ابو وليد البحيرى
2018-09-06, 11:00 AM
أحكام المبيت في الفقه الإسلامي
أحمد عبدالسلام
المبحث الأول
وجوب العدل بين النساء في البيتوتة
المطلب الأول: وجوب العدل بين النساء في البيتوتة:
يجب الْعَدْلِ بين النِّسَاءِ في المبيت، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء[1].
والدليل على ذلك ما يأتي:
1- قول الله تعالى: {... فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .. } [2].
والمعنى: إنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا في الْقَسْمِ في نِكَاحِ الْمَثْنَى وَالثَّلَاثِ وَالرُّبَاعِ فَوَاحِدَةً, فنَدَبَ سُبْحَانَهُ إلَى نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ خَوْفِ عدم الْعَدْلِ في الزِّيَادَةِ, فدَلَّ على أَنَّ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ في الْقَسْمِ ِوَاجِبٌ, وَإِلَيْهِ أشار سبحانه في آخر الآية بقوله تعالى: {... ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } [3]. أَيْ: تَجُورُوا, والجور حرام, فَكَانَ الْعَدْلُ وَاجِبًا؛ وَلأَنَّ الْعَدْلَ مَأْمُورٌ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ عز وجل: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ...} [4]. على الْعُمُومِ وَالإِطْلاقِ إلا ما خُصَّ أو قُيِّدَ بِدَلِيلٍ[5].
2 وقول الله عز وجل: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة ِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [6].
فالميل لإحدى النساء عن الآخرى حرام، ومن ذلك القسم في المبيت.
قال القرطبي: "أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبة، والجماع، والحظ من القلب، فوصف الله تعالى حالة البشر، وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض؛ ولهذا كان -عليه الصلاة والسلام- يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك[7]... قال مجاهد –رحمه الله-: "لا تتعمدوا الإساءة، بل الزموا التسوية في القسم والنفقة؛ لأن هذا مما يستطاع"[8].
3- َعَنْ أبي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- عن رسول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قال: "من كانت له امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلا إِحْدَاهُمَا جاء يوم الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ"[9].
المطلب الثاني: حكم قسم الابتداء في المبيت:
ومعناه: أن الرجل إذا كانت له امرأة منفردة لزمه المبيت عندها ليلة من كل أربع ليال ما لم يكن له عذر, وإن كان له نساء فلكل واحدة منهن ليلة من كل أربع ليال[10].
وقد اختلف الفقهاء في حكم قسم الابتداء على قولين:
القول الأول: يجب قسم الابتداء في المبيت ، وإليه ذهب الحنابلة[11].
واستدلوا:
1- بحديث عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ- رضي الله عنهما- قال لي رسول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم-: "يا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ فقلت: بَلَى يا رَسُولَ اللَّهِ قال: فلا تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ؛ فإن لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"[12] فأخبر أن للمرأة عليه حقاً، ومن ذلك حق المبيت[13].
2- وَلأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ، لَمَلَكَ الزَّوْجُ تَخْصِيصَ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ به، كَالزِّيَادَةِ في النفقة على قدر الواجب[14].
القول الثاني: لا يجب قسم الابتداء في المبيت بحال، وإليه ذهب الحنفية، والمالكية، الشافعية[15].
واستدلوا: بأن القسم حقه فله تركه[16].
الترجيح: الذي يظهر لي ترجيحه –والعلم عند الله- هو القول الأول؛ لقوة أدلته، وأما قولهم: بأنه حقه وله تركه، فالجواب عنه: بأنه ليس حقا خالصا له، بل المرأة تشاركه في هذا الحق، فلا يجوز أخلاؤها عنه.
المطلب الثالث: القسم في المبيت بين نسائه :
اتفق الفقهاء على أنه يجب على الرَّجُلِ أَنْ يُسَاوِيَ بين نِسَائِهِ في قسمة الليالي, فإذا بات عند واحدة ليلة وجب أن يبيت عند الأخرى مثلها, ولايجوزأن يفضل في قسمة الليالي, والأولى أن يقسم ليلة ليلة اقتداء برسول الله – صلى الله عليه وسلم-؛ ولأن ذلك أقرب إلى التسوية في إيفاء الحقوق, وأما طوافه – صلى الله عليه وسلم- على نسائه في ليلة واحدة، كما في حديث أَنَسَ بن مَالِكٍ –رضي الله عنه- أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- كان يَطُوفُ على نِسَائِهِ في اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ[17]. فهذا محمول على رضاهن، أو على الاستحباب اقتداء به – صلى الله عليه وسلم-[18].
