المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح عمدة الفقه - للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )



ابو وليد البحيرى
2018-02-08, 11:26 PM
شرح عمدة الفقه
- كتاب الطهارة [1]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )

إن المسلم مطالب أن يتطهر ويستعمل الماء في الوضوء والغسل, والطهارة لابد لها من فقه وعلم, ليميز المسلم بين أنواع المياه, وليعرف الماء الذي يصلح للطهارة من غيره.
فضل طلب العلم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:فإن من علامة الخير للإنسان أن يتفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يتزود من ميراث النبوة؛ فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، وثبت أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ). ولا شك أن من تعلم القرآن أن يتفقه في أحكام دينه مما جاء به كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من الحلال والحرام.والعلم جاءت الأدلة والآثار على فضله وعلو منزلته, وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى مفاضلة بين طالب المال وطالب العلم، فذكر رحمه الله تفضيل طالب العلم على طالب المال بما يقرب من سبعين وجهاً؛ لأن المستقرئ لحال كثير من الناس اليوم يجد أنه فرق بين إنسان يطلب المال, ويكد بدنه، ويمضي عمره في ذلك، وبين إنسان يطلب العلم، ويكد بدنه, ويمضي حياته ويقضيها في ذلك, فذكر ابن القيم رحمه الله ما يقرب من سبعين وجهاً في تفضيل طالب العلم على طالب المال, وأشير إلى شيء من هذه الأوجه التي ذكرها رحمه الله, فمما ذكر أن طالب العلم يدعو الناس إلى الآخرة في طلبه، وأما طالب المال فإنه يدعو الناس إلى الدنيا بطلبه. وذكر أيضاً أن العلم هو ميراث الأنبياء؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ( وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ), وأما بالنسبة للدنيا فإنها ميراث الملوك، وفرق بين الميراثين، فرق بين أن ينهل الإنسان ويتزود من ميراث محمد صلى الله عليه وسلم, وبين أن يأخذ من ميراث بقية البشر من الملوك والحكام وغيرهم. وذكر من الأوجه أن العلم يحفظ صاحبه، فالعلم إذا كنت متزوداً به فإنه يحفظك من أمراض الشبهات وأمراض الشهوات، بخلاف المال, فإن الإنسان محتاج إلى أن يحفظ ماله، المال محتاج إلى أن تحفظه في الصناديق, ووراء الأقفال, وبالودائع ونحو ذلك. وأيضاً ذكر من الأوجه أن العلم يتبع صاحبه حتى بعد الموت، حتى بعد الموت يتبعك علمك إذ إنه من عملك؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث )، وثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان، يرجع أهله وماله, ويبقى عمله ), فالعلم يتبعك حتى بعد موتك، وأما بالنسبة للاثنين, فإنهما لا يتبعانك بعد موتك، بل إن العلماء رحمهم الله يذكرون في باب الهبة والعطية أن الإنسان إذا مرض مرض الموت لا يملك من ماله إلا الثلث فقط، وهذا من صدقة الله عليه، وهو حي لا يملك أن يتبرع, لا يملك أن يهب، لا يملك أن يتصدق، لا يملك أن يوقف، لا يملك أن يوصي إلا بالثلث فقط, إذا مرض مرض الموت، وأما الثلثان فإنهما يكونان للورثة, ففرق بين الطالبين.فمن نعمة الله عز وجل ومن توفيقه أن يهيئ العبد للتصدي لطلب العلم والتفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وصايا لطالب العلم

في بدء الدروس هناك بعض الوصايا لا بد أن يأخذ بها طالب العلم الجاد الذي يلم بشيء من فنون العلم، فمن هذه الوصايا التي أوصيه بها:
الإخلاص

أولاً: عليه بالإخلاص؛ أن يخلص عمله لله عز وجل، فإن العلم من أفضل العبادات وأجل القربات؛ ولهذا ذكر أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن تعلم العلم وتعليمه أفضل العبادات البدنية؛ لما اختلف العلماء رحمهم الله في أي العبادات البدنية أفضل؟ قال الشافعي: أفضلها الصلاة, وقال الإمام أحمد رحمه الله: أفضلها الجهاد في سبيل الله, وقال أبو حنيفة رحمه الله: أفضلها العلم تعلمه وتعليمه.ولا شك أن تعلم العلم وتعليمه من الجهاد في سبيل الله؛ ولهذا في الترمذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع ) .والله عز وجل يقول: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]. فالله عز وجل جعل المؤمنين طائفتين؛ طائفة تنفر للجهاد في سبيل الله، وطائفة تجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم تأخذ عنه سنته، فإذا رجعت الطائفة المجاهدة علمتهم الطائفة القاعدة. والنبي عليه الصلاة والسلام جاهد الناس بجهادين:الجهاد الأول: جهاد العلم والبيان؛ وهذا في المرحلة المكية، فمدة ثلاث عشرة سنة كان النبي صلى الله عليه وسلم يجاهد الناس بغرس التوحيد ونبذ الشرك وشوائبه.ثم بعد ذلك في المرحلة المدنية جاهد الناس بجهاد السيف والسنان، فعلينا أيها الأحبة أن نخلص في العلم لله عز وجل سواء كان علماً أو غيره؛ قال الإمام أحمد : العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته، قيل: وكيف تصح النية؟ قال: إذا أراد أن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره. فإذا أراد بتعلمه أن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره, وأن يعبد الله على بصيرة, وأن يدعو الناس إلى هذا العلم الذي تعلمه، فإن هذا لا يعدله شيء؛ كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وإن هذا هو عمل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فالذي يقوم بتعلم العلم وتعليمه للناس يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام نوح وموسى وعيسى وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فإنهم يتعلمون من ربهم ثم بعد ذلك يعلمون الناس، ويوجهون الناس ويرشدونهم. فعلينا دائماً وأبداً أن نعلق قلوبنا بالله عز وجل محبة ورغبة ورهبة ورجاءً وتوكلاً واستعانة، وألا يلتفت قلب الإنسان إلى المخلوقين, أو إلى الدنيا, أو حظوظها الفانية. والله عز وجل في الحديث القدسي كما في حديث أبي هريرة المخرج في الصحيحين يقول: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ). وذكر سفيان رحمه الله قال: كانوا يتعلمون النية كما يتعلمون العلم.وقال بعض السلف: رب عمل صغير كبرته النية، ورب عمل كبير صغرته النية, فقد يبذل الإنسان جهده ويعمل ويكثر من العمل .. إلخ لكن يصغره نيته، تكون نيته مشوبة بشوائب الشرك، مشوبة بالرياء، مشوبة بالسمعة، مشوبة بالتفاف القلب إلى المخلوقين .. إلخ.فعلى المسلم دائماً وأبداً أن يعلق قلبه بالله عز وجل وألا ينظر إلى الدنيا وحظوظها الفانية, وإنما يريد وجه الله عز وجل, والاستزادة من هذا العلم وتبصير الناس ودعوتهم .. إلخ.والآثار عن السلف في الإخلاص كثيرة جداً؛ فمن ذلك ما ذكر محمد بن واسع رحمه الله قال: كان الرجل يقوم في الصف فتسيل دموعه على لحيته لا يشعر به من بجنبه، وكان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة تسيل دموعه على خده لا تشعر به امرأته. وقال أبو التياح رحمه الله: كان الرجل يقرأ عشرين سنة لا يعلم به جيرانه. وقال محمد بن الحنفية رحمه الله تعالى: الإجابة والإخلاص مقرونان لا فرقة بينهما، يعني: أن إجابة الدعاء يكون مع الإخلاص، فكلما كان الإنسان أخلص في عمله كانت استجابة الله عز وجل له أكثر.
العمل بالعلم

أما الوصية الثانية: فعلى الإنسان أن يعمل بما علم؛ وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً هدي صحابته رضي الله تعالى عنهم.ثبت في صحيح مسلم من حديث أم حبيبة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من صلى لله في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة بني له بهن بيتاً في الجنة ). قالت أم حبيبة رضي الله تعالى عنها: فما تركتهن منذ سمعتهن من النبي صلى الله عليه وسلم. قال عنبسة الراوي عن أم حبيبة : فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة . قال النعمان بن سالم الراوي عن عنبسة : ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة . قال عمرو بن أوس الراوي عن النعمان بن سالم : ما تركتهن منذ سمعتهن من النعمان بن سالم . عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كما في صحيح البخاري : ( رأى رؤيا, رأى في منامه النار.. إلخ, فقص على حفصة ، فقصتها حفصة رضي الله تعالى عنها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل ), قال سالم بن عبد الله : فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً. و معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ( يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ) - قال: عن عمل، دلني على عمل فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام ودعائمه ( تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتصلي الصلوات، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان, وتحج البيت )، ثم دله على أبواب الخير، ثم قال له: ( ألا أدلك على رأس الأمر, وعموده, وذروة سنامه )، ثم دله على ملاك ذلك كله، لأنه رضي الله تعالى عنه أراد العمل، لم يرد إلا العمل. وكان النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهما: ( كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه )، كل ذلك استجابة لقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2].وكان مسروق رحمه الله يقوم الليل حتى انتفخت ساقاه، وكانت امرأته تقف من ورائه وتبكى وتقول: إنما أبكي رحمة له. فعلينا أيها الأحبة! إذا علمنا شيئاً أن نسارع إلى العمل به وامتثاله؛ هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الصحابة. قال بعض السلف: إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل, وأغلق عنه باب الشر.فكلما رأيت الإنسان أكثر تطبيقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم, وأكثر مبادرة إلى العلم والعمل فاعلم أن ذلك من علامة الخير به.
الدعوة

الوصية الثالثة: على الإنسان أن يدعو إلى ما تعلم، وهذا داخل فيما سبق، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يبايع الناس على ذلك. يقول جرير بن عبد الله كما ثبت في الصحيحين: ( بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة، وعلى إيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم. ) .والله عز وجل يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]. فسبيل النبي صلى الله عليه وسلم وطريقه وهديه, وطريقة من اتبعه, وهدي من اتبعه هي الدعوة إلى الله عز وجل.
الصبر والمصابرة

الوصية الرابعة: الإنسان عليه أن يصبر وأن يصابر؛ فالعلم لا بد له من مصابرة، ولا بد له مجاهدة، ولن يؤتيك بعضه حتى تؤتيه كلك.ومن يقرأ في حال السلف رحمهم الله وفي تراجمهم وكتب الطبقات وسير العلماء وأخبار الرجال يجد العجب العجاب من مصابرة العلماء رحمهم الله للعلم, فلا بد للإنسان أن يصابر.من أئمة العلماء ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يجمع سنة النبي عليه الصلاة والسلام من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فكان يأتي إلى بيت الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يعلم أن عنده شيئاً من سنة النبي عليه الصلاة والسلام فيضع رداءه ويتوسده، فتأتي الريح وتسفي عليه التراب حتى يخرج ذاك الصحابي، ثم بعد ذلك يأخذ منه تلك السنة التي حفظها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.وكان أيضاً مالك يفعل نحواً من ذلك مع شيخه نافع مولى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما .. إلخ.وأخبارهم كثيرة جداً.
الحفظ
كذلك أيضاً مما أوصي به عليك بالحفظ، على الطالب أن يمرن نفسه وأن يربي نفسه على الحفظ، وإذا قرأت شيئاً في تراجم العلماء رحمهم الله تجد أنهم يذكرون في تراجمهم أنه حفظ القرآن وله عشر سنوات إلى آخره، فتجد في ترجمة ابن قدامة رحمه الله صاحب كتاب العمدة أنه حفظ القرآن وله عشر سنوات، ثم بعد ذلك شرع في حفظ بقية المتون كمختصر الخرقي وغيره من متون الحديث والعقيدة والأصول وغير ذلك. فلا بد للإنسان أن يحفظ، فالعلماء رحمهم الله جعلوا لكل فن شيئاً من المتون، فالحديث له شيء من المتون، والفقه والعقيدة وأصول الفقه, وكذلك أيضاً مصطلح الحديث وغير ذلك، وأساس العلوم وأمها ومصدرها هو كتاب الله عز وجل. فلا بد للطالب أن يربي نفسه على الحفظ، أن يربيها على حفظ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وشيء من هذه المتون التي كتبها العلماء رحمهم الله، فإن هذا المتون تعتبر زبدة لهذه الفنون التي يدرسها الطلاب. لكل فن من هذه الفنون هذه المختصرات التي هي تعتبر خلاصة وزبدة لذلك الفن؛ فلا بد للإنسان أن يجمع ذلك في قلبه, وأن يلم به؛ لكي يترقى في العلم. والرحبي رحمه الله يقول:فاحفظ فكل حافظ إماموكما أسلفت: إذا قرأت في كتب الرجال وسيرهم وتراجم العلماء تجد أنهم يذكرون عنهم كيف كانوا يحفظون سنة النبي صلى الله عليه وسلم, ويحفظون أيضاً غير ذلك من فنون العلم.
حفظ الوقت

كذلك مما أوصي به أيضاً: حفظ الوقت؛ لا بد لطالب العلم أن يحفظ وقته، وأن يكون شحيحاً بوقته، فإن الوقت هو الحياة، وليس لك من حياتك ليس لك من عمرك إلا ما مضيته في طاعة الله عز وجل. فلا بد للطالب أن يحفظ بقاء وقته، وأن يتخلص من كثير من فضول الخلطة، ومن فضول النوم، ومن فضول اللهو .. إلخ, لا مانع أن الإنسان يجم قلبه بأشياء يستعين بها على طلب العلم وعلى طاعة الله عز وجل. لكن أن يكون الإنسان مبعثراً غير منتظم، كثير الخلطة، وكثير النوم، وكثير الذهاب والإياب والتنزهات.. إلخ, هذا يضيع عليه الوقت، ولا يستدرك شيئاً، ولا يتمكن الإنسان من الأخذ من ميراث النبوة والتزود بنور العلم إلا إذا كان حافظاً لوقته. ولو قرأت أيضاً في كتب الرجال وسير العلماء وكيف كانوا حافظين لأوقاتهم لوجدت العجب العجاب. ابن الجوزي رحمه الله كان من أشد الناس حفظاً لوقته، وكان عامة الناس يغشونه في بيته فلا يستطيع أن يردهم، يعني: يأتونه لزيارته والجلوس معه وسؤاله فلا يستطيع أن يردهم, فكان يعمد رحمه الله إذا جاءه العامة أن يشغلهم ببري الأقلام، فإذا خرجوا استفاد من هذه الأقلام التي قاموا ببريها في الكتابة والتأليف.. إلخ. وكان ابن عقيل رحمه الله يقول: لا يحل لي أن أضيع شيئاً من وقتي، فكان يمضي وقته إما في القراءة والكتابة أو في الذكر والاستغفار.
المنهجية في طلب العلم

كذلك مما أوصي به: أن يكون الطالب منظماً لا يكون مبعثراً، فإذا كان مبعثراً فإنه لا يستفيد، لا بد أن يكون منظماً، بمعنى أن يكون له أصول وقواعد يسير عليها، في كل فن من فنون العلم يكون له متن يسير عليه، وهذا المتن كما أسلفت يقوم بحفظه, وأيضاً بتعلم مسائله, ويعرف راجحه ومرجوحه, ودليل ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.فهذه لا بد لطالب العلم منها، يعني: من حيث المنهج لا بد للطالب أن يسير على هذه القواعد والأصول التي كتبها العلماء من قبله، فإنه إذا لم يكن سائراً على شيء من ذلك، فإنه يكون مبعثراً، ويكون غير منتظم، تجد أنه تارة يقرأ في هذا الباب، وتارة في الباب الآخر، وتارة يقرأ في هذا الكتاب، وتارة يقرأ في هذه الفتوى .. إلخ, لا يكون منظماً.وإذا نظرت إلى هدي العلماء السابقين نجد أنهم يسيرون على هذه المتون، فعندنا عمل وعندنا منهج، العمل الإنسان يعمل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما المنهج والتربية والتعلم فإنه يكون على قواعد وأصول حتى يسير الإنسان إلى مبتغاه ومراده.
تقييد العلم بالكتابة

كذلك أيضاً مما أوصي به: أن يقيد الفوائد, أن يعتني بالكتابة وتقييد العلم، وأن لا يعتمد على الحفظ؛ لأن الإنسان إذا كان معتمداً على حفظه فحسب فإن الحفظ وخصوصاً في وقتنا هذا سرعان ما يخونه. لا بد للإنسان أن يعتمد الكتابة وأن يقيد، يكون له متن يقيد في حواشيه أو يجعل فيه أوراقاً يقيد في هذه الأوراق ما يسمعه وما يقرؤه وما يتعلمه لكي يكون هذا المتن مرجعاً له، ويعتمد عليه في الاستذكار والتعليم . إلخ.كذلك أيضاً: على الطالب أن يكون له ثلة تعنى بالعلم، فإن الإنسان إذا كان له ثلة تعنى بالعلم وأصحاب يعينونه على ذلك فإن هذا أيضاً من أهم الوسائل في طلب العلم. من أهم الوسائل في طلب العلم أن يكون للإنسان أصحاب وزملاء يعنون بالعلم. والإنسان على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل، والطيور على أشكالها تقع. فإذا كان الإنسان مزاملاً لأهل العلم تشبه بهم وأخذ منهم وأعانوه وصار منهم، وإذا كان مزاملاً لأهل التجارة ونحو ذلك صار متأثراً بهم، وعلى هذا فقس. فعلى الإنسان أن يكون له أصحاب يعنون بالعلم، يستذكر معهم ويتحفظ معهم شيئاً من المحفوظات أو شيئاً مما قرءوا.. إلخ.فأسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح, وأن يجعلنا هداة مهتدين, وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبساً علينا.اللهم صل على محمد.
ترجمة مؤلف عمدة الفقه

الطريقة التي سنسير عليها بإذن الله أن نقرأ عبارة المؤلف رحمه الله, ونبين إن احتاجت إلى تحليل، ونذكر ما يستحضر من دليله والقول الراجح. يعني: نختصر بقدر الإمكان بحيث نتمكن أن نأخذ أكبر قدر خلال الدرس بإذن الله.هذا الكتاب كتاب (عمدة الفقه) مؤلفه أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي ، وجماعيل بلدة في بلاد فلسطين، ولد رحمه الله في شهر شعبان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة للهجرة، وتوفي رحمه الله سنة عشرين وستمائة للهجرة.ولد في بلدة جماعيل في فلسطين قريبة من مدينة نابلس، بعد أن ولد وكبر شرع في قراءة القرآن وحفظه، فحفظ القرآن الكريم وله عشر سنوات، ثم بعد ذلك شرع في حفظ بقية المتون، فحفظ مختصر الخرقي في الفقه وغيره من المتون، ثم بعد ذلك قدم به أهله إلى دمشق، فقرأ على علمائها وأخذ عنهم، ثم بعد ذلك رحل في طلب العلم كما هي عادة العلماء في ذلك الزمن وفي كل زمن, أنهم يرحلون في طلب العلم.فرحل رحمه الله إلى بغداد وطلب العلم وأخذ الحديث والفقه من علمائها، ثم بعد ذلك رجع إلى دمشق، وتصدر رحمه الله في جامع دمشق للتعليم والإفتاء.وكان رحمه الله متبحراً في الفقه والفرائض وأصول الفقه، وكذلك أيضاً العقيدة وغير ذلك، ويدل على تبحره كثرة مؤلفاته، كما سنذكر إن شاء الله شيئاً من مؤلفاته.تزوج ابنة عمه مريم ، وأنجب منها ثلاثة من الذكور، كلهم ماتوا في حياته, وأنجب منها بنتين، يعني: أنجب منها خمسة أولاد, ثلاثة من الذكور كلهم ماتوا في حياته, وأنجب منها أيضاً بنتين. وقد ذكروا من صفاته الخلقية أنه كان طويل القامة, صغير الرأس, طويل اللحية, أبيض البشرة, مقرون الحاجبين، وكان ذكياً ورعاً رحمه الله، وكان كثير العبادة والصلاة. له مؤلفات كثيرة، أي أنه كتب كثيراً من المؤلفات, ومن أعظم مؤلفاته: المغني شرح مختصر الخرقي ، هذا مؤلف كبير في الفقه، جمع فيه رحمه الله خلاف الأئمة وخلاف السلف مع ذكر أدلتهم وآثار الصحابة في هذه المسألة, وذكر أيضاً كثيراً من التفريعات التي لا تكاد توجد إلا في هذا الكتاب. وأيضاً من مؤلفاته في الفقه: هذا الكتاب كتاب العمدة, وقد ألفه للمبتدئين، وألف أيضاً كتاب المقنع ألفه للمتوسطين، ثم بعد ذلك أيضاً ألف كتاب الكافي، وجعله على روايتين، واستدل لكل رواية، والكافي جعله لما فوق المتوسطين. وكذلك أيضاً له مختصر الهداية لـأبي الخطاب .وأيضاً من مؤلفاته في الأصول: روضة الناظر، وأيضاً من مؤلفاته في العقيدة: لمعة الاعتقاد وهي مطبوعة الآن. وكذلك أيضاً من مؤلفاته كتاب التوابين, وله كتاب فضائل الصحابة، وله أيضاً التبيين في بيان نسب القرشيين، وله الاستبصار في بيان نسب الأنصار، وله مؤلف في الفرائض, وله مؤلف في القدر، له مؤلفات كثيرة رحمه الله.وتوفي كما أسلفنا سنة عشرين وستمائة للهجرة يوم السبت, ودفن بدمشق رحمه الله تعالى.
مميزات كتاب عمدة الفقه وأهم شروحه

وهذا الكتاب العمدة وقع الاختيار عليه؛ لأنه تميز بميز:الميزة الأولى: سهولة العبارة. والميزة الثانية: أن مؤلفه جعله على قول واحد فقط.والميزة الثالثة: أن مؤلفه ضمنه كثيراً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتينا إن شاء الله.فهذه ثلاث ميز.أيضاً ميزة رابعة: أن مؤلفه جرده من كثير من التفريعات، قد يكون هناك تفريعات لا دليل عليها مؤلفه جرده من ذلك, فتميز بهذه الميز. الميزة الأولى: سهولة العبارة. والميزة الثانية: أنه جعله على قول واحد. والميزة الثالثة: أن مؤلفه رحمه الله ضمنه كثيراً من الأدلة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم. والميزة الرابعة أيضاً: أنه جرده من كثير من التفريعات.وله شروح؛ من شروحه: شرح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، شرع في شرحه، وشرح في جزء من العبادات، شرحه شرحاً نفيساً، تجد في هذا الشرح الذي كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من الاستنباطات والأدلة ورواية الإمام أحمد رحمه الله ما لا تكاد تجده في غيره. وقد طبع من كتاب العمدة لشيخ الإسلام كتاب الطهارة، وطبع أيضاً جزءاً من كتاب الصلاة، وطبع من كتاب الصيام، وطبع من كتاب المناسك, فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح من هذا الكتاب العبادات فقط. أيضاً من شروحه المطبوعة المتداولة الآن: العدة لـبهاء الدين المقدسي .وهناك شروح أخرى، لكن هذه أهم الشروح وأشهرها.
الطهارة

تعريف الطهارة

قال المؤلف رحمه الله: [كتاب الطهارة].
الطهارة في اللغة:
النظافة والنزاهة عن الأقذار.
وأما في الاصطلاح:
فالطهارة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: طهارة معنوية.
والقسم الثاني: طهارة حسية.
أما الطهارة المعنوية:
فهي تطهير القلب من الشرك وأدرانه وشوائبه، وسوء الأخلاق، وتحليته بالتوحيد والعقيدة الصحيحة ومحاسن الأخلاق, وهذه الطهارة المعنوية لا يبحثها العلماء رحمهم الله، وإنما يبحثون القسم الثاني وهي الطهارة الحسية.والطهارة الحسية: يقسمها العلماء رحمهم الله إلى قسمين: القسم الأول: ما يتعلق برفع الحدث.
والقسم الثاني:
ما يتعلق بزوال الخبث.وعلى هذا نقول: تعريف الطهارة في الاصطلاح: هي رفع الحدث وما في معناه وزوال الخبث. نقول: رفع الحدث، وهذا قول العلماء رحمهم الله يشمل: الحدث الأصغر والحدث الأكبر.والحدث: وصف يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة.والمراد بالخبث النجاسة: وهي كل عين مستقذرة شرعاً. فالطهارة رفع الحدث يعني: رفع هذا الوصف القائم الذي يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة، وكذلك أيضاً زوال الخبث إزالة النجاسة -هذا القذر- شرعاً.

ورفع الحدث وما في معناه: هناك أشياء تسمى طهارة لكن ليست عن حدث، هي في معنى رفع الحدث, وهذا يمثل له العلماء رحمهم الله: غسل القائم من نوم الليل يديه ثلاث مرات، هذا الغسل يسمى طهارة، ومع ذلك هو ليس عن حدث, كذلك أيضاً غسل الجمعة؛ يغتسل الإنسان سواء قلنا: غسله مستحب, أو قلنا بوجوبه، وهذا الغسل يسمى طهارة, وهو مع ذلك ليس عن حدث, كذلك أيضاً غسل العيدين؛ يستحب للإنسان أن يغتسل من العيدين, ومع ذلك هذا ليس عن حدث ويسمى طهارة.
سبب البدء بكتاب الطهارة في كتب الفقه

وابتدأ المؤلف رحمه الله بالطهارة لأن أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين بعد التوحيد الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور، لحديث علي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ) ، وهذا حديث إسناده حسن، وفي حديث ابن عمر : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ). وثالثاً: أن التخلية قبل التحلية؛ فالإنسان يتخلى من الحدث قبل أن يتحلى بالوقوف أمام الله عز وجل.فنقول: ابتدأ المؤلف رحمه الله أحكام الطهارة: لأن الطهارة هي مفتاح الصلاة. وثانياً: أن الله عز وجل لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ. وثالثاً: أن التخلية قبل التحلية. والعلماء رحمهم الله يبدءون بأحكام العبادات، ثم بعد ذلك بأحكام المعاملات، ثم بعد ذلك بأحكام التبرعات، ثم بعد ذلك بأحكام الأنكحة، ثم بعد ذلك بأحكام الحدود والقصاص .. إلخ. فيبدءون بأحكام العبادات, ويبدءون من أحكام العبادات بالصلاة تبعاً لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في ترتيب أحكام الإسلام: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وحج البيت ) ؛ ولأن الصلاة هي آكد أركان الإسلام، وما أجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على شيء تركه كفر إلا الصلاة، ثم بعد الصلاة الزكاة لأنها قرينتها، الزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله بما يقرب من ثلاثة وسبعين موضعاً في كتاب الله عز وجل, ثم الصيام لأنه حولي، ثم الحج لأنه عمري.
الأصل في المياه الطهارة

قال المؤلف رحمه الله: [خلق الماء طهوراً].بدأ المؤلف رحمه الله أحكام المياه بهذه القاعدة: أن الأصل في المياه الطهارة، وعلى هذا إذا شككت في طهارة ماء أو نجاسته، أو أن هذا الماء يرفع الحدث أو لا يرفع الحدث، فنقول: الأصل أن الماء طهور يرفع الحدث ويزيل الخبث.ويدل لهذا الأصل قول الله عز وجل: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48], أيضاً قول الله عز وجل: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11].فنقول: الأصل في المياه الطهارة، وعلى هذا إذا شك إنسان في نجاسة ماء أو طهارته, أو هذا الماء رافع أو ليس رافعاً، فنقول: عندنا أصل؛ وهو أن الأصل في الماء هو الطهارة.
حكم رفع الحدث وإزالة النجس بغير الماء

قال المؤلف رحمه الله: [يطهر من الأحداث والنجاسات، فلا تحصل الطهارة بمائع غيره].أفاد المؤلف رحمه الله أن الماء يطهر من الأحداث؛ وهذا قول جمهور أهل العلم أن الحدث سواء كان حدثاً أصغر أو كان حدثاً أكبر لا يرتفع إلا بالماء، خلافاً لـأبي حنيفة رحمه الله تعالى.ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، فقال الله عز وجل: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43] دل على أن الذي يرفع الحدث هو الماء، ما وجدنا الماء لم يحل الله عز وجل على مائع آخر غير الماء، وإنما أحال على التراب، أحال على الصعيد الطيب، سواء كان تراباً أو غيره كما سيأتينا إن شاء الله في التيمم, عندنا ماء لم نجد الماء ننتقل إلى الصعيد الطيب لا ننتقل إلى مائع غيره، خلافاً لما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى.فالصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم, وأنه يشترط في رفع الأحداث سواء كان أصغر أو أكبر هو الماء, وأنه لا يرتفع بمائع غير الماء.قال: (فلا تحصل الطهارة بمائع غيره) هذا بالنسبة لرفع الحدث مسلم، أما بالنسبة لزوال الخبث فهل يشترط الماء لإزالة الخبث، لإزالة النجاسة؟يعني: لو أن الإنسان أصاب ثوبه بول، أو أصابه شيء من الغائط, أو أصابه دم مسفوح أو مذي أو نحو ذلك من النجاسات، هل نشترط الماء لإزالة الخبث؟نقول: هذا يشترط الماء لإزالة الخبث, واستدلوا على ذلك بأدلة؛ من أدلتهم حديث أنس كما في الصحيح: ( لما بال الإعرابي في طائفة من المسجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوه حتى يقضي بوله، فلما قضى بوله دعا النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فصبه على بوله ) . لو كان غير الماء يزيل الخبث كالشمس وكالريح .. إلخ لتركه النبي عليه الصلاة والسلام حتى تأتيه الشمس أو يأتيه الريح ويزيل هذا البول وأثره. وكذلك أيضاً استدلوا على ذلك بحديث أسماء في الصحيحين: ( في دم الحيض يصيب الثوب، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن تحته ثم تقرصه ثم تنضحه بالماء ) ، فكون النبي عليه الصلاة والسلام يأمر بنضحه بالماء يدل على أنه لا بد لإزالة الخبث من الماء.الرأي الثاني: مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم أنه لا يشترط الماء، يعني في إزالة الخبث لا نشترط الماء؛ لأن الخبث عين مستقذرة شرعاً، النجاسة عين مستقذرة شرعاً فإذا زالت زال ما ترتب عليها من حكم، إذ الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا زال هذا الخبث بأي مزيل فإنه يكفي. واستدلوا على ذلك بأدلة, وأنه لا يشترط الماء، فمن الأدلة أن الشارع اكتفى بتطهير النعلين إذا أصابهما أذى أن يدلكهما الإنسان بالأرض، يعني: يكفي أن تدلك نعليك بالأرض إذا أصابهما أذى فإن طهورهما التراب. كذلك أيضاً ذيل المرأة يكفي في طهارته إذا مر على موضع نجس أن يمر على الموضع الطاهر وهذا يكفي في طهارته. وكذلك أيضاً استدلوا على أن النجاسة تطهر بالاستحالة، فلو كان عندنا عذرة، ثم بعد ذلك استحالت من عين إلى عين أخرى فإنها تطهر بالاستحالة، يعني إذا انتقلت من عين إلى عين أخرى, يعني: مثلاً: عندنا عذرة انتقلت إلى رماد، فإنها تطهر بالاستحالة. كذلك أيضاً الخمر نجسة عند كثير من أهل العلم، بل عند جمهور أهل العلم أنها نجسة، والإجماع منعقد على أن الخمرة إذا انقلبت بنفسها خلاً دون تخليل فإنها تطهر، وهنا الآن طهرت الخمرة لما انقلبت بنفسها خلاً، وهذا القول هو الصواب، وعلى هذا نقول: لا بد من الماء لرفع الحدث، وأما زوال الخبث فإننا لا نشترط الماء، فإذا زال الخبث بأي مزيل كان، فلو أن الإنسان أصاب ثوبه بول، ثم غسله ببنزين، أو غسله بالجاز، أو عرضه للشمس فترة حتى زال أثر هذا البول، أو الرياح أصابت هذه الأرض أو نحو ذلك حتى زال أثر هذا البول فإننا نقول: بأنها تطهر. أو مثلاً: إذا كان صقيلاً ثم مسحته مثلاً كالرخام مثلاً، أو مثلاً المرآة ونحو ذلك إذا قمت بمسحها وزالت النجاسة فإن المحل يطهر. فنقول: فرق بين رفع الحدث وزوال الخبث، والعلماء رحمهم الله يفرقون بين رفع الحدث وزوال الخبث من أوجه: الوجه الأول كما سلف: أن رفع الحدث يشترط له الماء، أما زوال الخبث فلا يشترط له الماء، فالنجاسة تطهر بأي مطهر، سواء كان هذا المطهر ريحاً أو شمساً أو ماءً أو سائلاً آخر غير الماء, هذا هو الفرق الأول. الفرق الثاني: أن رفع الحدث يشترط له النية, فإذا أراد الإنسان أن يتوضأ أو أراد أن يغتسل لا بد أن ينوي, لا بد أن يفرق بين ما هو عبادة وما ليس عبادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمر : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى )، أما زوال الخبث فهذا لا تشترط له النية. وعلى هذا لو أن الإنسان أصاب ثوبه بول، ثم بعد ذلك جاءت الأمطار وهطلت على هذا الثوب حتى نظفته من هذا البول، وهو لم ينو أن يطهره ولم ينو أن يعرضه للمطر فنقول: بأنه يطهر. الوجه الثالث: أن رفع الحدث لا يعذر فيه بالجهل والنسيان؛ لأنه من باب الأوامر، وأما زوال الخبث فإنه يعذر فيه بالجهل والنسيان؛ لأنه من باب التروك والنواهي.وعلى هذا لو أن الإنسان نسي أنه محدث أو جهل أن هذا اللحم لحم جزور، حصل منه بول ونسي ذلك ثم صلى، فنقول: أعد صلاتك, لا بد أن تتوضأ وأن تعيد صلاتك، أو يجهل أن هذا اللحم لحم جزور، فأكل لحم الجزور، ثم بعد ذلك صلى فنقول: يجب عليك أن تعيد صلاتك.وأما بالنسبة لزوال الخبث فهذا يعذر فيه بالجهل والنسيان؛ وعلى هذا لو أن الإنسان صلى وعلى ثوبه نجاسة، وهو ناس لهذه النجاسة، نسي أن على ثوبه نجاسة, أو جهل أن على ثوبه نجاسه، فنقول: بأن صلاته صحيحة, ولا بأس عليه, ففرق بين رفع الحدث وزوال الخبث كما أسلفنا من هذه الأوجه الثلاثة.
حكم الماء إذا وقعت فيه نجاسة

قال المؤلف رحمه الله: [فإذا بلغ الماء قلتين أو كان جارياً لم ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه، وما عدا ذلك ينجس بمخالطة النجاسة].العلماء رحمهم الله يقسمون الماء إلى قسمين: القسم الأول: ماء كثير. والقسم الثاني: ماء قليل. فإذا رأيت في عباراتهم الماء الكثير فاعلم أن مرادهم بالماء الكثير هو ما بلغ قلتين فأكثر, والماء القليل هو ما كان دون القلتين, فإذا كان الماء بالغاً قلتين فهو ماء كثير, وإذا كان دون ذلك فهو ماء قليل. إذا وقع بالماء نجاسة، يقول المؤلف رحمه الله: إن كان الماء قلتين هذا لا ينجس إلا بالتغير، إذا كان عندنا ماء كثير ووقعت فيه نجاسة، وقع فيه بول أو غائط أو دم مسفوح أو نحو ذلك، المناط على التغير، إن تغير بالنجاسة تغير طعمه، تغير لونه، تغيرت رائحته بالنجاسة فهو نجس، لم يتغير بالنجاسة فليس بنجس. ودليلهم على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (سئل عن الماء يكون بالفلاة, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ), وفي لفظ: ( لم ينجسه شيء )، وهذا في السنن. فقالوا: هذا دليل على أنه إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس إلا بالتغير, أما إن كان دون قلتين فإنه ينجس بمجرد الملاقاة، فلو كان عندك ماء أقل من قلتين، وقعت فيه نقطة بول، فهذا ينجس بمجرد الملاقاة، سواء تغير أو لم يتغير, يعني: غيرته النجاسة أو لم تغيره النجاسة ينجس بمجرد الملاقاة. واستدلوا على ذلك بمفهوم حديث ابن عمر السابق؛ أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )، وفي لفظ: ( لم ينجسه شيء ). فقوله عليه الصلاة والسلام: ( لم يحمل الخبث ) يفهم منه أنه إذا كان دون القلتين أنه يحمل الخبث، وأنه ينجس. فالمؤلف رحمه الله ذكر أن الماء بالنسبة لوقوع النجاسة فيه ينقسم إلى هذين القسمين: إن كان كثيراً وضابط الكثير كما أسلفت ما بلغ القلتين فأكثر, فهذا لا ينجس إلا بالتغير، وإن كان قليلاً وضابط القليل ما كان دون قلتين، فهذا ينجس بمجرد الملاقاة, وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى. والرأي الثاني في المسألة: أن الماء لا ينجس إلا بتغير النجاسة، وعلى هذا إذا تغير بالنجاسة فإنه ينجس بالإجماع، إذا غيرته النجاسة غيرت طعمه أو لونه أو ريحه ينجس بالإجماع، أما إذا لم يتغير فالصواب أن الماء طهور كما تقدم. وقد ذكر المؤلف رحمه الله في أول كلامه قاعدة: الأصل في المياه الطهارة؛ ودليل ذلك قول الله عز وجل: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، وقول الله عز وجل: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11].ويدل لذلك أيضاً حديث أبي سعيد : في بئر بضاعة وما يلقى فيها من الحيض والنتن ولحوم الكلاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الماء طهور لا ينجسه شيء ).فالأصل في الماء أنه طهور إلا إذا غيرت النجاسة طعمه أو لونه أو ريحه فهنا ننتقل إلى كونه نجساً؛ لأن الإجماع قائم على ذلك. وأما حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في القلتين فهذا أهل العلم رحمهم الله أجابوا عنه, ابن القيم رحمه الله ذكر في تهذيب السنن ما يقرب من ستة عشر وجهاً في الجواب عليه، أعله العلماء رحمهم الله من جهة الإسناد وأعلوه من جهة المتن. وأيضاً على فرض ثبوته فهو دل على نجاسة ما دون القلتين بمجرد الملاقاة بالمفهوم، وعندنا هذا المفهوم يعارض منطوق قول الله عز وجل: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48], وأيضاً قول الله عز وجل: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11], وأيضاً حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه في مسند الإمام أحمد وأبي داود وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الماء طهور لا ينجسه شي ).فالصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الماء طهور إلا إذا وقعت فيه نجاسة غيرت طعمه أو ريحه أو لونه فنقول: بأنه ينجس؛ لأن الإجماع منعقد على ذلك.والمشهور في المذهب أنهم يفرقون بين الماء وبين بقية المائعات، يعني يجعلون القليل والكثير بالنسبة للماء، أما بقية المائعات فهي تنجس بمجرد الملاقاة.فالصوا في ذلك: ما ذهب إليه شيخ الإسلام أيضاً أنه لا يفرق بين الماء وبقية المائعات كالدهن والعسل ونحو ذلك، إذا وقعت فيها نجاسة إن غيرت هذا المائع فهو نجس، وإن لم تغير هذا المائع فهو طهور.
مقدار القلتين

قال المؤلف رحمه الله: [والقلتان ما قارب مائة وثمانية أرطال بالدمشقي].كيف نقدر القلتين بالكيلوات؟العلم اء رحمهم الله يقدرونها بالأرطال، تقدر بالرطل الدمشقي والرطل العراقي .. إلخ. وهذه الأشياء الآن ليست موجودة عندنا، هذه المكاييل ليس موجودة عندنا، فقد روها تقريباً بخمسمائة رطل عراقي, الرطل العراقي كم يساوي من المثاقيل؟ قالوا: يساوي الرطل الواحد من المثاقيل تسعين مثقالاً، عندنا خمسمائة رطل كل واحد من هذه الأرطال يساوي تسعين مثقالاً، فإذا أردت أن تخرج القلتان بالمثاقيل ماذا تعمل؟ نضرب خمسمائة بتسعين تخرج القلتين بالمثاقيل، المثقال الواحد كانوا يحددونه -أولاً- بحب الشعير، يقولون: يساوي ثنتين وسبعين حبة من الشعير مما طال وعليه قشره .. إلخ. ذكروا الأوصاف لكن الآن لا نحتاج إلى ذلك، المثقال الواحد الآن يقدر بأربعة غرامات وربع، وقال بعض العلماء: ثلاث غرامات ونصف, الآن نريد أن نخرج المثاقيل التي خرجت عندنا، نخرجها بالغرامات، ماذا نفعل؟ نضرب، الآن ضربنا خمسمائة بتسعين خرجت القلتين بالمثاقيل، أخرج الغرامات، المثقال الواحد يساوي أربعة غرامات وربع، فاضرب الناتج بأربعة وربع، أخرجها بالكيلوات، تقسم على ألف, فيخرج عندك تقريباً مائة وتسعون كيلو، يعني: يخرج عندك مائة واثنان وتسعون أو مائة وثلاثة وتسعون بالكيلوات.القاع ة في ذلك: القلتان تساويان خمسمائة رطل عراقي، الرطل الواحد من الأرطال العراقية يساوي تسعين مثقالاً، المثقال الواحد يساوي أربعة غرامات وربع، تضرب الأرطال بالمثاقيل، المثاقيل بالغرامات، ناتج الغرامات تقسمه على ألف، الناتج يساوي القلتين بالكيلوات.
أقسام الماء
قال المؤلف رحمه الله: [وإن طبخ في الماء ما ليس بطهور].هنا يشير المؤلف رحمه الله إلى أن الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
ماء طهور.
والقسم الثاني:
ماء نجس.
والقسم الثالث:
ماء طاهر.
والطاهر ذكر شيئاً من صوره، قال: ما استعمل في رفع حدث .. إلخ. وأيضاً يذكرون من صوره ما غمست فيه يد القائم من نوم الليل الذي نومه ينقض الوضوء، يقول: هذا ماء طاهر. ومثل ذلك أيضاً: ما تغير بطاهر، أيضاً يقولون بأنه ماء طاهر، فالماء الطاهر يقولون بأنه لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث، هو طاهر في نفسه لا يطهر غيره، لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث, بخلاف الماء الطهور, الماء الطهور طاهر في نفسه يرفع الحدث ويزيل الخبث، أما الطاهر فهو طاهر في نفسه ليس نجساً لكنه لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث. وهذه المسألة موضع خلاف، يعني: هل هناك قسم للماء يسمى بالطاهر، أو ليس هناك قسماً للماء يسمى بهذا الاسم. موضع خلاف, فالمشهور من مذهب الإمام أحمد كما ذهب إليه المؤلف رحمه الله وهو إثبات قسم من الماء يسمى بالطاهر. والرأي الثاني: يروى عن الإمام أحمد رحمه الله واختيار شيخ الإسلام أنه ليس هناك ما يسمى بالطاهر, وأن الماء ينقسم إلى قسمين: إما طهور وإما نجس, فالماء المطلق إما أن نقول: بأنه طهور؛ وهذا هو الأصل، أو نقول: بأنه نجس، وهو الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة, ما عدا ذلك فليس هناك ماء يسمى بالطاهر. وهذا القول هو الصواب. استدلوا على إثبات الطاهر بحديث ابن عمر : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن ماء البحر، أنتوضأ به؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هو الطهور ماؤه الحل ميتته )، فكون الصحابة رضي الله تعالى عنهم يسألون عن ماء البحر هذا يدل على أنه استقر في أذهانهم أن هناك ماء لا يتطهر به. والصواب كما أسلفنا: أنه ليس هناك ماء طاهر، وأن الماء إما طهور أو نجس؛ لأن حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه دليل في ذلك: ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) ، فلا يخلو الماء من أمرين: إما طهور, وإما نجس. وأيضاً قول الله عز وجل: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، فدل على أن الماء طهور، هذا هو الأصل لا ننتقل عن هذا الأصل إلا إلى الماء النجس؛ لأن الإجماع قائم على أن الماء إذا تغير بالنجاسة أنه نجس, ويدل ذلك أيضاً أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يحملون الماء في قربهم، ومع ذلك يتغير الماء في هذه القرب، ويتوضئون به. وكذلك أيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس في الصحيحين للذي وقصته ناقته: (اغسلوه بماء وسدر )، يوضع فيه السدر وهذا السدر يتغير به الماء. وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم قال للاتي غسلن ابنته: ( اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك، واجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً ) وهنا سيتغير الماء قطعاً، ومع ذلك كان هذا الماء مطهراً، فالصواب في ذلك أنه ليس هناك ماء طهور.
حكم الماء إذا خالطه شيء طاهر

قال المؤلف رحمه الله: [وكذا ما خالطه فغلب على اسمه].يعني: إذا خالط الماء شيء طاهر، مثل الحبر أو الصبغة أو الشاهي .. إلخ.نقول: هذا لا يخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يغلب على اسمه بحيث ينقله عن اسم الماء المطلق، فهذا لا يسمى ماءً إلا مضافاً، فلا يرفع الحدث، يعني: لو أنه خالطه حبر أو خالطه سدر أو خالطه زعفران بحيث إنه لا يطلق عليه اسم الماء المطلق، بل لا نطلق عليه اسم الماء إلا مضافاً، فهذا نقول بأنه لا يرفع الحدث. وإن كانت هذه المخالطة لم تغلب عليه لم تنقله عن اسم الماء المطلق، فنقول: بأنه يرفع الحدث ويزيل الخبث، أما كونه يزيل الخبث فهذا يزيل الخبث مطلقاً حتى لو نقله عن اسم الماء المطلق؛ لأنه تقدم لنا أن الخبث يزول بأي مزيل، لكن بالنسبة لرفع الحدث إذا وقع فيه شيء طاهر فنقول: إن نقله عن اسم الماء المطلق بحيث لا يسمى ماء إلا مضافاً، نقول: لا يرفع الحدث، أما إذا لم ينقله عن اسم الماء المطلق فنقول: بأنه يرفع الحدث.
الماء المستعمل
قال المؤلف رحمه الله: [أو استعمل في رفع حدث سلب طهوريته].استعمل في رفع حدث, ما هو المستعمل في رفع الحدث؟ المستعمل في رفع الحدث هو المنفصل عن أجزاء البدن، يعني: إنسان يريد أن يتوضأ، فغسل وجهه تساقط هذا الماء في إناء، وغسل تمضمض واستشق تساقط هذا الماء، غسل يده تساقط، مسح رأسه وغسل رجليه تساقط، هذا المتساقط مستعمل في رفع الحدث، ما دام أنه يصير دون القلتين، هذا يقول المؤلف رحمه الله: مستعمل في رفع الحدث. ما حكمه؟ يقولون: بأنه طاهر وليس طهوراً، بمعنى: أنه لا يرفع الحدث، ولا يزيل الخبث، فإذا كان مستعملاً في رفع الحدث قالوا: بأنه طاهر. عندنا إناء فيه ماء دون القلتين، جاء شخص ونوى أن يرفع الجنابة عن نفسه، وانغمس فيه ثم بعد ذلك خرج، الآن هذا الماء يكون مستعملاً في رفع الحدث، يقولون: بأن هذا الاستعمال يسلبه الطهورية, فيكون طاهراً لا يرفع الحدث, ولا يزيل الخبث على المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.وتقدم لنا أن القاعدة في الماء أنه طهور؛ لقول الله عز وجل: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]. فالصواب: أن هذا يرفع الحدث ويزيل الخبث، النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يغتسل الإنسان في الماء الراكد الذي لا يجري وهو جنب، ونهى أن يبول فيه، لكن لم يتطرق النبي صلى الله عليه وسلم إلى حكم الماء، لم يقل بأن هذا الماء أصبح طاهراً، لا يرفع الحدث .. إلخ. فالصواب في ذلك أن الماء طهور لا ينجسه شيء، إلا إذا وقعت فيه النجاسة, وغلبت على طعمه أو لونه أو ريحه فنقول: بأنه في هذه الحالة يكون نجساً.

ابو وليد البحيرى
2018-02-11, 05:29 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الطهارة [2]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )


الأصل في الماء أنه طهور إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة تحدث فيه، ولاشتباه الطاهر بالنجس صور ولكل صورة حكم معين، والأصل في الأواني إباحة استعمالها واتخاذها إلا ما حرمه الشرع كآنية الذهب والفضة.
تلخيص لما سبق من أحكام الطهارة

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg
فقد سبق لنا شيء من أحكام الطهارة، وذكرنا أن الطهارة تنقسم إلى قسمين:القسم الأول: طهارة معنوية. والقسم الثاني: طهارة حسية. وبينا أن بحث العلماء رحمهم الله في مثل هذه الأقوال إنما تكون في الطهارة الحسية، وأن الطهارة الحسية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: رفع الحدث. والقسم الثاني: زوال الخبث. ثم شرع المؤلف رحمه الله في بيان أحكام المياه، وذكرنا أيضاً أن الصواب في المياه أنها تنقسم إلى قسمين:القسم الأول: ماء طهور. والقسم الثاني: ماء نجس. وأن الأصل في المياه الطهارة؛ لقول الله عز وجل: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، وقوله سبحانه: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11]، فالأصل في الماء أنه طاهر يرفع الحدث، إلا في حالتين: الحالة الأولى: إذا تغير بنجاسة. فإذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه بنجاسة حدثت فيه فهو نجس بالإجماع، لا يرفع الحدث.الحالة الثانية: إذا تغير بطاهر سلبه اسم الماء المطلق، بحيث لا يسمى ماءً عند الإطلاق، وإنما يسمى ماء بالإضافة.فمثلاً: يقال: ماء زعفران أو ماء حبر ونحو ذلك، فإذا تغير بطاهر سلبه اسم الماء المطلق فإنه لا يرفع الحدث حينئذٍ، فلو كان عندك ماء ثم بعد ذلك أضفت إليه حبراً أو أضفت إليه صبغاً أو أضفت إليه زعفراناً أو نحو ذلك، فتغير به بحيث سلبه اسم الماء المطلق فإنه في هذه الحالة لا يرفع الحدث، فأصبح عندنا أن الماء طهور يرفع الحدث إلا في هاتين الحالتين. أما زوال الخبث فيرتفع على الصحيح بالماء وغيره، وسيأتينا إن شاء الله في هذا الدرس ضابط الأشياء النجسة، فالنجاسة تطهر بأي مطهر، سواء طهرت بالريح، طهرت بالشمس, طهرت بالدلك مثل الأشياء الصقيلة كالمرآة وكالسيف وكالرخام وكالبلاط .. إلخ، فهذه إذا مسحتها وذهبت عين النجاسة فإن المحل يطهر، وليس ذلك خاصاً بالماء، وذكرنا الأدلة على ذلك, ومن الأدلة على ذلك سائر أدلة الاستجمار، أدلة الاستجمار تدل على أن النجاسة لا يشترط في إزالتها الماء، فإن الاستجمار إنما يكون بالحجارة أو التراب والأوراق ونحوها, وعلى هذا إذا أصاب الثوب شيء من البول ثم بعد ذلك نزل عليه الماء، أو المطر، أو أصابته الريح أو الشمس، فزال أثر هذا البول فنقول بأنه طهر؛ لأن النجاسة عين مستقذرة شرعاً إذا وجدت وجد الحكم، وإذا انتفت انتفى الحكم بأي مزيل وبأي سبب, فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً, هذا هو الصواب في هذه المسائل.وسبق لنا أيضاً أن العلماء رحمهم الله يقسمون الماء إلى قسمين: ماء كثير وماء قليل، وأن الماء الكثير ما بلغ قلتين، وذكرنا أيضاً في الدرس السابق كيف نحدد القلتين بالغرامات وبالكيلوات .. إلخ. فيقولون: الماء الكثير لا ينجس إلا بالتغير إذا حدثت فيه النجاسة، وأما الماء القليل فإنه بمجرد ملاقاة النجاسة له ينجس. وذكرنا أن الصواب أنه لا فرق بين القليل والكثير, وإن العبرة إنما يكون بالتغير، فإذا تغير هذا الماء سواء كان قليلاً أو كثيراً بالنجاسة فإنه نجس، وإذا لم يتغير فإنه طهور. ويدل لذلك ما سبق أن ذكرناه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الماء طهور لا ينجسه شي ), فلا يخلو الماء إما طهور وإما نجس، فإن تغير بالنجاسة فهو نجس بالإجماع، لم يتغير بالنجاسة فهو طهور، إلا إن تغير بطاهر سلبه اسم الماء المطلق فإنه في هذه الحالة لا يرفع الحدث ويزيل الخبث كما سبق لنا أن إزالة الخبث تكون بأي مزيل. وذكرنا أيضاً أن هناك فرقاً بين رفع الحدث وزوال الخبث، وذكرنا هذه الفروق, وقلنا: إن رفع الحدث يشترط له النية, لا بد لرفع الحدث من النية، فلو أن الإنسان غسل الأعضاء ولم ينو رفع الحدث فإن ذلك لا يجزئ، أما زوال الخبث فإنه لا تشترط له النية، فلو وقع على الأرض بول ثم بعد ذلك صب عليه ماء أو نزلت عليه أمطار، ولم ينوَ إزالة وتطهير هذا البول فإن المكان يطهر, ومثل ذلك أيضاً لو وقع على الثوب ونحو ذلك. والفرق الثاني: أن رفع الحدث لا يعذر فيه بالجهل والنسيان, وأما زوال الخبث فيعذر فيه بالجهل والنسيان, فلو أن الإنسان صلى وقد نسي أن يتوضأ فإنه لا يعذر لكن لو كان على ثوبه نجاسة وصلى, أو جهل هذه النجاسة وصلى فإنه يعذر، فإذا نسي هذه النجاسة التي على ثوبه أو على بدنه أو على بقعته التي يصلي عليها وصلى, فنقول بأن صلاته صحيحة.الفرق الثالث: أن رفع الحدث هذا لا بد له من الماء, وأما زوال الخبث فسبق أن ذكرنا أنه لا يشترط له الماء.الفرق الرابع: أن رفع الحدث من باب الأوامر, وأما زوال الخبث فهو من باب النواهي.
الشك في طهارة الماء

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg
قال المؤلف رحمه الله: [وإذا شك في طهارة الماء أو غيره ونجاسته بنى على اليقين].إذا شك هل هذا الماء نجس أو ليس نجساً؟ يعني: وجد ماءً, وهذا الماء قد تغير، شك هل هذا المغير نجس أو أنه ليس نجساً. فنقول: الأصل في ذلك الطهارة، فيجوز للإنسان أن يتوضأ به ما دام أن اسم الماء باق عليه، ما دام أن هذا المغير لم يسلبه اسم الماء المطلق، فإذا شك هل هذا المغير نجس أو ليس نجساً؟ مثلاً وجد فيه روثة، وهذه الروثة قد غيرته، لا يدري هل هي روثة ما يؤكل لحمه كالإبل والبقر والغنم فيكون هذا الماء طهوراً، أو أن هذه الروثة روثة ما لا يؤكل لحمه -كالحمار مثلاً- فيكون نجساً؟ شك في ذلك فنقول: الأصل في ذلك أن هذا الماء طهور، وعندنا قاعدة يذكرها العلماء رحمهم الله وهي إحدى القواعد الخمس الكلية التي يدور عليها الفقه؛ وهي: أن اليقين لا يزول بالشك. ودليل ذلك حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم شكي إليه الرجل في الصلاة يخيل إليه أنه قد خرج منه شيء ولم يخرج منه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً )، فهذا الحديث دليل لهذه القاعدة وهي أن اليقين لا يزول بالشك، فإذا تيقن الإنسان أنه طاهر وشك هل أحدث أو لم يحدث؟ فنقول: الأصل أنه طاهر، إذا شك في هذا الماء هل هو نجس أو ليس نجساً؟ نقول: الأصل أنه طاهر, وليس نجساً.كذلك أيضاً: لو كان هذا الماء نجساً، ثم بعد ذلك شك هل تطهر أو لم يتطهر؟ فنقول: الأصل بقاء النجاسة للقاعدة السابقة؛ وهي: أن اليقين لا يزول بالشك.قال: (في طهارة الماء أو غيره).مثل الثوب، إذا كان عنده ثوب وشك في نجاسته، وجد على هذا الثوب أثراً، لا يدري هل هذا الأثر نجس أو طاهر؟ فنقول: الأصل في ذلك الطهارة. وكذلك أيضاً: لو كان في هذا الثوب نجاسة، ثم بعد ذلك شك هل زالت النجاسة أو لم تزل؟ فنقول: الأصل بقاء النجاسة؛ للقاعدة التي أشرنا إليها؛ وهي: أن اليقين لا يزول بالشك.
خفاء موضع النجاسة من الثوب وغيره

قال المؤلف رحمه الله: [وإن خفي موضع النجاسة من الثوب أو غيره غسل ما يتيقن به غسلها].إذا خفي موضع النجاسة: بمعنى أن هذا الثوب أصابه نجاسة ولم يعلم هل هذه النجاسة في هذا الكم، أو في هذا الكم .. إلخ؟ أو أنها في هذا الطرف أو في هذا الطرف .. إلخ؟ فيقول المؤلف رحمه الله: يغسل حتى يتيقن زوال النجاسة. والصواب في ذلك: أنه لا حاجة إلى اليقين، بل يكفي الظن؛ فإذا غلب على ظنه أن النجاسة قد زالت فإن هذا كاف، فإذا كان يغلب على ظنه أن هذه النجاسة في هذا الطرف الأيمن، فإنه يغسل الطرف الأيمن، وإن غلب على ظنه أن النجاسة في الطرف الأيسر فإنه يغسل الطرف الأيسر.فنقول: الصواب في هذه المسألة: أن غلبة الظن معتبرة شرعاً في مثل هذه المسائل, ولهذا ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ( حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض الماء على سائر بدنه ).فنقول: غلبة الظن معتبرة في مثل هذه المسائل, فإذا غلب على ظنه أن المحل قد طهر فإن ذلك كاف.
أحكام الاشتباه في الطهارة

اشتباه الماء الطاهر بالنجس
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg

قال المؤلف رحمه الله: [وإن اشتبه ماء طاهر بنجس ولم يجد غيرهما تيمم وتركهما].إذا كان عنده ماء طاهر وعنده ماء نجس، وشك في أيهما الطاهر وأيهما النجس؟ فيقول المؤلف رحمه الله: بأنه يترك هذين المائين ويتيمم. والرأي الثاني: قول الشافعي رحمه الله أنه يتحرى وينظر في أي المائين الماء الطاهر, وهذا القول هو الصواب، فإذا تحرى وظن أن هذا الماء هو الطاهر فإنه يتوضأ به. ويدل لذلك حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في صحيح البخاري في الشك في الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فليتحر الصواب ثم ليبن عليه ).فنقول: الصواب في هذه المسألة أنه إذا أمكنه أن يتحرى بحيث إنه يشم الرائحة, قد يكون الظن أن هذا الماء هو الماء النجس لقبح رائحته ونتنها .. إلخ.المهم: أنه إذا أمكنه أن يتحرى فليتحر، فإذا غلب على ظنه أن هذا الماء هو الطهور, وأن هذا هو النجس, فإنه يتوضأ بالماء الطهور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما: ( فليتحر الصواب ثم ليبن عليه ).
اشتباه الماء الطاهر بالطهور

قال المؤلف رحمه الله: [وإن اشتبه طهور بطاهر توضأ من كل واحد منهما].عندنا ماء طهور، وعندنا ماء طاهر، وسبق لنا في الدرس السابق أن الصواب أنه لا وجود للماء الطاهر، وأن الماء ينقسم إلى قسمين: إما طهور وإما نجس. وأما الطاهر فإنه لا وجود له. على كل حال المؤلف رحمه الله يرى أن الماء الطاهر له وجود، وأنهم يقسمون الماء إلى ثلاثة أقسام: طاهر, وطهور, ونجس.على كلام المؤلف رحمه الله إذا اشتبه ماء طهور بماء طاهر، إذا اجتمع طهور بطاهر، الماء الطاهر مثاله: ما غُمست فيه يد قائم من نوم الليل، فإذا كان عندنا شخص قام من نوم الليل وهذا النوم ينقض الوضوء, وغمس يده قبل أن يغسلها ثلاثاً، وهذا الماء قليل، يعني أقل من قلتين، فإن هذا الماء بمجرد غمس يده به يكون طاهراً لا يرفع الحدث، فإذا كان هذا الإناء قد غمست فيه يد هذا النائم القائم من نوم الليل, ونومه ينقض الوضوء, وعندنا ماء طهور اشتبها. فيقول المؤلف رحمه الله: يتوضأ من هذا, ويتوضأ من هذا؛ لكي يحصل له اليقين أنه توضأ بماء طهور، أما إذا قلنا بأن هذا الماء الذي غمست فيه يد النائم المستيقظ من نوم الليل لا تنسلب طهوريته, وإنما هو على طهوريته، فإن هذه المسألة لا توجد عندنا. وكذلك أيضاً من الأمثلة التي سبق أن ذكروها في الماء الطاهر: المستعمل برفع الحدث، يعني لو أن إنساناً عنده ماء, واستعمله في رفع الحدث، يعني: الغسلة الأولى من رفع الحدث، هذا المتساقط إذا جمعه في إناء، غسل وجهه وجمع هذا المتساقط، وغسل يديه وجمع هذا المتساقط، وغسل رجليه وتمضمض وجمع هذا المتساقط، واشتبه هذا المتساقط بماء طهور لم يرفع به حدث, فيقول المؤلف رحمه الله: يتوضأ من هذا, ويتوضأ من هذا .. إلخ. أو مثلاً: عندنا ماء قليل وإنسان أصابته جنابة عليه احتلم في منامه, وانغمس في الماء ناوياً رفع الحدث ثم خرج منه، فإن هذا الماء يكون مستعملاً في رفع الحدث فهو طاهر، فإذا اشتبه هذا الماء الطاهر بالماء الطهور, فإن المؤلف رحمه الله يقول: يتوضأ من هذا, ويتوضأ من هذا, لكن إذا قلنا بأن الماء الطاهر أصلاً لا وجود له فلا ترد عندنا هذه المسألة.
اشتباه الثياب الطاهرة بالنجسة

قال المؤلف رحمه الله: [وإن اشتبهت الثياب الطاهرة بالنجسة صلى في كل ثوب صلاة بعدد النجس, وزاد صلاة].لو أن رجلاً عنده عشرة أثواب نجسة وعشرة أثواب طاهرة، واشتبهت هذه الأثواب عنده, الآن عشرون ثوباً، عشرة طاهرة وعشرة نجسة، اشتبهت الآن الثياب الطاهرة بالنجسة.فيقول المؤلف رحمه الله: يصلي بعدد الأثواب النجسة ويزيد صلاة؛ لأنه إذا صلى بعدد الأثواب النجسة وزاد صلاة يتيقن قطعاً أنه صلى صلاة بثوب طاهر؛ لأنه إذا صلى عشر صلوات نفرض أن هذه الصلوات العشر كلها وقعت في الثياب النجسة، فإذا زاد صلاة تيقنا يقيناً أنه صلى صلاة في ثوب طاهر. والصواب في هذه المسألة: أن الإنسان يتحرى ثوباً من هذه الأثواب ويصلي فيه، ولا يكلف أن يصلي بعدد النجس؛ لأن النجسة قد تكون كثيرة، قد يكون عدد الأثواب النجسة عشرة قد يكون عشرين، قد يكون ثلاثين.. إلخ. فإذا قلنا: يلزمك أن تصلي بعدد النجس, وتزيد صلاة هذا فيه مشقة, ومن القواعد المقررة في الشريعة: أن المشقة تجلب التيسير.
تطهير النجاسة

كيفية تطهير نجاسة الكلب

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg
قال المؤلف رحمه الله: [وتغسل نجاسة الكلب والخنزير سبعاً إحداهن بالتراب].المؤلف رحمه الله لما ذكر أقسام المياه شرع رحمه الله في بيان النجاسات, وكيف تطهر النجاسة؟فنقول: النجاسات من حيث التطهير تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: نجاسة مغلظة. والقسم الثاني: نجاسة مخففة. والقسم الثالث: نجاسة متوسطة. وهذه سترد علينا إن شاء الله. فنقول: القسم الأول: نجاسة مغلظة؛ وهي نجاسة الكلب. وبدأ بها المؤلف رحمه الله قال: (وتغسل نجاسة الكلب والخنزير سبعاً إحداهن بالتراب).هذا القسم الأول من أقسام النجاسات, وهي النجاسة المغلظة: نجاسة الكلب, الكلب إذا ولغ في الإناء فإنه يجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب. ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن ) وفي رواية: ( أولاهن بالتراب ), وهذا الحديث في الصحيحين. فنجاسة الكلب هذه نجاسة مغلظة، ومعنى الولوغ: أنه يخرج لسانه في الإناء ويشرب من الإناء، فهذا يجب أن نغسله سبع مرات إحداهن بالتراب, والأولى أن تكون الغسلة الأولى بالتراب؛ وهذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله ومذهب الشافعي.وعند أبي حنيفة أن نجاسة الكلب لا يجب غسلها سبعاً، وإنما يكفي أن تغسل ثلاثاً؛ لأن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه راوي الحديث سئل عن الإناء إذا ولغ فيه الكلب، فأفتى أبو هريرة بغسله ثلاثاً، وهذا ثابت عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه, ويجاب عنه بجوابين:أما الجواب الأول: فنقول: أيضاً ورد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه أفتى بالغسل سبعاً، هذا الجواب الأول.والجواب الثاني: أن العبرة بما روى أبو هريرة لا بما رأى، فعندنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه النص على أن الكلب إذا ولغ في الإناء أنه يجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب.قوله: ( إحداهن بالتراب ) مسألة التترييب، هل تكون في الأولى أو تكون في إحدى الغسلات؟يجوز أن يكون الترتيب في الأولى وفي الثانية وفي الثالثة .. إلخ، لكن العلماء رحمهم الله قالوا: الأولى أن تكون في الأولى، وعلى هذا يأتي بالإناء ويضع فيه التراب ويمزجه بالماء، وهذه تكون غسلاً، ثم بعد ذلك يغسله الغسلة الثانية بالماء والثالثة وهكذا .. إلخ. عندنا مسألة أخرى، هل يقوم غير التراب مقام التراب؟ مثلاً المنظفات الآن الموجودة هل تقوم مقام التراب، أو لا تقوم مقام التراب؟هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله.فأكثر العلماء قالوا: بأن غير التراب كالصابون وما يوجد الآن من منظفات تقوم مقام التراب؛ لأن القصد من ذلك هو التنظيف. والرأي الثاني: رأي الظاهرية قالوا: بأن غير التراب لا يقوم مقام التراب، وأنه لا بد من الغسل بالتراب كما نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب في ذلك: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله, وأن غير التراب مما يحصل به التنظيف يقوم مقام التراب, إلا إذا كان أثر ولوغ الكلب لا يزول إلا بالتراب، فإذا كان أثره لا يزول إلا بالتراب فنقتصر على ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم, أما إذا كان أثره يزول بالتراب ويزول بغيره فإن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً, والمقصود من النص على التراب هو التنظيف، والنبي عليه الصلاة والسلام نص على التراب؛ لأن التراب أحد الطهورين، فعندنا الماء يتطهر به، أيضاً التراب يتطهر به, كما سيأتينا إن شاء الله في التيمم.
إلحاق الخنزير بالكلب في كيفية التطهير

المسألة الأخرى أيضاً: هل يلحق الخنزير بالكلب، أو نقول: بأن الخنزير لا يلحق بالكلب؟هذه أيضاً موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله، والذي مشى عليه المؤلف: أن الخنزير يلحق بالكلب، وعلى هذا فنجاسة الخنزير نجاسة مغلظة تغسل سبع مرات إحداهن بالتراب. والصواب في ذلك: أن نجاسة الخنزير ليست نجاسة مغلظة، وإنما هي من النجاسات المتوسطة, هذا هو الصواب؛ لأن التسبيع إنما ورد فقط في نجاسة الكلب.
كيفية تطهير بقية نجاسات الكلب غير اللعاب

أيضاً مسألة أخرى: هل يلحق غير الولوغ بالولوغ من بقية نجاسات الكلب؟ يعني: مثلاً لو أن الكلب بال على ثوب، أو بال في أرض، أو بال في الإناء, أو حصل منه روث في الإناء ونحو ذلك، هل نقول بأن هذه النجاسات تلحق بالولوغ، وأنه يجب غسلها سبعاً، أو نقول بأنها لا تلحق؟هذا موضع خلاف، والذي مشى المؤلف رحمه الله أنها تلحق؛ لأنه عمم، فلو بال في إناء فإنه يجب غسلها سبعاً إحداهن بالتراب، وكذلك أيضاً لو تغوط في إناء يجب غسله سبعاً إحداهن بالتراب. والصواب في ذلك: أن التسبيع خاص فقط بولوغ الكلب، فلو بال هذا الكلب على ثوب، أو بال في أرض أو نحو ذلك فإنه لا يسبع، ويكون هذا من النجاسات المتوسطة, وسيأتينا إن شاء الله ضابط النجاسة المتوسطة أنها تغسل حتى يغلب على الظن زوال النجاسة، ولا يجب التسبيع إلا في ولوغ الكلب.فأصبح عندنا الآن التسبيع خاصاً بولوغ الكلب في الإناء كما ورد في الحديث، ما عدا ذلك فإنه لا يجب فيه التسبيع، وإنما تكون نجاسته من النجاسات المتوسطة.
كيفية تطهير سائر النجاسات غير الكلب

