ابو وليد البحيرى
2018-09-04, 02:28 PM
فحص المحتوى الوراثي (البصمة الوراثية )(1-3)
د. محمد بن هائل المدحجي
قبل كل شيء لا بد أن نعرف المقصود بالمحتوى الوراثي أو البصمة الوراثية ، ولتوضيح ذلك أقول وبالله التوفيق :
الخلية هي وحدة البناء الأساسية للكائنات الحية. ويتكون جسم الإنسان مما يزيد على 10 تريليون خلية_ التريليون ألف مليار_ ، وتتركب الخلية الحية من ثلاثة أجزاء رئيسة هي: غشاء الخلية، وسائل الخلية (السيتوبلازم)، والنواة ، وتحتوي النواة على المادة الوراثية ، حيث يوجد داخل النواة أجسام خيطية تعرف بالكروموسومات ، وتتكون هذه الكروموسومات من سلسلة طويلة، مطوية طياً محكماً، ومصفوفة بشكل بديع، وتحمل المورثات (الجينات) التي تنتقل عبرها الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء.
وتحتوي خلايا الجسم كافة على (46) كروموسوماً، أما الخلايا الجنسية (الحيوانات المنوية والبويضات) فتحتوي على (23) كروموسوماً فقط، واحد منها هو الكروموسوم الجنسي، ويختلف حسب نوع الخلية الجنسية, فيكون في البويضة أنثوياً, أما في الحيوان المنوي فإنه قد يكون ذكريا أو أنثويا, وعندما يلتقي الحيوان المنوي بالبويضة ويخترق جدارها تتحد كروموسوماته مع كروموسوماتها، فيكون عدد الكروموسومات الكلي في اللقيحة (46) كروموسوماً، نصفها يأتي من المرأة ونصفها من الرجل، ويتوقف جنس الجنين على نوع الحيوان المنوي الملقح للبويضة، فإن كان حاملاً للكروموسوم الجنسي الذكري فإن المولود يكون ذكراً، وإن كان حاملاً للكروموسوم الجنسي الأنثوي فإن المولود يكون أنثى.
فأصل الخلايا أتى من خلية واحدة، وهي البويضة الملقحة بالحيوان المنوي التي تنقسم إلى خليتين، والخليتان إلى أربع، والأربع إلى ثمان، وهكذا توالي انقساماتها عند بداية تكوين الإنسان، ثم بعد ذلك تتنوع إلى مجموعات من الخلايا المتباينة التي تكون الأنسجة.
ويتكون الكروموسوم من سلسلتين من الحامض النووي - الذي يعرف باسم: (dna) أو الدَّنـا- تلتفان على بعضهما البعض بشكل حلزوني وتكوِّنان لولباً مزدوجاً، ويوجد على هذا الحامض الجينات، وهي الأجزاء التي تحمل الصفات الوراثية الموجودة بالجنين منذ بداية نشأته وتكوينه.
ويتحكم الجين عن طريق توجيه الخلية بأن تصنع بروتينات معينة، وبكميات محددة في أماكن معينة من جسم الإنسان في الصفات الوراثية من طول الجسم وقصره وشكله ولونه، ونبرة الصوت ولون العين، وحدَّة شمّ الأنف، وغير ذلك، وكذا الإصابة بالمرض الوراثي، ويشترك في إبراز كل صفة من الصفات جينات متعددة، وتنتقل هذه الصفات بواسطة الجينات من الآباء إلى الأبناء.
والجين له صورتان: إحداهما تأتي من الأب، والأخرى من الأم، وكل واحدة توجد على الموقع نفسه من الكروموسومين المتماثلين، وتنقسم الجينات إلى ثلاثة أنواع:
1- جينات سائدة.
2- جينات متنحية.
3- جينات مرتبطة بالجنس.
ويظهر المرض الوراثي بسبب خلل في الجين نتيجة تغيرات تطرأ على الحمض النووي، وهو ينقسم بحسب طريقة انتقاله إلى ثلاثة أنواع:
الأول: مرض وراثي سائد: وهو المرض الذي ينتقل بواسطة أحد الجينين الحاملين للصفة الواحدة, وهذا الجين إما أن يكون منتقلاً من أحد الأبوين أو كليهما، فوجود جين واحد مريض يتسبب في ظهور المرض سواء أكان من الأب أم من الأم.
الثاني: مرض وراثي متنحي: وهو المرض الذي لا ينتقل إلا بوجود زوج من الجينات المريضة، فيظهر المرض في حالة توارث الجين المعتل من كلا الأبوين.