واستدلوا:1-بقول الله تعالى: {... فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .. } [19]..
2- بحديث أبي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- عن رسول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قال: "من كانت له امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلا إِحْدَاهُمَا جاء يوم الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ"[20]. فدلة الآية والحديث على وجوب العدل بين الزوجات ,ومن ذلك العدل في قسمة الليالي.
المطلب الرابع: مقدار المبيت عند البكر والثيب
:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا,ثم دار على بقية نسائه, ولا يحتسب عليها بما أقام عندها, وإن تزوج ثيبا أقام عندها ثلاثا ثم دار, ولا يحتسب عليها بما أقام عندها، وهذا مذهب مالك, والشافعي, وأحمد[21].
واستدلوا بما يلي: 1- بحديث أَنَسِ بن مَالِكٍ –رضي الله عنه- قال: السنة إذا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ على الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وإذا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ على الْبِكْرِ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا[22].
2- بحديث أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- لَمَّا تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وقال: إنه ليس بِكِ على أَهْلِكِ هَوَانٌ إن شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ, وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي[23].
القول الثاني: لا فضل للجديدة في القسم في المبيت، فإن أقام عندها شيئا قضاه للباقيات، وإليه ذهب الأحناف[24].
واستدلوا بما يلي: - بحديث أبي هريرة –رضي الله عنه- عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل"[25].فدل الحديث على أنه لا تفضيل بين البكر والثيب في قسمة الليالي.
2- ولأنهما يستويان في سبب وجوب القسم وهو النكاح ,فيستويان في وجوب القسم في المبيت.[26].
الترجيح:الذي يظهر لي ترجيحه –والعلم عند الله- هو القول الأول ؛لقوة أدلته, وأما استدلال أصحاب القول الثاني ؛فهو في مقابلة النص، فلا عبرة به.
المطلب الخامس: وقت ابتداء القسم في المبيت
ندب الابتداء بالليل,وإذا قسم لها ليلة كان لها الليلة، وما يليها من النهار, فالنهار وقت الانتشار, وطلب الرزق, وقد يكثر في يوم ويقل في آخر, والضبط فيه عسر بخلاف الليل, وهذا قول جمهور الفقهاء[27].
واستدلوا بما يلي: 1- بقوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً* وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} [28].فالليل وقت السكون، والنهار وقت الانتشار في طلب المعاش[29].
2- حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: وكان يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا[30].
المبحث الثاني
حكم القسم في المبيت على المريض ونحوه
اتفق الفقهاء على أنه يجب القسم في المبيت على المريض، وزوج المريضة، والمجبوب[31]وللحائض، والنفساء[32].
واستدلوا بما يأتي:
1- بحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يَسْأَلُ في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فيه أَيْنَ أنا غَدًا؟ أَيْنَ أنا غَدًا؟ يُرِيدُ يوم عَائِشَةَ, فَأَذِنَ له أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ, فَكَانَ في بَيْتِ عَائِشَةَ حتى مَاتَ عِنْدَهَا, قالت: عَائِشَةُ فَمَاتَ في الْيَوْمِ الذي كان يَدُورُ عَلَيَّ فيه في بَيْتِي
[33].
فرَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ في مَرَضِ مَوْتِهِ أَنْ يَكُونَ في بَيْتِ عَائِشَةَ -رضي اللَّهُ عنها-, فَلَوْ سَقَطَ الْقَسْمُ بِالْمَرَضِ لم يَكُنْ لِلاسْتِئْذَانِ مَعْنًى[34].
2- ولان القسم يراد للأنس والإيواء؛ وذلك يحصل مع هؤلاء[35].
المبحث الثالث
أثر الهبة في حكم المبيت
المطلب الأول: حكم هبة المرأة حقها من القسم في المبيت:
اتفق الفقهاء على أنه يجوز للمرأة أن تهب حقها من القسم لزوجها أو لبعض ضرائرها أو لهن جميعاً، ولا يجوز إلا برضى الزوج[36].
والأدلة على ذلك:
1- حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: وكان يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا، غير أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ- زَوْجِ النبي – صلى الله عليه وسلم- - تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رسول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم-[37].
2- و لأن حقه في الاستمتاع بها لا يسقط إلا برضاه[38].
