ابو وليد البحيرى
2018-09-03, 03:16 PM
الضوابط الشرعيّة للعمليات التجميليّة
هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :
فإن من روائع الإعجاز في ديننا الإسلامي ، ومن آيات عمومه وخلوده أنّه لم يدع جانبًا من جوانب الحياة الإنسانية إلاّ كان له فيه موقف.
وإن من جملة ما حدد قيوده ، وبيّن موقفه منه ، ما يتعلّق بالزينة والتجمّل ، استطبابًا وعلاجًا ، حرصًا منه على مصلحة البشر ، وتحقيق التوازن لديهم ، لئلا تنطلق غرائزهم على خلاف مقتضى المصلحة .
ولقد كانت دعوة كريمة أن أكتب ورقة علمية بعنوان : ( الضوابط الشرعيّة للعمليات التجميليّة ) لتقدّم في الندوة المعنونة بـ ( العمليات التجميليّة بين الشرع والطب ) . فجزى الله القائمين عليها خيرًا .
وقد جاءت هذه الورقة في خمس فقرات أساسية ، كانت خاتمتها عرض لثمانية ضوابط لهذه العمليات .
أسأل الله تعالى أن ينفع بها وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
أوّلاً : مفهوم العمليات التجميليّة :
العمليات : جمع عمليّة .
والعمليّة لفظ مشتق من العمل ، وهو عام في كل فعل يفعل . ([1])
والعمليّة كلمة محدثة تطلق على جملة أعمال تحدث أثرًا خاصًّا ، يقال : عملية جراحية ، أو حربيّة . ([2])
والتجميل : هو التحسين . ([3])
وقد عرفت العمليات التجميليّة بأنها : مجموعة العمليات التي تتعلّق بالشكل والتي يكون الغرض منها علاج عيوب طبيعيّة أو مكتسبة في ظاهر الجسم البشري . ([4])
وعرفت جراحة التجميل بأنها : جراحة تجرى لتحسين منظر جزء من أجزاء الجسم الظاهرة ، أو وظيفته إذا طرأ عليه نقص أو تلف أو تشويه . ([5])
وعرف بأنها : فن من فنون الجراحة يرمى إلى تصحيح التشوّهات الخلقيّة ، أو الناجمة عن الحوادث المختلفة . ([6])
وعرفت بإصلاح أو إعادة تشكيل أجزاء معطوبة من الجسم . ([7])
والتعريفات السابقة متقاربة المدلول ظاهرة المعنى وهي تدل على أن العمليات التجميليّة مجموعة أعمال يقوم بها طبيب مختص تتعلق بتحسين الشكل سواء كان يرافقه إصلاح خلل في وظيفة العضو أو لا ، وسواء كان التحسين لتشوّه خلقي أو ناتج عن حادث ، أو لتغيير المنظر ، أو استعادة مظهر الشباب .
وعلى هذا فإنّ الأعمال التي لا يقوم بها الأطباء من أنواع الزينة لا تدخل في هذا البحث .
كما لا يدخل في بحثنا الأعمال الطبيّة المنصبة على استعادة الصحّة أو حفظها دون مراعاة تحسين الشكل .
ولا فرق في العمليات التجميليّة بين أن تتم بالجراحة أو بدونها .
ويطلق على هذا النوع من العمليات : العمليات التقويميّة وإعادة البناء والترميم ؛ لأنها تتضمّن إصلاح وإعادة تشكيل أجزاء من الجسم .
ثانيًا : أنواع العمليات التجميليّة :
تنقسم العمليات التجميليّة عند المتخصصين إلى نوعين([8]) :
1) عمليات لابد من إجرائها ، لوجود الداعي لذلك إما لإزالة عيب يؤثر على الصحّة ، أو على استفادته من العضو المعيب أو لوجود تشوّه غير معتاد في خلقة الإنسان المعهودة .
ومن أمثلة هذه العمليات : العمليات التي تجرى لإزالة العيوب التالية :
1- الشفة الأرنبيّة ( الشق الشفي ) ، والشق الحلقي .
2- التصاق أصابع اليد أو الرجل .
3- انسداد فتحة الشرج .
4- المبال التحتاني .
5- إزالة الوشم والوحمات والندبات .
6- إزالة شعر الشارب واللحية عن النساء .
7- إعادة تشكيل الأذن .
8- شفط الدهون إذا رافقها إصابة أو مرض يستدعيه .
9- تصغير الثدي إذا رافقه مرض يستدعيه ( كأمراض الظهر مثلاً ) .
10- زراعة الثدي لمن استؤصل منها .
11- تصحيح الحاجز الأنفي أو الأنف المصاب بتشوه .
12- تشوه الجلد بسبب الحروق أو الآلات القاطعة أو الطلقات الناريّة .
13- تصحيح كسور الوجه ( بسبب الحوادث مثلاً ) .
وغيرها من أنواع العيوب التي يجمعها ويضبطها أن لها دافعًا صحيًّا أو أنها لإصلاح تشوّه حادث أو عيب يخالف أصل خلقة الإنسان أو صورته المعهودة .
2) عمليات اختياريّة ، لا داعي لإجرائها سوى رغبة المريض ، فهي عمليات تهدف لتحسين المظهر ، لا لوجود عيب أو تشوّه ، بل لتحقيق منظر أحسن وأجمل ، أو تهدف لتجديد الشباب وإزالة مظاهر الشيخوخة .
ومن أمثلة هذه العمليات :
1- إزالة الشعر وزرعه .
