، ومسعر، وغيرهم سماهم. ثم قال: وعنه سعيد بن منصور، وأبو الربيع الزهراني، ومحمد بن الصباح الدولابي، ومحمد بن بكار بن الريان، ولُوَين، وعدة.
وقال في مقدمة فتح الباري: اختلف فيه قول أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وقال النسائي: أرجو أن لا بأس به، ووثقه أبو داود. وقال أبو حاتم: صالح. وقال ابن عدي : هو حسن الحديث، يكتب حديثه. ثم ذكر أن له في البخاري أربعة أحاديث، ثلاثة ذكرها من رواية غيره بمتابعته، والرابع أخرجه عن محمد بن الصباح عنه عن أبي بردة عن جده أبي موسى عن أبي موسى في قصة الرجل الذي أثنى عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((قطعتم ظهر الرجل))، ثم قال: ولهذا شاهد من حديث أبي بكرة وغيره، والله أعلم. انتهى.
التاسع: شعبة وهو ابن الحجاج، قال الحافظ في (التقريب): شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم، أبو بسطام الواسطي ثم البصري، ثقة، حافظ، متقن. كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث. وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال، وذبَّ عن السنة، وكان عابداً، من السابعة، مات سنة ستين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث العاشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
العاشر: مسعر وهو ابن كدام، قال الحافظ في (التقريب): مسعر بن كدام ـ بكسر أوله وتخفيف ثانيه ـ ابن ظهير الهلالي، أبو سلمة الكوفي، ثقة، ثبت، فاضل، من السابعة، مات سنة ثلاث أو خمس وخمسين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: سعيد بن أبي بردة، وعبد الملك بن عمير، والحكم بن عتيبة. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: ابن عيينة، وابن المبارك، وإسماعيل بن زكريا، وابن نمير، ووكيع. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قول شعبة: كنا نسمي مسعر المصحف. وقول إبراهيم بن سعيد الجوهري: كان يسمى الميزان. وقول عبد الله بن داود: كان مسعر يسمى المصحف، لقلة خطئه وحفظه. وقول ابن أبي حاتم: سألت أبي عن مسعر إذا خالفه الثوري فقال: الحكم لمسعر، فإنه المصحف. وقول وكيع: شكُّ مسعر كيقين غيره. وقول ابن أبي حاتم: سئل أبي عن مسعر وسفيان، فقال: مسعر أعلى إسناداً، وأجود حديثاً، وأتقن، ومسعر أتقن من حماد بن زيد. ونقل توثيقه عن أحمد، والعجلي، وابن معين، وأبي زرعة.
وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): قال يحيى القطان: ما رأيت أثبت من مسعر. وقال أحمد بن حنبل: الثقة مثل شعبة ومسعر. انتهى.
وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب) في ترجمة حماد بن زيد: وقال وكيع: وقيل له أيهما أحفظ ـ أي الحمادين، حماد بن زيد وحماد بن سلمة ـ؟ فقال: حماد بن زيد ما كنا نشبهه إلاّ بمسعر.
الحادي عشر: الأعمش. تقدم في رجال إسناد الحديث الثالث.
الثاني عشر: مالك بن مغول، قال الحافظ في (التقريب): مالك بن مغول ـ بكسر أوله وسكون المعجمة وفتح الواو ـ الكوفي، أبو عبد الله، ثقة ثبت، من كبار السابعة، مات سنة تسع وخمسين ـ أي بعد المائة على الصحيح ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في (تهذيب التهذيب): البجلي أبو عبد الله الكوفي، ثم ذكر جماعة روى عنهم منهم: أبو إسحاق السبيعي، ونافع مولى ابن عمر، والحكم بن عتيبة، وعبد الله بن بريدة، وطلحة بن مصرف. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: شعبة، ومسعر، والثوري، و زائدة، وابن عيينة، وإسماعيل بن زكريا، ويحيى بن سعيد القطان، ووكيع، وابن المبارك أبو معاوية، وابن نمير، وأبو أسامة. ثم ذكر كثيرا من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، وأبي حاتم، والنسائي، وأبي نعيم، وابن سعد. وقال: وقال ابن حبان في (الثقات): كان من عبّاد أهل الكوفة ومتقنيهم.
الثالث عشر: الحكم وهو ابن عتيبة، قال الحافظ في (التقريب): الحكم بن عتيبة ـ بالمثناة ثم الموحدة مصغراً ـ أبو محمد الكندي الكوفي، ثقة، ثبت، فقيه، إلاّ أنه ربما دلّس، من الخامسة، مات سنة ثلاث عشرة ـ أي بعد المائة أو بعدها ـ وله نيف وستون، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في (تهذيب التهذيب): الكندي مولاهم، أبو محمد، ويقال أبو عبد الله، ويقال أبو عمر الكوفي، وقال: روى عن أبي جحيفة، وزيد بن أرقم وقيل لم يسمع منه، وعبد الله بن أبي أوفى، هؤلاء صحابة، وشريح القاضي، وقيس بن أبي حازم، وابن أبي ليلى، وغيرهم من التابعين سماهم. ثم قال: وعنه الأعمش، ومنصور، ومحمد بن جحادة، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو إسحاق الشيباني، وقتادة، وغيرهم من التابعين، وأبان بن صالح، وحجاج بن دينار، وسفيان بن حسين، والأوزاعي، ومسعر، وشعبة، وأبو عوانة، وعدة. ثم ذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن مهدي، وابن معين، وأبي حاتم، والنسائي، والعجلي، وابن سعد، ويعقوب بن سفيان.
الرابع عشر: ابن أبي ليلى، قال الحافظ في (التقريب): عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، المدني ثم الكوفي، ثقة، من الثانية، اختلف في سماعه من عمر، مات بوقعة الجماجم سنة ست وثمانين، وقيل غرق، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في (تهذيب التهذيب): الأنصاري الأوسي، أبو عيسى الكوفي، والد محمد، ولد لست بقين من خلافة عمر، روى عن أبيه، وعمر، وعثمان، وعليّ، وسعد، وحذيفة، وكعب بن عجرة، وغيرهم سماهم. ثم قال: وعنه ابنه عيسى، وابن ابنه عبد الله بن عيسى، والشعبي، وثابت البناني، والحكم بن عتيبة، وغيرهم سماهم.