المطلب الثاني: الحكم إذا رجعت الواهبة في ليلتها:
اتفق الفقهاء على أن الواهبة إذا رجعت في ليلتها فلها ذلك في المستقبل؛لأنها هبة لم تقبض, وليس له الرجوع فيما مضى؛ لأنه بمن*زلة المقبوض؛ ولِأَنَّ ذلك كُلَّهُ كان إبَاحَةً منها، وَالإِبَاحَة لا تَكُون لازِمَةً كَالْمُبَاحِ له الطَّعَام؛ فإنَّهُ يَمْلِكُ الْمُبِيحُ مَنْعَهُ، وَالرُّجُوعَ عن ذلك[39].
وأما إذا بذلت ليلتها بمال فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: إذا بذلت ليلتها بمال لم يصح، وإليه ذهب الحنفية, والشافعية, والحنابلة[40].
واستدلوا:
بأن حقها في كون الزوج عندها, وليس ذلك بمال فلا يجوز مقابلته بمال, وهذا الحق ليس بعين ولا منفعة؛ لأن مقامه عندها ليس بمنفعة ملكتها عليه, فإذا أخذت عليه مالا لزمها رده، وعليه أن يقضي لها، لأنها تركته بشرط العوض ولم يجز لها[41].
القول الثاني: يكره أخذ المال في التنازل عن المبيت, وهو مذهب المالكية[42].
واستدلوا:
بأن المرأة لا تدري ما تحصل لها بما أعطت؛ فقد لا يصيبها في تلك الليلة، والرجل يدري ما يحصل[43].
الترجيح: الذي يظهر لي ترجيحه –والعلم عند الله- هو القول الأول؛ لقوة أدلته.
المبحث الرابع
أثر السفر في حكم المبيت
اتفق الفقهاء على أن الزوج إذا أراد سفرا فأحب حمل نسائه معه كلهن أوتركهن كلهن لم يحتج إلى قرعة؛ لأن القرعة لتعيين المخصوصة منهن بالسفر, وهاهنا قد سوى بينهن[44].
وإن أراد السفر ببعضهن بدون قرعة هل يلزمه القضاء لنسائه بعد قدومه؟.
فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز له أن يسافر بأحدهن دون البواقي إلا بقرعة, ويلزمه إن سافر ببعضهن بدون قرعة القضاء لنسائه بعد قدومه، وهذا مذهب الشافعية, والحنابلة[45].
واستدلوا:
1- بحديث عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قالت: كان رسول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- إذا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بين نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بها معه[46].
وفي لفظ: أَنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم- كان إذا خَرَجَ أَقْرَعَ بين نِسَائِهِ فَطَارَتْ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ[47] .
2- بحديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "من كانت له امرأتان يميل إلى إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل"[48]. والبداءة بإحداهما من غير قرعة تدعو إلى النفور, فإذا قسم لواحدة بغير القرعة، ولم يقض فقد مال فدخل في الوعيد[49]؛ لقول الله تعالى: {فَلاَ تَمِيلُوا كُل الْمَيْل}
[50].
القول الثاني: أن القرعة في حقه مستحبة, و لايلزمه القضاء لنسائه بعد قدومه، وإليه ذهب الحنفية, والمالكية[51].
واستدلوا بمايأتي:
بأنه لا يحصل لها من السكن في السفر مثل ما يحصل في الحضر؛ فقد لحقها من تعب السفر ومشقته ما يقابل ذلك, والمتخلفة وإن فاتها حظها من الزوج فقد ترفهت بالدعة والإقامة, فتقابل الأمران فاستويا ؛ وذلك لأن مُدَّةَ السفر ضائعة, بِدَلِيلِ أَنَّ له أَنْ يسافر وحده دُونَهُنَّ, لَكِنْ الْأَفْضَلُ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ فَيَخْرُجُ بِمِنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ ودَفْعًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عن نَفْسِهِ[52].
الترجيح:الذي يظهر لي ترجيحه هو القول بأنه لا يجوز سفر الزوج بإحدى نسائه دون البواقي إلا بقرعة، وإن سافر بدون قرعة يلزمه القضاء بعد قدومه؛ نظرا لقوة أدلته, ولأنه دين بقي في ذمته فلابد من قضائه.