2- تقشير البشرة .
3- شد الجبين ورفع الحاجبين .
4- شد الوجه والرقبة .
5- حقن الدهون ( غير ما سبق ) .
6- شفط الدهون ( غير ما سبق ) .
7- تجميل الأنف تصغيرًا أو تكبيرًا .
8- تجميل الذقن .
9- تجميل الثديين تكبيرًا أو تصغيرًا .
وغيرها من أنواع العمليات التي يجمعها أنها لا دافع لها سوى إنزعاج المريض من مظهره ورغبته في إصلاحه إلى مستوى مقبول لديه .
ثالثًا : مقدمات وقواعد أساسيّة :
1) خلق الله تعالى الإنسان على صورة حسنة ، وإن تفاوت الحسن بين الناس كما قال تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } . [ سورة التين : 4 ] قال ابن كثير : ( هذا هو المقسم عليه - أي في السورة - وهو أنّه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل ، منتصب القامة سويّ الأعضاء حسنها ) ([9]).
فكل إنسان فهو مخلوق خلقة حسنة ، ما دام على الخلقة المعهودة للآدميّ ، وهذا لا يمنع تفاوت البشر في الحسن فمنهم من أوتي من الجمال والحسن أكثر مما أوتي غيره فقد حكى الله تعالى لنا قصّة يوسف عليه السلام وأن النسوة لما رأينه { أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم }. [ سورة يوسف :31 ]أي قلن لها : ما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا ، لأنهن لم يرين في البشر شبهه ولا قريبًا منه ، فإنه عليه السلام كان قد أعطي شطر الحسن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء .([10])
وهذا التفاوت الموجود بين بني البشر تخضع المفاضلة فيه بين أفراده أيهم أكثر جمالاً إلى أذواق الناس المتفاوتة ، فمن كان جميلاً مستملحًا عند أحد فإنه قد يكون قبيحًا مستسمجًا عند غيره ، فليس ميزان الجمال واحدًا بين الناس ومن هنا تفاوتت تعاريفهم للجمال .
وهذا أمر مستقر في النفوس لا يحتاج إلى دليل .
وذلك أن الجمال يدرك بالبداهة بغير تفكير ، وإذا كانت البديهة هي الموكلة بالجمال - لا الذهن - فمن العسير أن توضع له القواعد الحاسمة وترسم له الحدود القاطعة كالقضايا الذهنية . ([11])
وكذلك فإن جمال الجسد وحُسن المظهر البدني لا يشغل عن سمات الجمال الأخرى ومظاهره المغايرة ، فحين يأخذ التذوّق لجمال الجسد والعناية به مساحة أكبر مما ينبغي أثر ذلك على بقيّة أهداف الحياة وألوان الجمال فيها .
ولذا حَضّ النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار جميلة الروح ولو على حساب نصيبها من الجمال الجسدي فقال : ( تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك ) . ([12])
وبين أنّ العبرة به عند الله سبحانه فقال : ( إنّ الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ) . ([13])
2) أخبر الله تعالى أن الشيطان توعّد أن يضل بني آدم بحملهم على أمور منها تغيير خلق الله تعالى كما في قوله : { ولآمرنهم فليغيرنّ خلق الله } . [ سورة النساء : 119 ] .
ولاشك أن في هذا ذمًّا لتغيير خلق الله تعالى .
وقد تنوعت عبارات السلف في تفسير هذا التغيير على أقوال :
الأول : أنه تغيير دين الله الذي خلق الناس وفطرهم عليه .
الثاني : أنّ المراد به الخصاء .
الثالث : أنّه الوشم .
الرابع : أنّه عبادة الشمس والقمر والحجارة التي خلقها الله تعالى للاعتبار والانتفاع بها فعيرها الكفار وجعلوها معبودة . ([14])
وليس بين هذه الأقوال تضارب ولا اختلاف ، فإنّ من طريقة السلف في التفسير : التعبير عن المراد بالآية بذكر أحد أفراد المعنى ، دون إرادة حصر المعنى فيه .
وفي هذا يقول ابن تيمية : ( .. يقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافًا ، فيحكيها أقوالاً ، وليس كذلك ، فإنّ منهم من يعبّر عن الشيء بلازمه أو نظيره ، ومنهم من ينص على الشيء بعينه ، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن فليتفطن اللبيب لذلك ) . ([15])
ولذا اختار الطبري المعنى الأول للآية إذ يقول : ( وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال معناه دين الله وذلك لدلالة الآية الأخرى على أنّ ذلك معناه وهي قوله : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم } . [ سورة الروم : 30 ] وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ما لا يجوز خصاؤه ، ووشم ما نهي عن وشمه ، ووشره ، وغير ذلك من المعاصي ودخل فيه ترك كل ما أمر الله به ، لأن الشيطان لا شَكّ أنه يدعو إلى جميع معاصي الله وينهى عن جميع طاعته ) . ([16])
فيكون معنى الآية : أنَّ الشيطان يأمرهم بالكفر ، وتغيير فطرة الإسلام التي خلقهم الله عليها وأن معنى قوله تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } أي لا تبدلوا فطرة الله التي خلقكم عليها بالكفر . ([17])
وعلى هذا فليس في الآية دليل على تحريم مجرد تغيير خلق الله تعالى ، بل فيها بيان أن جميع ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه فالشيطان يأمر به .
وبذلك لا يستدل بالآية على تحريم عملٍ ، إلا بعد ثبوت أنّه محرم ، ولا تتفرّد دليلاً على التحريم باستقلال .