وقال النووي في (تهذيب الأسماء): واتفقوا على توثيقه وجلالته. وقال في شرحه لأول حديث في مقدمة صحيح مسلم وهو من رجال إسناده: وأما عبد الرحمن بن أبي ليلى فإنه من أجلِّ التابعين. وقال: وأما ابن أبي ليلى الفقيه، المتكرر في كتب الفقه، والذي له مذهب معروف، فاسمه محمد وهو ابن عبد الرحمن هذا، وهو ضعيف عند المحدثين، والله أعلم. انتهى.
الخامس عشر: كعب بن عجرة، قال الحافظ في (التقريب): كعب بن عجرة الأنصاري، المدني، أبو محمد، صحابي مشهور، مات بعد الخمسين وله نيف وسبعون، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.
وقال الخزرجي في (الخلاصة): روى سبعة وأربعين حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بمثلهما. وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري: أن له في صحيح البخاري حديثين. وقال في (تهذيب التهذيب): أبو محمد، وقيل أبو عبد الله، وقيل أبو إسحاق. وقال في (الإصابة): روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وعن عمر، وشهد عمرة الحديبية، ونزلت فيه قصة الفدية. وقال ابن عبد البر في (الاستيعاب): فيه نزلت (فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ )، نزل الكوفة ومات بالمدينة سنة ثلاث أو إحدى وخمسين، وقيل سنة اثنتين وخمسين، وهو ابن خمس وسبعين سنة، روى عنه أهل المدينة وأهل الكوفة.
المبحث الثالث: لطائف الأسانيد الثلاثة وما فيها من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الأسانيد الخمسة عشر خرَّج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلاّ شيخ مسلم محمد بن بكار، فلم يرو له مع مسلم سوى أبي داود، وشيخه زهير بن حرب لم يرو له الترمذي.
(2) تسعة من الرواة كوفيون وهم: كعب بن عجرة، وابن أبي ليلى، والحكم بن عتيبة، وأبو كريب، ووكيع، ومسعر، وإسماعيل بن زكريا، والأعمش، ومالك بن مغول، وكعب وابن أبي ليلى هما أيضاً مدنيان. وفيهم أربعة بصريون وهم: محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، ومحمد بن جعفر، وشعبة، وشعبة واسطي أيضاً، أما الراويان الباقيان فهما: محمد بن بكار وهو بغدادي، وزهير بن حرب نسائي ثم بغدادي.
(3) خمسة من الرواة من ذوي الألقاب في المحدثين وهم: محمد بن المثنى ولقبه الزمن، ومحمد بن بشار ولقبه بندار، ومحمد بن جعفر ولقبه غندر، وإسماعيل بن زكريا ولقبه شقوصاً، والخامس الأعمش واسمه سليمان بن مهران.
(4) شيخا مسلم في الإسناد الأوّل محمد بن المثنى ومحمد بن بشار اتفقا في الاسم، وفي أنهما بصريان، وفي سنة الولادة، وسنة الوفاة، وكل منهما شيخ لأصحاب الكتب الستة.
(5) ابن أبي ليلى والحكم بن عتيبة تابعيان، وفي الإسناد الثالث الأعمش وهو من صغار التابعين، ففي الإسناد الثالث ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابن أبي ليلى، والحكم، والأعمش.
(6) الحكم بن عتيبة وصف بالتدليس، وقد صرّح بالسماع في روايته هذا الحديث عن ابن أبي ليلى.
(7) شعبة بن الحجاج وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وصفه بذلك سفيان الثوري.
(8) ذكر الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر): أن من المهم في علم المصطلح معرفة من اختلف في كنيته، وفي الإسناد كعب بن عجرة رضي الله عنه كنيته أبو محمد، وقيل أبو عبد الله وقيل أبو إسحاق كما في (تهذيب التهذيب).
(9) ذكر الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر) أيضاً: أن من المهم معرفة من تعددت كناه، وفي الإسناد الحكم بن عتيبة كنيته أبو محمد، ويقال أبو عبد الله، ويقال أبو عمر، كما في (تهذيب التهذيب).
(10) كعب بن عجرة رضي الله عنه له في صحيح مسلم أربعة أحاديث، وافقه البخاري على إخراج اثنين منها، (أحدهما) هذا الحديث في بيان كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، و(الثاني) في نزول آية الفدية فيه. أما الحديثان اللذان انفرد بهما عن البخاري فأحدهما حديث: ((معقبات لا يخيب قائلهن)) أخرجه في (كتاب المساجد)، و(مواضع الصلاة)، والثاني حديثه في خطبة الجمعة قائماً، أخرجه في (كتاب الجمعة)، فليس له في صحيح مسلم سوى هذه الأحاديث الأربعة، وليس له في صحيح البخاري سوى هذين الحديثين.
(11) محمد بن بكار بن الريان يوافقه في الاسم واسم الأب محمد بن بكار بن الزبير من شيوخ مسلم أيضاً، وذلك من أمثلة (المتفق والمفترق)، وهو أن تتفق أسماء الرواة وأسماء آبائهم وتختلف أشخاصهم، وفائدة معرفة ذلك خشية أن يظن الشخصان شخصاً واحداً.
(12) ابن أبي ليلى المشهور عند المحدثين هو عبد الرحمن الراوي عن كعب بن عجرة، وابن أبي ليلى المشهور عند الفقهاء هو محمد بن عبد الرحمن ينسب إلى جده أبي ليلى.
(13) إسماعيل بن زكريا ليس له في صحيح البخاري سوى أربعة أحاديث كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري.
(14) مسعر هو الرجل الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم في رجال الصحيحين.
(15) في الإسناد راويان يضرب بهما المثل في الحفظ وهما: مسعر بن كدام، وشعبة بن الحجاج.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) قوله (اللهم): قال ابن القيم في (جلاء الأفهام): لا خلاف أن لفظة (اللهم) معناها: يا الله، ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب، فلا يقال: اللهم غفور رحيم، بل يقال: اغفر لي وارحمني. واختلف النحاة في الميم المشددة من آخر الاسم، فقال سيبويه: زيدت عوضاً من حرف النداء، ولهذا لا يجوز عنده الجمع بينهما في اختيار الكلام، فلا يقال: يا اللهم إلاّ فيما ندر كقول الشاعر:




إني إذا ما حدث ألمّا







أقول يا اللهم يا اللهم






كان في محله سمي بدلاً كالألف في: قام وباع، فإنها بدل من الواو والياء، ولا يجوز عنده أن يوصف هذا الاسم أيضاً، فلا يقال: اللهم الرحيم ارحمني، ولا يبدل منه، والضمة التي على الهاء ضمة الاسم المنادى المفرد، وفتحت الميم لسكونها وسكون الميم التي قبلها، وهذا من خصائص هذا الاسم، كما اختص بالتاء في القسم وبدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف وبقطع همزة وصله في النداء وتفخيم لامه وجوباً غير مسبوقة بحرف إطباق. هذا ملخص ما ذكره الخليل وسيبويه، وقيل: الميم عوض عن جملة محذوفة والتقدير: يا الله أمنا بخير، أي اقصدنا، ثم حذف الجار والمجرور وحذف المفعول، فبقي في التقدير: يا الله أم، ثم حذفت الهمزة لكثرة دوران هذا الاسم في الدعاء على ألسنتهم فبقي يا اللهم. وهذا قول الفراء.
وقال: وردَّ هذا البصريون بوجوه، فذكرها وعدتها عشرة. ثم قال: وقيل: زيدت الميم للتعظيم والتفخيم كزيادتها في (زرقم) لشديد الزرقة و(ابنم) في الابن، وهذا القول صحيح ممكن يحتاج إلى تتمة، وقائله لحظ معنى صحيحاً لابد من بيانه: وهو أن الميم تدل على الجمع وتقتضيه ومخرجها يقتضي ذلك، وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى، كما هو مذهب أساطين العربية. ثم أفاض في إيضاح ذلك وقال: وهذا القول الذي اخترناه قد جاء عن غير واحد من السلف، قال الحسن البصري: اللهم مجمع الدعاء. وقال أبو رجاء العطاردي: إن الميم في قول (اللهم) فيها تسعة وتسعون اسما من أسماء الله تعالى. وقال النضر بن شميل: من قال: اللهم، فقد دعا الله بجميع أسمائه.
(2) قوله (اللهم صل على محمد): قال ابن القيم في (جلاء الأفهام): وأصل هذه اللفظة ـ يعني الصلاة ـ في اللغة يرجع إلى معنيين: أحدهما الدعاء والتبريك. والثاني: العبادة. وقال: والدعاء نوعان دعاء عبادة ودعاء مسألة. والعابد داع كما أن السائل داع، وبهما فسر قوله تعالى: ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قيل: أطيعوني أثبكم، وقيل: سلوني أعطكم، وفسر بهما قوله تعالى: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) . وقال: وأما صلاة الله سبحانه على عباده فنوعان: عامة وخاصة، أما العامة: فهي صلاته على عباده المؤمنين، وأما الخاصة فصلاته على أنبيائه ورسله خصوصاً على خاتمهم وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم .
فاختلف الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال، فذكر قول من قال: إنها رحمته. وقول من قال: إنها مغفرته. وضعفهما من وجوه عديدة، واختار أن الصلاة ثناء من المصلي على من يصلي عليه، وتنويه به وإشادة بمحاسنه. وقال: ذكر البخاري في صحيحه عن أبي العالية: صلاة الله على رسوله، ثناؤه عليه عند الملائكة. وقال في معرض الكلام على صلاة الله وملائكته على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر عباده المؤمنين بأن يصلوا عليه، بعد أن رد أن يكون المعنى الرحمة والاستغفار: بل الصلاة المأمور بها فيها هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته، وهي ثناء عليه، وإظهار لفضله وشرفه، وإرادة تكريمه وتقريبه، فهي تتضمن الخبر والطلب، وسمي هذا السؤال والدعاء منا نحن صلاة عليه لوجهين: أحدهما: أنه يتضمن ثناء المصلي عليه، والإشادة بذكر شرفه وفضله، والإرادة والمحبة لذلك من الله، فقد تضمنت الخبر والطلب. والوجه الثاني: أن ذلك سمي صلاة منا، لسؤالنا من الله أن يصلي عليه، فصلاة الله ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به. انتهى.
وقال الحافظ في (الفتح): وأولى الأقوال ما تقدم عن أبي العالية: أن معنى صلاة الله على نبيه ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه، طلب ذلك له من الله تعالى. والمراد طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة.
(3) قوله (وعلى آل محمد): آل النبي صلى الله عليه وسلم ، اختلف فيهم على أربعة أقوال، ذكرها ابن القيم في (جلاء الأفهام). الأول: هم الذين حرمت عليهم الصدقة. قال ابن القيم: هو منصوص الشافعي ـ رحمه الله ـ وأحمد والأكثرين، وهو اختيار جمهور أصحاب أحمد والشافعي.
الثاني: آله أزواجه وذريته خاصة، حكاه ابن عبد البر في التمهيد عن قوم.
الثالث: أن آله صلى الله عليه وسلم ، أتباعه إلى يوم القيامة. قال ابن القيم: حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم. ثم قال: وأقدم من روي عنه هذا القول جابر بن عبد الله، ذكره البيهقي عنه، ورواه عن سفيان الثوري وغيره بعض أصحاب الشافعي، حكاه عنه أبو الطيب الطبري في تعليقه، ورجحه محيي الدين النووي في شرح مسلم، واختاره الأزهري.