قال المؤلف رحمه الله: [ويجزئ في سائر النجاسات ثلاث منقية].لما تكلم المؤلف رحمه الله عن القسم الأول وهي النجاسة المغلظة، وفهمنا أن النجاسة المغلظة هي ولوغ الكلب في الإناء فقط، هذا الذي يجب أن يغسل سبعاً إحداهن بالتراب، وقلنا: الأولى أن تكون الأولى هي التراب, شرع المؤلف رحمه الله بالقسم الثاني، وهي النجاسات المتوسطة، وقال: النجاسات المتوسطة تغسل ثلاث مرات، مثل على الصحيح نجاسة بول الكلب، نجاسة الخنزير بول الخنزير, إذا ولغ الخنزير هذه من النجاسات المتوسطة، مثل الغائط، مثل بول الإنسان، مثل دم الحيض.. إلخ, فهذه نجاسات متوسطة.النجاسات المتوسطة يقول المؤلف رحمه الله: بأنها تغسل ثلاث مرات, واستدل المؤلف رحمه الله على ذلك بدليلين: الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً, فإنه لا يدري أين باتت يده ), فأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يغسل يده ثلاث مرات قبل أن يغمسها في الإناء, ما هي العلة من غسلها ثلاث مرات؟على كلام المؤلف أن العلة هي توهم النجاسة، وقد ذكر الشافعي رحمه الله أنهم في بلاد الحجاز كثيراً ما يستعملون الحجارة، يعني: إذا انتهى الإنسان من حاجته يستجمر بالحجارة أو بالتراب أو بالمناديل ونحو ذلك، وإذا استجمر الإنسان فإنه سيبقى شيء من أثر النجاسة، فالاستجمار ليس كالاستنجاء، الاستنجاء يقطع النجاسة، أما الاستجمار فإنه يبقى معه شيء من أثر النجاسة، وإذا كان الإنسان نائماً ربما أن يده تصيب هذه النجاسة التي في دبره، فقال: تغسل ثلاث مرات. العلة في ذلك قالوا: هو توهم النجاسة. وخالف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذلك وقال: ليست تلك هي العلة، العلة هي أن الشيطان قد يعبث بيد النائم، ونظير هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً في الحديث الآخر من حديث أبي هريرة: ( إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنثر ثلاثاً, فإن الشيطان يبيت على خيشومه )، فأمرك النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظت من نومك أن تستنشق الماء وتخرجه ثلاث مرات؛ لأن الشيطان يبيت على الخيشوم.فكذلك أيضاً: إذا استيقظت من نوم الليل فإنك تغسل يديك ثلاث مرات؛ لأن الشيطان ربما لامس يدك، كما أنه يبيت على خيشوم النائم، فهذا هو, وليست العلة توهم النجاسة، فأصبح الاستدلال بهذا الدليل فيه نظر. أما الدليل الثاني: فقالوا بأنه يقاس على الاستجمار، فالإنسان إذا استجمر لا بد أن يستجمر بثلاث مسحات؛ كما في حديث سلمان رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم : ( وأن لا يستنجي بأقل من ثلاث أحجار )، فإذا كان الاستجمار يشترط فيه ثلاث مسحات، كذلك أيضاً إزالة هذه النجاسات المتوسطة يشترط فيها ثلاث مرات, هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله. والمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أشد من هذا، وأن النجاسات المتوسطة لا بد فيها من سبع غسلات؛ واستدلوا على ذلك بما يروى من حديث ابن عمر قال: ( أمرنا بغسل الأنجاس سبعاً )، وهذا الحديث لا يثبت. الرأي الثالث: ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله, أنه لا عدد في غسل النجاسات المتوسطة، بل يغسل الإنسان حتى يغلب على ظنه أن المحل قد طهر، فإذا أصاب ثوبك بول أو غائط أو دم مسفوح، أو المرأة أصاب ثوبها شيء من دم الحيض .. إلخ فإنها تغسل حتى يغلب على الظن زوال النجاسة, فإذا غلب على الظن زوال النجاسة فنقول: بأن المحل طهر، ولا يقيد بعدد، وهذا القول هو الصواب, أن لا يقيد بعدد؛ كما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله. ويدل على هذا -أولاً- ما ذكرناه من القاعدة, أن النجاسة عين مستقذرة شرعاً، فإذا وجدت وجد الحكم، وإذا انتفت انتفى الحكم، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا انتفت النجاسة انتفى الحكم. وأيضاً الأدلة على ذلك كثيرة، من الأدلة على ذلك النعلان, إذا أصاب نعليك شيء من النجاسة فإن طهورهما التراب، تدليكهما بالتراب أو بالأرض هذا طهورهما. ذيل المرأة يطهره ما بعده. أيضاً: أسماء رضي الله تعالى عنه ( سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: تحته, ثم تقرصه بالماء, ثم تنضحه ). فالصواب في ذلك أن غسل الأثواب وغير ذلك أن الإنسان يغسل حتى يغلب على الظن زوال النجاسة.
كيفية تطهير الأرض المتنجسة

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg
قال المؤلف رحمه الله: [وإن كانت النجاسة على الأرض فصبة واحدة تذهب بعينها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء )].إذا كانت النجاسة على الأرض يكفي صبة واحدة، فعلى هذا إذا كان مثلاً في الحمامات أو في الأراضي أو غير ذلك أو في الرمل أو التراب يكفي أن تصب صبة واحدة تذهب بعين النجاسة.ودليل ذلك ما أورده المؤلف رحمه الله من حديث أبي هريرة وحديث أنس في بول الأعرابي في المسجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( صبوا على بوله ذنوباً من ماء ).
كيفية تطهير النجاسة المخففة

قال المؤلف رحمه الله: [ويجزئ في بول الغلام الذي لم يأكل الطعام النضح].هذا هو القسم الثالث من أقسام النجاسات؛ وهي النجاسة المخففة، والنجاسة المخففة تشمل شيئين:الشيء الأول: بول الغلام الذي لم يأكل الطعام لشهوة؛ هذا يكفي في بوله فقط أن تغمره بالماء، هذا الغلام الذي لم يأكل الطعام لشهوة، وإنما يكون طعامه اللبن, وأيضاً قال بعض العلماء: لا يمنع من ذلك العسل والدواء. أما إذا كان يأكله لشهوة، ويريده, وتجده يتتبعه، فهذا بوله ينتقل من النجاسة المخففة إلى النجاسة المتوسطة، أما إذا كان طعامه فقط الحليب, وأما الطعام فلا يأكله لشهوة، فهذا نجاسته نجاسة مخففة، يكفي في ذلك أن ترشه بالماء فقط، تغمره بالماء، إذا وضعت عليه ماء كفى ذلك ولا حاجة إلى فرك أو دلك أو نحو ذلك. ويدل لذلك حديث أم قيس بنت محصن رضي الله تعالى عنها: ( أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها صغير لم يأكل الطعام فأجلسه في حجره، فبال هذا الصبي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فنضحه ولم يغسله ). وهذا الحديث في الصحيحين.أيضاً يدل لذلك حديث عائشة نحو هذا الحديث، هذا الأمر الأول, بول الصبي الذي لم يأكل الطعام لشهوة، وبينا معنى كونه لم يأكل الطعام لشهوة، يعني: أنك لا تجده يريد الطعام ويتتبعه، أما إذا كان يريد الطعام ويطلبه ويتتبعه، فهذا ينتقل بوله من البول المخفف إلى البول المتوسط. وقول المؤلف رحمه الله: (بول الصبي) هذا يخرج غائط الصبي، غائط الصبي نجاسته نجاسة متوسطة؛ لأن النص إنما ورد فقط في البول، أما بالنسبة لريقه وقيئه فإن هذا كله طاهر، وغسل هذا من باب النظافة فقط.الشيء الثاني: المذي, أيضاً المذي نجاسته نجاسة مخففة، فيكفي إذا أصاب المذي البول أن تأتي بماء وترشه عليه، تغمره بالماء وهذا كاف. ودليل ذلك حديث سهل بن حنيف : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام أرشده أن يأخذ ماء, وأن ينضح هذا المذي ) أخرجه الترمذي وغيره وإسناده صحيح.فأصبح عندنا أن النجاسة المخففة تشمل هذين الأمرين.الخلاصة في ذلك: أن النجاسات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: نجاسة مغلظة، وهي نجاسة ولوغ الكلب إذا ولغ في الإناء، هذا الذي يغسل سبع مرات إحداها بالتراب. القسم الثاني: نجاسة متوسطة؛ وهي سائر النجاسات، إلا ما نستثنيه في النجاسة المخففة. القسم الثالث: النجاسة المخففة؛ وهي تشمل الأمرين:الأول: بول الصبي الذي لم يأكل الطعام لشهوة؛ وهذا دليله حديث أم قيس بنت محصن رضي الله تعالى عنها وحديث عائشة . والأمر الثاني: المذي؛ وهذا دليله حديث سهل بن حنيف في الترمذي وغيره.
ما يعفى من النجاسات

قال المؤلف رحمه الله: [ويعفى عن يسيره ويسير الدم وما تولد منه من القيح والصديد ونحوه].الآن ذكر المؤلف رحمه الله العفو عن النجاسة، المؤلف رحمه الله ذكر أنه يعفى عن ثلاثة أشياء من النجاسة:الأول: يسير المذي؛ يعني: إذا أصاب ثوبك أو أصاب السروال شيء يسير من المذي فلا بأس، لو تركته لم تنضحه بالماء فهذا لا بأس به.الثاني: يسير الدم، يسير الدم يعفى عنه.الثالث: ما تولد من الدم من القيح والصديد.فذكر المؤلف رحمه الله أنه يعفى عن يسير النجاسة في ثلاثة مواضع: الأول: يسير المذي. والثاني: يسير الدم. والثالث: يسير القيح والصديد. وقوله: يسير الدم يظهر من كلامه أن الدم نجس، لكن يأتينا إن شاء الله أن الدم له سبعة أقسام أو ثمانية أقسام, نبين إن شاء الله ما هو الدم الطاهر, وما هو الدم النجس, هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله. والصواب في هذه المسألة: أن نذكر قاعدة في ذلك اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأيضاً قول أبي حنيفة أنه يعفى عن يسير سائر النجاسات، ولا نقيد ذلك بالمذي أو بالدم أو بالقيح والصديد ونحو ذلك. شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله استدل على ذلك بسائر أحاديث الاستجمار، سائر أحاديث الاستجمار تدل على أن يسير النجاسة يعفى عنها؛ لأن الإنسان إذا استجمر يبقى شيء من النجاسة في المحل، إذا استجمر الإنسان مهما كان الإنسان أيضاً مسح بالمناديل أو بالحجارة أو بالأتربة أو نحو ذلك فإنه سيبقى شيء من أثر النجاسة. هذا الأثر عفا عنه الشارع؛ حتى ابن القيم رحمه الله يقول: يسير النجاسة يعفى عنه حتى لو تجاوز محله، يعني: لو أن الإنسان استجمر، ثم بعد ذلك أصابه ماء، أو أصابه العرق، وعرق المحل، وسال العرق على فخذيه، فإنه يعفى عن ذلك. فنقول: القاعدة في ذلك أنه يعفى عن يسير سائر النجاسات؛ والدليل على ذلك سائر أحاديث الاستجمار، كلها تدل على أن يسير النجاسات يعفى عنها.ضابط اليسير:قال المؤلف رحمه الله: [وحد اليسير هو ما لا يفحش في النفس].يقول المؤلف رحمه الله: (حد اليسير ما لا يفحش في النفس) كأن المؤلف رحمه الله أرجع الكثرة والقلة إلى نفس الشخص، فيقول: إذا كان فاحشاً في نفس كل أحد بحسبه فإنه كثير، وإذا كان غير فاحش فإنه قليل. والصواب في ذلك: أنه لا يرجع إلى نفس الشخص؛ لأن بعض الناس يكون عنده شيء من الوسواس، فيعتبر النقطة اليسيرة كثيراً، وبعض الناس يكون عنده شيء من التفريط، فتجد أنه تلحقه كثير من النجاسة ويعتبرها يسيرة، فنقول الصواب في ذلك: أنه يرجع إلى العرف. والقاعدة عندنا أن كل شيء لم يرد له تحديد في الشرع فإنه يرجع في تحديده إلى العرف.
حكم مني الآدمي

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg
قال المؤلف رحمه الله: [ومني الآدمي طاهر] مني الآدمي هل هو طاهر أو هو نجس؟هذا اختلف فيه العلماء رحمهم الله, فمذهب المؤلف رحمه الله وهو مذهب الإمام أحمد والشافعي أن مني الآدمي طاهر؛ واستدلوا على ذلك بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها في الصحيحين: ( أنها كانت تفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ), ولو كان نجساً لما اكتفى فيه بالفرك، بل في صحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان والبيهقي : ( أنها كانت تفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة )، فدل ذلك على أنه طاهر. وكذلك أيضاً: حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما هو بمنزلة البصاق والمخاط، إنما يكفيك أن تزيل عنك بأظفارك )، وهذا الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي, لكن الصواب: أنه موقوف، ليس مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو موقوف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأيضاً: هذا الماء هو أصل الأنبياء والشهداء والرسل والصديقين، فيبعد أن يكون أصل هؤلاء نجساً, فهذا هو ما ذهب إليه الإمام أحمد والشافعي. والرأي الثاني: رأي مالك وأبي حنيفة قالوا بأنه نجس؛ واستدلوا أيضاً بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها في الصحيحين قالت: ( كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه ), وهذا الحديث في الصحيحين فقالوا: كون عائشة رضي الله تعالى عنها غسلت هذا يدل على النجاسة.وقالوا أيضاً: هذا الغسل وارد أيضاً عن عمر رضي الله تعالى عنه, وعن ابن عمر , وكذلك أيضاً وارد عن ابن مسعود وعن أبي هريرة ، فهذا وارد عن جمع من الصحابة عمر وابنه وابن مسعود وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم.والصواب في ذلك: ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله وأيضاً الشافعي أن المني طاهر؛ والدليل على ذلك ما تقدم، ولكن يستحب أن يغسل إذا كان رطباً كما فعلت عائشة ، فنقول: فعل عائشة غسلها الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على الاستحباب، إذا كان رطباً يستحب لك أن تغسله، وإن كان يابساً يستحب لك أن تفركه.
حكم بول ما يؤكل لحمه

قال المؤلف رحمه الله: [وبول ما يؤكل لحمه طاهر].ما يؤكل لحمه بوله وروثه طاهر، كل شيء يؤكل لحمه، خلافاً للشافعي رحمه الله، فمثل الإبل والبقر والغنم والدجاج .. إلخ هذه روثها وما يخرج منها من بول طاهر. والدليل على ذلك ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين أن يلحقوا بإبل الصدقة، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها ).وأيضاً يدل لذلك حديث جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم : ( أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم. قال: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت ).
الآنية
قال المؤلف رحمه الله: [باب الآنية].الآنية: جمع إناء، والإناء هو الوعاء، فالآنية هي الأوعية، وأحكام الآنية لها مناسبتان:المناس

ابو وليد البحيرى
2018-07-24, 12:43 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الطهارة [3]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )

أمر الإسلام بالطهارة من الحدث والنجس, والطهارة من النجاسة تشمل البدن والثوب والمكان, فإذا وقعت النجاسة في شيء من ذلك وجب إزالتها بالماء, واختلف الفقهاء في حكم إزالتها بغير الماء.ومن الطهارة الاستنجاء, وله آداب شرعية علمها النبي صلى الله عليه وسلم أمته, ف
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg

تابع الآنية

تقدم لنا شيء من أحكام الآنية، وذكرنا ما يتعلق بالآنية, وما يتعلق بالأكل والشرب في آنية الذهب والفضة.وأيضاً: استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب.وأيضاً: ما يتعلق باتخاذ آنية الذهب والفضة, هل هو جائز أو ليس جائزاً؟ وأيضاً: ما هو الأصل في الآنية؟ وذكرنا الدليل على ذلك.وأيضاً حكم المضبب بالفضة, ومتى يجوز الأكل فيه إناء مضبب بالفضة ومتى لا يجوز؟ وذكرنا شروط ذلك. ثم بعد ذلك تكلمنا في آخر شيء عن جلد الميتة، هل يطهر بالدبغ أو لا يطهر بالدبغ, وذكرنا آراء العلماء رحمهم الله في هذه المسألة. وظهر لنا ما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ), أو: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ), وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا في صحيح مسلم . فهذا يدل على أن كل جلد يدبغ فإنه يطهر بالدبغ، لكن يبقى معنا أن في حديث أبي المليح بن أسامة رضي الله تعالى عنه ( أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن جلوع السباع ). وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن الجارود وغيرهم, وإسناده صحيح ثابت. وأيضاً: حديث معاوية رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى ركوب النمور )، النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود النمور أن تركب, فكونه يطهر جلد السبع بالدبغ هذا لا يدل على أن الإنسان له أن يستعمله، لكن لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن جلود النمور كما تقدم؛ كما في حديث أبي المليح بن أسامة , وأيضاً في حديث معاوية رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن جلود النمور أن تركب ), وهذان الحديثان ثابتان، فلا يلزم من الطهارة جواز الاستعمال؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عنها.

النجاسات

قال المؤلف رحمه الله: [وكل ميتة نجسة إلا الآدمي وحيوان الماء الذي لا يعيش إلا فيه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر (هو الطهور ماؤه, الحل ميتته)]. هنا شرع المؤلف رحمه الله في ذكر أشياء من النجاسات، وسنذكر ضوابط لهذه النجاسات وما عداها فإنه يكون طاهراً؛ لأن الأصل في الأشياء الطهارة، كما تقدم في قول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، وأيضاً قوله: وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ [الرحمن:10]، فعندنا ضوابط للأشياء النجسة، بدأ المؤلف رحمه الله في ذكر شيء منها، وسنكملها إن شاء الله، وما عدا ذلك يتبين لنا طهارته.

الخمر

الضابط الأول: الخمر؛ وهو كل مسكر من أي شيء كان، سواء كان من نبيذ العنب، أو من نبيذ التمر أو الشعير أو غير ذلك. هذا هو الصواب في هذه المسألة.ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل مسكر خمر، وكل خمر حرام )، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل مسكر خمر.فنقول: الخمر تعريفه هو كل مسكر من أي شيء كان؛ ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ). هذا الخمر اختلف فيه العلماء رحمهم الله هل هو طاهر أو نجس على رأيين: فالرأي الأول: أن الخمر نجس؛ وهذا قال به جمهور أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة؛ واستدلوا على ذلك بأدلة، من أدلتهم أن الله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة:90]، والرجس هو النجس.وكذلك أيضاً استدلوا بأن الله عز وجل قال في خمر أهل الجنة: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]، فكون الله عز وجل يصف خمر الجنة بأنه طهور يدل على أن خمر أهل الدنيا نجس. والرأي الثاني: قالوا بأن الخمر طاهرة؛ والدليل على ذلك: أن الخمر كانت مباحة في أول الإسلام، ثم بعد ذلك حرمت، لما حرمت لم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن يغسلوا أوانيهم، أو أن يغسلوا ثيابهم؛ لأن شارب الخمر سيصيب هذا الخمر شيئاً من أوانيه وثيابه.. إلخ.وكذلك أيضاً استدلوا على ذلك قالوا: بأن الخمرة لما حرمت خرج بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأراقوها في طرق المدينة وأزقتها، فلو كانت نجسة لم يفعلوا ذلك؛ لأن الشارع نهى عن البول في الطرقات كما سيأتينا إن شاء الله في آداب قضاء الحاجة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟! قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم ) رواه مسلم . وكذلك أيضاً استدلوا بقصة صاحب الراوية، فإن رجلاً جاء للنبي عليه الصلاة والسلام براوية خمر، كما في الصحيح، فأهداها للنبي عليه الصلاة والسلام فأخبره النبي عليه الصلاة والسلام أن الخمر قد حرمت, وفي هذا الحديث أن صاحب هذه الراوية شقها وأراقها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم, فلو كانت نجسة لما أراقها بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام.وهذا القول ذهب إليه جماعة من أهل العلم، منهم الليث بن سعد والمزني وغيرهم من أهل العلم، وهذا القول هو الأقرب, فالأقرب في الخمر أنها طاهرة، وأنها ليست نجسة. وأما بالنسبة لما استدل به الجمهور من قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90] فإن المراد بالنجاسة هنا النجاسة المعنوية؛ بدليل أن الله عز وجل قرن الخمر بالميسر والأزلام.. إلخ؛ فيدل ذلك على أن هذه النجاسة نجاسة معنوية. وكذلك أيضاً: قول الله عز وجل في شراب أهل الجنة: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21] هذا لا يدل على نجاسة خمر الدنيا، وإنما هذا وصف لخمر أهل الجنة، وأحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا، وكذلك أيضاً أحوال الدنيا لا تقاس بأحوال الآخرة.

الميتة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg

الضابط الثاني: ما أشار إليه المؤلف رحمه الله بقوله: (كل ميتة نجسة). فكل ميتة نجسة, والميتة: هي كل ما مات حتف أنفه، أو ذكي ذكاة غير شرعية.فنقول: الضابط الثاني من ضوابط النجاسات: كل ميتة نجسة، يستثنى من ذلك ما يلي:الأول: الآدمي، فالآدمي ميتته طاهرة حتى لو كان كافراً، ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن المؤمن -وفي لفظ: المسلم- لا ينجس ). وهذا الحديث في الصحيحين، حديث أبي هريرة : ( إن المؤمن لا ينجس )فهذا يدل على أن المؤمن طاهر، حياً وميتاً، وكذلك أيضاً الكافر طاهر؛ والدليل على ذلك أن الله عز وجل أباح لنا طعام أهل الكتاب ونساءهم، ولا شك أن المسلم إذا تزوج بالنصرانية أو باليهودية سيفعل بزوجته, الله عز وجل يقول: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5], فهذا يدل على طهارة الآدمي إذا كان كافراً، فنقول: نستثنى من الميتات ميتة الآدمي، فإنها طاهرة. قال: (وحيوان الماء الذي لا يعيش إلا فيه).هذا الأمر الثاني: حيوان البحر، حيوان البحر هذا ميتته طاهرة؛ والدليل على ذلك قول الله عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ [المائدة:96]، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: صيد البحر ما أخذ حياً، وطعامه ما أخذ ميتاً، وأيضاً يدل لذلك ما استدل به المؤلف رحمه الله من قول النبي صلى الله عليه وسلم في حيوانات البحر: ( الحل ميتته ) , فهذا دليل على أن حيوان البحر ميتته طاهرة ولا بأس بها. الثالث مما يستثنى من هذا الضابط: ما لا نفس له سائلة؛ فكل ما لا نفس له سائلة فهو طاهر، ويدخل في هذا أشياء كثيرة، مثل: الذباب، البق، البعوض، يعني: كل شيء إذا قتلته لا يخرج منه الدم فهو طاهر.وسيأتينا أيضاً أن ما خرج منه فهو طاهر أيضاً، فعندك الذباب، والبعوض، والبق، والعنكبوت، والفراش، والعقرب والخنفساء والجعل.. إلخ، كل هذه الأشياء طاهرة، في حال الحياة وفي حال الممات؛ ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ) , فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بغمسه، هذا مما يدل على طهارته.

ما خرج من محرم الأكل

الضابط الثالث: نقول: ما خرج من محرم الأكل فهو نجس، لكن نستثني من ذلك أشياء, فنستثني بالنسبة للآدمي لعابه، فريق الآدمي طاهر، وكذلك مخاطه ولبنه، ومنيه، وعرقه، وكذلك رطوبة فرج المرأة هذه أيضاً طاهرة, أما الدم فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله.أيضاً مما يستثنى: ما خرج مما لا نفس له سائلة؛ فنقول: بأن هذا طاهر, فالذي يخرج من الذباب أو العنكبوت أو الجعل.. إلخ، نقول: بأن هذا طاهر.كذلك أيضاً بالنسبة لما يشق التحرز عنه؛ مثل الفأرة, مثل الهرة, مثل الحمار .. إلخ، نقول: ريق الهرة طاهر، ريق الفأرة طاهر، عرق الهرة طاهر، عرق الفأرة طاهر، أيضاً عرق الحمار والبغل طاهر، ريق البغل والحمار وما يخرج من أنفه هذه الأشياء نقول: بأنها طاهرة. فنقول: الضابط الثالث: ما خرج من محرم أكله هو نجس إلا ما ذكرنا أنه طاهر، ما استثنيناه بالنسبة للآدمي, وما استثنيناه أيضاً بالنسبة لما لا نفس له سائلة، وما استثنيناه أيضاً بالنسبة لما يشق التحرز عنه.

كل حيوان محرم الأكل

الضابط الرابع: نقول: كل حيوان محرم الأكل فهو نجس, يستثنى من ذلك الآدمي، وتقدم الدليل على ذلك، ونستثني أيضاً ما لا نفس له سائلة أيضاً طاهر، وتقدم الدليل على ذلك، ونستثني أيضاً ما يشق التحرز عنه أيضاً هذا طاهر؛ ويدخل في هذا الأشياء التي تكثر التطواف على بني آدم, فهذه طاهرة؛ كالهرة، والفأرة، والحمار, والبغل. وبينا معنى طهارة هذه الأشياء، يعني أن عرقها طاهر كما تقدم، أن ريقها طاهر، أن ما يخرج من أنفها طاهر، أما بالنسبة لما يخرج منها من البول .. إلخ فهذا نجس كما سبق فيما خرج من محرم الأكل.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg

كل جزء انفصل من حيوان طاهر حال الحياة

الضابط الخامس: نقول: كل جزء انفصل من حيوان طاهر في حال الحياة فهو نجس, ونستثني من ذلك أشياء, أولاً ما هو الحيوان الطاهر بحال الحياة؟ نقول: الحيوان الطاهر في حال الحياة يشمل أموراً: الأمر الأول: مأكول اللحم، إذا كان الحيوان مأكول اللحم مثل: الضأن, مثل البقر, مثل الإبل, مثل الدجاج .. إلخ، هذا حيوان طاهر في حال الحياة. الثاني: ما يشق التحرز عنه؛ مثل الفأرة مثل الهرة .. إلخ، هذا حيوان طاهر في حال الحياة, بحيث إن هذه الأشياء لو ماتت فهي نجسة، لكن في حال الحياة هي طاهرة، فالحيوان الطاهر بحال الحياة يشمل هذين الأمرين.فالأجزا التي تنفصل من هذا الأشياء نقول: بأنها نجس؛ فمثلاً: إذا قطعت من الشاة يدها، نقول: بأن هذه اليد نجسة؛ لأنا ذكرنا الضابط: كل جزء انفصل من حيوان طاهر في حال الحياة فهو نجس. فإذا قطعت يد شاة مثلاً أو يد بقرة .. إلخ فنقول: بأن هذه الأشياء نجسة, يستثنى من ذلك: الشعر، والوبر، والريش، والصوف, والأظلاف، والقرون، هذه كلها طاهرة.يعني: إذا أخذنا الشعر من المعز, أو الصوف من الضأن أو الأظلاف أو القرون ونحو ذلك من هذه الحيوانات في حال الحياة، فنقول: بأنها طاهرة.

الدم

الضابط الأخير: الدم؛ والدم هذا تحته أقسام: القسم الأول: الدم المسفوح الذي يخرج عند التذكية؛ فنقول: الدم الخارج عند التذكية نجس؛ ويدل لذلك قول الله عز وجل: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145].القسم الثاني: الدم الخارج من فرج الإنسان، فهذا أيضاً نقول بأنه نجس؛ ويدل لذلك حديث أسماء رضي الله تعالى عنها لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الدم يصيب الثوب، هل تصلي فيه؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيها ). القسم الثالث: الدم الذي يبقى في الحيوان بعد تذكيته؛ فمثلاً إذا ذبح الإنسان شاة شاة أو بعيراً أو بقرة، وبقي شيء من هذا الدم في هذا الحيوان، نقول: بأنه طاهر.القسم الرابع: الدم الخارج من الحيوان غير المأكول، أو من المأكول حال الحياة، نقول: هذا نجس؛ فلو مثلاً شاة، وخرج منها دم نقول: هذا الدم نجس؛ ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أبين من حي فهو كميتته )، فهذا الخارج كميتة هذه الشاة، أي: إذا خرج منها هذا الدم فنقول بأن هذا الدم نجس، كما أن ميتة هذا الحيوان نجسة، فكذلك أيضاً ما خرج منه فهو نجس.القسم الخامس: ما خرج مما لا نفس له سائلة؛ فهذا طاهر. القسم السادس: ما خرج من حيوان البحر؛ هذا أيضاً نقول بأنه طاهر.القسم السابع: ما خرج من بدن الإنسان, فإذا جرح الإنسان ثم خرج منه دم، هل هذا الدم طاهر أو نجس؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم، فأكثر العلماء على أنه نجس، وحكي الإجماع على ذلك.والرأي الثاني: أنه طاهر؛ وهذا يشير إليه قول الحسن البصري رحمه الله: كانوا يصلون في جراحاتهم, وأيضاً اختيار الشوكاني رحمه الله.فالدم الخارج من بقية جسد الإنسان غير الفرج هل هو طاهر أو نجس؟نقول: الرأي الثاني: أنه طاهر, وهذا القول هو الأقرب.ويدل لذلك أن أجزاء الآدمي طاهرة، لو قطعت يد من الآدمي, النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( ما أبين من حي فهو كميتته ) فيد الآدمي لو قطعت هل هي طاهرة أو نجسة؟ طاهرة، يد الآدمي هذه طاهرة لأنها كميتته: ( ما أبين من حي فهو كميتته ) , وميتة الآدمي تقدم لنا أنها طاهرة، فإذا كانت هذه اليد طاهرة، فكذلك أيضاً هذا الدم أيضاً طاهر.ومما يدل لذلك أيضاً: أن سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه جرح في غزوة الخندق، وضرب له النبي عليه الصلاة والسلام قبة في المسجد لكي يعوده من قريب، فانطلق دمه ذات يوم وسال في أرض المسجد.وأيضاً مما يدل على ذلك: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يغزون الغزوات مع النبي عليه الصلاة والسلام، وأيضاً مع غير النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعهد عنهم أنهم كانوا ينظفون أسلحتهم أو أبدانهم أو ثيابهم مما يصيبهم من الدماء. فالأقرب في الدماء الخارجة من بقية بدن الإنسان أنها طاهرة.وأيضاً مما يدل لذلك ما تقدم لنا أن المني طاهر؛ لأنه أصل الإنسان، أصل الشهداء والرسل والأنبياء، هذه النطفة تتحول إلى علقة، تتحول إلى قطعة دم. فالأقرب في ذلك هو القول بطهارة هذه الدماء.

ما لا نفس له سائلة مما كان متولداً من النجاسات

قال المؤلف رحمه الله: [وما لا نفس له سائلة إذا لم يكن متولداً من النجاسات].والصواب أن كل ما لا نفس له سائلة طاهر حتى ولو كان متولداً من النجاسة؛ لأن عندنا مسألة وهي: هل النجاسة تطهر بالاستحالة أو لا تطهر بالاستحالة؟ يعني: إذا كان عندنا نجاسة عينية، يعني: ذات هذا الشيء، هذا الشيء عينه وذاته نجسة، هل تطهر بالاستحالة -يعني إذا انقلبت من عين إلى عين أخرى- أو لا؟في ذلك رأيان للعلماء رحمهم الله, والصواب في هذه المسألة أن النجاسة العينية تطهر بالاستحالة، فإذا كان عندنا عذرة، وهذه العذرة احترقت وأصبحت رماداً فإنها تطهر بالاستحالة.كذلك أيضاً ما لا نفس له سائلة: نقول: بأنه طاهر حتى ولو كان متولداً من النجاسة، مثل: صراصير الكنف، صراصير الكنف هذه متولدة من النجاسات، متولدة من العذرة، يقول المؤلف رحمه الله: هذه الصراصير إذا كان أصلها النجاسة فإنها ليست طاهرة, والصواب: أنها طاهرة؛ لأن النجاسة هنا استحالت وانقلبت من عين إلى عين أخرى. وتقدم لنا أن النجاسة عين مستقذرة شرعاً إذا تغيرت بأي مغير فإن الحكم يتغير معه؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا زالت النجاسة بأي مزيل، سواء كان ذلك بالاستحالة, سواء كان ذلك بالماء, سواء كان ذلك بغير الماء .. إلخ، فإن الحكم يزول معه، وينتفي الخبث, ونقول: بأن المحل قد طهر. كذلك أيضاً: هذه الصراصير الآن وإن كان أصلها العذرة، لكنها انقلبت من عين إلى عين أخرى.فالصواب أن ما لا نفس له سائلة طاهر, وعلى هذا نقول: بأن هذه الصراصير التي توجد في الكنف تكون متحولة من العذرة, نقول بأنها طاهرة.

قضاء الحاجة

قال المؤلف رحمه الله: [باب قضاء الحاجة].قول المؤلف رحمه الله: باب قضاء الحاجة، المراد بذلك الأحكام المتعلقة بقضاء الحاجة من البول أو الغائط. وعبر المؤلف رحمه الله عما يتعلق بإخراج البول أو الغائط بقوله: (باب قضاء الحاجة)، فبعض العلماء يعبر بقوله: باب الاستنجاء والاستجمار، وبعضهم يعبر فيقول: باب الاستنجاء وآداب التخلي.إذا أراد المسلم أن يقضي حاجته من بول أو غائط فهناك آداب قولية وفعلية، وهناك أيضاً شروط لما يتعلق به قضاء حاجته وتطهير المحل، تعرض لها العلماء رحمهم الله في مثل هذه الأبواب.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg

البسملة عند دخول الخلاء

قال المؤلف رحمه الله: [يستحب لمن أراد دخول الخلاء أن يقول: بسم الله].حكى النووي الاتفاق على أنه يستحب للإنسان إذا أراد أن يدخل الخلاء -أي: البيت المعد لقضاء الحاجة- أن يقول: بسم الله؛ وهذا دليله حديث علي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الكنيف أن يقول: بسم الله ). وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه وهو ضعيف، وله شواهد من حديث أنس رضي الله تعالى عنه, وكذلك أيضاً من حديث ابن مسعود ومن حديث معاوية بن حيدة لكن هذا الحديث ضعيف، ومع ذلك النووي رحمه الله حكى الاتفاق على ذلك، وأنه يستحب للإنسان إذا أراد دخول الخلاء أن يقول: بسم الله.

الاستعاذة

قال المؤلف رحمه الله: [أعوذ بالله من الخبث والخبائث].أيضاً هذا الأدب الثاني: أن يقول: أعوذ بالله من الخبث والخبائث؛ وهذا دل عليه حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: أعوذ بالله من الخبث والخبائث ).والخبث: هو الشر، والخبائث: هم أهله، فكأن الإنسان استعاذ من الشر وأهله، هذا أحسن ما قيل في تفسير الخبث والخبائث.قال المؤلف رحمه الله: [ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم].يعني: تقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم، هذا الأدب الثالث أيضاً, تستعيذ من الرجس النجس الشيطان الرجيم. هذا دل له حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم ), وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه وهو ضعيف، وعلى هذا ما يثبت فيه سنة، ما دام أنه ضعيف، لا يستحب للإنسان أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الشيطان الرجيم؛ لأن هذا الحديث ضعيف لا تثبت به السنة.

قول غفرانك عند الخروج من الخلاء

قال المؤلف رحمه الله: [وإذا خرج قال: غفرانك].هذا الأدب الرابع, ويدل له حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك ), وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي ، وإسناده صحيح. وعلى هذا يستحب للإنسان إذا خرج من الخلاء أن يقول: غفرانك, وما مناسبة قول: غفرانك عند الخروج من الخلاء؟ قال بعض العلماء: المناسبة في قول: (غفرانك) أنه انحبس هذه الفترة عن ذكر الله عز وجل، فيستغفر الله عز وجل, لما انحبس هذه الفترة عن ذكر الله عز وجل فإنه يطلب الله عز وجل أن يغفر له. وقال ابن القيم رحمه الله: المناسبة أن هذا من باب تذكر الشيء بالشيء، وأن الإنسان لما تخفف من أذية الجسم تذكر أذية الإثم، فسأل الله عز وجل أن يخفف عنه أذية الإثم كما حصل له التخفف من أذية الجسم. وهذا القول هو الصواب، يعني: ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله أن مناسبة قول غفرانك أنه من باب تذكر الشيء بالشيء.

قول: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني

قال المؤلف رحمه الله: [الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني].هذا الأدب الخامس, يقول: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني؛ وهذا دليله حديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء يقول: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني )، وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه , وهو ضعيف لا يثبت، وعلى هذا لا تثبت به هذه السنة.

تقديم الرجل اليسرى عند دخول الخلاء واليمنى عند الخروج

قال المؤلف رحمه الله: [ويقدم رجله اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج].هذا الأدب السادس: أنك إذا أردت دخول بيت الخلاء تقدم رجلك اليسرى دخولاً، واليمنى خروجاً. وقد حكى النووي رحمه الله الإجماع على ذلك، وأنه يستحب للإنسان إذا أراد دخول الخلاء -يعني: بيوت الخلاء التي يقضى فيه الحاجة- أن يقدم رجله اليسرى دخولاً، وأن يقدم رجله اليمنى خروجاً.وعندنا نقول: السنة دلت على أن ما كان من قبيل الإكرام فإنه تقدم فيه اليمنى، سواء كانت يداً أو رجلاً, وما كان من قبيل الإهانة فإنه تقدم فيه اليسرى، يداً كان أو رجلاً، وما تردد بينهما فالأصل في ذلك اليمنى.وعلى هذا فنقول الأقسام ثلاثة:القسم الأول: ما كان من قبيل الإكرام فإننا نقدم اليد اليمنى والرجل اليمني، وما كان من قبيل الإهانة فإننا نقدم اليد اليسرى والرجل اليسرى، ما تردد فإن الأصل أن يقدم الإنسان اليمين. ويدل لهذه القاعدة التي أشرنا إليها وذكرها أهل العلم رحمهم الله حديث أبي قتادة في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه )، وإنما يتمسح بالشمال، وهذا الحديث في الصحيحين؛ لأن كونه يمسك الذكر باليمين وهو يبول مظنة أن يصيب اليمين شيء من البول, كذلك أيضاً لا يتمسح لا يستنجي ولا يستجمر باليمين، وإنما يستجمر بالشمال؛ لأن هذا من قبيل الإهانة. وكذلك أيضاً في حديث أنس أنه قال: ( من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى ) , وهذا الحديث أخرجه الحاكم وغيره، وإسناده صحيح ثابت. وكذلك أيضاً: ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى، وإذا خلع فليبدأ باليسرى )، لماذا يبدأ باليمنى إذا انتعل؟ لأن الانتعال من قبيل الإكرام، لأنه حفظ ووقاية وصيانة للرجل, وأما الخلع -خلع النعل- هذا ليس من قبيل الإكرام؛ لأنه إزالة لهذه الوقاية والستر والحماية، فالسنة إذا انتعل الإنسان أن يبدأ باليمنى، وإذا خلع أن يبدأ باليسرى. وكذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا لبستم وتوضأتم فابدءوا بميامنكم )؛ لأن اللبس هنا فيه ستر ووقاية وحماية .. إلخ. فنقول: هذه الأدلة دالة لهذه القاعدة.وإذا تردد الإنسان بين أمرين لم يتضح له هل من قبيل الإكرام أو من قبيل الإهانة فليبدأ باليمنى؛ ( لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعجبه التيمن ) كما تقدم لنا في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.

حكم إدخال شيء فيه ذكر الله إلى الخلاء
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg

قال المؤلف رحمه الله: [ولا يدخله بشيء فيه ذكر الله تعالى إلا من حاجة].الأدب السابع: إذا أردت دخول بيت الخلاء، يعني دورة المياه لا تدخل بشيء فيه ذكر الله، فإذا كان معك أوراق، أو معك نقود أو نحو ذلك لا تدخل فيها إلى بيت الخلاء. ويستدلون على ذلك بحديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد دخول بيت الخلاء وضع خاتمه، وكان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم مكتوباً فيه: الله .. محمد .. رسول ) هكذا في الأعلى الله، ثم محمد، ثم رسول. فقالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء وضع خاتمه, لكن هذا الحديث ضعيف، وعلى هذا ما نقول بأن الإنسان يكره له أن يدخل بيت الخلاء بشيء فيه ذكر الله عز وجل, فإذا كان الإنسان معه أوراق، وفيها شيء من ذكر الله, يعني أسماء الله عز وجل مثل الله أو الرحمن أو نحو ذلك، فإن هذا لا بأس به إن شاء الله؛ لأن هذا الحديث الذي استدلوا به حديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد دخول الخلاء وضع خاتمه ) أخرجه أبو داود , لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

كيفية الجلوس عند قضاء الحاجة

قال المؤلف رحمه الله: [ويعتمد في جلوسه على رجله اليسرى].هذا الأدب الثامن: يعني: إذا أردت أن تقضي الحاجة، فإن اعتمادك سيكون على رجلك اليسرى، وهذا اتفاق الأئمة، فالحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة يستحبون هذا, أن يعتمد الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته على رجله اليسرى.واستدلوا على ذلك بحديث سراقة بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: ( علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسرى ) وهذا أخرجه الطبراني في معجمه وهو ضعيف، لكن إن كان هناك فائدة صحية فيقال: هذا هو الأولى، أما كونه سنة يعمل بها الإنسان ويقصدها لأنها واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فنقول: هذا لم يرد فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم.

البعد والاستتار

قال المؤلف رحمه الله: [وإن كان في الفضاء أبعد واستتر].هذا الأدب الثامن من آداب قضاء الحاجة، أن الإنسان ينبغي له أن يستتر، والاستتار ينقسم إلى قسمين عند قضاء الحاجة:القسم الأول: استتار واجب؛ وهو أن يستر عورته؛ لقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:5]، ومن حفظ الفرج أن يحفظه الإنسان عن أن ينظر إليه من لا يحل له أن ينظر إليه, فلا يجوز للإنسان أن يكشف عورته في أثناء البول أو نحو ذلك أو الاستنجاء أو الاستجمار وهناك من ينظر إليه، نقول: هذا محرم ولا يجوز. وأيضاً حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال: ( يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك )، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ العورة. هذا هو القسم الأول: حفظ وستر واجب. القسم الثاني: ستر مستحب؛ والستر المستحب أن يبتعد الإنسان حتى لا يرى شيء منه، يبتعد فلا يرى شيء من بدنه وهو يقضي حاجته، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث المغيرة في صحيح مسلم : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يقضي حاجته قال المغيرة : فأبعد حتى توارى عني ), فنقول: هذا ستر مستحب، بحيث إن الإنسان يختفي بدنه عن الناس بحيث لا يرى منه شيء.

ارتياد موضع رخو للبول

قال المؤلف رحمه الله: [ويرتاد لبوله موضعاً رخواً].يعني: يبحث عن مكان موضع لين، هذا هو الأدب التاسع، فلا يبول في أماكن قاسية, كالحجارة والصخور ونحو ذلك؛ لأن هذا ذريعة إلى أن يصيبه شيء من البول. ويدل لهذا الأدب سائر الأدلة في التنزه من البول، كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرأ من بوله )، وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه ), فكونه يرتاد لبوله موضعاً رخواً هذا هو الأدب التاسع.

عدم البول في ثقب أو شق

قال المؤلف رحمه الله: [ولا يبول في ثقب ولا شق].هذا الأدب العاشر، أن الإنسان لا يعمد إلى ثقب، سواء كان في الأرض أو كان في الحقب يبول فيه؛ والدليل على ذلك: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الجحر ), وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي وإسناده حسن. ومما يدل لذلك أن هذه الجحور وهذه الثقوب قد تكون مساكن لشيء من الهوام والحشرات، فتخرج عليه هذه الأشياء فيؤدي ذلك إلى تطاير شيء من النجاسة على بدنه أو ثيابه. فيستدل على ذلك أيضاً بما تقدم من الأدلة الدالة على أن الإنسان يتنزه من البول, فإذا بال في هذا الشق أو الجحر قد يؤدي ذلك إلى تطاير شيء من النجاسة على بدنه بسبب خروج هذه الأشياء.

عدم البول في الطريق والظل النافع وتحت الشجرة المثمرة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg

قال المؤلف رحمه الله: [ولا طريق، ولا ظل نافع، ولا تحت شجرة مثمرة].هذا هو الأدب الحادي عشر أن الإنسان لا يبول في طريق، ولا يبول أيضاً في ظل الناس، وكذلك أيضاً في منتزهات الناس وحدائقهم، والأماكن التي يتشمسون ويجلسون فيها في فصل الشتاء، أو الأماكن التي يبيعون فيها .. إلخ.فالقاعدة في ذلك: أن الإنسان لا يبول في مكان يحتاج إليه الناس, هذه القاعدة؛ والدليل على ذلك قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، كون الإنسان يبول في الطريق أو في ظل نافع أو تحت الأشجار التي عليها ثمار هذا فيه أذية للمؤمنين، والله عز وجل يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]. وأيضاً ما تقدم لنا في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يبول في طريق الناس أو ظلهم ).

عدم استقبال الشمس والقمر بالفرج

قال المؤلف رحمه الله: [ولا يستقبل الشمس والقمر بفرجه].الإنسان في أثناء قضاء الحاجة لا يستقبل الشمس بفرجه، ولا يستقبل أيضاً القمر بفرجه؛ وهذا عليه جمهور أهل العلم قالوا: يكره أن تستقبل الشمس أو تستقبل القمر وأنت تقضي الحاجة.وذهب بعض العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة، وأيضاً الشوكاني أن هذا لا يكره، كون الإنسان يستقبل الشمس أو يستقبل القمر هذا لا يكره. الجمهور قالوا: يكره لما فيهما من نور الله، وأيضاً عللوا بعلة أخرى، قالوا: بأن الشمس والقمر معهما الملائكة فيكره ذلك، لكن عندنا حديث أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط، ولكن شرقوا أو غربوا ), وإذا استقبل الإنسان المشرق فإنه سيستقبل الشمس، الشمس تشرق من المشرق، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( شرقوا أو غربوا ). ولو قلنا بهذه العلة التي ذكر العلماء رحمهم الله لما فيهما من نور الله أيضاً نقول: يلزم من ذلك أيضاً أن الإنسان ما يستقبل الكواكب، أيضاً الكواكب فيها من نور الله المخلوق, فالصواب في ذلك أنه لا يكره.

عدم استقبال القبلة

قال المؤلف رحمه الله: [ولا يستقبل القبلة].هذا الأدب الثاني عشر: لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها أثناء قضاء الحاجة، أثناء البول أو أثناء الغائط. وهذه المسألة كثر فيها كلام أهل العلم رحمهم الله، لكن نلخص أهم الأقوال في هذه المسألة، يعني: استقبال القبلة حال البول وحال الغائط.فالمشهور من مذهب أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم : أن استقبال القبلة حال قضاء الحاجة أو استدبارها محرم ولا يجوز، يعني: لا يجوز للإنسان أن يستقبل أو يستدبر حال قضاء الحاجة، سواء كان ذلك في الصحراء أو كان ذلك في البنيان, لا فرق بين الصحراء والبنيان, يعني مطلقاً يحرم في الصحراء وفي البنيان، يحرم الاستقبال، ويحرم الاستدبار؛ وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكذلك ابن القيم . واستدلوا بعمومات الأدلة الواردة في ذلك، من ذلك حديث أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط )، وهذا الحديث في الصحيحين. وأيضاً حديث سلمان رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم قال: ( نهانا صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول ), وهذا يشمل الصحراء, وكذلك أيضاً يشمل البنيان. وأيضاً حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا جلس أحدكم إلى حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ). وهذا في صحيح مسلم , هذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة رحمه الله.الرأي الثاني: رأي جمهور أهل العلم رحمهم الله من المالكية والشافعية والحنابلة, يفصلون في المسألة فيقولون: في الصحراء يحرم، يعني: إذا كان الإنسان في البر يحرم عليه أن يستقبل القبلة أو أن يستدبرها، وإذا كان في البنيان يجوز للإنسان أن يستقبل وأن يستدبر؛ مثل الآن دورات المياه، لو كان الإنسان مستقبل الكعبة أو كان مستدبراً لها هذا لا بأس به.هذا ما عليه الأئمة الثلاثة؛ ويستدلون عليه بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ( أنه رقي على بيت حفصة ، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الكعبة مستدبر الشام ), وقالوا: كون النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك هذا يدل على أن هذا جائز في البنيان، وأما التحريم إنما هو خاص في الصحراء. هذا القول الثاني: فيه تفصيل، في البنيان يجوز الاستقبال والاستدبار، في الصحراء يحرم الاستقبال والاستدبار. الرأي الثالث يقابل الرأي الأول: وأن هذا جائز، يجوز لك أن تستقبل، ويجوز لك أن تستدبر في البنيان وفي الصحراء، لكن مع الكراهة؛ وهذا ما ذهب إليه داود الظاهري ؛ واستدلوا على ذلك بحديث جابر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا، ثم رأيته قبل أن يموت بعام مستقبل الكعبة وهو يبول). ففي حديث جابر الاستقبال، وفي حديث ابن عمر السابق الاستدبار, يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا، ثم رأيته قبل أن يموت بعام مستقبل الكعبة وهو يبول), وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وإسناده ثابت. والأقرب في هذه المسألة أن يقال: ما ورد من استقبال واستدبار إنما هو من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والنهي عن الاستقبال والاستدبار، هذا قول من أقوال النبي عليه الصلاة والسلام؛ وعلى هذا نقول: الأحوط للمسلم أن لا يستقبل وألا يستدبر؛ لأن الأحاديث القولية أقوى من الأحاديث الفعلية، وسواء كان ذلك في الصحراء، أو كان ذلك في البنيان. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن تحريم الاستقبال والاستدبار ورد في بضعة عشر حديثاً، فأدلة النهي هذه أحوط، فنقول: الأحوط للإنسان أن لا يستقبل وأن لا يستدبر.

مسح الذكر ونتره بعد البول

قال المؤلف رحمه الله: [وإذا انقطع البول مسح من أصل ذكره إلى رأسه، ثم ينتره ثلاثاً].هذا الأدب الثالث عشر: أن الإنسان إذا انتهى من البول يقوم بالمسح، بمعنى أن يجعل الإبهام على الذكر، والسبابة تحت الذكر، فيقوم بالسلت, والعلة في ذلك قالوا: لكي يخرج ما تبقى من البول؛ هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: بأنه بدعة، ولم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم. شيخ الإسلام رحمه الله يقول: الذكر مثل الدر -يعني مثل الضرع- إن تركته قر، وإن حلبته در، فكون الإنسان يقوم بهذا السلت هذا يسبب له سلس البول.فكما أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً هذا مما يكون سبباً لحدوث سلس البول، فكون الإنسان يقوم بالسلت هذا يؤدي له استمرار خروج الماء، وكما قال شيخ الإسلام: الذكر مثل الضرع إن حلبته در وإن تركته قر, وعلى هذا نقول: بأن هذا لا يشرع.كذلك أيضاً ما ذكره من النتر ثلاثاً، يعني: يحرك ذكره ثلاث مرات؛ لكي يخرج منه المتبقى من البول، سواء حركه بيده أو حركه بنفسه لكي يخرج ما تبقى من البول .. إلخ، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: هذا غير مشروع؛ لأن هذا كله مما يسبب الوسوسة، ويسبب للإنسان سلس البول وغير ذلك, فنقول: الصواب في مثل هذه المسائل أنها غير مشروعة.

عدم مس الذكر باليمين عند البول وعدم الاستجمار بها
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg

قال المؤلف رحمه الله: [ولا يمس ذكره بيمينه].هذا الأدب الخامس عشر، أن لا يمس ذكره بيمينه؛ ودليل ذلك ما تقدم من حديث أبي قتادة في الصحيحين: ( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ) وهذا النهي للكراهة، يعني: أهل العلم رحمهم قالوا: يكره أن يمس ذكره بيمينه وهو يبول. قال المؤلف رحمه الله: [ولا يستجمر بها].هذا الأدب السادس عشر، لا يستجمر بيمينه، وإنما يكون الاستجمار بالشمال، وهذا تقدم لنا وذكرنا القاعدة في هذه المسألة؛ ويدل لذلك ما تقدم من حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه، وفيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ولا يتمسح من الخلاء بيمينه )، وهذا عند أهل العلم رحمهم الله مكروه؛ لأن هذا من باب الإرشاد والآداب.

الاستجمار وتراً

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يستجمر وتراً].هذا الأدب السادس عشر: أنه يستجمر وتراً، الاستجمار أقله ثلاث مسحات إذا أنقى، فإن لم ينق فإن الإنسان يزيد رابعة وجوباً، ثم بعد ذلك يزيد خامسة استحباباً لكي يقطع على وتر؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وإذا استجمر أحدكم فليوتر ), هذا حديث أبي هريرة في الصحيحين. فنقول: إذا أنقى بثلاث الحمد الله، ما أنقى بثلاث يزيد رابعة وجوباً وخامسة استحباباً، إذا لم ينق بالخمس يزيد سادسة وجوباً وسابعة استحباباً.. وهكذا لكي يقطع على وتر.

الاستنجاء بالماء أو الاقتصار على الاستجمار بالحجارة

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يستنجي بالماء, فإن اقتصر على الاستجمار أجزأه].إذا انتهى الإنسان من حاجته فله ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يجمع بين الاستجمار والاستنجاء، يعني: يستجمر بالحجارة وبالمناديل أولاً ثم بعد ذلك يستنجي؛ وقد ورد عن عائشة أنها قالت: ( مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء من أثر غائط, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله )، وهذا أخرجه أبو داود والترمذي وإسناده صحيح. وأيضاً: هذا أبلغ في النظافة، كون الإنسان يجمع بين الاستنجاء والاستجمار هذا أبلغ. الحالة الثانية: أن يقتصر على الاستنجاء، فهذا أيضاً لا بأس به، وهي أقل من المرحلة التي سبقتها؛ ويدل لذلك ما في الصحيحين حديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى الخلاء, قال: فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة، فيستنجي بالماء ). المرتبة الثالثة: أن يقتصر على الاستجمار، وهذا أيضاً لا بأس به؛ ويدل لذلك حديث ابن مسعود : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام ذهب إلى الخلاء فأتاه ابن مسعود بحجرين وروثة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحجرين وألقى الروثة, وقال: هذا رجس ). وهذا في صحيح البخاري .

شروط الاستجمار
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg

قال المؤلف رحمه الله: [وإنما يجزئ الاستجمار إذا لم يتعد الخارج موضع الحاجة].الاستجمار هذا يشترط له شروط: الاستنجاء بالماء أمره ظاهر، يعني: أن يعود المحل كما كان، يعني يتنظف المحل من أثر النجاسة ويعود كما كان, أما بالنسبة للاستجمار بالخرق أو بالمناديل أو بالتراب أو بالحجارة ونحو ذلك فهذا له شروط: الشرط الأول: هو ما قاله المؤلف: (إذا لم يتعد الخارج موضع الحاجة)، وما هي العادة التي ينتشر البول إليها إذا خرج من الذكر، يعني يكون عند الثقب وما حول الثقب، ما هو المكان الذي ينتشر إليه الغائط إذا خرج من الإنسان؟ فإن انتشر الغائط وتعدى الموضع الذي في العادة يصل إليه، فمثلاً إلى شيء من الصحفتين، أيضاً بالنسبة للبول تعدى إلى شيء من الحشفة, يقول المؤلف رحمه الله: إذا تعدى موضع الحاجة لا يجزئ فيه إلا الماء.والرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه يجزئ مطلقاً، أن الاستجمار يجزئ حتى ولو تعدى الخارج موضع الحاجة؛ لأن الاستجمار رخص فيه الشارع، فإذا كان في أصله رخص فيه فلا يشدد، ولذلك الاستجمار يبقى معه شيء من النجاسة، ومع ذلك رخص الشارع في ذلك.فنقول: الصواب أن هذا ليس شرطاً، وأنه حتى ولو تعدى الخارج موضع الحاجة فإن هذا لا بأس به.قال المؤلف رحمه الله: [ولا يجزئ أقل من ثلاث مسحات منقية].هذا الشرط الثاني: لا بد من ثلاث مسحات؛ ويدل على ذلك حديث سلمان رضي الله تعالى عنه وفيه: ( وأن لا نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار )، فلا بد من ثلاثة أحجار، وأيضاً ما تقدم من حديث ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الخلاء وأتاه ابن مسعود بثلاثة أحجار وروثة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا رجس ), فلا بد من ثلاث مسحات، هذا الشرط الثاني.هذا الشرط الثالث قوله: (منقية) يعني أن يكون ما يستجمر به منقياً، ما يستجمر به لا بد أن يكون منقياً, فإن كان لا ينقي فهذا لا يجزئ الاستجمار به، مثلاً لو استجمر الإنسان بزجاج، الزجاج لا ينقي، أو استجمر بحجارة ملساء مثل الرخام ونحو ذلك، هذه الأشياء لا تنقي، فلا يجزئ الاستجمار بها. قال المؤلف رحمه الله: [ويجوز الاستجمار بكل طاهر].هذا الشرط الرابع: أن يكون ما يستجمر به طاهراً، وعلى هذا إذا كان نجساً فإنه لا يصح الاستجمار به؛ ويدل على ذلك ما تقدم من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه ابن مسعود بحجرين وروثة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا رجس ). يعني: هذا نجس. قال المؤلف رحمه الله: [ويكون منقياً إلا الروث والعظام وما له حرمة].هذا الشرط الخامس: أن لا يكون روثاً ولا عظاماً، فلا يجزئ الاستجمار بالروث والعظام، ما هو الدليل على ذلك؟الأدلة على ذلك كثيرة؛ من ذلك ما تقدم من حديث ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ألقى الروثة وقال: إنها رجس ). وأيضاً: حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنها زاد إخوانكم من الجن ). وذلك لما اجتمع النبي بالجن وسألوه عن طعامهم فقال عليه الصلاة والسلام: ( لكم كل عظم ذكر عليه اسم الله تجدونه أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لبهائمكم )، فالعظام الذي يذكر عليها اسم الله عز وجل يجدها إخواننا الجن أوفر ما تكون لحماً، وهذا البعر يكون علفاً لبهائم الجن، فنهى الشارع أن يستنجي الإنسان بهذه الأشياء؛ لأنه يلوثها على إخوانه من الجن، ويكون فيه أذية لهم. قال المؤلف رحمه الله: [وما له حرمة].الشرط السابع: كل ما له حرمة لا يجوز الاستنجاء به، مثل طعام الآدميين, إذا كان طعام الجن لا يجزئ الاستجمار به، فطعام الآدميين من باب أولى، وهو من كفر النعمة. وكذلك أيضاً: إذا كان طعام بهائم الجن لا يجزئ الاستجمار به، فكذلك أيضاً طعام بهائم الإنس أيضاً لا يجزئ الاستجمار به. وكذلك أيضاً ما يتعلق بكتب العلم وغير ذلك، كل شيء له حرمة فإنه لا يجزئ أن يستجمر به.

ابو وليد البحيرى
2018-08-26, 10:00 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الطهارة [4]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )


شرع الله الوضوء ليطهر المسلم ظاهراً وباطناً, فهو طهارة حسية للأعضاء, وطهارة معنوية للسيئات, وله أركان وسنن.ومن رحمة الله بعباده أن رخص لهم المسح على الخفين دفعاً للمشقة, وهذا المسح له أحكام وضوابط.

الوضوء
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg

حكم الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [لا يصح الوضوء ولا غيره من العبادات إلا أن ينويه].الوضوء حكمه أنه شرط لصحة الصلاة, وأيضاً شرط لمس المصحف، يعني: لا يحل مس المصحف إلا بوضوء، كما أن الصلاة أيضاً لا تصح إلا بوضوء. وسيأتينا إن شاء الله ما هي الأشياء التي تشترط لها الطهارة، أو تشرع لها الطهارة وما هي الأشياء التي لا تشترط أو تشرع لها الطهارة. دليل شرطيته للصلاة: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، وهذا في الصحيحين.

النية في الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [لا يصح الوضوء ولا غيره من العبادات إلا أن ينويه؛ لحديث عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )].فالوضوء عبادة لا بد لها من النية؛ لأن الإنسان قد يغسل أعضاءه الأربعة على وجه التنظف، أو على وجه التبرد، أو على وجه التعبد، فلا بد من النية التي تميز العبادة عن العادة.

البسملة في الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يقول بسم الله].البسملة المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنها واجبة للوضوء مع الذكر، وتسقط بالنسيان، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله. واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ).وهذا الحديث أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي وله شواهد كثيرة، وله طرق كثيرة؛ فمن شواهده حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه, وحديث أبي سعيد الخدري وحديث عائشة وحديث أبي سبرة وأم سبرة وغيرهم. واختلف أهل العلم رحمهم الله في ثبوت هذا الحديث، هل هو ثابت أو ليس ثابتاً؟على رأيين لأهل العلم في ثبوته: فبعض أهل العلم لم يثبته؛ ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: لم يثبت في هذا الباب شيء. وبعض العلماء أثبت هذا الحديث، وممن أثبته وقواه ابن حجر, وكذلك أيضاً المنذري، وحسنه ابن الصلاح وابن كثير ، وقال ابن أبي شيبة : ثبت.فإن ثبت هذا الحديث فإنه لا يدل على الوجوب كما ذكر الحنابلة رحمهم الله, وإنما يدل على المشروعية والاستحباب؛ لأن أكثر الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا التسمية كـعثمان وعبد الله بن زيد ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمرو .. إلخ, فالذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ما يقرب من اثنين وعشرين صحابياً. هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد أن التسمية واجبة مع الذكر وتسقط بالنسيان، لو أن الإنسان نسي ولم يذكر التسمية حتى انتهى من وضوئه فإن وضوءه صحيح.الرأي الثاني: رأي جمهور أهل العلم أن التسمية مستحبة وليست واجبة؛ ودليل ذلك ما تقدم من الجمع بين حديث أبي هريرة : ( لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ) وبين ما تقدم إيراده أن أكثر الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا التسمية. وذهب بعض أهل العلم إلى أن التسمية أصلاً ليست مشروعة، بناء على أن هذا الحديث ليس ثابتاً.

غسل الكفين ثلاثاً

قال المؤلف رحمه الله: [ويغسل كفيه ثلاثاً].يستحب للإنسان في بدء الوضوء أن يغسل يديه ثلاث مرات؛ ودليل ذلك حديث عثمان رضي الله تعالى عنه الثابت في الصحيحين، لما حكى صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فإنه غسل كفيه ثلاث مرات. إلا إذا كان الإنسان قائماً من نوم الليل الناقض للوضوء كما سبق لنا فإنه يجب عليه أن يغسل يديه ثلاث مرات؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده ).

المضمضة والاستنشاق

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يتمضمض ويستنشق يجمع بينهما بغرفة واحدة أو ثلاث].المضمضمة: إدخال الماء في الفم، وسيأتينا إن شاء الله أن المضمضمة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: مضمضة واجبة. والقسم الثاني: مضمضة مستحبة. كذلك أيضاً الاستنشاق يأتينا أنه ينقسم إلى قسمين: استنشاق واجب. واستنشاق مستحب.فالمضمضمة: هي إدخال الماء في الفم، والاستنشاق هو جذب الماء إلى الأنف عن طريق النفس، وسيأتي إن شاء الله ما يجزئ من المضمضة والاستنشاق.يقول المؤلف رحمه الله: (يجمع بينهما بغرفة واحدة) المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن المضمضة والاستنشاق كلاً منهما واجبة، واجبة في الطهارة الصغرى وفي الطهارة الكبرى، ويجب إذا توضأ أن يتمضمض وأن يستنشق، وإذا اغتسل أيضاً غسلاً عن حدث أكبر فإنه يجب عليه أن يتمضمض وأن يستنشق، كذلك أيضاً إذا اغتسل غسلاً مشروعاً لا يتم ذلك إلا بالمضمضمة والاستنشاق، فهم يرون أن المضمضة والاستنشاق كلاً منهما واجبة في الطهارة الصغرى وفي الطهارة الكبرى.ودليلهم على ذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] فقال الله عز وجل: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، ومما يدخل في غسل الوجه المضمضة والاستنشاق، إذ إن الفم من الوجه، والأنف من الوجه. ويدل لذلك أن الإنسان إذا كان صائماً وأوصل الماء إلى فمه أو أنفه فإنه لا يفطر؛ ويدل لذلك أيضاً إلى ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر )، وهذا أمر, والأمر يفيد الوجوب. وأيضاً ورد في سنن أبي داود من حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا توضأت فمضمض )، ومما يدل أيضاً على ما ذهب إليه الحنابلة من وجوب المضمضة والاستنشاق أن الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وكما سبق لنا ما يقرب من اثنين وعشرين صحابياً لم يذكروا أن النبي عليه الصلاة والسلام أخل بهما، فكون النبي عليه الصلاة والسلام داوم عليهما هذا مما يشهد للوجوب. وعند الشافعي رحمه الله ومالك أن المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء, في الطهارة الكبرى وفي الطهارة الصغرى، وعند أبي حنيفة رحمه الله أن المضمضة والاستنشاق واجبتان في الطهارة الكبرى دون الطهارة الصغرى.لكن ما ذكرناه من الأدلة يشهد لما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله, وأن المضمضة والاستنشاق كلاً منهما واجبة في الطهارة الكبرى وفي الطهارة الصغرى.قال المؤلف رحمه الله: (يجمع بينهما بغرفة واحدة أو ثلاث).هذا بيان للأفضلية، أن السنة إذا أردت أن تتوضأ تجمع بين المضمضة والاستنشاق لا تفصل بينهما؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فصل بين المضمضة والاستنشاق. فحديث زيد بن ثابت الثابت في الصحيح يدل على أن السنة أن تجمع بين المضمضة والاستنشاق سواء كان ذلك في ثلاث غرفات أو في غرفة واحدة، المذهب أن تأخذ غرفة تمضمض ببعضها وتستنشق بالباقي، ثم تأخذ الغرفة الثانية، تمضمض ببعضها وتستنشق بالباقي، وهكذا الثالثة.قال المؤلف: (بغرفة واحدة). تأخذ غرفة تتمضمض ببعضها وتستنشق، ثم تتمضمض وتستنشق، ثم تتمضمض وتستنشق، وهذا كله وارد من حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه, فإن عبد الله بن زيد لما ذكر صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ( أن النبي عليه الصلاة والسلام تمضمض واستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات ), وهذا في الصحيحين, وفي صحيح البخاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق ثلاثاً بغرفة واحدة )، ولو أن الإنسان فصل، تمضمض ثم أخذ الماء واستنشق هذا لا بأس، لكن السنة كما ذكر المؤلف رحمه الله: أن تتمضمض وتستنشق بثلاث غرفات، ولا يفصل بين المضمضة والاستنشاق، فليأخذ غرفة، ويتمضمض ببعضها ويستنشق بالباقي، وهكذا الثانية، وهكذا الثالثة. أو يأخذ غرفة واحدة ويتمضمض بالبعض ويستنشق، ثم يتمضمض ويستنشق، ثم يتمضمض ويستنشق، كما في حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه.

غسل الوجه

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يغسل وجهه ثلاثاً من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً].هذا هو الركن الأول من أركان الوضوء: غسل الوجه، وغسل الوجه دل عليه القرآن والسنة والإجماع، القرآن كما تقدم في آية المائدة، والسنة أن الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك، كما في حديث عثمان وعبد الله بن زيد وعلي وعبد الله بن عمرو ، والإجماع قائم على وجوب غسل الوجه. وبين المؤلف رحمه الله حده فقال: (من منابت شعر الرأس طولاً).قال العلماء رحمهم الله: من منابت شعر الرأس المعتاد، فلا عبرة بالأقرع، الأقرع الذي ينحسر شعر رأسه، ولا عبرة بالأجلح، الأجلح الذي يكون له شعر ينزل على الرأس ويكون في الجبهة، لا عبرة بالأقرع، ولا عبرة بالأجلح.وحد بعض العلماء حداً أحسن من هذا قال: بدلاً من أن نقيد من منابت شعر الرأس نقول: بأن الوجه الذي يجب غسله هو ما تحصل به المواجهة، فإذا حصل انحناء الرأس فإنه لا يجب غسله، ما يتعلق بالانحناء هذا لا يجب غسله، لكن غسله هو ما تحصل به المواجهة, هذا من جهة الأعلى. وأما من جهة الأسفل، فبينه المؤلف رحمه الله قال: (إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً).أما بالنسبة لشعر اللحية فهذا سيأتي بيانه إن شاء الله.قال المؤلف رحمه الله:[ومن الأذن إلى الأذن عرضاً].لأن هذا كله يطلق عليه وجه في اللغة العربية وتحصل به المواجهة، ويدخل في الوجه كما سبق لنا: المضمضة والاستنشاق، فإن المضمضة والاستنشاق كلٌ منهما واجب، ومن غسل الوجه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg

تخليل اللحية

قال المؤلف رحمه الله: [ويخلل لحيته إن كانت كثيفة، وإن كانت تصف البشرة لزمه غسلها].بالنسبة لشعر اللحية ذكر المؤلف رحمه الله فيه تفصيلاً فقال: إن كان شعر اللحية كثيفاً فيجب أن يغسل ظاهرها فقط، أما بالنسبة لتخليل شعر اللحية فهذا سيأتينا إن شاء الله، وأن المؤلف رحمه الله يجعله من سنن الوضوء. أما الواجب فإنه يجب عليه أن يغسل الظاهر إذا كانت اللحية كثيفة؛ لأن هذا مما تحصل به المواجهة، وأما إن كانت خفيفة ترى البشرة من ورائها فإنه يجب غسل هذه البشرة، ويجب غسل اللحية والبشرة التي ترى من ورائها؛ لعموم قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، وما دامت هذه البشرة ترى وظاهرة لكون اللحية خفيفة فهذه البشرة داخلة في قول الله عز وجل: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6].

غسل اليدين إلى المرفقين

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يغسل يديه الى المرفقين ثلاثاً ويدخلهما في الغسل].يغسل يديه، هذا أيضاً الركن الثاني من أركان الوضوء، وغسل اليدين هذا دل عليه القرآن والسنة والإجماع: أما القرآن: فقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، وأما السنة فالذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أن النبي عليه الصلاة والسلام أخل بغسل اليدين، والإجماع قائم على ذلك. وقول المؤلف رحمه الله: (ويدخلهما في الغسل) يعني: يدخل المرفقين في الغسل، هذا رد على قول الظاهرية، فإن الظاهرية يرون أن المرفقين لا يجب غسلهما أخذاً بظاهر القرآن في قول الله عز وجل: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، فقالوا: (إلى) هذه تفيد الغاية، وعلى هذا المرفق ليس داخلاً في الغسل؛ لأن الله عز وجل قال: إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]. وأجاب العلماء عن ذلك قالوا: بأن (إلى) هنا بمعنى (مع) كقول الله عز وجل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2] أي: مع أموالكم.وأيضاً الجواب الثاني: أن السنة بينت أن المرفق يغسل؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ( فإن أبا هريرة توضأ وغسل يديه حتى أشرع في العضد، وغسل رجليه حتى أشرع في الساق، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ). فقوله: (أشرع في العضد), هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل مرفقيه. وقوله في الحديث: ( أشرع في الساق), هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل كعبيه. فنقول: بالنسبة للمرفقين داخلان في غسل اليد، يجب على الإنسان أن يغسل مرفقيه، وأما قوله: (إلى) فقلنا: أجبنا عن ذلك بجوابين.

مسح الرأس مع الأذنين

قال: [ثم يمسح رأسه مع الأذنين يبدأ بيديه من مقدمه ثم يمرهما إلى قفاه].هذا الركن الثالث من أركان الوضوء، أن يمسح رأسه، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه يجب عليه يمسح جميع رأسه، وهذا هو الصواب, وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله ومذهب الإمام مالك أن الإنسان في الوضوء يجب عليه أن يمسح كل رأسه، ولا يجب عليه أن يستوعب كل شعرة بالمسح، بل يجب عليه أن يمر يديه على كل الرأس. وهذا كما قلنا: مذهب الإمام أحمد رحمه الله ومذهب الإمام مالك، خلافاً لـأبي حنيفة والشافعي فإنهما قالا: يكتفى بالبعض، فعند الشافعية قالوا: لو مسح ثلاث شعرات يكفي ذلك، وعند الحنفية يقيدونه بالربع. لكن الصواب في ذلك ما ذهب إليه الإمام أحمد ومالك ؛ لقول الله عز وجل: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، والباء هنا للإلصاق. وأيضاً الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أن النبي عليه الصلاة والسلام اقتصر على مسح بعض الرأس, بل كان هدي النبي عليه الصلاة والسلام أنه يمسح كل رأسه. قال: (مع الأذنين).أيضاً الأذنان يجب مسحهما؛ ودليل ذلك القرآن، قول الله عز وجل: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، والأذنان من الرأس، والله عز وجل أمر بمسح الرأس، فإذا كان كذلك فيدخل في هذا الأمر الأمر بمسح الأذنين، فيجب مسح الأذنين. وأيضاً: يدل لذلك حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الأذنان من الرأس )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وغيرهم، وهذا الحديث إسناده إن شاء الله حسن.

كيفية مسح الرأس

قال المؤلف رحمه الله: [يبدأ بيديه من مقدمه ثم يمرهما إلى قفاه ثم يردهما إلى مقدمه].هذه الكيفية سنة، كيفما مسح الإنسان رأسه أجزأ، سواء بهذه الكيفية التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى أو بغيرها، المهم أن يستوعب الرأس بالمسح. لكن الذي دل عليه حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدّم رأسه إلى قفاه ، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه )، كما ذكر المؤلف رحمه الله. فنقول: السنة للإنسان أن يبدأ بمقدم رأسه إلى فقاه، ثم يرده.