المبحث الخامس
هل يجب على المتوفى عنها زوجها المبيت في منزلها؟
اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يجب على المتوفى عنها زوجها المبيت في من*زلها, والاعتداد فيه, ورخصوا لها في الانتقال منه عند الفزع, والخوف الشديد ، وبه قال جمهور الفقهاء, ومنهم الأئمة الأربعة[53].
قال ابن عبد البر- رحمه الله -: "هذا... مشهور عند الفقهاء بالحجاز، والعراق، معمول به عندهم، تلقوه بالقبول، وأفتوا به، وإليه ذهب مالك, والشافعي، وأبو حنيفة... وأحمد بن حنبل كلهم يقول: إن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيتها الذي كانت تسكنه, وسواء كان لها أو لزوجها, ولا تبيت إلا فيه حتى تنقضي عدتها,ولها أن تخرج نهارها في حوائجها"[54].
الأدلـة:
1- عن ْفُرَيْعَة َبنت مَالِكٍ -رضي الله عنها- قالت: "خَرَجَ زَوْجِي في طَلَبِ أَعْلاجٍ[55] له فَأَدْرَكَهُمْ بِطَرَفِ الْقَدُومِ[56]. فَقَتَلُوهُ، فَجَاءَ نَعْيُ زَوْجِي وأنا في دَارٍ من دُورِ الأَنْصَارِ شَاسِعَةٍ عن دَارِ أَهْلِي, فَأَتَيْتُ النبي – صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رَسُولَ اللَّهِ: إنه جاء نَعْيُ زَوْجِي وأنا في دَارٍ شَاسِعَةٍ عن دَارِ أَهْلِي، وَدَارِ إِخْوَتِي، ولم يَدَعْ مَالاً يُنْفِقُ عَلَيَّ، ولا مَالاً لوَرِثْتُهُ, ولا دَارًا يَمْلِكُهَا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْذَنَ لي فَأَلْحَقَ بِدَارِ أَهْلِي، وَدَارِ إِخْوَتِي، فإنه أَحَبُّ إلي، وَأَجْمَعُ لي في بَعْضِ أَمْرِي، قال: فَافْعَلِي إن شِئْتِ، قالت: فَخَرَجْتُ قَرِيرَةً عَيْنِي لِمَا قَضَى الله لي على لِسَانِ رسول اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- ، حتى إذا كنت في الْمَسْجِدِ أو في بَعْضِ الْحُجْرَةِ دَعَانِي، فقال: كَيْفَ زَعَمْتِ؟ قالت: فَقَصَصْتُ عليه، فقال: امْكُثِي في بَيْتِكِ الذي جاء فيه نَعْيُ زَوْجِكِ حتى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، قالت: فَاعْتَدَدْتُ فيه أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"[57].
قال ابن قدامة -رحمه الله-: "وهو حديث صحيح قضى به عثمان –رضي الله عنه- في جماعة الصحابة فلم ينكروه، وإذا ثبت هذا فإنه يجب الاعتداد في المن*زل الذي مات زوجها وهي ساكنة به، سواء كان مملوكا لزوجها، أو بإجارة،أو عارية؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال لفريعة -رضي الله عنها-: امكثي في بيتك, ولم تكن في بيت يملكه زوجها[58].
2- لأن الليل مظنة الفساد بخلاف النهار؛ فإنه مظنة قضاء الحوائج، والمعاش، وشراء ما يحتاج إليه[59].
القول الثاني: تعتد حيث شاءت، وروي ذلك عن علي, وابن عباس, وجابر, وعائشة,رضي الله عنهم أجمعين[60].
واستدلوا:
بقول الله تعالى: {... فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [61]. فنسخت هذه الآية عدتها عند أهله,فتعتد حيث شاءت[62].
والجواب عن هذا الاستدلال: بأن المنسوخ في هذه الآية حكم آخر غير الاعتداد في المن*زل، وهو استحقاقها للسكنى في بيت الزوج الذي صار للورثة، وصية أوصى الله بها الأزواج تقدم به على الورثة, ثم نسخ ذلك بالميراث, ولم يبق لها استحقاق في السكنى المذكورة, فإن كان المن*زل الذي توفي فيه الزوج لها, أو بذل الورثة لها السكنى لزمها الاعتداد فيه, وهذا ليس بمنسوخ فالواجب عليها فعل السكنى لا تحصيل المسكن، فالذي نسخ إنما هو اختصاصها بالسكنى دون الورثة, والذي أمرت به أن تمكث في بيتها حتى تنقضي عدتها، ولا تنافي بين الحكمين[63].