الرابع: أن آله صلى الله عليه وسلم : هم الأتقياء من أمته. قال ابن القيم: حكاه القاضي حسين والراغب وجماعة. ثم ذكر ابن القيم أدلة كل من هذه الأقوال الأربعة وقال بعد ذلك: والصحيح هو القول الأول ويليه القول الثاني، وأما الثالث والرابع فضعيفان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رفع الشبهة بقوله: ((إن الصدقة لا تحل لآل محمد)). وقوله: ((إنما يأكل آل محمد من هذا المال)). وقوله: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً))، وهذا لا يجوز أن يراد به عموم الأمة قطعاً. فأولى ما حمل عليه الآل في الصلاة الآل المذكورون في سائر ألفاظه، ولا يجوز العدول عن ذلك، وأما تنصيصه على الأزواج والذرية فلا يدل على اختصاص الآل بهم، لما روى أبو داود من حديث نعيم المجمر عن أبي هريرة رضي الله عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم : ((اللهم صل على محمد النبي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته، وأهل بيته، كما صليت على إبراهيم))، فجمع بين الأزواج والذرية والأهل، وإنما نص عليهم بتعيينهم ليبين أنهم حقيقون بالدخول في الآل، وأنهم ليسوا بخارجين منهم بل هم أحق من دخل فيهم، وهذا كنظائره من عطف الخاص على العام وعكسه تنبيهاً على شرفه وتخصيصاً له بالذكر من بين النوع لأنه من أحق أفراد النوع بالدخول فيه.
(4) وفي هذه الصلاة سؤال مشهور، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم فكيف طلب له من الصلاة ما لإبراهيم، مع أن المشبه به أصله أن يكون فوق المشبه؟ فكيف الجمع بين هذين الأمرين المتنافيين؟ وقد ذكر ابن القيم في (جلاء الأفهام) أقوالاً عديدة في ذلك ضعفها وقال في آخرها: ((وقالت طائفة أخرى: آل إبراهيم منهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طلب للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله وفيهم الأنبياء، حصل لآل محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يليق بهم، فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء وفيهم إبراهيم لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فيحصل له بذلك من المزية ما لم يحصل لغيره، وتقرير ذلك أن يجعل الصلاة الحاصلة لإبراهيم ولآله وفيهم الأنبياء، جملة مقسومة على محمد صلى الله عليه وسلم وآله، ولا ريب أنه لا يحصل لآل النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما حصل لآل إبراهيم وفيهم الأنبياء، بل يحصل لهم ما يليق بهم، فيبقى قسم النبي صلى الله عليه وسلم والزيادة المتوفرة التي لم يستحقها آله مختصة به صلى الله عليه وسلم ، فيصير الحاصل له من مجموع ذلك أعظم وأفضل من الحاصل لإبراهيم، وهذا أحسن من كل ما تقدمه، وأحسن منه أن يقال: محمد صلى الله عليه وسلم هو من آل إبراهيم، بل هو خير آل إبراهيم. كما روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ )، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (محمد من آل إبراهيم) ، وهذا نص إذا دخل غيره من الأنبياء الذين هم من ذرية إبراهيم في آل، فدخول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى فيكون قولنا: (كما صليت على آل إبراهيم) متناولاً للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، ثم قد أمرنا الله أن نصلي عليه وعلى آله خصوصاً بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عموماً وهو فيهم، ويحصل لآله من ذلك ما يليق بهم، ويبقى الباقي كله له صلى الله عليه وسلم .
وتقرير ذلك أن يكون قد صلى عليه خصوصاً، أو طلب له من الصلاة ما لآل إبراهيم وهو داخل معهم، ولا ريب أن الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم ورسوله صلى الله عليه وسلم معهم أكمل من الصلاة الحاصلة له دونهم، فيطلب له من الصلاة هذا الأمر العظيم الذي هو أفضل مما لإبراهيم، ويظهر حينئذ فائدة التشبيه وجريه على أصله وأن المطلوب له من الصلاة بهذا اللفظ أعظم من المطلوب له بغيره، فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبه به وله أوفر نصيب منه صار له المشبه المطلوب أكثر مما لإبراهيم وغيره، وانضاف إلى ذلك مما له من المشبه به من الحصة التي لم تحصل لغيره، فظهر بهذا من فضله وشرفه على إبراهيم وعلى كل من آله وفيهم النبيون ما هو اللائق به، وصارت هذه الصلاة دالة على هذا التفضيل وتابعة له، وهي من موجباته ومقتضياته، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)). انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
(5) ورد في أحاديث كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، الجمع بين النبي صلى الله عليه وسلم وآله في أغلبها، وورد الجمع بين ذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام وآله، كما ورد إفراد إبراهيم دون ذكر الآل، وورد ذكر الآل دون إبراهيم، وقد قال ابن القيم في (جلاء الأفهام): ((إنه لم يجيء حديث صحيح فيه لفظ إبراهيم وآل إبراهيم)). وهو وَهْم، فقد جاء الجمع بينهما في (صحيح البخاري) وغيره، وقد نبه على هذا الوهم الحافظ ابن حجر في (فتح الباري)، وفي حالة الجمع بينهما حصل التنصيص في الصلاة على كل منهما، وفي حالة ذكر إبراهيم فقط، فلأنه الأصل في الصلاة المخبر بها، وآله تبع له فيها، وفي حالة ذكر آل إبراهيم فقط، فلأنه داخل في آله. نبه على ذلك ابن القيم في حالتي إفراد كل من إبراهيم وآله في المشبه به وقال: ((بقي أن يقال: فلم جاء ذكر محمد وآل محمد بالاقتران دون الاقتصار على أحدهما في عامة الأحاديث، وجاء الاقتصار على إبراهيم وآله في عامتها؟.