الثالث: مرض وراثي مرتبط بالجنس: وهو المرض الذي ينتقل عبر الكروموسوم الجنسي، وهذا الكروموسوم وظيفته الأساسية هي تحديد جنس المولود، لكن الصبغي الأنثوي يحمل عدداً من الجينات التي تتحكم في إظهار صفات أخرى غير الجنس.
كانت هذه إطلالة على المحتوى الوراثي أو البصمة الوراثية التي يعتبر التمكن من فحصها من نوازل هذا العصر ، وفحص المحتوى الوراثي هو: " الكشف الذي يتم على البنية الجينية لفرد بعينه، للكشف عن هوية صاحبها، أو الوقوف على ما تحمله هذه البنية من تشوهات, أو أمراض وراثية".
ويمكن الحصول على المحتوى الوراثي من أي جزءٍ من أجزاء الإنسان: كاللحم، والعظم، والجلد، والظفر، والشعر، والدم، والبول، والمني، واللعاب، كما أن من أهم خصائصه أنه يقاوم التحلل والعفن والعوامل الجوية المختلفة من حرارة ورطوبة وجفاف لفترات طويلة، ويمكن أخذه من الآثار الحديثة والقديمة، كما أن نتيجة فحصه سهلة القراءة والحفظ والتخزين في الحاسب الآلي إلى حين الاحتياج إليها.
ويتميز المحتوى الوراثي - أو البصمة الوراثية - بالخصائص التالية:
1- يتميز كل إنسان بمحتوى وراثي خاص به، ومن المستحيل أن يتطابق المحتوى الوراثي لشخص مع المحتوى الوراثي لغيره إلا في حالة التوأمين المتطابقين الذين أصلهما بويضة واحدة وحيوان منوي واحد، ويبدأ المحتوى الوراثي مع الإنسان منذ تكوينه إلى وفاته، ويمكن التعرف على صاحبه حتى بعد وفاته، وتحليل شيء من هيكله.
2- المحتوى الوراثي لا يتغير من مكان لآخر في جسم الإنسان، ويمكن استخراجه من جميع العينات البيولوجية من أعضاء الجسم أو سوائله كالدم، والمني، واللعاب، والأنسجة، والجلد، والعظم، ويكفي في ذلك تحليل عينة ضئيلة ولو كانت بحجم رأس الدبوس.
3- المحتوى الوراثي له القدرة على تحمل الظروف الجوية السيئة المحيطة، وهو مقاوم للتحلل والتعفن إلى حدٍ كبير، ومن هنا يمكن عمل فحص المحتوى الوراثي من التلوثات المنوية أو الدموية الجافة التي مضى عليها وقت طويل، كما يمكن أيضاً تخزين الحمض النووي بعد استخلاصه من العينات مدة طويلة جداً.
4- نتائج فحص المحتوى الوراثي شبه قطعية، إذ لا تقل نسبة صحتها في تحديد هوية صاحبها عن (99% ) إذا أجريت طبق معايير وضوابط معينة، كما يمكن تخزين هذه النتائج وحفظها في الكمبيوتر أو على الأفلام إلى أمد غير محدد أو لحين الحاجة إلى المقارنة.
وإذا كانت نتائج فحص المحتوى الوراثي بهذه الدقة فلا يظهر مانع شرعي في الأخذ بموجبها، وترتيب الأحكام الشرعية عليها، إذا تم ذلك وفق الضوابط المعتبرة، متى ما دعت الحاجة إلى ذلك.
وقد صدر بشأن البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها قرار المجمع الفقهي الإسلامي، المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي، في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في المدة من (12-26/10/1422هـ) الموافق (5-10/1/2002م) وفيه:
" أولاً: لا مانع شرعاً من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي، واعتبارها وسيلة إثبات في الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص لخبر: " ادرؤوا الحدود بالشبهات " وذلك يحقق العدالة والأمن للمجتمع، ويؤدي إلى نيل المجرم عقابه وتبرئة المتهم، وهذا مقصد مهم من مقاصد الشريعة.
ثانياً: إن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لا بد أن يحاط بمنتهى الحذر والحيطة والسرية، ولذلك لا بد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية.
ثالثاً: لا يجوز شرعاً الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان.
رابعاً: لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعاً، ويجب على الجهات المختصة منعه، وفرض العقوبات الزاجرة؛ لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصوناً لأنسابهم.
خامساً: يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية:
أ*- حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء، سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها، أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه.
ب*- حالات الاشتباه في المواليد والمستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب.
ج- حالات ضياع الأطفال واختلاطهم، بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب، وتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين.
سادساً: لا يجوز بيع الجينوم البشري لجنس، أو لشعب، أو لفرد، لأي غرض من الأغراض، كما لا تجوز هبتها لأي جهة، لما يترتب على بيعها أو هبتها من مفاسد.