غسل القدمين مع الكعبين

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً ويدخلهما في الغسل].يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً, هذا هو الركن الرابع من أركان الوضوء، هذا دل عليه القرآن والسنة والإجماع كما سلف. قال المؤلف رحمه الله: (إلى الكعبين) (إلى) هنا كما سلف لنا أنها بمعنى (مع), ولا يفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن الكعبين ليسا داخلين في الوضوء، بل الكعبان داخلان في الوضوء. وتقدم لنا حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم : ( أنه توضأ وغسل يديه حتى أشرع في العضد، وغسل رجليه حتى أشرع في الساق، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ). وأما قول الله عز وجل: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، فنقول: بأن (إلى) بمعنى (مع) كما في قول الله عز وجل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2] أي: مع أموالكم، أو نقول: بأن ظاهر القرآن دل على عدم دخول الكعبين, والسنة دلت على دخول الكعبين، كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg

تخليل الأصابع

قال المؤلف رحمه الله: [ويدخلهما في الغسل ويخلل أصابعهما].تخليل الأصابع سنة، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن تخليل الأصابع سنة مطلقاً، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مداوماً على تخليل الأصابع. وفي حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع ), فالنبي عليه الصلاة والسلام أمر بتخليل الأصابع، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي والدارمي وهو ثابت. فنقول: يستحب للإنسان أن يخلل أصابع اليدين وأصابع الرجلين، لكن لا يداوم على ذلك، بل يفعل ذلك في بعض الأحيان، كما ذكر ابن القيم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم على ذلك.

الذكر بعد الفراغ من الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يرفع نظره إلى السماء فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله].رفع النظر إلى السماء واستقبال القبلة ورفع السبابة أثناء الوضوء هذه كلها لا أصل لها، يعني: كون الإنسان إذا انتهى من وضوئه، رفع بصره إلى السماء, واستقبل القبلة, ورفع سبابته هذه كلها لا أصل لها من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.قال المؤلف رحمه الله: (فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).هذا ثابت من حديث عمر رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء ), فيستحب للمسلم إذا فرغ من وضوئه أن يقول هذا الذكر. وكذلك أيضاً في الترمذي يقول: ( اللهم اجعلني من التوابين, واجعلني من المتطهرين )، يزيد أيضاً: ( اللهم اجعلني من التوابين, واجعلني من المتطهرين )، وورد أيضاً ذكر ثالث كما في حديث أبي سعيد : ( سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك ) في عمل اليوم والليلة للنسائي . وهذا الذكر اختلف العلماء رحمهم الله هل هو مرفوع أو موقوف على أبي سعيد؟ على رأيين، والأظهر كما رجح ابن حجر وكما هو رأي النسائي والدارقطني أنه موقوف على أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، وإذا كان موقوفاً فإن هذا له حكم الرفع؛ لأن مثل هذا لا يقال بمجرد الاجتهاد. وعلى هذا نقول: إذا انتهى من وضوئه يستحب له أن يذكر الله, فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله .. إلخ. ثم يقول: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

صفات الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [والواجب من ذلك النية، والغسل مرة مرة ما خلا الكفين].الوضوء ورد له أربع صفات، يعني: الوضوء في السنة بالنسبة لكيفيته ورد له أربع صفات: الصفة الأولى: أن يتوضأ مرة مرة، يعني: يتمضمض مرة ويستنشق مرة، ويغسل وجهه مرة ويديه .. إلخ. أن يتوضأ مرة مرة، هذه هي الصفة الأولى.الصفة الثانية: أن يتوضأ مرتين مرتين، أن يتمضمض مرتين ويستنشق مرتين، ويغسل وجهه مرتين, ويديه مع المرفقين مرتين، ومسح الرأس دائماً يكون مرة واحدة، ويغسل رجليه مرتين.والصفة الثالثة: أن يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً؛ فيتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه ثلاث مرات، ويغسل يديه أيضاً ثلاث مرات، ومسح الرأس يكون مرة واحدة، ويغسل رجليه ثلاث مرات.والصفة الرابعة: أن يخالف، فيغسل وجهه مع المضمضة والاستنشاق ثلاثاً، ويغسل يديه مرتين، ويغسل الرجلين مرة واحدة.فهذه أربع صفات للوضوء, وسبق أن أشرنا أن العبادات الواردة على وجوه متنوعة يشرع أن يؤتى بهذه تارة وبهذه تارة لكي يعمل الإنسان بالسنة الواردة عن نبينا صلى الله عليه وسلم كلها.

الترتيب بين أعضاء الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [ومسح الرأس كله وترتيب الوضوء على ما ذكرنا].هذا الركن الخامس من أركان الوضوء، أن يرتب الإنسان هذه الأعضاء الأربعة كما رتبه الله عز وجل، فيبدأ بغسل الوجه، ثم باليدين، ثم بمسح الرأس ثم بغسل الرجلين، يرتبها هكذا: يبدأ بالوجه، ثم باليدين، ثم الرأس, ثم الرجلين. ولا يجب الترتيب بين المضمضة والاستنشاق؛ فلو غسل وجهه ثم تمضمض واستنشق لا بأس، أو استنشق ثم غسل وجهه هذا لا بأس، لكن الأحسن الإنسان يطبق سنة النبي عليه الصلاة والسلام، يبدأ بالمضمضة ثم بالاستنشاق ثم يغسل وجهه، لكن لو قدم هذه الأشياء بعضها على بعض فإن هذا لا بأس به؛ لأن الوجه عضو واحد.كذلك أيضاً بالنسبة لليدين هما عضو واحد، لو قدم اليسرى على اليمنى فإن هذا لا بأس به، ولهذا قال علي رضي الله تعالى عنه: لا أبالي بأي أعضاء الوضوء بدأت، يعني: يقصد الميامن والمياسر، فإذا بدأ باليسرى ثم باليمنى هذا لا بأس, لكن يبدأ باليمنى ثم باليسرى؛ ( لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعجبه التيمن في ثلاث: في ترجله, وفي طهوره, وفي شأنه كله )، لكن المقصود بالترتيب هنا أن يرتب هذه الأعضاء الأربعة كما رتبها الله عز وجل، ودليل ذلك القرآن، أن هذه الأعضاء الأربعة وردت مرتبة، والله عز وجل أدخل الممسوح بين المغسولات، فكون الممسوح يدخل بين المغسولات يدل على اشتراط الترتيب، وإلا كان الأولى أن تكون المغسولات ثم بعد ذلك يكون الممسوح، لكن كون الممسوح يدخل بين المغسولات هذا يدل على اعتبار الترتيب. كذلك أيضاً لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخل بالترتيب، وهذا قول جمهور أهل العلم، أنه يجب الترتيب، وعند أبي حنيفة رحمه الله أن الترتيب في الوضوء ليس واجباً؛ واستدل بحديث المقداد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل كفيه، ثم وجهه ثلاثاً، ثم ذراعيه، ثم تمضمض واستنشق ). وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما لكن هذا شاذ، وعلى هذا نقول: الصواب في هذه المسألة: أن الإنسان يجب عليه أن يرتب كما ورد في القرآن, وكما رتب النبي صلى الله عليه وسلم.

الموالاة في الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [ولا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله].هذا الركن السادس من أركان الوضوء وهو الموالاة، بأن لا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله، يوالي بين الأعضاء، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى. ويدل لذلك حديث خالد بن معدان رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم، لم يصبها الماء، فأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يعيد الوضوء والصلاة ). وهذا الحديث أخرجه الترمذي وغيره, وأيضاً ورد من حديث عمر رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم, فكون النبي عليه الصلاة والسلام يأمره أن يعيد الوضوء هذا دليل على اعتبار الموالاة. والرأي الثاني: رأي الإمام مالك رحمه الله واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الموالاة واجبة، لكنها تسقط عند العذر، فإذا حصل عذر للإنسان فإن الموالاة لا تجب، فلو أن الإنسان يتوضأ وانقطع عليه الماء احتاج إلى ماء، وتأخر في غسل بعض الأعضاء, أو أنه احتاج إلى أن يزيل الذي يمنع وصول الماء إلى البشرة، وحصل فاصل بين العضوين أو مثلاً الإنسان حصل له ما يشغله، احتاج أن يسعف شخصاً .. إلخ فمادام وجدت هذه الأعذار، فإنها تسقط الموالاة. واستدل على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأدلة؛ من ذلك قال الله عز وجل في كفارة الظهار: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ -أي: عتق رقبة- فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [المجادلة:4]، فالله عز وجل أوجب في صيام الكفارة أن يصوم الإنسان شهرين متتابعين، وإذا حصل عذر شرعي للإنسان، وأخل بهذا التتابع، فإنه لا يبطل صيامه، فلو أن الإنسان حصل له عذر من مرض وأفطر فإن هذا الإفطار لا ينكر عليه, بل إذا شفي من مرضه فإنه يكمل ويقضي ما أفطره متتابعاً. كذلك أيضاً في كفارة القتل: يجب على الإنسان أن يصوم شهرين متتابعين، لو أن المرأة حاضت فإنها تفطر وتقضي, وهذا الإفطار لا يخل بالتتابع. ذكر أيضاً ما يتعلق بقراءة الفاتحة؛ لو أن الإنسان قطع القراءة لاستماع القراءة، المأموم يجب عليه أن يقرأ الفاتحة، ثم بعد ذلك قطع قراءة الفاتحة لكونه يستمع إلى إمامه أو غير ذلك من الأعذار فإنه لا تبطل قراءته ولا يخل هذا بالتتابع, هذا الرأي الثاني. الرأي الثالث: أن الموالاة ليست واجبة، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى؛ واستدلوا بالأثر الوارد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أنه توضأ ثم دخل المسجد، فدعي بجنازة فمسح على خفيه. ويجاب عن هذا بأنه محمول على الفاصل، أن ابن عمر توضأ ثم دخل المسجد ثم بعد ذلك مسح على خفيه، وكونه مسح على الخفين في المسجد لا يلزم من ذلك أن يكون الفاصل كثيراً. والأقرب في ذلك: ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله, وأن الموالاة واجبة، إلا إذا حصل عذر يقطع هذه الموالاة، فإن هذا العذر لا يبطل التوالي، فلا نقول للإنسان: إن وضوءه قد بطل لإخلائه بهذه الموالاة بغير عذر.وعندنا قاعدة سواء في ذلك الوضوء أو غير ذلك من العبادات: كل عبادة مركبة من أجزاء فإنها لا بد فيها من أمرين: الأمر الأول: الترتيب. والأمر الثاني: التوالي إلا لعذر بالنسبة للتوالي, وإلا لم تكن على وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg

التسمية في الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [والمسنون التسمية].تقدم أن التسمية على المشهور من المذهب واجبة مع الذكر وتسقط بالنسيان، وهنا المؤلف رحمه الله وافق جمهور أهل العلم وأن التسمية ليست واجبة وإنما هي سنة. وغسل الكفين أيضاً من سنن الوضوء, كون الإنسان يغسلهما ثلاث مرات؛ كما تقدم من حديث عثمان رضي الله تعالى عنه.

المبالغة في المضمضة والاستنشاق

قال المؤلف رحمه الله: [والمبالغة في المضمضة والاستنشاق].المضمضة كما أسلفنا لها كيفيتان، والاستنشاق له كيفيتان، أما الكيفية الواجبة للمضمضة أن يوصل الماء إلى داخل الفم، إذا أوصل الماء إلى داخل الفم فقد أتى بالواجب، وأضاف بعض العلماء رحمهم الله قال: أن يحركه أدنى تحريك. الكيفية الثانية، الكيفية المستحبة: أن يدير الماء في جميع الفم.فالكيفية الواجبة: أن يوصل الماء إلى داخل الفم, والكيفية المستحبة: أن يديره في جميع الفم.أيضاً الاستنشاق له كيفيتان: كيفية واجبة, وكيفية مستحبة. الكيفية الواجبة: أن يوصل الماء داخل الأنف.والكيفية المستحبة: أن يجذب الماء إلى أقصى الأنف.وقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه إذا أوصل الماء بأي طريق، سواء كان بجذب النفس أو بغيره من الطرق فإن ذلك كاف, المهم أن يصل الماء إلى داخل الأنف. والمستحب: أن تجذبه إلى أقصى الأنف؛ إلا أن يكون صائماً؛ لحديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ).

تخليل اللحية

قال المؤلف رحمه الله: [وتخليل اللحية].أيضاً تخليل اللحية مستحب، بحيث يأخذ الإنسان شيئاً من الماء إذا كانت اللحية كثيفة، أما إذا كانت اللحية خفيفة فإنه يجب أن يغسلها ويغسل ما وراءها من البشرة؛ لما تقدم من الدليل على ذلك، لكن إذا كانت اللحية كثيفة فإنه يأخذ شيئاً من الماء بكفه ويحركه من تحت الذقن، ثم يأخذ أيضاً بكفه من الماء ويحرك الجانب الأيمن، ثم الجانب الأيسر. وهذا دليله حديث عثمان رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته ), وهذا الحديث هل هو ثابت أو ليس ثابتاً؟ بعض العلماء حكم عليه بالشذوذ، لكن بعض العلماء أثبته، لكن حتى لو قلنا بأنه لم يثبت فإن هذا التخليل وارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وعلى هذا نقول: يستحب للإنسان كما ذكر ابن القيم أن يخلل في بعض الأحيان، في بعض الأحيان يخلل لحيته ولا يداوم على ذلك, بل نقول: في بعض الأحيان يخلل, وفي بعض الأحيان يترك التخليل، وكذلك أيضاً مثله الأصابع في بعض الأحيان تخلل, وفي بعض الأحيان تترك التخليل.

مسح الأذنين

قال المؤلف رحمه الله: [ومسح الأذنين].بالنسبة لمسح الأذنين ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه سنة، وهذا فيه نظر، وقد تقدم أن الأذنين من الرأس، وتقدم حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( الأذنان من الرأس ). أيضاً تقدم لنا أن الله عز وجل قال: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، ومما يدخل في مسح الرأس مسح الأذنين, فالصواب أن مسح الأذنين واجب وليس سنة كما ذكر المؤلف رحمه الله. وفي حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما ), وهذا الحديث صححه الترمذي ، أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه .

التيامن

قال المؤلف رحمه الله: [وغسل الميامن قبل المياسر].غسل الميامن قبل المياسر، يعني: يغسل يده اليمنى قبل اليسرى، يغسل رجله اليمنى قبل اليسرى، هذا سنة؛ لما تقدم لنا من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه -أي يستحب- التيمن في ثلاث: في تنعله -ترجله- وطهوره وفي شأنه كله ).

التثليث

قال المؤلف رحمه الله: [والغسل ثلاثاً ثلاثاً].ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن هذا سنة مطلقاً, والصواب أن هذا ليس سنة مطلقاً، يعني كون الإنسان يغسل ثلاثاً ثلاثاً هذا ليس سنة مطلقاً، بل في بعض الأحيان يغسل مرة مرة، وفي بعض الأحيان يغسل مرتين مرتين، وفي بعض الأحيان يغسل ثلاثاً ثلاثاً، وفي بعض الأحيان يخالف فيغسل ثلاثاً بالنسبة للوجه، وبالنسبة لليدين يغسل مرتين، وبالنسبة للرجلين يغسل مرة واحدة، يعني: يأتي بسائر الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.قال المؤلف رحمه الله: [وتكره الزيادة عليها].ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يزيد على ثلاث غسلات، وهذا الصواب، قال المؤلف رحمه الله: يكره، فإن صريح كلامه أن هذا مكروه، يكره للإنسان أن يزيد على ثلاث غسلات، وهذا صواب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يزد على الثلاث، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( سيكون أقوام من أمتي يعتدون في الدعاء والطهور )، وهذا من الاعتداء، كون الإنسان يزيد على ثلاث غسلات هذا من الاعتداء في الطهارة، والإسراف في الماء. أيضاً يقول المؤلف رحمه الله: (يكره أن يسرف في الماء) لقول الله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، وقوله: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:27]، وهذا تقدم لنا قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( سيكون أقوام من أمتي يعتدون في الدعاء والطهور ).
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg

السواك

قال المؤلف رحمه الله: [ويسن السواك].السواك يطلق على الآلة، ويطلق على الفعل، فالفعل يسمى سواكاً، والآلة التي يستاك بها يسمى سواكاً، ويقول المؤلف رحمه الله: يسن السواك، السواك سنة مطلقاً في كل وقت؛ لحديث عائشة في البخاري معلقاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب )، وإذا كان مطهرة للفم، ومرضاة للرب فإن طهارة الفم ورضا الرب مطلوب في كل وقت، فنقول: بأنه مستحب في كل زمان, لكن يتأكد في بعض الأوقات.فالحالة الأولى: عند الوضوء ومحل السواك عند المضمضة؛ ودليل ذلك حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء ), ومحله عند المضمضة. قال المؤلف رحمه الله: [ويسن السواك عند تغير الفم].هذا الموضع الثاني؛ ودليله حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا انتبه من النوم يشوص فاه بالسواك ), وهذا في الصحيحين، ومعنى: قوله: (يشوص) أي يدلك فاه بالسواك، وهذا دليل على أنه إذا تغيرت رائحة الفم إما بسبب مأكول أو بسبب طول السكون، أو بغير ذلك فإنه يشرع للإنسان أن يتسوك؛ لأن النوم مظنة تغير الفم، فدل ذلك على أنه كلما تغير الفم فإنه يشرع للإنسان أن يستاك. قال المؤلف رحمه الله: [وعند القيام من النوم].دليله ما تقدم حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا انتبه من النوم يشوص فاه بالسواك ), هذان موضعان.الموضع الثالث قال المؤلف رحمه الله: [وعند الصلاة].لما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ), وهذا يشمل كل صلاة، سواء كانت فرضاً أو نفلاً، نقول: شامل لكل صلاة.ذكر المؤلف رحمه الله ثلاثة مواضع, الموضع الرابع: تقدم لنا وهو عند الوضوء وهو عند المضمضة. الموضع الخامس: عند دخول البيت؛ وهذا دليله حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في صحيح مسلم : ( أنها سئلت: ما يبدأ به النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ فقالت: بالسواك )، فيستحب للإنسان إذا دخل بيته أن يبدأ بالسواك.الموضع السادس: عند قراءة القرآن، وهذا يدل له حديث علي في النسائي ، وفيه شرعية التسوك عند قراءة القرآن.فهذه ستة مواضع يتأكد فيها السواك, أما ما عدا هذه المواضع فإن السواك مشروع على سبيل الاستحباب.ويقول المؤلف رحمه الله: [ويستحب في سائر الأوقات إلا للصائم بعد الزوال].يقول المؤلف رحمه الله: للصائم بعد الزوال لا يستحب، والمشهور من المذهب أنه يكره السواك للصائم بعد الزوال؛ واستدلوا بحديث: ( إذا صمتم فاستاكوا بالغداة, ولا تستاكوا بالعشي ) وهذا حديث ضعيف، لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى، وهو أن السواك مسنون حتى للصائم بعد الزوال؛ لأنه مشروع، ويدل لذلك ما تقدم من الأدلة، كحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب )، وطهارة الفم ورضا الرب يطلب حتى بعد الزوال للصائم. وأيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة.. عند كل وضوء ), وهذا يشمل أيضاً الصلاة التي بعد الزوال للصائم، ويشمل أيضاً الوضوء بعد الزوال للصائم.فالصواب في ذلك عدم كراهته, وشرعيته.وفي حديث عامر بن ربيعة رضي الله تعالى عنه قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم ), وهذا الحديث ضعيف، لكن الترمذي حسنه، وقد أخرجه أبو داود والترمذي والإمام أحمد والبيهقي وغيره، وهو ما يثبت, والترمذي رحمه الله حسنه.و عائشة رضي الله تعالى عنها سئلت عن السواك للصائم، فقالت: هذا سواكي بيدي. ولم يذكر المؤلف رحمه الله بأي شيء يكون السواك؟ وهذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فكثير من العلماء قال: بأن السواك لا تحصل به السنة إلا إذا كان بالعود، إذا كان بالعود حصلت به السنة، أما ما عدا ذلك فإنه لا تحصل به السنة. والصواب في ذلك: كما ذهب إليه النووي وابن قدامة إلى أن السواك يحصل بكل شيء تحصل به طهارة الفم، سواء كان ذلك بالعود أو كان بغير ذلك من الآلات، أو بالإصبع إذا كان الإصبع خشناً، أو كان بالخرقة أو غير ذلك أو ما وجد الآن من المنظفات أو غير ذلك، فكل ما حصل به نظافة الفم وطهارته فإن السنة تحصل به، فيتسوك عند الوضوء، تسوك مثلاً عند الوضوء بالفرشة، أو بالسواك، أو بإصبعه، إصبعه دلكها في فمه يقصد بذلك السواك فإنه يحصل له من السنة بقدر ما تحصل طهارة الفم ونظافته. وهذا هو الصواب؛ لأن المقصود هو طهارة الفم ونظافته، وإذا كان كذلك فبأي شيء حصلت له الطهارة والنظافة نقول: بأن السواك مشروع.

مسح الخفين

قال المؤلف رحمه الله: [باب مسح الخفين].مناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة؛ فإن المؤلف رحمه الله لما تكلم على أحكام الوضوء تكلم على أحكام المسح على الخفين؛ لأن المسح على الخفين يتعلق بعضو من أعضاء الوضوء وهو الرجلان، فالمناسبة بين البابين ظاهرة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/76.jpg

حكم المسح على الخفين

يقول المؤلف رحمه الله: [يجوز المسح على الخفين].المسح في اللغة: الإمرار. وأما في الاصطلاح: فهو إمرار البلة على حائل مخصوص.والخفان تثنية خف، وهو ما يلبس على الرجلين من جلد, وما يلحق بهما كالجوارب وغير ذلك.ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات المسح على الخفين، خلافاً للرافضة، ولهذا ابن منده رحمه الله جمع أحاديث المسح على الخفين عن ثمانين صحابياً من صحابة رسول صلى الله عليه وسلم، وقال الإمام أحمد رحمه الله: ليس في قلبي من المسح على الخفين شيء، فيه أربعون حديثاً من أحاديث رسول صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن : سمعت أحاديث المسح على الخفين عن سبعين صحابياً من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان فيه خلاف قليل للسلف، لكن هذا الخلاف زال، فالإجماع منعقد عليه، لكن الذي يخالف في ذلك الرافضة. ولذلك أهل السنة والجماعة يذكرون جواز المسح على الخفين في كتب الفروع، وكذلك أيضاً يذكرونه في كتب العقائد؛ لأن هناك من أهل البدعة من يخالف في المسح على الخفين وهم الرافضة، فلا يرون المسح على الخفين.والمسح على الخفين دل له القرآن والسنة والإجماع، أما القرآن فقول الله عز وجل: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] على قراءة الجر، فإن بعض العلماء حمل قراءة الجر على أن المراد بذلك المسح على الخفين، مسح الرجلين إذا كان عليهما خفان. وأما السنة فسيأتينا إن شاء الله حديث علي بن أبي طالب وحديث عوف بن مالك وحديث صفوان بن أمية وغير ذلك من أحاديث المسح على الخفين كما سيأتي بإذن الله بيانه, وحديث المغيرة بن شعبة .قال المؤلف رحمه الله: [يجوز المسح على الخفين].ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن المسح على الخفين مباح، هذا ظاهر كلام المؤلف رحمه الله، وأنه ليس سنة؛ لقوله: (يجوز) وعند الإمام أحمد رحمه الله أن المسح على الخفين سنة، إذا كان الإنسان لابساً للخفين فإن المسح عليهما هو السنة، وذلك رد على أهل البدعة.واختلف العلماء رحمهم الله أيهما أفضل، أن يمسح الإنسان على خفيه أو يغسل رجليه؟ هل الأفضل الغسل أو الأفضل المسح؟أيضاً الإمام أحمد رحمه الله يرى أن المسح أفضل من الغسل رداً على أهل البدعة الذين ينكرون المسح على الخفين. وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن السنة للإنسان أن يراعي حال قدمه، فإذا كان لابساً للخفين فالأفضل أن يمسح، ولا نقول: الأفضل أنك تقلع وتغسل رجليك، وإذا كان خالعاً للخفين فالأفضل أن يغسل رجليه، ولا نقول: البس لكي تمسح، الأفضل للإنسان أن يراعي حال قدمه، وهذا الذي دل له سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم المسح على الجوارب

قال المؤلف رحمه الله: [يجوز المسح على الخفين وما أشبهها من الجوارب].الجوارب هو ما يلبس على الرجل من الصوف والقطن وغير ذلك، ويفيد كلام المؤلف رحمه الله أن المسح على الجوارب جائز، كما أن المسح على الخفين جائز أيضاً المسح على الجوارب جائز.يعني: ما يلبس على الرجل من القطن ومن الصوف، ومن سائر أنواع الأقمشة .. إلخ. فيفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن المسح على الجوارب جائز؛ ويدل له حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين ). وهذا الحديث أخرجه الترمذي وغيره وصححه الترمذي ، وأيضاً المسح على الجوارب هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.قال الإمام أحمد رحمه الله: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.فنقول: كما أن المسح على الخفين يعني: ما يلبس على الرجل من جلد وغيره يجوز، كذلك أيضاً ما يلبس على الرجل من صوف أو قطن أو نحو ذلك الذي تلبس الآن هذه كلها على المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن هذا جائز، خلافاً للإمام مالك . الإمام مالك رحمه الله يشترط أن يكون الممسوح جلداً، اشترط أن يكون من جلد, لكن ما ذكرناه من الدليل حديث المغيرة رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على النعلين والجوربين ) , وهذا قلنا بأنه حديث ثابت، كما ذكر الترمذي رحمه الله، وكذلك أيضاً هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما تقدم عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شروط المسح على الخفين

قال المؤلف رحمه الله: [الصفيقة].هنا شرع المؤلف رحمه الله في بيان شروط المسح على الخفين، فذكر الشرط الأول: أن تكون صفيقة، صفيقة بمعنى: ساترة للقدم، فإن كانت خفيفة تصف القدم لم يصح المسح عليه، هذا هو المشهور من المذهب، لا بد أن تكون ساترة لا تصف القدم، فإن كانت خفيفة تصف القدم، فإنه لا يصح المسح عليها، وهذا هو المشهور من المذهب, أيضاً مذهب الإمام مالك رحمه الله، وتقدم أن الإمام مالك رحمه الله يشترط أن يكون الممسوح عليه جلداً، فالمشهور من المذهب ومذهب الإمام مالك أنها إذا كانت خفيفة تصف القدم أنه لا يصح المسح عليها. والرأي الثاني: رأي الشافعي رحمه الله أنها إذا كانت خفيفة فإنه يصح المسح عليه، حتى وإن وصفت القدم، حتى وإن كان الخف شفافاً يصف القدم، يعني: بشرط ما يكون فيه خروق على رأي الشافعي لكن إذا كان شفافاً بحيث إنك ترى القدم من ورائه يقول الشافعي رحمه الله: يصح المسح عليه.هم يقولون لا بد أن يكون ساتراً؛ لأن غير الساتر ما يصح المسح عليه إلحاقاً له بالمخرق، كما أن المخرق لا يصح المسح عليه، كذلك أيضاً الساتر الذي يشف القدم لا يصح المسح عليه، هذا هو المشهور من المذهب, ومذهب الإمام مالك . وقلنا: مذهب الشافعي إذا كان شفافاً يصف القدم فإنه يصح المسح عليه، لكن كما ذكرت أن الشافعية -كما سيأتينا في الشروط- يشترطون أن لا يكون فيه خرق، لكن إذا لم يكن فيه خروق ويشف القدم ولا يسترها يصح المسح عليه, وهذا القول هو الصواب، وأنه لا يشترط أن يكون صفيقاً. وعلى هذا نقول: الخف إذا كان اسم الخف لا يزال باقياً عليه، وينتفع به، فإنه يصح المسح عليه, وفي هذا خلاف سيأتينا إن شاء الله فيما يتعلق بالخف المخرق، هل يصح المسح عليه أو لا يصح المسح عليه؟هذا سيأتي إن شاء الله بيانه بإذن الله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-15, 08:13 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الطهارة [5]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )


من رحمة الله بعباده أن خفف عنهم في عباداتهم ومعاملاتهم, ومن صور هذا التخفيف المسح على الخفين والجوربين والمسح على العمائم والجبائر, وكل هذا مضبوط في الشرع بضوابط بينها الفقهاء.والوضوء شرط لصحة الصلاة, وله مبطلات يجب على المسلم معرفتها حتى لا يعرض صلاته ل

تابع مسح الخفين

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب المسح على الخفين].مناسبة هذا الباب لما قبله أن المؤلف رحمه الله ذكر الوضوء وفروضه وشروطه وواجبه، ثم بعد ذلك أتبعه بباب المسح على الخفين؛ لأن المسح على الخفين يتعلق بعضو من أعضاء الوضوء وهو الرجلان، فالرجلان في الوضوء إما أن يغسلا وإما أن يمسحا. وأيضاً تقدم لنا تعريف المسح، وأيضاً عرفنا الخفين، وذكرنا الدليل على جواز المسح على الخفين من الكتاب والسنة وآثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وشرعنا في بيان شروط المسح على الخفين، وهل الأفضل للإنسان أن يمسح أو الأفضل أن يغسل؟ ذكرنا أن هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله, والذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الإنسان يراعي حال قدمه، فإذا كان خالعاً فالأفضل أن يغسل، وإذا كان لابساً فالأفضل أن يمسح على خفيه.

تابع شروط المسح على الخفين

يقول المؤلف رحمه الله: [يجوز المسح على الخفين وما أشبههما من الجوارب الصفيقة].

الشرط الأول: أن تكون صفيقة

هذا هو الشرط الأول من شروط المسح على الخفين: أن تكون صفيقة تستر القدم لا يرى الجلد من ورائها، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك أيضاً مذهب الإمام مالك . والرأي الثاني: مذهب الشافعية: أنه يجوز المسح على الشفاف، وتقدم ذكرنا أن هذا القول هو الأقرب، وأن الخف إذا كان اسم الخف باقياً، وينتفع به عرفاً فإنه يجوز المسح عليه، حتى ولو كان شفافاً لعموم الأدلة، كحديث علي رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاث أيام بلياليها في المسح على الخفين )، وكحديث المغيرة بن شعبة وحديث عوف بن مالك وحديث صفوان بن عسال .. إلخ.فهذه الأدلة كلها تدل على أن الخف إذا كان اسم الخف باقياً عليه وينتفع به عرفاً، أنه يصح المسح عليه.

الشرط الثاني: أن تثبت على القدمين

قال المؤلف رحمه الله: [التي تثبت في القدمين].هذا هو الشرط الثاني، الشرط الثاني من شروط المسح على الخفين يقول المؤلف رحمه الله: أن تثبت بنفسها في القدم من غير شد، فإن كانت لا تثبت في القدم إلا بشدها، إما لثقلها، أو لسعتها .. إلخ. فيقول المؤلف رحمه الله: لا يصح المسح عليه. والعلة في ذلك قالوا: لأن التي تدعو الحاجة إليه هو الذي يثبت بنفسه، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله, وكذلك أيضاً مذهب أبي حنيفة والشافعي قالوا: لا بد أن يثبت الخف بنفسه، فإن كان لا يثبت في القدم إلا بشدها، إما لسعته أو لثقله فإنه لا يصح المسح عليه، والعلة كما تقدم قالوا: إن التي تدعو الحاجة إليه هو الذي يثبت بنفسه. والرأي الثاني: قال به بعض المالكية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يصح المسح على الخفين مطلقاً، سواء ثبت بنفسه أو ثبت بغيره كشده، أو ثبت بنعلين ونحو ذلك، وهذا القول هو الصواب. والدليل على ذلك كما تقدم لنا أن القاعدة في ذلك: أنه يصح المسح على كل خف اسم الخف لا يزال باقياً عليه، وينتفع به عرفاً, فإذا كان ينتفع به عرفاً واسم الخف لا يزال باقياً عليه فإنه يصح المسح عليه.

الشرط الثالث: أن تكون ساترة لمحل الغرض

قال المؤلف رحمه الله: [والجراميق التي تجاوز الكعبين].هذا الشرط الثالث: أنه لا بد أن تكون هذه الخفاف والجراميق والجوارب التي يمسح عليها ساترة لمحل الفرض، يعني: ساترة للمحل الذي يجب غسله؛ لأن ما ظهر فرضه الغسل، قالوا: ولا يجتمع المسح مع الغسل. وتقدم لنا أن الصواب في ذلك: أن الخف إذا كان اسم الخف لا يزال باقياً عليه, وينتفع به عرفاً، أنه يصح المسح عليه.

الشرط الرابع: أن يكون المسح في الطهارة الصغرى

قال المؤلف رحمه الله: [في الطهارة الصغرى].هذا الشرط الرابع: أن يكون في الطهارة الصغرى، أما الطهارة الكبرى فإنه لا يمسح على الخفين؛ ودليل ذلك حديث صفوان بن عسال رضي الله تعالى عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيامٍ ولياليهن إلا من جنابة، لكن من بول أو غائط أو نوم)، وهذا الحديث أخرجه الترمذي والبيهقي والإمام أحمد وابن ماجه وغيرهم وإسناده صحيح. وكون المسح في الطهارة الصغرى دون الطهارة الكبرى هذا إجماع من أهل العلم رحمهم الله، فقد حكى الإجماع على ذلك ابن قدامة ، وكذلك أيضاً حكاه النووي رحمهم الله، هذا هو الشرط الرابع.

الشرط الخامس: أن يكون في مدة المسح

قال المؤلف رحمه الله: [يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهم للمسافر].هذا هو الشرط الخامس من شروط المسح على الخفين: أن يكون ذلك في وقت المسح، ووقت المسح للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن. هذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله؛ ودليل ذلك ما تقدم من حديث صفوان بن عسال : (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيامٍ ولياليهن إلا من جنابة، لكن من بول أو غائط أو نوم).وكذلك أيضاً حديث علي في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها في المسح على الخفين ).وكذلك أيضاً حديث عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه ( بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة ). الرأي الثاني: رأي الإمام مالك رحمه الله، وهو أن المسح على الخفين غير مؤقت، يعني: أن الإنسان يمسح ما شاء، إذا لبس خفيه يمسح ما شاء، يمسح يوماً يومين ثلاثة أيام أربعة .. إلخ, الإمام مالك لا يرى أن المسح على الخفين مؤقت. واستدل على ذلك بحديث أبي بن عمارة : ( أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أمسح على الخفين؟ قال: نعم، قال: يوماً؟ قال: نعم, قال: ويومين؟ قال: نعم، قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم وما شئت ). فقوله: (وما شئت) قالوا: هذا دليل أن المسح على الخفين غير مؤقت فالإنسان له أن يمسح ما شاء، وهذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه والطحاوي والدارقطني وغيرهم وهو ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه ابن ماجه في سننه, وكذلك أيضاً الدارقطني والطحاوي والطبراني وغيرهم، وهو لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. الرأي الثالث: أن المسح على الخفين مؤقت إلا في حال الضرورة أو المصلحة فإنه لا يتأقت، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يعني: يقول شيخ الإسلام: إذا كان الإنسان في حال الضرورة، مثلاً: المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليها، إذا اضطر يعني: لا يتمكن أن يخلع خفيه ويغسل قدميه؛ لأن الرفقة ستذهب، أو يخاف على نفسه، أو نحو ذلك فإن المسح في ذلك غير مؤقت، فله أن يمسح على خفيه ولو في حال الضرورة، أو في حال المصلحة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بأنه غير مؤقت. ودليل ذلك ما أخرجه الطحاوي عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه أنه قدم الشام على عمر رضي الله تعالى عنه، فسأله عمر رضي الله تعالى عنه: متى عهدك بخلع خفيك؟ فقال: لبستهما يوم الجمعة وهذا يوم الجمعة، فـعقبة بن عامر يقول لـعمر : لبستهما يوم الجمعة وهذا يوم الجمعة، يعني: لبسها من الجمعة إلى الجمعة، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أصبت السنة. وهذا الحديث أخرجه الطحاوي وغيره, لكن الدارقطني رحمه الله قال: بأن قوله: (السنة) هذه اللفظة شاذة، وليست ثابتة، الذي ثبت أن عمر قال: أصبت، وأما قوله: السنة فهذه شاذة. والأقرب في ذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله؛ لأن أحاديث التوقيت هذه صريحة, عندنا حديث صفوان بن عسال وعوف بن مالك كذلك أيضاً علي بن أبي طالب وغيرها هذه صريحة في التوقيت, إذا كان في حال الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات, فهذا الشرط الخامس أن يمسح في المدة المحددة.

الشرط السادس: بعد كمال الطهارة

الشرط السادس: أن يكون ذلك بعد كمال الطهارة كما سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله، ودليل ذلك حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه في الصحيحين، ( فإنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، قال: فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين )، وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا توضأ أحدكم فلبس خفيه ), فهذا دليل على أنه يشترط أن يكون المسح على الخفين إذا لبس الخفين بعد تمام الطهارة.

الشرط السابع: ألا يكون الخف مخرقاً

الشرط السابع: أن لا يكون الخف مخرقاً، فإن كان الخف مخرقاً فإنه لا يصح المسح عليه، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله ومذهب الشافعي ، ونص الحنابلة قالوا: لو كان في الخف أو الجورب مثل ثقب الإبرة خرق فإنه لا يصح المسح عليه، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله, وكذلك أيضاً مذهب الشافعي . مذهب أبي حنيفة يقول: إذا كان الخرق أقل من ثلاثة أصابع فإنه لا بأس بالمسح عليه، أوسع من ذلك الإمام مالك رحمه الله يقول: إذا كان الخف مخرقاً، وكان الخرق أقل من ثلث الخف، فإنه يصح المسح عليه، أما إن كان الخرق الثلث فأكثر، فإنه لا يصح المسح عليه.فعندنا الآراء ثلاثة:الرأي الأول: مذهب الإمام أحمد والشافعي : أنه لا يصح المسح على الخف المخرق مطلقاً؛ لأن ما ظهر يقولون: فرضه الغسل، ولا يجتمع الغسل مع المسح.والرأي الثاني: أنه يصح المسح على الخف المخرق، واختلفوا في تحديده، فعند الحنفية قالوا: إذا كان الخرق أقل من ثلاثة أصابع صح المسح عليه، وإن كان الخرق ثلاثة أصابع فأكثر لا يصح المسح عليه.الإمام مالك أوسع قال: الثلث, إذا كان الخرق أقل من ثلث الخف صح المسح عليه، وإن كان الثلث فأكثر، فإنه لا يصح المسح عليه.والرأي الأخير: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو رأي الثوري ورأي عبد الله بن المبارك رحمهما الله وغيرهم، يقول شيخ الإسلام: إن الخف إذا كان فيه خروق يصح المسح عليه، إذا كان اسم الخف باقياً عليه، وينتفع به عرفاً، فإذا كان مخرقاً وينتفع به عرفاً، واسم الخف لا يزال باقياً عليه، فإنه يصح المسح عليه؛ أولاً: لإطلاق الأدلة، الأدلة مطلقة لم تفرق بين خف وخف، يعني: لم يأت في الأدلة اشتراط أن يكون الخف ساتراً أو غير مخرق أو يثبت بنفسه كما سبق، هذا دليل. الدليل الثاني: كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بأن أغلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقراء، والفقير غالباً خفافه لا تسلم من الخروق.فالصواب في هذه المسألة هو القول الأخير وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

الشرط الثامن: أن يكون طاهراً

أيضاً بقينا في الشرط الأخير، وهو أن يكون الخف طاهر العين، فإن كان الخف نجس العين فإنه لا يصح المسح عليه، وعلى هذا نقول: الخف لا يخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يكون نجس العين.والأمر الثاني: أن يكون طاهر العين لكن طرأت عليه نجاسة.فإن كان نجس العين فهذا لا يصح المسح عليه. مثال ذلك: إنسان لبس خفاً من جلد ميتة غير مدبوغ، الجلد كما سبق لنا يطهر بالدبغ، لكن لو أننا صنعنا من هذا الجلد خفاً قبل دبغه، ثم لبسه إنسان فنقول: بأنه لا يصح المسح عليه؛ لأنه نجس العين، ما دام أنه لم يدبغ يعني: صنعنا خفاً من جلد ميتة لم يدبغ هذا الجلد، فنقول: بأن المسح عليه لا يصح، لأنه نجس العين. القسم الثاني: أن يكون طاهر العين لكن طرأت عليه نجاسة فهذا يصح المسح عليه، مثلاً إنسان لبس شراب، هذا الشراب أصابه بول، أو أصابه دم مسفوح، أو أصابه غائط أو نحو ذلك، أو لبس الكنادر، الكنادر هذه أصابها شيء من البول أو نحو ذلك، فنقول: يصح أن تمسح عليها، ويرتفع الحدث، لكن إذا أراد الإنسان أن يصلي فإنه يخلع هذه الجوارب المتنجسة، أو يغسلها، أو يغسل النجاسة التي فيها، أو هذه الكنادر المتنجسة يخلعها أو يغسلها ينظفها .. إلخ. فيصح المسح على الجورب أو الخف المتنجس، يعني: الذي هو طاهر العين، لكن طرأت عليه نجاسة، الذي لا يصح المسح عليه هو الخف النجس العين، كما مثلنا: عندنا خف صنع من جلد ميتة قبل الدبغ، فهذا خف نجس العين لا يصح المسح عليه.

بدء توقيت المسح على الخفين

قال المؤلف رحمه الله: [من الحدث إلى مثله].هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله, وهو قول جمهور أهل العلم، يقولون: بأن المسح من الحدث, تبدأ مدة المسح من الحدث، على هذا الرأي مثلاً: لبست الخفين الساعة السادسة فجراً، فمتى تبدأ المدة؟ تبدأ المدة إذا أحدثت، إنسان لبس في الساعة السادسة فجراً، أحدث في الساعة التاسعة ضحىً، تبدأ المدة الآن من الساعة التاسعة، فإذا كنت مقيماً تحسب أربعاً وعشرين ساعة من التاسعة إلى التاسعة من الغد، هذا الظرف كله لك أن تمسح فيه، تمسح من التاسعة إلى التاسعة. هذا هو المشهور عند جمهور أهل العلم رحمهم الله.الرأي الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله وقول الأوزاعي وأبي ثور أن المدة تبدأ من أول مسح بعد حدث، فمثلاً: إنسان لبس في الساعة السادسة فجراً، أحدث في الساعة التاسعة ضحىً، وتوضأ في الساعة الثانية عشرة ظهراً، على الرأي الأول تبدأ المدة في الساعة التاسعة، والرأي الثاني تبدأ المدة في الساعة الثانية عشرة. يعني: من الساعة الثانية عشرة إذا كنت مقيماً تحسب أربعاً وعشرين ساعة إلى الساعة الثانية عشرة من الغد، وإن كنت مسافراً تحسب ثنتين وسبعين ساعة، فتحسب من الساعة الثانية عشرة إلى الساعة الثانية عشرة في اليوم الثالث ثنتين وسبعين ساعة هذه الساعات كلها ظرف للمسح، كلها يجوز لك أن تمسح فيها.ونفهم أن المدة لا تبدأ من أول اللبس أو أن المدة خمس صلوات كما يتوهم بعض الناس، قد يجلس الإنسان ما مسح على خفيه، هذا كله ما تحسب، قد تجلس ليلة كاملة، قد تلبس الآن الخفين ولا تمسح عليهما، الآن الساعة السابعة تلبس خفيك، ما تمسح عليه إلا غداً لصلاة الفجر، في الساعة الخامسة تستمر، كل هذه الساعات ليست داخلة في مدة المسح، فإذا مسحت في الساعة الخامسة بعد الحدث بدأت المدة من الساعة الخامسة إلى الساعة الخامسة من الغد.وهذا القول هو الصواب، الصواب في هذا هو الرأي الثاني, وأن مدة المسح تبدأ من أول مسح بعد الحدث، لأحاديث المسح، يمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام بلياليها، فدل على أن هذه المدة كلها وقت للمسح، ولا تكون هذه المدة كلها وقت للمسح إلا إذا كانت المدة تبدأ من أول مسحة.

انقضاء مدة المسح

قال المؤلف رحمه الله: [لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يوماً وليلة ) ومتى مسح ثم انقضت المدة أو خلع قبلها بطلت طهارته].إذا مسح الإنسان ثم انقضت المدة، إذا ابتدأ المسح في الساعة الثانية عشرة، متى تنتهي المدة؟ في الساعة الثانية عشرة من الغد إذا كان مقيماً، إذا تمت الساعة الثانية عشرة من الغد, مسح اليوم الإثنين، تنتهي مدته غداً الثلاثاء في الساعة الثانية عشرة ظهراً، إذا جاءت الساعة الثانية عشرة ظهراً تمت المدة, الآن ما له حق أن يمسح، لكن هل تبطل الطهارة أو لا تبطل الطهارة؟ يقول المؤلف رحمه الله: (تبطل الطهارة بتمام المدة) وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وعند أبي حنيفة والشافعي أن الطهارة ما تبطل، لكن يجب عليه أن يغسل رجليه, قالوا: إذا تمت المدة وهو طاهر، مثلاً كما في المثال السابق تمت المدة في الساعة الثانية عشرة ظهراً، المشهور من مذهب الإمام أحمد ليس له أن يصلي، يجب عليه أن يخلع خفيه ويتوضأ.الرأي الثاني: مذهب أبي حنيفة والشافعي تمام المدة لا تبطل الطهارة، لكن يجب عليه أن يغسل رجليه، يعني: يخلع خفيه ويغسل رجليه ويستمر على طهارته.أما الإمام مالك فأمره ظاهر، لماذا؟ الإمام مالك أصلاً لا يقول بالتوقيت, الإمام مالك يمسح يوماً .. يومين .. ثلاثة.. فليس عنده شيء إذا تمت المدة بطلت الطهارة؛ لأنه أصلاً لا يرى التوقيت.الرأي الثالث في المسألة اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وابن حزم أن تمام المدة لا يبطل الطهارة، لكنه يمنع المسح فقط؛ لأن الأحاديث التي جاءت دلت على أن لك المسح في هذه المدة، لكن بعد هذه المدة ليس لك أن تمسح، وليس فيها ما يدل على بطلان الطهارة، وهذا اختيار شيخ الإسلام وهو مذهب ابن حزم رحمه الله وهو الصواب. وعلى هذا إذا تمت المدة، يعني: جاءت الساعة الثانية عشرة وأنت طاهر، هل لك أن تصلي الظهر أو ليس لك أن تصلي الظهر؟لك أن تصلي الظهر، وهل لك أن تمسح بعد الساعة الثانية عشرة أو ليس لك أن تمسح؟نقول: ليس لك أن تمسح، لا بد أن تخلع خفيك وأن تتوضأ، لكن لو كنت طاهراً فلك أن تستمر، تصلي الظهر، تصلي العصر, تصلي المغرب، وليس لك أن تمسح خفيك، لكن ليس لك أن تمسح بعد تمام المدة. وهذا القول هو الصواب؛ لأن الطهارة ارتفعت بدليل شرعي، فلا بد من دليل شرعي على نقضها، هذا الإنسان ارتفعت طهارته بمقتضى دليل شرعي، لا بد من دليل شرعي على إبطال الطهارة.

حكم خلع الخفين لمن مسح عليهما

قال المؤلف رحمه الله: [أو خلع قبلها بطلت طهارته].أيضاً: إذا خلع الخف أو الجوارب قبل تمام المدة، هل تبطل الطهارة أو لا تبطل الطهارة؟يقول المؤلف رحمه الله: إن الطهارة تبطل, وعند أبي حنيفة والشافعي كما سبق أن الطهارة لا تبطل، يعني: لو أن الإنسان لبس اليوم الخفين، ومسح عليهما في الساعة الثانية عشرة، الآن في الساعة السابعة أحس بحرارة، فخلع خفيه وهو طاهر، توضأ لصلاة المغرب، ثم خلع خفيه بعد أن توضأ، هل تبطل طهارته أو نقول: بأن طهارته لا تبطل؟ يقول المؤلف رحمه الله: إن طهارته تبطل، وعند أبي حنيفة والشافعي أن الطهارة لا تبطل، لكن قالوا: يجب عليه أن يغسل رجليه, أيضاً عند الإمام مالك رحمه الله قال: بأن الطهارة لا تبطل، لكن يجب عليه أن يغسل رجليه مباشرة، الإمام مالك يقول: لا بد من مباشرة الغسل بعد أن يخلع، لكي لا تبطل الطهارة، لا بد أن يوالي بين الخلع وغسل رجليه، عند أبي حنيفة والشافعي لا يشترط أن يوالي الخلع وغسل رجليه. الرأي الثالث: ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله واختيار شيخ الإسلام : أن الطهارة لا تبطل إذا خلع الممسوح عليه، وهذا القول هو الصواب، ويدل لذلك أنه ورد عن علي في البيهقي بإسناد صحيح أنه توضأ ومسح، ثم دخل المسجد ثم خلع، ثم صلى, فلو كانت الطهارة باطلة هل يصلي علي أو لا يصلي؟ نقول: إنه لا يصلي، هذا ثابت عن علي رضي الله تعالى عنه, هذا دليل. والدليل الثاني كما سلف لنا: أن طهارته ارتفعت بمقتضى دليل شرعي، فلا بد من دليل شرعي يدل على النقض.

من مسح مسافراً ثم أقام والعكس

قال المؤلف رحمه الله: [ومن مسح مسافراً ثم أقام].هذه جملة مسائل, يقول المؤلف رحمه الله: ومن مسح مسافراً ثم أقام، يعني: بدأ المدة في السفر، والمسافر له أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن ثم أقام، يقول المؤلف رحمه الله: يتم مسح مقيم. يعني: قدم من البلد يتم مسح مقيم, وعلى هذا إن مسح يوماً وليلة في السفر فأكثر، ثم قدم البلد، ماذا نقول له؟ نقول: انتهت المدة لا تمسح، وإن مسح أقل من يوم وليلة نقول له: تمت مدة يوم وليلة.فهذا رجل مسافر إلى مكة، مسح في السفر يومين، ثم قدم إلى بلده، ماذا نقول له؟ نقول: الآن مدته قد انتهت، الآن تمسح مسح مقيم لما قدمت، وقد مسحت في السفر يومين، انتهت المدة، إذا كان مسح يوماً فقط، نقول له: بقي ليلة، وإن مسح ليلة نقول: بقي لك يوم. قال المؤلف رحمه الله: [أو مقيماً ثم سافر أتم مسح مقيم].إذا مسح مقيماً ثم سافر، يعني: هذا الرجل ابتدأ المسح في حال الحضر، مسح في حال الحضر يوماً واحد، ثم سافر، على كلام المؤلف رحمه الله بقي له من المسح ليلة واحدة، وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه يمسح مسح مسافر، وهذا القول هو الصواب. وعلى هذا إذا مسح في الحضر يوماً نقول: بقي له يومان، وإذا مسح نصف يوم نقول: بقي لك يومان ونصف.

المسح على العمامة

قال المؤلف رحمه الله: [ويجوز المسح على العمامة إذا كانت ذات ذؤابة ساترة لجميع الرأس].أولاً: المسح على العمامة هل هو جائز أو ليس جائزاً؟يقول المؤلف رحمه الله بأن المسح على العمامة جائز، وهذا من مفردات مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.وهذا القول هو الصواب؛ وقد دل له حديث المغيرة بن شعبة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الخفين والعمامة )، وهذا في مسلم , وكذلك أيضاً حديث عمرو بن أمية قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه )، وهذا في البخاري .فعندنا دليل على ذلك حديث عمرو بن أمية ، وحديث المغيرة بن شعبة ، حديث المغيرة في مسلم , وحديث عمرو بن أمية في صحيح البخاري .وعند جمهور أهل العلم أنه لا يصح المسح على العمامة، فالحنفية والمالكية والشافعية لا يصححون المسح على العمامة، والصواب في ذلك ما دلت عليه السنة، وأن المسح على العمامة جائز؛ لأن السنة دلت على ذلك.ذكر شرطاً المؤلف رحمه الله فقال: (أن تكون ذات ذؤابة) يعني: أن يكون طرفها مرخى على ظهر لابسها، أو تكون محنكة، يعني: المشهور من مذهب الإمام أحمد أن تكون ذات ذؤابة، يعني: ذات طرف مدلى، أو تكون محنكة وهي التي تدار تحت الحنك، وقالوا: بأن العمامة الصماء هذه ليست من ألبسة المسلمين، وإنما من ألبسة أهل الذمة.وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا ليس شرطاً، أي أنه لا يشترط أن تكون ذات ذؤابة، أو أن تكون محنكة، فيصح المسح على العمامة الصماء التي ليست ذات ذؤابة أو محنكة.قال المؤلف رحمه الله: [ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه].ذكر المؤلف رحمه الله شرطين: الشرط الأول: أن تكون ذات ذؤابة أو محنكة. الشرط الثاني: أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه.

اشتراط لبس الممسوح على طهارة كاملة

قال المؤلف رحمه الله: [ومن شرط المسح على جميع ذلك أن يلبسه على طهارة كاملة].أما بالنسبة للخف والجورب فتقدم لنا الحديث عن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه، وفيه قال: ( فأهويت لأنزع خفيه فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين )، وأيضاً: ما تقدم من حديث النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا توضأ أحدكم فلبس خفيه )، فلا بد أن يكون على طهارة كاملة. بالنسبة للعمامة هل يشترط أن يكون لبسها على طهارة كاملة أو لا؟المشهور من المذهب أنه لا بد من ذلك، قياساً على الخف، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا يشترط أن تكون على طهارة كاملة، لو لبس العمامة على غير طهارة فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بأن هذا لا بأس به ويمسح عليها، ويقول: بأنه لم يرد دليل على أن المسح على العمامة لا بد أن يكون على طهارة كاملة. كذلك أيضاً المسح على العمامة هل هو مؤقت كالمسح على الخفين أو غير مؤقت؟المشهور من المذهب أنه مؤقت، وأن الإنسان يمسح على العمامة إذا كان مقيماً يوماً وليلة، وإذا كان مسافراً يمسح ثلاثة أيام بلياليها. والرأي الثاني: أنه غير مؤقت، مذهب ابن حزم رحمه الله.وقوله: (على طهارة كاملة) إذا توضأ الإنسان وغسل رجله اليمنى ثم لبس الخف، ثم غسل رجله اليسرى ثم لبس الخف، يقول المؤلف رحمه الله: لا يصح أن يمسح؛ لأنه لبس الخف الأيمن قبل تمام الطهارة، قبل غسل الرجل اليسرى، الطهارة لا تكتمل إلا بغسل الرجلين جميعاً، فهنا في هذه الحال لبس الخف الأيمن قبل أن يغسل رجله اليسرى، وقالوا: لا يصح. وعند أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام أن هذا جائز ولا بأس به، فلو أن الإنسان توضأ غسل رجله، ثم لبس الخف أو الجورب للرجل اليمنى، ثم غسل اليسرى، ثم لبس الجورب أو الخف للرجل اليسرى، فإن هذا جائز ولا بأس به.

المسح على الجبيرة

قال المؤلف رحمه الله: [ويجوز المسح على الجبيرة إذا لم يتعد بشدها موضع الحاجة إلى أن يحلها].لما تكلم المؤلف رحمه الله على المسح على الخفين والجوارب والعمامة .. إلخ، شرع في بيان أحكام المسح على الجبيرة، والجبيرة فعيلة بمعنى فاعلة، وهي عبارة عن أعواد ونحوها تجعل على الكسر لكي تجبره. فيقول المؤلف رحمه الله: إذا لم يتعد بشدها موضع الحاجة، يعني: الجبيرة يصح المسح عليها لكن بشرط ألا يتعدى شدها موضع الحاجة، فإن تعدى شدها موضع الحاجة فلا بد أن يزيلها. وما هو موضع الحاجة؟موضع الحاجة هو الجرح أو الكسر وما يقاربه وما يحتاج إليه في الشد, فإذا كان مثلاً الجرح في منتصف الذراع، ونحتاج مثلاً إلى اثنين سانتي لكي نشد على الجرح أو الكسر، فهذه موضع حاجة من اللباس، لكن إذا زاد على ذلك ثلاثة سانتي، أربعة سانتي، يقول العلماء: لا بد أن يزيل هذا الزائد؛ لأن الأصل وجوب الغسل. فنقول: هذا الزائد لا بد أن يزيله الإنسان, إذا لم يتمكن من إزالته فالمشهور من المذهب أنه يمسح عليها ويتيمم، يجمع بين المسح والتيمم, والصواب أنه يكفي في ذلك المسح.

الفرق بين المسح على الجبيرة والخفين

وقال المؤلف: (إلى أن يحلها) يؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله أن المسح على الجبيرة غير مؤقت، وهذا من الفروق بين المسح على الجبيرة والخفين، أن المسح على الخفين مؤقت، للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها، أما الجبيرة فالمسح عليها غير مؤقت، إلى أن يزيل هذه الجبيرة، يمسح يومين، ثلاثة أيام، خمسة عشرة .. إلخ، هذا الفرق الأول.الفرق الثاني: أن المسح على الخفين رخصة، وأما المسح على الجبيرة فعزيمة، يعني: يجب إذا وجب الوضوء، أما المسح على الخفين لو أنه خلع ما في بأس. الفرق الثالث: أن المسح على الخفين لا بد فيه من الطهارة قبل ذلك، وأما المسح على الجبيرة فالصواب أنه لا تشترط الطهارة، يعني: لو وضع الجبيرة على غير طهارة فإن هذا لا بأس به. الفرق الرابع: أن المسح على الخفين كما تقدم المشهور من المذهب أنه لا بد أن يكون ساتراً لمحل الفرض، ولا يكون فيه خروق، أما المسح على الجبيرة فإنه لا تشترط أن يكون ساتراً، ولا يشترط أيضاً أن يكون غير مخرق. أيضاً من الفروق أن المسح على الجبيرة يكون لكل جبيرة، فإذا كان في الذراع جبيرة تمسح على الأعلى والأسفل جميعاً، تمسح الجبيرة جميعاً، أما المسح على الخف يكون لأعلى الخف. ودليل ذلك قول علي رضي الله تعالى عنه: ( لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح أعلى الخف ), فالجبيرة ما يكفي للإنسان أن يمسح الفوقاني، بل لا بد أن يمسح كل الجبيرة، أما الخف فإنه يمسح أعلى الخف.

أحوال المسح على الجبيرة

أيضاً عندنا مسألة: إذا كان في يد الإنسان أو في رجله جرح، يعني: إذا كان في محل الوضوء أو في محل الغسل جرح، نقول: يجب على الإنسان أن يغسل الصحيح. فمثلاً: إذا كان في اليد اليسرى جرح، يجب أن تتمضمض وتستنشق وتغسل وجهك وتغسل يدك اليمنى وتغسل الصحيح من اليسرى، وأيضاً تمسح رأسك وتغسل رجليك.أيضاً لو كان الإنسان في فخذه جرح، يجب أن يغسل رأسه وبدنه إلا موضع الجرح، لكن بالنسبة للجرح هذا لا يخلو من أمور، فهمنا أن الإنسان يجب عليه أن يغسل الصحيح، لكن بقينا في الجرح، هذا الجرح لا يخلو من أمور: الأمر الأول: أن يكون عليه جبيرة، أو يكون عليها خرقة أو شاش أو لصقة كما هو الحال الآن، فنقول هنا: يكفي أن تمسح الجبيرة.الأمر الثاني: أن لا يكون عليه جبيرة ويمكن للإنسان أن يغسله، لا يتضرر بغسله، فنقول: يجب عليه أن يغسله، يعني: عنده جرح أو كسر ولا يتضرر إذا غسله، يعني: لا يزيد المرض، لا يتأخر البرء، لا يبقى موضع أثر في الجسم يشين البدن، فنقول: هنا لا بأس, يجب أن يغسله. الأمر الثالث: إذا كان الغسل يضره، ويتمكن من مسحه، فنقول: بأنه يمسحه ولا شيء عليه.الأمر الرابع: إذا كان الغسل يضره والمسح يضره، فماذا نقول في هذه الحالة؟ نقول: بأنه يتيمم في آخر الوضوء, والصواب أنه لا يشترط الموالاة بين التيمم وبين الوضوء، فأصبح عندنا الجرح له أربع حالات: الحالة الأولى: أن يكون على جبيرة يمسح.الحالة الثانية: أن لا يكون عليه جبيرة، ويتمكن من الغسل نقول: يجب أن يغسل.الحالة الثالثة: ليس عليه جبيرة، ويتمكن من المسح، الغسل يضره لكن المسح ما يضره، نقول: يمسح ولا يتيمم في الحالتين السابقتين. الحالة الرابعة: المسح يضره فنقول: في هذه الحالة يتيمم ويكون تيممه في آخر الوضوء.

مسح المرأة على الخف والخمار

قال المؤلف رحمه الله: [والرجل والمرأة في ذلك سواء].والرجل والمرأة فيما يتعلق بلبس الخفين سواء؛ لأن الأصل أن ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء إلا بدليل، والعكس بالعكس. يعني: قاعدة: ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء، ما ثبت في حق النساء ثبت في حق الرجال إلا بدليل. إلا أن المرأة لا تمسح على العمامة، لكن المرأة تمسح على الخمار، المرأة ما يجوز لها أن تمسح على العمامة؛ لأن العمامة هذه من خصائص الرجال، ( ولعن الله المتشبهين من النساء بالرجال والمتشبهات من النساء بالرجال )، لكن المرأة لها أن تمسح على الخمار؛ لفعل أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فإذا لبست المرأة خماراً، فإنه يقوم مقام العمامة، لها أن تمسح عليه كما تقدم، وهل يشترط أن يكون مؤقتاً أو غير مؤقت؟ يعني: يوم وليلة أو يكون على طهارة، حكمه حكم العمامة كما سبق.

حكم المسح على الخف عليه خف آخر

بقيت مسألتان على الباب. المسألة الأولى: إذا لبس خفاً على خف، أو لبس جورباً ثم لبس جورباً ثانياً، أو لبس الجوارب ثم لبس الكنادر، فنقول: إذا لبس خفاً على خف، إن كان لبسه للثاني على طهارة ولو كانت طهارة مسح، فإنه يمسح على الثاني، وإن كان لبسه للثاني على حدث، فإنه يمسح الأول.مثال ذلك: توضأ، ولبس خفين، ثم لما صار بالليل لبس الخف الثاني، نقول: إن كان لبس الخف الثاني على طهارة، حتى لو كانت طهارة مسح، مسح على خفيه ثم لبس الثاني، فإنه يمسح على الثاني، بقية المدة تحسب من الأول، وإن كان لبس الثاني على حدث، فإن الحكم متعلق بالأول.

كيفية المسح على الخفين

المسألة الثانية: كيفية المسح على الخفين؟نقول: المسح على الخفين بأن يمسح أعلى الخف، وقد وردت الآثار في البيهقي وغيره أنه يمر أصابع يديه من أصابع الرجلين إلى الساق.وهل يمسح اليمنى ثم اليسرى أو يمسحهما جميعاً؟ نقول: هذا موضع خلاف، بعض العلماء قال: بأنه يبدأ باليمنى ثم اليسرى؛ لأن المسح بدلاً من الغسل، والغسل يبدأ باليمنى ثم اليسرى. بعض العلماء قال: يمسحهما جميعاً، هذا موضع خلاف, والأمر في ذلك واسع إن شاء الله.

نواقض الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [باب نواقض الوضوء وهي سبعة].مناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة، فإن المؤلف رحمه الله لما ذكر أحكام الوضوء ذكر شروطه وفروضه وواجبه وتكلم عن المسح على الخفين؛ لأنه يتعلق بعضو من أعضاء الوضوء، شرع الآن في بيان مبطلات الوضوء، ومفسداتها، وهكذا العلماء رحمهم الله يتكلمون على العبادة، وفي الأخير يبينون مفسداتها ومبطلاتها .. إلخ. فمثلاً: الصلاة يتكلمون عليها؛ أركانها وشروطها وواجباتها، ثم بعد ذلك يتكلمون عن مبطلات الصلاة، والصيام أيضاً ثم يتكلمون بعد ذلك عن مفطرات الصوم، والحج ثم يتكلمون بعد ذلك عن محظورات الحج .. إلخ. قول المؤلف رحمه الله: (باب نواقض الوضوء) المراد بنواقض الوضوء مفسداته ومبطلاته. وقول المؤلف رحمه الله: (سبعة)، هذا بناء على استقراء الأدلة؛ فإن العلماء رحمهم الله نظروا في الأدلة واستقرءوها وتبين لهم أن الذي يبطل الوضوء سبعة أشياء.

الخارج من السبيلين

قال المؤلف رحمه الله: [الخارج من السبيلين].الأول: الخارج من السبيلين، والسبيلان تثنية سبيل، والسبيل: هو الطريق، وسمي القبل والدبر طريقاً أو سبيلاً؛ لأنه طريق أو سبيل لما يخرج منه. يقول المؤلف رحمه الله: الخارج من السبيلين هذا من نواقض الوضوء، والخارج من السبيلين هذا يقسمه العلماء إلى قسمين: القسم الأول: خارج معتاد. والقسم الثاني: خارج غير معتاد.المعتاد: مثل البول، والغائط، والمذي, والودي، ودم الحيض، والمني .. إلخ، هذا يسمى الخارج المعتاد, هذا ينقض بإجماع العلماء، دل على ذلك القرآن والسنة والإجماع.فالقرآ مثل قول الله عز وجل: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43]، وأيضاً حديث صفوان بن عسال وفيه: ( لكن من بول أو غائط أو نوم ), وأيضاً في المذي في حديث علي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوضوء )، وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن زيد : (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) يدل على أن الريح من الدبر ناقضة. فنقول: القسم الأول: الخارج المعتاد، هذا حكمه أنه ناقض بالإجماع، مثل: البول، الغائط، الريح، المذي، المني، الودي، دم الحيض .. إلخ، هذه الأشياء معتادة وناقضة بالإجماع.القسم الثاني من الخارج من السبيلين: الخارج غير المعتاد، والخارج غير المعتاد هذا تحته أمثلة, مثل: رطوبة فرج المرأة، هذه خارج غير معتاد، ومثل: الريح من القبل، تخرج عند النساء، هذه خارج غير معتاد، ومثل: سلس البول، ومثل: دم الاستحاضة، هذه خارج غير معتاد، مثل أيضاً لو خرج من الدبر حصاة، أو خرج منه شعرة أو غير ذلك، هذه الأشياء هل تنقض أو لا تنقض؟هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله.المشهور من مذهب الإمام أحمد وهو قول أكثر أهل العلم أنها ناقضة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: الخارج من السبيل، يعني: يرى أن كل الخارج من السبيل سواء كان معتاداً أو غير معتاد أنه ناقض. والرأي الثاني: ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الخارج من السبيل إذا كان غير المعتاد أنه لا ينقض الوضوء، وهذا القول هو الصواب, أنه لا ينقض الوضوء؛ لأن الأصل في ذلك بقاء الطهارة، والطهارة تنقض من خلال دليل شرعي، فلا بد من دليل شرعي على النقض بها, ولم يرد ما يدل على الدليل الشرعي.وأما أمر المستحاضة أن تتوضأ لوقت كل صلاة؛ فهذا لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذين قالوا بأنه ينقض الخارج غير المعتاد استدلوا ( بأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر المستحاضة أن تتوضأ لوقت كل صلاة )، كما في أبي داود من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، وهذا كما قلنا: لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالصواب في ذلك: أن الخارج غير المعتاد لا ينقض، وعلى هذا المستحاضة، ومن لديه سلس بول، أو سلس ريح ونحو ذلك من الأشياء، نقول: هذه الأشياء لا تنقض، إلا إذا وجد حدث آخر معتاد، أما الأحداث غير المعتادة فإنها لا تنقض الوضوء, وهذا القول هو الأقرب.

الخارج النجس من سائر البدن

قال المؤلف رحمه الله: [والخارج النجس من سائر البدن إذا فحش].هذا الناقض الثاني, يقول المؤلف رحمه الله: (الخارج النجس) نقول: الخارج النجس هذا لا يخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يكون بولاً أو غائطاً خارجاً من البدن، مثلاً لو فتح في بطن الإنسان فتحة عن طريق عملية جراحية، ثم أخذ منه البول، عن طريق أنبوب أو ماسورة أو لي أو نحو ذلك، خروج البول ينقض أو لا ينقض؟ أو خروج الغائط هنا هل ينقض أو لا ينقض؟ يقول المؤلف رحمه الله: إنه ينقض.فنقول: إذا كان بولاً أو غائطاً فإنه ينقض؛ والدليل على ذلك العمومات، استدلوا بالعمومات مثل قول الله عز وجل: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43]، هذا يشمل الغائط، سواء خرج من مخرجه أو خرج من غير مخرجه.وأيضاً حديث صفوان بن عسال وفيه: ( لكن من بول أو غائط أو نوم ) البول والغائط سواء خرج من مخرجه أو خرج من غير مخرجه, هذا الأمر الأول.الأمر الثاني: إذا كان الخارج غير بول وغائط، مثل: الدم، القيح، الصديد، القيء، هذه الأشياء الصواب أنها طاهرة كما تقدم لنا، فالقيء طاهر، والدم الخارج من بقية البدن طاهر، والقيح والصديد هذه الأشياء الصواب أنها طاهرة, لكن على كلام المؤلف أنها نجسة، هل هي ناقضة للوضوء أو ليست ناقضة للوضوء؟المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنها ناقضة للوضوء. والرأي الثاني: رأي الإمام مالك رحمه الله والشافعي أن هذه الأشياء لا تنقض الوضوء، فلو احتجم الإنسان أو قاء أو خرج منه دم أو قيء أو قيح أو غير ذلك، فنقول: بأن طهارته باقية ولا تبطل طهارته، وهذا القول هو الصواب. ويدل لذلك أدلة؛ من ذلك ما في صحيح البخاري معلقاً من قصة عباد بن بشر ، عباد بن بشر وهو في الصلاة طعن، واستمر في صلاته وجرحه يخرج منه الدم، ومع ذلك لم ينفلت من صلاته، وإنما استمر في صلاته رضي الله تعالى عنه حتى عجز. وأيضاً عمر رضي الله تعالى عنه صلى وجرحه يثعب دماً حتى عجز.وأيضاً ما ذكره الحسن أنه قال: كانوا يصلون بجراحاتهم. وأيضاً مما يدل لذلك عدم الدليل، فليس هناك دليل على النقض بهذه الأشياء.فالصواب في مثل هذه الأشياء أنه غير ناقض للوضوء.وهنا قال المؤلف رحمه الله: (من سائر البدن إذا فحش) فيفهم من كلام المؤلف رحمه الله أنه لا ينقص إذا كان غير فاحش، يعني مثلاً: الإنسان خرج من أصبعه نقطة من الدم أو نقطتان، أو خرج منه شيء يسير من القيح أو الصديد أو القيء، أن هذا لا ينقض الوضوء. واستدلوا على ذلك بأن ابن عمر عصر بثرة فخرج دم فصلى ولم يتوضأ, وكذلك أيضاً ورد عن ابن أبي أوفى أنه عصر دملاً، وكذلك أيضاً ورد عن ابن عباس . قال المؤلف رحمه الله: إذا كان فاحشاً ينقض, وإذا كان غير فاحش لا ينقض، واختلفوا في الفاحش، هل الفاحش في أوساط الناس أو الفاحش في كل موضع بحسبه؟هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، وتقدم أن الصواب في مثل هذه الأشياء أنها لا تنقض، سواء كانت فاحشة أو غير فاحشة.