وجواب ذلك: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله ذكرت في مقام الطلب والدعاء، وأما الصلاة على إبراهيم فإنما جاءت في مقام الخبر وذكر الواقع لأن قوله: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) جملة طلبية، وقوله: (كما صليت على إبراهيم) جملة خبرية، والجملة الطلبية إذا وقعت موقع الدعاء والسؤال كان بسطها وتطويلها أنسب من اختصارها وحذفها، ولهذا يشرع تكرارها وإبداؤها وإعادتها فإنها دعاء. والله يحب الملحين في الدعاء.
وقال: وأما الخبر فهو خبر عن أمر قد وقع وانقضى، لا يحتمل الزيادة والنقصان، فلم يكن في زيادة اللفظ فيه كبير فائدة لاسيما المقام مقام إيضاح وتفهيم للمخاطب ليحصل معه البسط والإطناب. فكان الإيجاز فيه والاختصار أكمل وأحسن، فلهذا جاء فيه بلفظ إبراهيم تارة وبلفظ آله أخرى، لأن كلا اللفظين يدل على ما يدل عليه الآخر من الوجه الذي قدمناه، فكان المراد باللفظين واحداً مع الإيجاز والاختصار، وأما في الطلب فلو قيل: صل على محمد: لم يكن في هذا ما يدل على الصلاة على آله، إذ هو طلب ودعاء ينشأ بهذا اللفظ ليس خبراً عن أمر قد وقع واستقر، ولو قيل: صل على آل محمد، لكان النبي صلى الله عليه وسلم إنما يصلى عليه في العموم، فقيل: على محمد وعلى آل محمد، فإنه يحصل له بذلك الصلاة عليه بخصوصه والصلاة عليه بدخوله في آله)). انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
(6) قوله (اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم). قال ابن القيم: ((وحقيقتها الثبوت واللزوم والاستقرار، فمنه برك البعير إذا استقر على الأرض، ومنه المبرك لموضع البروك)). وقال: ((والبركة النماء والزيادة، والتبريك الدعاء بذلك، ويقال باركه الله وبارك فيه وبارك عليه وبارك له)). وقال في معنى البركة في هذا الحديث: ((فهذا الدعاء يتضمن إعطاءه من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم وإدامته وثبوته له ومضاعفته له وزيادته)).
(7) ختم الدعاء في هذه الصلاة باسمي الله (الحميد والمجيد): والحميد فعيل من الحمد، وهو بمعنى محمود وهو أبلغ من المحمود. والحميد هو الذي له من الصفات وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محموداً وإن لم يحمده غيره، فهو حميد في نفسه. والمحمود من تعلق به حمد الحامدين، وهكذا المجيد والممجد والكبير والمكبر والعظيم والمعظم، والحمد والمجد إليهما يرجع الكمال كله، فإن الحمد يستلزم الثناء والمحبة للمحمود فمن أحببته ولم تثن عليه لم تكن حامداً له، وكذا من أثنيت عليه لغرض ما ولم تحبه لم تكن حامداً له حتى تكون مثنياً عليه محباً له. والمجيد من المجد، وهو مستلزم للعظمة والجلال كما يدل عليه موضوعه في اللغة، فهو دال على صفات العظمة والجلال، والحمد يدل على صفات الإكرام، والله سبحانه ذو الجلال والإكرام، ولهذا يقرن الله بين هذين النوعين في القرآن كثيراً، ولما كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي ثناء الله تعالى عليه وتكريمه، والتنويه به، ورفع ذكره، وزيادة حبه وتقريبه، كانت مشتملة على الحمد والمجد، فكأن المصلي طلب من الله تعالى أن يزيد في حمده ومجده، فإن الصلاة عليه هو نوع حمد له وتمجيد هذا حقيقتها فذكر في هذا المطلوب الاسمين المناسبين له وهما اسماه الحميد والمجيد، وهذا من ختم الدعاء بما يناسب المطلوب من أسماء الله تعالى كما هو كثير في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلما كان المطلوب للرسول صلى الله عليه وسلم حمداً ومجداً بصلاة الله عليه، ختم هذا السؤال باسمي الحميد والمجيد، وأيضاً فإنه لما كان المطلوب للرسول صلى الله عليه وسلم حمداً ومجداً، وكان ذلك حاصلاً له ختم ذلك بالإخبار عن ثبوت ذينك الوصفين للرب بطريق الأولى، وكل كمال في العبد غير مستلزم للنقص فالرب أحق به، وأيضاً فإنه لما طلب للرسول صلى الله عليه وسلم حمد ومجد بالصلاة عليه، وذلك يستلزم الثناء على مرسله بالحمد والمجد ختم باسمي الله الحميد المجيد ليكون هذا الدعاء متضمناً لطلب الحمد والمجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والإخبار عن ثبوته للرب سبحانه وتعالى. انتهى ملخصاً من كلام ابن القيم رحمه الله.
(8) قوله (قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟): يشير إلى ما أمروا به في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً )، والسلام الذي عرفوه هو ما جاء في التشهد من قوله: ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)).
(9) قول كعب بن عجرة رضي الله عنه لابن أبي ليلى: ألا أهدي لك هدية: يدل على أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة سنته صلى الله عليه وسلم ، وتطبيقها، أنفس الأشياء عندهم، وأحبها إلى نفوسهم، ولهذا قال كعب ما قال منبهاً إلى أهمية ما سيلقيه على ابن أبي ليلى ليستعد لفهمه، ويهيئ نفسه لتلقيه والإحاطة به، ولما كان السلف معنيين بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، حريصين عليها، وهي أنفس هداياهم، لما قام في قلوبهم من محبتها والحرص على تطبيقها كانوا سادة الأمم ومحط أنظار العالم، وكان النصر على الأعداء حليفهم، وكانت الشوكة والغلبة للإسلام وأهله، كما قال الله تعالى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، وعلى العكس من ذلك ما نشاهده اليوم من واقع المسلمين المؤلم، من التخاذل والتفكك، والزهد في تعاليم الشريعة، والبعد عنها، إلاّ من رحم الله وقليل ما هم. لما كانوا كذلك، لم يحسب أعداؤهم لهم