يتبع
أحمد عبدالسلام
المبحث الأول
وجوب العدل بين النساء في البيتوتة
المطلب الأول: وجوب العدل بين النساء في البيتوتة:
يجب الْعَدْلِ بين النِّسَاءِ في المبيت، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء[1].
والدليل على ذلك ما يأتي:
1- قول الله تعالى: {... فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .. } [2].
والمعنى: إنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا في الْقَسْمِ في نِكَاحِ الْمَثْنَى وَالثَّلَاثِ وَالرُّبَاعِ فَوَاحِدَةً, فنَدَبَ سُبْحَانَهُ إلَى نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ خَوْفِ عدم الْعَدْلِ في الزِّيَادَةِ, فدَلَّ على أَنَّ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ في الْقَسْمِ ِوَاجِبٌ, وَإِلَيْهِ أشار سبحانه في آخر الآية بقوله تعالى: {... ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } [3]. أَيْ: تَجُورُوا, والجور حرام, فَكَانَ الْعَدْلُ وَاجِبًا؛ وَلأَنَّ الْعَدْلَ مَأْمُورٌ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ عز وجل: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ...} [4]. على الْعُمُومِ وَالإِطْلاقِ إلا ما خُصَّ أو قُيِّدَ بِدَلِيلٍ[5].
2 وقول الله عز وجل: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة ِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [6].
فالميل لإحدى النساء عن الآخرى حرام، ومن ذلك القسم في المبيت.
قال القرطبي: "أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبة، والجماع، والحظ من القلب، فوصف الله تعالى حالة البشر، وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض؛ ولهذا كان -عليه الصلاة والسلام- يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك[7]... قال مجاهد –رحمه الله-: "لا تتعمدوا الإساءة، بل الزموا التسوية في القسم والنفقة؛ لأن هذا مما يستطاع"[8].
3- َعَنْ أبي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- عن رسول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قال: "من كانت له امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلا إِحْدَاهُمَا جاء يوم الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ"[9].
المطلب الثاني: حكم قسم الابتداء في المبيت:
ومعناه: أن الرجل إذا كانت له امرأة منفردة لزمه المبيت عندها ليلة من كل أربع ليال ما لم يكن له عذر, وإن كان له نساء فلكل واحدة منهن ليلة من كل أربع ليال[10].
وقد اختلف الفقهاء في حكم قسم الابتداء على قولين:
القول الأول: يجب قسم الابتداء في المبيت ، وإليه ذهب الحنابلة[11].
واستدلوا:
1- بحديث عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ- رضي الله عنهما- قال لي رسول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم-: "يا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ فقلت: بَلَى يا رَسُولَ اللَّهِ قال: فلا تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ؛ فإن لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"[12] فأخبر أن للمرأة عليه حقاً، ومن ذلك حق المبيت[13].
2- وَلأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ، لَمَلَكَ الزَّوْجُ تَخْصِيصَ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ به، كَالزِّيَادَةِ في النفقة على قدر الواجب[14].
القول الثاني: لا يجب قسم الابتداء في المبيت بحال، وإليه ذهب الحنفية، والمالكية، الشافعية[15].
واستدلوا: بأن القسم حقه فله تركه[16].
الترجيح: الذي يظهر لي ترجيحه –والعلم عند الله- هو القول الأول؛ لقوة أدلته، وأما قولهم: بأنه حقه وله تركه، فالجواب عنه: بأنه ليس حقا خالصا له، بل المرأة تشاركه في هذا الحق، فلا يجوز أخلاؤها عنه.
المطلب الثالث: القسم في المبيت بين نسائه :
اتفق الفقهاء على أنه يجب على الرَّجُلِ أَنْ يُسَاوِيَ بين نِسَائِهِ في قسمة الليالي, فإذا بات عند واحدة ليلة وجب أن يبيت عند الأخرى مثلها, ولايجوزأن يفضل في قسمة الليالي, والأولى أن يقسم ليلة ليلة اقتداء برسول الله – صلى الله عليه وسلم-؛ ولأن ذلك أقرب إلى التسوية في إيفاء الحقوق, وأما طوافه – صلى الله عليه وسلم- على نسائه في ليلة واحدة، كما في حديث أَنَسَ بن مَالِكٍ –رضي الله عنه- أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- كان يَطُوفُ على نِسَائِهِ في اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ[17]. فهذا محمول على رضاهن، أو على الاستحباب اقتداء به – صلى الله عليه وسلم-[18].