زوال العقل

قال المؤلف رحمه الله: [وزوال العقل إلا النوم اليسير جالساً أو قائماً].هذا الناقض الثالث من نواقض الوضوء: زوال العقل.وزوال العقل هذا ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يزول بالجنون أو يغطى عليه بالسكر أو الإغماء، فهذا ينقض مطلقاً، سواء كان ذلك قليلاً أو كان كثيراً، فإذا زال عقل الإنسان بالجنون أو غطي على عقله بسبب سكر, بأن شرب مسكراً ، أو بسبب دواء كأن تعاطى بنجاً .. إلخ، فنقول: ينتقض وضوءه مطلقاً سواء كانت هذه التغطية أو الزوال قليلاً أو كثيراً.القسم الثاني: أن يغطى على العقل بالنوم.فعندنا زوال العقل أو تغطيته ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: زواله بالجنون, تغطيته بالسكر أو الإغماء، سواء كان ذلك بسبب حادث أو بسبب دواء أو نحو ذلك، فهذا قلنا بأنه ينتقض وضوءه مطلقاً، سواء كان قليلاً أو كان كثيراً. القسم الثاني: أن يغطى على عقله بالنوم, فهذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، العلماء رحمهم الله لهم في ذلك كلام كثير في النوم، هل ينقض أو لا ينقض؟ المؤلف قال: (وزوال العقل إلا النوم اليسير جالساً أو قائماً)، قال بأن النوم ناقض للوضوء، لكن يستثنى النوم اليسير جالساً أو قائماً، ما هو الدليل على أن النوم ينقض؟ الدليل حديث صفوان بن عسال كما تقدم لنا أنه قال:( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنا سفراً أو مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من بول أو غائط أو نوم ). فقوله: (أو نوم) هذا دليل على أنه ناقض من نواقض الوضوء. وأيضاً: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( العين وكاء السه، فمن نام فليتوضأ ), وهذا الحديث يتقوى بحديث معاوية , والشاهد حديث علي, وحسنه علي بن المديني ، وأيضاً ابن الصلاح ، هذا دليل على أن النوم ناقض, لكن المؤلف رحمه الله استثنى النوم اليسير, واشترط فيه شرطين, وهناك أيضاً شرط ثالث على المذهب: أن يكون يسيراً، وأن يكون من جالس أو قائم، وأن يكون غير محتب أو متكئٍ أو مستند.فنقول: يشترط على المذهب لكي لا ينقض النوم ثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يكون النوم يسيراً.الشرط الثاني: وأن يكون النائم قائماً أو جالساً.والشرط الثالث: أن يكون غير متكئٍ, لو كان متكئاً ينتقض، يعني: لو كان متكئاً على يده اليمنى أو اليسرى ينقض، أو مستنداً على ظهره ينقض، أو محتبياً أيضاً قالوا بأنه ينقض.خلاصة كلام المؤلف رحمه الله: أن النوم ناقض بالوضوء إلا اليسير بثلاثة شروط:أن يكون يسيراً، وأن يكون من جالس أو قائم، وأن يكون غير محتب ولا متكئٍ ولا مستند.والدليل على هذا الاستثناء أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما في حديث أنس : ( كانوا ينتظرون العشاء، فينامون قعوداً ثم يصلون ولا يتوضئون )، وهذا في صحيح مسلم , هذا دليل على أن اليسير من جالس أو قائم أنه لا ينقض الوضوء. والرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن العبرة بالنوم المستغرق، فإن كان النوم مستغرقاً فإنه ينقض الوضوء، أما إن كان النوم في بداياته غير مستغرق فإنه لا ينقض الوضوء، وسواء كان الإنسان مستنداً أو متكئاً أو مضطجعاً أو غير ذلك، المهم العبرة بالاستغراق، فقد الإنسان يكون في بداية النوم، ينام نوماً يسيراً وهو متكئ أو مستند أو .. إلخ.فالعبرة بالاستغراق، إن استغرق في نومه نقض وضوءه، وإن لم يستغرق لم ينقض وضوءه؛ لأن النوم ليس حدثاً، وإنما هو مظنة الحدث، يعني: مظنة خروج الريح منه، فإذا كان الإنسان ما يدري هل خرج منه ريح أو لم يخرج منه ريح؟ النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( العين وكاء السه ) يعني: الرباط لحلقة الدبر، ( فإذا نامت العينان استطلق الوكاء )، فإذا استغرق الإنسان في نومه ما يشعر هل خرج منه شيء أو لم يخرج منه شيء؟ لكن إذا كان نومه غير مستغرق، فإنه يعرف هل خرج منه شيء أو لم يخرج منه شيء؟ وهذا القول هو أقرب الأقوال. نقف على الناقض الثالث.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-17, 02:34 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الطهارة [6]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )


للوضوء نواقض ذكرها العلماء رحمهم الله، إلا أنهم اختلفوا في بعضها كمس الذكر وأكل لحم الإبل.ومن انتقض وضوءه يحرم عليه أشياء منها مس المصحف على خلاف. وللغسل موجبات منها: إنزال المني، والتقاء الختانين.

تابع نواقض الوضوء

مس الذكر

قال المؤلف: رحمه الله تعالى: [ولمس الذكر بيده].ذكر المؤلف رحمه الله من نواقض الوضوء لمس الذكر بيده, وأن تمس بشرته بشرة امرأة بشهوة.تقدم لنا الناقض الأول وهو الخارج من السبيلين، وذكرنا أن الخارج من السبيلين ينقسم إلى قسمين، وتكلمنا على كل قسم من هذين القسمين. وأيضاً الناقض الثاني: الخارج من بقية البدن، وأن الخارج من بقية البدن ينقسم إلى قسمين، وتكلمنا على كل من هذين القسمين. الناقض الثالث: زوال العقل، وأيضاً ذكرنا أن زوال العقل أو تغطية العقل ينقسم إلى قسمين، وتكلمنا على كل قسم من هذين القسمين. ثم قال رحمه الله في الناقض الرابع: (ولمس الذكر بيده). لمس الذكر هل هو ناقض من نواقض الوضوء، أو ليس ناقضاً من نواقض الوضوء؟ هذا اختلف فيه العلماء رحمهم الله على رأيين: الرأي الأول: وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله وقول الشافعي أن لمس الذكر باليد، والمراد باليد هنا الكف فقط، يعني: إذا لمس ذكره بكفه دون بقية بشرته بلا حائل، فإنه ينتقض وضوءه، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد الذي مشى عليه المؤلف رحمه الله, وأيضاً هو قول الشافعي . والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة رحمه الله، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن مس الذكر لا ينقض الوضوء. فعندنا رأيان في هذه المسألة، ولكل من الرأيين دليل. أما الذين قالوا بأن مس الذكر ينقض الوضوء؛ فاستدلوا بحديث بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مس ذكره فليتوضأ )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والدارمي والدارقطني .. وغيرهم، وهذا الحديث له شواهد، فله شاهد من حديث أبي هريرة وحديث أم حبيبة وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وقد ذكر الترمذي رحمه الله أنه روي عن سبعة من الصحابة، وهو حديث ثابت. ودليل من قال بأن مس الذكر لا ينقض الوضوء، ما رواه قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يمس ذكره في الصلاة؟ فقال: وهل هو إلا بضعة منك؟ ) يعني: قطعة منك، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وغيرهم، وأيضاً ورد له شاهد من حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، لكن حديث أبي أمامة هذا في إسناده جعفر بن الزبير وهو متروك. وحديث طلق بن علي هذا صححه جمع من أهل العلم منهم علي بن المديني ، والطحاوي وغيرهم، فإسناده ثابت أيضاً إسناده حسن. فعندنا هذان الحديثان، حديث طلق بن علي ، وحديث بسرة ، واختلف المحدثون في ترجيح أحدهما على الآخر، فـيحيى بن معين رحمه الله كان يرجح حديث بسرة بنت صفوان ، وكذلك أيضاً أبو حاتم وأبو زرعة كل منهم يضعف حديث طلق بن علي ، ويرجحون عليه حديث بسرة بنت صفوان . وقد وقعت مناظرة بين يحيى بن معين رحمه الله وبين علي بن المديني ، فـعلي بن المديني يرى حديث طلق بن علي حسناً، ويرجحه على حديث بسرة ، ويحيى بن معين يرجح حديث بسرة على حديث طلق بن علي . والأقرب في ذلك أن حديث طلق بن علي ثابت وأنه حسن، كما سبق لنا حسنه علي بن المديني رحمه الله وهو إمام معتبر، وصححه الطحاوي وغيرهم من أهل العلم.وعلى هذا يجمع بين الحديثين أنه يستحب للإنسان إذا مس ذكره أن يتوضأ، ولا يجب عليه، جمعاً بين الحديثين، والأحوط للإنسان أن يتوضأ إذا مس ذكره؛ لأن أكثر الصحابة على أن مس الذكر يوجب الوضوء، أو أن الإنسان يتوضأ من مس الذكر.نقول: إن حديث بسرة : ( من مس ذكره فليتوضأ ) هذا محمول على الاستحباب؛ ويدل لذلك حديث طلق بن علي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: ( وهل هو إلا بضعة منك؟ )، ولا يمكن النسخ، يعني: كما قال بعض العلماء بأن حديث بسرة متأخر، وحديث طلق بن علي متقدم، فحديث بسرة ينسخ حديث طلق بن علي ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام علل بعلة ما يمكن أن تنسخ، قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وهل هو إلا بضعة منك؟ ) هذه علة لا يمكن أن تنسخ أبداً.فالأقرب في ذلك أن مس الذكر لا ينقض الوضوء، كما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وحديث بسرة هذا يحمل على الاستحباب والاحتياط، أحوط للإنسان كما ورد عن أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم.وقوله: (بيده) المراد باليد كما أسلفنا الكف، وعلى هذا فلو أنه مس ذكره برجله، أو مس ذكره بذراعه، أو بغير ذلك من أعضاء بدنه فإن هذا لا ينقض الوضوء، لا ينتقض الوضوء إلا إذا مس ذكره بكفه بلا حائل. وقول المؤلف أيضاً لمس الذكر، هذا يخرج ما إذا لمس الأنثيين، فلو لمس الأنثيين فإن ذلك لا ينقض الوضوء، وإنما الذي ينقض الوضوء هو فقط لمس الذكر إذا قلنا بما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، وإذا رجحنا مذهب أبي حنيفة وأن مس الذكر لا ينقض الوضوء فسواء مس ذكره أو مس أنثييه .. إلخ، فإن هذا لا ينتقض وضوءه.

مس المرأة بشهوة

قال المؤلف رحمه الله: [ولمس امرأة بشهوة].هذا الناقض الخامس: أن يمس امرأة بشهوة بلا حائل، وهنا عبر المؤلف رحمه الله بقوله: (ولمس) بالنسبة لمس الذكر لا يحصل النقض إلا بالكف فقط خاصة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( من أفضى بيده ) فإن النبي عليه الصلاة والسلام نص على اليد، وهنا بالنسبة للأنثى إذا مس الأنثى لشهوة، سواء كان ذلك باليد أو بسائر أجزاء البدن، فإنه ينتقض وضوءه على ما ذهب إليه المؤلف. فلو أنه رجله مست رجل زوجته بشهوة انتقض وضوءه، أو أن يده مست يد امرأته بشهوة، أو أي جزء من أجزاء البدن مس جزءاً من أجزاء بدن هذه المرأة بشهوة بلا حائل فإنه ينتقض وضوءه، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى. والرأي الثاني: رأي الشافعي وهو أوسع من هذا، وهو أن مس الأنثى مطلقاً ينقض الوضوء، سواء مس بشهوة أو كان ذلك بغير شهوة.والرأي الثالث: أن مس الأنثى مطلقاً لا ينقض الوضوء، سواء كان ذلك بشهوة أو كان بغير شهوة، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وهو أرجح الأقوال.ولكل من هذه الأقوال دليل، أما الحنابلة الذين فصلوا قالوا: إن مس لشهوة فإنه ينتقض وضوءه، وإن كان لغير شهوة فإنه لا ينتقض وضوءه؛ فاستدلوا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم -في الصحيحين- كان يصلي من الليل، فإذا أراد السجود غمزها، فكفت رجلها )، وهنا مس النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: بأن هذا المس كان لغير شهوة، فلا ينتقض الوضوء. وأيضاً ما ثبت من حديث عائشة في صحيح مسلم : ( أنها خرجت تبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فوقعت يدي على قدميه، وهما منصوبتان، وهو ساجد )، فهنا وقعت يدها على قدمي النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينتقض وضوءه. وأما كونه ينتقض إذا كان لشهوة، قالوا: إن مس المرأة لشهوة هذا مظنة خروج الخارج، وإذا كان مظنة لخروج شيء من الإنسان خروج مذي مثلاً من الإنسان فإنه ينتقض الوضوء كالنوم، فإن النوم ينقض الوضوء؛ لأنه مظنة خروج الريح من الدبر، لما تقدم لنا من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء ). وأما بالنسبة لما ذهب إليه الشافعي وأن مس الأنثى ينقض مطلقاً فاستدل بقول الله سبحانه وتعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]، وهذا يشمل مس المرأة سواء كان ذلك لشهوة أو كان لغير شهوة. وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله أن المرأة لا ينقض الوضوء فاستدل بما تقدم من حديث عائشة في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل، فإذا سجد غمزها، فكفت رجلها )، وأيضاً ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة : ( أنها ذهبت تبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم فوقعت يدها على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد ). وهذه الأدلة تدل على أن مس الأنثى سواء كان ذلك لشهوة أو لغير شهوة فإنه لا ينقض الوضوء، وهذا القول هو الصواب, وأيضاً مما يؤيد ذلك عدم الدليل على النقض، فليس هناك دليل يدل على نقض الطهارة بمس المرأة، والطهارة ارتفعت بمقتضى دليل شرعي، فلا بد من دليل شرعي على نقض الوضوء. وأما قول الله عز وجل: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43] فإن المراد بالملامسة هنا الجماع؛ كما فسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإسناد صحيح. وقد ورد في سنن أبي داود من حديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قبلها وصلى ولم يتوضأ )، لكن هذا الحديث مرسل، قال أبو داود : إبراهيم النخعي رواه عن عائشة وإبراهيم النخعي لم يسمع من عائشة رضي الله تعالى عنها.

الردة عن الإسلام

قال المؤلف رحمه الله: [والردة عن الإسلام].هذا الناقض السادس: الردة عن الإسلام، فإذا ارتد الإنسان بطلت طهارته, وهذا ما ذهب إليه المؤلف؛ ودليل ذلك قول الله عز وجل: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65].وجمهور أهل العلم على أن الردة عن الإسلام لا تبطل الوضوء؛ لأن الأصل بقاء الطهارة، لكن يأتينا إن شاء الله أن الكافر إذا أسلم فإنه يجب عليه أن يغتسل.

أكل لحم الجزور

قال المؤلف رحمه الله: [وأكل لحم الجزور].هذا الناقض السابع من نواقض الطهارة.قال المؤلف رحمه الله: [(لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم توضئوا منها. قيل: أفنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ)]. أكل لحم الجزور هل هو ناقض أو ليس ناقضاً؟ للعلماء في ذلك رأيان: الرأي الأول: ما مشى عليه المؤلف رحمه الله، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد أن أكل لحم الجزور ناقض، قال الإمام أحمد رحمه الله فيه حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديث جابر بن سمرة وحديث البراء بن عازب ، أما حديث جابر ففي صحيح مسلم : ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم توضأ من لحوم الإبل )، وهذا في صحيح مسلم ، أيضاً حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه: ( توضئوا من لحوم الإبل )، ففيه حديثان صحيحان كما قال الإمام أحمد رحمه الله. أكثر أهل العلم -الأئمة الثلاثة- على أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء؛ واستدلوا بحديث جابر في السنن أنه قال: ( كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار ), ويدخل في ذلك لحم الإبل، ويجاب عنه بجوابين:الجواب الأول: أن هذا الحديث لا يثبت بهذا اللفظ، بل بلفظ: ( أكل من كتف شاة ثم دعي إلى الصلاة فقام النبي عليه الصلاة والسلام فصلى )، هذا الجواب الأول.الجواب الثاني: على فرض ثبوته فنقول: بأن حديث جابر بن سمرة ، حديث البراء بن عازب مقدم على هذا الحديث؛ لأنه أخص، فنقول: ترك الوضوء مما مست النار يستثنى من ذلك لحم الإبل؛ لدلالة حديث جابر بن سمرة ، وحديث البراء بن عازب ، ولذلك أكثر أهل الحديث على ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله أن أكل لحم الجزور يبطل الوضوء. قال المؤلف رحمه الله: (وأكل لحم الجزور) فقال: لحم، ما المراد باللحم؟ المراد باللحم الهبر، وعلى هذا فبقية أجزاء الجزور لا ينقض الوضوء، فلو أكل الإنسان كبداً أو كلية أو قلباً أو لحم رأس أو مصراناً أو كرشاً أو نحو ذلك من غير اللحم فإنه لا ينتقض وضوءه، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وأن النقض خاص فقط في الهبر، أما بقية الأجزاء فإنها لا تنقض. والرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله، وهو اختيار الشيخ السعدي أن بقية أجزاء الإبل تنقض الوضوء، فإذا أكل الإنسان كبداً أو كرشاً أو كلية أو قلباً أو مصراناً أو لحم رأس أو نحو ذلك فإن هذه الأشياء أيضاً تنقض الوضوء، وألحقوا هذه الأشياء بالهبر. أما بالنسبة للمذهب فاستدلوا بحديث جابر وحديث البراء ، فإن الحديث إنما ورد في اللحم، والكرش هذا ليس لحماً، والمصران ليس لحماً، والكبد ليس لحماً. أما الذين قالوا بأنها تنقض، فقالوا بأنه لا يوجد في الشريعة حيوان يختلف حكمه حلاً وحرمة ونجاسة وطهارة، إما أن يكون حلالاً وإما أن يكون حراماً، إما أن تكون جميع أجزائه ناقضة، أو تكون جميع أجزائه ليست ناقضة .. إلخ، هكذا استدلوا. والدليل الثاني: قالوا: إن هذه الأشياء التي قيل بأنها لا تنقض منها ما يدخل في مسمى اللحم، مثل لحم الرأس، لحم الرأس هذا يدخل في مسمى اللحم، وأنتم أخرجتموه، فإذا كان كذلك فإنه يدخل في الأحاديث.والأحو للإنسان أن يتوضأ من هذه الأشياء، يعني: إذا أكل كبداً، أو كرشاً أو نحو ذلك نقول: الأحوط للإنسان أن يتوضأ من هذه الأشياء. وقال المؤلف رحمه الله: (وأكل لحم الجزور) هذا يصدق على القليل والكثير؛ لأنه لو أكل شيئاً كثيراً، أو أكل شيئاً يسيراً، فإن هذا كله مما ينقض الوضوء، وكذلك أيضاً سواء كان هذا اللحم مطبوخاً أو نيئاً هذا كله ينقض الوضوء.

الشك في الطهارة والحدث

قال المؤلف رحمه الله: [ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو على ما تيقن].إذا كان الإنسان متطهراً ثم شك هل أحدث أو لم يحدث؟ هل نام نوماً مستغرقاً أو النوم حتى الآن ليس مستغرقاً؟فنقول: الأصل بقاء الطهارة، أو كان محدثاً ثم شك، هل توضأ أو لم يتوضأ؟ نقول: الأصل بقاء الحدث، هذا يندرج تحت قاعدة اليقين لا يزول بالشك. ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة : ( إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً، فأشكل عليه هل خرج منه شيء أو لم يخرج منه شيء فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأيضاً يدل لذلك حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه في الصحيحين.

ما يحرم على المحدث

قبل أن ننتقل إلى الباب الآخر، بقي عندنا مسألة، وهذه المسألة ما هي الأشياء التي تحرم على المحدث؟ نقول: ذكر العلماء رحمهم الله أشياء تحرم على المحدث: الأول: الصلاة؛ فالصلاة محرمة على المحدث، سواء كانت نافلة أو فريضة، وضابط الصلاة التي تجب لها الطهارة كما ذكر ابن القيم رحمه الله هي المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، فيدخل في ذلك صلاة النافلة، والفريضة وصلاة الجنازة وصلاة العيدين والاستسقاء .. إلخ. ويدل ذلك حديث علي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم )، وهذا إسناده حسن، فضابط الصلاة التي تشترط لها الطهارة هي المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، يخرج عندنا سجود التلاوة، سجود الشكر، هذه الأشياء ليست صلاة؛ لأنها ليست داخلة تحت هذا الضابط الذي يدل عليه حديث علي رضي الله تعالى عنه. وعلى هذا لو قرأ الإنسان عن ظهر قلب، ثم مر بسجدة تلاوة فإنه يسجد، أو حصل له نعمة، أو انكشفت عنه نقمة فإنه يسجد حتى لو كان محدثاً، هذا الأمر الأول. الأمر الثاني: مس المصحف؛ فالمصحف لا يجوز للإنسان أن يمسه إلا بطهارة، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم رحمهم الله خلافاً للظاهرية؛ ويدل لذلك حديث عمرو بن حزم رضي الله تعالى عنه، وفيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه: أن لا يمس القرآن إلا طاهر )، وهذا الحديث ثبت موصولاً للنبي صلى الله عليه وسلم, وله شواهد من حديث حكيم بن حزام ، وحديث ابن عمر وغيرها، فهو ثابت. وأيضاً يدل لذلك دلالة إشارة قول الله عز وجل: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، حتى ولو قلنا بأن المراد بالمطهرين هم الملائكة فإنه يدل بالإشارة إلى أن غير المتطهر من بني آدم لا يمس القرآن. الأمر الثالث مما يحرم على المحدث: الطواف؛ والطواف هذا موضع خلاف، هل يجوز للإنسان أن يطوف وهو محدث أو لا يجوز أو تشترط الطهارة ؟ الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي والإمام أحمد : أنه تشترط الطهارة للطواف؛ لحديث عائشة في الصحيحين قالت: ( أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم توضأ ثم طاف ). وهذا الحديث في الصحيحين، وأيضاً ما يروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الطواف بالبيت صلاة ) لكن هذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لا يصح رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم. والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة رحمه الله، يفصل في المسألة إذا طاف على غير طهارة، يقول: إذا خرج من مكة لزمه دم، وإن كان في مكة أمر بالإعادة. والرأي الثالث: أنه لا تشترط الطهارة للطواف؛ وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأنه تستحب الطهارة ولا تشترط، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الذين أوجبوا الطهارة للطواف ليس معهم دليل أصلاً، إذ لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترط الطهارة للطواف، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقبل طواف أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ كما قال في الصلاة. وإنما الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أراد الطواف توضأ، وهكذا هدي النبي عليه الصلاة والسلام، يتوضأ حتى للذكر، ولهذا لما أراد أن يرد السلام أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على الجدار وتيمم عليه ورد السلام، وقال أيضاً: ( كرهت أن أذكر الله إلا على طهر ). وعلى هذا نقول: الأحوط للإنسان أن يتوضأ، لكن لو أن الإنسان سبقه الحدث، مثلاً في الزحام سبقه الحدث، فيظهر أنه لا يجب عليه أن يذهب ويخرج ويتوضأ، أو أنه نسي الإنسان وطاف على غير طهارة فنقول: إن شاء الله طوافه صحيح، أو سبقه الحدث وهو يطوف، نقول: طوافه صحيح إن شاء الله.والأحوط للإنسان إذا أراد أن يطوف أن يفعل هدي النبي عليه الصلاة والسلام، إذا أراد أن يطوف يتوضأ، لكن كما أسلفت لو سبقه ونسي فهذه إن شاء الله لا يجب عليه أن يعيد.

الغسل من الجنابة

قال المؤلف رحمه الله: [باب: الغسل من الجنابة].مناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة؛ لأن المؤلف رحمه الله لما ذكر الحدث الأصغر، وذكر موجباته، ولما ذكر الوضوء، وكيفيته وشروطه وفروضه ونواقضه شرع الآن إلى ما يتعلق بالحدث الأكبر، وما هي موجباته، وكيفية التطهر منه.والغسل من الجنابة: هو التعبد لله عز وجل بغسل البدن على وجه مخصوص لأشياء مخصوصة.والأصل فيه القرآن والسنة والإجماع كما سيأتينا, أما القرآن فقول الله عز وجل: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، وأيضاً من السنة حديث عائشة وحديث ميمونة وحديث عمران وغيرها في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم، والإجماع قائم على ذلك.
موجبات الغسل
قال المؤلف رحمه الله: [والموجب له خروج المني وهو الماء الدافق].الموجب للغسل أشياء:

الموجب الأول: خروج المني

الأول: خروج المني؛ فقال المؤلف رحمه الله: (وهو الماء الدافق). يشترط لهذا المني لكي يوجب الغسل شروط: الشرط الأول: أن يكون دافقاً، وعبر بعض العلماء بقوله: أن يكون خروجه بلذة، وعلى هذا إذا خرج هذا الماء بغير لذة، بغير دفق، خرج إما لشدة برد أو لمرض أو لغير ذلك، هذا لا يجب الغسل، وإنما يتوضأ الإنسان وضوءه للصلاة فقط. وهذا الماء كما سبق لنا أنه ماء طاهر، فلا يجب على الإنسان أن يستنجي، يعني: لا يجب عليه أن يغسل ذكره؛ لأنه طاهر، وإنما يتوضأ وضوءه للصلاة، لأنه تقدم لنا أن الخارج المعتاد ينقض الوضوء، هذا الشرط الأول: أن يكون بلذة, وأن يكون خروجه دفقاً. ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لـعلي : ( إذا نضحت الماء فاغتسل )، قال العلماء رحمهم الله: نضح الماء خروجه عن طريق الغلبة، ومعنى خروجه عن طريق الغلبة يعني: عن طريق الشهوة، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي والإمام أحمد رحمه الله، وصححه ابن حبان والنووي وابن خزيمة وغيرهم. هذا الشرط الأول: أن يكون بلذة, أو يكون دافقاً، وذكرنا دليل ذلك. الشرط الثاني: أن يخرج من مخرجه، فإن خرج من غير مخرجه فلا يوجب الغسل، وعلى هذا لو أن صلب الإنسان انكسر، أو أجرى الإنسان عملية مع ظهره .. إلخ. فخرج هذا الماء، فإنه لا يوجب الغسل. الشرط الثالث: أن يكون في حال اليقظة، أما في حال النوم إذا وجد الإنسان بللاً في ثيابه فهذا له ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يتيقن أنه مني، لكونه يعرف المني، فنقول هنا: يجب عليه أن يغتسل مطلقاً، سواء ذكر احتلاماً في منامه أو لم يذكر احتلاماً في منامه، يعني: سواء تذكر أنه خرج منه المني في منامه أو رأى أنه يجامع في منامه أو لم ير ذلك، المهم ما دام أنه تيقن أنه مني فإنه يجب عليه أن يغتسل، هذه الحالة الأولى. الحالة الثانية: أن يتيقن أن هذا البلل ليس منياً، فنقول: لا يجب عليك أن تغتسل، لكن يغسل الإنسان ذكره وأنثييه ويطهر ما أصابه. الحالة الثالثة: أن يشك في هذا الماء، لا يدري هل هو مني أو مذي؟ شك فيه فنقول: إن ذكر في منامه أنه احتلم وأنه جامع ونحو ذلك، فنقول: يجعله منياً ويغتسل، وإن لم يذكر احتلاماً فلا يجب عليه الغسل، لكن يتوضأ ويطهر ما أصابه. فأصبح إذا رأى الإنسان ماءً في منامه له هذه الحالات الثلاث: أن يتيقن أنه مني فيجب عليه أن يغتسل، أن يتيقن أنه ليس منياً فلا يجب عليه أن يغتسل، أن يشك فيه، فإذا شك فيه فإن ذكر احتلاماً وجب عليه أن يغتسل، وإن لم يذكر احتلاماً نقول: لا يجب عليك أن تغتسل، وإنما يغسل ذكره ويتوضأ وضوءه للصلاة. قال المؤلف رحمه الله: (خروج المني)، فإن المني لا يوجب الغسل حتى يخرج، وعلى هذا الإنسان إذا أحس بانتقال المني، لكنه لم يخرج، إما لكونه حبسه أو لكونه لا يحبسه، فإنه لا يجب عليه الغسل حتى يخرج منه؛ ويدل لذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام لـأم سليم لما قالت: ( هل على المرأة غسل إذا احتلمت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إذا هي رأت الماء )، وهذا في الصحيحين. هذا الأمر الأول من النواقض، وهو خروج الماء، وهو ناقض بإجماع المسلمين؛ ويدل له ما تقدم من حديث أم سليم ، وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الماء من الماء ) كما في حديث أبي سعيد في صحيح مسلم رحمه الله.

الموجب الثاني: التقاء الختانين

قال المؤلف رحمه الله: [والتقاء الختانين]هذا الموجب الثاني من موجبات الغسل، التقاء الختانين، والمراد بالتقاء الختانين: هو أن يغيب الزوج حشفته في فرج زوجته، والمراد بالحشفة هي رأس الذكر التي تقوم عليها الجلدة التي تقطع عند الختان، فإذا غيب هذه الحشفة في فرج زوجته، فإنه يحصل التقاء الختانين، إذا حصل تغييب الحشفة مع حد القطع بالنسبة للمرأة، فهنا يلتقي الختانان. وليس المراد بالتقاء الختانين هو مس الفرج بالفرج، فمس الفرج بالفرج لا يوجب الغسل، يعني: إذا فرج الزوج مس فرج زوجته هذا لا يوجب الغسل، لكن الذي يوجب الغسل هو أن يحصل تغييب للحشفة، والمراد بالحشفة ليست كل الذكر، وإنما هي رأس الذكر التي تكون عليها الجلدة التي تقطع عند الختان، فإذا حصل هذا التغييب هذا يمس حد القطع بالنسبة للزوجة، فيحصل التقاء الختانين. والتقاء الختانين هذا موجب من موجبات الغسل وإن لم يحصل إنزال، ولا بد أيضاً من تغييب جميع الحشفة، أما إذا غيب شيئاً من الحشفة فإن هذا لا يوجب الغسل، إنما يوجب الغسل إذا حصل تغييب الحشفة, وحصل التقاء الختانين. وقول المؤلف رحمه الله: التقاء الختانين وإن لم يحصل إنزال، هذا ما عليه جماهير العلماء رحمهم الله؛ ويدل لذلك حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان وجب الغسل )، وتقدم لنا كيف يمس الختان، وفي لفظ: ( إذا جاوز الختان الختان )، وفي لفظ عند مسلم أيضاً: ( وإن لم ينزل ). والرأي الثاني: أنه لا يجب الغسل إلا مع الإنزال؛ لحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الماء من الماء ) يعني: لا يجب ماء الغسل إلا إذا خرج ماء الإنزال، هذا هو الرأي الثاني، وقد ورد عن جمع من الصحابة، ورد عن عثمان وعلي وطلحة والزبير وأبي بن كعب ، ورد عنهم أن التقاء الختانين لا يوجب الغسل إلا مع الإنزال، وثبت عن أكثرهم أنه رجع. وعلى هذا نقول: يجب على الإنسان أن يغتسل حتى ولو لم يحصل الإنزال، وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( الماء من الماء ) فهذا في أول الإسلام كانوا كما في حديث أبي بن كعب لا يجب على الإنسان غسل إلا إذا حصل منه إنزال، ثم نسخ ذلك، ولذلك في حديث أبي هريرة : ( إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان وجب الغسل ) في لفظ لـمسلم : ( وإن لم ينزل ). ذكر المؤلف رحمه الله موجبين من موجبات الغسل، وهناك موجبات أخرى لم يتعرض لها المؤلف، فنقول:

الموجب الثالث والرابع: خروج دم الحيض والنفاس

الموجب الثالث والرابع: خروج دم الحيض، وخروج دم النفاس؛ وهذا سيأتينا إن شاء الله قريباً في باب الحيض والنفاس؛ ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، قال: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222] وهذا التطهر إنما يكون من غسل، وأيضاً السنة بينت ذلك كما في حديث عائشة .. إلخ، والإجماع قائم على ذلك.

الموجب الخامس: إسلام الكافر

الخامس: إسلام الكافر، هل هو موجب للغسل أو ليس موجباً للغسل؟ هذا فيه خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى، فالمشهور من المذهب أن إسلام الكافر يوجب الغسل؛ ويدل لذلك أدلة، من هذه الأدلة حديث قيس بن عاصم : ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغتسل ) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ، وهو حسن، وكون النبي عليه الصلاة والسلام أمر قيساً بن عاصم أن يغتسل، هذا يدل على وجوب الغسل. وأيضاً قصة ثمامة بن أثال كما في الصحيحين، ( فإنه لما أسلم ذهب واغتسل )، بل في مصنف عبد الرزاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اذهبوا به إلى حائط أبي طلحة ، وأمره أن يغتسل )، هذا هو المشهور من المذهب.الرأي الثاني: أنه لا يجب أن يغتسل، هذا مذهب أبي حنيفة ، واستدلوا على ذلك بأدلة, منها: قول الله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، وأيضاً حديث عمرو بن العاص في صحيح مسلم : ( إن الإسلام يجب ما قبله )، وأكثر الذين أسلموا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم بالغسل.الرأي الثالث: رأي الشافعي رحمه الله قال: إن أجنب في حال كفره وجب عليه أن يغتسل، وإن لم يجنب في حال كفره لا يجب عليه أن يغتسل. يعني: يقول الشافعي : إذا حصل منه جنابة في حال كفره يجب عليه أن يغتسل ولو اغتسل في حال الكفر؛ لأن الغسل في حال الكفر غير معتبر؛ لأنه يشترط في الغسل النية، وهذا الكافر لا تصح منه النية.والأحوط في ذلك: ما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله بأن الإنسان إذا أسلم فإنه يغتسل؛ لأن أمر النبي عليه الصلاة والسلام للواحد من الأمة أمر لجميع الأمة، وكونه لم ينقل -كما ذكر الحنفية- أن أكثر الذين أسلموا لم يعهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالاغتسال، نقول: عدم النقل ليس نقلاً للعدم. فالأحوط في ذلك ما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله.

الموجب السادس: الموت

الموجب السادس: الموت، ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الذي وقصته ناقته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ) في الصحيحين، وأيضاً حديث أم عطية في اللاتي غسلن ابنته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك )، فقوله: ( اغسلن ) هذا أمر.هذا بالنسبة لموجبات الغسل، تتلخص لنا موجبات الغسل: خروج المني، والتقاء الختانين، وإسلام الكافر، والحيض والنفاس، والموت.

كيفية الغسل

قال المؤلف رحمه الله: [والواجب فيه النية وتعميم بدنه بالغسل مع المضمضة والاستنشاق، وتسن التسمية, ويدلك بدنه بيديه, ويفعل كما روت ميمونة .. إلخ].شرع المؤلف رحمه الله في بيان كيفية الغسل، وذكر أنه تجب فيه النية، وهذا دليله ظاهر حديث عمر رضي الله تعالى عنه: ( إنما الأعمال بالنيات )؛ لأن الإنسان يعمم قد يقصد التبرد وقد يقصد التنظف وقد يقصد العبادة، فلا بد من النية التي تميز العبادة من العادة، والغسل له كيفيتان: كيفية مسنونة كاملة، وكيفية مجزئة. والكيفية المسنونة الكاملة هي التي اشتملت على الشروط، والواجبات، والمستحبات.والك فية المجزئة هي التي اشتملت على الشروط والواجبات.فالكي ية الكاملة كما ذكر المؤلف رحمه الله في حديث ميمونة وعائشة يستحب الإنسان أولاً أن يتوضأ وضوءه للصلاة تماماً، وهل يغسل رجليه أو لا يغسل رجليه؟ هذا سيأتينا إن شاء الله، فيتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه .. إلخ كما تقدم في صفاته، ثم بعد ذلك يغسل رأسه ثلاث مرات كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، ثم بعد ذلك يغسل سائر بدنه مرة واحدة، يبدأ بالجانب الأيمن ثم بالجانب الأيسر، ثم بعد ذلك يأتي بأذكار الوضوء السابقة، فإنها تشرع عند نهاية الغسل، هذه الكيفية الكاملة. لكن بالنسبة للكيفية الكاملة يستحب للإنسان أن يغسل رجليه في بعض الأحيان كما في حديث عائشة ، وفي حديث ميمونة : ( ثم تنحى وغسل رجليه ) يعني: في بعض الأحيان تتوضأ وضوءك كاملاً وتغسل رجليك، وفي بعض الأحيان يستحب أن تتوضأ وضوءاً كاملاً وتترك غسل رجليك.المشهور من المذهب أن الإنسان في الغسل الكامل يستحب أن يغسل قدميه مرتين، يعني: تتوضأ وضوءاً كاملاً, وتغسل قدميك، ثم بعد ذلك تغتسل وتغسل قدميك، يعني: يقولون: يستحب أن تغسل قدميك مرتين، هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم رحمهم الله. والأقرب في ذلك التنويع، وأن الإنسان في بعض الأحيان يتوضأ وضوءاً كاملاً ويترك غسل قدميه حتى نهاية الغسل، وفي بعض الأحيان يتوضأ وضوءاً كاملاً ويغسل قدميه، فتارة يفعل هذا وتارة يفعل هذا، ويكون قد عمل بالسنة كلها؛ لأنه ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( أنه غسل قدميه مع الوضوء )، وورد أيضاً: ( أنه ترك غسل قدميه ) كما في حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها قالت: ( فتوضأ وضوءه للصلاة غير رجليه ).فبعض العلماء حمله على التنويع، قال: يستحب أن يفعل هذا تارة ويستحب أن يفعل هذا تارة، وبعض العلماء حمل قولها: (غير رجليه) على أن المكان غير مناسب، إما لكونه فيه طين أو تراب أو غير ذلك، فإذا كان المكان كذلك فإنه يؤخر غسل القدمين في آخر الغسل. وبعض العلماء قال كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: يستحب أن يغسل القدمين مرتين لكي يأتي بالحديثين، حديث ميمونة وحديث عائشة. لكن الصواب والأقرب -والله أعلم- أن هذا على سبيل التنويع، فإن الإنسان في بعض الأحيان يغسل قدميه، وفي بعض الأحيان يترك غسل قدميه، هذا بالنسبة للكيفية الكاملة. وأما بالنسبة للكيفية المجزئة فهي أن ينوي ويعم بدنه بالماء ويتمضمض ويستنشق، إذا عم بدنه بالماء ومضمض واستنشق كفى ذلك، وسواء تمضمض في أول الغسل أو في أثناء الغسل أو في آخر الغسل يحصل له ارتفاع الحدث.قال المؤلف رحمه الله: (وتسن التسمية).تقدم الكلام عن التسمية .. إلخ.قال المؤلف رحمه الله: (ويدلك بدنه بيديه ويفعل كما روت ميمونة .. إلخ).يدلك بدنه بيديه, الدلك هذا مستحب، وقد ورد عن الإمام مالك رحمه الله أنه أوجبه، ويحمل ما ورد عن الإمام مالك رحمه الله إيجاب الدلك أنه يجب في موضع يظن أنه لا يصل إليه الماء، يعني: لو كان هناك موضع لا يصل إليه الماء فإنه يدلك, أما إذا ظن أنه وصل الماء فلا يجب الدلك. مثلاً: يدلك ظهره أو بطنه أو رجليه .. إلخ، المهم يكفي في ذلك الظن؛ ولذلك في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ( حتى إذا ظن أنه روى بشرته )، فإذا حصل الظن فإن ذلك كاف.

نقض الشعر في الغسل

قال المؤلف رحمه الله: [ولا يجب نقض الشعر في غسل إذا روى أصوله].ويدل لذلك حديث أم سلمة أنها قالت: ( يا رسول الله! إني أشد ظفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين )، وهذا في صحيح مسلم . وقول المؤلف رحمه الله: (ولا يجب نقض الشعر في غسل الجنابة) يفهم من كلامه أنه يجب النقض في غسل الحيض والنفاس، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله. والصواب في هذا أنه لا يجب نقض الشعر لا في غسل الجنابة، ولا في غسل الحيض؛ ويدل لذلك أيضاً ما في صحيح مسلم : ( أن أم سلمة رضي الله تعالى عنه قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: أفأنقضه للحيضة؟ قال: لا. لما سألته عن غسل الجنابة قال: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين ). وأيضاً في صحيح مسلم : ( لما سألته عن الحيضة قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا ).

الغسل عن الحدثين الأكبر والأصغر

قال المؤلف رحمه الله: [وإذا نوى بغسله الطهارتين أجزأ عنهما].النية في الغسل لها صور: الصورة الأولى ذكرها المؤلف رحمه الله قال: (أن ينوي بغسله الطهارتين) يعني: هذا الإنسان اغتسل ونوى بغسله أن يرفع الحدث الأكبر والحدث الأصغر، عليه مثلاً جنابة من خروج مني أو عن جماع، أو امرأة حائض أو نحو ذلك، فهذا إذا نوى بغسله الحدثين الأكبر والأصغر فإنهما يرتفعان، هذه الصورة الأولى. الصورة الثانية: أن ينوي رفع الحدث الأكبر، هل يرتفع الأصغر أو لا يرتفع الأصغر؟ فالمشهور من المذهب أنه لا يرتفع الأصغر، يعني: عمم بدنه بالماء وقد نوى أن يرفع الحدث الأكبر فإن الأصغر لا يرتفع، فيجب عليه أن يتوضأ.وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه إذا نوى رفع الأكبر فإنه يرتفع الأصغر، وهذا هو الصواب في هذه المسألة، فنقول: إذا نوى أن يرفع الحدث الأكبر فإنه يرتفع حدثه الأصغر، وعلى هذا إذا نوى أن يغتسل من الجنابة فإنه يرتفع حدثه الأكبر والأصغر ويرتفع بذلك. الصورة الثالثة: أن ينوي غسلاً مسنوناً، فإنه يجزئ عن الغسل الواجب، مثلاً: الإنسان استيقظ يوم العيد وعليه جنابة، واغتسل غسل العيدين، غسل العيدين غسل مستحب، فإنه يرتفع الواجب، ويجزئ هذا المسنون عن الواجب.الصورة الرابعة: أن ينوي غسلاً واجباً فإنه يكفي عن الغسل المسنون، مثلاً لو استيقظ يوم العيد وهو جنب، واغتسل من جنابة فإن هذا يكفيه عن الغسل المستحب. ومثل ذلك أيضاً: لو استيقظ يوم الجمعة ووجد أن عليه جنابة، واغتسل ينوي به غسل الجمعة وغسل الجنابة نقول: بأن هذا كاف، فإن نوى غسل الجنابة نقول: بأن هذا يكفي؛ لأن هذا من باب تداخل العبادات. وتداخل العبادات الضابط في ذلك: أن العبادة الثانية إذا كانت غير مقصودة لذاتها فإنها تندرج تحت العبادة الأولى، فالمقصود من ذلك تعميم البدن والنظافة، تطهير البدن وتنظيفه، فيكفيه غسل واحد. الصورة الخامسة: أن ينوي رفع الحدث ويطلقه، فنقول: يرتفع الحدثان عنه، يرتفع الحدث الأصغر وكذلك أيضاً الحدث الأكبر.
التيمم عن الحدثين الأكبر والأصغر
قال: [وكذلك لو تيمم للحدثين والنجاسة على بدنه أجزأ عن جميعها].لو تيمم للحدثين، الإنسان عليه حدث أكبر وعليه حدث أصغر، وعليه نجاسة على بدنه، فتيمم ينوي بهذا التيمم الحدث الأكبر والأصغر والنجاسة، يقول المؤلف رحمه الله: يجزئ. وقول المؤلف رحمه الله: (والنجاسة على بدنه أجزأ) يؤخذ من كلامه أن التيمم عن النجاسة التي على البدن مشروع، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله. والصواب: أنه لا تيمم عن النجاسة، التيمم إنما ورد عن الحدث إما أكبر وإما أصغر، أما التيمم عن النجاسة التي على البدن فإن هذا غير مشروع, ولم يرد دليل في ذلك. فنقول: النجاسة التي على البدن يشرع للإنسان أن يزيلها، فإذا لم يتمكن أن يزيلها يخففها ما استطاع، أما كونه يتيمم عنها فنقول: بأن هذا غير مشروع. قال المؤلف رحمه الله: [وإن نوى بعضها فليس له إلا ما نوى].يعني: مثلاً نوى الحدث الأكبر لا يرتفع الأصغر، والصواب: أنه إذا نوى في التيمم أو بالغسل الحدث الأكبر فإنه يرتفع الحدث الأصغر، هذا هو الصواب. أما التيمم عن النجاسة فتقدم أنه غير مشروع، وإذا نوى بتيممه الحدث الأصغر فإنه لا يرتفع الحدث الأكبر، أو توضأ عن الحدث الأصغر فهذا ظاهر لا يرتفع الأكبر.وقول المؤلف رحمه الله: (وإن نوى بعضها فليس له إلا ما نوى). هذا ليس على إطلاقه، بل نقول: إذا نوى الأكبر فإنه يندرج تحته الأصغر، فإن ارتفع الأكبر ارتفع الأصغر، إذا تيمم عن الأكبر فإنه يرتفع الأصغر، أما لو تيمم عن الأصغر نوى بتيممه فقط الحدث الأصغر فإنه لا يرتفع الأكبر، انتهى الباب.

قراءة القرآن للجنب والحائض والنفساء

قبل أن ننتقل إلى باب التيمم بقي علينا مسألتان تتعلقان بالغسل. تقدم أن المحدث يحرم عليه الصلاة ومس المصحف والطواف على خلاف كما ذكرناه، ومن عليه جنابة يحرم عليه قراءة القرآن, أما بالنسبة للحائض والنفساء فالصواب: لا تحرم القراءة عليها، فعندنا جنب، وعندنا حائض أو نفساء، فالجنب إذا خرج منه المني أو حصل منه الجماع هل يحرم عليه قراءة القرآن أو لا يحرم عليه قراءة القرآن؟ جمهور أهل العلم أن قراءة القرآن محرمة عليه؛ ويدل لذلك حديث علي رضي الله تعالى عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً ) أخرجه الترمذي . واختلف أهل العلم رحمهم الله في إثباته، هل هو ثابت أو ليس ثابتاً؟ فصححه جمع من أهل العلم منهم ابن حبان ، وأيضاً الشيخ أحمد شاكر , حسنه الحافظ ابن حجر ، صححه ابن السكن والإشبيلي ، بعض العلماء ضعفه, مثل الشافعي والبيهقي والنووي ، وعلته عبد الله بن سلمة فإنه كبر وتغير، وهذا الحديث مما روي عنه بعد تغيره. وأيضاً: مما يدل أنه لا يجوز أنه ورد عن علي رضي الله تعالى عنه بإسناد صحيح في الدارقطني , وعلي من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بأخذ سنته: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ )، وأيضاً ورد من حديث ابن عمر لكن هذه الأحاديث ضعيفة. لكن عندنا أثر علي رضي الله تعالى عنه. وأما الذين قالوا بالإباحة أن الجنب يجوز له أن يقرأ القران، استدلوا بأن القران فعل خير, والله عز وجل أمر به، وليس هناك دليل على المنع: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، ( اقرأ القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه )، وهذا يشمل الجنب وغيره، ولم يأت دليل عليه. لكن الأحوط في ذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، ويكفي في ذلك -إذا قلنا بأن الحديث لا يثبت- وروده عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. أما الحائض والنفساء فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والإمام مالك قالا: إنه يجوز لهما قراءة القرآن، خلافاً لجمهور أهل العلم، وهذا القول هو الصواب؛ لأن الحديث في ذلك حديث ابن عمر : ( لا يقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن ) هذا ضعيف لا يثبت، ولم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه منع من ذلك. وقراءة القرآن فعل خير, قد أمر الله عز وجل به، وكذلك أيضاً أمر النبي صلى الله عليه وسلم: ( اقرأ القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه )، اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]. فالصواب في ذلك: أن الحائض والنفساء يجوز لهما قراءة القرآن، لكن مس المصحف كما تقدم لنا لا يجوز، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يجب على الحائض أن تقرأ القرآن إذا خشيت نسيانه.
غسل الجنب أو وضوءه قبل الأكل والشرب
المسألة الأخيرة: من عليه جنابة يستحب له أن لا يأكل أو يشرب حتى يغتسل أو يتوضأ، كما ورد بذلك حديث عائشة وحديث عمار رضي الله تعالى عنهما، فنقول: من عليه جنابة يستحب له أن لا يأكل ولا يشرب حتى يغتسل أو يتوضأ. كذلك أيضاً: إذا أراد أن يعاود الوطء يجامع مرة ثانية يستحب له أن لا يطأ حتى يتوضأ أو يغتسل.وأما بالنسبة للنوم فإنه يكره للإنسان أن ينام على جنابة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بذلك كما في حديث عمر رضي الله تعالى عنه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-18, 09:40 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الطهارة [7]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )


شرع الله التيمم رخصة لعباده ليزيل عنهم المشقة، وله كيفية ثبتت في السنة، كما أن له شروطاً يجمعها العجز عن استعمال الماء، ويحرم على الحائض الصلاة والصوم والطواف، واختلف الفقهاء في حكم قراءتها للقرآن الكريم.
التيمم

حكم التيمم

قال المؤلف رحمه الله: [باب: التيمم]. مناسبة هذا الباب لما قبله، أن المؤلف رحمه الله كما سبق ذكر الطهارة بالماء سواء كانت برفع الحدث الأصغر أو برفع الحدث الأكبر، ثم بعد ذلك ذكر ما ينوب عن الماء عند تعذر استعماله حقيقة أو حكماً وهو التيمم. فمناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة، فإن المؤلف رحمه الله ذكر الطهارة بالماء وهي الأصل, ثم بعد ذلك ذكر ما ينوب عن هذا الأصل وهو الطهارة بالصعيد الطيب, كما سيأتي بيانه إن شاء الله.والأصل في التيمم من حيث الدليل الكتاب, والسنة، والإجماع. أما الكتاب فقول الله عز وجل: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، أما السنة فأحاديث كثيرة كما سيأتينا في حديث عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه في الصحيحين؛ وفيه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما يكفيك هكذا, وضرب النبي عليه الصلاة والسلام بيديه على الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه ). وكذلك أيضاً حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، وذكر من هذا الخمس قال: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، وأيضاً حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء ). والإجماع قائم على مشروعية التيمم. والتيمم من خصائص هذه الأمة فإنه لم يكن موجوداً في الأمم السابقة، وإنما هو من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ودليل ذلك ما تقدم من حديث جابر رضي الله تعالى عنه وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعطيت خمساً لم يعطهن نبي من الأنبياء قبلي، وذكر منها النبي عليه الصلاة والسلام قال: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ).إن التيمم شرع رخصة وتسهيلاً على المكلف، فالأصل فيه التخفيف، وذلك أنه إنما شرع رخصة وتسهيلاً على المكلف، وإذا كان كذلك فإنه لا يشدد في صفته كما سيأتينا إن شاء الله؛ لأن التيمم إنما شرع للتسهيل ورفع الحرج والتخفيف على المكلف؛ كما قال الله عز وجل: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة:6].

صفة التيمم

قال المؤلف رحمه الله: [صفته أن يضرب بيديه على الصعيد الطيب].قوله: (صفته) أي كيفية، والمراد بالصعيد هو كل ما تصاعد على وجه الأرض، كما سيأتينا إن شاء الله في قول المؤلف رحمه الله لما ذكر الشروط: (الشرط الرابع: التراب)، فالصواب أنه يكون على كل ما تصاعد على وجه الأرض، سواء كان تراباً أو حجراً أو حصىً أو رملاً أو جبلاً .. إلخ، فكل ما تصاعد على وجه الأرض كل ما كان من جنس الأرض، فإنه يصح التيمم عليه.قال المؤلف رحمه الله: (الطيب) أي: الطاهر.قال: [ضربة واحدة، فيمسح بهما وجهه وكفيه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لـعمار : ( إنما يكفيك هكذا, وضرب بيديه على الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه )].هنا قال المؤلف رحمه الله: الصعيد الطيب كما سلف لنا أن التيمم ليس خاصاً بالتراب، كما سيأتي من التوضيح إن شاء الله، بل كل ما كان من جنس الأرض فإنه يصح لك أن تتيمم عليه. وأيضاً قال المؤلف رحمه الله: (ضربة واحدة)، هذا هو الصواب الذي دل له حديث عمار رضي الله تعالى عنه, يعني: أنه يكفي فيه ضربة واحدة، ولا يشترط أن يضرب أكثر من ضربة، وهذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، أنه يكفي في ذلك ضربة واحدة. ودليل ذلك ما أورده المؤلف رحمه الله من حديث عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه. كذلك أيضاً مما يدل لذلك ( أن النبي عليه الصلاة والسلام لما تيمم على الجدار ضرب النبي عليه الصلاة والسلام ضربة واحدة ). والرأي الثاني: أنه لا بد من ضربتين، وهذا عند أكثر أهل العلم، اشترطوا ضربتين؛ واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً, لكنه لا يثبت مرفوعاً للنبي عليه الصلاة والسلام وإنما هو موقوف على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وعلى هذا نقول الصحيح في هذه المسألة أنه يكفي ضربة واحدة. وأيضاً: كما تقدم لنا أنه لا يشترط التراب، وإنما يكفي أن يكون أي شيء من جنس الأرض، وسبق أن نبهنا على قاعدة, وهي: أن الأصل في التيمم أنه شرع للتخفيف والتسهيل ورفع الحرج، فإذا كان كذلك فلا نكثر من شروطه وتقييداته. فنقول: يكفي ضربة واحدة, ولا تشترط ضربتان، ويكفي ما تصاعد على وجه الأرض، ولا يشترط التراب، ويكفي أيضاً أن يمسح كفيه، ولا حاجة إلى أن يمسح الذراعين، وهذا قول المؤلف رحمه الله, وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد أنه يكفي في التيمم أن يمسح الكفين، ولا حاجة إلى أن يمسح المرفقين، كما هو قول الأئمة الثلاثة. ودليل ذلك حديث عمار بن ياسر وحديث أبي الجهيم : ( لما تيمم النبي صلى الله عليه وسلم على الجدار مسح يديه ). وأما ما ورد في حديث ابن عمر : ( التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة لليدين والمرفقين ). فقلنا: بأن هذا الحديث لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو موقوف على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فلا نشترط التراب، لا نشترط التعدد في الضربات، لا يشترط المسح إلى المرفقين، وإنما هو الكفين. أيضاً: هل يفرج بين أصابعه أو لا يفرج كما ذكر العلماء رحمهم الله؟ نقول: لا حاجة إلى ذلك، وإنما يضرب الصعيد ويمسح وجهه, وكذلك أيضاً يمسح كفيه, فهي عبادة شرعت للتخفيف، تضرب الصعيد ضربة واحدة, وتمسح الوجه وأيضاً تمسح الكفين.وأيضاً ذكر بعض العلماء رحمهم الله أن الإنسان يضرب الصعيد ويمسح أيضاً الوجه، وأما بالنسبة للشعر فنقول: بأنه لا يمسح، فإذا كان الإنسان له لحية أو نحو ذلك لا يمسح الشعر؛ لأن التيمم ليس فيه طهارة حسية وإنما طهارته طهارة معنوية فقط، وإذا كان كذلك فلا حاجة للإنسان أن يمسح الشعر، ولتضرب وتمسح بيديك على وجهك وتمر بهما على كفيك، وينتهي الأمر. كذلك أيضاً: هل يفرج أصابعه أو لا يفرج؟ نقول: هذا لم يرد في السنة، بل إذا ضرب ومسح كفى ذلك. كذلك أيضاً: هل كما ذكر بعض أهل العلم رحمهم الله إذا ضرب يمسح وجهه بباطن أصابعه وكفيه براحتيه؟ ذهب بعض أهل العلم إذا تيمم بضربة واحدة فإنه يمسح بطول أصابعه، وأما بالنسبة لكفيه فإنه يمسحهما براحتيه، لماذا قالوا هذا التفصيل؟ لأنه إذا ضرب ضربة واحدة ثم مسح وجهه وكفيه، يصبح التراب الذي ضرب به مستعملاً، فينقلب من كونه طهوراً إلى كونه طاهراً، وحينئذٍ يحتاج إلى ضربة أخرى. فنقول: يمسح الوجه بأطراف الأصابع، ويمسح الكفين بالراحتين؛ لأنك إذا مسحت الكفين بالراحتين ما أصبح التراب الذي علق بالكفين مستعملاً .. إلخ، وهذا لا نحتاج إليه، وإنما يكفي كما سلف أن يضرب الإنسان ضربة واحدة ويمسح وجهه. وكذلك أيضاً: يمسح ظاهر كفيه، وأيضاً لا حاجة إلى أن يمسح الشعر في التيمم.

أقسام الشعر في الطهارة

وذكر بعض العلماء رحمهم الله أن الشعر في الطهارة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: يجب تطهير ظاهره وباطنه، وهذا في الغسل، إذا اغتسل الإنسان فيجب عليه أن يطهر ظاهره وباطنه. القسم الثاني: لا يجب أن يطهر لا ظاهره ولا باطنه، وهذا في التيمم. وهذان طرفان، الطرف الأول: في الغسل يطهر ظاهره وباطنه. القسم الثاني: في التيمم لا يطهر لا ظاهره ولا باطنه. القسم الثالث: في الوضوء؛ إن كان الشعر خفيفاً، فيجب عليه أن يطهر ظاهره وباطنه، وإن كان ثقيلاً كثيفاً فيجب عليه أن يطهر ظاهره، وأما باطنه فإنه لا يجب عليه أن يطهره. فالوضوء فيه تفصيل، إن كان خفيفاً فيجب أن يطهر ظاهره وباطنه، وإن كان كثيراً فيجب عليه أن يطهر ظاهره, وأما باطنه فلا يجب عليه أن يطهره.

حكم التيمم بأكثر من ضربة ومسح اليدين إلى المرفقين

قال المؤلف رحمه الله: [وإن تيمم بأكثر من ضربة أو مسح أكثر من كفيه جاز].يعني: إذا تيمم بضربتين، يقول المؤلف: جائز، لأن هذا ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، لكن الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يكفي ضربة واحدة ) يعني: لا يجب عليك أن تضرب أكثر من ضربة واحدة، لكن لو ضربت ضربتين كما ورد عن ابن عمر يقول المؤلف رحمه الله هذا جائز. قال: (أو مسح أكثر من كفيه) يعني: مسح إلى المرفق، يقول المؤلف رحمه الله: هذا جائز لكن لا يجب؛ لأنه ما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام, إنما ورد مسح الكفين فقط، لكن ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى أن هذا الفعل من ابن عمر إنما هو من تشديداته، فإن ابن عمر رضي الله تعالى عنه كان يأخذ بأشياء يخالفه عليها أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

شروط صحة التيمم

قال المؤلف رحمه الله: [وله شروط أربعة: أحدها: العجز عن استعمال الماء إما لعدمه أو خوف الضرر من استعماله لمرض أو برد شديد].هذا الشرط الأول من شروط صحة التيمم: أن يعجز عن استعمال الماء؛ والعجز عن استعمال الماء إما أن يكون حقيقياً، وإما أن يكون حكمياً، يعني: أن يعجز عن الماء حقيقة يعني: لا يوجد الماء.. وكيف لا يوجد الماء؟قال العلماء رحمهم الله: لا يوجد الماء في رحله، وفي متاعه, وفيما قرب منه عرفاً، فإذا كان الإنسان لا يجد الماء في بيته، وفيما قارب بيته عرفاً، الأشياء التي هي قريبة من بيته عرفاً، هنا نقول: له أن يتيمم. ودليله قول الله عز وجل: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، أما إذا كان يجد الماء، لكن الماء بعيد عرفاً فهذا له أن يتيمم، له أن ينتقل عن الماء إلى بدله، فأصبح معنى كونه لا يجد الماء حقيقةً، نقول: لا يتوافر الماء في بيته ورحله ومتاعه وما قارب بيته عرفاً، فإذا كان الماء موجوداً قريباً عرفاً هذا يجب عليه أن يقصده، أما إذا كان بعيداً عرفاً فإنه لا يجب عليه أن يقصده، وذكرنا دليل ذلك من قول الله عز وجل: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]. قال: (العجز عن استعمال الماء إما لعدمه أو لخوف الضرر) هذا حقيقة أن لا يجد الماء، لا في مكانه ولا فيما قرب منه عرفاً، حكماً يتعذر عليه الماء ذكر أمثلة له فقال: (أو خوف الضرر من استعماله لمرض أو برد شديد).إذا كان الإنسان يخشى أنه إذا استعمله يصاب بالمرض؛ مثلاً: الإنسان على أعضاء الوضوء قروح، وإذا أصابت هذا القروح هذا الماء فإنه يصاب بالمرض، أو كان في شدة برد، بحيث إنه لو استعمل هذا الماء مع شدة البرد لحقه مرض، يقول المؤلف رحمه الله: له هنا أن يعدل إلى التيمم. ودليل ذلك قول الله عز وجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، وأيضاً قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]. أيضاً من القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية قاعدة: لا ضرر ولا ضرار، وقاعدة أيضاً: المشقة تجلب التيسير، فإذا خشي الإنسان المرض إذا استعمل الماء فإنه يعود إلى التيمم. كذلك أيضاً مما يدل لذلك حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه ( فإن عمراً رضي الله تعالى عنه احتلم في ليلة باردة، فخشي على نفسه إن اغتسل من الهلاك، يقول: فتيممت وصليت بأصحابي, وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فلم يأمره بالإعادة ). فنقول: إذا خشي من استعمال الماء أن يلحقه مرض فإنه يعدل إلى التيمم، وذكرنا دليل ذلك من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.كذلك أيضاً: إذا كان هناك برد شديد، لا يستطيع معه استعمال الماء، أو يخشى على نفسه، إذا كان هناك برد شديد بحيث إنه تلحقه مشقة ظاهرة، لا يستطيع معه استعمال الماء، أو يخشى على نفسه من المرض ونحو ذلك، فإن في هذه الحالة يعدل إلى التيمم؛ إذا لم يجد ما يسخن به هذا الماء. قال المؤلف رحمه الله: [أو لخوف العطش].هذا من صور عدم الماء حكماً، إذا كان الإنسان معه ماء، لكن يخشى على نفسه العطش إن استعمل هذا الماء، فإنه لا بأس أن يوفر هذا الماء لشربه، لطعامه، لا بأس بذلك، فإذا كان الماء بعيداً عنه عرفاً، وليس معه إلا ماء يسير، وهذا الماء اليسير يخشى على نفسه إن استعمله أن يصاب بعطش، أو يحتاجه لطعامه ونحو ذلك، والماء بعيد عنه عرفاً، فنقول: لا بأس حينئذ أن يعدل إلى التيمم، يخشى على نفسه العطش أو رفيقه أو بهيمته، المهم يخشى على نفسه أو على نفس محترمة، إذا كان يخشى على نفسه العطش، أو على نفس محترمة، سواء كانت هذه النفس المحترمة بهيمة أو آدمي فإنه يعدل إلى التيمم.قال المؤلف رحمه الله: [أو خوف على نفسه أو ماله في طلبه].أيضاً هذه من صور تعذر الماء حكماً، يعني: يخشى على نفسه إذا طلب الماء من عدو لو خرج, الماء حوله قريب عرفاً، لكن لو خرج من منزله يخاف على نفسه من عدو أو لص، أو يخاف على ماله أن يسرق، أو يخاف على أهله إذا ذهب لكي يأتي بالماء، فإنه في هذه الحالة يعدل إلى التيمم. ودليل ذلك كما تقدم أن الأصل في التيمم إنما شرع للتخفيف والتسهيل ورفع الحرج؛ كما قال الله عز وجل: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6]. قال المؤلف رحمه الله: [أو تعذر إلا بثمن كثير].أيضاً هذا من صور عدم الماء حكماً، الماء موجود لكنه لا يشترى إلا بثمن كثير، فيقول المؤلف رحمه الله: يعدل إلى التيمم ولا يلزمه أن يشتريه. ويفهم من كلام المؤلف رحمه الله أنه إذا كان يستطيع شراء الماء بثمن مثله، أو بأزيد من ثمن مثله زيادة يسيرة، فإنه يجب عليه أن يشتريه، فأصبحت الحالات ثلاث:الحالة الأولى: أن يجد الماء يباع بثمن مثله، فيجب عليه أن يشتريه، وأن يتطهر بالماء؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. الحالة الثانية: أن يجده بأزيد من ثمنه زيادة يسيرة، فيقول المؤلف رحمه الله: يجب عليه أن يشتريه وأن يتطهر به. الحالة الثالثة: أن يجد الماء بأزيد من ثمنه زيادة كثيرة، فهنا لا يجب عليه، إذا كانت زيادة كثيرة عرفاً فإنه لا يجب عليه أن يشتريه, وله أن يعدل حينئذ إلى التيمم. فأصبح عندنا ثلاث حالات, الحالة الثالثة هي التي يجوز له أن يعدل إلى التيمم. والأحسن في مثل ذلك: أن يقيد بالمشقة الظاهرة؛ لأن الناس يختلفون في الغنى واليسر والفقر والحاجة .. إلخ، فإذا كان أزيد من ثمن مثله بزيادة كثيرة، بحيث يلحقه في الشراء مشقة ظاهرة، فنقول: له أن يعدل إلى التيمم, لرفع الحرج عنه ورفع المشقة. أما إذا زاد زيادة كثيرة، ومثل هذا الرجل إذا اشترى لا يلحقه مشقة، فيظهر -والله أعلم- أنه يجب عليه أن يشتري الماء وأن يتطهر به.

التمكن من استعمال الماء في بعض البدن

قال المؤلف رحمه الله: [فإن أمكنه استعماله في بعض بدنه أو وجد ماء لا يكفيه لطهارته استعمله وتيمم للباقي].هاتان مسألتان: يعني: إذا تمكن من استعمال الماء في بعض بدنه؛ مثلاً إنسان عليه جرح في يده اليسرى، فهذا كما سلف لنا يجب عليه أن يغسل الصحيح، يعني: يجب عليه أن يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه ويغسل يده اليمنى، وكفه اليسرى، وبقية يده اليسرى التي ليس فيها جرح، أما الجرح فهذا له أحوال كما تقدم لنا, إن استطاع أن يغسله فإنه يجب عليه أن يغسله, ولا حاجة إلى التيمم, لم يستطع أن يغسله فإنه يعدل إلى المسح، يمسحه بالماء، فإن تمكن أن يمسحه بالماء فيمسحه بالماء, ولا شيء عليه. الحالة الثالثة: إذا كان عليه جبيرة أو خرقة أو شاش أو جبس أو ونحو ذلك، فإنه يمسحه ولا شيء عليه. الحالة الرابعة الأخيرة: إذا كان لا يتمكن من غسله، ولا يتمكن من مسحه، فإنه في هذه الحالة يعدل إلى التيمم. والتيمم يكون بعد نهاية الوضوء، ولا يكون في أثناء الوضوء كما ذكر أهل العلم رحمهم الله، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الفصل بين أعضاء الوضوء بالتيمم بدعة، بل نقول: إذا انتهى الإنسان من وضوئه فإنه يتيمم عن الجرح الذي لم يستطع أن يغسله ولم يستطع أن يمسحه. وأيضاً هل تجب الموالاة بين الوضوء والتيمم؟ الصحيح لا تجب الموالاة بين الوضوء والتيمم؛ فإذا توضأ الإنسان ثم بعد نصف ساعة أو ساعة تيمم على الجرح الذي عليه الذي لم يستطع أن يمسحه ولا أن يغسله، فنقول: في هذه الحالة تيممه صحيح ولا شيء عليه. ومثل ذلك أيضاً لو أراد أن يغتسل، أصابته جنابة مثلاً وعليه جرح في فخذه، نقول: يغسل الصحيح، وأما غير الصحيح إن استطاع أن يغسله يغسله، إن استطاع أن يمسحه مسحه، إذا لم يتمكن من الغسل ولا المسح .. إلخ فإنه يتيمم عنه. ومثل ذلك أيضاً: لو كان في فمه جرح أو جروح لا يستطيع أن يتمضمض، ولا يستطيع أن يمسح، فإنه في هذه الحالة يتيمم، أو مثلاً في أنفه جروح لا يستطيع أن يمسحها ولا يستطيع أن يغسلها، فإنه يتيمم عنها في نهاية الوضوء. قال: (أو وجد ماء لا يكفيه لطهارته استعمله وتيمم للباقي). مثلاً: وجد شيئاً من الماء يتمكن أنه يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه، أما بالنسبة ليديه ومسح رأسه ورجليه، فهذا لا يتمكن من أن يغسل هذه الأشياء، فيقول المؤلف رحمه الله: يغسل بالماء الذي وجده, والباقي الذي لم يغسله بالماء فإنه يتيمم عنه؛ لقول الله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ولما ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم )، وهذا هو الذي يستطيعه الآن، المسألة موضع خلاف، لكن هذا ما اختاره المؤلف رحمه الله.

التيمم بعد دخول وقت الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: [الثاني: دخول الوقت فلا يتيمم لفريضة قبل وقتها ولا لنافلة في وقت النهي عنه].يقول المؤلف رحمه الله: الشرط الثاني من شروط صحة التيمم: أن يدخل الوقت؛ فمثلاً: إذا أراد أن يتيمم لصلاة المغرب فلا بد أن تغرب الشمس، وإذا أراد أن يتيمم لصلاة العشاء لا بد أن يغيب الشفق، وإذا أراد أن يتيمم لصلاة الفجر لا بد أن يطلع الفجر الثاني، وهكذا، لا يكون تيممه إلا بعد دخول الوقت. وهذه المسألة والشرط الثالث الذي ذكره المؤلف رحمه الله مبنيان على مسألة أخرى، وهذه المسألة هي: هل التيمم مبيح أو رافع؟ التيمم هذا هل هو رافع للحدث كالوضوء بالماء، أو أنه ليس رافعاً للحدث، وإنما هو مبيح، يعني: أن الحدث لم يرتفع وإنما التيمم أباح لك أن تتلبس بهذه العبادة؟هذان الشرطان مبنيان على هذه المسألة، هل التيمم مبيح أو رافع؟ لأهل العلم في هذه المسألة رأيان: الرأي الأول: أن التيمم مبيح؛ وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد كما مشى عليه المؤلف، أن التيمم مبيح وليس رافعاً، وهذا أيضاً مذهب الشافعي. واستدلوا على ذلك بحديث عمران بن الحصين رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري في قصة: ( الرجل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم معتزلاً لم يصل مع الناس، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: يا رسول الله! أصابتني جنابة ولا ماء، فقال له عليه الصلاة والسلام: عليك بالصعيد فإنه يكفيك، فلما جاء الماء أخذ النبي عليه الصلاة والسلام دلواً من ماء فقال: خذ هذا فأفرغه عليك ). قالوا: لو كان التيمم رافعاً لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خذ هذا فأفرغه عليك ). يعني: حديث عمران الشاهد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهذا الرجل الذي أصابته جنابة وتيمم. وأيضاً: حديث أبي هريرة وحديث أبي ذر وغيرهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته )، قالوا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فليتق الله وليمسه بشرته ) هذا دليل على أنه ليس رافعاً، وإنما هو مبيح، لو كان رافعاً ما قال: (ليمسه بشرته). وأيضاً حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: أنه قال: ( احتلمت في ليلة باردة، فخشيت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت وصليت بأصحابي، فلما قدم المدينة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صليت بأصحابك وأنت جنب؟ )، فسماه جنباً مع أنه تيمم، هذا دل على أن الحدث لم يرتفع. الرأي الثاني: رأي أبي حنيفة رحمه الله، وأن التيمم رافع كالوضوء بالماء، فإنه يرفع الحدث، لكن الفرق بين التيمم وبين الماء أن التيمم رفع الحدث رفعاً مؤقتاً، فإذا وجد الماء يبطل التيمم، أما بالنسبة للماء فإنه يرفع الحدث رفعاً مطلقاً إلى أن يوجد حدث آخر، أما بالنسبة للتيمم فإنه لا يرفعه رفعاً مطلقاً وإنما يرفعه رفعاً مؤقتاً إلى وجود الماء أو القدرة على استعماله إذا كان التيمم لمرض أو لخوف ونحو ذلك.وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله, واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ واستدلوا على ذلك بأدلة، من هذه الأدلة قول الله عز وجل: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6]، والشاهد هنا قال: وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6]، فدل على أنه مطهر. وأيضاً: حديث جابر وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) فدل على أنه مطهر. وأيضاً: أن التيمم بدل عن الماء، والبدل له حكم المبدل، فإذا كان الماء رافعاً للحدث، فكذلك أيضاً التيمم رافع للحدث، وهذا القول هو الصواب.لكن الفرق بين الماء وبين التيمم، أن الماء يرفع الحدث رفعاً مطلقاً، وأما التيمم فيرفع الحدث إلى وجود الماء، أو القدرة على استعماله، أو بطلان التيمم بحدث. وأما بالنسبة لما استدل به أهل القول الأول الشافعية والحنابلة من قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عمران للرجل: ( خذ هذا فأفرغه عليك )، وأيضاً قوله: ( فليتق الله وليمسه بشرته )، نقول: هذه الأدلة دليل على أن التيمم لا يرفع رفعاً مطلقاً، وإنما يرفع إلى وجود الماء, هذا هو الفرق بين طهارة الماء وطهارة التيمم.وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لــعمرو : ( صليت بأصحابك وأنت جنب؟ ) هذا قبل أن يذكر له عمرو رضي الله تعالى عنه عذره، وأنه خشي على نفسه الهلاك.وعلى هذا نقول: التيمم حكمه حكم الماء، فإذا كنا لا نشترط للطهارة بالماء دخول الوقت فكذلك أيضاً لا نشترط للتيمم بالصعيد دخول الوقت، فأنت الآن إذا أردت أن تصلي العشاء، وحتى الآن ما دخل وقت العشاء، لك أن تتوضأ الآن, فكذلك أيضاً التيمم إذا كنت لا تريد الماء أو لا تقدر على استعماله، لك أيضاً أن تتيمم الآن ولا يشترط دخول الوقت، كما أننا لا نشترطه بالنسبة للماء. كذلك أيضاً بالنسبة للنافلة وقت النهي كما أن الإنسان له أن يتوضأ في أوقات النهي بعد العصر وبعد الفجر وقبل وقت الزوال له أن يتيمم، هذا هو الصواب.