سابعاً: يوصي المجمع بما يأتي:
أ*- أن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية إلا بطلب من القضاء، وأن يكون في مختبرات للجهات المختصة، وأن تمنع القطاع الخاص الهادف للربح من مزاولة هذا الفحص، لما يترتب على ذلك من المخاطر الكبرى.
ب*- تكوين لجنة خاصة بالبصمة الوراثية في كل دولة، يشترك فيها المتخصصون الشرعيون، والأطباء، والإداريون، وتكون مهمتها الإشراف على نتائج البصمة الوراثية، واعتماد نتائجها.
ج*- أن توضع آلية دقيقة لمنع الانتحال والغش، ومنع التلوث وكل ما يتعلق بالجهد البشري في حقل مختبرات البصمة الوراثية، حتى تكون النتائج مطابقة للواقع، وأن يتم التأكد من دقة المختبرات، وأن يكون عدد المورثات (الجينات المستعملة للفحص) بالقدر الذي يراه المختصون ضرورياً دفعاً للشك".
وظاهر من القرار السابق أنه يجوز ترتيب الأحكام الشرعية على فحص المحتوى الوراثي في المجال الجنائي، وفي مجال إثبات النسب، ويمكن أن سنسلط مزيداً من الضوء على ذلك فيما يلي :
أولاً: في المجال الجنائي:
يمكن الاستفادة من فحص المحتوى الوراثي في إثبات أو نفي الجرائم، والتعرف على الجاني في كثير من القضايا والجرائم الجنائية كجرائم الدم، أو جرائم الاعتداءات الجنسية، أو السرقة، أو الاختطاف، وذلك من خلال ما يتركه الجاني في مكان الجريمة من آثار - كالدم، أو الشعر، أو المني، أو اللعاب الموجود على بقايا الأكل أو أعقاب السجائر، أو على طوابع البريد، ونحو ذلك - ، وهذه الآثار تدل على هوية الجاني بعد فحصها ومقارنتها بالمحتوى الوراثي للمشتبه به.
ويمكن القول بأن العمل بنتائج فحص المحتوى الوراثي في إثبات الجرائم هو من قبيل العمل بالقرائن، والذي عليه الحكام قديماً وحديثاً هو العمل بالقرائن، والاعتماد عليها في إثبات الجنايات، قال ابن القيم رحمه الله: "ولم يزل حذَّاق الحكَّام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لم يقدموا عليها شهادةً تخالفها ولا إقراراً" [الطرق الحكمية ص 34 ] .
والأخذ بفحص المحتوى الوراثي في المجال الجنائي فيه تحقيق لمصالح كثيرة، ودرء لمفاسد ظاهرة، فهو وسيلة لغاية مشروعة، وللوسائل حكم الغايات، وإذا كانت القرائن متفاوتة قوة وضعفاً، فإن فحص المحتوى الوراثي يعدّ من أقواها وأعلاها منزلة وقدراً؛ لأنه بمعزلٍ عن الخطأ وبمأمنٍ من الاشتباه، وما كان كذلك من القرائن فإنه يعدُّ وسيلةً صالحةً للإثبات. قال ابن القيم رحمه الله: " فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر وأقوى دلالة وأبين أمارة، فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له " [الطرق الحكمية ص 19 ] .
ثانياً: في مجال إثبات النسب:
حدَّد المجمع الفقهي الإسلامي في قراره السابق حالات معينة يجوز الاعتماد فيها على فحص المحتوى الوراثي لإثبات النسب، وهي الحالات التي تدعو الحاجة إلى اعتماد فحص المحتوى الوراثي فيها، حيث جاء في قراره: " يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية:
1- حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء، سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها، أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه.
2- حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب.
3- حالات ضياع الأطفال واختلاطهم بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب، وتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين".
و الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، وفي القول بإثبات النسب بفحص المحتوى الوراثي تحصيل لمصلحة ظاهرة وهي انتماء الولد إلى أب شرعي وعدم ضياعه، ودرء لمفسدة وهي نسبته لمن لا ينتمي إليه زوراً وبهتاناً.
يقول ابن القيم رحمه الله: "وأصول الشرع وقواعده والقياس الصحيح تقتضي اعتبار الشبه في لحوق النسب، والشارع متشوف إلى اتصال الأنساب وعدم انقطاعها، ولهذا اكتفى في ثبوتها بأدنى الأسباب: من شهادة المرأة الواحدة على الولادة، والدعوى المجردة مع الإمكان، وظاهر الفراش، فلا يستبعد أن يكون الشبه الخالي عن سبب مقاوم له كافياً في ثبوته" [الطرق الحكمية ص323 ].