واستدلوا:1-بقول الله تعالى: {... فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .. } [19]..
2- بحديث أبي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- عن رسول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قال: "من كانت له امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلا إِحْدَاهُمَا جاء يوم الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ"[20]. فدلة الآية والحديث على وجوب العدل بين الزوجات ,ومن ذلك العدل في قسمة الليالي.
المطلب الرابع: مقدار المبيت عند البكر والثيب
:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا,ثم دار على بقية نسائه, ولا يحتسب عليها بما أقام عندها, وإن تزوج ثيبا أقام عندها ثلاثا ثم دار, ولا يحتسب عليها بما أقام عندها، وهذا مذهب مالك, والشافعي, وأحمد[21].
واستدلوا بما يلي: 1- بحديث أَنَسِ بن مَالِكٍ –رضي الله عنه- قال: السنة إذا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ على الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وإذا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ على الْبِكْرِ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا[22].
2- بحديث أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- لَمَّا تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وقال: إنه ليس بِكِ على أَهْلِكِ هَوَانٌ إن شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ, وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي[23].
القول الثاني: لا فضل للجديدة في القسم في المبيت، فإن أقام عندها شيئا قضاه للباقيات، وإليه ذهب الأحناف[24].
واستدلوا بما يلي: - بحديث أبي هريرة –رضي الله عنه- عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل"[25].فدل الحديث على أنه لا تفضيل بين البكر والثيب في قسمة الليالي.
2- ولأنهما يستويان في سبب وجوب القسم وهو النكاح ,فيستويان في وجوب القسم في المبيت.[26].
الترجيح:الذي يظهر لي ترجيحه –والعلم عند الله- هو القول الأول ؛لقوة أدلته, وأما استدلال أصحاب القول الثاني ؛فهو في مقابلة النص، فلا عبرة به.
المطلب الخامس: وقت ابتداء القسم في المبيت
ندب الابتداء بالليل,وإذا قسم لها ليلة كان لها الليلة، وما يليها من النهار, فالنهار وقت الانتشار, وطلب الرزق, وقد يكثر في يوم ويقل في آخر, والضبط فيه عسر بخلاف الليل, وهذا قول جمهور الفقهاء[27].
واستدلوا بما يلي: 1- بقوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً* وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} [28].فالليل وقت السكون، والنهار وقت الانتشار في طلب المعاش[29].
2- حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: وكان يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا[30].
المبحث الثاني
حكم القسم في المبيت على المريض ونحوه
اتفق الفقهاء على أنه يجب القسم في المبيت على المريض، وزوج المريضة، والمجبوب[31]وللحائض، والنفساء[32].
واستدلوا بما يأتي:
1- بحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يَسْأَلُ في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فيه أَيْنَ أنا غَدًا؟ أَيْنَ أنا غَدًا؟ يُرِيدُ يوم عَائِشَةَ, فَأَذِنَ له أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ, فَكَانَ في بَيْتِ عَائِشَةَ حتى مَاتَ عِنْدَهَا, قالت: عَائِشَةُ فَمَاتَ في الْيَوْمِ الذي كان يَدُورُ عَلَيَّ فيه في بَيْتِي
[33].
فرَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ في مَرَضِ مَوْتِهِ أَنْ يَكُونَ في بَيْتِ عَائِشَةَ -رضي اللَّهُ عنها-, فَلَوْ سَقَطَ الْقَسْمُ بِالْمَرَضِ لم يَكُنْ لِلاسْتِئْذَانِ مَعْنًى[34].
2- ولان القسم يراد للأنس والإيواء؛ وذلك يحصل مع هؤلاء[35].
المبحث الثالث
أثر الهبة في حكم المبيت
المطلب الأول: حكم هبة المرأة حقها من القسم في المبيت:
اتفق الفقهاء على أنه يجوز للمرأة أن تهب حقها من القسم لزوجها أو لبعض ضرائرها أو لهن جميعاً، ولا يجوز إلا برضى الزوج[36].
والأدلة على ذلك:
1- حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: وكان يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا، غير أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ- زَوْجِ النبي – صلى الله عليه وسلم- - تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رسول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم-[37].
2- و لأن حقه في الاستمتاع بها لا يسقط إلا برضاه[38].