أي حساب، ولم يقيموا لهم أدنى وزن، وكانوا هائبين بعد أن كان أسلافهم مهيبين، وغزوا في عقر دارهم من عدوهم، وممن تربى على أيديه من أبنائهم. وإذا تأمل العاقل ما تضمنه هذا الحديث الشريف من بيان قيمة السنة النبوية في نفوس السلف الصالح، وعظيم منـزلتها في نفوسهم، وأنها أنفس هداياهم، ثم نظر إلى حالة الكثير من المنتسبين إلى الإسلام اليوم، وما ابتلوا به من الزهد في الشريعة، والتحاكم إلى غيرها، أقول إذا تأمل العاقل أحوال أولئك، وأحوال هؤلاء، عرف السر الذي من أجله كان أولئك ينتصرون على أعدائهم مع قلة عددهم وعُددهم، وكان هؤلاء ينهزمون وهم كثيرون أمام الأعداء، ولن يقوم للمسلمين قائمة إلاّ إذا رجعوا إلى الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، ولفظوا القوانين الوضعية الوضيعة، وغيرها من البضائع الرديئة المستوردة مما وراء البحار، ونظّفوا نفوسهم وأوطانهم منها.
(10) هذا الحديث أورده مسلم في (كتاب الصلاة) من صحيحه، وقد قال النووي في شرحه: قال القاضي: ويحتمل أن يكون سؤالهم عن كيفية الصلاة في غير الصلاة، ويحتمل أن يكون في الصلاة، قال: وهو الأظهر. قلت: وهو ظاهر اختيار مسلم، ولهذا ذكر الحديث في هذا الموضع. انتهى.
وقال أيضاً: اعلم أن العلماء اختلفوا في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب التشهد الأخير في الصلاة، فذهب أبو حنيفة ومالك ـ رحمهما الله تعالى ـ والجماهير إلى أنها سنة، لو تركت صحت الصلاة. وذهب الشافعي وأحمد ـ رحمهما الله ـ إلى أنها واجبة، لو تركت لم تصح الصلاة. وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما، وهو قول الشعبي. وقال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر جملة من أحاديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم : وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه عن أبي مسعود البدري أنهم قالوا: يا رسول الله، أما السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ فقال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد))، وذكره. ورواه الشافعي ـ رحمه الله ـ في مسنده عن أبي هريرة بمثله، ومن هاهنا ذهب الشافعي ـ رحمه الله ـ إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، فإن تركه لم تصح صلاته. ثم ذكر عن بعض المتأخرين أن الشافعي تفرد في ذلك، وحكى الإجماع على خلافه، وأنكر ذلك عليه، ثم قال: فإنا قد روينا وجوب ذلك الأمر بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة كما هو ظاهر الآية، ومفسر بهذا الحديث عن جماعة من الصحابة منهم: ابن مسعود، وأبو مسعود البدري، وجابر بن عبد الله، ومن التابعين: الشعبي، وأبو جعفر الباقر، ومقاتل بن حيان، وإليه ذهب الشافعي لا خلاف عنه في ذلك ولا بين أصحابه أيضاً، وإليه ذهب الإمام أحمد أخيراً فيما حكاه عنه أبو زرعة الدمشقي، وبه قال إسحاق بن راهويه، والفقيه الإمام محمد بن إبراهيم المعروف بابن المواز المالكي، رحمهم الله.
(1) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
(2) ما كان عليه سلف هذه الأمة من الحرص على تلقي السنة وفهمها.
(3) مشروعية التهادي.
(4) أن مثل هذه الهدية أنفس أنواع الهدايا، ومن أردأ أنواع الهدايا ما نشاهده في هذا الزمن من تهادي الأغنيات بواسطة الإذاعات وغيرها.
(5) ذكر المعلم ما يستدعي انتباه المتعلم لقول كعب بن عجرة رضي الله عنه لابن أبي ليلى: (ألا أهدي لك هدية) بين يدي ذكر حديث كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .
(6) بيان كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .
(7) أن السنة تبين القرآن وتفسره، فإن هذا الحديث بيان لقوله تعالى: :( الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ).
(8) جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
(9) أن من أمر بشيء لا يفهم المراد به عليه أن يسأل عنه ليعلم ما يأتي به.
(10) أن للسائل إذا سأل عن شيء خفي عليه أن يبين ما ظهر له مما يماثله.
(11) مشروعية الصلاة على آل النبي صلى الله عليه وسلم تبعاً للصلاة عليه صلى الله عليه وسلم .
(12) أنه يجمع إلى طلب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم طلب البركة.
(13) الثناء على الله في الدعاء لقوله: ((إنك حميد مجيد)).
(14) أن البسط والتكرار في الدعاء أولى من الاختصار.
(15) بيان عظم منـزلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند الله.
(16) أن الصلاة من الله قد حصلت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام وآله وكذا البركة.
(17) الرد على من قال: إن صلاة الله على نبيه رحمته لأن الصحابة رضي الله عنه قالوا: قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ ولو كان المراد بالصلاة الرحمة لقال لهم: قد علمتم ذلك في السلام، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم علّمهم السلام عليه وهو مشتمل على الرحمة.
(18) أن الواو لا تقتضي الترتيب، لأن صيغة الأمر وردت بالصلاة والتسليم بالواو في قوله تعالى: :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وقدّم تعليم السلام قبل الصلاة.
(19) أن إفراد الصلاة عن التسليم لا يكره وكذا العكس، لأن تعليم التسليم تقدم قبل تعليم الصلاة.