فإذا كان الشارع قد اعتبر القيافة في إثبات النسب في بعض الحالات، فإن اعتبار فحص المحتوى الوراثي في هذا المجال من باب أولى؛ لأن القيافة قائمةٌ على مراعاة الصفات الخارجية للإنسان غالباً، وكثيراً ما يحصل التشابه في هذه الصفات، أمَّا فحص المحتوى الوراثي فإنه يراعي الصفات الداخلية التي يتميز بها كل إنسان عن غيره ويختصُّ بها، ولذلك فهو أدقُّ من القيافة وأضبط منها.
وقد جاء في توصية ندوة الوراثة والهندسـة الوراثية المنـبثقة عن المنظمة الإسـلامية للعلوم الطبية ما نصه:
" البصمة الوراثية من الناحية العملية وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية والتحقق من الشخصية، ولا سيما في مجال الطب الشرعي، وهي ترقى إلى مستوى القرائن القوية التي يأخذ بها أكثر الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية، وتمثل تطوراً عصرياً عظيما في مجال القيافة التي يذهب إليها جمهور الفقهاء في إثبات النسب المتنازع فيه، ولذلك ترى الندوة أن يؤخذ بها في كل ما يؤخذ فيه بالقيافة من باب أولى ".
وقد ذكر بعض الباحثين ضوابط الاعتماد على نتيجة فحص المحتوى الوراثي في مجال النسب، وهي كما يلي:
1- أن يكون استخدام فحص المحتوى الوراثي في إثبات النسب لا في نفيه: وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي: " لا يجوز شرعاً الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان ".
2- ألا يستخدم فحص المحتوى الوراثي في التأكد من نسب ثابت: وذلك لأن استخدامه في مثل هذا يؤدي إلى التشكيك في أنساب الناس، وينشر سوء الظن بين الأزواج، ويقوي الريبة بين أفراد المجتمع.
3- ألا يستخدم فحص المحتوى الوراثي بديلاً عن الوسائل المنصوص عليها: فيجب تقديم الوسائل والطرق المنصوص عليها في إثبات النسب ولا سيما المتفق عليها كالفراش والإقرار والبينة؛ لأن هذه الطرق أقوى في تقدير الشرع، فلا يلجأ إلى غيرها كفحص المحتوى الوراثي والقيافة إلا عند التنازع في الإثبات، وعدم الدليل الأقوى، أو عند تعارض الأدلة.
و من أجل ضمان صحة نتائج فحص المحتوى الوراثي هناك ضوابط لا بد من تحققها، وهذه الضوابط تتعلق بخبراء الفحص، وبطريقة إجراء التحاليل، وبالمعامل الخاصة بذلك، وهذه الضوابط كما يلي:
1- أن تكون المختبرات والمعامل الفنية مزودة بأحسن الأجهزة ذات التقنيات العالمية، والمواصفات الفنية القابلة للاستمرار والتفاعل مع العينات والظروف المحيطة بها.
2- أن تكون هذه المختبرات والمعامل تابعة للدولة، أو تشرف عليها إشرافاً مباشراً؛ لئلا يتم التلاعب فيها لمجرد المصالح الشخصية، والأهواء الدنيوية، وبالتالي يكون النسب عرضةً للضياع، وقد أوصى المجمع الفقهي الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي بـ: " أن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية إلا بطلب من القضاء، وأن يكون في مختبرات للجهات المختصة، وأن تمنع القطاع الهادف للربح من مزاولة هذا الفحص؛ لما يترتب على ذلك من المخاطر الكبرى".
3- أن يكون جميع العاملين في المختبرات الخاصة بفحص المحتوى الوراثي من خبراء أو مساندين في أعمال الفحص ممن تتوفر فيهم أهلية قبول الشهادة، إضافة إلى معرفتهم وخبرتهم في مجال تخصصهم الدقيق في المختبر، حتى لا يؤدي عدم ذلك إلى تدهور النتائج الفنية، وبالتالي ضياع الحقوق.
4- أن يتم عمل فحص المحتوى الوراثي بطرق متعددة، وبعدد أكبر من الأحماض الأمينية ضماناً لصحة النتائج، وتوثيق كل خطوة من خطوات الفحص بدءاً من نقل العينات إلى ظهور النتائج النهائية؛ حرصاً على سلامة تلك العينات، وضماناً لصحة نتائجها، مع حفظ نتائج الفحص للرجوع إليها عند الحاجة.