ويدل على ذلك أن الشرع ورد بالأمر ، أو الإذن بجملة من الأعمال التي فيها تغيير لخلق الله تعالى كالختان ، وقطع يد السارق ، وثقب أذن الأنثى ، واتخاذ أنف بديل لما قطع ، بل إن الكحل والخضاب بالحناء كلها من تغيير خلق الله تعالى وهذا كله يصب في تقوية ما أختاره الطبري - رحمه الله - ويمنع عموم الاستدلال بالآية حتى يثبت تحريم الفعل أوّلاً ليندرج بعد ذلك في مدلوله .
3) جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان إما أن يريد بها حفظ الضروريات أو مراعاة الحاجيات أو التحسينيات . وبين هذه المراتب فرقًا .
فالضرورة شدة وضيق في المرتبة القصوى بحيث يبلغ حدًا يخشى فيه على نفسه الهلاك أو مقاربة الهلاك ، بضياع مصالحة الضروريّة . وإذا وجدت الضرورة فإن التحريم يرتفع قال تعالى : { وقد فَصّل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } [ سورة الأنعام : 119 ] . وهذا النص يقتضي وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وجدت فيها . ([18])
أمّا الحاجة فإنها مرتبة متوسطة في المشقّة ولذا فإنّه لا يستباح بها ما يستباح بالضرورة ، إلا أنّ الحاجة إذا كانت عامّة تتناول أكثر الخلق فإنها تنزّل منزلة الضرورة في حق الشخص الواحد ([19]). وأما التحسينات فهي دون ذلك .
ولما تناول الشاطبي أنّ مقاصد الشريعة في الخلق لا تعد وأن تكون ضروريّة أو حاجيّة عرّفها فقال : " فأمّا الضرورية فمعناها أنّها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة ..
وأمّا الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللاحقة بفوت المطلوب ، فإذا لم تراعَ دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقّة ، ولكنّه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامّة " ([20]).
وبناء على هذا فلا بد أن نميّز بين أنواع التصرفات والإجراءات العلاجيّة ، وما تهدف إليه ؛ إذ منها الضروريّ ، والحاجيّ ، ومنها ما هو دون ذلك ، فيراعى التخفيف في أمور الضروريات والحاجيات العامّة ما لا يراعى في غيرها .
4 ) جَسَد الإنسان ملك لله تعالى كما قال تعالى : { ولله ملك السماوات والأرض وما فيهّن وهو على كل شي قدير } . [ المائدة :120 ] . وعليه فإنّه لا يحق لأحدٍ أن يتصرّف في ملك بما يحرمه مالكه.
وبناء على ذلك فلا يحل للطبيب أن يباشر جسم المريض إلا إذا كان سيعمل عملاً أذن به الشرع ولا يكفي إذن المريض ورضاه . قال ابن القيم : " فإنّه لا يجوز الإقدام على قطع عضو لم يأمر الله ورسوله بقطعه ، ولا أوجب قطعه ، كما لو أذن له في قطع أذنه أو أصبعه ، فإنّه لا يجوز له ذلك ، ولا يسقط الإثم عنه بالإذن " . ([21])
وقال ابن حزم : " واتفقوا أنّه لا يحل لأحدٍ أن يقتل نفسه ، ولا يقطع عضوًا من أعضائه ، ولا أن يؤلم نفسه ، في غير التداوي بقطع العضو الألم خاصّةً ".([22])
5) وبناء على ما تقدم فإنّا نقول : إن مجرد تضرّر الإنسان النفسي بنظرته الدونية لنفسه في أمور الجمال وأوصافه لا يكفي لاستباحة أي فعل محرم عليه .
فإن الضرر النفسي والحزن والهم وإن كانت معتبرة في زيادة ثواب الإنسان وتكفير سيئاته كما ورد في الحديث المرفوع : ( ما يصيب المؤمن من هم ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) . ([23])
ومع أن الشرع راعاه بمنع تسبب الإنسان في إيذاء أخيه ما يحزنه ، لكنه غير معتبر في الشرع في تخفيف التكليف عن العبد ، وغير معتبر في استباحة ما حرم الله سبحانه وتعالى .
سئل ابن تيمية عن رجل له مملوك هرب منه ثم رجع أخفى سكينة وقتل نفسه .
فأجاب : " لم يكن له أن يقتل نفسه وإن كان سيده قد ظلمه واعتدى عليه ، بل كان عليه إذا لم يمكنه دفع الظلم عن نفسه أن يصبر إلى أن يفرّج الله ، فإن كان سيّده ظلمه حتى فعل ذلك مثل أن يقتّر عليه في النفقة أو يعتدى عليه في الاستعمال أو يضربه بغير حق فإن على سيّده من الوزر بقدر ما نسب إليه في المعصية ".([24])
فالتكليف مناطه الاستطاعة فمن قدر على امتثال الأوامر والنواهي لزمته ، ولو كان فيها ما يكرهه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) . ([25])
كما أن الضرر النفسي والحزن من الأمور التي لا تنضبط فما يحزن أحدًا قد لا يحزن غيره ، ومقدار الحزن ووقت تحققه وطريقة زواله متفاوتة بين الناس ومثل هذه الأمور غير المنضبطة لا يعلّق الشرع عليها أحكامًا .