حكم من تيمم لنافلة وأراد أن يصلي فريضة

قال المؤلف رحمه الله: [الثالث: النية؛ فإن تيمم لنافلة لم يصل بها فرضاً، وإن تيمم لفريضة فله فعلها وفعل ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يخرج وقتها].النية شرط لصحة التيمم؛ لأن التيمم عبادة، وكل عبادة لا بد لها من نية. ودليل ذلك حديث عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى )، لكن هنا قال المؤلف: إن تيمم لنافلة لم يصل بها فرضاً، وإن تيمم لفريضة فله فعلها وفعل ما شاء من النوافل والفرائض حتى يخرج وقتها، هذه المسألة مبنية على ما تقدم؛ وهي هل التيمم مبيح أو رافع؟فهم يقولون: بأن التيمم مبيح، وعلى هذا إذا تيممت لعبادة فإنك تستبيح العبادة ومثلها ودونها، ولا تستبيح ما هو أعلى من العبادة، فمثلاً أنت الآن تيممت لكي تصلي سنة المغرب، هل لك أن تصلي به العشاء الآخرة؟ ليس لك ذلك؟ لأنهم يبنون هذا على أن التيمم مبيح، وعلى هذا جعلوا العبادات مرتبة كالتالي: فالمرتبة الأولى فرض العين؛ فإذا تيممت لعبادة فرض العين مثل صلاة المغرب تستبيح سائر العبادات؛ لأن أعلى شيء هو فرض العين، ثم بعد فرض العين النذر، ثم بعد النذر فرض الكفاية، ثم بعد ذلك صلاة النافلة، ثم بعد ذلك طواف النفل، ثم بعد ذلك مس المصحف، ثم بعد ذلك قراءة القرآن بالنسبة للجنب، ثم بعد ذلك اللبث في المسجد، هكذا الترتيب. أعيد الترتيب: أولاً: فرض العين، ثم النذر، ثم فرض الكفاية، ثم صلاة النافلة، ثم طواف النفل، ثم مس المصحف، ثم قراءة القرآن بالنسبة للجنب، ثم بعد ذلك اللبث في المسجد بالنسبة للجنب، فأقل شيء هو اللبث في المسجد.إذا كان الإنسان جنباً وأراد أن يلبث في المسجد، لا بأس أن يلبث بعد الوضوء، لكن ما قدر على أن يتوضأ يتيمم، فإن تيممت وأنت جنب لكي تلبث في المسجد، هل لك أن تمس المصحف بذلك؟ليس لك ذلك، ومن باب أولى أنك لا تصلي صلاة منذورة، ومن باب أولى أنك لا تصلي صلاة فرض كفاية مثل صلاة العيدين ولا فريضة. إذا تيممت لصلاة منذورة تستبيح مس المصحف لأنه أقل، لكن تيممت لصلاة منذورة لا تصلي فرض العين؛ لأن فرض العين أعلى، وهذا كله كما أسلفت مبني على أن التيمم مبيح. لكن إذا قلنا بأنه رافع كالماء تماماً، لا حاجة إلى هذه التفصيلات، نقول: هذه التفصيلات لا حاجة لها، فأنت إذا توضأت لمس المصحف مثلاً فلك أن تصلي فرض العين، لك أن تصلي فرض الكفاية، لك أن تطوف، لك أن تصلي الصلاة المنذورة .. إلخ. وهذا القول هو الصواب كما تقدم أن الصواب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله وهو أن التيمم رافع وليس مبيحاً.

التيمم بالتراب

قال المؤلف رحمه الله: [الرابع: التراب فلا يتيمم إلا بتراب طاهر له غبار].يقول المؤلف رحمه الله: لا بد من تراب، فلا تتيمم إلا على تراب، وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله والشافعي ؛ واستدلوا على ذلك بحديث حذيفة : ( وجعلت تربتها لنا طهوراً )، فقال صلى الله عليه وسلم: ( تربتها لنا طهوراً ).الرأي الثاني: رأي مالك وأبي حنيفة أنه لا يشترط التراب، بل كل ما تصاعد على وجه الأرض كالتراب والجبال والصخور والرمال وغير ذلك، كل ما كان على وجه الأرض فإنه يصح لك أن تتيمم عليه.ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، وأيضاً كما في حديث أبي الجهيم : ( تيمم النبي صلى الله عليه وسلم على الجدار ). فالصواب أننا نقول: لا حاجة إلى التراب. وهنا اشترط شرطاً آخر فقال: (بتراب طاهر) طاهر دليله قول الله عز وجل: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، الطيب هو الطاهر، وعلى هذا إذا كان هذا التراب الذي تيمم عليه نجساً فإنه لا يصح التيمم. يقول المؤلف رحمه الله: (له غبار) واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [النساء:43]، وقالوا: بأن (من) هذه تبعيضية.والصواب في ذلك: أنه لا حاجة إلى الغبار؛ لعموم قول الله عز وجل: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، وهذا يشمل كل صعيد، حتى الصخر، والصخر ليس له غبار. وأيضاً: ( النبي صلى الله عليه وسلم تيمم على الجدار )، وهذا يدل على عدم اشتراط الغبار. وأيضاً: الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يخرجون وما كانوا يحملون معهم التراب، وإنما يتيممون على وجه الأرض، فالصواب أنه لا يشترط الغبار. وأما قول الله عز وجل: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [النساء:43]، فـ(من) هنا الصواب ليست للتبعيض، وإنما هي لابتداء الغاية، نقول: (من) هنا لابتداء الغاية، كما لو قلت: سافرت من مكة إلى المدينة، يعني: أن ابتداء غاية السفر من مكة إلى المدينة، فالصواب أن (من) هنا لابتداء الغاية، وليست للتبعيض. وعلى هذا ما يتمم عليه ينقسم إلى قسمين:القسم الأول: ما كان من جنس الأرض، فهذا لا نشترط له غبار، لما تقدم من الأدلة: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، وأيضاً حديث أبي الجهيم : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام تيمم على الجدار )، فنقول: كل ما كان من جنس الأرض لا يشترط فيه الغبار، وهل يدخل في هذا التراب والرمل والصخر والجبال وأيضاً لو تيمم الإنسان على الرخام؟الحنفية رحمهم الله قالوا: لو تيمم على صخرة غسلت بالماء فإن هذا صحيح، لأنه الآن تيمم على جنس الأرض، فيتيمم على الرخام أو على البلاط، نقول: صحيح؛ لأن هذا من جنس الأرض، أو تيمم على جدار الطين، نقول: صحيح، تيمم على جدار من الإسمنت، نقول: صحيح، لأن الاسمنت هذا من جنس الأرض، يعني: إذا كان مبنياً من بلوك الإسمنت، فنقول: بأن هذا صحيح، تيمم على جدار مدهون بهذه الدهانات، هل هذا صحيح أو ليس صحيحاً؟ نقول: هذا ليس صحيحاً؛ لأن هذه الدهانات ليست من جنس الأرض إلا إذا كان على الجدار غبار تتيمم عليه نقول: هنا يصح؛ لأن التيمم هنا على الغبار والغبار من جنس الأرض.مثله أيضاً لو تيمم على مثل هذا الكرسي، نقول: هذا التيمم لا يصح؛ لأنه ليس من جنس الأرض، أو تيمم على الفرش، نقول: لا يصح، أو تيمم على أبواب الحديد أو الخشب نقول: لا يصح؛ لأن هذه ليست جنس الأرض، نشترط في هذه الحالة أن يكون عليها غبار لكي يكون التيمم على الغبار الذي هو من جنس الأرض. فأصبح عندنا ما يتيمم عليه ينقسم إلى قسمين: من جنس الأرض لا نشترط غباراً، وكما قلنا: دخل فيه التراب والرمل والصخور والجدران التي من جنس الأرض، والأرض التي أرضيتها أو مادتها من جنس الأرض، مثل البلاط، ومثل الرخام مثل الإسمنت مثل الطين، هذه كلها من جنس الأرض، هذه يصح أن تتيمم عليها.القسم الثاني: ما ليس من جنس الأرض، مثل الخشب، والفرش، والأبواب، والحديد، ونحو ذلك، فما ليس من جنس الأرض، نقول هنا: إذا تيممت عليه لا بد أن يكون عليها غبار لكي يكون التيمم على الغبار الذي هو من جنس الأرض.

مبطلات التيمم

قال المؤلف رحمه الله: [ويبطل التيمم ما يبطل طهارة الماء، وخروج الوقت، والقدرة على استعمال الماء, وإن كان في الصلاة].يبطل التيمم ما يبطل الماء؛ لأن التيمم بدل، والبدل له حكم المبدل، فالماء يبطل بخروج الخارج من الإنسان من بول أو غائط أو ريح ونحو ذلك كما سبق، فكذلك أيضاً: التيمم يبطل بهذه الأشياء، وأكل لحم الجزور يبطل طهارة الماء فكذلك أيضاً يبطل التيمم، وهكذا.ودليل ذلك -كما تقدم لنا- القاعدة: أن البدل له حكم المبدل.أيضاً خروج الوقت وهذا مبني على أنه مبيح، والصواب أن خروج الوقت لا يبطل التيمم. فمثلاً: تيممت الآن لصلاة المغرب، ثم خرج وقت صلاة المغرب فنقول: بأن التيمم لا يبطل لخروج الوقت؛ لأن الأصل بقاء الطهارة، وهذه المسألة من المسائل المرتبة على هل التيمم مبيح أو رافع؟ نقول: الصواب أن التيمم رافع, هذا الصواب. قال: (والقدرة على استعمال الماء وإن كان في الصلاة) القدرة على استعمال الماء، إذا قدر الإنسان على استعمال الماء، سواء كان عدم الماء حقيقة أو حكماً، عدم الماء حقيقة بأن يكون ما وجد الماء ثم قدر عليه، نقول: يجب عليه أن يستعمله، ويبطل تيممه وإن لم يحدث، لما تقدم من حديث عمران بن الحصين في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خذ هذا فأفرغه عليك )؛ لأنه جاء الماء، وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته ). قال المؤلف رحمه الله: (وإن كان في الصلاة) يعني: إذا شرع الإنسان يصلي، لم يجد هذا الإنسان ماءً، ثم شرع يصلي، وفي أثناء الصلاة جاء الماء، هل تبطل طهارته وتبطل صلاته أو نقول: لا تبطل صلاته؟للعلماء في ذلك رأيان: الرأي الأول: أن طهارته تبطل؛ وهذا ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله، ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، وهذا الآن وجد الماء. وأيضاً مما يدل لذلك حديث عمران بن الحصين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( خذ هذا فأفرغه عليك )، فدل هذا على أن طهارة التيمم قد بطلت. قلنا بأن الرأي الأول: أن التيمم يبطل فتبطل الصلاة لما تقدم من حديث عمران ، وأيضاً تقدم من حديث أبي ذر وحديث أبي هريرة ففيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته ). والرأي الثاني: أن طهارته لا تبطل، لا يخرج من الصلاة، ويمضي في صلاته؛ لقول الله عز وجل: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]. فالأقرب في مثل هذه المسألة أن يقال: إن صلى ركعة ثم قدر على استعمال الماء أتم صلاته، وإن صلى أقل من ركعة فإنه يخرج من الصلاة؛ ويدل لذلك حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، فهذا الرجل قد أدرك ركعة من الصلاة، ويكون مدركاً لهذه الصلاة، يعني: هذا هو الأقرب في هذه المسألة بالتفصيل.

التيمم لخوف فوت العبادة

بقي علينا مسألة: هل يتيمم لخوف فوت العبادة أو لا يتيمم لذلك؟ هذه المسألة موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فجمهور أهل العلم أنه لا يتيمم لخوف فوت العبادة، يعني: إذا خاف أن يفوت عليه العبادة فإنه لا يتيمم لذلك، إنما التيمم إذا تعذر عليه أن يستعمل الماء حقيقة أو حكماً، أما ما عدا ذلك فإنه لا يتيمم له، وهذا رأي جمهور أهل العلم رحمهم الله، وإن كانوا لا يطلقون هذا، يعني: يستثنون بعض العبادات. والرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يتيمم لخوف فوت العبادة، إذا خاف الإنسان أن تفوته العبادة فإنه يتيمم لها. مثلاً: لو أن الإنسان في صلاة الجمعة مثلاً، وسبقه الحدث، فلو ذهب وتوضأ وخرج من الجامع فإن الصلاة تفوت عليه, فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أنه يتيمم ويصلي. أو مثلاً: في صلاة العيدين، لو أنه سبقه الحدث مثلاً، وذهب لكي يتوضأ ثم يرجع فاتته صلاة العيدين، أو مثلاً جاءت جنازة وشرع الناس للصلاة عليها، ولو ذهب لكي يتوضأ فاتته صلاة الجنازة .. إلخ. فعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأنه في هذه الحالة إذا كانت العبادة يخشى عليها أن تفوت يتيمم لها. ويستدل لذلك بأن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما تيمم للصلاة على الجنازة، وأيضاً فعل النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي جهيم : ( فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما سلم عليه لم يرد السلام حتى أقبل على الجدار، ثم تيمم على الجدار، ثم رد النبي عليه الصلاة والسلام السلام )، فتيمم لكي يذكر الله عز وجل على طهر، ومن هدي النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر ). ومثل ذلك أيضاً لو خشي فوت الوقت، إذا كان غير معذور، أما إذا كان معذوراً فوقت الصلاة حين زوال العذر، يعني: لو كان نائماً أو ناسياً فوقت الصلاة حين زوال العذر، لكن لو كان الإنسان غير معذور فخشي أن يفوت الوقت، يعني: الإنسان لم يجد الماء إلا في آخر الوقت، وخشي إن شرع يتوضأ أن يفوت عليه الوقت. فعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يتيمم ويصلي أو خشي مثلاً: أن الماء ما يصل إليه إلا بعد خروج الوقت فإنه يتيمم ويصلي.

الحيض

قال المؤلف رحمه الله: [باب الحيض]: الحيض في اللغة: السيلان، يقال: حاض الوادي إذا سال، ويقال أيضاً: حاضت الشجرة إذا خرج منها سائل أحمر.وأما في الاصطلاح: فهو دم طبيعة وجبلة يخرج من الأنثى في أوقات معلومة. والحيض كتبه الله على بنات أدم منذ أصل الخلقة، وليس مبتدأ كما ذكر بعض أهل العلم إن الله عز وجل كتبه على نساء بني إسرائيل، بل الحيض كتب على بنات آدم منذ أن خلقهن الله عز وجل؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام لـعائشة : ( إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم ).
ما يحرم على الحائض

الحائض والصلاة

قال المؤلف رحمه الله: [ويمنع عشرة أشياء: فعل الصلاة].يمنع فعل الصلاة، فإذا حاضت المرأة فإنه لا يجوز لها أن تصلي، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة )، حديث في الصحيحين. وأيضاً: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ( كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة )، وهذا في الصحيحين، ففعل الصلاة لا يجوز، ولا يصح من المرأة الحائضة, وهي لا تجب عليها الصلاة.ودليل ذلك ما تقدم من حديث عائشة قالت: ( كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة )، ولو كانت الصلاة واجبة لأمر الحيض بقضائها، لكن نستثني من ذلك حالتين: الحالة الأولى: إذا أدركت من أول الوقت مقدار ركعة، فإنه يجب عليها أن تقضيها إذا طهرت. مثال ذلك: أذان العشاء، الآن أذن العشاء، العشاء يؤذن السابعة إلا خمس دقائق، امرأة أذن عليها العشاء، ثم بعد ذلك مضى قدر ركعة، الركعة مثلاً نقدرها بدقيقتين، ثم حاضت قبل أن تصلي، فإنه يجب عليها إذا طهرت من حيضتها أن تقضي صلاة العشاء.ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، فيجب عليها صلاة العشاء لأنها أدركت من وقتها قدر ركعة، فيجب عليها أن تقضيها. وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لا يجب أن تقضي؛ لأن نساء الصحابة كن يحضن في وسط الوقت، ومع ذلك لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرهن بالقضاء. لكن الأقرب في هذه المسألة والأحوط أن تقضي لهذا الحديث، ما دام أنها أدركت ركعة فإنه يجب عليها أن تقضيها. الحالة الثانية: إذا أدركت ركعة من آخر الوقت، يعني: عندنا امرأة حائض، قبل خروج الوقت بمقدار ركعة فأكثر طهرت من حيضتها، فنقول: يجب عليها إذا اغتسلت أن تقضي هذه الصلاة. فمثلاً: المغرب يخرج وقتها من أذان الساعة السابعة إلا خمس دقائق مثلاً، امرأة حائض قبل خروج وقت المغرب بمقدار ركعة فأكثر، يعني: الساعة السابعة إلا سبع دقائق .. إلا ثمان .. إلخ طهرت من حيضتها، فإنه يجب عليها أن تصلي هذه الصلاة؛ لأنها أدركت من وقتها قدر ركعة، فما دام أنها أدركت من وقتها قدر ركعة فيجب عليه أن تصليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ).

الصيام

قال المؤلف رحمه الله: [وفعل الصيام].أيضاً الحائض لا يجب عليها أن تصوم، ولكن يجب عليها أن تقضي الصيام، فالصيام محرم على الحائض؛ يدل لذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة في صحيح البخاري : ( أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ ). والمرأة إذا طهرت بعد طلوع الفجر لا يصح صيامها في ذلك اليوم، يعني: لو طهرت بعد طلوع الفجر، أي أنه ما انقطع عنها الدم إلا بعد طلوع الفجر بلحظة واحدة نقول: لا يصح صيام ذلك اليوم، ولو أنها انقطع عنها الدم قبل طلوع الفجر ولم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر فصيامها صحيح، ولو أنها حاضت -خرج منها دم الحيض- قبل غروب الشمس ولو للحظة واحدة فصيامها باطل. فلا بد أن تطهر من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ولو أحست بانتقاله ولم يخرج إلا بعد غروب الشمس فصيامها صحيح.ويجب عليها القضاء، لما تقدم من حديث عائشة : ( كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ).

الطواف

قال المؤلف رحمه الله: [والطواف].والطواف أيضاً لا يجوز للمرأة المحرمة أن تطوف وهي حائض؛ لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها لما حاضت قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهرين ) وهذا في الصحيحين، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم رحمهم الله. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جوز طواف الحائض في حال الضرورة، يعني: في القوافل التي تأتي من أماكن بعيدة، من الهند مثلاً، أو من المغرب.. من أماكن بعيدة يلحق الناس مشقة بانتظار المرأة وهي حائض، فالمرأة في هذه الحال إما أن تنتظر هذه القافلة، فيكون فيها مشقة، أو نقول: هي محصرة، وتتحلل من حجها وترجع وهي ما حلت، أو أنها تطوف، فرخص شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه الحالة الطواف.أما إذا كانت قريباً داخل البلد أو قريباً لا يرخص في ذلك، إما أن تنتظر أو تعود وتبقى المرأة محرمة، الذي رخص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المرأة التي تأتي من أماكن بعيدة، ويكون فيه ضرر ظاهر.

قراءة القرآن

قال المؤلف رحمه الله: [وقراءة القرآن].هل يحرم على الحائض قراءة القرآن أو لا يحرم؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد أن الحائض ممنوعة من قراءة القرآن، وهذا قول جمهور أهل العلم، أن الحائض ممنوعة من قراءة القرآن. والرأي الثاني: رأي الإمام مالك رحمه الله، واختيار شيخ الإسلام أن الحائض لها قراءة القرآن، سواء كان ذلك من وراء حائل أو كان ذلك عن ظهر قلب، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يجب عليها أن تقرأ القرآن إذا خشيت نسيانه. أما الذين قالوا بأنها لا تقرأ؛ فاستدلوا بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن )، وهذا ضعيف. وأما الدليل على أنها تقرأ؛ فكما قال شيخ الإسلام: ليس هناك دليل على المنع من قراءة المرأة للقرآن، وأيضاً ما تقدم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت )، ومما يفعله الحاج قراءة القرآن. وكما ذكر شيخ الإسلام أن النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كن يحضن، ومع ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يمنعهن من قراءة القرآن، كما أنه لم يمنعهن من الذكر والدعاء .. إلخ.فالصواب أن قراءة القرآن للحائض جائز ولا بأس به.

مس المصحف

قال المؤلف رحمه الله: [ومس المصحف].أيضاً يقول المؤلف: لا تمس المصحف، وهذا تقدم لنا في نواقض الوضوء أن المحدث يحرم عليه أن يمس المصحف، والحائض محدثة، فلا يجوز لها أن تمس المصحف, وهذا الصواب. واستدلينا على ذلك بقول الله عز وجل: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] قلنا: بأن هذه دلالة إشارة، وأيضاً حديث عمرو بن حزم وفيه: ( وأن لا يمس القرآن إلا طاهر )، وأيضاً وروده عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه, فنقول: المحدث لا يمس المصحف.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-27, 06:07 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الطهارة [8]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )

لى طالب العلم أن يعرف أحكام الحيض وأحوال النساء فيه، لتنزيل الأحكام الشرعية بمقتضى حال كل امرأة، سواء كانت مبتدأة أو معتادة أو متحيرة، ومعرفة الطوارئ التي تطرأ على الحيض، وعلامة الطهر عند النساء وحكم الصفرة والكدرة.
أحكام الحيض والنفاس

لبث الحائض في المسجد

قال المؤلف رحمه الله: [واللبث في المسجد].يعني: أن المرأة الحائض ممنوعة من اللبث في المسجد، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم، فجمهور أهل العلم رحمهم الله أن الحائض ممنوعة من اللبث في المسجد؛ ودليل ذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43]، فقال الله عز وجل: وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43].وقد ورد تفسير ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بذلك موضع الصلاة المسجد، فالجنب ممنوع من اللبث في المسجد إلا على سبيل العبور يعني: أن يدخل المسجد لحاجة ثم بعد ذلك يخرج ولا يمكث. قالوا: وكذلك أيضاً الحائض؛ الحائض يجوز لها أن تدخل المسجد لحاجة ثم بعد ذلك تخرج ولا تمكث، أما المكث فإن الله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ [النساء:43]، وقد ورد عن ابن عباس أن المراد بقول.. أن المراد بذلك موضع الصلاة. وخالف ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في ذلك ابن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، فقالوا: إن المراد بقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43]، المسافر إذا أجنب ولم يجد الماء فإنه يتيمم. الدليل الثاني الذي استدل به أهل العلم رحمهم الله على أن الحائض ممنوعة من المسجد حديث عائشة : ( كان النبي عليه الصلاة والسلام في المسجد، وعائشة في حجرتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ناوليني الخمرة ). والخمرة شيء يعمل من الخوص يكون مكاناً للسجود، يسجد عليه الإنسان في الصلاة على قدر وجهه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـعائشة : ( ناوليني الخمرة، فقالت: إني حائض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن حيضتك ليست في يدك )؛ لأن عائشة رضي الله تعالى عنها ستدخل يدها في المسجد مناولة للنبي صلى الله عليه وسلم الخمرة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن حيضتك ليست في يدك )، والتي ستدخل إنما هي اليد، فقول عائشة رضي الله تعالى عنها لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( ناوليني الخمرة، فقالت: إني حائض ) قالوا: هذا دليل على أن الحائض ممنوعة من المسجد، ولهذا اعتذرت بأنها حائض. وأيضاً: استدلوا أيضاً بما ورد بسند جيد ( أن المعتكفات كن إذا حضن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجهن من المسجد ). وأيضاً مما يدل حديث عائشة رضي الله تعالى عنها لما حاضت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ( افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي في البيت ). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: منعت من الطواف في البيت ليست لأنها محدثة، ولكن لأن الحائض ممنوعة من اللبث في المسجد, هذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله, واستدلوا بهذه الأدلة.الرأي الثاني: رأي الظاهرية، قالوا: بأن الحائض ليست ممنوعة من المسجد فلها أن تدخل المسجد, ولها أن تلبث فيه، واستدلوا بالعمومات؛ مثل حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، فهذا يشمل حتى الحائض، فالحائض لها أن تدخل المسجد. واستدلوا أيضاً بما ثبت في الصحيح من قصة الوليدة التي كانت ساكنة في المسجد، فقالوا: كون هذه المرأة ساكنة في المسجد والمرأة يعتريها الحيض، هذا يدل على أن الحائض ليست ممنوعة من المسجد. وقد أجاب جمهور أهل العلم عن قصة الوليدة بما ثبت في البخاري وغيره أن هذه الوليدة إنما جاز لها أن تدخل المسجد وأن تمكث فيه وهي حائض للضرورة؛ لأنه لا مكان لها إلا المسجد. وجواب آخر قالوا: لعلها إذا كان في وقت الحيض تخرج من المسجد، أو لعلها بلغت سن الإياس بحيث انقطع عنها دم الحيض .. إلخ.وعلى هذا نقول: الأحوط للمرأة الحائض أن لا تدخل المسجد للبث فيه, أما دخولها لحاجة ثم بعد ذلك تخرج من المسجد فإن هذا جائز ولا بأس به.

وطء الحائض

قال المؤلف رحمه الله: [والوطء في الفرج].يعني: إذا كانت المرأة حائضاً فإنه يحرم على زوجها أن يطأها في الفرج، والمراد بذلك: تغييب الحشفة فما فوق، هذا محرم ولا يجوز.ودليل ذلك قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ [البقرة:222]، وأيضاً لما ثبت من حديث أنس في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح )، فالوطء في الفرج محرم ولا يجوز. ولو أن الإنسان وطأ زوجته وهي حائض، فإنه يأثم ويجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وتجب عليه الكفارة، كما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك أيضاً قال به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لورود ذلك عن ابن عباس، يجب عليه أن يخرج كفارة. والكفارة هي دينار أو نصف دينار على التخيير، ووزن الدينار أربعة غرامات وربع من الذهب، فإذا كان الغرام يساوي ثلاثين ريالاً اليوم، فأربعة غرام يساوي مائة وعشرين، وربع الغرام يساوي سبعة ريال تقريباً. يعني: يجب عليه أن يخرج كفارة مائة وسبعة ريال يعطيها للمساكين، أو نصفها على التخيير؛ لأنه ورد عن ابن عباس في الذي يطأ زوجته وهي حائض يتصدق بدينار أو بنصف دينار. قوله: يتصدق بدينار أو بنصف دينار، بعض أهل العلم قال: على سبيل التخيير، إن شاء أخرج ديناراً، وإن شاء أخرج نصف دينار. وبعض أهل العلم قال: إن وطئ في أول الحيض فإنه يخرج ديناراً كاملاً، وإن وطئ في نهاية الحيض فإنه يخرج نصف دينار. وقال بعض العلماء: إن وطئ في الدم الأحمر يخرج ديناراً كاملاً، وإن وطئ في الصفرة أو الكدرة فإنه يخرج نصف دينار. وظاهر الأثر أنه مخير مطلقاً.

طلاق الحائض

قال المؤلف رحمه الله: [وسنة الطلاق].يعني: الذي يطلق زوجته وهي حائض فهذا خلاف السنة، طلاقه يسمى طلاقاً بدعياً. واعلم أن الطلاق لا يكون طلاق السنة إلا إذا جمع أربع صفات، يعني: إذا أراد الإنسان أن يطلق زوجته فعليه أن يتقيد بهذه الصفات الأربع: الصفة الأولى: أن يطلقها طلقة واحدة فقط، ولا يزيد على ذلك، لا يقول: أنت طالق، أنت طالق .. إلخ، أو أنت طالق ثلاثاً، أو أنت طالق طلقتين، .. إلخ، هذا كله طلاق بدعة حرام لا يجوز، السنة أن تطلق طلقة واحدة فقط، هذه الصفة الأولى. الصفة الثانية: أن يكون ذلك في طهر، ما يكون ذلك في حال الحيض, فإن كان الطلاق في حال الحيض فإن هذا طلاق بدعة، أيضاً لا يجوز محرم. الصفة الثالثة: أن يكون هذا الطهر لم يجامع فيه زوجته، بمعنى: أن المرأة طهرت من حيضها، ثم بعد ذلك إذا أراد أن يطلق يوقع الطلقة قبل أن يجامع. فلو أنه مثلاً مضى عليها الحيض، وطهرت من حيضتها، ثم بعد ذلك جامعها، وأراد أن يطلق، نقول: لا يجوز أن تطلق في هذا الطهر التي جامعتها فيه، بل انتظر حتى تحيض، فإذا طهرت من حيضتها، طلقها قبل أن تمسها. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لـابن عمر لما طلق ( ليطلقها طاهراً أو حاملاً )، وقال الله عز وجل: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أي: طاهرات من غير جماع. الصفة الرابعة: أن تتركها ما تلحقها طلقة أخرى حتى تنتهي عدتها، فأنت تطلقها طلقة واحدة، ثم بعد ذلك تتركها حتى تنتهي عدتها, ولا تلحقها طلقة أخرى في العدة، فإن ألحقتها طلقة أخرى في العدة فهذا طلاق بدعي. فأصبح طلاق السنة لا بد له من هذه الصفات الأربع: أن تكون طلقة واحدة، وأن تكون في طهر، وأن يكون هذا الطهر لم يحصل فيه جماع، وأن تتركها حتى تنتهي عدتها. وعلى هذا إذا طلق الإنسان في حال الحيض فإن هذا طلاق بدعة، وهذا محرم؛ ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( أنه لما طلق زوجته تغيظ في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر عمر أن يأمر ابن عمر أن يراجع زوجته )، فالطلاق في حال الحيض هذا محرم ولا يجوز؛ لأنه خلاف للسنة.

عدة الحائض

قال المؤلف رحمه الله: [والاعتداد بالأشهر].إذا حاضت المرأة فإن عدتها تكون بالحيض، قبل أن تحيض إذا طلقت أو إذا حاضت وكبرت وأيست فإن عدتها تكون بالأشهر. ودليل ذلك قول الله عز وجل: وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، فالمرأة إذا كانت طاهراً ثم بعد ذلك وقع عليها طلاق، فإن عدتها ثلاث حيض، إذا كانت لا تحيض لصغر، حتى الآن لم يأتها الحيض، أو أنها كبرت وانقطع عنها دم الحيض، فإن عدتها ثلاثة أشهر؛ كما قال الله عز وجل: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]. فالتي لم تحض لصغر أو أيست من الحيض لكبر فإن عدتها ثلاثة أشهر، أما التي تحيض فإنها لا بد لها أن تمضي عليها ثلاث حيض.وهذه أيضاً مسألة يغلط فيها كثير من الناس، بعض الناس يظن أن العدة هي ثلاثة أشهر، وهذا خطأ، العدة إذا كانت تحيض ثلاث حيض، إلا إذا كانت متوفى عنها زوجها فعدتها دائماً أربعة أشهر وعشرة أيام إلا إن كانت حاملاً فعدتها وضع الحمل. أما بالنسبة لغير المتوفى عنها وهي التي طلقها زوجها فنقول: إن كانت تحيض فعدتها ثلاث حيض، إذا كانت لا تحيض لكبر أو صغر، أو مرض انقطع عنها الدم بمرض، مثلاً: استأصل رحمها ما تحيض, هذه نقول: عدتها ثلاثة أشهر. والحامل لا فرق بين حال الحياة وحال الموت، الحامل عدتها وضع الحمل.كما أن أيضاً كثيراً من الناس يخطئ في الطلاق، ففهم أنه يطلق لغير سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والطلاق بسنة النبي عليه الصلاة والسلام فيه خير كل خير، إذا طلق الإنسان طلقة واحدة، وطلق في غير الحيض وهو لم يجامع .. إلخ اتباع السنة هذا هو الذي فيه الخير. وتجد بعض الناس يخالف، ويطلق طلاق بدعة، يطلق ثلاث طلقات، ثم يوقع عليها الطلاق، نجد أنه يندم، يريد أن يراجع وقد لا يتمكن من المراجعة .. إلخ، فسن للإنسان أن ينتبه لهذه الصفات الأربع.

وجوب الغسل بانقطاع الحيض

قال المؤلف رحمه الله: [ويوجب الغسل].يعني: الحيض يوجب الغسل، من موجبات الغسل: خروج دم الحيض؛ ودليل ذلك قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، المراد بذلك انقطاع الدم، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222] والمراد به الغسل، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ [البقرة:222]. وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم لـأم حبيبة رضي الله تعالى عنه لما استحيضت: ( دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي ) هذا يدل على أن الحائض إذا انقطع عنها دم الحيض يجب عليها أن تغتسل.

بلوغ الجارية بالحيض والاعتداد به

قال المؤلف رحمه الله: [والبلوغ].إذا حاضت الجارية فإنها بلغت، وتجب عليها التكاليف الشرعية، تجب عليها الصلاة، ويجب عليها الصيام وغير ذلك من التكاليف الشرعية، ولو لم تبلغ ثلاث عشرة، ولو لم تبلغ خمس عشرة .. إلخ، فقد تحيض البنت من ثنتي عشرة سنة، وقد تحيض من إحدى عشرة سنة، فيجب عليها أن تصلي، ويجب عليها أن تصوم، تأخذ أحكام البالغات. ودليل ذلك حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار )، المراد بالحائض هنا البالغ. قال المؤلف رحمه الله: [والاعتداد به].يعني: إذا وجد الحيض فإن المرأة تعتد به، وهذه المسألة سبق أن أشرنا إليها، فإذا طلقت المرأة وهي من ذوات الحيض، فإن عدتها ثلاث حيض: وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، أما إذا كانت لا تحيض إما لصغر أو لكبر ونحو ذلك فإن عدتها ثلاثة أشهر؛ كما تقدم في قول الله عز وجل: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4].

ما يباح بانقطاع دم الحيض

قال المؤلف رحمه الله: [فإذا انقطع الدم أبيح فعل الصوم والطلاق ولم يبح سائرها حتى تغتسل].كل ما تقدم لا يباح إلا بالغسل، فمثلاً: الجماع لا يباح من الحائض إلا بالغسل، الطواف لا يباح من الحائض إلا بالغسل.اللبث في المسجد، مس المصحف .. إلخ كل هذه لا بد فيها من غسل، إلا أنه استثنى المؤلف رحمه الله شيئين يباحان للحائض وإن لم تغتسل، المهم أنها طهرت، فالشيء الأول: الصوم، والشيء الثاني: الطلاق. فلو أن المرأة طهرت قبل طلوع الفجر، انقطع عنها دم الحيض قبل طلوع الفجر، فلا بأس أن تنوي الصيام وأن تصوم وإن لم تغتسل إلا بعد دخول وقت الصوم، بعد طلوع الفجر. فنقول: إذا انقطع عنها دم الحيض وطهرت المرأة فإنها تصوم وإن لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر. الأمر الثاني مما يباح بعد الطهر وقبل الغسل: الطلاق؛ فإذا طهرت المرأة قبل أن تغتسل يجوز لزوجها أن يطلقها.

الاستمتاع بالحائض

قال المؤلف رحمه الله: [ويجوز الاستمتاع من الحائض بما دون الفرج؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اصنعوا كل شيء غير النكاح )].الاستمتاع بالحائض إذا كان من قبل الزوج أو من قبل السيد بالنسبة لأمته.نقول: هذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الاستمتاع بالوطء في الفرج؛ فهذا محرم ولا يجوز، وتقدم أن الإنسان إذا وطئ في الفرج فإنه يجب عليه كفارة، يجب عليه أن يكفر، وتجب الكفارة بشروط ثلاثة: الشرط الأول: أن يكون عالماً بالحال والحكم الشرعي، يعلم أن هذا محرم, ويعلم بالحال أن المرأة حائض. الشرط الثاني: أن يكون مختاراً.الشرط الثالث: أن يكون ذاكراً غير ناسٍ. فالشرط الأول: العلم بالحال والحكم الشرعي. الشرط الثاني: الاختيار؛ فإن كانت المرأة مكرهة مثلاً على الجماع، أكرهها زوجها فإنها لا يجب عليها كفارة ولا تأثم، هو الذي يأثم ويجب عليه كفارة.الشرط الثالث: أن يكون ذاكراً، فإن كان ناسياً وكانت المرأة ناسية، فإن كان ناسياً فلا يجب عليه، هذه ثلاثة شروط.فنقول: القسم الأول من الاستمتاع بالحائض: الاستمتاع بالوطء في الفرج، وتكلمنا عن المراد بالوطء في الفرج، المراد بالوطء في الفرج هو تغييب الحشفة، وذكرنا أن المراد بالحشفة رأس الذكر، فإذا حصل تغييب رأس الذكر في الفرج يعني: رأس الذكر تكون عليه الجلدة التي تقطع عند الختان، فإنه في هذه الحالة يأثم الإنسان وتجب عليه الكفارة؛ لأنه جامع في حال الحيض, هذا القسم الأول. القسم الثاني: الاستمتاع بما فوق السرة ودون الركبة، يعني: كون الإنسان يستمتع من زوجته الحائض بما فوق السرة، بما هو أعلى البدن، أو بما هو أسفل البدن من الركبة فأنزل، فأيضاً هذا جائز ولا بأس به. القسم الثالث: موضع خلاف، الاستمتاع بما بين السرة والركبة في غير الوطء في الفرج، أما الوطء في الفرج فتكلمنا عليه، هل يجوز للإنسان أن يستمتع بما بين السرة والركبة؟ هذا موضع خلاف. وذكر ابن القيم رحمه الله أن ظاهر حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) أن هذا جائز ولا بأس به. يعني: كون الإنسان يستمتع فيما بين السرة والركبة هذا جائز ولا بأس به؛ لظاهر حديث أنس رضي الله تعالى عنه، ولأن الأصل في الاستمتاع بين الزوجين الحل إلا ما ورد في الشرع تحريمه، لقول الله عز وجل: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223]، لكن قال العلماء رحمهم الله يستحب للزوج إذا أراد أن يستمتع من زوجته فيما بين السرة والركبة أن يأمر أن تستر محل الحيض؛ لقول عائشة رضي الله تعالى عنها: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض ).

أقل الحيض وأكثره

قال المؤلف رحمه الله: [وأقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوماً].يقول المؤلف رحمه الله: أقل الحيض يوم وليلة؛ وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، اليوم والليلة يساوي: أربعة وعشرين ساعة، فلو أنها رأت الدم أقل من يوم وليلة, يعني: مثلاً لمدة عشرين ساعة، فإن هذا لا يعتبر حيضاً بل يجب عليها أن تصوم وأن تصلي, ويجوز لزوجها أن يجامعها .. إلخ؛ لأن أقل الحيض يوم وليلة. وما هو الدليل على تحديده بيوم وليلة؟ الدليل على تحديده بيوم وليلة قالوا: الرجوع إلى الوجود، فإنه لم يوجد حيض أقل من يوم وليلة. والرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة: أنه ليس له حد بالنسبة للقلة؛ ودليل ذلك قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222]، فإذا وجد هذا الأذى سواء كان أذى لمدة يوم وليلة أو أكثر أو أقل .. إلخ، المهم إذا وجد هذا الأذى فإن أحكامه تترتب عليه. وأيضاً: يدل لذلك حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة )، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على إقبال الحيضة، وهذا الحديث في الصحيحين، وهذا القول هو الصواب. نقول: الصواب أن أقله بالنسبة للأيام أنه لا حد لأقله، وهذا أيضاً قول الأطباء، الأطباء يقولون: لا حد لأقله، فنقول: بالنسبة للأيام الصواب لا حد لأقله، فإذا رأت المرأة الدم المعروف عند النساء سواء كان ليوم وليلة، أو لأقل أو أكثر .. إلخ فنقول بأنه حيض يأخذ أحكام الحيض, تترك الصلاة، ولا يعاشرها زوجها .. إلخ.قال المؤلف رحمه الله: (وأكثره خمسة عشر يوماً).يقول المؤلف رحمه الله: بأن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً، وعلى هذا إذا زاد عن خمسة عشرة يوماً فالزائد استحاضة.والكلام في هذه المسألة كالكلام في المسألة السابقة، وأن الصواب في هذه المسألة أن أكثره ليس مقيداً، بمدة وليس محدداً بزمن.فالصواب: أن المرأة متى رأت المعروف عند النساء فإنها تترك من أجله الصلاة والصيام .. إلخ، حتى ولو تجاوز خمسة عشر يوماً، ولا يحد بخمسة عشر يوماً؛ والدليل على ذلك كما تقدم قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222]، فعلق الله عز وجل الحكم على وجود الأذى، سواء وجد الأذى لخمسة عشر يوماً أو لأقل أو لعشرة .. إلخ.وأيضاً: حديث عائشة السابق في الصحيحين: ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة )، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على إقبال الحيضة، فذكر أن المرأة إذا كثر عندها الدم مخالفة عادتها الطبيعية فإنها تحتاط وتنظر فيه، فقد لا يكون هذا الدم دم حيض؛ فمثلاً: إذا كانت المرأة عادتها سبعة أيام أو ستة أيام ثم بعد ذلك زاد معها الدم. فنقول بأنها تنظر فيه وتحتاط، إن كانت على وتيرة واحدة ولم يختلف عليها فهذا دم حيض حتى لو تجاوز خمسة عشر يوماً إلا إن أطبق عليها الدم فأصبح لا ينقطع أبداً، أو لا ينقطع بالشهر إلا مدة يسيرة فحينئذٍ نقول: إنها مستحاضة.

الطهر بين الحيضتين

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً، ولا حد لأكثره].يقول المؤلف رحمه الله: الطهر بين الحيضتين أقله ثلاثة عشر يوماً، وعلى هذا لو أن امرأة طهرت من حيضتها، وبعد أن مضت عشرة أيام رأت الدم، أو لا نحكم بأنه حيض على كلام المؤلف؛ لأن المؤلف رحمه الله يقول: بأن أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً، وعلى هذا إذا قالت المرأة: أنا طهرت، ما لي إلا تسعة أيام أو ما لها إلا أسبوع فهذا دم فاسد، نقول لها على كلام المؤلف: صلي وصومي ولا يعتبره حيضاً، ولزوجها أن يعاشرها .. إلخ؛ لأن أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً. وأيضاً: الخلاف في هذه المسألة كما تقدم, فعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا حد لأقل الطهر بين الحيضتين، وعلى هذا نقول: هذه المرأة التي جاءها الدم وطهرت من حيضتها، ثم بعد عشرة أيام أو أحد عشر يوماً أو اثنا عشر يوماً جاءها الدم نقول: إن كان هذا الدم إن وصفته دم الحيض فهو حيض.والدليل على ذلك أن الله عز وجل قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222]، وأيضاً حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة )، فمتى وجد الأذى ومتى وجد الحيضة فإن الأحكام تترتب على ذلك، وهذا القول هو الصواب، وأنه لا حد له لأنه لم يرد في الشرع تحديده. قال: (ولا حد لأكثره) ولا حد لأكثر الطهر بين الحيضتين، وهذا الصواب، بعض النساء لا تحيض أبداً، ويوجد من النساء من تجلس سنة كاملة لا يأتيها الدم، ومنهن من تجلس أربعة أشهر، ومنهن من تجلس خمسة أشهر .. إلخ، فلا حد لأكثره كما ذكره المؤلف رحمه الله, وهذا الصواب.

أقل سن تحيض فيه المرأة وأكثره

قال المؤلف رحمه الله: [وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين، وأكثره ستون].يقول المؤلف رحمه الله: أقل سن تحيض منه المرأة تسع سنين، يعني: إذا أتمت تسع سنين، وعلى هذا لو كان عندنا جارية لها ثمان سنوات، ثم جاءها دم الحيض، هل وجبت عليها الصلاة أو لم تجب عليها الصلاة؟ لم تجب عليها الصلاة؛ لأن هذا الدم على كلام المؤلف لا نعتبره دم حيض، ولا بد أن تبلغ الجارية تسع سنوات لكي يكون هذا الدم الذي خرج منها دم حيض، فإن كان لها ثمان سنوات ونصف .. إلخ، فإن رأت الدم فإننا لا نعتبره حيضاً، هذا على كلام المؤلف رحمه الله، وهو قول أكثر أهل العلم، أن أقل سن تحيض له المرأة هو تمام تسع سنوات، لا بد أن تتم تسع سنوات؛ وعلى هذا إذا رأت الدم في ثمان سنوات أو أقل أو أكثر .. إلخ لكن لم تبلغ تسع سنوات فإنه لا يعتبر حيضاً، واستدلوا على ذلك بقول عائشة رضي الله تعالى عنها: ( إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة )، وهذا ليس صريحاً.وأيضاً قالوا: بأنه يرجع إلى الوجود، فإنه وجد أن الجارية تحيض من تسع سنوات فأكثر، يعني: قالوا: ما وجدنا أن جارية حاضت في أقل من تسع سنوات. وأيضاً الصواب في هذه المسألة كما تقدم في المسائل السابقة أنه لا حد, وأن الجارية متى رأت الدم المعروف عند النساء فنقول: بأنه دم حيض، تترك الصلاة ويجب عليها التكاليف الشرعية ونحكم بأنها بلغت، حتى لو كان لها أقل من تسع سنوات.ودليل ذلك كما أسلفنا قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222]، فعلق الله عز وجل الحكم على وجود هذا الأذى، وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة: ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ) ولم يقيد ذلك بسنين ولم يقيد ذلك بأيام.. إلخ، فمتى أقبلت تلك الحيضة فإنها تدع الصلاة. أيضاً أكثره ستون، يعني: هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله, وهي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، والرواية المشهورة عن الإمام أحمد رحمه الله أن أكثره خمسون سنة. وعلى هذا لو كان عندنا امرأة تم لها خمسون، أو تم لها ستون سنة على كلام المؤلف, وهي ترى الدم، ما نقول لها بالنسبة لهذا الدم تصلي أو لا تصلي؟ نقول: تصلي، يعني: عندنا امرأة لها خمسون سنة، ثم رأت دم الحيض، على كلام المؤلف نقول لها صلي؛ لأن سن الحيض بين تسع إلى خمسين، أو بين تسع إلى ستين كما ذكر المؤلف رحمه الله، وعلى هذا نقول لها: صلي، وصومي، ويجوز لزوجها أن يعاشرها, ولا نحتسب ذلك من دم الحيض، بل نخرجه عن دم الحيض، ويكون حكمه حكم الاستحاضة كما سيأتي إن شاء الله. والصواب في هذه المسألة كما تقدم: أنه لا حد لذلك، وأن المرأة متى رأت الدم المعروف عند النساء، حتى ولو كان لها خمسون سنة أو أكثر أو أقل .. إلخ فإننا نعتبره دم حيض؛ والدليل على ذلك ما أسلفناه فيما تقدم من قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]، فرتب الله عز وجل الحكم على وجود هذا الأذى, ولم يقيده بخمسين أو بتسع أو بيوم وليلة أو بخمسة عشر يوماً، وأيضاً ما تقدم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.

المبتدأة في الحيض

قال المؤلف رحمه الله: [والمبتدأة إذا رأت الدم لوقت تحيض في مثله جلست، فإذا انقطع لأقل من يوم وليلة فليس بحيض، وإن جاوز ذلك ولم يعبر أكثر الحيض فهو حيض، فإذا تكرر ثلاثة أشهر بمعنى واحد صار عادة].المراد بالمبتدأة: هي التي رأت الدم أول مرة، يعني: أول مرة يأتيها دم الحيض، فهذه الجارية التي أول مرة يأتيها دم الحيض ماذا نقول لها؟مذهب الإمام أحمد رحمه الله من أصعب المذاهب فيما يتعلق بالمبتدأة، على كلام المؤلف نقول لهذه المبتدأة التي لها عشر سنوات وجاءها دم الحيض: تجلس أقل الحيض، يوم وليلة، بمعنى أنها لا تصلي ولا تصوم .. إلخ، تأخذ أحكام الحائضات، بعد أن يمضي يوم وليلة تغتسل، بعد أن تنتهي من الغسل تقوم وتعمل العبادات يعني: تصوم وتصلي.. إلخ، لكن لا يطؤها زوجها؛ لأنه يحتمل بأن هذا الدم دم حيض.فهم يقولون: ما نحكم أنه دم حيض، نقول: تصوم وتصلى، والدم معها، ولا نحكم بأنه دم حيض حتى تتكرر ثلاث مرات؛ لأن العادة لا تسمى عادة حتى تتكرر، فبعد أن تغتسل بعد يوم وليلة، نقول: صومي وصلي، وافعلي العبادات لكن لا يقربها زوجها إذا كانت متزوجة؛ لأنه يحتمل أن هذا الدم حيض، ثم بعد ذلك إذا انقطع بعد -مثلاً- خمسة أيام.. ستة أيام نقول: تغتسل مرة أخرى لانقطاع دم الحيض، الغسل الأول تغتسل احتياطاً، ثم بعد ذلك إذا انقطع الحيض اغتسلت مرة أخرى غسل الحيض، ثم تفعل ذلك في الشهر الثاني، ثم تفعل ذلك في الشهر الثالث، فإذا تكرر عليها هذا الدم ثلاث مرات عرفنا بأن هذا الدم عادة، فما دمنا حكمنا أنها عادة نرجع ونقول لها: اقضي الواجبات التي فعلتها ما بين يوم وليلة إلا إذا اغتسلت.قلنا لها: اجلسي يوماً وليلة أقل الحيض، ثم تغتسل، وبعد أن تغتسل تصوم وتصلي .. إلخ، الآن صامت، صيامها هل هو صحيح أو ليس صحيحاً؟ غير صحيح؛ لأنه لما تكرر تبين أن هذا عادة، فنقول لها: أعيدي الواجبات التي فعلتيها في حال الحيض، الصلاة ما تجب، لكن فعلتها في حال الحيض احتياطاً، لكن الصيام يحرم على الحائض، لو أنها صامت وهي حائض يجب أن تعيده، ولو أنها طافت بعد أن اغتسلت يجب أن تعيده، ولو أنها اعتكفت اعتكافاً واجباً يجب أن تعيده؛ لأنه تبين أنها حائض، وهذه الأشياء لا تصح من الحائض، الصلاة والصيام لا تصحان من الحائض، الطواف لا يصح من الحائض .. إلخ، فيجب عليها أن تعيد. هذا خلاصة قول الحنابلة رحمهم الله في المبتدأة، يعني: التي أصابها الدم أول مرة، يقولون كما أسلفت: تجلس يوماً وليلة، وتأخذ أحكام الحائض، ثم بعد ذلك تغتسل، ثم بعد ذلك تمارس العبادات كالطاهرات، مع أن معها الدم، لكن زوجها لا يقربها لأنه يحتمل أن هذا الدم دم حيض، إلى أن ينقطع عنها الدم، فإذا انقطع عنها الدم تغتسل، بعد أن تنتهي من الغسل تكون كالطاهرات الآن، إذا تكرر اليوم في الشهر الثاني والثالث .. إلخ عرفنا بأن هذا عادة، فنقول لها ما فعلتيه في حال جريان الدم في حال وجود الحيض يجب عليك أن تعيديه، فالصيام الذي فعلته في حال الحيض ما يصح، الاعتكاف ما يصح، الطواف ما يصح، يجب أن تعيديه. والصواب في المبتدأة: كما هو رأي أكثر أهل العلم أن نقول: المبتدأة إذا رأت الدم تجلس، فحكمها كحكم غيرها، وتكون حكمها كحكم الحائضات، إذا طهرت تغتسل وهكذا، ولا حاجة إلى أن نقول: أنها تغتسل بعد يوم وليلة .. إلخ كما هو قول الحنابلة رحمهم الله. وهذا القول هو الصواب, فإن مذهب أكثر أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة هو الصواب، وأن نقول البنت التي رأت الدم أول مرة إذا رأت دم الحيض تجلس، وتأخذ أحكام الحائضات، لا تصلي ولا تصوم, وإن كانت متزوجة لا يقربها زوجها، ولا حاجة إلى أن نقول: بعد يوم وليلة أو حتى يتكرر .. إلخ.ودليل ذلك ما تقدم أن أشرنا إليه من قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]، فرتب الله عز وجل الحكم على وجود الأذى، إذا وجد الأذى من المبتدأة أو غير المبتدأة.وأيضاً حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة )، وهذا يشمل المبتدأة وغير المبتدأة.

المستحاضة

قال المؤلف رحمه الله: [وإن عبر ذلك فالزائد استحاضة، وعليها أن تغتسل عند آخر الحيض وتغسل فرجها وتعصبه، ثم تتوضأ لوقت كل صلاة].

تعريف الاستحاضة

اختلف العلماء رحمهم الله في تعريف المستحاضة، يعني: عندنا حائض وعندنا مستحاضة وعندنا نفساء.أما المستحاضة فقال بعض العلماء: هي التي تجاوز دمها خمسة عشر يوماً، فقالوا: إن الزائد على خمسة عشر يوماً نعتبره استحاضة.والرأي الثاني: قالوا: إن المستحاضة هي التي ترى دماً لا يصلح أن يكون حيضاً ولا نفاساً. والرأي الثالث: أن المستحاضة هي التي يطبق عليها الدم، فلا ينقطع عليها أبداً، أو ينقطع لمدة يسيرة، يعني: امرأة أصبح معها نزيف الآن، ما ينقطع أبداً أو لا ينقطع إلا مدة يسيرة. والصواب من هذه الآراء هو التعريف الثاني، وأن المستحاضة هي التي ترى دماً لا يصلح أن يكون حيضاً ولا نفاساً، ويدخل فيه التعريف الثالث التي أطبق عليها الدم، يعني: المرأة التي أطبق عليها الدم لا يصلح أن يكون حيضاً، هذا القول هو الأقرب.

ما يلزم المستحاضة

وما الحكم بالنسبة للمستحاضة إذا حكمنا بأنها مستحاضة؟ المستحاضة من أحكامها: عليها أن تغتسل عند آخر الحيض، هذا يأتينا إن شاء الله بيانه، أن المستحاضة لها أقسام، فإذا قلنا: إن المستحاضة معتادة، يعني: هذه امرأة تقول: أنا لي عادة، وعادتي من واحد إلى ستة، هذا وقت العادة التي ينزل فيها الدم، فإذا أطبق عليها الدم، وأصبح مستمراً معها، نقول لها: اجلسي في وقت العادة من واحد إلى ستة، وبعد أن ينتهي وقت العادة، نقول لها: اغتسلي، ثم بعد ذلك صلي.هذا الحكم الأول، يجب عليها أن تغتسل إذا انتهت حيضتها، ودليل ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة للمستحاضة: ( دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي ).قال المؤلف رحمه الله: (وتغسل فرجها وتعصبه).تعصب الفرج لكي لا يخرج الدم؛ ولهذا أسماء بنت عميس لما ولدت في ذي الحليفة بـمحمد بن أبي بكر , أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تستثفر بثوب، تتلجم تتحفظ لكي لا يخرج الدم، ثم تتوضأ لوقت كل صلاة وتصلي.المستحاضة الحكم الثاني أنها تتحفظ، تستثفر بثوب، يعني: تتلجم بثوب، هذا الحكم الثاني. الحكم الثالث: هل يجب عليها أن تغسل الفرج، وتغير هذا الثوب أو ما تحفظت به كل وقت أو لا يجب؟ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا لا يجب عليها، ما دام أنه لم يخرج منها إلا هذا الحدث، فإنه لا يجب عليها أن تغير ما تتحفظ به وقت كل صلاة.نقول: هذا لا يجب عليها, لكن تغسل الفرج، وإذا كان يضرها الغسل فإنها تستجمر.الحكم الرابع: هل تتوضأ لوقت كل صلاة مثل من به سلس بول .. إلخ؟ هل يجب عليها أن تتوضأ إذا دخل الوقت أو نقول بأنه لا يجب، وأن هذا الحدث ليس ناقضاً للوضوء؟ مذهب الإمام مالك رحمه الله أن هذه الأحداث المستمرة ليست ناقضة، وأن الذي ينقض هو الحدث المعتاد، فالصواب في هذا أنه لا يجب عليها أن تتوضأ لوقت كل صلاة إلا إذا وجد حدث آخر غير الاستحاضة، فإنه يجب عليها أن تتوضأ، أما إذا كان الذي يخرج هو الاستحاضة فقط غير دم الحيض هذا دم عرق فلا يجب عليها. قال المؤلف رحمه الله: [وكذا حكم من به سلس البول وما في معناه].يعني: في الوضوء هل يجب الوضوء أو لا يجب الوضوء؟

أحوال المستحاضة

قال المؤلف رحمه الله: [فإذا استمر بها الدم في الشهر الآخر، فإن كانت معتادة فحيضها أيام عادتها، وإن لم تكن معتادة وكان لها تمييز وهو أن يكون بعض دمها أسود ثخيناً وبعضه أحمر رقيقاً فحيضها زمن الأسود الثخين، وإن كانت مبتدأة أو ناسية لعادتها ولا تمييز لها فحيضها من كل شهر ستة أيام أو سبعة؛ لأنه غالب عادات النساء] .. إلخ.هنا الحكم الرابع من أحوال المستحاضة، نقول: المستحاضة لها أحوال، نبينها فيما يلي:

المعتادة غير المميزة

الحالة الأولى: أن تكون المستحاضة معتادة، يعني: لها عادة قبل الاستحاضة، قبل أن يطبق عليها الدم لها عادة.مثال: امرأة تقول: أنا أطبق علي الدم، الآن أصابني نزيف, نقول لهذه المرأة: هل لك عادة أو ليست لك عادة؟ قالت: نعم.. لي عادة، متى عادتك؟ قالت: عادتي مثلاً من عشرة إلى خمسة عشر. نقول لهذه المرأة: ارجعي لعادتك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أرجع المستحاضة إلى العادة، فإذا جاء من اليوم العاشر إلى اليوم الخامس عشر اجلسي، وخذي أحكام الحائضات، ثم بعد ذلك اغتسلي وكوني كالطاهرات.إذا قلنا كما تقدم: إنها تتلجم وتغسل الفرج وتتوضأ لكل صلاة، إذا قلنا بهذا فنقول بالنسبة للمستحاضة المعتادة: ارجعي إلى عادتك واجلسي أيام العادة، تأخذين أحكام الحائضات، ثم بعد ذلك إذا انتهى فإنك تغتسلين وتأخذين أحكام الطاهرات.ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: ( دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي ).فالحالة الأولى من أحوال المستحاضة: أن يكون لها عادة، فإذا كان لها عادة نقول: ارجعي إلى عادتك، وترجع إلى عادتها، فإذا كانت هذه المستحاضة التي أصابها الآن الدم وأطبق عليها تقول: أنا لي عادة من عشرة إلى خمسة عشر نقول: اجلسي في هذا الوقت من عشرة إلى خمسة عشر، وخذي أحكام الحائضات، ثم بعد ذلك اغتسلي وصلي وافعلي أحكام الطاهرات إلا ما يتعلق بالمستحاضات, هذه الحالة الأولى.

المعتادة المميزة

الحالة الثانية من أحوال المستحاضة: أن يكون لها عادة معلومة ولها تمييز، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم، والصواب فيها أنها ترجع أيضاً إلى عادتها. فهذه امرأة أطبق عليها الدم، تقول: أنا لي عادة، وعادتي أن يأتيني الحيض مثلاً من خمسة إلى عشرة، هذا وقت العادة، لكني أرى الدم متميزاً، يعني: فيه صفات دم الحيض من عشرة إلى خمسة عشر، فهل نقول: ترجع إلى هذا التمييز؟ يعني: تقول مثلاً: من عشرة إلى خمسة عشر أرى صفات الدم فيه، أرى أنه أسود، أو أنه ثخين، أو أن له رائحة منتنة .. إلخ، من عشرة إلى خمسة عشر، وعادتي: خمسة إلى عشرة، فهذا نرجعها إلى التمييز، أو نرجعها إلى العادة؟ نقول: بأننا نرجعها إلى العادة؛ لأن هذا أضبط للمرأة؛ ولأن هذا التمييز قد يختلف عليها، وأيضاً لأن النبي عليه الصلاة والسلام أرجع المستحاضة إلى العادة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي وصلي ) رواه مسلم .

الناسية للعادة المميزة

الحالة الثالثة: لها عادة لكن نسيت العادة ولها تمييز، يعني: هذه امرأة تقول: أنا لي عادة، لكن نسيت العادة، ما أدري متى العادة؟ وعندها تمييز ترى الدم متميزاً، مثلاً من خمسة عشر إلى عشرين ترى أنه متميز بصفات الحيض .. إلخ فنقول: في هذه الحالة ترجع إلى التمييز، فإذا كانت لها عادة ونسيت العادة، أو أصلاً ليس لها عادة، المبتدأة أطبق عليها الدم ولها تمييز، فنقول: ترجع إلى التمييز، فمثلاً إذا كان الدم أحمر لكنه متميز، من خمسة عشر إلى عشرين، وهي تقول: نسيت العادة، لكن عندها تمييز، فنقول في هذه الحالة: ترجع إلى التمييز.

الناسية للعادة غير المميزة

الحالة الرابعة من أحوال المستحاضة: امرأة ليس عندها تمييز ولها عادة لكن نسيت العادة، وهذه يقسمها العلماء رحمهم الله ثلاثة أقسام: يعني: امرأة الآن أطبق عليها الدم، نقول: متى عادتك لكي نرجع إلى العادة؟ تقول: نسيت، هل عندك تمييز؟ هل ترين الدم متميزاً مثلاً من كذا إلى كذا؟ تقول: لا، الدم على صفة واحدة، متى عادتك؟ قالت: نسيت.فالحالة الرابعة: امرأة نسيت عادتها وليس لها تمييز، هذه يقسمها العلماء رحمهم الله إلى ثلاثة أقسام: فأعيد الأحوال باختصار: الحالة الأولى: لها عادة معلومة، نقول لها: ارجعي إلى عادتك.الحالة الثانية: لها عادة وتمييز, نقول لها: ارجعي إلى العادة. الحالة الثالثة: ليس لها عادة لكنها تميز، أو نسيت العادة لكن تميز، نقول لها: ارجعي إلى التمييز. الحالة الرابعة: نسيت العادة، وليس لها تمييز، فهذه قسمها العلماء رحمهم الله إلى ثلاثة أقسام.القسم الأول: نسيت الموضع والعدد، هذه يسميها العلماء متحيرة، فهي لا تدري الموضع، هل هو أول الشهر أو وسط الشهر أو آخر الشهر؟ ولا تدري هل عادتها خمسة أيام أو ستة أو سبعة ..نقول في هذه الحالة: اجلسي غالب عادة نسائك، يعني: انظري إلى من تشابهك من أقاربك في الخلقة وفي السن .. إلخ، كم عادتها؟ عادتها ستة أيام سبعة .. إلخ، فنقول: اجلسي من أول الشهر ستة أيام أو سبعة كغالب نسائك، فنقول: تجلس أول الشهر ستة أيام أو سبعة كغالب نسائها.فإذا كانت من تشابهها من أقاربها حيضتها ستة أيام تجلس ستة، إذا كانت من تشابهها حيضها خمسة أيام تجلس خمسة، إذا كانت تجلس سبعة أيام تجلس سبعة .. إلخ من أول الشهر، إذا كانت تقول: أنا أعلم أن العادة تأتيني في النصف الثاني، لكن ما أحدده, ما نقول لها؟ هل تجلس من النصف الأول أو النصف الثاني؟ نقول: من النصف الثاني.إذا قالت: أنا أعرف أن العادة تأتيني في العشر الأواخر لكن ما أحدد، نقول: من أول العشر الأواخر وهكذا.الحالة الثانية: أن تعلم الموضع لكن تنسى العدد, تقول: أعرف أن الحيض يأتيني من اليوم الخامس، لكن نسيت العدد، نسيت هل هو خمسة أو ستة .. إلخ؟ما دامت تعلم الموضع نقول: اجلسي من اليوم الخامس، بالنسبة للعدد ترجع إلى من يشابهها من نسائها، فتنظر إلى من يشابهها من نسائها في السن والخلقة .. إلخ، وتنظر كم تتحيض وتحيض مثلها. القسم الثالث: عكس القسم الثاني وهو أن تعرف العدد وتنسى الموضع، فإذا كانت تعرف العدد وتنسى الموضع نقول: اجلسي من أول الشهر، كم عدد حيضتك؟ قالت: سبعة، اجلسي من أول الشهر سبعة، إلا إذا قالت: أنا أعرف أن موضعه في النصف الثاني، فنقول: اجلسي من أول النصف الثاني، قالت: أنا أعرف في العشر الأواخر، نقول: اجلسي من أول العشر الأواخر، هذه أحوال الاستحاضة.

حيض الحامل

قال المؤلف رحمه الله: [والحامل لا تحيض إلا أن ترى الدم قبل ولادتها بيوم أو يومين أو ثلاثة فيكون دم نفاس] هل تحيض الحامل أو لا تحيض الحامل؟جمهور أهل العلم على أن الحامل لا تحيض، وعلى هذا لو كان عندنا امرأة حامل، ثم بعد ذلك رأت الدم، فنقول: هذا ليس حيضاً، على رأي جمهور أهل العلم رحمهم الله, وعلى هذا يجب عليها أن تصوم وأن تصلي .. إلخ، ويجوز لزوجها أن يعاشرها. ودليل ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام في سبايا أوطاس: ( لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة )، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم وجود الحيض دليلاً على براءة الرحم، ولو كان يجتمع معه لن يكون وجوده علماً على عدمه. فنقول: حديث أبي سعيد أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل -غير حامل- حتى تحيض حيضة ) دليل على أن الحامل لا تحيض؛ لأنه إما حمل أو حيض، وقال الإمام أحمد رحمه الله: إنما تعرف النساء الحبل بانقطاع الدم. والرأي الثاني: ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله وغيره أن الحامل تحيض، وأن المرأة الحامل إذا رأت الدم بصفات دم الحيض نحكم بأنه حيض؛ لقول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]، وهذا يشمل ما إذا كانت حاملاً أو غير حامل، وأيضاً ما تقدم من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة )، وهذا يشمل ما إذا كانت حاملاً أو غير حامل. والأقرب في ذلك هو الرأي الأول، هذا القول هو ما يقرره الأطباء، فالأطباء اليوم يقررون ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وأن الحامل لا يمكن أن تحيض، وأن ما تراه الحامل من دم فإنه لا يكون حيضاً، وهذا أيضاً هو الذي يشهد له الواقع والتجربة.يعني: المرأة الآن إذا كانت حاملاً ويأتيها شيء من الدم، إذا سئلت عن صفات هذا الدم تجد أنه لا يوافق الدم الطبيعي، تجد أنه مختلف، إما قطرات أو نزغات أو نحو ذلك، وهذا القول هو الصواب. وعلى هذا نقول: الصواب في هذا المسألة ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وأن المرأة الحامل إذا رأت دماً فإنها لا تعتبر حيضاً بل يجب عليها أن تصوم، ويجب عليها أن تصلي، ويصح صومها .. إلخ، وتأخذ أحكام الطاهرات, ولا تأخذ أحكام الحائضات. قال: (إلا أن ترى الدم قبل ولادتها بيوم أو يومين أو ثلاثة فيكون دم نفاس). وهذا سنتعرض إليه إن شاء الله في باب النفاس.
مسائل متعلقة بالحيض

علامة الطهر

بقي علينا قبل أن ننتهي من باب الحيض مسألتان أو ثلاث مسائل: المسألة الأولى: علامة الطهر عند النساء، ما هي علامة الطهر عند النساء؟ نقول: علامة الطهر عند النساء علامتان: العلامة الأولى: الجفاف؛ جفاف المحل، بحيث إذا احتشت شيئاً فإنها لا ترى شيئاً. العلامة الثانية: القصة البيضاء؛ والقصة البيضاء هي ماء أبيض يقذفه الرحم بعد نهاية دم الحيض، يعني: بعد طهر المرأة من عادتها ترى القصة البيضاء.