المطلب الثاني: الحكم إذا رجعت الواهبة في ليلتها:
اتفق الفقهاء على أن الواهبة إذا رجعت في ليلتها فلها ذلك في المستقبل؛لأنها هبة لم تقبض, وليس له الرجوع فيما مضى؛ لأنه بمن*زلة المقبوض؛ ولِأَنَّ ذلك كُلَّهُ كان إبَاحَةً منها، وَالإِبَاحَة لا تَكُون لازِمَةً كَالْمُبَاحِ له الطَّعَام؛ فإنَّهُ يَمْلِكُ الْمُبِيحُ مَنْعَهُ، وَالرُّجُوعَ عن ذلك[39].
وأما إذا بذلت ليلتها بمال فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: إذا بذلت ليلتها بمال لم يصح، وإليه ذهب الحنفية, والشافعية, والحنابلة[40].
واستدلوا:
بأن حقها في كون الزوج عندها, وليس ذلك بمال فلا يجوز مقابلته بمال, وهذا الحق ليس بعين ولا منفعة؛ لأن مقامه عندها ليس بمنفعة ملكتها عليه, فإذا أخذت عليه مالا لزمها رده، وعليه أن يقضي لها، لأنها تركته بشرط العوض ولم يجز لها[41].
القول الثاني: يكره أخذ المال في التنازل عن المبيت, وهو مذهب المالكية[42].
واستدلوا:
بأن المرأة لا تدري ما تحصل لها بما أعطت؛ فقد لا يصيبها في تلك الليلة، والرجل يدري ما يحصل[43].
الترجيح: الذي يظهر لي ترجيحه –والعلم عند الله- هو القول الأول؛ لقوة أدلته.
المبحث الرابع
أثر السفر في حكم المبيت
اتفق الفقهاء على أن الزوج إذا أراد سفرا فأحب حمل نسائه معه كلهن أوتركهن كلهن لم يحتج إلى قرعة؛ لأن القرعة لتعيين المخصوصة منهن بالسفر, وهاهنا قد سوى بينهن[44].
وإن أراد السفر ببعضهن بدون قرعة هل يلزمه القضاء لنسائه بعد قدومه؟.
فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز له أن يسافر بأحدهن دون البواقي إلا بقرعة, ويلزمه إن سافر ببعضهن بدون قرعة القضاء لنسائه بعد قدومه، وهذا مذهب الشافعية, والحنابلة[45].
واستدلوا:
1- بحديث عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قالت: كان رسول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- إذا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بين نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بها معه[46].
وفي لفظ: أَنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم- كان إذا خَرَجَ أَقْرَعَ بين نِسَائِهِ فَطَارَتْ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ[47] .
2- بحديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "من كانت له امرأتان يميل إلى إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل"[48]. والبداءة بإحداهما من غير قرعة تدعو إلى النفور, فإذا قسم لواحدة بغير القرعة، ولم يقض فقد مال فدخل في الوعيد[49]؛ لقول الله تعالى: {فَلاَ تَمِيلُوا كُل الْمَيْل}
[50].
القول الثاني: أن القرعة في حقه مستحبة, و لايلزمه القضاء لنسائه بعد قدومه، وإليه ذهب الحنفية, والمالكية[51].
واستدلوا بمايأتي:
بأنه لا يحصل لها من السكن في السفر مثل ما يحصل في الحضر؛ فقد لحقها من تعب السفر ومشقته ما يقابل ذلك, والمتخلفة وإن فاتها حظها من الزوج فقد ترفهت بالدعة والإقامة, فتقابل الأمران فاستويا ؛ وذلك لأن مُدَّةَ السفر ضائعة, بِدَلِيلِ أَنَّ له أَنْ يسافر وحده دُونَهُنَّ, لَكِنْ الْأَفْضَلُ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ فَيَخْرُجُ بِمِنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ ودَفْعًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عن نَفْسِهِ[52].
الترجيح:الذي يظهر لي ترجيحه هو القول بأنه لا يجوز سفر الزوج بإحدى نسائه دون البواقي إلا بقرعة، وإن سافر بدون قرعة يلزمه القضاء بعد قدومه؛ نظرا لقوة أدلته, ولأنه دين بقي في ذمته فلابد من قضائه.
المبحث الخامس
هل يجب على المتوفى عنها زوجها المبيت في منزلها؟
اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يجب على المتوفى عنها زوجها المبيت في من*زلها, والاعتداد فيه, ورخصوا لها في الانتقال منه عند الفزع, والخوف الشديد ، وبه قال جمهور الفقهاء, ومنهم الأئمة الأربعة[53].