فإنها ( ما دامت خفيّة مضطربة مختلفة باختلاف الصُّوَر والأشخاص والأزمان والأحوال فإنه لا يمكن معرفة ما هو مناط الحكم إلا بالبحث الشديد ..ونحن نعلم بالاستقراء من ذات الشارع رد الناس في مثل هذا إلى المظان الظاهرة الجليّة دفعاً للتخبيط , وإزالة للتغليط ونفياً للحرج والمشقة والعسر والضرر , ألا ترى أنّ المشقّة لما لم تنضبط ويختلف الناس فيها باختلاف الأشخاص والأحوال رد الشارع في وجوب القصر والفطر بسببها إلى مظنتها في الغالب وهو السَّفَر ). ([26])
ونبينا عليه الصلاة والسلام تشهد سيرته بمواقف شَدّد فيها على التزام التكاليف الشرعية رغم ما يشوبها من ضرر نفسي ..
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إنّ لي ابنةً عُرّيسًا أصابتها حصبة فتمرّق شعرها ، أفأصله ؟ فقال : لعن الله الواصلة والمستوصلة ). ([27])
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إنّ ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها ، أفتكتحلُها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا مرتين أو ثلاثًا ). ([28])
رابعًا : حكم العمليات التجميليّة :
تقدّم أن العمليات التجميليّة منها عمليات لا بد من إجرائها ومنها عمليات اختياريّة فالعمليات التجميليّة التي لابد منها لتضمنها علاجًا لمرض ما ، أو للحاجة إليها ؛ فإنَّ الباحثين المعاصرين يجيزون إجراءها ومنهم من قيدها بشروط تشمل كل أنواع العمليات الجراحيّة . ([29])
ويستدل على جوازها بأنّها نوع من التداوي ، فهي إما علاج لمرض أو إصلاح لعيب محسوس والتداوي مشروع ، كما أن هذه العمليات لا يقصد بها التجميل قصدًا أوليًا بل جاء التجميل تابعًا لإزالة الضرر ومعلوم أن التابع لا يفرد بحكم . ([30])
أمّا العمليات التجميليّة الاختيارية ، والتي يطلق عليها : جراحة التجميل التحسينيّة فقد اختلف المعاصرون فيها على اتجاهين :
الاتجاه الأول : يرى المنع منها وتحريمها ؛ لأنّ فيها تغييراً لخلق الله تعالى ؛ ولأنه قد وردت نصوص تدل على منع الوشم والنمص والتفليج والوصل وذلك لما فيها من تغيير طلبًا للتحسين وهذا المعنى موجود في هذه العمليات ، ولما فيها من غش وتدليس وأضرار ومضاعفات إلى غير ذلك من الأدلة . ([31])
الاتجاه الثاني : يرى أن تبحث كل عملية تجميليّة لوحدها ، إذ من هذه العمليات ما دل الشرع على تحريمه والمنع منه ، ومنه ما يمكن قياسه عليها ، ومنها ما بحثه الفقهاء سابقًا أو يمكن تخريجه على أقوالهم فلا تجعل العمليات من هذا النوع كلها في مرتبة واحدة . ([32])
ولا شك أن التفصيل أسعد بالقبول وأرجح ، وسبب ذلك أن الشرع مع نهيه عن الوشم والنمص والوصل جاء بالإذن بأنواع من الزينة والتحسين كصبغ الشعر مثلاً وهذا يدل على أن تعميم العلة بمنع التحسين غير مقبول ، والعلّة متى فُقد اطرادها دَلّ على إبطال عليتّها . ([33])
والتعليل بقصد التحسين لا يصلح علةً للتحريم - أيضًا - لأنا نشهد من الشارع اعتبار قصد التحسين والتجميل لا المنع منه كما تقدَّم . ([34])
ثم إنّ أهل العلم اختلفوا في المعنى الممنوع في النمص والوصل ونحوها ، فقيل : مُنع الوصل لأنّ فيه استعمالاً لجزء آدمي([35]) ، وقيل لأجل ما فيه من تدليس وخداع .([36])
وقيل في النمص المحرم أن المراد به هو التبرج والتزين للأجانب([37])، أو ما كان بدون إذن الزوج([38])، أو
للتدليس ، أو للتشبّه بالفاجرات . ([39])
ومادام أن أهل العلم قد اختلفوا في العلة التي من أجلها ورد النهي ، ولم يَسُغ بعد ذلك توحيد علة المنع ، مع ما تقدَّم من المراد بتغيير خلق الله تعالى .
وكذلك فإن الأضرار والمضاعفات والغش والتدليس التي من أجلها حرّم بعض المعاصرين العمليات التحسينيّة بإطلاق ليست قاعدة مطردة في كل العمليات التحسينيّة بل قد تقع في هذه العمليات أحيانًا وقد لا تقع ، وهي مع ذلك أمور خارجة عن نفس العمليات فيكون التحريم لها لا لنفس الجراحة ، إلا إذا رافقتها .
ومن جميع ما تقدَّم فإني أرى أنّ الاتجاه الثاني الذي يجعل لكل نوع من العمليات التحسينيّة حكمًا يناسبه حسبما تدل عليه الأدلّة ، أولى من تعميم الأحكام على صور مختلفة .
ويشهد لهذه النتيجة ما ورد أنّ المقداد بن الأسود - رضي الله عنه - كان عظيم البطن وكان له غلام روميّ ، فقال له : أشق بطنك فأخرج من شحمه حتى تلطف ، فشقّ بطنه ثم خاطه ، فمات المقداد وهرب الغلام . ([40])
وهذا نوع من العمليات التجميليّة التحسينيّة . والله أعلم .