فإذا توفرت هذه الشروط والضوابط في خبراء ومعامل ومختبرات فحص المحتوى الوراثي، فإنه لا مجال للتردد - فيما يظهر - في مشروعية ترتيب الأحكام على نتيجة فحص المحتوى الوراثي.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. محمد بن هائل المدحجي
قبل كل شيء لا بد أن نعرف المقصود بالمحتوى الوراثي أو البصمة الوراثية ، ولتوضيح ذلك أقول وبالله التوفيق :
الخلية هي وحدة البناء الأساسية للكائنات الحية. ويتكون جسم الإنسان مما يزيد على 10 تريليون خلية_ التريليون ألف مليار_ ، وتتركب الخلية الحية من ثلاثة أجزاء رئيسة هي: غشاء الخلية، وسائل الخلية (السيتوبلازم)، والنواة ، وتحتوي النواة على المادة الوراثية ، حيث يوجد داخل النواة أجسام خيطية تعرف بالكروموسومات ، وتتكون هذه الكروموسومات من سلسلة طويلة، مطوية طياً محكماً، ومصفوفة بشكل بديع، وتحمل المورثات (الجينات) التي تنتقل عبرها الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء.
وتحتوي خلايا الجسم كافة على (46) كروموسوماً، أما الخلايا الجنسية (الحيوانات المنوية والبويضات) فتحتوي على (23) كروموسوماً فقط، واحد منها هو الكروموسوم الجنسي، ويختلف حسب نوع الخلية الجنسية, فيكون في البويضة أنثوياً, أما في الحيوان المنوي فإنه قد يكون ذكريا أو أنثويا, وعندما يلتقي الحيوان المنوي بالبويضة ويخترق جدارها تتحد كروموسوماته مع كروموسوماتها، فيكون عدد الكروموسومات الكلي في اللقيحة (46) كروموسوماً، نصفها يأتي من المرأة ونصفها من الرجل، ويتوقف جنس الجنين على نوع الحيوان المنوي الملقح للبويضة، فإن كان حاملاً للكروموسوم الجنسي الذكري فإن المولود يكون ذكراً، وإن كان حاملاً للكروموسوم الجنسي الأنثوي فإن المولود يكون أنثى.
فأصل الخلايا أتى من خلية واحدة، وهي البويضة الملقحة بالحيوان المنوي التي تنقسم إلى خليتين، والخليتان إلى أربع، والأربع إلى ثمان، وهكذا توالي انقساماتها عند بداية تكوين الإنسان، ثم بعد ذلك تتنوع إلى مجموعات من الخلايا المتباينة التي تكون الأنسجة.
ويتكون الكروموسوم من سلسلتين من الحامض النووي - الذي يعرف باسم: (dna) أو الدَّنـا- تلتفان على بعضهما البعض بشكل حلزوني وتكوِّنان لولباً مزدوجاً، ويوجد على هذا الحامض الجينات، وهي الأجزاء التي تحمل الصفات الوراثية الموجودة بالجنين منذ بداية نشأته وتكوينه.
ويتحكم الجين عن طريق توجيه الخلية بأن تصنع بروتينات معينة، وبكميات محددة في أماكن معينة من جسم الإنسان في الصفات الوراثية من طول الجسم وقصره وشكله ولونه، ونبرة الصوت ولون العين، وحدَّة شمّ الأنف، وغير ذلك، وكذا الإصابة بالمرض الوراثي، ويشترك في إبراز كل صفة من الصفات جينات متعددة، وتنتقل هذه الصفات بواسطة الجينات من الآباء إلى الأبناء.
والجين له صورتان: إحداهما تأتي من الأب، والأخرى من الأم، وكل واحدة توجد على الموقع نفسه من الكروموسومين المتماثلين، وتنقسم الجينات إلى ثلاثة أنواع:
1- جينات سائدة.
2- جينات متنحية.
3- جينات مرتبطة بالجنس.
ويظهر المرض الوراثي بسبب خلل في الجين نتيجة تغيرات تطرأ على الحمض النووي، وهو ينقسم بحسب طريقة انتقاله إلى ثلاثة أنواع:
الأول: مرض وراثي سائد: وهو المرض الذي ينتقل بواسطة أحد الجينين الحاملين للصفة الواحدة, وهذا الجين إما أن يكون منتقلاً من أحد الأبوين أو كليهما، فوجود جين واحد مريض يتسبب في ظهور المرض سواء أكان من الأب أم من الأم.
الثاني: مرض وراثي متنحي: وهو المرض الذي لا ينتقل إلا بوجود زوج من الجينات المريضة، فيظهر المرض في حالة توارث الجين المعتل من كلا الأبوين.
الثالث: مرض وراثي مرتبط بالجنس: وهو المرض الذي ينتقل عبر الكروموسوم الجنسي، وهذا الكروموسوم وظيفته الأساسية هي تحديد جنس المولود، لكن الصبغي الأنثوي يحمل عدداً من الجينات التي تتحكم في إظهار صفات أخرى غير الجنس.