(20) فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الأمر بها واعتناء الصحابة بالسؤال عن كيفيتها.

(21) دخول الرجل في مسمى آله، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام داخل في قوله: ((كما صليت على آل إبراهيم)).

ابو وليد البحيرى
2019-03-01, 12:37 PM
دراسة تحليلية للحديث
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (40)




حديث (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري...)



قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار من صحيحه: حدثنا إبراهيم بن دينار حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم القطعي عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عن قدامة بن موسى عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه يقول: ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر)).

المبحث الأول: التخريج:

هذا الحديث انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري، فأخرجه في هذا الموضع من صحيحه، ولم يروه من غير هذه الطريق ولم يكرره، وروى النسائي أوله قبيل (كتاب الجمعة) من سننه فقال: أخبرنا عمرو بن سواد بن الأسود بن عمرو وقال حدثنا ابن وهب قال أخبرني حفص بن ميسرة عن موسى بن عقبة عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه: أن كعباً حلف له بالله الذي فلق البحر لموسى إنا لنجد في التوراة أن داود نبي الله صلى الله عليه كان إذا انصرف من صلاته قال: ((اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته لي عصمة، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من نقمتك، وأعوذ بك منك، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد))، قال: وحدثني كعب أن صهيباً حدثه أن محمداً صلى الله عليه كان يقولهن عند انصرافه من صلاته. وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) في ترجمة كعب الأحبار بمثله.

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ مسلم إبراهيم بن دينار، قال الحافظ ابن حجر في (التقريب): إبراهيم بن دينار البغدادي، أبو إسحاق التمار، ثقة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال مسلم وحده.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع يحيى بن حماد، وحجاج بن محمد، وعمرو بن الهيثم، وأبا عاصم، ورجاء، وابن علية، وابن عيينة، وعبيد الله بن موسى روى عنه مسلم.

وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): وعنه مسلم، وأبو زرعة، وموسى بن حماد، وأبو يعلى، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وعدة. ونقل توثيقه عن أبي زرعة، ومحمد بن إبراهيم بن جنادة، وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات).

الثاني: أبو قطن عمرو بن الهيثم، قال الحافظ في (التقريب): عمرو بن الهيثم بن قطن ـ بفتح القاف والمهملة ـ القطعي ـ بضم القاف وفتح المهملة ـ أبو قطن البصري، ثقة، من صغار التاسعة، مات على رأس المائتين، ورمز لكون البخاري روى عنه في الأدب المفرد، ولكونه من رجال الجماعة سوى البخاري.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): من أهل بغداد، سمع شعبة، وعبد العزيز بن أبي سلمة. روى عنه إبراهيم بن دينار، ومحمد بن حرب الواسطي. ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن الشافعي، وابن المديني، وابن معين، وصالح بن محمد البغدادي. وقال الحافظ: وذكره مسلم بن الحجاج في الطبقة الثالثة من ثقات أصحاب شعبة مع وكيع، ويزيد بن هارون، وغيرهما.

الثالث: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، قال الحافظ في (التقريب): عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ـ بكسر الجيم بعدها معجمة مضمومة ـ المدني، نزيل بغداد، مولى آل الهدير، ثقة، فقيه، مصنف، من السابعة، مات سنة أربع وستين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): الفقيه أحد الأعلام، مولى آل الهدير التميمي، نزيل بغداد، روى عن أبيه، وعمه يعقوب، ومحمد بن المنكدر، والزهري، وقدامة بن موسى، وغيرهم سماهم. وقال: وعنه ابنه عبد الملك، وزهير بن معاوية، وابن وهب، وابن مهدي، ووكيع، وأبو قطن، وشبابة، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن أبي زرعة، وأبي حاتم، وأبي داود، والنسائي، وابن سعد، وأحمد بن صالح، وأبو بكر البزار.

الرابع: قدامة بن موسى، قال الحافظ في (التقريب): قدامة بن موسى بن عمر بن قدامة بن مظعون الجمحي، المدني، إمام المسجد النبوي، ثقة عمَّر، من الخامسة، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة، ورمز لكون البخاري روى له تعليقاً، ولكونه من رجال مسلم، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه.

وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن ابن عمر، وأنس، وأبيه موسى، وأيوب ويقال: محمد بن الحصين، وأبي صالح السمان، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعمرو بن ميمون بن مهران، وأبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين. وعنه أخوه عمر، وابنه إبراهيم، وابن جريج، وسليمان بن بلال، ووهيب، وغيرهم سماهم.

وقال الحافظ: قلت: في صحة سماعه من ابن عمر نظر، فقد أخرج له الترمذي حديثاً، فأدخل بينه وبين ابن عمر ثلاثة أنفس. ونقل توثيقه عن ابن معين، وأبي زرعة. وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات). وقال: كان إمام مسجد رسول الله صلى الله عليه .

وقال: وقال الزبير بن بكار: عمِّر قدامة بن موسى، وكان ثبتاً. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) بعد أن ذكره ممن انفرد به مسلم: سمع أبا صالح السمان في الدعاء، روى عنه عبد العزيز بن الماجشون.

الخامس: أبو صالح السمان، تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.

السادس: أبو هريرة رضي الله عنه وقد تكرر ذكره.

المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) ثلاثة من رجال الإسناد اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم وهم: أبو هريرة رضي الله عنه ، وأبو صالح السمان، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون. والثلاثة الباقون انفرد مسلم عن البخاري في الإخراج لهم.

(2) أربعة من رجال الإسناد مدنيون وهم: أبو هريرة، وأبو صالح السمان، وقدامة بن موسى، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون. وعبد العزيز مدني نزل بغداد، وعمرو بن الهيثم بصري سكن بغداد، وإبراهيم بن دينار بغدادي.

(3) عمرو بن الهيثم له في صحيح مسلم حديثان، أحدهما هذا، والثاني في فضل الصف الأول، كما ذكر ذلك ابن حجر في ترجمته في (تهذيب التهذيب).

(4) في الإسناد ثلاثة اشتهروا بكناهم وهم: أبو هريرة رضي الله عنه ، وأبو صالح السمان، وأبو قطن عمرو بن الهيثم.