يتبع
هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :
فإن من روائع الإعجاز في ديننا الإسلامي ، ومن آيات عمومه وخلوده أنّه لم يدع جانبًا من جوانب الحياة الإنسانية إلاّ كان له فيه موقف.
وإن من جملة ما حدد قيوده ، وبيّن موقفه منه ، ما يتعلّق بالزينة والتجمّل ، استطبابًا وعلاجًا ، حرصًا منه على مصلحة البشر ، وتحقيق التوازن لديهم ، لئلا تنطلق غرائزهم على خلاف مقتضى المصلحة .
ولقد كانت دعوة كريمة أن أكتب ورقة علمية بعنوان : ( الضوابط الشرعيّة للعمليات التجميليّة ) لتقدّم في الندوة المعنونة بـ ( العمليات التجميليّة بين الشرع والطب ) . فجزى الله القائمين عليها خيرًا .
وقد جاءت هذه الورقة في خمس فقرات أساسية ، كانت خاتمتها عرض لثمانية ضوابط لهذه العمليات .
أسأل الله تعالى أن ينفع بها وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
أوّلاً : مفهوم العمليات التجميليّة :
العمليات : جمع عمليّة .
والعمليّة لفظ مشتق من العمل ، وهو عام في كل فعل يفعل . ([1])
والعمليّة كلمة محدثة تطلق على جملة أعمال تحدث أثرًا خاصًّا ، يقال : عملية جراحية ، أو حربيّة . ([2])
والتجميل : هو التحسين . ([3])
وقد عرفت العمليات التجميليّة بأنها : مجموعة العمليات التي تتعلّق بالشكل والتي يكون الغرض منها علاج عيوب طبيعيّة أو مكتسبة في ظاهر الجسم البشري . ([4])
وعرفت جراحة التجميل بأنها : جراحة تجرى لتحسين منظر جزء من أجزاء الجسم الظاهرة ، أو وظيفته إذا طرأ عليه نقص أو تلف أو تشويه . ([5])
وعرف بأنها : فن من فنون الجراحة يرمى إلى تصحيح التشوّهات الخلقيّة ، أو الناجمة عن الحوادث المختلفة . ([6])
وعرفت بإصلاح أو إعادة تشكيل أجزاء معطوبة من الجسم . ([7])
والتعريفات السابقة متقاربة المدلول ظاهرة المعنى وهي تدل على أن العمليات التجميليّة مجموعة أعمال يقوم بها طبيب مختص تتعلق بتحسين الشكل سواء كان يرافقه إصلاح خلل في وظيفة العضو أو لا ، وسواء كان التحسين لتشوّه خلقي أو ناتج عن حادث ، أو لتغيير المنظر ، أو استعادة مظهر الشباب .
وعلى هذا فإنّ الأعمال التي لا يقوم بها الأطباء من أنواع الزينة لا تدخل في هذا البحث .
كما لا يدخل في بحثنا الأعمال الطبيّة المنصبة على استعادة الصحّة أو حفظها دون مراعاة تحسين الشكل .
ولا فرق في العمليات التجميليّة بين أن تتم بالجراحة أو بدونها .
ويطلق على هذا النوع من العمليات : العمليات التقويميّة وإعادة البناء والترميم ؛ لأنها تتضمّن إصلاح وإعادة تشكيل أجزاء من الجسم .
ثانيًا : أنواع العمليات التجميليّة :
تنقسم العمليات التجميليّة عند المتخصصين إلى نوعين([8]) :
1) عمليات لابد من إجرائها ، لوجود الداعي لذلك إما لإزالة عيب يؤثر على الصحّة ، أو على استفادته من العضو المعيب أو لوجود تشوّه غير معتاد في خلقة الإنسان المعهودة .
ومن أمثلة هذه العمليات : العمليات التي تجرى لإزالة العيوب التالية :
1- الشفة الأرنبيّة ( الشق الشفي ) ، والشق الحلقي .
2- التصاق أصابع اليد أو الرجل .
3- انسداد فتحة الشرج .
4- المبال التحتاني .
5- إزالة الوشم والوحمات والندبات .
6- إزالة شعر الشارب واللحية عن النساء .
7- إعادة تشكيل الأذن .
8- شفط الدهون إذا رافقها إصابة أو مرض يستدعيه .
9- تصغير الثدي إذا رافقه مرض يستدعيه ( كأمراض الظهر مثلاً ) .
10- زراعة الثدي لمن استؤصل منها .
11- تصحيح الحاجز الأنفي أو الأنف المصاب بتشوه .
12- تشوه الجلد بسبب الحروق أو الآلات القاطعة أو الطلقات الناريّة .
13- تصحيح كسور الوجه ( بسبب الحوادث مثلاً ) .
وغيرها من أنواع العيوب التي يجمعها ويضبطها أن لها دافعًا صحيًّا أو أنها لإصلاح تشوّه حادث أو عيب يخالف أصل خلقة الإنسان أو صورته المعهودة .
2) عمليات اختياريّة ، لا داعي لإجرائها سوى رغبة المريض ، فهي عمليات تهدف لتحسين المظهر ، لا لوجود عيب أو تشوّه ، بل لتحقيق منظر أحسن وأجمل ، أو تهدف لتجديد الشباب وإزالة مظاهر الشيخوخة .
ومن أمثلة هذه العمليات :
1- إزالة الشعر وزرعه .
2- تقشير البشرة .