كانت هذه إطلالة على المحتوى الوراثي أو البصمة الوراثية التي يعتبر التمكن من فحصها من نوازل هذا العصر ، وفحص المحتوى الوراثي هو: " الكشف الذي يتم على البنية الجينية لفرد بعينه، للكشف عن هوية صاحبها، أو الوقوف على ما تحمله هذه البنية من تشوهات, أو أمراض وراثية".
ويمكن الحصول على المحتوى الوراثي من أي جزءٍ من أجزاء الإنسان: كاللحم، والعظم، والجلد، والظفر، والشعر، والدم، والبول، والمني، واللعاب، كما أن من أهم خصائصه أنه يقاوم التحلل والعفن والعوامل الجوية المختلفة من حرارة ورطوبة وجفاف لفترات طويلة، ويمكن أخذه من الآثار الحديثة والقديمة، كما أن نتيجة فحصه سهلة القراءة والحفظ والتخزين في الحاسب الآلي إلى حين الاحتياج إليها.
ويتميز المحتوى الوراثي - أو البصمة الوراثية - بالخصائص التالية:
1- يتميز كل إنسان بمحتوى وراثي خاص به، ومن المستحيل أن يتطابق المحتوى الوراثي لشخص مع المحتوى الوراثي لغيره إلا في حالة التوأمين المتطابقين الذين أصلهما بويضة واحدة وحيوان منوي واحد، ويبدأ المحتوى الوراثي مع الإنسان منذ تكوينه إلى وفاته، ويمكن التعرف على صاحبه حتى بعد وفاته، وتحليل شيء من هيكله.
2- المحتوى الوراثي لا يتغير من مكان لآخر في جسم الإنسان، ويمكن استخراجه من جميع العينات البيولوجية من أعضاء الجسم أو سوائله كالدم، والمني، واللعاب، والأنسجة، والجلد، والعظم، ويكفي في ذلك تحليل عينة ضئيلة ولو كانت بحجم رأس الدبوس.
3- المحتوى الوراثي له القدرة على تحمل الظروف الجوية السيئة المحيطة، وهو مقاوم للتحلل والتعفن إلى حدٍ كبير، ومن هنا يمكن عمل فحص المحتوى الوراثي من التلوثات المنوية أو الدموية الجافة التي مضى عليها وقت طويل، كما يمكن أيضاً تخزين الحمض النووي بعد استخلاصه من العينات مدة طويلة جداً.
4- نتائج فحص المحتوى الوراثي شبه قطعية، إذ لا تقل نسبة صحتها في تحديد هوية صاحبها عن (99% ) إذا أجريت طبق معايير وضوابط معينة، كما يمكن تخزين هذه النتائج وحفظها في الكمبيوتر أو على الأفلام إلى أمد غير محدد أو لحين الحاجة إلى المقارنة.
وإذا كانت نتائج فحص المحتوى الوراثي بهذه الدقة فلا يظهر مانع شرعي في الأخذ بموجبها، وترتيب الأحكام الشرعية عليها، إذا تم ذلك وفق الضوابط المعتبرة، متى ما دعت الحاجة إلى ذلك.
وقد صدر بشأن البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها قرار المجمع الفقهي الإسلامي، المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي، في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في المدة من (12-26/10/1422هـ) الموافق (5-10/1/2002م) وفيه:
" أولاً: لا مانع شرعاً من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي، واعتبارها وسيلة إثبات في الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص لخبر: " ادرؤوا الحدود بالشبهات " وذلك يحقق العدالة والأمن للمجتمع، ويؤدي إلى نيل المجرم عقابه وتبرئة المتهم، وهذا مقصد مهم من مقاصد الشريعة.
ثانياً: إن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لا بد أن يحاط بمنتهى الحذر والحيطة والسرية، ولذلك لا بد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية.
ثالثاً: لا يجوز شرعاً الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان.
رابعاً: لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعاً، ويجب على الجهات المختصة منعه، وفرض العقوبات الزاجرة؛ لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصوناً لأنسابهم.
خامساً: يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية:
أ*- حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء، سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها، أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه.
ب*- حالات الاشتباه في المواليد والمستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب.
ج- حالات ضياع الأطفال واختلاطهم، بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب، وتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين.
سادساً: لا يجوز بيع الجينوم البشري لجنس، أو لشعب، أو لفرد، لأي غرض من الأغراض، كما لا تجوز هبتها لأي جهة، لما يترتب على بيعها أو هبتها من مفاسد.