(5) قدامة بن موسى إمام المسجد النبوي وهو من المعمرين. قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في (التقريب): ثقة عمِّر. وقال في (تهذيب التهذيب): وقال الزبير بن بكار: عمّر قدامة بن موسى وكان ثبتاً. انتهى. وقد ألف الذهبي في المعمرين مصنفاً خاصاً.

(6) في الإسناد تابعيان وهما: أبو صالح السمان، وقدامة، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.

(7) في الإسناد صيغتان هما: التحديث في موضعين، والعنعنة في أربعة مواضع.

(8) قدامة بن موسى له في صحيح مسلم هذا الحديث الواحد، قال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) بعد أن ذكره فيمن انفرد به مسلم: سمع أبا صالح السمان في الدعاء، روى عنه عبد العزيز بن الماجشون.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) اشتمل هذا الحديث على خمس جمل طلبية: الجملة الأولى: فيها سؤال العبد ربه أن يصلح له دينه الذي فيه عصمة أمره. والجملة الثانية: فيها سؤاله ربه إصلاح دنياه. والثالثة: فيها سؤاله ربه أن يصلح له آخرته. والرابعة: سؤاله أن تكون حياته الدنيوية مباركة معمورة بالأعمال الصالحة. والخامسة: سؤال العبد ربه أن يريحه عند الموت من كل شر، ليكون كل ما يحصل له خيراً.

والجملة الأولى جامعة مشتملة على ما تتضمنه الجمل الأربع بعدها، لأن من وفق لصلاح الدين حصلت له سعادة الدنيا والآخرة، وكانت حياته مباركة وعاقبته حميدة كما قال تعالى:( وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(، وإنما ذكرت الجمل الأربع مع أن الجملة الأولى شاملة لها، لأن المقام مقام دعاء وتضرع إلى الله. والله يحب من عباده أن يدعوه وأن يلحوا في دعائهم.

قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في (جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام) في معرض كلامه على حديث كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه : والجملة الطلبية إذا وقعت موقع الدعاء والسؤال، كان بسطها وتطويلها أنسب من اختصارها وحذفها، ولهذا يشرع تكرارها وإبداؤها وإعادتها، فإنها دعاء، والله يحب الملحين في الدعاء، ولهذا تجد كثيراً من أدعية النبي صلى الله عليه فيها من بسط الألفاظ، وذكر كل معنى بصريح لفظه، دون الاكتفاء بدلالة اللفظ الآخر عليه ما يشهد لذلك كقوله صلى الله عليه في حديث عليّ الذي رواه مسلم في صحيحه: ((اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت...))، ومعلوم أنه لو قيل: اغفر لي كل ما صنعت كان أوجز، ولكن ذكر ألفاظ الحديث في مقام الدعاء، والتضرع، وإظهار العبودية والافتقار، واستحضار الأنواع التي يتوب العبد منها تفصيلاً، أحسن وأبلغ من الإيجاز والاختصار.

وكذلك قوله في الحديث الآخر: ((اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، سره وعلانيته، أوله وآخره))، وفي الحديث: ((اللهم اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي، وهزلي، وخطئي، وعمدي، وكل ذلك عندي)). وهذا كثير في الأدعية المأثورة، فإن الدعاء عبودية لله وافتقار إليه، وتذلل بين يديه، فكلما كثّره العبد وطوّله، وأعاده وأبداه، ونوّع جمله، كان ذلك أبلغ في عبوديته، وإظهار فقره وتذلـله، وكان ذلك أقرب له من ربه وأعظم لثوابه، وهذا بخلاف المخلوق، فإنك كلما أكثرت سؤاله وكرّرت حوائجك عليه، أبرمته وأثقلت عليه، وهنت عليه، وكلما تركت سؤاله كان أعظم عنده وأحب إليه. والله سبحانه كلما سألته كنت أقرب إليه، وأحب إليه، وكلما ألححت عليه في الدعاء أحبك، ومن لم يسأله يغضب عليه.





فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب




فالمطلوب يزيد بزيادة الطلب وينقص بنقصانه. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.

(2) هذا الحديث لا يدل على جواز الدعاء بالموت، وإنما يدل على الدعاء بحسن الخاتمة، وصلاح العاقبة.

قال الصنعاني في (سبل السلام): وليس فيه دلالة على جواز الدعاء بالموت، بل إنما دل على سؤال أن يجعل الموت في قضائه عليه، ونزوله به، راحة من شرور الدنيا وشرور القبر، لعموم (كل شر) أي من كل شر قبله وبعده.

(3) في الحديث شاهد لما يعرف في علم البلاغة باللف والنشر المرتب، وذلك أنه حصل ذكر الدنيا ثم الآخرة ثم ذكرت الحياة الدنيوية وبعدها الموت الذي هو بدء الحياة الأخروية، فالترتيب في الجملتين الآخيرتين على وفق ترتيب الجملتين قبلهما.

(أ) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) مشروعية الدعاء.

(2) دعاء العبد ربه أن يصلح له دينه.

(3) الدعاء بإصلاح دنيا العبد وآخرته.

(4) أن صلاح دين العبد فيه عصمته ونجاته.

(5) اهتمام العبد بما فيه سعادته الدنيوية والأخروية.

(6) أن البسط والتكرار في الدعاء أولى من الإيجاز والاختصار.

(7) الإيمان بالبعث.

(8) تنبيه العبد إلى التزود من الأعمال الصالحة في الحياة.

(9) أنه في الدعاء يبدأ بالأهم.

(10) الدعاء بحسن الخاتمة.

وإلى هنا انتهى ما يسر الله جمعه وتحريره من الكلام على عشرين حديثاً من صحيح الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ـ رحمه الله ـ بعد التمهيد لها بترجمة مختصرة له وتعريف موجز بصححيه.
وكان الفراغ من ذلك في مساء يوم الجمعة الموافق السابع والعشرين من شهر صفر سنة إحدى وتسعين بعد الثلاثمائة والألف في دار الهجرة. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.