3- شد الجبين ورفع الحاجبين .
4- شد الوجه والرقبة .
5- حقن الدهون ( غير ما سبق ) .
6- شفط الدهون ( غير ما سبق ) .
7- تجميل الأنف تصغيرًا أو تكبيرًا .
8- تجميل الذقن .
9- تجميل الثديين تكبيرًا أو تصغيرًا .
وغيرها من أنواع العمليات التي يجمعها أنها لا دافع لها سوى إنزعاج المريض من مظهره ورغبته في إصلاحه إلى مستوى مقبول لديه .
ثالثًا : مقدمات وقواعد أساسيّة :
1) خلق الله تعالى الإنسان على صورة حسنة ، وإن تفاوت الحسن بين الناس كما قال تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } . [ سورة التين : 4 ] قال ابن كثير : ( هذا هو المقسم عليه - أي في السورة - وهو أنّه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل ، منتصب القامة سويّ الأعضاء حسنها ) ([9]).
فكل إنسان فهو مخلوق خلقة حسنة ، ما دام على الخلقة المعهودة للآدميّ ، وهذا لا يمنع تفاوت البشر في الحسن فمنهم من أوتي من الجمال والحسن أكثر مما أوتي غيره فقد حكى الله تعالى لنا قصّة يوسف عليه السلام وأن النسوة لما رأينه { أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم }. [ سورة يوسف :31 ]أي قلن لها : ما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا ، لأنهن لم يرين في البشر شبهه ولا قريبًا منه ، فإنه عليه السلام كان قد أعطي شطر الحسن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء .([10])
وهذا التفاوت الموجود بين بني البشر تخضع المفاضلة فيه بين أفراده أيهم أكثر جمالاً إلى أذواق الناس المتفاوتة ، فمن كان جميلاً مستملحًا عند أحد فإنه قد يكون قبيحًا مستسمجًا عند غيره ، فليس ميزان الجمال واحدًا بين الناس ومن هنا تفاوتت تعاريفهم للجمال .
وهذا أمر مستقر في النفوس لا يحتاج إلى دليل .
وذلك أن الجمال يدرك بالبداهة بغير تفكير ، وإذا كانت البديهة هي الموكلة بالجمال - لا الذهن - فمن العسير أن توضع له القواعد الحاسمة وترسم له الحدود القاطعة كالقضايا الذهنية . ([11])
وكذلك فإن جمال الجسد وحُسن المظهر البدني لا يشغل عن سمات الجمال الأخرى ومظاهره المغايرة ، فحين يأخذ التذوّق لجمال الجسد والعناية به مساحة أكبر مما ينبغي أثر ذلك على بقيّة أهداف الحياة وألوان الجمال فيها .
ولذا حَضّ النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار جميلة الروح ولو على حساب نصيبها من الجمال الجسدي فقال : ( تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك ) . ([12])
وبين أنّ العبرة به عند الله سبحانه فقال : ( إنّ الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ) . ([13])
2) أخبر الله تعالى أن الشيطان توعّد أن يضل بني آدم بحملهم على أمور منها تغيير خلق الله تعالى كما في قوله : { ولآمرنهم فليغيرنّ خلق الله } . [ سورة النساء : 119 ] .
ولاشك أن في هذا ذمًّا لتغيير خلق الله تعالى .
وقد تنوعت عبارات السلف في تفسير هذا التغيير على أقوال :
الأول : أنه تغيير دين الله الذي خلق الناس وفطرهم عليه .
الثاني : أنّ المراد به الخصاء .
الثالث : أنّه الوشم .
الرابع : أنّه عبادة الشمس والقمر والحجارة التي خلقها الله تعالى للاعتبار والانتفاع بها فعيرها الكفار وجعلوها معبودة . ([14])
وليس بين هذه الأقوال تضارب ولا اختلاف ، فإنّ من طريقة السلف في التفسير : التعبير عن المراد بالآية بذكر أحد أفراد المعنى ، دون إرادة حصر المعنى فيه .
وفي هذا يقول ابن تيمية : ( .. يقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافًا ، فيحكيها أقوالاً ، وليس كذلك ، فإنّ منهم من يعبّر عن الشيء بلازمه أو نظيره ، ومنهم من ينص على الشيء بعينه ، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن فليتفطن اللبيب لذلك ) . ([15])
ولذا اختار الطبري المعنى الأول للآية إذ يقول : ( وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال معناه دين الله وذلك لدلالة الآية الأخرى على أنّ ذلك معناه وهي قوله : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم } . [ سورة الروم : 30 ] وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ما لا يجوز خصاؤه ، ووشم ما نهي عن وشمه ، ووشره ، وغير ذلك من المعاصي ودخل فيه ترك كل ما أمر الله به ، لأن الشيطان لا شَكّ أنه يدعو إلى جميع معاصي الله وينهى عن جميع طاعته ) . ([16])
فيكون معنى الآية : أنَّ الشيطان يأمرهم بالكفر ، وتغيير فطرة الإسلام التي خلقهم الله عليها وأن معنى قوله تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } أي لا تبدلوا فطرة الله التي خلقكم عليها بالكفر . ([17])
وعلى هذا فليس في الآية دليل على تحريم مجرد تغيير خلق الله تعالى ، بل فيها بيان أن جميع ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه فالشيطان يأمر به .
وبذلك لا يستدل بالآية على تحريم عملٍ ، إلا بعد ثبوت أنّه محرم ، ولا تتفرّد دليلاً على التحريم باستقلال .