زيادة الحيض ونقصانه وتقدمه وتأخره

المسألة الثانية: الطارئ على دم الحيض، هناك طوارئ تطرأ على دم الحيض، من هذه الطوارئ الزيادة أو النقص، أو التقدم أو التأخر. يعني مثلاً: المرأة عادتها خمسة أيام فيزيد عنها الدم باليوم السادس، أو النقص عادتها ستة أيام فينقص عنها الدم خمسة أيام، أو التقدم تكون عادتها في آخر الشهر فترى الدم في أول الشهر، أو التأخر تكون عادتها في أول الشهر فيتأخر عنها إلى آخر الشهر. في هذه الصور الأربع كلها نقول: هو حيض، يأخذ أحكام الحيض، ما دام أنه بصفته نقول بأنه حيض، يعني: لو تقدم عليها الحيض أو تأخر أو زاد أو نقص، فإذا نقص نقول: هو طهر يجب عليها أن تعتزل، إذا زاد نقول: هو حيض، إذا تقدم أو تأخر الدم نقول: هذه الطوارئ التي تطرأ عليها لا تؤثر، بل تأخذ المرأة أحكام الحائضات، ولا حاجة إلى أن يتكرر أو لا يتكرر كما ذهب إليه بعض أهل العلم رحمهم الله. والدليل على ذلك ما تقدم أن أشرنا إليه من قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]، فرتب الله عز وجل الحكم على وجود الأذى، متى وجد هذا الأذى فإنه يتعلق به الحكم. وأيضاً تقدم معنا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ) وهذا في الصحيحين.
الصفرة والكدرة
المسألة الأخيرة ما يتعلق بالصفرة والكدرة.الصفرة هي: عبارة عن ماء أصفر يخرج من النساء، والكدرة: عبارة عن ماء ممزوج بحمرة. فما حكم الصفرة والكدرة؟ نقول: الصفرة والكدرة لها ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن تكون الصفرة والكدرة قبل نزول العادة، يعني: قبل أن تنزل على المرأة العادة ترى هذه الصفرة أو ترى هذه الكدرة نقول: الصواب أنه لا عبرة بها، فيجب على المرأة أن تصلي ويصح منها الصيام .. إلخ، ولا تترك العبادات، بل نقول: هذه الصفرة والكدرة لا حكم لها على الصحيح، حتى لو كانت مع المرأة أو جاء دم الحيض .. إلخ، فنقول: تنتظر حتى ينزل عليها الدم المعروف عند النساء. ودليل ذلك حديث أم عطية رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ( كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً )، وهذا يشمل ما إذا طهرت المرأة إلى أن ينزل عليها دم الحيض. الحالة الثانية: من أحوال الصفرة والكدرة أن يكون ذلك بعد الطهر، أيضاً لا عبرة بهذه الصفرة والكدرة، مثلاً: امرأة طهرت من حيضتها، إما بانقطاع الدم والجفاف أو بالقصة البيضاء، ثم بعد ذلك رأت صفرة أو كدرة فإنه في هذه الحالة تأخذ أحكام الطاهرات، ولا تجلس في هذه الصفرة والكدرة. الحالة الثالثة: أن تكون هذه الصفرة والكدرة متصلة بالحيض، إذا كانت متصلة بالدم، ليست بعد الطهر، وليست قبل العادة، قبل الدم، وإنما هي متصلة بالدم، فنقول: حكمها حكم الحيض ما دامت المرأة في عادتها الطبيعية، فمثلاً: عندنا امرأة رأت الدم اليوم الأول والثاني والثالث، ثم بعد ذلك رأت صفرة أو كدرة في الرابع والخامس والسادس .. إلخ، فنقول: هذه الصفرة والكدرة حكمها حكم الحيض؛ لأنه ما دامت هذه الصفرة والكدرة في المدة الطبيعية للحيض نحتسبها. أيضاً مثال آخر: امرأة رأت الدم خمسة أيام، رأت صفرة لمدة يومين، نقول: هذا حيض؛ لأنه في العادة الطبيعية للمرأة.مثال ثالث: امرأة رأت الدم ستة أيام أو سبعة أيام، ثم بعد ذلك رأت صفرة أو كدرة، نقول: لا تنظر إليها، فيجب عليها أن تغتسل وأن تصلي. أو مثلاً: بعض النساء قد ترى الدم خمسة أيام، ثم بعد ذلك تجلس معها الصفرة خمسة أيام .. إلخ، تجلس وتطول معها الصفرة، نقول: إذا تجاوزت العادة الطبيعية للمرأة ستة أيام أو سبعة فإنها تغتسل.هذا هو الصواب في هذه المسألة, وحينئذٍ نقول الخلاصة في الصفرة والكدرة أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يكون ذلك قبل نزول الحيض هذه لا عبرة بها. القسم الثاني: أن يكون ذلك بعد الطهر فهذه لا عبرة بها.القسم الثالث: أن تكون متصلة بالحيض -يعني: بالدم- فهذه فيها التفصيل الذي سبق.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-29, 06:22 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الطهارة [9]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )


الدم الخارج بسبب الولادة له حالات، بعضها يكون نفاساً، وبعضها ليس كذلك، والنفاس كالحيض إلا أنهما يفترقان في مسائل؛ ككون الحيض يحصل به البلوغ بخلاف النفاس، وأكثر مدة النفاس أربعون يوماً ولا حد لأقله.
النفاس

تعريف النفاس

قال المؤلف رحمه الله: [باب النفاس: وهو الدم الخارج بسبب الولادة].تقدم لنا في الدرس السابق شيء من أحكام الحيض، وذكرنا ما يتعلق بأقله وأكثره، وأيضاً ما يتعلق بالسن الذي يمكن فيه الحيض بالنسبة للمرأة، وأيضاً تكلمنا عن الطهر بين الحيضتين، وما هو أقله؟ وهل لأكثره حد أو لا؟وأيضاً تكلمنا عن أحكام المبتدأة، وتكلمنا أيضاً عن أحكام الاستحاضة .. إلخ، وتوقفنا على باب النفاس. النفاس لغة: مأخوذ من التنفس وهو التشقق والانصداع، أو مأخوذ من التنفس وهو مأخوذ الهواء من الرئة بعد دخوله إليها.وأما في الاصطلاح: فكما عرفه المؤلف رحمه الله بقوله: (وهو الدم الخارج بسبب الولادة).فنقول: النفاس هو الدم الخارج بسبب الولادة.

حالات الدم الخارج بسبب الولادة

اعلم أن هذا الدم الخارج من المرأة بسبب الولادة له ثلاث حالات: يعني: متى نعتبره نفاساً؟ ومتى لا نعتبره نفاساً؟نقول: بأن هذا الدم الخارج من المرأة بسبب الولادة له ثلاث حالات:الحالة الأولى: الدم الخارج بعد الولادة، هذا نفاس بالإجماع، بإجماع العلماء رحمهم الله أنه يأخذ أحكام النفاس. الحالة الثانية: الدم الخارج أثناء الولادة، يعني: والمرأة تلد، هل هذا الدم نعتبره نفاساً أو لا نعتبره نفاساً .. إلخ؟ أيضاً هذا نقول: هو نفاس على الصحيح.الحالة الثالثة: الدم الخارج قبل الولادة، يعني: قبل أن تلد المرأة خرج منها دم، فهل يعتبر هذا الدم نفاساً بحيث إنه يأخذ أحكام النفاس من كونها لا تجب عليها الصلاة، ولا يصح منها الصوم .. إلخ أحكام الحيض؛ لأن النفاس له أحكام الحيض كما سيأتينا إلا في بعض الفروق؟ فهل نعتبر هذا الدم الخارج قبل أن تلد المرأة نفاساً أو لا نعتبره نفاساً؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله. الرأي الأول: أنه نفاس مطلقاً مع وجود الأمارة، يعني: إذا وجدت أمارات الولادة من الطلق ونحو ذلك فإنه نفاس مطلقاً، ولا يحدد بزمن، فإذا كان مع المرأة طلق قبل يوم أو يومين أو ثلاثة، ثم رأت هذا الدم وبدأ هذا الدم يخرج معها، فنقول: هو نفاس، وهذا اختيار الشيخ السعدي رحمه الله. الرأي الثاني: أنه يكون نفاساً إذا وجدت الأمارة يعني الطلق، وأيضاً كان الزمن يسيراً كيومين ويوم ونحو ذلك، وهذا هو المشهور من المذهب، يعني: إذا كان الزمن يسيراً يقيدونه بيومين أو يوم ونحو ذلك ووجدت الأمارة العلامة، فقالوا بأنه حينئذٍ يكون نفاساً.الرأي الثالث: أنه ليس نفاساً مطلقاً، مادامت قبل الولادة قالوا: ليس نفاساً مطلقاً. والصواب في هذه المسألة: هو الرأي الأول؛ لأن هذا الدم خارج بسبب الولادة، فنقول: إذا وجدت أمارة الولادة مع المرأة من الطلق فإنه يكون نفاساً، وهذا القول هو أصوب الأقوال وأرجحها. أما بالنسبة للماء الذي يخرج من المرأة قبل الولادة فهذا لا تأخذ المرأة حكم النفساء، فيجب على المرأة أن تصلي، وهذا الماء طاهر، لكن يجب على المرأة أن تصلي, وأيضاً يجب عليها أن تصوم إذا قدرت على الصيام ونحو ذلك، لا تأخذ أحكام النفساء بالنسبة لهذه المياه. وهذه المياه التي تخرج من المرأة من مخرج الرحم طاهرة، ولا تأخذ حكم النفاس، إنما تأخذ حكم النفاس بخروج الدم, وكان معه علامة الولادة -الطلق- فحينئذ يكون نفاساً.

مواضع الاتفاق والافتراق بين الحيض والنفاس

قال المؤلف رحمه الله: [وحكمه حكم الحيض فيما يحل ويحرم ويجب ويسقط به].يقول المؤلف رحمه الله: وحكمه حكم الحيض فيما يحل للحائض، ما يحل للحائض أن تعمله كما سبق لنا، وأيضاً مما يحل مثلاً الاستمتاع بالمرأة الحائض, النفساء كالحيض تماماً، ويحرم وطء المرأة الحائض في الفرج أيضاً يحرم وطء النفساء في الفرج، أيضاً المرأة الحائض يجب عليها الغسل، كذلك أيضاً النفساء يجب عليها أن تغتسل إذا طهرت، وتسقط عنها الصلاة كالحائض. وتقدم لنا أن الحائض ليس لها أن تدخل المسجد وأن تمكث في المسجد، كذلك أيضاً النفساء، فالمسائل التي تقدمت في الحيض كذلك النفساء تأخذ أحكام الحائض. ويدل لذلك حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها لما حاضت قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( لعلك نفست )، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم الحيض نفاساً؛ فدل على أن هذا الدم كدم الحيض، إلا أن هناك فروقاً بين دم الحيض ودم النفاس. الفرق الأول: أن دم الحيض يحصل به البلوغ بخلاف دم النفاس، فإن دم النفاس ليس علامة من علامات البلوغ، وتقدم لنا دليل أن الحيض علامة من علامات البلوغ كما في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار )، فالمراد بقوله حائض يعني: البالغ، فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم على البالغ نفس الحائض مما يدل على أن الحيض يحصل به البلوغ. الفرق الثاني من الفروق بين دم الحيض والنفاس: أن دم الحيض يكون به الاعتداد، بخلاف دم النفاس فإن دم النفاس لا عبرة له في العدة. فالمرأة مثلاً إذا طلقت وهي من ذوات الأقراء فإن عدتها ثلاثة قروء؛ كما قال الله عز وجل: وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، أما دم النفاس فإنه لا عبرة به بالنسبة للعدة، فلو أن النفساء طلقت، وخرج منها الدم لمدة عشرين يوماً مثلاً، فنقول: هذا الدم لا عبرة به، بل إذا طهرت ثم جاءها الحيض ثلاث مرات فإنها تخرج من عدتها، هذا الفرق الثاني.الفرق الثالث: الطلاق؛ تقدم لنا أن طلاق الحائض محرم ولا يجوز، وهو طلاق بدعي؛ ( لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما طلق ابن عمر رضي الله تعالى عنهما زوجته تغيظ في ذلك، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يأمر ابن عمر أن يراجع زوجته ). أما بالنسبة للنفساء فإن طلاقها طلاق سنة، فلو أن الإنسان طلق زوجته وهي نفساء فإن هذا الطلاق طلاق سنة، وليس طلاق بدعة، ويقع به الطلاق؛ لأن المرأة تستقبل به العدة، بخلاف الحائض إذا طلقت في أثناء الحيض فإنها لا تستقبل بها عدة. كذلك أيضاً الفرق الرابع: أن المرأة إذا طهرت قبل تمام العدة في الحيض فإنه لا يكره لزوجها أن يطأها، فلو كانت عدة المرأة مثلاً ستة أيام، ثم طهرت لخمسة أيام فإنه لا يكره لزوجها أن يطأها. أما بالنسبة للنفاس فإن المشهور من مذهب الحنابلة أنه يكره لزوجها أن يطأها، فعدة النفاس كما سيأتينا إن شاء الله أربعون يوماً، لو أن المرأة طهرت لشهر مثلاً، فإنه يكره لزوجها أن يطأها قبل أن تتم أربعون يوماً؛ لورود ذلك عن عثمان بن أبي العاص فإنه قال لزوجته لما طهرت قبل تمام الأربعين: لا تقربيني. والصواب: أنه لا يكره، وما ورد عن عثمان بن أبي العاص رضي الله تعالى عنه هذه كراهة نفسية، إذا أراد الإنسان أن يترك ذلك لكونه يأنف منه فنقول: بأن هذا لا بأس به، وليس حكما شرعياً، فلو أن الإنسان وطئ زوجته قبل تمام العدة نقول: لا بأس به؛ لقول الله عز وجل: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223].الفرق الخامس: أن المرأة إذا انقطع عنها الدم في أثناء العادة ثم عاد فهو دم حيض، وأما النفساء إذا انقطع عنها الدم أثناء عدة النفاس ثم عاد الدم مرة أخرى فإن العلماء يقولون بأنه دم مشكوك فيه. والصواب: أنه ليس هناك دم مشكوك فيه، بل نقول كما قال المؤلف رحمه الله: إذا عاد في مدة الأربعين أنه نفاس، ونقول: الصواب أنه ليس هناك دم مشكوك فيه.

أكثر مدة النفاس

قال المؤلف رحمه الله: [وأكثره أربعون يوماً ولا حد لأقله].بالنسبة لأكثر النفاس اختلف فيه أهل العلم رحمهم الله، أما بالنسبة لأقله فلا حد لأقله؛ لأنه قد يوجد امرأة تلد ولا يخرج منها دم، وإذا ولدت امرأة ولم يخرج منها دم فإنها لا تكون نفساء، فيجب عليها الصيام والصلاة وسائر أحكام الطاهرات، وإنما قال العلماء رحمهم الله: خروج هذا الولد ينقض الوضوء فقط، وعلى كلام العلماء رحمهم الله تتوضأ وتصلي وتصوم .. إلخ وتفعل كأحكام الطاهرات، ولا يجب عليها الغسل إذا ولدت ولم تر دماً. بالنسبة لأقله نقول: لا حد لأقله؛ لأنه قد يوجد امرأة تلد ولا يوجد معها دم، أما بالنسبة لأكثره فذكر المؤلف رحمه الله أكثره فقال: (أكثره أربعون يوماً)، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وهو قول أبي حنيفة . والرأي الثاني: رأي الشافعي رحمه الله أن حده ستون يوماً. وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أيضاً: أنه لا حد لأكثره، فلو أن امرأة رأت الدم أكثر من أربعين أو ستين أو سبعين وانقطع فهو نفاس والأقرب من هذه الأقوال ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك أيضاً مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وأن أكثر مدة النفاس أربعون يوماً. ويدل لذلك حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: ( كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نفاسها أربعين يوماً ). أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي والحاكم وغيرهم، والحديث هذا -إن شاء الله- إسناده حسن، وله شواهد تعضده وتؤيده.وأيضاً: مما يدل لذلك ويعضد ذلك أن هذا هو قول الأطباء، الأطباء في الوقت الحاضر يقولون بأن النفاس السوي ما بلغ ستة أسابيع، وأنت إذا ضربت ستة في سبعة فإنه يساوي اثنين وأربعين يوماً. فما وردت به السنة يوافق ما ذكره الأطباء رحمهم الله، فإن الأطباء قالوا: عندما تلد المرأة يخرج دماً، ثم بعد ذلك ينقلب إلى كونه صفرة، ثم بعد ذلك ينقطع إلى تمام ستة أسابيع. فهذا القول الذي ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله، وذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى، هو الذي يوافق ما ذكره الأطباء في هذا الوقت. وعلى هذا نقول بأن المرأة تجلس أربعين يوماً، فإذا تم لها أربعون يوماً ولم ينقطع الدم فإنه يجب عليها أن تغتسل وأن تصلي وأن تصوم .. إلخ, وإذا كان هذا الخارج مستمراً مع هذا الدم فإنها تأخذ أحكام المستحاضات، تتلجم وتأخذ أحكام المستحاضات السابقة، والمستحاضة تأخذ أحكام الطاهرات كما تقدم لنا إلا في بعض المسائل.

طهر النفساء قبل الأربعين

قال المؤلف رحمه الله: [ومتى رأت الطهر اغتسلت وهي طاهرة].متى رأت المرأة الطهر، يعني: انقطع عنها الدم، وانقطع عنها الصفرة والكدرة، ليس معها شيء، فنقول: يجب عليها أن تغتسل وأن تصوم وأن تصلي .. إلخ، فإذا نفست المرأة ثم طهرت ولم يكن معها لا دم ولا صفرة ولا كدرة، فنقول: يجب عليها أن تغتسل، وأن تأخذ أحكام الطاهرات. قال المؤلف رحمه الله: [وإن عاد في مدة الأربعين فهو نفاس].يعني: إذا عاد عنها الدم في مدة الأربعين فهو نفاس، وإن عاد الدم بعد الأربعين فهذا يظهر أنه حيض، وأنه هو عادتها. بالنسبة للحائض إذا انقطع عنها الدم في أثناء العادة هل يجب عليها أن تغتسل أو لا يجب عليها أن تغتسل؛ لأن الحيض مع المرأة لا يستمر خروجه، بل تارة يخرج وتارة يقف؟ فنقول: هذه المسألة موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، والصواب في هذه المسألة ما ذكره ابن قدامة صاحب المغني قال: إذا كان الانقطاع ليوم فأكثر فيجب عليها أن تصلي وأن تغتسل .. إلخ، أما إذا كان الانقطاع لأقل من يوم مثلاً انقطع عليها ساعتين .. ثلاث ساعات.. خمس ساعات، فنقول: هذا الانقطاع وهذا الطهر لا عبرة به, وإنما يكون هذا الحكم حكم الحيض.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-05, 12:19 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [1]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(10)

لقد عظم الإسلام شأن الصلاة فجعلها الركن الثاني من أركان الإسلام، ولهذا كان القول الراجح هو كفر تارك الصلاة مطلقاً، والأذان من شعائر الإسلام، وهو أفضل من الإقامة والصحيح أنه فرض كفاية.
مقدمات

تعريف الصلاة وبيان فرضيتها

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كتاب الصلاة: روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) ].قال المؤلف رحمه الله: (كتاب الصلاة).مناسبة هذا الكتاب لما تقدم من أحكام الطهارة مناسبة ظاهرة، فإن المؤلف رحمه الله تكلم عن أحكام الطهارة كما سبق لنا، وبعد أن تكلم عن أحكام الطهارة شرع في أحكام الصلاة؛ وذلك لأن الطهارة فيها التخلية، والصلاة فيها التحلية والوقوف بين يدي الله عز وجل، والتخلية تكون قبل التحلية، فالإنسان يتخلى من الحدث، وأيضاً يتنظف، ثم يتحلى بعد ذلك بالوقوف بين يدي الله عز وجل؛ ولأنها مفتاح الصلاة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، ولا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ).الصلاة في اللغة: الدعاء؛ ومنه قول الله عز وجل: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103] أي: ادع لهم.وأما في الاصطلاح: فهو التعبد لله عز وجل بأقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير، ومختتمة بالتسليم.والصلا فرضيتها معلوم من الدين بالضرورة، فالأدلة عليها ظاهرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، فمن الكتاب قول الله عز وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] .وأما السنة فحديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن، وفيه قول النبي عليه الصلاة والسلام لـمعاذ : ( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم.. ) إلى آخر الحديث.والإجماع قائم على ذلك.قال: (روى عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له).هذا الحديث أخرجه أهل السنن، وإسناده صحيح.

على من تجب الصلاة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالصلوات الخمس واجبة على كل مسلم، عاقل، بالغ إلا الحائض والنفساء].هذا الوجوب بالإجماع، وتقدم الدليل على ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.قال: (مسلم)، قوله: مسلم هذا يخرج الكافر، فالكافر يتوجه إليه خطابان:الخطاب الأول: خطاب وجوب الأداء.والخطاب الثاني: خطاب وجوب التكليف. أما بالنسبة لوجوب الأداء فلا يجب عليه أن يؤدي الصلاة، يعني لا نأمر الكافر أن يؤدي الصلاة؛ لأنه فاقد للأصل وهو التوحيد، والله عز وجل قال: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] ، ما تنفع، فإذا كانت هذه الصلاة لا تنفع لم يكن هناك فائدة من أمره بأدائها، والله عز وجل يقول: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54] ، فالنفقات مع أن نفعها متعد ليس نفعاً محضاً لم تقبل من الكافر؛ لأنه كفر بالله وبرسوله، فكذلك أيضاً الصلاة، فنقول: بالنسبة لوجوب الأداء لا يجب عليه أن يؤدي لما ذكرنا من الدليل.وأما بالنسبة لوجوب التكليف فنقول: بأنه مكلف بها، وواجبة عليه، ويحاسب عليها يوم القيامة، ودليل ذلك قول الله عز وجل: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر:42-45] .فمن أسباب دخولهم النار قال: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:43].قال: (عاقل).بالنسبة للمجنون لا تجب عليه الصلاة؛ لحديث ( رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم النبي صلى الله عليه وسلم- المجنون حتى يفيق ).قال: (بالغ).فغير البالغ لا تجب عليه الصلاة لما تقدم من حديث عائشة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( رفع القلم عن ثلاثة، ذكر منهم: المجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ ) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم والدارمي وغيرهم، وهو حديث صحيح ثابت.فغير البالغ لا تجب عليه الصلاة، لكن يؤمر بها لسبع سنوات، ويضرب عليها لعشر، يجب على وليه أن يأمره بها لسبع، وأن يضربه على ذلك ضرب تأديب لعشر سنوات تأديباً له وتمريناً له على هذه الطاعة، ودليل ذلك حديث عبد الله بن عمرو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر ).قال: (إلا الحائض والنفساء).الحائض والنفساء لا تجب عليهن الصلاة كما تقدم لنا، ويدل لذلك ما تقدم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ( كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة )، وهذا في البخاري .وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( أليست إذا حاضت لم تصل ولم تصم ). وقول النبي عليه الصلاة والسلام للمستحاضة: ( إذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة ).فالحائض والنفساء لا تجب عليهما الصلاة، إلا أننا استثنينا حالتين تجب فيهما الصلاة، ما هما هاتان الحالتان؟إذا أدركت من آخر الوقت ركعة واحدة.الحالة الثانية: إذا أدركت من أول الوقت قدر ركعة، بحيث كانت طاهرة قدر ركعة فأكثر ثم بعد ذلك حاضت فإنه يجب عليها أن تؤدي هذه الصلاة إذا طهرت.كذلك أيضاً: إذا طهرت قبل خروج الوقت بقدر ركعة فإنه يجب عليها أن تقضي هذه الصلاة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة : ( من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، وسبق أن أشرنا إلى هذه المسألة.

حكم تارك الصلاة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمن جحد وجوبها لجهله عرف ذلك، وإن جحدها عناداً كفر].تارك الصلاة لا يخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يتركها جحداً لوجوبها بحيث يقول: الصلاة ليست واجبة، يقول: لا أصلي؛ لأن الصلاة ليست واجبة، فهذا يكفر بإجماع المسلمين؛ لأنه مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين، فإن القرآن دل على وجوبها، والسنة دلت على وجوبها، وإجماع المسلمين دل على وجوبها، إلا إذا كان هذا الشخص جاهلاً لكونه حديث عهد بإسلام، أو لكونه ناشئاً ببادية بعيدة عن بلاد المسلمين فهذا يعرف بالوجوب، فإن أقر به وإلا حكم بكفره.فنقول: الحالة الأولى: أن يتركها جحداً لوجوبها، إذا تركها جحداً لوجوبها فإنه يكفر، إلا إذا كان جاهلاً لكونه حديث عهد بإسلام، أو لكونه ناشئاً ببادية بعيدة عن بلاد المسلمين فيعرف.الحالة الثانية: أن يترك الصلاة تهاوناً وكسلاً، لا يصلي مع الناس تهاوناً وكسلاً فهذا هل يكفر أو لا يكفر؟هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يكفر، والمشهور من مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي أنه لا يكفر. فعندنا رأيان إذا تركها تهاوناً وكسلاً يعني يقر بوجوبها لكن تهاوناً وكسلاً لا يصلي، هل نحكم بكفره أو لا نحكم بكفره.هذا موضع خلاف، أشرنا أن الإمام أحمد رحمه الله يحكم بكفره، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة حتى ذكر ابن القيم رحمه الله أن الحكم بكفر تارك الصلاة دل عليه القرآن من عشرة أوجه، وأطال ابن القيم رحمه الله في هذه المسألة في كتابه كتاب الصلاة.من الأدلة الدالة على كفره قول الله عز وجل: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] ، فدل ذلك على أنهم إذا لم يقيموا الصلاة أنهم ليسوا إخواناً لنا في الدين، ولا تنتفي الإخوة في الدين إلا بانتفاء الإسلام ووجود الكفر. وأيضاً: من الأدلة على كفره حديث جابر في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة ).قال: (الشرك أو الكفر) أتى بـ(ال) التي تفيد الاستغراق يشمل الكفر الأكبر والكفر الأصغر.وأيضاً: حديث بريدة رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ).وأيضاً: ورود ذلك عن الصحابة، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذكر آثاراً كثيرة عن الصحابة في كفره، وكذلك أيضاً اللالكائي وغيرهما من أهل العلم ذكروا آثار الصحابة. وقال عبد الله بن شقيق : ما أجمع أصحاب محمد على شيء تركه كفر من الأعمال إلا الصلاة.وورد نحو هذا عن جابر رضي الله تعالى عنه.أما الذين قالوا: بأنه لا يكفر كما قلنا: هو مذهب أبي حنيفة وأيضاً مالك والشافعي ، فاستدلوا على ذلك بأدلة، من أدلتهم:أحاديث الرجاء، أي: الأحاديث التي ورد فيها الترغيب الكثير والثواب العظيم، ومن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة )، وهذا جاء في صحيح مسلم ونحو ذلك من هذه الأحاديث ( من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة )، وهذا يشمل كل من قال: لا إله إلا الله سواء كان يصلي أو كان لا يصلي.وأيضاً: استدلوا بحديث حذيفة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يبقى صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، وليسرى على كتاب الله عز وجل حتى لا يبقى منه آية، فيبقى الشيخ الكبير والمرأة العجوز يقولان: لا إله إلا الله، أدركنا آباءنا يقولونها فنحن نقولها. فقال صلة بن زفر لـحذيفة : ما تنفعهم لا إله إلا الله؟ قال: تنجيهم من النار ).الشاهد هنا قوله: ( تنجيهم من النار )، هذا الحديث أخرجه ابن ماجه وإسناده صحيح. وكذلك أيضاً: استدلوا بحديث عبادة بن الصامت الذي أورده المؤلف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة فمن حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له).فقوله: ( إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له ) هذا يدل على عدم الكفر؛ لأنه قال: ( إن شاء غفر له )، والكافر لا يغفر له.والأقرب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله وأن تارك الصلاة يكفر لصراحة الأدلة على ذلك. وأما ما استدل به الجمهور على عدم كفره فنقول: بالنسبة لأحاديث الرجاء الإنسان لا ينظر إلى النصوص بعين أعور، وإنما ينظر إلى النصوص بعينين سليمتين، يعني ينظر إلى الأدلة التي جاءت بالترغيب والثواب العظيم، وأيضاً ينظر لأدلة الوعيد، فإن النبي عليه الصلاة والسلام مثلاً قال: ( من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة )، لا إله إلا الله ما تكفي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خالصاً من قلبه )، إذا كان الإنسان مخلصاً في قول: لا إله إلا الله لا بد أن يعمل، ما يكفي أن يقول: لا إله إلا الله، وإلا فالمنافق يقول: لا إله إلا الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خالصاً من قلبه )، ولا يقول الإنسان: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه إلا إذا عمل بشرائع الإسلام خصوصاً الصلاة. ولهذا قال الزهري : لا إله إلا الله مفتاح الجنة، لكن من جاء بمفتاح له أسنان فتح له، وإلا لم يفتح له، فما يكفي أن يقول الإنسان: لا إله إلا الله، بل لا بد من العمل، ولا يكون الإنسان مخلصاً في هذه الكلمة إلا إذا عمل وخصوصاً الصلاة التي ورد النص في كفر تاركها.وأما بالنسبة لحديث حذيفة رضي الله تعالى عنه يقول: أدركنا آباءنا.. إلى آخره فهؤلاء معذورون بالجهل، هؤلاء أدركوا آباءهم على هذه الكلمة فيقولون هذه الكلمة، هذا مبلغ علمهم فيعذرون بذلك. وأما بالنسبة لحديث عبادة الذي أورده المؤلف في الحديث: ( من حافظ عليهن بركوعهن وخشوعهن وسجودهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة, ومن لم يحافظ عليهن ) يعني: بهذه الأشياء بالركوع والخشوع.. إلى آخره فلا يعني ذلك ترك الصلاة، في الحديث ( فمن حافظ عليهن بركوعهن وخشوعهن.. ) إلى آخر ما جاء في الحديث، ومن لم يحافظ عليهن يعني: بهذه الأشياء لم يكن له عهد عند الله.فالأقرب في هذه المسألة أنه يكفر تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً، لكن هل يكفر بمجرد ترك صلاة أو صلاتين، أو نقول: لا بد أن يترك الصلاة بالكلية فإذا كان يصلي ويخلي لا نحكم بكفره؟ هذا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شرح العمدة وغيره. فنقول: نحكم بكفره إذا ترك الصلاة بالكلية، أما إذا كان يصلي وقتاً ويترك وقتاً فهذا لا يظهر أنه يحكم بكفره؛ لأنه يعتبر مصلياً، لا نحكم بكفره إلا إذا ترك الصلاة بالكلية، فإذا كان لا يصلي بالكلية مثلاً على أقل شيء يمر عليه أسبوع؛ لأن الأسبوع هذا في أيام الدنيا ولم يصل لله عز وجل فنقول: هذا هو الذي يحكم بكفره، أما إذا كان يصلي هذا اليوم ويترك اليوم الثاني فهذا لا يظهر أنه يحكم بكفره.واعلم أن جمهور أهل العلم رحمهم الله قالوا: بأن تارك الصلاة يقتل، جمهور العلماء إلا أبا حنيفة رحمه الله، يعني حتى الذين قالوا: بأنه لا يكفر قالوا: بأنه يقتل مثل المالكية والشافعية يقولون: بأن تارك الصلاة لا يكفر، ومع ذلك يقولون بأنه يقتل.ودليل ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة )، إلا عند أبي حنيفة رحمه الله فإنه لا يرى قتله, وإنما يرى أنه يحبس حتى يصلي.

حكم تأخير الصلاة عن وقت وجوبها

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يحل تأخيرها عن وقت وجوبها إلا لناو جمعها، أو مشتغل بشرطها].لا يحل تأخير الصلاة عن وقتها، فتأخير الصلاة عن وقتها محرم ولا يجوز، ويدل لذلك قول الله عز وجل: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] أي: مفروضاً في الأوقات، قال عمر رضي الله تعالى عنه: إن للصلاة وقتاً اشترطه الله لها لا تصلح إلا به، وقال الله عز وجل: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] . قال ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص : لم يتركوها بالكلية -تركها بالكلية كفر- وإنما أخروها عن مواقيتها، فتوعدهم الله عز وجل بالويل. فتأخير الصلاة عن وقتها محرم ولا يجوز، لا يجوز للإنسان أن يؤخر الصلاة عن وقتها، وأيضاً قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي قتادة : ( أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى ) رواه مسلم .فسماه النبي صلى الله عليه وسلم مفرطاً، فتأخير الصلاة عن وقتها محرم ولا يجوز، وفعل الصلاة خارج الوقت مخل بشرط هو أعظم شروط الصلاة، العلماء كـشيخ الإسلام وغيره يذكرون أن شرط الوقت أعظم من شرط الطهارة، وأعظم من شرط ستر العورة، يعني كون الإنسان يصلي الفجر بعد الشمس هذا مثل الذي يصلي بلا طهارة بل أعظم، لو أن إنساناً صلى وهو لم يرفع الحدث نقول: صلاته غير صحيحة، كذلك أيضاً لو صلى خارج الوقت نقول: صلاته غير صحيحة، أو صلى وهو لم يستقبل القبلة، أو صلى ولم يتطهر من الخبث أو يستر عورته، فعل الصلاة في وقتها أعظم من هذه الشروط كلها، فعلى المسلم أن يتنبه لهذا، وأن يجاهد نفسه على إحداث هذه الصلاة في وقتها، وفعلها خارج الوقت لا يصح، عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلنا يعلم لو أن أحداً صام في غير وقت الصيام، أو حج في غير وقت الحج فإن صيامه وحجه ما يصح، فكذلك أيضاً بالنسبة للصلاة.قال: (إلا لناو جمعها، أو مشتغل بشرطها).استثنى المؤلف رحمه الله تأخير الصلاة عن وقتها في حالتين:

الحالة الأولى:

إذا كان ينوي الجمع، مثل المسافر، أو المريض، أو نحو ذلك ممن يرخص له في الجمع، فإذا نوى أن يؤخر الظهر إلى العصر، أو المغرب إلى العشاء يقول المؤلف رحمه الله: هذا لا بأس.(أو مشتغل بشرطها).هذا قيده العلماء رحمهم الله قالوا: مشتغل بشرطها الذي يحصله قريباً، مثال ذلك إنسان عنده ثوبه الذي يستر به عورته، انشق الثوب أو حصل فيه فتق أو خرق أو نحو ذلك، هنا الآن يحتاج إلى دقائق لكي يخيط هذا الثوب، هنا الآن يحصل شرطاً من شروط الصلاة وهو ستر العورة. عندنا أمران: إما أن يصلي الصلاة في وقتها، أو يشتغل بخياطة الثوب، أو بإخراج الماء مثلاً حتى يحصل شرط الصلاة، نقول هنا: لا بأس أنك تشتغل ما دام أن هذه الخياطة لن تستغرق وقتاً طويلاً، دقائق اشتغل بهذه الخياطة وخيط الثوب ولو خرج وقت الصلاة، مادام هذا الشرط تحصله قريباً، أو مثل الماء تحصله قريباً ما في بأس حتى لو خرجت الصلاة عن وقتها. فالصواب في هذه المسألة: أنه يجب على الإنسان أن يصلي الصلاة في وقتها على حسب حاله، ولا يجوز له أن يؤخرها، فلو أن ثوبه انشق عليه أو نحو ذلك فنقول: يجب عليك أن تصلي الصلاة في وقتها، ولا يجوز لك أن تؤخرها عن وقتها.

استتابة تارك الصلاة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن تركها تهاوناً بها استتيب ثلاثاً، فإن تاب وإلا قتل].تقدم لنا أن تارك الصلاة عند جمهور أهل العلم رحمهم الله يقتل؛ ودليلهم على ذلك أدلة كثيرة منها حديث ابن عمر : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة )، وهذا في الصحيحين.وأيضاً أبو بكر رضي الله تعالى عنه ومعه الصحابة قاتلوا تاركي الصلاة، إلا عند أبي حنيفة رحمه الله فإنه قال: يحبس، وذكرنا هل يكفر أو لا يكفر؟ذكرنا الخلاف في هذه المسألة، لكن قال المؤلف رحمه الله: لا يقتل حتى يستتاب ثلاثة أيام؛ ويدل لذلك ما ورد عن عمر أنه بلغه أن رجلاً ارتد فقتل، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: هلا استتبتموه ثلاثاً وأطعمتموه كل يوم رغيفاً، لعله يتوب فيتوب الله عليه.وهذا الأثر الوارد عن عمر رضي الله تعالى عنه ضعيف.والرأي الثاني: أنه لا حاجة إلى أن نستتيبه ثلاثة أيام؛ لحديث ابن عباس في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من بدل دينه فاقتلوه )، فقال النبي عليه الصلاة والسلام في المرتد: ( من بدل دينه فاقتلوه )، ولم يقيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بثلاثة أيام. وأيضاً في البخاري أن معاذاً أتى أبا موسى في اليمن فإذا رجل مقيد فسأل عن ذلك فأخبر أنه ارتد عن دينه، فقال معاذ : لا أنزل حتى يقتل فقتل.قلنا: هل يستتاب أو لا يستتاب؟ذكرنا في ذلك رأيين:الرأي الأول: أنه يستتاب ثلاثاً لورود ذلك عن عمر ، لكن هذا الأثر ضعيف.والرأي الثاني: أنه لا يستتاب، وذكرنا دليل ذلك.والأقرب في مثل هذا بالنسبة لاستتابة المرتد كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يرجع في ذلك إلى اجتهاد الحاكم، فالحاكم إن رأى أن يستتيبه استتاب، وإن رأى ألا يستتيبه فإنه لا يستتيبه، يعني إذا قامت القرائن على قربه من الخير ورجوعه فيستتيبه، وإن قامت القرائن على خلاف ذلك فإنه لا يستتيبه.
الأذان والإقامة

تعريف الأذان والإقامة

قال المؤلف رحمه الله: [باب الأذان والإقامة].الأذان في اللغة: الإعلام؛ ومن ذلك قول الله عز وجل: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:3] أي: إعلام.وأما في الاصطلاح: فهو التعبد لله عز وجل بالإعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة.وأما الإقامة في اللغة: فهي مصدر أقام أي: جعل الشيء مستقيماً. وأما في الاصطلاح: فهي التعبد لله عز وجل بالإعلام بالقيام إلى الصلاة بألفاظ مخصوصة.

حكم الأذان والإقامة

قال المؤلف رحمه الله: [وهما مشروعان].الأذان والإقامة دل عليهما القرآن والسنة وإجماع المسلمين.أما القرآن ففي قول الله عز وجل: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا [المائدة:58].والسنة ستأتينا أحاديث في الباب وهي كثيرة جداً.والإجماع قائم على مشروعية الأذان والإقامة، لكن قال المؤلف رحمه الله: (وهما مشروعان) لم يبين المؤلف رحمه الله هل هما سنة أو فرض؟ فالعلماء لهما في ذلك رأيان بالنسبة للأذان والإقامة هل هما فرض أو سنة.فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنهما فرض كفاية، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة وأيضاً الشافعي أنهما سنة. فعندنا رأيان:الرأي الأول: أنهما فرض كفاية.والرأي الثاني: مذهب أبي حنيفة والشافعي : أنهما سنة.والأقرب في ذلك ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله وأنهما فرض كفاية، يعني النبي عليه الصلاة والسلام أمر بهما كما في حديث مالك بن الحويرث في صحيح البخاري وغيره: ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم )، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن ) هذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أحدكم ) هذا يدل على أن هذا الأمر كفائي، وأنه ليس عينياً، يعني إذا قام به من يكفي سقط الأمر عن الباقين، لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (أذنوا كلكم )، وإنما قال: ( فليؤذن لكم أحدكم )، إذا قام بهذا الأمر شخص فإن ذلك كاف، ففي حديث مالك بن الحويرث رضي الله تعالى عنه دليل على أنه فرض، ودليل أيضاً على أن هذا الفرض على سبيل الكفاية.

شروط من يجب عليهم الأذان والإقامة

قال المؤلف رحمه الله: [للصلوات الخمس دون غيرها، للرجال دون النساء].قلنا: الأذان والإقامة فرض على الكفاية، فلا يجب على كل أحد يؤذن، وإنما يؤذن شخص ويكفي، يقيم شخص ويكفي عن البقية، هذا الفرض يشترط له شروط، يعني على من يجب هذا الأذان والإقامة؟ فنقول: شروط من يجب عليهم الأذان والإقامة: الشرط الأول: أن يكونوا رجالاً، والمراد بالرجال هنا البالغون، فإذا كانوا بالغين وجب عليهم، وأيضاً يراد بهم أن يكونوا اثنين فأكثر كما سيأتينا إن شاء الله هذا الشرط الأول.الشرط الثاني: أن يكونوا مقيمين، فإن كانوا مسافرين لم يجب عليهم الأذان ولا الإقامة وإنما يكون مستحباً، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.والرأي الثاني: أن الأذان والإقامة يجب على المسافرين كما يجب على المقيمين، وهذا القول هو الصواب، ويدل لذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـمالك بن الحويرث ومن معه وهم مسافرون: ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم )، وهم مسافرون، فالصواب في ذلك: أنه يجب على المسافرين كما يجب على المقيمين.الشرط الثالث: أن تكون هذه الصلوات مؤداة، فإن كانت مقضيةً فإنه لا يجب لها الأذان ولا الإقامة، فالشرط الثالث: أن تكون مؤداة، وأيضاً هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله. والصواب في هذا أيضاً: أن الأذان والإقامة كل منهما يجب للصلوات المؤداة، ويجب أيضاً للصلوات المقضيات؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مالك بن الحويرث : ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم ) يشمل حضور الصلاة في الوقت، ويشمل حضور الصلاة بعد خروج الوقت وهي المقضية، يشمل الأمرين.الشرط الرابع: أن يكونوا جماعة، يعني لكي يجب الأذان والإقامة لا بد أن يكونوا جماعة، والمراد بالجماعة أن يكونوا اثنين فأكثر، هذا هو المراد بالجماعة، أما إن كان واحداً يعني كان مسافراً واحداً، أو كان مثلاً في بادية أو مثلاً في مزرعة أو نحو ذلك فالأذان والإقامة له سنة وليس واجباً، لا يجب عليه أن يؤذن، ولا يجب عليه أن يقيم، لكن يستحب له أن يؤذن، ويستحب له أن يقيم، لكن إذا كانوا جماعة، والمراد بالجماعة اثنان فأكثر؛ لأنهما هما اللذان تنعقد بهما الجماعة.الشرط الخامس: أن يكونوا أحراراً، فإن كانوا أرقاء لم يجب عليهم الأذان والإقامة. والصواب في ذلك: أنه لا فرق بين الأحرار والأرقاء، وعندنا قاعدة: أن العبادات البدنية المحضة الأصل يتساوى الأحرار والأرقاء فيها، فقولنا: البدنية يخرج المالية، فالعبادات المالية لا تجب على الرقيق؛ لأنه لا يملك، بل هو مال، المحضة يخرج المركبة من المال والبدن، فهذه أيضاً لا تجب على الرقيق، فعندنا الأصل في العبادات البدنية المحضة أنه لا فرق فيها بين الأرقاء والأحرار. فمثلاً: الأذان والإقامة لا فرق بين الأرقاء والأحرار، وأيضاً صلاة الجمعة وصلاة الجماعة، الصلاة الوضوء الغسل.. إلى آخره، هذه كلها عبادات بدنية محضة، وهذه القاعدة تريح كثيراً؛ لأن العلماء كثيراً ما يفرقون بين الأحرار والأرقاء.الشرط السادس: أن يكون الأذان والإقامة للصلوات الخمس دون غيرها، فمثلاً صلاة الاستسقاء وصلاة العيدين ليس لهما أذان ولا إقامة، كذلك صلاة الكسوف ليس لها أذان ولا إقامة، وإنما لها نداء فقط؛ لأن السنة إنما وردت بالنسبة للأذان والإقامة للصلوات الخمس سواء كانت هذه الصلوات مؤداة أو كانت مقضية كما أسلفنا، والجمعة تدخل في الصلوات الخمس.

المفاضلة بين الأذان والإقامة

واختلف أهل العلم رحمهم الله أيهما أفضل الأذان أو الإمامة؟ هل الأفضل للإنسان أن يكون مؤذناً أو الأفضل أن يكون إماماً؟للعلماء في ذلك رأيان، فذهب بعض أهل العلم إلى أن الأذان أفضل من الإمامة؛ لأن الأذان ورد فيه أحاديث كثيرة تدل على فضل الأذان من ذلك حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة )، وهذا في صحيح البخاري .وأيضاً ما ثبت في الصحيح من حديث معاوية رضي الله تعالى عنه في مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة )، هذا يدل على فضل الأذان. وذهب بعض أهل العلم إلى أن الإمامة أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان إماماً، وكذلك أيضاً بالنسبة لخلفائه الراشدين كانوا أئمةً ولم يكونوا مؤذنين. وأيضاً قالوا: بأن الشارع علق بالإمامة أوصافاً شرعية مما يدل على فضلها، ففي حديث أبي مسعود البدري قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً ) فعلق الشارع بالإمامة أوصافاً شرعية مما يدل على علو رتبتها. والأقرب في ذلك هو الرأي الأول وأن الأذان أفضل من الإمامة، وكون النبي عليه السلام علق بالإمامة أوصافاً شرعية نقول: هذا يدل على فضل الإمامة، وأن الإمامة لها فضل ولها مزية، وأما كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مؤذناً، وأيضاً الخلفاء لم يكونوا مؤذنين؛ لأنهم شغلوا بأشياء أهم من الأذان والإقامة؛ لأن الأذان والإقامة يحتاجان إلى مجاهدة ومراقبة إلى آخره، فهم شغلوا بأشياء أعظم من مسألة الأذان بما يتعلق بتسيير أمور المسلمين، والنظر في أحوالهم، وهذه أعظم من مسألة الأذان، ولهذا ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: لولا الخلافة لأذنت.فنقول: الصواب في ذلك من حيث الجملة: أن الأذان أفضل من الإمامة، إلا أنه قد يكون هناك شخص قد يقال له بالنسبة لك الإمامة أفضل من الأذان؛ لأنه قد يكون طالب علم، أو يكون قارئاً، أو نحو ذلك، فهو يختلف، لكن من حيث الجملة الأذان أفضل من الإمامة، لكن قد يكون في بعض الناس يختلف الحال فيكون الأذان أو الإمامة في حقه أفضل.قال رحمه الله: (وهما مشروعان للصلوات الخمس دون غيرها للرجال دون النساء).الأذان والإقامة لا يشرعان لصلاة العيد، ولا يشرع لصلاة الاستسقاء، ولا لصلاة الكسوف، ولا لصلاة الجنازة إلى آخره، وإنما الأذان والإقامة مشروعان للصلوات الخمس؛ لأنهما إنما وردا للصلوات الخمس دون غيرها من الصلوات، الكسوف يشرع لها النداء، أما ما عدا ذلك فإنه لا يشرع لها أذان ولا إقامة.

حكم الأذان والإقامة للنساء

قال المؤلف رحمه الله: (للرجال دون النساء). أما النساء فلا يجب عليهن أذان ولا إقامة، إذا صلت النساء جماعة، لو أن النساء صلين جماعةً فهل يؤذن ويقمن أو نقول: بأنهن لا يؤذن ولا يقمن؟ فلو أن نساءً اجتمعن وصلين جماعةً هل نقول: يشرع لكن أن تؤذن وأن تقمن أو نقول: لا يشرع؟ هذه المسألة اختلف فيه أهل العلم رحمهم الله، فقال بعض العلماء: يكره للنساء أن يؤذن وأن يقمن، هذا مكروه.وقال بعض العلماء: يباح ذلك، يباح لهن أن يؤذن وأن يقمن.وقال بعض العلماء: يستحب لهن ذلك، أما الوجوب لا يجب؛ لأنهن ليستا من أهل الجمعة ولا الجماعة.والصواب في هذه المسألة: أننا نفرق بين الأذان وبين الإقامة، فنقول: بالنسبة للأذان لا يشرع لهن أن يؤذن، وأما بالنسبة للإقامة فنقول بأنه يشرع لهن أن يقمن الصلاة لاجتماعهن؛ لأن الإقامة هي إعلام للحاضرين بالقيام إلى الصلاة، ويدخل في ذلك النساء، أما بالنسبة للأذان فهو إعلام بدخول وقت الصلاة، وهذا لا يكون بالنسبة للمرأة.وعلى هذا نقول: إذا اجتمع النساء وصلين جماعةً فإن الإقامة مشروعة لهن، وأما بالنسبة للأذان فإنه ليس مشروعاً لهن، أما لو صلت امرأة لوحدها فنقول: لا يشرع لها أن تؤذن ولا أن تقيم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-20, 09:21 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [2]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(11)
صفة الأذان معروفة في السنة، وله عدة صفات جاءت في النصوص الصحيحة، والزيادة فيه بدعة، ويستحب للمؤذن أن يكون متطهراً، مستقبل القبلة، وأن يلتفت عند الحيعلتين، وأن يثوب في أذن الصبح، ويسن متابعة المؤذن
تابع الأذان والإقامة

تلخيص لما سبق من أحكام الأذان والإقامة

تقدم لنا شيء من أحكام الأذان، وذكرنا من ذلك تعريف الأذان في اللغة والاصطلاح, وكذلك أيضاً تعريف الإقامة، وتقدم لنا أيضاً حكم الأذان والإقامة، وذكرنا أن حكمهما أنهما فرض كفاية، وأن بعض الأئمة ذهب إلى أنهما سنة.. إلى آخره.قال المؤلف رحمه الله: (وهما مشروعان للصلوات الخمس).أفاد المؤلف رحمه الله أن الأذان والإقامة كل منهما مشروعان للصلوات الخمس، وكذلك أيضاً لصلاة الجمعة، ما عدا هذا لا يشرع لها أذان ولا إقامة، فصلاة العيد لا أذان لها ولا إقامة، صلاة الاستسقاء لا أذان لها ولا إقامة، صلاة الكسوف والخسوف لها نداء ينادى لها فقط، وصلاة الجنازة لا أذان لها ولا إقامة.. إلى آخره.قال المؤلف رحمه الله: (دون غيرها).ودليل ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما كان يؤذن للصلوات الخمس والجمعة فقط دون بقية الصلوات، فلم يرد أن الأذان شرع لغير الصلوات الخمس والجمعة.قال رحمه الله: (للرجال دون النساء). الأذان والإقامة كل منهما فرض كفاية كما سبق لنا، لكن هذه الفرضية لها شروط: فالشرط الأول: قال المؤلف رحمه الله: (للرجال)، فيجب الأذان والإقامة للرجال دون النساء؛ ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمالك بن الحويرث رضي الله تعالى عنه: ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم )، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. وكذلك أيضاً يدل على أن الأذان إنما هو للجماعة، والنساء لسن من أهل الجمعة والجماعة، فلا تجب عليهن الجماعة، وكذلك أيضاً لا تجب عليهن الجمعة. فالشرط الأول لوجوب الأذان والإقامة أن يكونوا رجالاً، فإن كن نساءً فلا يجب عليهن الأذان والإقامة. واختلف أهل العلم رحمهم الله في الأذان والإقامة بالنسبة للنساء على أقوال، فذهب بعض أهل العلم إلى أن الأذان والإقامة للنساء كل منهما مباح. وذهب بعض أهل العلم إلى أن كلاً منهما مستحب. وذهب آخرون وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن الأذان والإقامة لهن مكروهة.والرأي الرابع والأخير: أن الإقامة تشرع، إذا اجتمع النساء فإن الإقامة تكون مشروعةً لهن، أما بالنسبة للأذان فإنه ليس مشروعاً لهن، وعلى هذا إذا اجتمع النساء وصلين جماعةً فإنه يشرع لهن أن يقمن، وأما بالنسبة للأذان فإنه لا يشرع لهن أن يؤذن، كما لو اجتمعن في مدرسة أو في مكان ثم أردن أن يصلين جماعة فإنهن يقمن الصلاة؛ لأن الإقامة إعلام للحاضرين بالإقامة إلى الصلاة، وأما بالنسبة للأذان فهو إعلام للغائبين، والنساء يكن حاضرات، ولا حاجة إلى إعلام من كان غائباً؛ لأنهن يفترض فيهن أن يكن مجتمعات، هذا هو الشرط الأول. الشرط الثاني: أن يكونوا جماعة، فلو كان واحداً فإنه لا يجب عليه الأذان ولا الإقامة، والمراد بالجماعة هنا أن يكونوا اثنين فأكثر، فإذا كانوا اثنين فأكثر فإنه يجب عليهما أن يؤذنا وأن يقيما، كما لو خرجا في سفر، أو خرجا في نزهة فإنه يجب عليهما أن يؤذنا ويقيما. ويدل لذلك حديث مالك بن الحويرث رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم ).الشرط الثالث: أن يكونوا مقيمين، فلو كانوا مسافرين لا يجب عليهم الأذان ولا الإقامة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله. والصواب في ذلك: أنه لا فرق بين المقيم وبين المسافر، وأن الأذان والإقامة يجب على المقيمين ويجب على المسافرين، ويدل لذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـمالك بن الحويرث : ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم )، ومالك ومن معه كانوا مسافرين، فالصواب في هذه المسألة: أن الأذان يجب على المسافرين كما يجب على المقيمين.وأيضاً: لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ترك الأذان والإقامة في حال السفر، هذا لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام، فالصواب أن الإقامة ليست شرطاً.الشرط الرابع: أن تكون الصلاة مؤداةً، فلو كانت الصلاة مقضيةً فلا يجب لها أذان ولا إقامة، وهذا أيضاً هو المشهور من مذهب الإمام أحمد .والصواب أيضاً: أن الأذان والإقامة يجب على جماعة الرجال سواء كانت الصلاة مؤداةً أو كانت مقضيةً، ويدل لذلك حديث مالك بن الحويرث رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم )، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا حضرت الصلاة ) يشمل حضور الصلاة في الوقت، ويشمل أيضاً حضور الصلاة خارج الوقت، فحضور الصلاة في الوقت هذا إذا كانت الصلاة مؤداةً، وحضور الصلاة خارج الوقت إذا كانت الصلاة مقضيةً.الشرط الخامس: أن يكونوا جماعةً، والمراد بالجماعة كما سلف أن يكونوا اثنين فأكثر، أما إن كان واحداً فإنه يستحب له أن يؤذن، ولا يجب عليه أن يؤذن.الشرط السادس: أن يكونوا أحراراً، فلو كانوا أرقاء لم يجب عليهم الأذان والإقامة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.والصواب في هذه المسألة أيضاً: أنه لا فرق بين الأحرار والأرقاء لعموم الأدلة، وسبق أن أشرنا إلى قاعدة وهذه القاعدة: أن الأصل في العبادات البدنية المحضة أنه يتساوى فيها الأحرار والأرقاء إلا بدليل. فالصواب: أن الأذان والإقامة كل منهما يجب على الأرقاء كما يجب على الأحرار، وكذلك أيضاً جماعة الصلاة تجب على الأرقاء كما تجب على الأحرار، والجمعة أيضاً، وهذه قاعدة.والشرط الأخير: أن يكون الأذان والإقامة للصلوات الخمس والجمعة، أما ما عدا ذلك فلا يشرع لها أذان ولا إقامة.

ألفاظ الأذان والإقامة

قال المؤلف رحمه الله: [والأذان خمس عشرة جملة لا ترجيع فيها، والإقامة إحدى عشرة كلمة].تقدم لنا شروط وجوب الأذان والإقامة، الآن شرع المؤلف رحمه الله في بيان شروط الصحة في الأذان والإقامة:فالشرط الأول من شروط صحة الأذان: أن يأتي بجمل الأذان خمس عشرة جملة، وقول المؤلف رحمه الله: (والأذان خمس عشرة جملة) هذا هو أذان بلال ، وهذا اختيار الإمام أحمد رحمه الله، فإن الإمام أحمد رحمه الله اختار أذان وإقامة بلال كما هو المعمول به الآن، الأذان خمس عشرة جملة، والإقامة إحدى عشرة جملة، فيكبر أربع تكبيرات، ثم يتشهد الشهادتين، ثم يتشهد بالرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم شهادتين، ثم حي على الصلاة مرتين، ثم حي على الفلاح مرتين، ثم يكبر مرتين، ثم يقول: لا إله إلا الله مرةً واحدة. والإقامة معروفة إحدى عشرة جملة، هذا هو أذان بلال ، وهذه أيضاً إقامة بلال ، الإمام أحمد رحمه الله اختار ذلك، وإنما اختار الإمام أحمد أذان بلال وإقامة بلال ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يؤذن له بلال هكذا في المدينة، في المدينة كان يؤذن له بلال فاختار أذان بلال .الرأي الثاني: رأي أبي حنيفة ، أبو حنيفة رحمه الله في الأذان اختار أذان بلال ، وفي الإقامة اختار إقامة أبي محذورة ، في الأذان اختار أذان بلال وهو خمس عشرة جملة، وأما في الإقامة فإنه اختار إقامة أبي محذورة ، وإقامة أبي محذورة كأذان بلال إلا أن تضيف على ذلك قد قامت الصلاة مرتين، كم تكون جمل الإقامة؟ سبع عشرة، يعني إقامة أبي محذورة سبع عشرة جملة، هذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله.الرأي الثالث: مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، مذهب الشافعية ذهبوا إلى أذان أبي محذورة ، الشافعي اختار بالنسبة للأذان أذان أبي محذورة ، وأما الإقامة فإنه اختار إقامة بلال . وكيفية أذان أبي محذورة كأذان بلال إلا أن فيه الترجيع، يعني يرجع الشهادتين، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (لا ترجيع فيها).وكيفية الترجيع أن المؤذن يأتي بالشهادتين أولاً بصوت منخفض بحيث يسمع من حوله، ثم يرجع بعد ذلك ويرفع بهما صوته، فإذا أذن: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، يأتي بالشهادتين بصوت منخفض بحيث يسمع من حوله: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، ثم يعود مرةً أخرى: أشهد أن لا إله إلا الله يرفع صوته، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، هذا يسمى الترجيع.الإمام أحمد رحمه الله لا يأخذ بالترجيع؛ لأنه اختار أذان بلال ، والشافعي رحمه الله اختار أذان أبي محذورة .وأما الإمام مالك رحمه الله فهو اختار أذان أبي محذورة بتثنية التكبير في أوله، وعلى هذا يكون عنده سبع عشرة جملة، فاختار أذان أبي محذورة بتثنية التكبير في أوله، يعني بدلاً من أن يأتي بأربع تكبيرات يأتي بتكبيرتين، وأيضاً بالنسبة للإقامة اختار الإمام مالك رحمه الله إفراد قد قامت الصلاة، يعني أخذ إقامة بلال إلا أنه يفرد قد قامت الصلاة، وعلى هذا تكون جمل الإقامة عنده عشر. والملخص في هذه المسألة أن نقول: السنة للمؤذن تارةً يؤذن بأذان بلال ويقيم بإقامة بلال ، وتارةً يؤذن بأذان أبي محذورة ويقيم بإقامة أبي محذورة ، فيجمع بين السنة الواردة كلها، كل السنة الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام يجمع بينها، تارةً يؤذن بأذان بلال وبإقامة بلال ، وتارةً يؤذن بأذان أبي محذورة وإقامة أبي محذورة ، فتارةً يؤذن بأذان بلال المعروف عندنا، الأذان خمس عشرة جملة، والإقامة إحدى عشرة جملة، وتارةً يؤذن بأذان أبي محذورة كأذان بلال إلا أن فيه الترجيع، يعني يرجع الشهادتين، فيذكر الشهادتين بصوت منخفض ثم بعد ذلك يعود فيرفع صوته بالشهادتين، فتكون عنده الجمل تسع عشرة جملة، هذا بالنسبة للأذان.وأما بالنسبة للإقامة فكأذان بلال ويضيف على ذلك قد قامت الصلاة مرتين، يقيم بإقامة أبي محذورة ، هذا هو السنة، السنة أن الإنسان تارةً يفعل أذان بلال وإقامة بلال ، وتارةً يفعل أذان أبي محذورة وإقامة أبي محذورة ، فيطبق السنة كلها. وقد تقدم أن أشرنا إلى قاعدة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهي أن الصفات التي وردت على وجوه متنوعة أنه يشرع للإنسان أن يأتي بهذه الصفة تارة وبتلك الصفة تارةً أخرى؛ لأنه إذا عمل هذا كله يكون عمل بكل السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.المهم يشترط لصحة الأذان أن يأتي بالجمل كاملة، والجمل على المذهب خمس عشرة جملة.قال المؤلف رحمه الله: (لا ترجيع فيها).الترجيع سبق أن عرفناه أن يأتي بالشهادتين بصوت منخفض، ثم يرجع ويأتي بهما بصوت عال مرةً أخرى، يقول: لا ترجيع فيها، وذكرنا أن الصواب أنه يرجع في بعض الأحيان، بعض الأحيان يؤذن بأذان أبي محذورة فيعمل بكل السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.قال: (والإقامة إحدى عشرة كلمةً). وهذه إقامة بلال ، وذكرنا أن إقامة أبي محذورة سبع عشرة، وذكرنا أيضاً أن السنة أن المؤذن تارةً يأتي بأذان بلال وإقامة بلال ، وتارةً يأتي بأذان أبي محذورة وإقامة أبي محذورة .هذا شرط من شروط صحة الأذان والإقامة. وسنرجع لبقية الشروط حين يذكرها المؤلف.

شروط المؤذن وما يستحب فيه

قال المؤلف رحمه الله: [وينبغي أن يكون المؤذن أميناً صيتاً عالماً بالأوقات]. ويستحب أن يؤذن قائماً متطهراً ذكر المؤلف رحمه الله سنناً وآداباً للمؤذن، وهذه السنن تنقسم إلى قسمين: منها سنن واجبة، ومنها سنن مستحبة.فنقول: الشروط التي يجب أن تتوافر في المؤذن هي:الشرط الأول: أن يكون مسلماً، فيشترط في المؤذن أن يكون مسلماً.الشرط الثاني: أن يكون مميزاً، يعني إن كان صغيراً لم يبلغ يشترط فيه أن يكون مميزاً.الشرط الثالث: أن يكون عدلاً؛ وعلى هذا لو كان فاسقاً فإنه لا يرتب مؤذناً، لكن لو أن الفاسق أذن في أمر عارض فنقول: بأن أذانه صحيح، لكن الفاسق هذا لا يرتب ويولى في المناصب الدينية سواء كانت إمامة أو أذان أو خطابة أو غير ذلك؛ لأن المناصب الدينية هذه لا بد أن يكون المرتب فيها أهلاً، فهذه ثلاثة شروط. الشرط الرابع: أن يكون عاقلاً، فالمجنون لا يصلح أن يكون مؤذناً. الشرط الخامس: أن يكون ذكراً، فالمرأة لا يصلح أن تكون مؤذنةً.الشرط السادس: أن يكون أميناً، يكون أميناً على الأوقات، ويكون أيضاً أمين على عورات الناس، ويدل لذلك قول الله عز وجل: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26] .الشرط السابع: أن يكون عارفاً بأحكام الأذان والإقامة، يعني: يجب أن يكون عارفاً بحكمه، وهذا داخل في القوة؛ فإن الله عز وجل قال: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26] ، فيدخل في القوة المعرفة بأحكام الأذان والإقامة.وظاهر كلام المؤلف رحمه الله في قوله: (وينبغي أن يكون المؤذن أميناً) أن صفة الأمانة سنة وليست واجبة. والصواب: أن الأمانة شرط واجب لا بد أن يتوافر في المؤذن، فإن كان غير أمين على الوقت فلا يجوز أن يولى، أو كان غير أمين على عورات الناس فلا يجوز أن يولى؛ ودليل ذلك كما أسلفنا قول الله عز وجل: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26] .قال: (صيتاً).هذه الصفة صفة مستحبة، فكلما كان المؤذن أكثر صوتاً فإنه أولى؛ لأن ذلك أبلغ في الإعلام، وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعبد الله بن زيد لما رأى الرؤيا في الأذان: ( ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما، وإسناده صحيح.قال: (عالماً بالأوقات).وهذه أيضاً صفة مستحبة، يعني يستحب للإمام أن يعرف الأوقات، أن يعرف الزوال، ويعرف الغروب، ويعرف الشروق، وسواء كانت معرفته بالوقت إما بنفسه أو بغيره، إما بنفسه يعني بنفسه يستطيع أن يعرف الزوال والشروق والغروب.. إلى آخره، أو بغيره بحيث إن هناك أحداً يبين له أن الوقت قد دخل. ودليل ذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا وشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت )، فكونه رجلاً أعمى هذا ما يعرف الوقت بنفسه، لكن يعرفه بغيره، والآن معرفة الأوقات سهلة؛ لأن الناس الآن ما أصبحوا يعتمدون على العلامات الأفقية: الزوال ومغيب الشفق وطلوع الفجر ومصير غروب الشمس والشفق، ما أصبح الناس يعتمدون هذه الأشياء، وإنما أصبح الناس الآن يعتمدون على الحساب في معرفة أوقات الصلوات على هذه التقاويم، وينظرون إلى الآلات إلى الساعات.

ما يستحب في الأذان

قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب أن يؤذن قائماً].ودليل ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام لـبلال : ( قم فأذن )، وهذا في الصحيحين.وأيضاً: إذا أذان المؤذن وهو قائم فإن ذلك أبلغ في الإعلام؛ لأن المقصود في الأذان إعلام الناس بدخول وقت الصلاة، فإذا كان الإنسان قائماً فإن هذا أبلغ في الإعلان.وعلى هذا لو أذن وهو جالس ما حكم الأذان؟ صحيح؛ لأن هذه الصفة ليست واجبة وإنما هي مستحبة.قال رحمه الله: (متطهراً).ودليل ذلك: حديث المهاجر بن قنفذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر )، وأيضاً في حديث أبي الجهيم بن الصمة : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام لما سلم عليه لم يرد النبي عليه الصلاة والسلام السلام حتى أتى الجدار فتيمم على الجدار، ثم رد السلام، فرفع النبي عليه الصلاة والسلام الحدث، ثم بعد أن رفع النبي عليه الصلاة والسلام الحدث سلم عليه )، فهذا يدل على أنه يستحب للإنسان أن يذكر الله على طهر، والأذان لا شك أنه من ذكر الله عز وجل، وهذه أيضاً صفة مستحبة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة : ( كان يذكر الله على كل أحيانه )، فقولها: ( يذكر الله على كل أحيانه ) يدخل في ذلك الذكر وهو على طهارة، والذكر وهو على غير طهارة، فلو أذن المؤذن وهو غير متطهر فإن أذانه صحيح، لكن الأفضل والكمال أن يؤذن وهو متطهر، وحتى لو كان جنباً وأذن فإن أذانه صحيح لكن قال العلماء رحمهم الله: يكره أذان الجنب.قال: [على موضع عال].ويدل لذلك أيضاً ما ثبت في أبي داود : ( أن بلالاً كان يؤذن على سطح امرأة من بني النجار، وكان أعلى بيت قرب المسجد )، فيستحب أن يكون أذان الإنسان على علو، والآن هذه المسألة ذهبت غالباً؛ لأن المؤذنين الآن يؤذنون عن طريق هذه الآلات، وهذه الآلات ترفع الأذان بحيث يسمعها الناس من كل ناحية، لكن كلما كان صوتها أقوى كان أولى؛ لأن المقصود هو إبلاغ الناس بدخول وقت الصلاة.قال: [مستقبل القبلة].يستحب للمؤذن أن يستقبل القبلة، وقد ذكر بعض أهل العلم رحمهم الله أن استقبال القبلة مستحب بالإجماع، يعني بإجماع المسلمين أنه يستحب للمؤذن أن يؤذن وهو مستقبل القبلة.وأيضاً يدل لذلك قصة عبد الله بن زيد : ( لما رأى الملك في المنام الذي علمه الأذان قال: فقام فاستقبل )، ويدل هذا على مشروعية استقبال القبلة، فنقول: السنة للمؤذن أن يستقبل القبلة، وذكرنا في ذلك دليلين: أما الدليل الأول: فحديث عبد الله بن زيد وفيه ( لما رأى الملك يؤذن قال: قام فاستقبل )، لما علمه الأذان قال: ( قل: الله أكبر ).. إلى آخره.والدليل الثاني: الإجماع، فإن الإجماع منعقد على أن السنة للمؤذن أن يستقبل القبلة.وهذه كلها صفات مستحبة إلا أننا ذكرنا أن الأمانة صفة واجبة، وأيضاً كونه يعلم بالأوقات صفة مستحبة؛ لأننا ذكرنا أنه يكون أميناً على الوقت، وإذا كان أميناً فلا بد أن يكون عالماً بالوقت، لكن كونه يعلم بنفسه هذه صفة مستحبة سواء علم بنفسه أو علم بغيره، والسنة والأفضل أن يكون عالماً بنفسه، لكن لو كان عالماً بغيره فإن هذا جائز ولا بأس به، وذكرنا الدليل على ذلك حديث عبد الله بن أم مكتوم : ( وأنه كان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت ). قال رحمه الله: [فإذا بلغ الحيعلة التفت يميناً وشمالاً].هذه أيضاً من الصفات المسنونة في الأذان، إذا بلغ الحيعلة التفت يميناً وشمالاً، ويدل لذلك حديث أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه: ( أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة حمراء من أدم وأذن بلال ، قال: فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا يميناً وشمالاً يقول: حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح )، وهذا الحديث في الصحيح.الشاهد قوله: ( فجعلت أتتبع فاه يميناً وشمالاً يقول: حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح ).فالسنة للمؤذن أن يلتفت في الحيعلتين في حي على الصلاة، وفي حي على الفلاح، وقد ذكر العلماء رحمهم الله لكيفية الالتفات ثلاث صفات: الصفة الأولى: أن يلتفت يميناً بحي على الصلاة، ويلتفت شمالاً بحي على الفلاح، فبحي على الصلاة يلتفت يميناً, حي على الصلاة حي على الصلاة، وحي على الفلاح حي على الفلاح شمالاً، هذه الصفة الأولى.الصفة الثانية: أن يلتفت يميناً بحي على الصلاة، ثم يلتفت شمالاً بحي على الصلاة، وأيضاً حي على الفلاح يلتفت الأولى يميناً والثانية شمالاً فيقول: حي على الفلاح ويلتفت يميناً، ثمحي على الفلاح ويلتفت شمالاً، ثم هذه الصفة الثانية.الصفة الثالثة: أن يلتفت بحي على الصلاة الأولى ولا يعود، ثم يكمل الثانية، يعني يقول: حي على الصلاة، حي على الصلاة، ثم يعود ويقول: حي على الفلاح، حي على الفلاح، هذه الصفة الثالثة. فهذه ثلاث صفات لقول أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه: ( فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا يميناً وشمالاً حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح )، فهذه ثلاث صفات.والآن المؤذن يؤذن عن طريق الآلات فهل يشرع له أن يلتفت أو لا يشرع له أن يلتفت؟ هل نقول للمؤذن: يشرع لك الالتفات أو نقول: لا يشرع لك الالتفات؟ نقول: فيه تفصيل، فإذا كان التفاته هذا سيؤدي إلى خفض الصوت فإنه لا يلتفت، وإن كان التفاته لا يؤدي إلى خفض الصوت فنقول: الأصل بقاء المشروعية، يعني هذه الآلات إذا كان التفات الإنسان عنها سيؤدي إلى خفض الصوت لكونها مثلاً في مكان واحد فلا يلتفت، وإذا كان التفاته لا يؤدي إلى خفض الصوت فنقول: الأصل بقاء المشروعية.قال المؤلف رحمه الله: [ولا يزيل قدميه].معنى ذلك أن تكون قدماه تجاه القبلة، وإنما ينحرف فقط برأسه أما بالنسبة لقدميه فإنها تكون تجاه القبلة.قال المؤلف رحمه الله: [ويجعل إصبعيه في أذنيه].جعل الإصبعين في الأذنين هذا دل له حديث أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد والترمذي والحاكم وغيرهم، وجعل الإصبعين في الأذنين سنة إن ثبت الحديث؛ لأن كثيراً من أهل العلم يضعف الحديث الوارد في ذلك، وبعض أهل العلم يحسنه، أخرجه الإمام أحمد والترمذي والحاكم ، وصححه الحاكم ، وكثير من أهل العلم يضعفون ذلك. وعلى هذا: إذا لم يثبت الحديث فنقول: بأنه لا يشرع أن يضع إصبعيه في أذنيه, وإن ثبت الحديث كما صححه الحاكم وحسنه بعض أهل العلم فنقول: بأنه يشرع، وقد ذكر العلماء -بناءً على ثبوت الحديث- لكيفية وضع الإصبعين في الأذنين ثلاث صفات: الصفة الأولى: أن يضع يديه على أذنيه.والصفة الثانية: أن يضم أصابعه إلى راحتيه، ويضع يديه على أذنيه.والصفة الثالثة: أن يدخل السبابتين في أذنيه وفي صماخ أذنيه ويؤذن.فهذه ثلاث صفات ذكرها أهل العلم رحمهم الله، وهذا إذا ثبت الحديث، فإن لم يثبت الحديث فإنه لا يشرع أن يضع إصبعيه في أذنيه.قال المؤلف رحمه الله: [ويترسل في الأذان، ويحدر الإقامة].ودليل ذلك ما رواه أبو داود من حديث جابر أن المؤلف رحمه الله النبي عليه الصلاة والسلام قال لـبلال : ( إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر ).ففي هذا الحديث أمر النبي عليه الصلاة والسلام بلالاً أن يترسل في الأذان، وأن يحدر الإقامة، لكن هذا الحديث حديث جابر أخرجه الترمذي والبيهقي والحاكم وهو ضعيف لا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام.لكن عندنا دليل آخر غير هذا الدليل يدل على أن المشروع في الأذان الترسل وعدم الإسراع، والدليل على أن الأذان يشرع فيه رفع الصوت ما تقدم لنا من قول النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن زيد : ( ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً )، يشرع رفع الصوت، وإذا أراد أن يرفع الصوت هل سيترسل أو يسرع؟ يترسل، وأيضاً الأذان إعلام للغائبين، فإذا كان كذلك يشرع فيه أن يتمهل. بالنسبة للإقامة إعلام الحاضرين، ولا يشرع فيها رفع الصوت كما يشرع في الأذان، وإذا كان كذلك فإنه يحدرها أي: يسرع فيها.