سابعاً: يوصي المجمع بما يأتي:
أ*- أن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية إلا بطلب من القضاء، وأن يكون في مختبرات للجهات المختصة، وأن تمنع القطاع الخاص الهادف للربح من مزاولة هذا الفحص، لما يترتب على ذلك من المخاطر الكبرى.
ب*- تكوين لجنة خاصة بالبصمة الوراثية في كل دولة، يشترك فيها المتخصصون الشرعيون، والأطباء، والإداريون، وتكون مهمتها الإشراف على نتائج البصمة الوراثية، واعتماد نتائجها.
ج*- أن توضع آلية دقيقة لمنع الانتحال والغش، ومنع التلوث وكل ما يتعلق بالجهد البشري في حقل مختبرات البصمة الوراثية، حتى تكون النتائج مطابقة للواقع، وأن يتم التأكد من دقة المختبرات، وأن يكون عدد المورثات (الجينات المستعملة للفحص) بالقدر الذي يراه المختصون ضرورياً دفعاً للشك".
وظاهر من القرار السابق أنه يجوز ترتيب الأحكام الشرعية على فحص المحتوى الوراثي في المجال الجنائي، وفي مجال إثبات النسب، ويمكن أن سنسلط مزيداً من الضوء على ذلك فيما يلي :
أولاً: في المجال الجنائي:
يمكن الاستفادة من فحص المحتوى الوراثي في إثبات أو نفي الجرائم، والتعرف على الجاني في كثير من القضايا والجرائم الجنائية كجرائم الدم، أو جرائم الاعتداءات الجنسية، أو السرقة، أو الاختطاف، وذلك من خلال ما يتركه الجاني في مكان الجريمة من آثار - كالدم، أو الشعر، أو المني، أو اللعاب الموجود على بقايا الأكل أو أعقاب السجائر، أو على طوابع البريد، ونحو ذلك - ، وهذه الآثار تدل على هوية الجاني بعد فحصها ومقارنتها بالمحتوى الوراثي للمشتبه به.
ويمكن القول بأن العمل بنتائج فحص المحتوى الوراثي في إثبات الجرائم هو من قبيل العمل بالقرائن، والذي عليه الحكام قديماً وحديثاً هو العمل بالقرائن، والاعتماد عليها في إثبات الجنايات، قال ابن القيم رحمه الله: "ولم يزل حذَّاق الحكَّام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لم يقدموا عليها شهادةً تخالفها ولا إقراراً" [الطرق الحكمية ص 34 ] .
والأخذ بفحص المحتوى الوراثي في المجال الجنائي فيه تحقيق لمصالح كثيرة، ودرء لمفاسد ظاهرة، فهو وسيلة لغاية مشروعة، وللوسائل حكم الغايات، وإذا كانت القرائن متفاوتة قوة وضعفاً، فإن فحص المحتوى الوراثي يعدّ من أقواها وأعلاها منزلة وقدراً؛ لأنه بمعزلٍ عن الخطأ وبمأمنٍ من الاشتباه، وما كان كذلك من القرائن فإنه يعدُّ وسيلةً صالحةً للإثبات. قال ابن القيم رحمه الله: " فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر وأقوى دلالة وأبين أمارة، فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له " [الطرق الحكمية ص 19 ] .
ثانياً: في مجال إثبات النسب:
حدَّد المجمع الفقهي الإسلامي في قراره السابق حالات معينة يجوز الاعتماد فيها على فحص المحتوى الوراثي لإثبات النسب، وهي الحالات التي تدعو الحاجة إلى اعتماد فحص المحتوى الوراثي فيها، حيث جاء في قراره: " يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية:
1- حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء، سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها، أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه.
2- حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب.
3- حالات ضياع الأطفال واختلاطهم بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب، وتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين".
و الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، وفي القول بإثبات النسب بفحص المحتوى الوراثي تحصيل لمصلحة ظاهرة وهي انتماء الولد إلى أب شرعي وعدم ضياعه، ودرء لمفسدة وهي نسبته لمن لا ينتمي إليه زوراً وبهتاناً.
يقول ابن القيم رحمه الله: "وأصول الشرع وقواعده والقياس الصحيح تقتضي اعتبار الشبه في لحوق النسب، والشارع متشوف إلى اتصال الأنساب وعدم انقطاعها، ولهذا اكتفى في ثبوتها بأدنى الأسباب: من شهادة المرأة الواحدة على الولادة، والدعوى المجردة مع الإمكان، وظاهر الفراش، فلا يستبعد أن يكون الشبه الخالي عن سبب مقاوم له كافياً في ثبوته" [الطرق الحكمية ص323 ].