ويدل على ذلك أن الشرع ورد بالأمر ، أو الإذن بجملة من الأعمال التي فيها تغيير لخلق الله تعالى كالختان ، وقطع يد السارق ، وثقب أذن الأنثى ، واتخاذ أنف بديل لما قطع ، بل إن الكحل والخضاب بالحناء كلها من تغيير خلق الله تعالى وهذا كله يصب في تقوية ما أختاره الطبري - رحمه الله - ويمنع عموم الاستدلال بالآية حتى يثبت تحريم الفعل أوّلاً ليندرج بعد ذلك في مدلوله .
3) جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان إما أن يريد بها حفظ الضروريات أو مراعاة الحاجيات أو التحسينيات . وبين هذه المراتب فرقًا .
فالضرورة شدة وضيق في المرتبة القصوى بحيث يبلغ حدًا يخشى فيه على نفسه الهلاك أو مقاربة الهلاك ، بضياع مصالحة الضروريّة . وإذا وجدت الضرورة فإن التحريم يرتفع قال تعالى : { وقد فَصّل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } [ سورة الأنعام : 119 ] . وهذا النص يقتضي وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وجدت فيها . ([18])
أمّا الحاجة فإنها مرتبة متوسطة في المشقّة ولذا فإنّه لا يستباح بها ما يستباح بالضرورة ، إلا أنّ الحاجة إذا كانت عامّة تتناول أكثر الخلق فإنها تنزّل منزلة الضرورة في حق الشخص الواحد ([19]). وأما التحسينات فهي دون ذلك .
ولما تناول الشاطبي أنّ مقاصد الشريعة في الخلق لا تعد وأن تكون ضروريّة أو حاجيّة عرّفها فقال : " فأمّا الضرورية فمعناها أنّها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة ..
وأمّا الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللاحقة بفوت المطلوب ، فإذا لم تراعَ دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقّة ، ولكنّه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامّة " ([20]).
وبناء على هذا فلا بد أن نميّز بين أنواع التصرفات والإجراءات العلاجيّة ، وما تهدف إليه ؛ إذ منها الضروريّ ، والحاجيّ ، ومنها ما هو دون ذلك ، فيراعى التخفيف في أمور الضروريات والحاجيات العامّة ما لا يراعى في غيرها .
4 ) جَسَد الإنسان ملك لله تعالى كما قال تعالى : { ولله ملك السماوات والأرض وما فيهّن وهو على كل شي قدير } . [ المائدة :120 ] . وعليه فإنّه لا يحق لأحدٍ أن يتصرّف في ملك بما يحرمه مالكه.
وبناء على ذلك فلا يحل للطبيب أن يباشر جسم المريض إلا إذا كان سيعمل عملاً أذن به الشرع ولا يكفي إذن المريض ورضاه . قال ابن القيم : " فإنّه لا يجوز الإقدام على قطع عضو لم يأمر الله ورسوله بقطعه ، ولا أوجب قطعه ، كما لو أذن له في قطع أذنه أو أصبعه ، فإنّه لا يجوز له ذلك ، ولا يسقط الإثم عنه بالإذن " . ([21])
وقال ابن حزم : " واتفقوا أنّه لا يحل لأحدٍ أن يقتل نفسه ، ولا يقطع عضوًا من أعضائه ، ولا أن يؤلم نفسه ، في غير التداوي بقطع العضو الألم خاصّةً ".([22])
5) وبناء على ما تقدم فإنّا نقول : إن مجرد تضرّر الإنسان النفسي بنظرته الدونية لنفسه في أمور الجمال وأوصافه لا يكفي لاستباحة أي فعل محرم عليه .
فإن الضرر النفسي والحزن والهم وإن كانت معتبرة في زيادة ثواب الإنسان وتكفير سيئاته كما ورد في الحديث المرفوع : ( ما يصيب المؤمن من هم ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) . ([23])
ومع أن الشرع راعاه بمنع تسبب الإنسان في إيذاء أخيه ما يحزنه ، لكنه غير معتبر في الشرع في تخفيف التكليف عن العبد ، وغير معتبر في استباحة ما حرم الله سبحانه وتعالى .
سئل ابن تيمية عن رجل له مملوك هرب منه ثم رجع أخفى سكينة وقتل نفسه .
فأجاب : " لم يكن له أن يقتل نفسه وإن كان سيده قد ظلمه واعتدى عليه ، بل كان عليه إذا لم يمكنه دفع الظلم عن نفسه أن يصبر إلى أن يفرّج الله ، فإن كان سيّده ظلمه حتى فعل ذلك مثل أن يقتّر عليه في النفقة أو يعتدى عليه في الاستعمال أو يضربه بغير حق فإن على سيّده من الوزر بقدر ما نسب إليه في المعصية ".([24])
فالتكليف مناطه الاستطاعة فمن قدر على امتثال الأوامر والنواهي لزمته ، ولو كان فيها ما يكرهه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) . ([25])
كما أن الضرر النفسي والحزن من الأمور التي لا تنضبط فما يحزن أحدًا قد لا يحزن غيره ، ومقدار الحزن ووقت تحققه وطريقة زواله متفاوتة بين الناس ومثل هذه الأمور غير المنضبطة لا يعلّق الشرع عليها أحكامًا .