التثويب في أذان الفجر

قال: [ويقول في أذان الصبح بعد الحيعلة: الصلاة خير من النوم].هذا أيضاً سنة، يستحب في أذان الصبح أن يقول: الصلاة خير من النوم، ودليل ذلك حديث أبي محذورة أنه قال: ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الأذان، إلى أن ذكر حي على الفلاح قال: فإذا كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم مرتين )، وهذا الحديث أخرجه النسائي وغيره، وهذا يسمى عند العلماء رحمهم الله بالتثويب، التثويب يطلقه العلماء رحمهم الله على ثلاثة أشياء: الشيء الأول: الإقامة، فالإقامة يسميها العلماء رحمهم الله تثويباً، الإقامة تسمى تثويباً. والثاني: قول: الصلاة خير من النوم، أيضاً هذا يسمى تثويباً عند العلماء، يعني في أذان الفجر تقول: الصلاة خير من النوم، هذا أيضاً يسمى تثويباً، وهذان القسمان مشروعان.أيضاً من أقسام التثويب: أن المؤذن إذا انتهى من الأذان يرجع مرةً أخرى ويقول: حي على الصلاة حي على الفلاح.. إلى آخره، وهذا كان موجوداً في السابق، أما الآن ليس موجوداً، وهذا أيضاً يسمى تثويباً لكنه بدعة، هذا بدعة، فأصبح عندنا التثويب المشروع ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يراد به الإقامة.والقسم الثاني: أن المراد به أن يقول المؤذن في صلاة الفجر: الصلاة خير من النوم مرتين.واختلف أهل العلم رحمهم الله في التثويب -يعني في قول: الصلاة خير من النوم- هل يقال في الأذان الأول أو يقال في الأذان الثاني؟ فأكثر أهل العلم رحمهم الله على أنه يقال في الأذان الثاني، يعني أن التثويب بقول: الصلاة خير من النوم يقال في الأذان الثاني، هذا ما عليه أكثر أهل العلم، واستدلوا على ذلك بحديث نعيم بن النحام ، وأيضاً حديث أنس .والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة رحمه الله, وأنه يقال في الأذان الأول، واستدل الحنفية على ذلك بحديث ابن عمر : ( كان في الأذان الأول بعد الفلاح: الصلاة خير من النوم ). فعندنا رأيان في هذه المسألة هل التثويب يعني قول: الصلاة خير من النوم يقال في الأذان الأول أو في الأذان الثاني؟أكثر أهل العلم على أنه يكون في الأذان الثاني، وقلنا: بأن دليلهم على ذلك حديث نعيم وحديث أنس. والرأي الثاني: أنه يقال في الأذان الأول، ودليلهم على ذلك ما في البيهقي من حديث ابن عمر قال: ( كان يقال في الأذان الأول بعد الفلاح: الصلاة خير من النوم ).والصواب في هذه المسألة ما عليه أكثر أهل العلم رحمهم الله تعالى، وأن التثويب بقول الصلاة خير من النوم إنما يكون في الأذان الثاني.وأما ما ورد في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( كان في الأذان الأول بعد الفلاح: الصلاة خير من النوم ) أن المراد بالأذان الأول هنا هو الأذان الثاني، لكن سمي بالأذان الأول نظراً للإقامة، فإن الإقامة تسمى أذاناً؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( بين كل أذانين صلاة ).

شروط الأذان

الأذان يشترط له شروط: الشرط الأول: أن يأتي بالجمل الشرعية، وقد سبق أن بينا هذه الجمل، وأنها في أذان بلال خمس عشرة وإحدى عشرة، خمس عشرة للأذان وإحدى عشرة للإقامة، وفي أذان أبي محذورة تسع عشرة وسبع عشرة، هذا الشرط الأول.الشرط الثاني: أن يكون الأذان بعد الوقت، وعلى هذا لو أذن قبل الوقت فإنه لا يصح أذانه، وتقدم لنا الدليل على ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت )، فكونه لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت دليل على أنه إنما يؤذن بعد الوقت.اعلم أن الأذان ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون عاماً، فهذا يكون في أول الوقت؛ لأن تأخيره عن أول الوقت يلبس على الناس وعلى أهل البيوت من النساء والمرضى وعلى من أراد الصيام.. إلى آخره، ولهذا كان مؤذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذنون في أول الوقت، تقدم ( أن ابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه كان لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت ) يعني: دخلت في الصباح.والقسم الثاني: أن يكون الأذان خاصاً، بمعنى: أن يكون الأذان لجماعة خاصة ليس عاماً، كما لو خرج أناس في نزهة، أو خرجوا في سفر، أو مثلاً كانوا في محل المهم أنه خاص بهم، فهذا الأذان يكون تابعاً للصلاة، فإذا شرع تأخير الصلاة فإنه يشرع تأخير الأذان، وسيأتينا إن شاء الله في الدرس القادم أنه يشرع تأخير الصلاة في حالتين: الحالة الأولى: الظهر في شدة الحر يشرع تأخيرها حتى يبرد الوقت.والحالة الثانية: العشاء الآخرة يشرع تأخيرها.فإذا شرع لهم أن يؤخروا الصلاة أيضاً نقول: أخروا الأذان تبعاً للصلاة؛ ويدل لذلك حديث أبي ذر : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام جاءه المؤذن فقال: أبرد. فجاءه فقال: أبرد. فجاءه فقال: أبرد ). أمره بالإبراد، قال: ( حتى رأينا فيء التلول ) وعلى هذا يكون الأذان ينقسم إلى هذين القسمين.الشرط الثالث: الترتيب، فلا بد أن يأتي بجمل الأذان مرتبة كما ورد في السنة، وقد سبق أن أشرنا إلى قاعدة: أن كل عبادة مركبة من أجزاء فإنه لا بد فيها من أمرين:الأمر الأول: الترتيب بين هذه الأجزاء.والأمر الثاني: الموالاة، وإلا لم تكن كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الترتيب يعني يبدأ بالتكبيرات، ثم بالشهادتين، ثم بالشهادة للنبي عليه الصلاة والسلام بالرسالة، ثم بالحيعلتين.. إلى آخره، وأيضاً لا بد من الموالاة، فلا يفصل بين التكبيرات بفاصل طويل عرفاً من كلام أو سكوت، أو بفاصل محرم من كلام أو فعل ونحو ذلك، هذا هو الشرط الرابع الموالاة.الشرط الخامس: أن يكون كل من الأذان والإقامة من واحد، وعلى هذا لو أذن شخص وكمله آخر فلا يصح، وكذلك أيضاً الإقامة لو أقام شخص وكمله آخر أو شرع في الإقامة ثم كمله آخر فإن هذا لا يصح.الشرط السادس: النية؛ لأن الإنسان قد يذكر هذه الألفاظ يقصد بها الأذان أو الإقامة, وقد يذكرها لا لقصد الأذان والإقامة.الشرط الأخير: ألا يلحن في الأذان، واللحن في الأذان ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون اللحن يحيل المعنى، فهذا لا يصح أبداً، يعني إذا كان لحناً يحيل المعنى فإنه لا يصح الأذان، لو قال مثلاً: آلله أكبر، أو قال: الله أكبار، ونحو ذلك من الألفاظ. القسم الثاني: ألا يكون اللحن يحيل المعنى وفي هذه الحالة يصح الأذان لكن مع الكراهة.

حكم الأذان الأول للفجر

حديث ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) هذا فيه دليل على مشروعية ما يسمى بالأذان الأول. لكن اختلف أهل العلم رحمهم الله في الأذان الأول هذا، هل هو مشروع في رمضان خاصة، أو أنه مشروع طول العام؟على رأيين: فقال بعض أهل العلم بأنه مشروع في رمضان خاصة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ).والرأي الثاني: أنه مشروع طول العام، وهذا القول هو الأقرب؛ لأن الصيام هذا ليس خاصاً في رمضان، وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام في بيان الحكمة: ( إن بلالاً يؤذن بليل، ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم )، وهذا في كل العام، النائم الذي لم يوتر يوقظه أذان بلال لكي يوتر، والقائم الذي يصلي يرجعه أذان بلال عن صلاته لكي يتسحر إن أراد الصيام، هذه هي الحكمة. فالصواب في ذلك أن نقول: إن الأذان الأول مشروع طول العام؛ لأن الحكمة التي من أجلها أو العلة التي من أجلها شرع الأذان في رمضان هي موجودة أيضاً في سائر العام، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم )، وهذا متحقق في كل العام.

وقت الأذان الأول للفجر

اختلف أهل العلم رحمهم الله في تحديد وقت الأذان الأول للفجر، والصواب في ذلك أن يكون بين الأذان الأول وبين طلوع الفجر ما تتحقق به الحكمة التي من أجلها شرع هذا الأذان وهو مقدار ما يتسحر الصائم، ويوتر النائم، فيكون بينهما مثلاً ما يقارب نصف ساعة أو قريب من هذا، أما كونه يؤذن قبل ذلك بساعتين أو ثلاث ساعات أو ساعة أو ساعة ونصف هذا كله خلاف السنة، وكله أيضاً لا تتحقق به الحكمة من المشروعية، تجد أن بعض المؤذنين يؤذن قبل طلوع الفجر بساعتين، أو قبل طلوع الفجر بساعة ونصف، هنا ما تحققت الحكمة التي من أجلها شرع هذا الأذان، هذا الأذان شرع لحكمة ( ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم )، فيكون في وقت تتحقق فيه هذه الحكمة. وعلى هذا إذا أذن قبل طلوع الفجر بنصف ساعة مثلاً بثلثي ساعة هنا تتحقق الحكمة، أما كونه يؤذن قبل الفجر بساعتين أو بساعة ونصف ونحو ذلك نقول هنا: لا تتحقق الحكمة التي من أجلها شرع هذا الأذان.

فضل إجابة المؤذن وحكمها

قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول كما قال لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول )].يستحب للإنسان أن يجيب المؤذن، قال النبي عليه الصلاة والسلام فيمن أجاب المؤذن مخلصاً من قلبه: ( دخل الجنة )، فإجابة المؤذن هذه سبب من أسباب دخول الجنة، ففيها فضل عظيم، فينبغي للإنسان أن يحرص على ذلك.واختلف أهل العلم رحمهم الله في إجابة المؤذن هل هي على سبيل الوجوب، أو على سبيل السنية؟على رأيين: أكثر أهل العلم وهم الجمهور رحمهم الله: أن إجابة المؤذن سنة وليست واجبة.وعند أبي حنيفة ومذهب الظاهرية أن إجابة المؤذن واجبة. ولكل منهما دليل: أما الذين قالوا: بأنها واجبة فاستدلوا بظاهر الأمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد قال: ( إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول أو كما يقول )، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، وهذا الحديث في الصحيحين.وعند جمهور أهل العلم: أن إجابة المؤذن ليست واجبةً لما في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إن لم يسمع أذاناً أغار، وإن سمع أذاناً أمسك، وإنه سمع مرةً مؤذناً يؤذن فقال: الله أكبر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على الفطرة، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: خرج من النار ).فهنا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاب هذا المؤذن، وإنما لما قال: ( الله أكبر، قال: على الفطرة )، ولما قال: ( لا إله إلا الله، قال: خرج من النار ).وأيضاً يدل لعدم الوجوب حديث مالك بن الحويرث رضي الله تعالى عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم )، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم إجابة الأذان، ولم يأمر بها. فالصواب في ذلك أن إجابة الأذان سنة، لكن لا ينبغي للإنسان أن يتركها، وينبغي للمسلم إذا سمع الأذان أن يعرض عن الحاجة التي معه حتى يفرغ المؤذن؛ لأن أذانه كما ثبت في صحيح مسلم سبب لدخول الجنة، النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عمر قال: ( إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر.. ) إلى آخره، ثم قال عليه الصلاة والسلام في نهاية الحديث: ( دخل الجنة ).

أحكام سماع الأذان

فينبغي للمسلم أن يحافظ على هذه السنية؛ لأنه من أسباب دخول الجنة.إذا سمع بعض الأذان ولم يسمع البعض الآخر فنقول: يجيب ما سمع، فمثلاً لو كان الإنسان نائماً ثم استيقظ والمؤذن يؤذن فنقول: يجيب ما سمع لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول )، وكذلك أيضاً لو كان يسير في مركوبه ثم بعد ذلك أتى على مؤذن يؤذن فنقول: بأنه يجيب ما سمع، أما ما لم يسمع فإنه فاته.كذلك أيضاً: إذا أجاب المؤذن ثم سمع مؤذناً آخر هل يجيبه أو لا يجيبه؟قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يجيب مؤذناً ثانياً وثالثاً.. إلى آخره؛ لأن هذا ذكر، فعلى هذا إذا سمع مؤذناً ثم سمع مؤذناً ثانياً يجيب الثاني ويجيب الثالث.. إلى آخره؛ لأن هذا ذكر ومن أسباب دخول الجنة. إذا صلى الإنسان ثم بعد ذلك سمع مؤذناً مثلاً لو كان الإنسان يباح له أو يشرع له الجمع فجمع مثلاً الظهر والعصر جمع تقديم، ثم سمع الأذان لصلاة العصر، هو الآن لن يصلي الآن، هل يجيب أو لا يجيب؟ نقول: عموم الحديث يدل على أنه يجيب؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا سمعتم النداء فقولوا كما يقول ).أيضاً مسألة أخرى: إذا سمع النداء عن طريق المذياع هل يجيبه أو لا يجيبه؟نقول: هذا فيه تفصيل: إن كان ينقل حياً مباشرةً فإنه يجيبه، وأما إن كان هذا الأذان الذي أذيع في هذا المذياع إنما هو تسجيل فإنه لا يجيبه.أيضاً: إذا سمع النداء وهو في الصلاة هل يجيب أو لا يجيب؟نقول: لا يجيب، خلافاً لما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: يجيب المؤذن حتى ولو كان في الصلاة.والصواب: أنه لا يجيب المؤذن حال الصلاة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن في الصلاة لشغلاً )، ولا شك أن الإنسان إذا كان يصلي فإنه مشغول بصلاته بالتكبير في الصلاة والتسبيح والذكر.. إلى آخره، فنقول: بأنه لا يشرع له أن يجيب المؤذن في الصلاة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن في الصلاة لشغلاً ).وكذلك أيضاً: لو سمع المؤذن وهو في بيت الخلاء يقضي حاجته فإنه لا يجيب حتى يخرج من بيت الخلاء.أما لو سمعه وهو يتوضأ خارج بيت الخلاء فإنه يجيب لعموم الحديث.بالنسبة لكيفية الإجابة بينها حديث عمر في صحيح مسلم تقول مثل المؤذن تماماً إلا في الحيعلة، يعني إذا قال المؤذن: الله أكبر، تقول: الله أكبر، إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله تقول: أشهد أن لا إله إلا الله. في الحيعلة إذا قال: حي على الصلاة تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال: حي على الفلاح تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.في التثويب في أذان الفجر إذا قال: الصلاة خير من النوم ماذا تقول؟ اختلف أهل العلم رحمهم الله في ذلك على رأيين: الرأي الأول: أنك تقول: الصلاة خير من النوم كما يقول المؤذن؛ لعموم حديث أبي سعيد ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم قال: ( إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول )، وعلى هذا إذا قال في أذان الفجر: الصلاة خير من النوم تقول: الصلاة خير من النوم، وهذا القول هو الصواب، خلافاً لما ذكره بعض أهل العلم من أنه إذا قال: الصلاة خير من النوم تقول: صدقت وبررت، وبالحق نطقت.. إلى آخره، هذا ليس عليه دليل. فالصواب في هذه المسألة: أن المؤذن إذا قال: الصلاة خير من النوم فإنك تقول مثله تماماً: الصلاة خير من النوم.بقينا في الإقامة إذا أقام المقيم هل تجيب المقيم أو لا تجيب المقيم؟ ورد حديث في سنن أبي داود في إجابة المقيم، وهذا الحديث ضعيف، لو ثبت لكان فاصلاً في النزاع بين أهل العلم رحمهم الله، لكن هذا الحديث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا نقول: الأمر واسع؛ لأن بعض أهل العلم قال: يسن أن يجاب المقيم؛ لأن الإقامة نداء، وتقدم لنا قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( بين كل أذانين صلاة )، فدل ذلك على أن الإقامة أذان، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول ).وبعض أهل العلم قال: بأنه لا يجيب؛ لأن المقصود بقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا سمعتم النداء ) النداء المعهود الذي هو الأذان، والحديث الوارد في ذلك كما تقدم لنا ضعيف، الحديث في أبي داود الذي هو نص في إجابة المقيم. وعلى هذا نقول: الأمر في ذلك واسع، فلو أن أحداً أجاب المقيم فلا بأس ما ينكر عليه، ولو أنه ترك الإجابة على أن المراد بقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد وحديث عبد الله بن عمرو : ( إذا سمعتم النداء ) المراد به الأذان المعروف، وأن الإقامة لا يجاب المقيم فيها، نقول: الأمر في ذلك واسع.
الأسئلة

حكم الأذان بأذان أبي محذورة عند من لا يعرفونه

السؤال: إذا أذن المؤذن بأذان أبي محذورة ألا يخشى أن يلبس على العامة؛ لأن المعروف أذان بلال ؟ الجواب: صحيح قد يكون هناك تلبيس في أول الأمر، لكن إذا بين الإنسان للناس أن هذا سنة، وأنه وارد عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه يشرع للإنسان أن يعمل بالسنة كلها، فإن هذا المحذور يزول، والناس قد يشكل عليهم في أول الأمر، لكن إذا اعتادوا على الشيء وألفوه فإنه لا يشكل عليهم، فإذا أظهرت هذه السنة كان هذا أحسن، كوننا نطبق كل ما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام هذا أحسن؛ لأنه من حفظ العلم؛ ولما في ذلك من العمل بالسنة كلها؛ ولما في ذلك أيضاً من حضور القلب.. إلى آخره.

حكم قول: حي على خير العمل في الأذان وحكم الأذان الأول للجمعة

السؤال: هل ورد من جمل الأذان حي على خير العمل؟ وهل الأذان الأول للجمعة سنة أم لا؟الجواب: حي على خير العمل لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام. وأما بالنسبة للأذان الأول لصلاة الجمعة فنقول: بأنه سنة، وعثمان رضي الله تعالى عنه لما كثر الناس سن هذا الأذان، وعثمان رضي الله تعالى عنه له سنة متبعة، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ ).وأيضاً يدل على مشروعية الأذان الأول للجمعة ما تقدم لنا من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم )، فالأذان الأول في الليل شرع لحاجة، كذلك أيضاً الأذان الأول للجمعة شرع لحاجة لكي يتأهب الناس للصلاة، للغسل، والسواك، والطيب، ولبس أحسن الثياب.. إلى آخره.
حكم قول: إنك لا تخلف الميعاد وقول: أقامها الله وأدامها
السؤال: هل قول: إنك لا تخلف الميعاد سنة أم بدعة؟ وما حكم قول: أقامها الله وأدامها؟ الجواب: قول: إنك لا تخلف الميعاد عندما يجيب المؤذن هل هي ثابتة أو ليست ثابتة؟هذه وردت في سنن البيهقي لكنها شاذة، لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا إذا كانت غير ثابتة فإن الإنسان لا يأتي بها.وأيضاً ما حكم قول: أقامها الله وأدامها؟ هذا أشرنا إليه في الحديث أن إجابة المقيم ورد فيه أحاديث في أبي داود : ( أنه لما قال: الله أكبر، قال: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، ثم لما قال: قد قامت الصلاة قال: أقامها الله وأدامها )، وهذا الحديث غير ثابت ضعيف لا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا لا يشرع للإنسان إذا سمع المقيم يقول: قد قامت الصلاة أن يقول: أقامها الله وأدامها؛ لأن الوارد في ذلك ضعيف، مع أن الوارد في ذلك هو إجابة كل جمل الإقامة، وليس إجابة جملة قد قامت الصلاة فقط، بل إجابة كل جمل الإقامة.
حكم الأذان على الراحلة
السؤال: هل يشرع الأذان على الراحلة؟الجواب: لا بأس؛ لأن السنة أن يكون الأذان على علو سواء كان على الراحلة أو غيرها.
وقت السنن الرواتب إذا أخر الأذان
السؤال: متى يصلي المسلم السنن الرواتب إذا كان الأذان خاصاً وكانت صلاة الظهر على سبيل المثال؟ الجواب: يصلي السنن الرواتب بعد دخول الوقت، يعني ليس بشرط أن يكون بعد الأذان إذا كان الأذان خاصاً وليس أذاناً عاماً، فإنه إذا زالت الشمس ودخل الوقت وكانت السنة قبلية فإنه يصلي السنن الرواتب، ولا يتقيد ذلك بالأذان؛ لأن وقت هذه السنن الرواتب وقت الفريضة، فإذا كانت هذه السنن الرواتب وقتها وقت الفريضة، فإذا كانت قبليةً فوقتها من دخول الوقت إلى إقامة الصلاة، وإن كانت السنة بعدية فوقتها من بعد الفراغ من الصلاة إلى خروج الوقت.
حكم الوضوء من أكل كبد الإبل
السؤال: هل يتوضأ من كبد الإبل إلى آخره؟ الجواب: سبق لنا أن تكلمنا على هذه المسألة، وهل بقية أجزاء الإبل من الكبد والقلب والكلية والمصران إلى آخره يتوضأ منها أو لا يتوضأ منها؟وذكرنا خلاف أهل العلم رحمهم الله في ذلك، وأن مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه لا يتوضأ من هذه الأشياء، والرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله واختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله أنه يشرع الوضوء من هذه الأشياء، وقلنا: بأن هذا هو الأقرب والأحوط أن الإنسان إذا أكل هذه الأشياء أنه يشرع أن يتوضأ منها.
نسيان قول: الصلاة خير من النوم في أذان الفجر أو جملة من الأذان
السؤال: إذا نسيت قول: الصلاة خير من النوم في أذن صلاة الفجر هل أعيد الأذان أم لا؟ وإذا نقصت مثلاً حي على الصلاة هل أعيد أو لا؟الجواب: إذا نسيت قول: الصلاة خير من النوم فالأذان صحيح ولا بأس به؛ لأننا ذكرنا أن التثويب يعني قول: الصلاة خير من النوم في صلاة الفجر سنة وليس واجباً، فهذا التثويب سنة، فإذا نقص هذه السنة فإنه لا شيء عليه، وأما إذا نقص حي على الصلاة فقد نقص جملة من جمل الأذان، وذكرنا أن من شروط صحة الأذان أن يأتي بالجمل المشروعة كلها، وعلى هذا إذا نقصت حي على الصلاة فإن كان الفصل ما طال تأتي بها وبما بعدها، وإن طال الفصل فإنك تعيد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-04, 07:28 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [3]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(12)

للصلاة جملة شروط يجب توفرها لصحتها، منها: الطهارة من الحدث ودخول الوقت، فلكل صلاة وقت محدد له أول وآخر، وعلى المسلم معرفة أوقات الصلوات، ومن الشروط ستر العورة سواء للرجل أو للمرأة.

ما يشرع بعد إجابة المؤذن

تقدم لنا في الدرس السابق شيء من مباحث الأذان والإقامة، وذكرنا تعريف كل منهما, وحكم كل منهما، وشروط الوجوب، وكذلك أيضاً شروط الصحة، وذكرنا أن الأذان والإقامة ورد لكل منهما كيفيتان:الكيفية الأولى: أذان بلال , وهو خمس عشرة جملة، وإقامة بلال , وهي إحدى عشرة جملة.والكيفية الثانية: أذان أبي محذورة , وهو تسع عشرة جملة، وإقامته, وهي سبع عشرة جملة.وأيضاً ذكرنا الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المؤذن والمقيم, وتكلمنا أيضاً فيما يتعلق بالتثويب، فذكرنا أن العلماء رحمهم الله يطلقون التثويب على ثلاثة معان، وأيضاً تكلمنا عن حكم إجابة المؤذن، وذكرنا خلاف أهل العلم رحمهم الله: هل إجابة المؤذن على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب ذكرنا في ذلك رأيين.وانتهى بنا الكلام إلى أن الراجح ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله: أن إجابة المؤذن مستحبة وليست واجبة.وذكرنا أيضاً بعض أحكام إجابة المؤذن.بقينا في مسألة أخيرة قبل أن ننتهي من باب الأذان والإقامة ونشرع في باب شروط الصلاة، وهذه المسألة هي: الأذكار الواردة بعد إجابة المؤذن، فتقدم لنا حديث عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا قال المؤذن: الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر، ثم قال: الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، إلى أن قال النبي عليه الصلاة والسلام: مخلصاً من قلبه دخل الجنة ). فلا شك أن هذا فضل عظيم وأجر كبير أن الإنسان يصبر نفسه لإجابة المؤذن؛ لأن إجابة المؤذن هذا من أسباب دخول الجنة، وإذا ذكر الذكر الوارد بعد ذلك فإنه من أسباب نيل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فإذا أجبت المؤذن كما تقدم يشرع للإنسان أن يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، كما ورد ذلك في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما, فتقول: اللهم صل على محمد، ثم بعد الصلاة عليه الصلاة والسلام تقول: ( اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الفضيلة والوسيلة، وابعثه اللهم مقاماً محموداً الذي وعدته )، هذان ذكران.وورد أيضاً في صحيح مسلم : ( رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً ونبياً ).واختلف أهل العلم رحمهم الله في محل هذا الذكر، فقال بعض أهل العلم: محله بعد الشهادتين، يعني: إذا أجبت المؤذن فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، ثم قلت: أشهد أن محمداً رسول الله مرتين تقول: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً ونبياً.وبعض أهل العلم جعله في آخر الأذان، وظاهر ما في صحيح مسلم أنه عند إجابة المؤذن بالشهادتين، فإذا تشهد الإنسان الشهادتين يقول: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً ونبياً.هذا بالنسبة لما يتعلق بأذكار الأذان.وأما قول: إنك لا تخلف الميعاد في آخر الأذان أو في آخر هذا الذكر فهذا أشرنا إليه في الدرس السابق، وأن هذه اللفظة في البيهقي وغيره، وأنها لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.وأيضاً قول: الدرجة العالية الرفيعة يزيدها بعض الناس, أيضاً هذه مدرجة, ولا تثبت أيضاً في الحديث.فالإنسان يذكر ما صحت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، وقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة، وقول: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً ونبياً.

شروط الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: [ باب شروط الصلاة ].الشروط جمع شرط، والشرط في اللغة: العلامة، ومن ذلك: الشرط، سموا بذلك لأن لهم علامة تميزهم عن غيرهم, وهي لباسهم.فالشرط في اللغة: العلامة، ومن ذلك قول الله عز وجل: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18] أي: علاماتها.وأما في الاصطلاح فهو: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، فيلزم من عدم شرط الصلاة عدم الصحة، ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، فيلزم من عدم الشرط عدم الصحة، فإذا لم يتوضأ الإنسان فإن صحة الصلاة تكون معدومة، ما يلزم من عدمه العدم، إذا لم يدخل الوقت تكون الصحة معدومة.ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، يعني: لا يلزم من وجود الشرط أن توجد الصحة، فقد يوجد شرط الصلاة لكن لا توجد الصحة, إما لتخلف شرط آخر، أو لوجود مانع، فقد يتوضأ الإنسان لكن لا تصح صلاته لكونه صلى قبل الوقت، تخلف الآن شرط، أو لوجود مانع, فقد يتوضأ ويصلي في الوقت ويستر عورته.. إلى آخره، يأتي بشروط الصلاة لكن لا تصح صلاته؛ لوجود مانع, مثلاً أن يحدث في صلاته، أو يأتي بما يبطل صلاته.. إلى آخره. ‏

الشرط الأول: الطهارة من الحدث

قال المؤلف رحمه الله: [ وهي ستة: أحدها: الطهارة من الحدث؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة لمن أحدث حتى يتوضأ ) ].المؤلف رحمه الله ذكر أنها ستة، وبعض أهل العلم جعلها تسعة, فالعلماء يختلفون في تعداد هذه الشروط؛ بناء على ما يظهر لهم من الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.فيقول المؤلف رحمه الله: (أحدها: الطهارة من الحدث).الطهارة من الحدث هذا شرط من شروط صحة الصلاة، فلا تصح الصلاة حتى يرفع المصلي حدثه.وتقدم لنا ما يتعلق بالطهارة من الحدث في كتاب الطهارة، فقد سبق لنا ما يتعلق بالحدث الأصغر، ونواقض الطهارة، والحدث الأكبر، وموجبات الغسل، وما ينوب عن الماء.. إلى آخره، هذا تقدم الكلام عليه.المهم أنه يشترط لصحة الصلاة أن يرفع الحدث، ودليل ذلك: حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ ) وهذا في الصحيحين.

الشرط الثاني: دخول الوقت

قال المؤلف رحمه الله: [الشرط الثاني: الوقت]. هذا الشرط الثاني من شروط صحة الصلاة: الوقت، ويدل لذلك قول الله عز وجل: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].وقوله سبحانه وتعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]. فقال الله عز وجل: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78]. دلوك الشمس: زوال الشمس, وذلك في نصف النهار، إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78] غسق الليل: شدة ظلمته, وذلك عند انتصافه، فما بين نصف النهار إلى نصف الليل أربع صلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم بعد ذلك صلاة الفجر منفردة عن بقية الصلوات، ولهذا أفردها الله عز وجل بالذكر فقال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، فما بين نصف الليل إلى صلاة الفجر هذا ليس وقتاً لشيء من صلوات الفرائض، وما بين طلوع الشمس إلى نصف النهار ليس وقتاً لأداء شيء من الفرائض.وأما بالنسبة للدليل من السنة على هذا الشرط فالأدلة كثيرة كما سيأتينا إن شاء الله في حديث عبد الله بن عمرو .. حديث بريدة .. حديث أبي موسى .. حديث إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم, روى ذلك الحديث ابن عباس وجابر وغيرهم، وكذلك أيضاً حديث أبي هريرة ، فالأحاديث كثيرة جداً في المواقيت كما سيأتي بيانها إن شاء الله.

وقت الظهر

قال المؤلف رحمه الله: [ ووقت الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال].هذا وقت صلاة الظهر، وقت صلاة الظهر يبدأ من بعد زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال، ذلك أن الشمس إذا خرجت من المشرق يكون لكل شاخص -يعني: لكل شيء مرتفع- ظل من جهة المغرب، ولا تزال الشمس تسير من المشرق إلى المغرب، ولا يزال هذا الظل ينقص، فإذا تناهى نقصانه تضع في ذلك علامة، ثم بعد ذلك إذا زاد أدنى زيادة تعرف أن الشمس قد زالت.فإذا زالت الشمس دخل وقت الظهر وخرج وقت النهي، ويستمر وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، يعني: الشيء الشاخص هذا لا بد أن يصير ظله مثل طوله، فإذا كان هذا الشاخص طوله متر يكون طول الظل متراً, لكن ما نحسب فيء الزوال, الفيء: الظل الذي زالت عليه الشمس، ذلك أن الشمس إذا زالت يعني: تحركت إلى جهة المغرب يكون لكل شاخص فيء, تحته ظل يسير، تضع علامة على هذا الظل اليسير, ثم تحسب من هذه العلامة إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، فإذا فرضنا أن هذا الشاخص طوله متر أو طوله متران فأنت تحسب من هذه العلامة متر، وأما فيء الزوال فهذا لا يحسب، فإذا كان هذا الظل طوله متراً فاعلم أن وقت الظهر الآن قد خرج ودخل وقت العصر، ولا فاصل بينهما كما سيأتي إن شاء الله.فنفهم أن وقت صلاة الظهر يبدأ من حين زوال الشمس، وبينا أن الشمس إذا كانت تسير من المشرق إلى المغرب فإن كل شاخص يعني: كل شيء مرتفع يكون له ظل من جهة المغرب، ولا يزال هذا الظل يقصر حتى أن الشمس تنتقل إلى جهة المغرب، فإذا انتقلت إلى جهة المغرب وزاد هذا الظل أدنى زيادة، يعني: إذا زالت الشمس إلى جهة المغرب يكون لكل شاخص ظل يسير تحته, هذا يسمى فيء الزوال، تضع عليه علامة، فإذا كان الظل ظل هذا الشاخص المرتفع طوله طول هذا الشاخص المرتفع من حين العلامة ما تحسب الزوال فاعلم أن الشمس قد زالت, وأن وقت الظهر قد دخل، ويستمر وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال.ويدل على أن وقت الظهر يبدأ بزوال الشمس كما تقدم قول الله عز وجل: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78]، ودلوك الشمس هو زوالها.وأيضاً حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر ).وأيضاً يدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في إمامة النبي صلى الله عليه وسلم وفي إمامة جبريل بالنبي عليه الصلاة والسلام، فإنه صلى به الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس.قال: (من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله). وهذا دليله كما تقدم لنا حديث عبد الله بن عمرو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( وقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر ) أخرجه مسلم .وقوله: (إلى أن يصير ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال) هذا ما عليه أكثر أهل العلم رحمهم الله.عند أبي حنيفة رحمه الله أن وقت الظهر يستمر إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، مثلاً إذا فرضنا أن هذا الشاخص طوله متر فعند أبي حنيفة ما يخرج وقت الظهر حتى يكون طول الظل مترين، أما عند أكثر أهل العلم فإنه يخرج إذا صار طوله متراً واحداً.عند أبي حنيفة لا يخرج وقت الظهر ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه سوى فيء الزوال، والصواب في ذلك: ما دل له حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه, فإنه صريح ( وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر ).

وقت العصر

قال المؤلف رحمه الله: [ ووقت العصر - وهي الوسطى- من آخر وقت الظهر إلى أن تصفر الشمس ].بدء وقت العصر من خروج وقت الظهر، هذا هو الصواب، وهو الذي ذهب إليه المؤلف رحمه الله، ولا فاصل بين وقت الظهر ووقت العصر، وليس أيضاً بينهما وقت مشترك.فالصواب: أنه إذا خرج وقت الظهر دخل وقت العصر، وقلنا: بأن وقت الظهر يخرج إذا صار ظل كل شيء مثله, سوى فيء الزوال، فإذا صار ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر.ويدل لذلك ما ذكرناه من حديث عبد الله بن عمرو فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر ).وقال المؤلف رحمه الله: (وهي الوسطى) يعني: أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى التي ذكرها الله عز وجل في قوله: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238].الصلاة الوسطى هذه اختلف فيها أهل العلم رحمهم الله كثيراً, ما المراد بالصلاة الوسطى؟ وذكر المؤلف رحمه الله أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وهذا القول هو أصوب الأقوال، وإذا طالع الإنسان ورجع إلى كتب المفسرين يرى الخلاف الكثير في تحديد الصلاة الوسطى، أكثر من عشرين قولاً في هذه المسألة، لكن الصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله: أن الصلاة الوسطى التي قال الله عز وجل فيها: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] أنها صلاة العصر. ودليل ذلك: حديث علي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً )، وهذا في الصحيحين.قال: (من آخر وقت الظهر إلى أن تصفر الشمس). هذا ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله أن وقت العصر يمتد إلى اصفرار الشمس، وهذا دليله: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ).المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن وقت العصر يعني: وقت الاختيار يخرج إذا صار ظل كل شيء مثليه، وهذه المسألة من غرائب العلم، فإن أبا حنيفة كما تقدم يقول: العصر ما يدخل إلا إذا كان ظل كل شيء مثليه، وعند الحنابلة خرج وقت العصر!لا شك أن هذا فرق شاسع بين القولين، فالحنفية يرون أنه الآن دخل وقت العصر، والحنابلة يقولون: خرج وقت العصر!واستدلوا على أن وقت العصر يخرج إذا صار ظل كل شيء مثليه سوى فيء الزوال: بإمامة جبريل بالنبي عليه الصلاة والسلام، فإن جبريل أم النبي عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني, أتاه فصلى به العصر في اليوم الثاني لما صار ظل كل شيء مثليه في المرة الثانية، فقالوا: هذا دليل على أن وقت العصر ينتهي إذا صار ظل كل شيء مثليه.والأقرب في ذلك: ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله, وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وبه قال الشافعي ، وأن وقت العصر يستمر إلى أن تصفر الشمس؛ لأن حديث عبد الله بن عمرو صريح في ذلك، ( ووقت العصر ما لم تصفر الشمس )، وحديث عبد الله بن عمرو أرجح من حديث جابر وابن عباس وغيرهما في إمامة جبريل بالنبي عليه الصلاة والسلام أرجح لعدة أمور:الأمر الأول: حديث عبد الله بن عمرو قول، وحديث إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم فعل، والقول مقدم على الفعل.الأمر الثاني: أن حديث عبد الله بن عمرو كان متأخراً على حديث إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن حديث عبد الله بن عمرو في المدينة، وأما حديث إمامة جبريل بالنبي عليه الصلاة والسلام كان بمكة قبل الهجرة.الأمر الثالث مما يرجح حديث عبد الله بن عمرو : أن حديث عبد الله بن عمرو أصح من حديث إمامة جبريل بالنبي عليه الصلاة والسلام، فإن حديث عبد الله في صحيح مسلم , بخلاف حديث إمامة جبريل الوارد الذي رواه ابن عباس وجابر وغيرهما ليس في مسلم , وإنما هو في السنن.فنرجح حديث عبد الله بن عمرو على حديث جابر وابن عباس في إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم.قال المؤلف رحمه الله: [ ثم يذهب وقت الاختيار, ويبقى وقت الضرورة إلى غروب الشمس ].اعلم أن العصر هي الصلاة الوحيدة التي لها وقتان، هذا هو الصواب الذي يؤخذ من الأدلة، لها وقتان: وقت اختيار، ووقت ضرورة، أما بقية الصلوات فالصواب أنه ليس لها إلا وقت واحد فقط وقت الاختيار، أما صلاة العصر فلها وقتان: وقت اختيار ووقت ضرورة، والدليل على أن لها وقت ضرورة: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك الصلاة )، وهذا الحديث في الصحيحين.وعلى هذا نقول: نجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ) في حديث عبد الله وقوله عليه الصلاة والسلام: ( من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك الصلاة ) في حديث أبي هريرة : نجمع بينهما أن حديث عبد الله محمول على الاختيار، وحديث أبي هريرة محمول على وقت الضرورة، هذا هو الصواب في هذه المسألة.وحينئذ نقول: الأصل أن الإنسان لا يجوز له أن يؤخر الصلاة عن وقت الاختيار إلا في حال الضرورة، مثل لو صلى يخاف على نفسه، أو يخاف على ماله، أو يخاف على أهله، فهذا لا بأس أن يؤخر حتى لو اصفرت الشمس، أو مثلاً أصابه جرح أو أصابه كسر أو نحو ذلك فاشتغل بتضميده حتى اصفرت عليه الشمس, نقول: هذا لا بأس به.وأيضاً يترتب على ذلك أن المرأة إذا طهرت من حيضها قبل غروب الشمس فإنها تكون قد أدركت صلاة العصر, إذا طهرت قبل غروب الشمس بركعة نقول: بأنها أدركت صلاة العصر، أو مثلاً أسلم الكافر قبل غروب الشمس بركعة أدرك صلاة العصر, يجب عليه أن يصليها، أو طهرت النفساء، أو عقل المجنون، أو بلغ الصبي في هذا الوقت قبل غروب الشمس بمقدار ركعة فإنه تجب عليهم الصلاة.

وقت المغرب

قال المؤلف رحمه الله: [ ووقت المغرب إلى أن يغيب الشفق الأحمر ].وقت المغرب يبدأ بغروب الشمس بالإجماع، بإجماع المسلمين أن وقت المغرب يبدأ بغروب الشمس، ويدل لذلك: حديث جابر وحديث ابن عباس في إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه أتاه في المرة الأولى وأيضاً في المرة الثانية في صلاة المغرب لما غربت الشمس، وأيضاً يدل لذلك: حديث بريدة وحديث أبي موسى .المهم الإجماع منعقد على أن وقت المغرب يبدأ بغروب الشمس.قال: (إلى أن يغيب الشفق الأحمر).وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله, أن وقت المغرب يستمر إلى أن يغيب الشفق الأحمر، ودليل ذلك: قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمرو : ( ووقت المغرب ما لم يغب الشفق ).وأيضاً في حديث بريدة : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يبين المواقيت للسائل أقام المغرب في اليوم الثاني عند مغيب الشفق )، فدل على أن آخر وقت المغرب هو مغيب الشفق الأحمر، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.وعند الشافعي أن وقت المغرب مضيق جداً، فهو يكون بقدر الأذان والإقامة والصلاة والسنة والطهارة وستر العورة، يعني: إذا مضى بعد غروب الشمس قدر هذه الأشياء خرج وقت المغرب، بقدر الأذان والإقامة والصلاة والسنة والطهارة وستر العورة، فإذا مضى قدر هذه الأشياء فإن وقت المغرب ينتهي، فعنده مضيق. فإذا قدرت أن هذه الأشياء تستغرق مثلاً ثلاثين دقيقة أو تستغرق خمساً وعشرين دقيقة ينتهي الوقت عند الشافعي رحمه الله بمضي قدر وقت هذه الأشياء.ودليله على ذلك: أن جبريل عليه السلام أم النبي عليه الصلاة والسلام بالمغرب في اليوم الأول وفي اليوم الثاني عند مغيب الشمس، فدل ذلك على أن وقت المغرب مضيق.لكن الصواب في ذلك: ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله, وأن وقت المغرب يمتد إلى مغيب الشفق الأحمر، وأما إمامة جبريل بالنبي عليه الصلاة والسلام في اليوم الأول وفي اليوم الثاني عند مغيب الشمس فهذا نأخذ منه أن السنة تعجيل صلاة المغرب، السنة للإنسان أن يعجل صلاة المغرب، ونجمع بينه وبين الأدلة الدالة على أن صلاة المغرب يمتد وقتها إلى مغيب الشفق كما في حديث بريدة وغيره من الأحاديث، نجمع بينهما أن هذا الحديث حديث إمامة جبريل بالنبي عليه الصلاة والسلام إنما يدل على أن السنة أن تعجل في أول وقتها، وحديث بريدة وغيره دليل على أن وقت المغرب يمتد إلى مغيب الشفق.ومما يؤيد أنه يمتد إلى مغيب الشفق أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ بسورة الأعراف في صلاة المغرب، ولا شك أنه إذا قرأ الإنسان بسورة الأعراف في صلاة المغرب أنه سيطيل أكثر مما ذكره الشافعي ، فالصواب أنه يمتد إلى مغيب الشفق الأحمر.وهنا قال المؤلف رحمه الله: (الأحمر), وهذا خلاف لـأبي حنيفة ؛ لأن أبا حنيفة يقول: يمتد إلى مغيب الشفق الأبيض، والصواب: ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله؛ لورود ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما, وهو قول الأئمة أئمة أهل اللغة وأئمة التفسير أن المراد بالشفق الشفق الأحمر؛ ولأنه كما ذكر بعض أئمة اللغة الشفق الأبيض قد ينتصف الليل وهو لم يغب.فالصواب أن المراد بالشفق هو: الشفق الأحمر، وذلك أن الشمس إذا غربت يبقى في الأفق حمرة، فلا يزال وقت المغرب باقياً حتى تغيب هذه الحمرة.

وقت العشاء

قال المؤلف رحمه الله: [ ووقت العشاء من ذلك إلى نصف الليل، ثم يبقى وقت الضرورة إلى طلوع الفجر ]. وقت العشاء من ذلك, يعني: من مغيب الشفق، إذا غاب الشفق دخل وقت العشاء، ويستمر على ذلك -يقول المؤلف رحمه الله- إلى نصف الليل.وأما بالنسبة لكون وقت العشاء يبدأ من مغيب الشفق فهذا دل له حديث بريدة وحديث أبي موسى وغيرهما ( أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق )، ويستمر إلى نصف الليل كما ذكر المؤلف رحمه الله، ودليل ذلك: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ووقت العشاء إلى نصف الليل ).لكن قال المؤلف رحمه الله: ثم يبقى وقت الضرورة إلى طلوع الفجر الثاني، فأفاد المؤلف رحمه الله أن العشاء له وقتان: وقت اختيار إلى نصف الليل، ووقت ضرورة إلى طلوع الفجر.وهذا الذي ذهب إليه المؤلف رحمه الله هو مذهب أبي حنيفة ، مذهب أبي حنيفة : أن العشاء لها وقتان: وقت اختيار إلى نصف الليل، ووقت ضرورة إلى طلوع الفجر.مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن العشاء لها وقتان: وقت اختيار إلى ثلث الليل، ووقت ضرورة إلى طلوع الفجر. والدليل على أنه إلى ثلث الليل: حديث بريدة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل ) يعني: صلى العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق، وصلى العشاء في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل، والنبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يبين المواقيت, يعني: أراد أن يبين أول الوقت وآخر الوقت.وكذلك أيضاً إمامة جبريل بالنبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عباس ، فإنه صلى بالنبي عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل.فهذان قولان:القول الأول: وقت الاختيار إلى نصف الليل، ووقت الضرورة إلى طلوع الفجر.والقول الثاني: وقت الاختيار إلى ثلث الليل، ووقت الضرورة إلى طلوع الفجر.وعند ابن حزم رحمه الله أن العشاء لها وقت واحد فقط، وأنه إلى نصف الليل، وهذا القول هو الصواب؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: ( ووقت العشاء إلى نصف الليل )، وهذا صريح في التحديد.وأما بالنسبة لما ورد في حديث عائشة : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام أعتم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد ) كما في صحيح مسلم ، فالمراد بإعتام النبي عليه الصلاة والسلام أنه أخر العشاء حتى ذهب كثير من الوقت، هذا هو الصواب، وليس المراد أكثر الوقت، بل الصواب أن النبي عليه الصلاة والسلام أعتم حتى ذهب كثير من الوقت يعني إلى قرب نصف الليل ثم خرج وصلى، يدل على ذلك الرواية الأخرى في صحيح مسلم . فالصواب في هذه المسألة: أن وقت العشاء لا يمتد إلى طلوع الفجر، وإنما هو إلى نصف الليل، ولم يرد دليل صريح يدل على أن وقت العشاء يمتد إلى طلوع الفجر، وأن هناك وقت ضرورة للعشاء، بل حديث عبد الله بن عمرو صريح أن وقت العشاء إلى نصف الليل.وأما ما روي عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في المرأة إذا طهرت قبل الفجر فإنها تصلي المغرب والعشاء كما روي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وغيرهما كـعبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهم فهذه الآثار لا تثبت عنهم، هذه الآثار في إثباتها نظر.وعلى هذا لو أن المرأة طهرت قبل طلوع الفجر فإنه لا يلزمها لا صلاة المغرب ولا صلاة العشاء، لكن لو طهرت قبل نصف الليل فنقول: يجب عليها أن تصلي صلاة العشاء خاصة فقط دون صلاة المغرب؛ لأن صلاة المغرب جاءها الوقت وهي حائض، وكذلك أيضاً لو أسلم الكافر، أو بلغ الصبي، أو عقل المجنون قبل نصف الليل فإنه يجب عليهم أن يصلوا العشاء؛ لأنهم أدركوا وقتها، أما إذا كان بعد نصف الليل فإنه لا يجب عليهم أن يصلوا العشاء.

وقت الفجر

قال المؤلف رحمه الله: [ ووقت الفجر إلى طلوع الشمس، ومن كبر للصلاة قبل خروج وقتها فقد أدركها ].صلاة الفجر يبدأ وقتها بطلوع الفجر الثاني، وهذا بالإجماع.وأما بالنسبة لنهاية وقتها فإنه ينتهي بطلوع الشمس، ويدل لذلك حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ووقت الصبح ما لم تطلع الشمس )، وهذا في مسلم .وأيضاً في حديث بريدة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً فأقام الصلاة في اليوم الأول للفجر حين طلع الفجر، ثم أمره في اليوم الثاني فأقام الصلاة حين أسفر جداً ) يعني: قبل طلوع الشمس.ويدل أيضاً على أن صلاة الفجر يمتد وقتها إلى ما قبل طلوع الشمس: قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة ).فصلاة الفجر ليس لها إلا وقت واحد من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ودليل ذلك كما أسلفنا: حديث عبد الله بن عمرو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ووقت الصبح ما لم تطلع الشمس )، وهذا يدل على أن لها وقتاً واحداً فقط، خلافاً لما ذهب إليه الإمام مالك أن الفجر لها وقتان: وقت اختيار إلى الأسفار, ووقت ضرورة إلى طلوع الشمس، وهذا ليس بصواب، بل الحديث ظاهر أنها ليس لها إلا وقت واحد, ( وقت الصبح ما لم تطلع الشمس )، فالصواب: أنه ليس لها إلا وقت واحد, كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.

إدراك جزء يسير من وقت الصلاة

قال: [ ومن كبر للصلاة قبل خروج وقتها فقد أدركها ].المؤلف رحمه الله هنا قيد إدراك الوقت بالتكبير، فعلى هذا لو أن الإنسان كبر للصلاة لصلاة العصر أو صلاة الفجر أو غير ذلك من الصلوات قبل خروج وقتها فإنه يكون أدركها, وصلى الصلاة في وقتها، والصواب: أن الوقت لا يدرك إلا بإدراك ركعة؛ لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ).وهنا قاعدة دل لها هذا الحديث حديث أبي هريرة : سائر الإدراكات تتعلق بإدراك ركعة، وهذا يدخل تحته مسائل كثيرة، أذكر من هذه المسائل:المسألة الأولى: أول الوقت: أول الوقت لا يدرك إلا بإدراك ركعة، وعلى هذا إذا دخل الوقت ثم حاضت المرأة أو نفست أو جنت ونحو ذلك، إذا طرأ العذر بعد دخول الوقت فنقول: إن كان أدرك ركعة من أول الوقت يكون قد أدرك الوقت, فيجب عليه أن يقضي هذه الصلاة إذا زال العذر، فمثلاً عندنا امرأة طاهرة ثم حاضت بعد أن أدركت ركعة فأكثر من الوقت، فنقول: يجب عليها إذا طهرت أن تقضي هذه الصلاة, أو نفست يعني: ولدت فنقول: يجب عليها إذا طهرت من نفاسها أن تقضي هذه الصلاة، أو جن نقول: يجب عليه إذا عقل أن يقضي هذه الصلاة, إلى آخره.فأول الوقت يدرك بركعة، خلافاً لما ذهب إليه المؤلف رحمه الله أن أول الوقت يدرك بتكبيرة، فالصواب: أنه يدرك بركعة, ودليل ذلك حديث أبي هريرة .المسألة الثانية: آخر الوقت: آخر الوقت يدرك بركعة، وعلى هذا لو أن المرأة طهرت يعني: زال العذر قبل خروج الوقت بقدر ركعة فأكثر فتجب عليها الصلاة، فلو أن المرأة طهرت قبل خروج الوقت بمقدار ركعة فأكثر طهرت من حيضها أو طهرت من نفاسها قبل خروج الوقت بمقدار ركعة فأكثر نقول: يجب عليها أن تقضي هذه الصلاة التي أدركت وقتها، أو أن الكافر أسلم قبل خروج الوقت بقدر ركعة نقول: يجب أن يصلي هذه الصلاة؛ لأنه أدرك وقتها، أو الصبي بلغ ولم يكن صلى نقول: يجب عليه أن يصلي إذا كان بلوغه قبل خروج الوقت بمقدار ركعة فأكثر، هاتان مسألتان.المسألة الثالثة: إدراك الجماعة: إدراك الجماعة إنما يكون بإدراك ركعة، فإذا أدرك مع الإمام ركعة من الصلاة يكون قد أدرك الجماعة، وينال أجر الجماعة، أما إن أدرك أقل من ركعة فقد فاته فضل الجماعة.المسألة الرابعة: إدراك الجمعة: والجمعة إنما تدرك بإدراك ركعة، فإذا أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى، وإن لم يدرك ركعة فإنه يصلي ظهراً.المسألة الخامسة: إذا أقيمت الصلاة والإنسان في نافلة هل يقطع هذه النافلة أو لا يقطعها؟ نقول: إن صلى ركعة أتمها خفيفة؛ لأنه أدرك هذه الصلاة، إن صلى ركعة أتمها خفيفة، وإن صلى أقل من ركعة فإنه يقطعها.المسألة السادسة: صلاة المسافر خلف المقيم: إن أدرك المسافر من صلاته ركعة صلى صلاة مقيم، وإن أدرك أقل من ركعة صلى صلاة مسافر، مثال ذلك هذا مسافر يصلي الظهر خلف من يصلي الظهر وهو مقيم، المسافر إذا صلى خلف المقيم كما في حديث ابن عباس يجب عليه أن يصلي أربعاً، لكن متى يجب أن يصلي أربعاً؟نقول: إن أدرك من صلاته ركعة يجب عليه أن يصلي أربعاً، فإن أدرك أقل من ركعة صلى ركعتين؛ لأنه لم يدرك صلاته, وهكذا.

فضل الصلاة في أول الوقت

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والصلاة في أول الوقت أفضل].لما بين المؤلف رحمه الله وقت الاختيار شرع الآن في بيان وقت الاستحباب، ما هو المستحب لفعل الصلاة؟ فأفاد المؤلف رحمه الله أن السنة أن تفعل الصلاة في أول وقتها، إلا ما ورد استثناءه، ويدل لذلك حديث أبي برزة : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي الهجير وهي التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس -يعني: تزول الشمس- ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى أهله في أقصى المدينة والشمس مرتفعة حية ) يعني: لا تزال حرارتها باقية، هذا حديث أبي برزة رضي الله تعالى عنه.وأيضاً في حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الفجر بغلس ).فهذه الأحاديث تدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي الصلاة في أول وقتها.ومثل ذلك أيضاً حديث أنس : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي -يعني: القرى التي حول المدينة- فيأتيهم والشمس مرتفعة ) وهذا في الصحيحين.فهذه الأدلة تدل على ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.وبم يدرك أول الوقت؟ نقول: بأن أول الوقت يدرك بالاشتغال بأسباب الصلاة، فإذا شرع الإنسان بالاشتغال بأسباب الصلاة في أول الوقت فقد أدرك أول الوقت، يعني: إذا دخل الوقت ثم شرع في الطهارة وفي ستر العورة وفي إحضار الماء ونحو ذلك فقد أدرك أول الوقت.قال المؤلف رحمه الله: [ إلا في العشاء الآخرة، وفي شدة الحر في الظهر ].في العشاء الآخرة السنة أن تؤخر الصلاة، ويدل لذلك حديث أبي برزة في الصحيحين قال: ( وكان يستحب أن يؤخر العشاء ).وأيضاً: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام أخر العشاء إلى نصف الليل أو ثلثه, ثم خرج فقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي ).فنقول: بالنسبة للعشاء الآخرة السنة أن تؤخر، كلما أخرت هذا هو أفضل، لو أخرت إلى آخر الوقت فعلت الصلاة في آخر الوقت فهذا هو الأفضل، وحديث أبي برزة ظاهر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يستحب أن يؤخر من العشاء. لكن حديث جابر رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطئوا أخر )، نقول: إن الإمام يراعي أحوال المأمومين، فإذا رأى أن المأمومين اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطئوا أخر, كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يراعي، لكن لو كان الإنسان منفرداً مثل المرأة الآن في بيتها ليست مربوطة بجماعة أو إنسان في مزرعة أو في بادية أو جماعة في سفر أو جماعة في نزهة فما هو السنة في حقهم؟ السنة في حقهم أن يؤخروا الصلاة إلى نصف الليل؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة : ( أعتم بالعشاء حتى ذهب عامة الليل ).وأيضاً ( النبي عليه الصلاة والسلام أخر العشاء إلى نصف الليل أو ثلثه وخرج وقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي ).فإذا كان الإنسان ليس مرتبطاً بجماعة فالسنة أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل بحيث يصليها قبل انتصاف الليل؛ لأن انتصاف الليل يخرج به وقت العشاء، لكن إذا كان مرتبطاً بالجماعة فإنه يصلي مع الناس, والإمام يراعي أحوال المأمومين, إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطئوا أخر.قال المؤلف رحمه الله: (وفي شدة الحر).أيضاً في شدة الحر السنة أن تؤخر الصلاة؛ لحديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أبردوا بالظهر في شدة الحر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم )، فيشرع للإنسان أن يبرد.وقول المؤلف رحمه الله: (وفي شدة الحر في الظهر) ظاهر كلامه أنه يشمل من يصلي جماعة ومن لا يصلي جماعة، وهذا القول هو الصواب, أن شدة الحر يشرع الإبراد بها إلى قرب العصر، إذا اشتد الحر يشرع أن تؤخر إلى أن يقرب وقت العصر، فإذا فرضنا أن العصر يؤذن له أو يدخل وقته في الساعة الثالثة والنصف فإنه يشرع أن يبرد بها إلى الثالثة أو الثالثة وعشر دقائق، يبرد بها إلى الثالثة أو الثالثة وعشر دقائق، هذا هو السنة، ويدل لذلك حديث أبي ذر : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام أبرد، فجاءه المؤذن فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أبرد، ثم جاءه فقال: أبرد، قال: حتى رأينا فيء التلول, أو حتى ساوى الظل التل )، وهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام أخرها إلى قرب العصر، فهذا هو السنة بالنسبة للإبراد، لكن الناس اليوم قد يشق عليهم الإبراد، فيصلون الصلاة في أول وقتها، لكن لو كان الإنسان ليس مرتبطاً بجماعة مثل المرأة في بيتها أو كان الإنسان مثلاً في سفر أو كانوا في نزهة أو نحو ذلك فالسنة له أن يبرد, أن يؤخر الصلاة في شدة الحر إلى قرب العصر.وقول المؤلف رحمه الله: (الظهر) يخرج الجمعة، فإن الجمعة لا يسن لها الإبراد، ويدل لذلك حديث كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجمع إذا زالت الشمس )، ونحوه أيضاً حديث أنس : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس ).فنقول: الجمعة لا يشرع فيها الإبراد، ويدل لذلك ما ذكرناه من حديث كعب بن عجرة , وأيضاً حديث أنس رضي الله تعالى عنهما، وأيضاً الإبراد شرع للتخفيف والتسهيل على الناس، لو قيل: بأنه يبرد في صلاة الجمعة لكان في ذلك مشقة على الناس؛ لأن الناس مأمورون في صلاة الجمعة أن يبادروا إلى الصلاة، وأن يأتوا الصلاة مبكرين من حين طلوع الشمس, كما سيأتينا إن شاء الله، فإذا قلنا: بأنه يشرع لهم أن يبردوا بالصلاة كان في ذلك مشقة عظيمة عليهم.وما ذكره المؤلف رحمه الله أنه يسن تعجيل الصلاة في أول وقتها هذا هو الصواب، إلا هاتين الصلاتين, يعني: العشاء والظهر في شدة الحر, ما ذكره هذا هو الصواب.الحنفية رحمهم الله عندهم بدل التعجيل تأخير، فيقولون: يستحب تأخير الفجر، ويستحب تأخير العصر، العصر عندهم يستحب تأخيرها، وكذلك أيضاً الفجر عندهم يستحب تأخيرها، لكن ما ذكروه هذا فيه نظر.قلنا: السنة هو التعجيل، وأشرنا إلى أن أبا حنيفة رحمه الله يرى التأخير في العصر، وكذلك أيضاً يرى التأخير في الفجر، وقد ورد في حديث محمود بن لبيد ورافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر )، وهذا مما يستدل به الحنفية على مشروعية تأخير صلاة الفجر، لكن هذا أجاب عنه العلماء رحمهم الله بأجوبة، ومن أحسن هذه الأجوبة ما ذكره الطحاوي رحمه الله: أن المراد بالإسفار في الفجر هو: إطالة القراءة، يعني: أن يدخل الإنسان الفجر بغلس -كما هو فعل النبي عليه الصلاة والسلام- ثم يطيل القراءة إلى أن يحصل الإسفار.وأيضاً المغرب مما يدل على سنية تعجيلها ما سبق أن أشرنا إليه من حديث إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن جبريل ( صلى بالنبي عليه الصلاة والسلام المغرب في اليوم الأول والثاني حين غربت الشمس ).ويدل لذلك أيضاً حديث رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه: ( أنهم كانوا يصلون المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخرجون ينتضلون -يعني: يرمون بالسهام- فيرون مواقع نبلهم من الإسفار )، فهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام عجل في صلاة المغرب.

الشرط الثالث: ستر العورة

قال المؤلف رحمه الله: [ الشرط الثالث: ستر العورة ].هذا الشرط الثالث من شروط صحة الصلاة, وهو ستر العورة، والعورة هي: كل ما يسوء الإنسان إخراجه، ويقبح النظر إليه.ودليل ستر العورة: قول الله عز وجل: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، فالله عز جل أمر بمطلق الزينة، والزينة زينتان: زينة واجبة, وهي ستر ما يجب ستره، وزينة مستحبة وهي أعلى من ذلك، فالله عز وجل لم يأمر بمجرد ستر العورة, وإنما أمر بأخذ الزينة، يعني: أن الإنسان يأخذ للصلاة زينته الواجبة والمستحبة.ويدل لذلك أيضاً من السنة: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) أخرجه أبو داود وغيره, وهو صحيح, وتقدم لنا.وقوله عليه الصلاة والسلام: ( حائض ) أي: بالغ، لا يقبل الله صلاة البالغ إلا بخمار تضعه على رأسها.والإجماع قائم على أنه لا بد للإنسان أن يستر عورته في الصلاة.

شروط ساتر العورة

قال المؤلف رحمه الله: [ بما لا يصف البشرة ]. اشترط المؤلف رحمه الله لهذا الساتر ألا يصف البشرة، فإن كان يصف البشرة من ابيضاض أو احمرار أو اسوداد فإنه لا يصح الستر به، بل لا بد أن يكون الساتر لا يصف البشرة؛ لأنه إذا وصف البشرة لا يعتبر ساتراً.وظاهر كلام المؤلف رحمه الله في قوله: بما لا يصف البشرة أنه إذا كان يحكي الهيئة أنه يعتبر ساتراً في الصلاة، يعني: إذا كان يحكي هيئة العورة، مثلاً يحكي هيئة العجز، ويحكي هيئة الفخذين، كما لو لبس الإنسان لباساً ضيقاً, لا يصف البشرة لكنه يحكي هيئة العورة, يعني: حجم العورة، يحجم العورة، فصلاته صحيحة؛ لأن المؤلف لم يشترط إلا أن يكون ساتراً لبشرة العورة، أما إذا كان يحكي حجم العورة وهيئتها فإن هذا يعتبر ساتراً, وتصح معه الصلاة، لكن العلماء رحمهم الله كرهوا ذلك. ويظهر من حديث عائشة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، وذكر منهما نساء كاسيات عاريات ) أن المرأة إذا لبست ثوباً ضيقاً يحكي عن مقاطع جسمها من العجيزة والفخذين والثديين وغير ذلك أن هذا محرم ولا يجوز، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن من صفات الكاسية لعارية: أن تلبس ثوباً تكتسي به لكنه شفاف يصف البشرة، أو أنها تلبس ثوباً تكتسي به لكنه قصير، أو تلبس ثوباً تكتسي به لكنه ضيق يحكي الهيئة.إذاً: الخلاصة في ذلك: أنه يشترط للساتر ألا يصف البشرة، يعني: لون الجلد، أما بالنسبة للهيئة إذا كان يصف الهيئة فإن الصلاة معه صحيحة، لكن هذا ينهى عنه, كما تقدم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ( صنفان من أهل النار ).

حدود العورة

قال المؤلف رحمه الله: [وعورة الرجل والأمة ما بين السرة والركبة، والحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وأم الولد والمعتق بعضها كالأمة].نقول: أقسام الناس في العورة في الصلاة ثلاثة أقسام: القسم الأول: من عورته مغلظة في باب الصلاة: وهي عورة الأنثى البالغة، الأنثى البالغة سواء كانت حرة أو أمة على الصواب, نقول: هذه عورتها عورة مغلظة في باب الصلاة، فيجب عليها أن تستتر، يعني: يجب عليها أن تستر كل بدنها، وأيضاً يجب عليها أن تستر رأسها؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يقبل الله صلاة حائض ) يعني: بالغ ( إلا بخمار ). فلا بد أن تستر كل البدن، ولا بد أيضاً أن تستر الرأس, أن تختمر.لكن بقينا في الكفين والقدمين، هل يجب عليها أن تسترهما أو لا يجب عليها أن تسترهما؟الرأي الأول: ما ذكره المؤلف رحمه الله من أنه يجب عليها أن تستر قدميها وكفيها.والرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الأنثى البالغة لا يجب عليها أن تستر الكفين والقدمين، ويدل لذلك حديث أسماء رضي الله تعالى عنها أنها قالت للنبي عليه الصلاة والسلام: ( يا رسول الله! إحدانا يصيب ثوبها دم الحيض أتصلي فيه؟ )، فهي سألت عن الصلاة في الثوب الذي يصيبه شيء من دم الحيض، فأرشدها النبي عليه الصلاة والسلام إلى تطهيره، ورخص لها أن تصلي فيه، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن ثياب نساء الصحابة إذا كن في البيوت من جهة أسفل إلى الكعب، ومن جهة الكم إلى الرسغ، يعني: بدا كفاها، وبدا أيضاً قدماها، فرخص لها النبي عليه الصلاة والسلام أن تصلي في هذا الثوب، وأوجب عليها أن تستر الرأس في قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ).وأما حديث أم سلمة الذي استدل به المؤلف رحمه الله أنها قالت: ( يا رسول الله! تصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ فقال: نعم إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها ) هذا موقوف على أم سلمة رضي الله تعالى عنها، والدرع هو: القميص.فتلخص لنا: القسم الأول وهي العورة المغلظة وهي عورة الأنثى البالغة, فنقول: هذه عورة كلها، الوجه ليس عورة, هذا محل اتفاق، لكن بالنسبة للقدمين والكفين هل يجب عليها أن تسترهما في الصلاة أو لا يجب عليها أن تسترهما في الصلاة ذكرنا كلام أهل العلم رحمهم الله وخلافهم في هذه المسألة.القسم الثاني: الأنثى التي لم تبلغ: ويدخل في هذا المراهقة، ويدخل في هذا المميزة, فنقول هنا: تصلي في الثوب، تستر بدنها، ويباح لها أن تكشف رأسها، يعني: إذا صلت في ثوبها سترت بدنها بالثوب وأبدت الكفين والقدمين والرأس فإن صلاتها صحيحة، ولا يجب عليها أن تستر الرأس؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار )، فيفهم من ذلك أن غير الحائض غير البالغ إذا صلت بغير خمار أن صلاتها صحيحة، فالبنت إذا صلت وهي لم تستر الرأس وصلت في ثوبها ولم يبد منها إلا الرأس والوجه والكفان والقدمان فنقول: بأن صلاتها صحيحة.هذا القسم الثاني, الأنثى التي لم تبلغ, فهذه تستتر إلا ما يتعلق بالرأس والوجه والكفين والقدمين, هذه لا يجب عليها أن تسترهما، ودليل ذلك ما أشرت إليه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.القسم الثالث: عورة الذكر: هذا عورته ما بين السرة إلى الركبة، فيجب عليه في باب الصلاة أن يستر ما بين سرته وركبته، هذا هو القسم الثالث، ودليل ذلك: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ما بين السرة والركبة عورة ).وأيضاً حديث جرهد أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( غط فخذك )، وغير ذلك من الأحاديث كحديث أبي أيوب وغير ذلك، فهذه كلها تدل على أن الإنسان إذا كان ذكراً لا بد أن يستر ما بين سرته وركبته.أما بالنسبة لستر أحد المنكبين فهذا الصواب أنه لا يجب على الذكر أن يستر ما بين أحد المنكبين أو أحد عاتقيه, كما هو قول الحنابلة رحمهم الله.فأصبحت الناس في أقسام العورة في باب الصلاة ينقسمون إلى هذه الأقسام الثلاثة.
الأسئلة

إقامة الصلاة لمن لم يؤذن لها

السؤال: هل يشترط أن يكون المقيم بالصلاة هو نفس المؤذن؟الجواب: هذا ليس بشرط، لكن هذا هو السنة، السنة أن من أذن فهو يقيم، وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من أذن فهو يقيم )، ولكن هذا الحديث ضعيف، لكن يدل على هذا أن بلالاً رضي الله تعالى عنه كان يتولى الأذان للنبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك أيضاً كان يتولى الإقامة، فالمؤذن في عهده عليه الصلاة والسلام كان يتولى الأذان ويتولى أيضاً الإقامة.

إجراء عملية أطفال الأنابيب

السؤال: هذه امرأة مر عليها حوالى سبع سنوات متزوجة ولم ترزق بأولاد، وقد طلب منها زوجها إجراء عملية أطفال الأنابيب, وهي متوقفة خوفاً أن يكون ذلك غير جائز في الشرع؟الجواب: بالنسبة لما يتعلق بأطفال الأنابيب مجمع الفقه الإسلامي بحث هذه المسألة, وقسموا ما يتعلق بأطفال الأنابيب إلى سبعة أقسام، يعني: ذكروا لعمليات أطفال الأنابيب سبعة أقسام، وبعض هذه الأقسام حكموا عليها بالتحريم, وأنها لا تجوز، وبعض هذه الأقسام اختلفوا فيها، وأكثر المجتمعين في قرار هذا المجمع أجازوا بعض هذه الأقسام، فالسائل عليه أن يستفصل عن الطريقة التي يعمل بها هذا الطفل، ويحكم عليه بحسب ما ذكره أهل العلم رحمهم الله من الأقسام التي وجدت واستجدت.

قضاء صلاة المغرب لمن طهرت قبل نصف الليل

السؤال: إذا طهرت المرأة قبل نصف الليل فهل يلزمها صلاة المغرب؟الجواب: لا تلزمها صلاة المغرب، فالصواب: أن المرأة إذا طهرت في وقت صلاة أنها لا تلزمها إلا الصلاة التي طهرت في وقتها، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وأما الصلاة التي تجمع إليها لا تلزمها، ويدل لذلك: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ ).وأيضاً قول عائشة : ( كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة )، فهنا لا تؤمر المرأة بقضاء الصلاة، فقد مر هذا الوقت. يعني: وقت الظهر مثلاً أو وقت المغرب مثلاً وهذه المرأة حائض، فإذا كانت حائضاً فإنها تؤمر بقضاء الصوم, ولا تؤمر بقضاء الصلاة.