قال ابن عبد البر- رحمه الله -: "هذا... مشهور عند الفقهاء بالحجاز، والعراق، معمول به عندهم، تلقوه بالقبول، وأفتوا به، وإليه ذهب مالك, والشافعي، وأبو حنيفة... وأحمد بن حنبل كلهم يقول: إن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيتها الذي كانت تسكنه, وسواء كان لها أو لزوجها, ولا تبيت إلا فيه حتى تنقضي عدتها,ولها أن تخرج نهارها في حوائجها"[54].
الأدلـة:
1- عن ْفُرَيْعَة َبنت مَالِكٍ -رضي الله عنها- قالت: "خَرَجَ زَوْجِي في طَلَبِ أَعْلاجٍ[55] له فَأَدْرَكَهُمْ بِطَرَفِ الْقَدُومِ[56]. فَقَتَلُوهُ، فَجَاءَ نَعْيُ زَوْجِي وأنا في دَارٍ من دُورِ الأَنْصَارِ شَاسِعَةٍ عن دَارِ أَهْلِي, فَأَتَيْتُ النبي – صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رَسُولَ اللَّهِ: إنه جاء نَعْيُ زَوْجِي وأنا في دَارٍ شَاسِعَةٍ عن دَارِ أَهْلِي، وَدَارِ إِخْوَتِي، ولم يَدَعْ مَالاً يُنْفِقُ عَلَيَّ، ولا مَالاً لوَرِثْتُهُ, ولا دَارًا يَمْلِكُهَا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْذَنَ لي فَأَلْحَقَ بِدَارِ أَهْلِي، وَدَارِ إِخْوَتِي، فإنه أَحَبُّ إلي، وَأَجْمَعُ لي في بَعْضِ أَمْرِي، قال: فَافْعَلِي إن شِئْتِ، قالت: فَخَرَجْتُ قَرِيرَةً عَيْنِي لِمَا قَضَى الله لي على لِسَانِ رسول اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- ، حتى إذا كنت في الْمَسْجِدِ أو في بَعْضِ الْحُجْرَةِ دَعَانِي، فقال: كَيْفَ زَعَمْتِ؟ قالت: فَقَصَصْتُ عليه، فقال: امْكُثِي في بَيْتِكِ الذي جاء فيه نَعْيُ زَوْجِكِ حتى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، قالت: فَاعْتَدَدْتُ فيه أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"[57].
قال ابن قدامة -رحمه الله-: "وهو حديث صحيح قضى به عثمان –رضي الله عنه- في جماعة الصحابة فلم ينكروه، وإذا ثبت هذا فإنه يجب الاعتداد في المن*زل الذي مات زوجها وهي ساكنة به، سواء كان مملوكا لزوجها، أو بإجارة،أو عارية؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال لفريعة -رضي الله عنها-: امكثي في بيتك, ولم تكن في بيت يملكه زوجها[58].
2- لأن الليل مظنة الفساد بخلاف النهار؛ فإنه مظنة قضاء الحوائج، والمعاش، وشراء ما يحتاج إليه[59].
القول الثاني: تعتد حيث شاءت، وروي ذلك عن علي, وابن عباس, وجابر, وعائشة,رضي الله عنهم أجمعين[60].
واستدلوا:
بقول الله تعالى: {... فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [61]. فنسخت هذه الآية عدتها عند أهله,فتعتد حيث شاءت[62].
والجواب عن هذا الاستدلال: بأن المنسوخ في هذه الآية حكم آخر غير الاعتداد في المن*زل، وهو استحقاقها للسكنى في بيت الزوج الذي صار للورثة، وصية أوصى الله بها الأزواج تقدم به على الورثة, ثم نسخ ذلك بالميراث, ولم يبق لها استحقاق في السكنى المذكورة, فإن كان المن*زل الذي توفي فيه الزوج لها, أو بذل الورثة لها السكنى لزمها الاعتداد فيه, وهذا ليس بمنسوخ فالواجب عليها فعل السكنى لا تحصيل المسكن، فالذي نسخ إنما هو اختصاصها بالسكنى دون الورثة, والذي أمرت به أن تمكث في بيتها حتى تنقضي عدتها، ولا تنافي بين الحكمين[63].
يتبع