فإنها ( ما دامت خفيّة مضطربة مختلفة باختلاف الصُّوَر والأشخاص والأزمان والأحوال فإنه لا يمكن معرفة ما هو مناط الحكم إلا بالبحث الشديد ..ونحن نعلم بالاستقراء من ذات الشارع رد الناس في مثل هذا إلى المظان الظاهرة الجليّة دفعاً للتخبيط , وإزالة للتغليط ونفياً للحرج والمشقة والعسر والضرر , ألا ترى أنّ المشقّة لما لم تنضبط ويختلف الناس فيها باختلاف الأشخاص والأحوال رد الشارع في وجوب القصر والفطر بسببها إلى مظنتها في الغالب وهو السَّفَر ). ([26])
ونبينا عليه الصلاة والسلام تشهد سيرته بمواقف شَدّد فيها على التزام التكاليف الشرعية رغم ما يشوبها من ضرر نفسي ..
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إنّ لي ابنةً عُرّيسًا أصابتها حصبة فتمرّق شعرها ، أفأصله ؟ فقال : لعن الله الواصلة والمستوصلة ). ([27])
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إنّ ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها ، أفتكتحلُها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا مرتين أو ثلاثًا ). ([28])
رابعًا : حكم العمليات التجميليّة :
تقدّم أن العمليات التجميليّة منها عمليات لا بد من إجرائها ومنها عمليات اختياريّة فالعمليات التجميليّة التي لابد منها لتضمنها علاجًا لمرض ما ، أو للحاجة إليها ؛ فإنَّ الباحثين المعاصرين يجيزون إجراءها ومنهم من قيدها بشروط تشمل كل أنواع العمليات الجراحيّة . ([29])
ويستدل على جوازها بأنّها نوع من التداوي ، فهي إما علاج لمرض أو إصلاح لعيب محسوس والتداوي مشروع ، كما أن هذه العمليات لا يقصد بها التجميل قصدًا أوليًا بل جاء التجميل تابعًا لإزالة الضرر ومعلوم أن التابع لا يفرد بحكم . ([30])
أمّا العمليات التجميليّة الاختيارية ، والتي يطلق عليها : جراحة التجميل التحسينيّة فقد اختلف المعاصرون فيها على اتجاهين :
الاتجاه الأول : يرى المنع منها وتحريمها ؛ لأنّ فيها تغييراً لخلق الله تعالى ؛ ولأنه قد وردت نصوص تدل على منع الوشم والنمص والتفليج والوصل وذلك لما فيها من تغيير طلبًا للتحسين وهذا المعنى موجود في هذه العمليات ، ولما فيها من غش وتدليس وأضرار ومضاعفات إلى غير ذلك من الأدلة . ([31])
الاتجاه الثاني : يرى أن تبحث كل عملية تجميليّة لوحدها ، إذ من هذه العمليات ما دل الشرع على تحريمه والمنع منه ، ومنه ما يمكن قياسه عليها ، ومنها ما بحثه الفقهاء سابقًا أو يمكن تخريجه على أقوالهم فلا تجعل العمليات من هذا النوع كلها في مرتبة واحدة . ([32])
ولا شك أن التفصيل أسعد بالقبول وأرجح ، وسبب ذلك أن الشرع مع نهيه عن الوشم والنمص والوصل جاء بالإذن بأنواع من الزينة والتحسين كصبغ الشعر مثلاً وهذا يدل على أن تعميم العلة بمنع التحسين غير مقبول ، والعلّة متى فُقد اطرادها دَلّ على إبطال عليتّها . ([33])
والتعليل بقصد التحسين لا يصلح علةً للتحريم - أيضًا - لأنا نشهد من الشارع اعتبار قصد التحسين والتجميل لا المنع منه كما تقدَّم . ([34])
ثم إنّ أهل العلم اختلفوا في المعنى الممنوع في النمص والوصل ونحوها ، فقيل : مُنع الوصل لأنّ فيه استعمالاً لجزء آدمي([35]) ، وقيل لأجل ما فيه من تدليس وخداع .([36])
وقيل في النمص المحرم أن المراد به هو التبرج والتزين للأجانب([37])، أو ما كان بدون إذن الزوج([38])، أو
للتدليس ، أو للتشبّه بالفاجرات . ([39])
ومادام أن أهل العلم قد اختلفوا في العلة التي من أجلها ورد النهي ، ولم يَسُغ بعد ذلك توحيد علة المنع ، مع ما تقدَّم من المراد بتغيير خلق الله تعالى .
وكذلك فإن الأضرار والمضاعفات والغش والتدليس التي من أجلها حرّم بعض المعاصرين العمليات التحسينيّة بإطلاق ليست قاعدة مطردة في كل العمليات التحسينيّة بل قد تقع في هذه العمليات أحيانًا وقد لا تقع ، وهي مع ذلك أمور خارجة عن نفس العمليات فيكون التحريم لها لا لنفس الجراحة ، إلا إذا رافقتها .
ومن جميع ما تقدَّم فإني أرى أنّ الاتجاه الثاني الذي يجعل لكل نوع من العمليات التحسينيّة حكمًا يناسبه حسبما تدل عليه الأدلّة ، أولى من تعميم الأحكام على صور مختلفة .
ويشهد لهذه النتيجة ما ورد أنّ المقداد بن الأسود - رضي الله عنه - كان عظيم البطن وكان له غلام روميّ ، فقال له : أشق بطنك فأخرج من شحمه حتى تلطف ، فشقّ بطنه ثم خاطه ، فمات المقداد وهرب الغلام . ([40])
وهذا نوع من العمليات التجميليّة التحسينيّة . والله أعلم .
يتبع