فإذا كان الشارع قد اعتبر القيافة في إثبات النسب في بعض الحالات، فإن اعتبار فحص المحتوى الوراثي في هذا المجال من باب أولى؛ لأن القيافة قائمةٌ على مراعاة الصفات الخارجية للإنسان غالباً، وكثيراً ما يحصل التشابه في هذه الصفات، أمَّا فحص المحتوى الوراثي فإنه يراعي الصفات الداخلية التي يتميز بها كل إنسان عن غيره ويختصُّ بها، ولذلك فهو أدقُّ من القيافة وأضبط منها.
وقد جاء في توصية ندوة الوراثة والهندسـة الوراثية المنـبثقة عن المنظمة الإسـلامية للعلوم الطبية ما نصه:
" البصمة الوراثية من الناحية العملية وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية والتحقق من الشخصية، ولا سيما في مجال الطب الشرعي، وهي ترقى إلى مستوى القرائن القوية التي يأخذ بها أكثر الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية، وتمثل تطوراً عصرياً عظيما في مجال القيافة التي يذهب إليها جمهور الفقهاء في إثبات النسب المتنازع فيه، ولذلك ترى الندوة أن يؤخذ بها في كل ما يؤخذ فيه بالقيافة من باب أولى ".
وقد ذكر بعض الباحثين ضوابط الاعتماد على نتيجة فحص المحتوى الوراثي في مجال النسب، وهي كما يلي:
1- أن يكون استخدام فحص المحتوى الوراثي في إثبات النسب لا في نفيه: وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي: " لا يجوز شرعاً الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان ".
2- ألا يستخدم فحص المحتوى الوراثي في التأكد من نسب ثابت: وذلك لأن استخدامه في مثل هذا يؤدي إلى التشكيك في أنساب الناس، وينشر سوء الظن بين الأزواج، ويقوي الريبة بين أفراد المجتمع.
3- ألا يستخدم فحص المحتوى الوراثي بديلاً عن الوسائل المنصوص عليها: فيجب تقديم الوسائل والطرق المنصوص عليها في إثبات النسب ولا سيما المتفق عليها كالفراش والإقرار والبينة؛ لأن هذه الطرق أقوى في تقدير الشرع، فلا يلجأ إلى غيرها كفحص المحتوى الوراثي والقيافة إلا عند التنازع في الإثبات، وعدم الدليل الأقوى، أو عند تعارض الأدلة.
و من أجل ضمان صحة نتائج فحص المحتوى الوراثي هناك ضوابط لا بد من تحققها، وهذه الضوابط تتعلق بخبراء الفحص، وبطريقة إجراء التحاليل، وبالمعامل الخاصة بذلك، وهذه الضوابط كما يلي:
1- أن تكون المختبرات والمعامل الفنية مزودة بأحسن الأجهزة ذات التقنيات العالمية، والمواصفات الفنية القابلة للاستمرار والتفاعل مع العينات والظروف المحيطة بها.
2- أن تكون هذه المختبرات والمعامل تابعة للدولة، أو تشرف عليها إشرافاً مباشراً؛ لئلا يتم التلاعب فيها لمجرد المصالح الشخصية، والأهواء الدنيوية، وبالتالي يكون النسب عرضةً للضياع، وقد أوصى المجمع الفقهي الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي بـ: " أن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية إلا بطلب من القضاء، وأن يكون في مختبرات للجهات المختصة، وأن تمنع القطاع الهادف للربح من مزاولة هذا الفحص؛ لما يترتب على ذلك من المخاطر الكبرى".
3- أن يكون جميع العاملين في المختبرات الخاصة بفحص المحتوى الوراثي من خبراء أو مساندين في أعمال الفحص ممن تتوفر فيهم أهلية قبول الشهادة، إضافة إلى معرفتهم وخبرتهم في مجال تخصصهم الدقيق في المختبر، حتى لا يؤدي عدم ذلك إلى تدهور النتائج الفنية، وبالتالي ضياع الحقوق.
4- أن يتم عمل فحص المحتوى الوراثي بطرق متعددة، وبعدد أكبر من الأحماض الأمينية ضماناً لصحة النتائج، وتوثيق كل خطوة من خطوات الفحص بدءاً من نقل العينات إلى ظهور النتائج النهائية؛ حرصاً على سلامة تلك العينات، وضماناً لصحة نتائجها، مع حفظ نتائج الفحص للرجوع إليها عند الحاجة.
فإذا توفرت هذه الشروط والضوابط في خبراء ومعامل ومختبرات فحص المحتوى الوراثي، فإنه لا مجال للتردد - فيما يظهر - في مشروعية ترتيب الأحكام على نتيجة فحص المحتوى الوراثي.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.