حكم من صلى بالناس محدثاً وتذكّر حدثه واستمر في الصلاة

السؤال: إمام صلى بالجماعة وتذكر في الركعة الثانية أنه غير طاهر وواصل الصلاة, فماذا عليه؟ وما على الجماعة؟الجواب: إذا تذكر الإمام أنه غير طاهر فهو يجب عليه أن ينفصل من الصلاة؛ لأنه ما يجوز له أن يستمر في الصلاة وهو غير طاهر سواء كان إماماً أو غير إمام، وأما بالنسبة لصلاته فصلاته ظاهر أنها باطلة؛ لما تقدم لنا من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ).أما بالنسبة لصلاة المأمومين فصلاتهم صحيحة؛ لحديث أبي هريرة في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم )، فهذا الإمام كونه أخطأ فهذا لنا وعليه، ويأثم في كونه استمر في هذه الصلاة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-04, 07:35 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [4]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(13)

من شروط الصلاة سترة العروة، وقد أمر الله عباده بأخذ زينتهم عند كل مسجد، ولا يجوز للرجال لبس الذهب والحرير إلا في حالات استثنائية، كما يشترط للصلاة طهارة البدن والمكان والثياب، واستقبال القبلة إلا عند الخوف أو في النافلة عند السفر على الراحلة.
تابع شروط صحة الصلاة

تابع الشرط الثالث: ستر العورة

تقدم لنا الشرط الثالث أو بعض أحكام الشرط الثالث وهو: ستر العورة، وذكرنا دليل ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، فمن القرآن قول الله عز وجل: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31].وأما السنة فكثير, فمن ذلك: حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة حائض ) يعني: بالغ ( إلا بخمار ) أخرجه أبو داود وغيره.والإجماع قائم على ذلك كما حكاه ابن عبد البر وغيره.وذكرنا أيضاً أن المؤلف رحمه الله اشترط للساتر ألا يصف البشرة، فإذا كان يصف لون البشرة من سواد أو بياض أو احمرار فإنه لا يصح الستر به، وأيضاً نبهنا على أن كلام المؤلف رحمه الله يفيد أنه إذا كان لا يصف لون العورة، لا يصف لون الجلد، وإنما يصف حجم العورة، يبين هيئة العورة أن الصلاة صحيحة، كما لو أنه لبس ثوباً ضيقاً، أو صلى في سروال ضيق يبين هيئة العورة, فيؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله أن الصلاة صحيحة؛ لأنه قال: بما لا يصف البشرة, فقط اقتصر على البشرة دون بيان الهيئة، فإذا كان يبين هيئة العورة دون البشرة دون لون الجلد فإن الصلاة صحيحة، لكن لا شك أن الإنسان ينهى عن أن يلبس ثوباً يبين هيئة العورة؛ لأن الإنسان مأمور بستر العورة رجلاً كان أو امرأة, مأمور بحفظها، فالله عز وجل يقول: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:5-6]. ويدخل في حفظ العورة حفظها من الزنا ومن اللواط ومما حرم الله عز وجل، وأيضاً حفظها سترها عن كل من لا يحل له النظر إليها. وأيضاً في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك ).ويدخل في حفظ العورة سترها، ستر اللون وستر الهيئة، هذا كله داخل في حفظ العورة، فمسألة الحفظ شيء ومسألة صحة الصلاة حكم آخر.ثم بعد ذلك تكلمنا عن أقسام العورة, وذكرنا أن العورة في باب الصلاة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:عورة مغلظة، وعورة مخففة، وعورة متوسطة، وبينا حكم كل قسم من هذه الأقسام، وأيضاً دليل كل قسم من هذه الأقسام.

الصلاة في الثوب المغصوب والدار المغصوبة

قال المؤلف رحمه الله: [ ومن صلى في ثوب مغصوب أو دار مغصوبة لم تصح صلاته ].يؤخذ من هذه الجملة التي ذكرها المؤلف رحمه الله أنه يشترط للساتر أن يكون مباحاً، فكما أنه يشترط للساتر أن يكون صفيقاً لا يصف البشرة، كذلك أيضاً يشترط للساتر أن يكون مباحاً. وعلى هذا إذا ستر نفسه بثوب مغصوب أو ثوب مسروق أو منتهب أو مختلس المهم ستر نفسه بثوب محرم فيقول المؤلف رحمه الله: بأن صلاته لا تصح، والعلة في ذلك: أنه استعمل هذا المحرم في شرط العبادة، ويقولون: العلة في ذلك أنه استعمل هذا المحرم في شرط العبادة، فكما لو صلى في ثوب نجس، وسيأتينا إن شاء الله أن من شروط صحة الصلاة: الطهارة من الخبث في الثوب وفي البدن وفي البقعة التي يصلى عليها، فلا يصح أن يصلي الإنسان في ثوب محرم قياساً على عدم صحة الصلاة في الثوب النجس، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى، وهذا دليله.والرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله وهو قول أكثر أهل العلم: أن الصلاة صحيحة، فإذا صلى في ثوب محرم كثوب مغصوب أو مسروق أو منتهب أو غير ذلك الصلاة صحيحة؛ لأن الصلاة هنا استكملت شروطها وأركانها وواجباتها، وكونه يستعمل شيئاً محرماً لا يلزم منه أن تكون الصلاة باطلة، بل نقول: إن الصلاة صحيحة؛ لأنها استكملت الشروط والأركان والواجبات، وكونه استتر بشيء محرم لا يلزم من ذلك أن تبطل الصلاة، وعندنا قاعدة: أن الشارع إذا نهى عن شيء فإن النهي ينقسم إلى ثلاثة أقسام، يعني: الحنابلة رحمهم الله يبنون ذلك على قاعدة, وهي: أن النهي يقتضي الفساد، وأوسع المذاهب في هذه القاعدة هو مذهب الحنابلة رحمهم الله، فيقولون: بأن النهي إذا عاد إلى ذات العبادة أو المعاملة أو عاد إلى شرط العبادة أو المعاملة فإن ذلك يقتضي الفساد، الشارع لا شك أنه نهى عن الغصب، ونهى عن السرقة، ونهى عن الانتهاب والاختلاس إلى آخره، فيقولون: بأن النهي إذا عاد إلى ذات العبادة أو المعاملة أو عاد إلى شرط العبادة أو المعاملة فإن ذلك يقتضي الفساد.والصواب في هذه المسألة - مسألة النهي هل يقتضي الفساد أو لا يقتضي الفساد؟ الصواب في هذه المسألة أن نقول: بأن النهي ينقسم إلى ثلاثة أقسام:القسم الأول: أن يعود إلى ذات العبادة أو المعاملة، فنقول هنا: النهي يقتضي الفساد، مثاله في العبادة كما سيأتينا: أن الشارع نهى عن الصلاة في أعطان الإبل، فنقول هنا: النهي يقتضي الفساد؛ لأنه يعود إلى ذات العبادة، فإذا صلى أحد في أعطان الإبل أو صلى في المقبرة أو صلى في الحمام فنقول: بأن عبادته أو نقول: بأن صلاته غير صحيحة، لماذا؟ لأن النهي هنا يعود إلى ذات العبادة.مثله أيضاً في المعاملة: الشارع نهى عن بيع الخمر، هنا النهي يعود إلى ذات المعاملة، فإذا باع أحد خمراً أو نهى عن بيع الأصنام نهى عن بيع الميتة... إلى آخره فنقول هنا: النهي يعود إلى ذات المعاملة، فإذا عقد هذا العقد نقول: بأن العقد فاسد، هذا القسم الأول: أن يكون النهي عائداً إلى ذات العبادة وذات المعاملة, فنقول: بأن النهي يقتضي الفساد.القسم الثاني: أن يكون النهي عائداً على أمر خارج عن العبادة وخارج عن المعاملة, فهذا النهي لا يقتضي الفساد، مثال ذلك: نهى الشارع عن لبس الحرير، صلى رجل وعليه عمامة حرير فنقول: بأن صلاته صحيحة ويأثم؛ لأن النهي هنا لا يعود إلى ذات العبادة ولا يعود إلى شرطها؛ لأن ستر الرأس هذا ليس واجباً في الصلاة، ليس من شروط صحة الصلاة.مثاله في المعاملة: تلقي الركبان، أو بيع الحاضر للبادي، أو مثلاً تصرية ضروع بهيمة الأنعام، إذا تلقى الركبان هذا نهي خارج عن المعاملة، الشارع نهى أن تتلقى شخصاً أتى بحمولة بسلع لكي يبيعها في البلد، لكن إذا تلقيته واشتريت منه فإنه بالخيار, العقد صحيح، لكن يثبت الخيار لهذا البائع، هذا نهي عائد على أمر خارج عن المعاملة.القسم الثالث موضع الخلاف: إذا عاد على شرط المعاملة أو شرط العبادة, هل يقتضي الفساد أو لا يقتضي الفساد؟المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن النهي يقتضي الفساد؛ ولهذا قال لك هنا: إذا صلى في ثوب محرم فإن صلاته باطلة، أيضاً تقدم لنا في كتاب الطهارة لو توضأ بماء مغصوب فإن وضوءه غير صحيح، تيمم بتراب مسروق أو منتهب يقولون: بأن هذه الأشياء تبطل عليه, ما دام أنه يعود إلى شرط العبادة أو يعود إلى شرط المعاملة، شرط المعاملة مثل جهالة الثمن، مثل جهالة المثمن... إلى آخره, فإن ذلك يبطل عليه العبادة، ويبطل عليه المعاملة.والصوا في مسألة الشرط أنه لا يبطل العبادة, ولا يبطل المعاملة على الإطلاق، بل نقول: إن في هذا تفصيلاً, وهو: أن النهي إذا كان ملاحظاً في الشرط فإنه يقتضي الفساد، أما إذا كان النهي غير ملاحظ في الشرط فإنه لا يقتضي الفساد، وهنا النهي ليس ملاحظاً في الشرط، الشارع ما قال: لا تصلوا في ثوب مغصوب، أو لا تصلوا في ثوب مسروق، أو في ثوب منتهب, إلى آخره، فالصواب في مثل هذا أن نقول: بأن الصلاة صحيحة لكنه يأثم، وكذلك أيضاً نقول مثله في الوضوء، مثله في التيمم وفي الغسل, إذا توضأ بماء مغصوب أو ماء مسروق إلى آخره نقول: بأن الوضوء والغسل والتيمم صحيح, لكنه يأثم لكونه استعمل المحرم.فالصواب في هذه المسألة: أن صلاته صحيحة؛ لأن النهي هنا ليس ملاحظاً في الشرط شرط العبادة أو شرط المعاملة.قال: (أو دار مغصوبة). وكذلك أيضاً إذا صلى في دار مغصوبة نقول: بأن صلاته غير صحيحة. هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.والرأي الثاني: أن الصلاة صحيحة، وهذا القول هو الصواب كما قلنا في الصلاة في الثوب المغصوب، فالصواب: أنه إذا صلى في دار مغصوبة أو دار مسروقة أو منتهبة فنقول: بأن صلاته صحيحة, لكنه يأثم لكونه استعمل المغصوب.والحناب ة كما تقدم يبنونه على القاعدة التي سلف أن ذكرنا أقسامها.

لبس الذهب للرجال وللنساء

قال المؤلف رحمه الله: [ ولبس الذهب والحرير مباح للنساء دون الرجال إلا عند الحاجة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير: ( هذان حرام على ذكور أمتي، حل لإناثهم ) ].لبس الذهب والحرير يقول المؤلف رحمه الله: مباح للنساء, وهذا بالإجماع، فالإجماع قائم على أن المرأة لها أن تلبس الذهب، ولها أن تلبس الحرير.وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن المرأة لها أن تلبس الذهب سواء كان الذهب محلقاً أو غير محلق، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم رحمهم الله، وقد حكي الإجماع على ذلك، والسنة شاهدة على أن المرأة يباح لها أن تلبس الذهب سواء كان محلقاً أو غير محلق، ويدل لذلك أيضاً ما أورده المؤلف من حديث أبي موسى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( حرم لبس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم )، وهذا الحديث أخرجه الترمذي ، وكذلك أيضاً النسائي والإمام أحمد والبيهقي وغيرهم، وإسناده ثابت.فنقول: بالنسبة للمرأة يباح لها أن تلبس الذهب، ويباح لها أن تلبس الحرير.لكن قيد العلماء رحمهم الله لبس الذهب بالنسبة للمرأة بما جرت العادة بلبسه، ما اعتاد الناس أن يلبسوه، أما إذا كان لبسه على وجه خارج عن العادة فإنه وإن كان في الأصل مباحاً إلا أن ذلك يخرجه إلى أمر آخر منهي عنه، وهو أن يكون لباس شهرة، أو يكون فيه إسراف وتبذير, وغير ذلك.المهم نفهم أن الأصل أن لبس الذهب للمرأة مباح، وقلنا: بأن العلماء قيدوا هذه الإباحة بقولهم: ما جرت العادة بلبسه، فما خرج عن العادة إذا تضمن ذلك محذوراً شرعياً فإنه يكون منهياً عنه، قد يكون لباس شهرة, يعني: تلبسه المرأة على وجه لم يكن يلبس عادة, فيكون في ذلك شهرة، فتدخل في النهي أو في ما جاء في الوعيد في لباس الشهرة، أو يكون في ذلك إسراف وتبذير، وكذلك أيضاً بالنسبة للحرير.قال المؤلف رحمه الله: (دون الرجال إلا عند الحاجة).الرجل لا يجوز له أن يلبس الذهب، ولا يجوز له أن يلبس الحرير، إلا أنه يستثنى من ذلك مواضع.استثنى المؤلف رحمه الله قال: إلا عند الحاجة، فيجوز للرجل أن يلبس الذهب عند الحاجة، والدليل على أنه لا يجوز له أن يلبس الذهب: ما تقدم من حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه، وله شاهد أيضاً من حديث علي رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ذهباً وحريراً, فوضع أحدهما في يمينه والآخر في شماله, فقال: هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم )، فالذهب يحرم على الرجل إلا في مواضع: الموضع الأول: عند الضرورة، فإذا اضطر إلى الذهب فإنه لا بأس بذلك، ويدل لذلك ما جاء في حديث عرفجة بن أسعد رضي الله تعالى عنه ( أنه قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من ورق من فضة، فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب )، هذا الموضع الأول.الموضع الثاني فيما يتعلق باللبس: أجاز شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اليسير من الذهب إذا كان تابعاً وإنه لا بأس به، واليسير هذا ينقسم إلى قسمين:القسم الأول: أن يكون مستقلاً ليس تابعاً لأمر مباح، فإن هذا محرم ولا يجوز.القسم الثاني: أن يكون هذا اليسير تابعاً لأمر مباح، فإن هذا جائز على ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. مثلاً: إذا اتخذ الإنسان أزارير من ذهب نقول: هذه الأزارير تابعة لشيء مباح، إذا كانت متصلة بالثوب فنقول: بأن هذا جائز, ولا بأس به، لكن إذا كانت منفصلة فنقول: بأن هذا محرم ولا يجوز.ومثل ذلك أيضاً ما يسأل عنه بعض الناس من أنه قد يوجد في بعض مشالح الرجال بعض الخيوط من الذهب، فهذه الخيوط من الذهب نقول: بأنها يسير تابع، فإذا كان يسيراً تابعاً فإن هذا جائز ولا بأس به, على ما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله.مثال آخر: لو أن الإنسان لبس ساعة وفيها شيء من الذهب أو في آلاتها شيء يسير من الذهب فعلى كلام شيخ الإسلام هذا جائز ولا بأس به، لكن لو أن الإنسان لبس خاتماً من ذهب نقول: بأن هذا محرم ولا يجوز؛ لأن المستقل حتى ولو كان يسيراً محرم ولا يجوز، ولهذا في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً في إصبعه خاتماً من ذهب فأخذه النبي عليه الصلاة والسلام وألقاه، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في إصبعه، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم قيل لهذا الرجل: خذ خاتمك فانتفع به، قال: لا آخذه وقد ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم ).المهم نفهم أن الشيء المستقل حتى ولو كان يسيراً فإنه لا يجوز.وعلى هذا أيضاً لو أن رجلاً اتخذ لكمه ما يسمى بالكبك فهذا الكبك ما دام أنه مستقل فلا يجوز له أن يتخذه؛ لأن اليسير إذا كان غير تابع فهو محرم ولا يجوز؛ لعموم حديث أبي موسى : ( هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها )، وقوله: ( حرام على ذكور أمتي ) يشمل القليل ويشمل الكثير.وقد ورد في مسند الإمام أحمد رحمه الله ما يدل أيضاً على تحريم اليسير إذا كان مستقلاً.وأما بالنسبة لليسير التابع فقلنا: إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يختار بأن هذا جائز، والجمهور على أن ذلك لا يجوز.ودليل شيخ الإسلام : ما ثبت في صحيح البخاري من حديث المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه: ( أن أباه مخرمة قال له: يا بني! هيا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد جاءته أقبية، قال: فذهبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنا، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام عليه قباء من ديباج مزرر بالذهب )، فهنا قال: ( مزرر بالذهب ) يفهم منه أنه إذا كان الذهب يسيراً تابعاً فإن هذا جائز ولا بأس به. فاستثنينا بالنسبة للرجال من الذهب ما دعت إليه الضرورة؛ لحديث عرفجة رضي الله تعالى عنه.واستثنينا أيضاً على قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اليسر التابع، وهذا فيما يتعلق باللباس.أما ما يتعلق بالآنية فهذا سبق وأن تكلمنا على ذلك, يعني: حكم استعمال آنية الذهب والفضة، وحكم اتخاذ آنية الذهب والفضة، وذكرنا فيما تقدم في باب الآنية أن استعمال آنية الذهب والفضة ينقسم إلى قسمين:القسم الأول: في الأكل والشرب.والقسم الثاني: في غير الأكل والشرب.وأيضاً تكلمنا عن حكم الاتخاذ، فلا نخبط بين ما يتعلق بمسألة اللباس وبين ما يتعلق بمسألة الآنية، فلكل حكم مستقل، هذا بالنسبة للذهب.ولم يتعرض المؤلف رحمه الله للفضة بالنسبة للرجال والنساء، فنقول: أما بالنسبة للنساء فالفضة جائزة لهن بالإجماع.وأما بالنسبة للرجال فاختلف أهل العلم رحمهم الله في مسألة اللباس, ليس في مسألة الآنية, وإنما في مسألة اللباس, هل لبس الفضة جائز للرجال؟ مثلاً لو أن إنساناً أراد أن يلبس عباءة عليها أعلام من الفضة، يعني: يلبس مشلح عليه زر من الفضة هل هذا جائز أو ليس بجائز؟ أو أراد أن يلبس ساعة من فضة، أو يلبس مرآة على إطارها فضة, هل هذا جائز أو ليس جائزاً؟جمهور أهل العلم يقولون: الفضة كالذهب محرمة على الرجال.وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الفضة مباحة، الأصل فيها الإباحة، ولم يرد دليل يدل على تحريم لبس الفضة للرجال.وقد ورد في مسند الإمام أحمد رحمه الله: ( وأما الفضة فالعبوا بها لعباً )، وهذا الحديث وإن كان في إسناده شيء إلا أنه في الصحيحين من حديث أنس وغيره: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من فضة )، هذا فيما يتعلق بالذهب.

حكم لبس الحرير للرجال والنساء

قال المؤلف رحمه الله: ( والحرير ).الحرير بالنسبة للنساء جائز بالإجماع، ودليل ذلك: ما أورده المؤلف رحمه الله من حديث أبي موسى ، وما ذكرناه من حديث علي رضي الله تعالى عنهما.وأما بالنسبة للذكر فإن الحرير محرم عليه؛ لما أوردنا من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حرم لبس الذهب والحرير على ذكور أمتي وأحل لإناثها )، وما تقدم من حديث علي رضي الله تعالى عنه إلا أنه أيضاً الذكر يباح له الحرير في مواضع:الموضع الأول: عند الحاجة فلا بأس، فإذا احتاج الذكر إلى لبس الحرير لمرض كحكة يعني: وجد فيه حكة يحتاج معها إلى لبس الحرير؛ لأن الحرير لباس بارد، أو كان فيه جرب أو فيه قمل أو نحو ذلك فإنه لا بأس أن يلبسه، ويدل لذلك حديث أنس رضي الله تعالى عنه: ( أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكيا القمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرخص لهما في قميص الحرير، قال: فرأيته عليهما )، وهذا في الصحيحين.فنقول: إذا دعت الحاجة إلى ذلك لمرض أو قمل أو حكة ونحو ذلك فإن هذا جائز ولا بأس به.الموضع الثاني: أيضاً ما ورد في صحيح مسلم من حديث عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير، إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة ). وهذا في صحيح مسلم ، وعلى هذا لا بأس أن الرجل يلبس ثوباً فيه أعلام من الحرير، لكن بشرط ألا تتجاوز هذه الأعلام أربعة أصابع، يعني: لا بأس أنك تلبس ثوباً معلماً فيه مشجر من الحرير، علم فيه حرير، ويكون بجانبه علم من غير الحرير، علم مثلاً من القطن أو من الصوف أو غير ذلك أو من الكتان، يعني: تلبس ثوباً فيه علم من الحرير، والعلماء يقولون: العبرة بالعرض أربعة أصابع، أما الطول فلا حد له، لو كان الثوب من أوله إلى آخره كله حرير، لكن العرض ما يتجاوز أربعة أصابع، أيضاً العلم الذي يكون بجانبه من الصوف أو الكتان أو غير ذلك أيضاً ما يكون مساوياً للحرير يكون أكثر من الحرير، فإذا كان علم الحرير ثلاثة أصابع يكون علم الصوف أربعة أصابع، إذا كان علم الحرير إصبعين يكون علم الصوف ثلاثة أو أربعة, إلى آخره.فإذا كان الثوب معلماً فإنه جائز ولا بأس به، والمقصود: بأربعة أصابع الذي رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم إصبعين أو ثلاثة أو أربعة في الموضع الواحد، أما لو كان الثوب فيه مثلاً عشرون إصبعاً أو فيه ثلاثون إصبعاً فإن هذا جائز، المهم في الموضع الواحد لا يتجاوز العلم أربعة أصابع.وأيضاً نشترط شرطاً آخر هو الأحوط والصواب: أن ما يكون بجانبه من العلم الآخر يكون من الصوف لا يكون مساوياً له، بعض أهل العلم قال: بأنه لا بأس أن يكون مساوياً, لكن الأقرب أنه لا يكون مساوياً، يكون خمسة أصابع، علم الحرير أربعة الصوف خمسة، علم الحرير ثلاثة الصوف أربعة، وهكذا.فإذا كان في الثوب عشرة أعلام فإنه لا بأس، هذا علم حرير، وهذا علم صوف، هذا علم حرير وهذا علم صوف، علم حرير وعلم صوف نقول: هذا لا بأس به، هذا جائز، لكن في الموضع نشترط أن يكون الموضع الواحد لا يتجاوز أربعة أصابع.وشرط آخر: أن ما بجانبه من الصوف أو القطن أو الكتان يكون أكثر منه.وأيضاً نتنبه إلى أن العبرة بالعرض، أما الطول فحتى لو كان طوله متراً أو مترين إلى آخره فإن هذا لا بأس به، نقول: هذا جائز ولا بأس به.أيضاً قلنا: أنه لو كانت الأعلام كثيرة بحيث تكون الأصابع تساوي عشرين إصبعاً أو ثلاثين إصبعاً فإن هذا جائز ولا بأس به.وتكلم أكثر العلماء رحمهم الله على صور ذلك، فمن ذلك: سجف الفراء, يعني: الذي يوضع على أطراف الفروة، أو يوضع على أطراف المشلح، أو يوضع على أطراف الكوت، نقول: هذا لا بأس به, لكن بشرط أن يكون أربعة أصابع فأقل، فإذا كان مثلاً أطراف المشلح أو أطراف الفروة أربعة أصابع من الحرير الخالص فإن هذا لا بأس به.أيضاً لبنة الجيب، يعني: الفتحة التي يدخل من عندها الرأس، لو كان هذه اللبنة وضع عليها الإنسان حريراً فإن هذا جائز ولا بأس به، لكن بشرط أن يكون أربعة أصابع فأقل.أيضاً الرقاع، لو أن الإنسان رقع ثوبه أو مشلحه وغير ذلك أيضاً نقول: لا بأس أن يكون ذلك أربعة أصابع فأقل، وعلى هذا فقس.الموضع الثالث الذي رخص فيه العلماء رحمهم الله في الحرير: إذا كان حشواً فلا بأس به، فإذا حشى الفروة أو حشيت الكوت من الحرير فإن هذا لا بأس به.وكذلك أيضاً رخص العلماء رحمهم الله في كيس المصحف، كيس المصحف أيضاً أجاز العلماء رحمهم الله أن يكون من الحرير.وكذلك أيضاً الأزارير لا بأس به؛ لأن هذا لا يأخذ أربعة أصابع، إنما يكون أقل من أربعة أصابع.وكذلك أيضاً لباس الكعبة، أجاز العلماء رحمهم الله أن يكون ذلك من الحرير.قال المؤلف رحمه الله: (لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير: ( هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم ).

ستر العاتق في الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: [ ومن صلى من الرجال في ثوب واحد بعضه على عاتقه أجزأه ذلك ].المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يجب على الرجل إذا صلى في الفرض أن يستر عورته, وهي ما بين السرة والركبة كما تقدم لنا، وأيضاً يجب عليه أن يستر أحد عاتقيه، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: بعضه على عاتقه أجزأه ذلك.ودليلهم حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء ).وعند جمهور أهل العلم: أن ستر أحد العاتقين ليس شرطاً، فلو صلى الإنسان ولم يستر أحد عاتقيه فإن هذا جائز ولا بأس به.ويدل لذلك حديث جابر رضي الله تعالى عنه لما سئل: ( أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟ فقال: إن كان ضيقاً فاتزر به، وإن كان واسعاً فالتحف به )، فإذا كان ضيقاً جعله إزاراً، وإذا جعله إزاراً فإنه سيستر نصف بدنه فقط دون النصف العلوي.وهذا القول هو الصواب، فنقول: الصواب في هذا: أنه لا يشترط أن يستر أحد عاتقيه, كما هو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله.

حكم من لم يجد ما يستر جميع عورته

قال المؤلف رحمه الله: [ فإن لم يجد إلا ما يستر عورته سترها، فإن لم يكف جميعها ستر الفرجين، فإن لم يكفهما جميعاً ستر أحدهما، فإن عدم الستر بكل حال صلى جالساً ].ذكر المؤلف هنا حالات:الحالة الأولى: إذا وجد المصلي بعض السترة فيبدأ أولاً بستر العورة، وهي ما بين السرة والركبة.الحالة الثانية: إذا كان ذلك لا يكفي لكل العورة، فمثلاً: إذا فرضنا أن المصلي رجل يجب عليه أن يستر ما بين السرة والركبة، وجد ما يتمكن به من ستر ما بين السرة والركبة نقول: لم يستر الفرجين: القبل والدبر.الحالة الثالثة: لا يكفي إلا أحد الفرجين ستر أحدهما.وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن هذا المصلي بالخيار, إن شاء ستر القبل، وإن شاء ستر الدبر، والأولى هو ستر الدبر؛ لأن عورة الدبر أفحش.والوجه الثاني في المذهب: أن الأولى ستر القبل؛ لأن القبل يستقبل به القبلة.لكن الأقرب هو الرأي الأول وأنه يستر الدبر؛ لأن عورة الدبر أفحش وأغلظ من عورة القبل.وعلى هذا نقول: المراتب ثلاثة، إذا وجد بعض السترة نقول: يستر العورة, إذا لم يتمكن ينتقل إلى الحالة الثانية, يستر الفرجين، إذا لم يتمكن ستر أحد الفرجين، وأيهما أولى هل هو القبل أو الدبر؟قلنا: الأقرب في ذلك أن الأولى هو الدبر, فعليه أن يستر الدبر.قال المؤلف رحمه الله: [ فإن عدم الستر بكل حال صلى جالساً, يومئ بالركوع والسجود، وإن صلى قائماً جاز ].إذا كان الإنسان عارياً كإنسان سلبه اللصوص وأخذوا ثيابه ثم حضرته الصلاة فإنه يصلي على حسب حاله، ولا يؤخر الصلاة عن وقتها، وهذا يدل على عظم شأن الوقت، بل يصلي الإنسان على حسب حاله؛ لأنه الآن مخاطب بالصلاة، والله عز وجل يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ويقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فإذا كان مخاطباً فإنه يصلي، وحينئذ نقول: هذا العاري له حالتان: حالة جواز، وحالة أفضلية، الأفضل أن تصلي وأنت جالس، تومئ بالركوع والسجود، تومئ راكعاً وتومئ ساجداً، وتجعل سجودك أخفض من ركوعك، هذه الحالة الأولى.الحالة الثانية: حالة الجواز، وهي أن يصلي قائماً تماماً، يقوم ويركع ويسجد.. إلى آخره، نقول: بأنه جائز ولا بأس به.

من لم يجد إلا ثوباً نجساً أو مكاناً نجساً

قال المؤلف رحمه الله: [ ومن لم يجد إلا ثوباً نجساً أو مكاناً نجساً صلى فيهما, ولا إعادة عليه ].إذا لم يجد الإنسان إلا ثوباً نجساً أو مكاناً نجساً فإنه يصلي فيه ولا إعادة عليه، وهذا الذي ذهب إليه المؤلف رحمه الله ظاهر؛ لأن الله عز وجل يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )، وهذا الشخص لم يجد إلا هذا الثوب أو هذا المكان.ولا إعادة عليه، هذا هو الأصل، الأصل أن الإنسان إذا فعل المأمور حسب ما أمر فإنه لا يطالب به مرة أخرى، هذا الأصل, هذه القاعدة أن الإنسان إذا فعل المأمور حسب الأمر أنه لا يطالب به مرة أخرى.وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه إذا وجد ثوباً للغير يعني: أنه وجد ثوباً يملكه لكنه نجس نقول: يصلي فيه. لكن لو وجد ثوباً لزيد أو عمرو هل يصلي فيه أو لا يصلي فيه؟هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم رحمهم الله، فقال بعض أهل العلم: يصلي فيه ويعيد، يعني: لو وجد ثوباً مغصوباً أو مسروقاً قال: يصلي فيه ويعيد.وقال بعض أهل العلم: يصلي عارياً, ولا إعادة عليه، ولا يستعمل حق الغير.والأقرب في هذه المسألة أن يقال: إن مثل هذا يختلف، فإذا كان المالك عادة يأذن باستعمال هذا الثوب فنقول: بأنه يصلي فيه, ولا إعادة عليه، وإذا كان لا يأذن بذلك فإنه يصلي عارياً, ولا إعادة عليه.

الشرط الرابع: الطهارة من النجاسة

قال المؤلف رحمه الله: [ الشرط الرابع: الطهارة من النجاسة في بدنه وثوبه وموضع صلاته ].هذا الشرط الرابع من شروط صحة الصلاة، والمؤلف رحمه الله جعله من الشروط، وبعض العلماء لا يجعله شرطاً؛ لأنه يسقط بالنسيان والسهو والجهل, فإذا نسي الإنسان ولم يعلم أو جهل أو نسي فإنه يسقط عليه.قال: (في بدنه).وهذا بدنه دليله سائر أدلة الاستنجاء والاستجمار, فسائر أدلة الاستنجاء والاستجمار التي سبقت لنا هذه كلها تدل على وجوب طهارة البدن حال الصلاة، كحديث سلمان وحديث أبي هريرة وحديث أبي قتادة , وغير ذلك من الأحاديث.وكذلك أيضاً من الأدلة على إزالة النجاسة على البدن: حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فإنه كان لا يستبرئ من بوله )، هذا بالنسبة للبدن.قال: (وثوبه). ودليله حديث أسماء رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دم الحيض يصيب الثوب: ( حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء، ثم صلي فيه ).وأيضاً يدل لذلك قول الله عز وجل: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] على أحد التفاسير.قال: (وموضع صلاته). موضع صلاته هذا يدل له حديث أنس رضي الله تعالى عنه في بول الأعرابي, ( لما بال في طائفة من المسجد فزجره الناس, فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى أكمل بوله، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه ) فهذا يدل على وجوب طهارة موضع الصلاة. قال: [ إلا النجاسة المعفو عنها كيسير الدم ونحوه ].تقدم لنا ما هو ضابط النجاسة التي يعفى عنها، والمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن النجاسة التي يعفى عنها هي نجاسة الدم اليسير في غير المطعوم، فإذا كان دماً ويسيراً وكان ذلك في غير مطعوم وفي غير مائع فإنه يعفى عن هذه النجاسة بهذه القيود الأربعة، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.وتقدم لنا أن الصواب في هذا أنه يعفى عن يسير النجاسة مطلقاً، وذكرنا الدليل على ذلك، سائر أحاديث الاستجمار, يقول شيخ الإسلام : بأن سائر أحاديث الاستجمار تدل على أن يسير النجاسة يعفى عنه؛ لأنه لا شك أن الإنسان إذا استجمر سيبقى شيء من أثر النجاسة، وهذه النجاسة معفو عنها، فدل ذلك على أن يسير النجاسة يعفى عنه.

من صلى وعليه نجاسة

قال المؤلف رحمه الله: [ وإن صلى وعليه نجاسة لم يكن علم بها أو علم بها ثم نسيها فصلاته صحيحة، وإن علم بها في الصلاة أزالها, وبنى على صلاته ].لا بد أن نفرق بين مسألة إزالة الخبث ورفع الحدث، فإزالة الخبث من باب التروك والمحظورات، وأما رفع الحدث فهذا من باب الأوامر، فرفع الحدث من باب الأوامر، وأما إزالة الخبث فهو من باب النواهي والتروك والمحظورات.وذكر ا قاعدة فيما سبق, أن ما يتعلق بالتروك والمحظورات والنواهي يشترط فيها ثلاثة شروط؛ لكي تترتب عليها آثارها, وهذه الشروط هي:الشرط الأول: الذكر.والشرط الثاني: الاختيار.والشرط الثالث: العلم.وعلى هذا لو أن الإنسان صلى وفي ثوبه نجاسة ونسي أن يزيلها، هو علم بالنجاسة لكن نسي أن يزيل هذه النجاسة, فنقول: إن صلاته صحيحة؛ لأن إزالة الخبث من باب المحظورات أو من باب التروك.وكذلك أيضاً لو أن إنساناً صلى وبعد أن انتهى من صلاته علم أن في ثوبه أو في بدنه أو في بقعته نجاسة فنقول: إن صلاته صحيحة.ولو أن إنساناً صلى مكرهاً على حمل النجاسة فنقول: بأن صلاته صحيحة.فعلى هذا إذا صلى الإنسان ثم بعد ذلك تذكر أن في ثوبه نجاسة أو في بدنه أو في بقعته نقول: بأن صلاته صحيحة, ولا شيء عليه.قال: (وإن علم بها في الصلاة أزالها, وبنى على صلاته).إذا علم أن في ثوبه نجاسة فنقول: بأنه يزيلها ويبني على صلاته، ويدل لذلك: حديث أبي سعيد وحديث جابر رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بنعليه, ثم خلعهما في الصلاة، فخلع الصحابة رضي الله تعالى عنهم نعالهم، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن خلعهم نعالهم فقالوا: خلعت فخلعنا، فقال: إن جبريل أخبرني أن بهما أذى, فخلعتهما ).إذاً: إذا علم المصلي أن في سترته التي ستر بها نجاسة فإنه يزيلها؛ لما تقدم من حديث أبي سعيد وجابر رضي الله تعالى عنهما، فإن كان لا يتمكن من إزالتها لكونه لا يبقى عليه شيء يستتر به فإنه يستأنف الصلاة، يطهر ثيابه, ويستأنف الصلاة من أولها.

المواضع التي لا تصح الصلاة فيها

قال المؤلف رحمه الله: [ والأرض كلها مسجد تصح الصلاة فيها إلا المقبرة, والحمام، والحش، وأعطان الإبل، وقارعة الطريق ].الأصل أن الأرض كلها مسجد؛ لحديث جابر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، فالأرض كلها مسجد، هذا هو الأصل, كما في الصحيحين، وعلى هذا لا نستثني من هذا الأصل إلا ما دل له الدليل.وقد استثنى المؤلف رحمه الله فقال: (إلا المقبرة). المقبرة لا تصح الصلاة فيها، والمقبرة هي: مدفن الموتى، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن المقبرة لا تصح الصلاة فيها سواء دفن فيها واحد أو أكثر من واحد. هذا هو الصواب.وأما قول بعض العلماء رحمهم الله: لا يضر قبر ولا قبران فهذا فيه نظر.فالصواب: أن المقبرة ما دام أن الدفن وجد فيها أن الصلاة لا تصح، ويدل لذلك حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام )، وهذا إسناده جيد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.وأيضاً ما ثبت في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )، فدل ذلك على أن المقابر لا تتخذ مساجد.وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( صلوا في بيوتكم، لا تجعلوها مقابر )، فدل ذلك على أن المقابر لا يصلى فيها.والعلة في النهي عن الصلاة في المقبرة: سد ذرائع الشرك؛ لئلا يؤدي ذلك إلى تعظيم أهل القبور، وصرف شيء من أنواع العبادة لهم.وأما قول بعض العلماء: بأن العلة هي خشية النجاسة؛ وذلك بسبب تولد النجاسة من الأموات أو من لحوم الأموات فهذا فيه نظر، فالصواب في ذلك: أن العلة كما لعن النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، العلة هي: سد ذرائع الشرك؛ لئلا يؤدي ذلك إلى تعظيم أصحاب القبور.قال: (والحمام).الحمام هو: مكان المغتسل، مكان المغتسل هذا لا تصح الصلاة فيه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد : ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ).قال: (والحش).الحش: مكان قضاء الحاجة، والحش أيضاً لا تصح الصلاة فيه، إذا كان الحمام وهو مكان المغتسل لا تصح الصلاة فيه فالحش من باب أولى.والعلة في النهي عن الصلاة في الحمام والحش: أن هذه الأشياء هي موارد الشياطين وأماكنهم.وأيضاً علة أخرى, وهي: أيضاً أنها مظنة النجاسة, خصوصاً الحش، الحش هو مظنة النجاسة. والنجس هل يصح الصلاة فيه؟ تقدم لنا أنه يشترط طهارة الموضع الذي يصلى فيه.قال: (وأعطان الإبل).أيضاً أعطان الإبل لا تصح الصلاة فيها؛ لحديث جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه ( أن رجلاً قال: يا رسول الله! أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أنصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا ). فدل ذلك على أن أعطان الإبل لا تصح الصلاة فيها.واختلف العلماء رحمهم الله في تفسير أعطان الإبل على رأيين:الرأي الأول: أن المراد بأعطان الإبل هي: المواضع التي تقيم فيها وتأوي إليها، هذا هو المراد، فإذا كان هناك صير وأحواش تقيم وتأوي إليها هذه الإبل فإنه لا تصح الصلاة فيها.والرأي الثاني: أن المراد بأعطان الإبل المواضع التي تردها بعد أن ترد الماء.والصواب في ذلك: أنه شامل للأمرين، يشمل هذا وأيضاً يشمل هذا.قال: (وقارعة الطريق).أيضاً يقول المؤلف رحمه الله: لا تصح الصلاة في قارعة الطريق، ودليل ذلك: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في أبي داود وغيره: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في سبعة مواطن، وذكر منها: قارعة الطريق )، لكن هذا الحديث لا يثبت، وحينئذ نقول: الصلاة في قارعة الطريق صحيحة، لكن ليس للإنسان أن يصلي في قارعة الطريق؛ لأن الطريق هذا ليس ملكاً خاصاً, وإنما هو ملك عام لعموم الناس، فكونه يتحجر عليهم ويصلي فيه هذا منع لهم من الاستطراق، لكن لو صلى نقول: بأن صلاته صحيحة، ولا يلزم من كونه يحرم عليه ذلك أن تكون صلاته باطلة, هذا ليس بلازم.وقوله: قارعة الطريق يعني: ما تقرعه الأقدام بالمشي عليه، هذا المراد به، وعلى هذا ما كان عن جوانب الطريق يمين الطريق ويسار الطريق يعني: جوانب الطريق هذا تصح الصلاة فيه.فأصبحت الأماكن التي لا تصح الصلاة فيها: المقبرة، والحمام، والحش، وأعطان الإبل.أيضاً بقي أمر خامس, وهو المحل النجس، المحل الذي فيه نجاسة نقول: لا تصح الصلاة فيه.

الشرط الخامس: استقبال القبلة

قال المؤلف رحمه الله: [ الشرط الخامس: استقبال القبلة, إلا في النافلة على الراحلة للمسافر، فإنه يصلي حيث ما كان وجهه ]. هذا الشرط الخامس من شروط صحة الصلاة, استقبال القبلة، وقد دل على ذلك القرآن والسنة واتفاق الأئمة.أما القرآن: فقول الله عز وجل: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] يعني: جهة الكعبة.وأما السنة: فحديث المسيء صلاته؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال له كما في حديث أبي هريرة : ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر ).والاتفاق قائم على ذلك.قال المؤلف رحمه الله: (استقبال القبلة).هذا الأصل، الأصل في الصلاة وجوب الاستقبال، وأن استقبال القبلة شرط، إلا أنه يستثنى من ذلك مواضع:الموضع الأول: في صلاة النافلة في السفر، فإنه لا يشترط الاستقبال، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يشترط له الاستقبال سواء كان راكباً أو راجلاً، يعني: سواء كان يمشي على رجليه أو كان راكباً على سيارته أو في الطائرة أو في القاطرة, المهم إذا كان في السفر وكان أيضاً في صلاة النافلة فإنه لا يشترط له الاستقبال، وقلنا: سواء كان راكباً أو راجلاً، ويدل لذلك: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه, يومئ برأسه )، وهذا في الصحيحين، وأيضاً مثله حديث أنس رضي الله تعالى عنه، فنقول: بأنه يسقط الاستقبال في هذه الحالة.وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يشترط الاستقبال حتى في تكبيرة الإحرام، يعني: حتى في تكبيرة الإحرام ليس شرطاً أن تتجه تجاه القبلة وتكبر للإحرام, هذا ليس شرطاً، وهذا هو الصواب، وهو الذي ذهب إليه ابن القيم رحمه الله، وعلى هذا يحمل حديث أنس في سنن أبي داود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الصلاة استقبل بوجهه، ثم كبر ) هذا على سبيل الاستحباب؛ لأن الذين وصفوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما لم يذكروا ذلك، وعلى هذا نقول: بأن هذا على سبيل الاستحباب، وهذا القول هو الصواب. قال المؤلف رحمه الله: [ والعاجز عن الاستقبال لخوف أو غيره فيصلي كيفما أمكنه ].الموضع الثاني: إذا كان الإنسان عاجزاً عن الاستقبال يتضرر في الاستقبال فنقول: في هذه الحالة يسقط عنه استقبال القبلة؛ لقول الله عز وجل: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، قال ابن عمر رضي الله عنهما: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مستقبل القبلة وغير مستقبلها ).فالحالة الثانية: إذا عجز عن الاستقبال لكونه خائفاً أو غيره فيصلي كيفما أمكنه، فمثلاً لو أن إنساناً لحقه عدو أو سبع أو نار أو في حال قتال العدو فإنه يسقط عنه الاستقبال في هذه الحالة؛ لقول الله عز وجل: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، يصلي وهو هارب من العدو أو هارب من السبع أو النار حيث ما كان وجهه، ولا يلزمه استقبال القبلة، يسقط عنه استقبال القبلة.ذكر المؤلف رحمه الله موضعين، وبقي عليه ثالث، وهو:الموضع الثالث: إذا كان يلحقه مشقة ظاهرة في الاستقبال, فنقول: في هذه الحالة يسقط عنه الاستقبال، ومن باب أولى إذا كان يتضرر, فإنه في هذه الحالة يسقط عنه الاستقبال. مثلاً: لو كان الإنسان مريضاً ممتداً على السرير وعليه الأجهزة، فكونه يستقبل القبلة حال الصلاة فيه مشقة عليه، فنقول: في هذه الحالة يسقط عنه استقبال القبلة؛ لعموم قول الله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ).فأصبح عندنا يسقط الاستقبال في ثلاثة مواضع:الموضع الأولى: في النافلة في السفر, سواء كان الإنسان راكباً أو كان راجلاً فإنه يصلي على سيارته أو في طائرته أو قاطرته حيثما كان وجهه، ولا يشترط الاستقبال.الموض الثاني: إذا كان عاجزاً عن الاستقبال إما لخوف ونحو ذلك, فإنه يسقط عنه الاستقبال؛ لقول الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239].الموضع الثالث: في حال المشقة الظاهرة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-04, 07:44 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [5]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(14)

إذا خفيت القبلة على المصلي فالصواب أن له الاجتهاد مطلقاً سواء كان في الحضر أو السفر، وتشترط النية للصلاة، ويستحب إتيان الصلاة بسكينة ووقار، فإذا جاء وقد أقيمت الصلاة فلا يصلي السنة أو تحية المسجد، فإذا كبّر الإمام فيستحب له أن يرفع صوته ويسرّ غيره.
تابع شروط الصلاة
تابع الشرط الخامس: استقبال القبلة

تقدم الكلام على أن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة، وذكرنا أن الاستقبال يسقط في مواضع:الموضع الأول: في النافلة في السفر سواء كان الإنسان راكباً أو راجلاً, فإنه يسقط الاستقبال.الموض الثاني: في حال الضرورة، فإذا كان الإنسان مضطراً إلى ترك الاستقبال فلا بأس، كما لو كان هارباً من سبع أو هارباً من نار أو من عدو أو في حال القتال فإنه يصلي حيث كان وجهه؛ لقول الله عز وجل: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، قال ابن عمر : مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.الموض الثالث: في حال المشقة الظاهرة فلا بأس، فإذا كان الإنسان لا يتمكن من الاستقبال إلا بمشقة ظاهرة فإن الاستقبال يسقط عنه؛ لقول الله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].وأيضاً لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ).وأيضاً لقول الله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] .وقوله: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].فإذا كان هناك مشقة ظاهرة فإنه يسقط عنه الاستقبال.قال المؤلف رحمه الله: [ ومن عداهما لا تصح صلاته إلا مستقبل الكعبة ].يعني: ما عدا ما تقدم استثناؤه ممن يسقط عنه الاستقبال شرعاً لا تصح صلاته إلا مع الاستقبال؛ لما تقدم من الدليل على ذلك في قول الله عز وجل: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].ولحديث أبي هريرة السابق في المسيء صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر ).وظاهر كلام المؤلف رحمه الله: (لا تصح صلاته إلا مستقبل القبلة) أنه سواء صلى إلى غير القبلة عالماً أو جاهلاً أو ناسياً، فلو صلى إلى غير القبلة عالماً فالأمر في ذلك ظاهر، وكذلك أيضاً لو نسي وصلى إلى غير قبلة، أو جهل وصلى إلى غير قبلة، فظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا تصح صلاته؛ لقوله: ومن عداهما لا تصح صلاته إلا مستقبل القبلة؛ لأن الاستقبال شرط من شروط صحة الصلاة, لا يعذر فيه بالجهل والنسيان ما دام أنه يمكنه أن يستدرك.

استقبال عين الكعبة

قال المؤلف رحمه الله: [ فإن كان قريباً منها لزمته الصلاة إلى عينها ].يعني: إذا كان قريباً من الكعبة، وحّد العلماء رحمهم الله القرب بأن يكون في المسجد، فإذا كان في المسجد الحرام فإنه لا بد أن يصيب عين الكعبة، يعني: أن يكون بدنه إلى عين الكعبة، فلو صلى إلى الجهة فإن صلاته لا تصح، يعني: لو كان الآن جالساً في المسجد واستقبل الكعبة ثم انحرف عنها وصلى إلى الجهة فإنها لا تصح، وذكر العلماء رحمهم الله حد القرب بأن يكون في المسجد، وحينئذ لا بد أن يصيب عين الكعبة، فلو انحرف يميناً أو يساراً فإن صلاته لا تصح، يعني: لا يكتفى بالجهة.وكذلك أيضاً لو أنه خرج شيء من بدنه عن عين الكعبة لا تصح صلاته، فلا بد أن يكون جسمه إلى عين الكعبة، فلو أنه انحرف عنها يميناً أو انحرف عنها شمالاً أو خرج شيء من بدنه عن الكعبة فإنها لا تصح صلاته.قال: (فإن كان قريباً منها لزمته الصلاة إلى عينها)؛ لقول الله عز وجل: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].وأيضاً ما تقدم من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر ).والنبي عليه الصلاة والسلام صلى داخل الكعبة ثم خرج وقال: ( هذه القبلة )، أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى الكعبة.قال: [ وإن كان بعيداً فإلى جهتها ].يعني: إذا كان غير قريب بأن لم يكن داخل المسجد فإنه يصلي إلى الجهة، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة )، يقوله النبي عليه الصلاة والسلام لأهل المدينة؛ لأن أهل المدينة قبلتهم إلى جهة الجنوب، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ), كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أخرجه الترمذي وغيره، وصححه الترمذي .وعلى هذا لا يضر التيامن اليسير، العلماء يقولون: لا يضر التيامن اليسير, ولا التياسر اليسير، فعندنا الآن القبلة في هذا البلد إلى جهة الغرب، هنا الشمال وهنا الجنوب، ما بين الشمال والجنوب هذا كله قبلة، إذا صليت هكذا فصلاتك صحيحة، وإذا انحرفت يميناً فما دمت في الجهة فصلاتك صحيحة، أيضاً لو تياسرت فصلاتك صحيحة، يعني: إذا صليت إلى ما بين الركنين بين الركن الشمالي الغربي والركن الجنوبي الغربي كان هذا كله قبلة، لكن الآن إذا انحرفت إلى الركن الشمالي نقول: خرجت عن مساماة الجهة، أو انحرفت إلى الركن الجنوبي نقول: انحرفت عن مساماة الجهة، ما دمت في الجهة فصلاتك صحيحة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) يعني: كل جهة الجنوب هذه قبلة لأهل المدينة، في مثل هذا البلد نقول: كل جهة الغرب قبلة لهذا البلد، فعندنا الآن كل هذه الجهة والحمد لله قبلة، ولا يضر التيامن والتياسر, ما دمت أنك ما جعلت بدنك إلى الجهة الشمالية أو إلى الجهة الجنوبية، فهذا كله يكون لك قبلة.ودليل ذلك كما أوردنا: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ).وقوله: (وإن كان بعيداً إلى جهتها) هذا يشمل حتى من كان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض أهل العلم قال: بأن مسجد النبي عليه الصلاة والسلام لا بد فيه من إصابة عين الكعبة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي في مسجده، وكان ينزل عليه الوحي، ولو كان النبي عليه الصلاة والسلام منحرفاً عن عين الكعبة يميناً أو يساراً لجاء الوحي بتنبيه النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك، لكن الظاهر في ذلك ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله, من أن الذي يلزمه العين هو من كان قريباً من الكعبة فقط بأن يكون في المسجد، ما عدا ذلك فالجهة؛ لأن بعض أهل العلم كما قلنا استثنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا بد فيه من العين.وأيضاً بعض أهل العلم استثنى من كان ناشئاً في مكة, قال: لا بد من العين، والصواب في ذلك: أن من كان ناشئاً في مكة أو كان ناشئاً في المدينة أو صلى في المسجد أنه تكفي في ذلك الجهة، ولا يشترط إصابة العين، نشترط إصابة العين على من كان قريباً منها بحيث يتمكن, وذلك مثل من كان في داخل المسجد يتمكن أن ينظر إلى عين الكعبة ويصيب عين الكعبة.

الاجتهاد في القبلة في الحضر والسفر

قال المؤلف رحمه الله: [ وإن خفيت القبلة في الحضر سأل, واستدل بمحاريب المسلمين، فإن أخطأ فعليه الإعادة، وإن خفيت في السفر اجتهد وصلى, ولا إعادة ].بالنسبة لما يستدل به على القبلة، ذكر المؤلف رحمه الله ما يستدل به على القبلة: أولاً المحاريب الإسلامية هذه يستدل بها على القبلة، فإذا دخلت بلداً ورأيت محراب مسجده إلى هذه الجهة فهذا تستدل به على جهة القبلة؛ لأن كون المسلمين يضعونه إلى هذه الجهة إنما وضعوه عن علم. هذا الأمر الأول.الأمر الثاني: الخبر، خبر الثقة، فإذا أخبرك ثقة بأن جهة القبلة إلى كذا وكذا فإنك تأخذ بخبره، ويدل لذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يبعث الرسل ويبعث الدعاة يبعثهم وحداناً، ومع ذلك يؤخذ خبرهم، كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في بعث معاذ إلى اليمن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ), إلى آخر الحديث.وأيضاً أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس فجاءهم رجل فأخبرهم أن القبلة حولت من بيت المقدس إلى الكعبة, فتحولوا وهم في الصلاة.فنقول: خبر الثقة، ما دام أنه ثقة يوثق بقوله، وهل تشترط عدالته أو لا تشترط عدالته.هذه تكلم عليها العلماء رحمهم الله، والصواب: أن ذلك ليس شرطاً، المهم أننا نثق بقوله؛ لقول الله عز وجل: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، فإذا كان صادقاً عرف عليه الصدق أو ظننت فيه الصدق ولم يعرف بالتساهل والكذب فإنه يقبل خبره، وسواء ذكراً أو أنثى، حراً أو رقيقاً, إلى آخره.الأمر الثالث: العلامات الأفقية والعلامات الأرضية، يعني: مما يستدل على القبلة العلامات الأفقية والعلامات الأرضية، فيستدل بالشمس والقمر، وأيضاً بالنجوم، وأيضاً العلماء يطيلون في مثل هذه المسائل، فالعلامات الأفقية كما ذكرنا الشمس والقمر والنجوم هذه يستدل بها وبمنازلها على القبلة، وكذلك أيضاً ذكر العلماء رحمهم الله أنه يستدل أيضاً على القبلة بالعلامات الأرضية, مثل الجبال الكبيرة ووجوهها ومصاب الأنهار الكبيرة, وأيضاً الرياح, هذه تكلم عليها العلماء رحمهم الله، وتكلموا على كيفية الاستفادة بهذه الأشياء بمعرفة جهة القبلة.الأمر الرابع مما يستدل به على القبلة: الآلات، فالآلات الآن تضبط لك جهة القبلة، فهذا أيضاً مما يستدل به على جهة القبلة.فعندنا أربعة أشياء:الشيء الأول: المحاريب الإسلامية.والشي الثاني: خبر الثقة.والشيء الثالث: العلامات الأفقية لمن يستطيع ويعرف أن ينظر فيها، وأيضاً العلامات الأرضية.والشيء الرابع: الآلات الآن توجد الآلات الحديثة تستطيع أن تضبط لك جهة القبلة.قال: (فإن أخطأ فعليه الإعادة).يعني: إذا أخطأ القبلة فعليه الإعادة، يعني: لو أن إنساناً صلى بلا اجتهاد وليس من أهل اجتهاد وصلى إلى غير جهة القبلة في الحضر فإنه يلزمه الإعادة. لكن إذا اجتهد في الحضر هذا سيأتينا إن شاء الله بيان حكمه.قال: (وإن خفيت في السفر اجتهد وصلى, ولا إعادة عليه).إذا خفيت القبلة في السفر اجتهد، والمجتهد في كل باب بحسبه، فالمجتهد في باب القبلة هو: الذي يعلم أدلة القبلة, وكيفية الاستدلال بهذه الأدلة على القبلة.المؤلف رحمه الله قال: (وإن خفيت في السفر اجتهد) أي لا يجتهد إلا من كان عالماً بأدلة القبلة، وكيف يستدل بهذه الأدلة على القبلة، وعلى هذا إذا اجتهد الإنسان وأخطأ فإنه لا إعادة عليه، ولهذا قال: وإن خفيت في السفر اجتهد وصلى, ولا إعادة عليه.ويفهم من كلام المؤلف رحمه الله أنه لا اجتهاد في الحضر، يعني: لو أن إنساناً سكن في بيت جديد وهو يعرف العلامات الأفقية، يعرف القطب ويعرف الشمس ويعرف القمر.. إلى آخره وقال: أجتهد أصعد إلى السطح وأنظر في العلامات الأفقية وأحاذي القبلة وأصلي.. هل الحضر مكان للاجتهاد أو ليس مكاناً للاجتهاد؟ يفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن الحضر ليس مكاناً للاجتهاد، يعني: ليس لأحد أن ينظر في العلامات الأفقية في الحضر ويجتهد ويحاذي القبلة ويصلي؛ لأن بإمكانه أن يعلم القبلة بلا اجتهاد، بإمكانه أن ينظر إلى المحاريب أو يسأل, فهناك دليل أقوى من الاجتهاد، الاجتهاد قد يعتريه الخطأ، لكن كونه ينظر إلى المحاريب هذا لا يعتريه الخطأ، وكونه يسأل هذا أيضاً أقوى.والرأي الثاني: أنه لا بأس أن يجتهد حتى في الحضر، وهذا القول هو الصواب، فإذا كان الإنسان يعرف أدلة القبلة وكيف يستفيد منها واجتهد ونظر في أدلة القبلة فإن هذا جائز ولا بأس به إن شاء الله, وحينئذ إذا صلى فلا إعادة عليه حتى لو اجتهد في الحضر، لكن بشرط أن يكون من أهل الاجتهاد، والذي هو من أهل الاجتهاد هو الذي يعلم أدلة القبلة, وكيف يستدل بها على القبلة.المؤلف رحمه الله قال: إن خفيت في السفر اجتهد إذا كان من أهل الاجتهاد، إذا لم يكن من أهل الاجتهاد كيف يفعل وهو مسافر؟فنقول: هذا لا يخلو من أمرين:الأمر الأول: أن يكون بعيداً عن المساجد وعن الناس، فهذا يتحرى ويصلي ولا شيء عليه، مثل ما لو كان بعيداً عن الماء هذا يتيمم ويصلي ولا شيء عليه، فإذا كان بعيداً نقول: يتحرى ويصلي ولا شيء عليه.الحالة الثانية: أن يكون قريباً عرفاً من الناس ومن المساجد فهذا لا بد أن يقصد المساجد، وأن ينظر إلى المحاريب, أو يقصد الناس ويسأل.وحد البعد والقرب بالعرف، مثل كيلو وكيلوين هذا قريب عرفاً، يذهب ويقصد، لا يتحرى ويصلي، نقول: إن كان من أهل الاجتهاد يجتهد، لكن ليس من أهل الاجتهاد ما دام أنه قريب عرفاً فلا بد أن يقصد المساجد، وأن يسأل, أما إن كان بعيداً عرفاً مثل عشرة، كيلو عشرين كيلو.. إلى آخره فهذا يتحرى ويصلي, ولا إعادة عليه.

تقليد أحد المجتهدين في القبلة للآخر

قال المؤلف رحمه الله: [ وإن اختلف مجتهدان لم يتبع أحدهما صاحبه ].إذا اختلف مجتهدان فخلافهما لا يخلو من أمرين:الأمر الأول: أن يكون خلافهما جهة، فيقول أحدهما: القبلة إلى هذه الجهة إلى جهة الشمال، والآخر يقول: القبلة إلى جهة الجنوب, هنا الآن اختلفا جهة, فقال المؤلف رحمه الله: بأنه لا يتبع أحدهما الآخر.والرأي الثاني في المسألة: أنه إذا ظن صواب اجتهاد الآخر فلا بأس أن يتبعه، وهذا القول هو الصواب، إذا ظن أنه قد أصاب في اجتهاده فنقول: لا بأس أن يتبعه، هذا الأمر الأول, وهو ما إذا كان الخلاف جهة.الأمر الثاني: إذا اختلفا تيامناً أو تياسراً، بمعنى: أنهما يتفقان في الجهة كل منهم يقول: الجهة هذه، لكن قال أحدهما: نتيامن, نأخذ إلى جهة اليمين، وقال الآخر: نأخذ إلى جهة الشمال، فهنا يتبع أحدهما الآخر؛ لأننا ذكرنا أن ما بين الجهتين كله قبلة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ).فتلخص عندنا أن اختلاف المجتهدين ينقسم إلى هذين القسمين.

تقليد الأعمى والعامي لأحد المجتهدين إذا اختلفا في القبلة

قال المؤلف رحمه الله: [ ويتبع الأعمى والعامي أوثقهما في نفسه ].المراد بالعامي الذي لا يعرف أدلة القبلة، ولا يعرف كيفية الاستدلال بهذه الأدلة على القبلة، ولو كان من أعلم الناس، لو كان من أحفظ الناس لكتاب الله، وأحفظ الناس لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه في هذا الباب جاهل يكون عامياً، فمن يتبع منهما؟ وكذلك أيضاً الأعمى إذا اختلف المجتهدون.أما إن كان اختلافهما انحرافاً. فكما تقدم لنا أن أحدهما يتبع الآخر، وإذا كان أحدهما يتبع الآخر فالأعمى والعامي له أن يتبع كلاً منهما؛ لأن الانحراف يميناً ويساراً لا يضر.أما إذا اختلفا جهةً هذا يقول: إلى جهة الجنوب وهذا إلى جهة الشمال فيقول المؤلف رحمه الله: يتبع أوثقهما في علمه وتقواه، فإن تساويا فإنه يتخير.

الشرط السادس: النية للصلاة

قال المؤلف رحمه الله: [ الشرط السادس: النية للصلاة بعينها، ويجوز تقديمها على التكبير بالزمن اليسير إذا لم يفسخها ]. هذا الشرط السادس, وهو الشرط الأخير من شروط صحة الصلاة: النية.والنية في اللغة: العزم، وأما في الاصطلاح: فهو عزم القلب على فعل العبادة.ويدل على اشتراط النية حديث عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، ولأن الإنسان يصلي ركعتين -مثلاً- يقصد بهما السنة الراتبة، وقد يقصد الفريضة, وقد يقصد بها تطوعاً مطلقاً.. إلى آخره، فلا بد من النية التي تعين هذه العبادة, هل هي السنة أو الفريضة، ولا بد من النية التي تميز بين العبادات.وقال: (بعينها) يعني: لا بد أن يعين الصلاة بنيته، فإذا أردت أن تصلي المغرب لا بد أن تنوي أنها صلاة المغرب، وإذا أردت أن تصلي العشاء لا بد أن تنوي أنها صلاة العشاء.. وهكذا، فإن لم تعين لا تصح الصلاة، يعني: نية التعيين هذه لا بد منها.والصواب: أن هذا ليس شرطاً، وأن الإنسان إذا نوى أن يصلي الصلاة الذي حضر وقتها فإن هذه النية كافية، ولا يشترط نية التعيين، وإلا وقع الناس في حرج؛ لأن الإنسان يؤذن عليه المؤذن ثم يخرج إلى الصلاة ويغيب عن ذهنه أنه سيصلي صلاة المغرب, لكنه في ذهنه أنه سيصلي هذه الصلاة التي حضر وقتها وأذن لها، لكن يغيب عن ذهنه أنها المغرب أو أنها العشاء مثلاً.أما المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: لا بد أن يعين, يعني: لا بد من نية التعيين، مع أنهم قالوا رحمهم الله: لا يشترط أن ينوي نية الأداء، ولا يشترط أن ينوي نية القضاء. يعني: إذا كانت الصلاة تفعل في وقتها فهي أداء, فلا يشترط أن ينوي نية الأداء. وإذا كانت تفعل بعد وقتها فلا يشترط أن ينوي نية القضاء. وإذا كانت الصلاة تفعل في وقتها للمرة الثانية فهي إعادة, لا يشترط أن ينوي الإعادة.وإذا كانت الصلاة تفعل أيضاً لا يشترط أن ينوي نية الفريضة، ولا يشترط أن ينوي نية النافلة. إذاً: نية القضاء والأداء والإعادة والفريضة والنفل هذا كله ليس شرطاً، لكن نية التعيين هذا لا بد منه كما ذكر المؤلف رحمه الله، وقلنا: الصواب في ذلك: أنه يكفي أن ينوي الإنسان الصلاة التي حضر وقتها، ولا يشترط أن يعينها.قال: (ويجوز تقديمها على التكبير بالزمن اليسير إذا لم يفسخها).النية لها وقتان: وقت جواز، ووقت استحباب.وقت الجواز أن تتقدم الصلاة بالزمن اليسير، يعني: إذا تقدمت النية الصلاة فإن كان الزمن كثيراً فإنه لا يصح، وإن كان الزمن قليلاً فإن هذا صحيح ولا بأس به، يعني: إذا تقدمت الصلاة بالزمن اليسير فجائز، وإن كان بالزمن الكثير فلا يكفي، هذا وقت الجواز.أما بالنسبة لوقت الاستحباب فقالوا: بأن تكون النية مقارنة للتكبير، مع أن بعض أهل العلم قال: إن هذا فيه شيء من العسر.هناك أحكام بقيت للنية, ما يتعلق بقطع النية والانتقال في الصلاة من صلاة إلى صلاة أخرى، وأيضاً نية الإمام، ونية الإتمام.. إلى آخره، هذه الأحكام إن شاء الله سيأتينا بإذن الله بيانها.
آداب المشي إلى الصلاة

المشي بسكينة ووقار

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب آداب المشي إلى الصلاة: يستحب المشي إلى الصلاة بسكينة ووقار ].يستحب للإنسان أن يمشي إلى الصلاة بسكينة ووقار.قال المؤلف: سكينة ووقار، واختلف أهل العلم رحمهم الله: هل هذا من باب الترادف أو أن هذا ليس من باب الترادف؟ يعني: السكينة هل هي مرادفة في المعنى للوقار أو ليس كذلك؟في ذلك رأيان للعلماء رحمهم الله:فالرأي الأول: قالوا: بأنه من باب المترادف، وأن السكينة بمعنى الوقار.والرأي الثاني: قالوا: بأن بينهما فرقاً، وأن السكينة المراد بها التأني في الحركات، واجتناب العبث, وأما الوقار فإنه يكون في الهيئة، كغض الطرف وخفض الصوت وعدم الالتفات، وهذا استظهره النووي رحمه الله.فيستحب للمسلم إذا مشى إلى الصلاة أن يكون عليه سكينة ووقار، السكينة أن يكون متأنياً في حركاته, وألا يعبث، وأيضاً يكون عليه وقار بحيث إنه يغض طرفه ولا يلتفت، وهذا أيضاً من هدي النبي عليه الصلاة والسلام أنه إذا مشى لا يلتفت، وأيضاً يخفض صوته, إلى آخره، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة والوقار ).

مقاربة الخطا

قال المؤلف: [ ويقارب بين خطاه ]. أيضاً هذه سنة أخرى، السنة الأولى: أن يمشي إلى الصلاة بسكينة ووقار.والسنة الثانية: أن يقارب بين خطاه، ودليل ذلك: حديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه أنه قال: ( أقيمت الصلاة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا معه، فقارب في الخطا, وقال: تدري لم فعلت هذا؟ لتكثر خطاي في طلب الصلاة )، وهذا الحديث أخرجه الطبراني وغيره، وهو غير ثابت, لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد هذا عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه موقوفاً عليه.وعلى هذا إذا لم يثبت في ذلك سنة فالقاعدة التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره: أن ما وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فتركه هو السنة، يعني: كل شيء وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فتركه هو السنة، ولا شك أن هذا السبب كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قارب بين الخطا أو أنه أمر بذلك, كما أنه أمر أن يخرج الإنسان إلى الصلاة متطهراً، وأمر بالمبادرة، وأمر بالخروج بسكينة ووقار, ولم يأمر بالمقاربة بين الخطا، وعلى هذا نقول: بأن هذا ليس سنة.

عدم تشبيك الأصابع

قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يشبك أصابعه ]. ويدل لذلك حديث كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه، أو فلا يشبكن يديه؛ فإنما هو في صلاة )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والدارمي والإمام أحمد رحمهم الله، وصححه الحاكم والذهبي وغيرهم.وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن التشبيك بين الأصابع له ثلاث حالات:الحالة الأولى: أن يكون من حين خروج الإنسان إلى الصلاة إلى إقامة الصلاة، فقالوا: بأن هذا منهي عنه، لما سلف في حديث كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه.الحالة الثانية: أن يكون التشبيك في أثناء الصلاة, وهذا أيضاً أشد، وهذا سيأتينا إن شاء الله في مكروهات الصلاة، والعلماء رحمهم الله يعدونه في مكروهات الصلاة.الحالة الثالثة: بعد الفراغ من الصلاة ولو كان الإنسان في المسجد فلا بأس أن يشبك بين أصابعه، ويدل لذلك حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين لما سلم النبي صلى الله عليه وسلم.. إلى آخره, فإن النبي عليه الصلاة والسلام شبك بين أصابعه.

الدعاء بالمأثور

قال المؤلف رحمه الله: [ ويقول: باسم الله، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78], الآيات, إلى قوله: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89] ]. هذا الذكر أو قراءة هذه الآيات ليست ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا إذا كانت غير ثابتة فلا يفعلها الإنسان، لكن التسمية يسمي، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن التسمية يؤتى بها في ابتداء كل فعل مهم، وقد ثبتت هذه التسمية في حديث أنس رضي الله تعالى عنه.أيضاً ما ذكره المؤلف من الحديث الآخر حديث أبي سعيد : ( اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ).. إلى آخره، أخرجه ابن ماجه وغيره، وهو ضعيف, لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.وعلى هذا نستبدل هذه الأشياء التي ذكرها المؤلف رحمه الله بما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، فعندنا حديث ابن عباس في مسلم ، وعندنا حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ، وأيضاً حديث أنس رضي الله تعالى عنه في سنن أبي داود والترمذي .وحديث ابن عباس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وأعطني نوراً ). هذا في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ينبغي للإنسان أن يحفظه.أيضاً حديث أم سلمة قالت: ( ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أجهل أو يجهل علي ).أيضاً حديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته قال: باسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. فإذا قال ذلك يقال له: هديت ووقيت وكفيت، وتنحى عنه الشيطان ).فهذه الأذكار ينبغي للإنسان أن يحفظها، أما ما أورده المؤلف رحمه الله فغير ظاهر.

عدم السعي إذا أقيمت الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: [ فإذا سمع الإقامة لم يسع إليها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا ) ].الظاهر أن هذا الحديث في الصحيحين، إذا سمع الإقامة، ويؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله: إذا سمع الإقامة، وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة ) أن الإقامة تسمع من الخارج، والعلماء رحمهم الله كما تقدم لنا في باب الأذان يقولون: يستحب للمؤذن أن يقيم في المكان الذي أذن فيه، وعلى هذا لو أذن في المنارة قالوا: يستحب أن يقيم في المنارة، ويؤخذ من هذا عمل بعض المؤذنين اليوم أنه يقيم في مكبر الصوت، بحيث إن الإقامة تنتشر، فيؤخذ من كلام العلماء رحمهم الله أن هذا لا بأس به، وهذا العمل له أصل في كلام العلماء رحمهم الله, في قولهم: أنه يستحب للمؤذن أن يقيم في المكان الذي أذن فيه، وأيضاً قولهم: إذا سمع الإقامة لم يسع إليها.وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ) يعني: الإنسان لا يكون علم بالإقامة وهو خارج الصلاة إلا إذا كان يسمعها.

ترك صلاة التطوع إذا أقيمت الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: [ وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ].إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، وهذا دليله حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ). وهذا أخرجه مسلم في صحيحه. ويؤخذ من هذا أنه جميع الصلوات وأنه لا يستثنى شيء، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله أنها إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، وعلى هذا إذا أقيمت الصلاة وأحرم الإنسان بنافلة بعد إقامة الصلاة فإن صلاته هذه لا تنعقد.وخالف في ذلك الحنفية، فاستثنوا ركعتي الفجر، فقالوا: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة إلا ركعتي الفجر، فللإنسان إذا جاء والإمام قد قام لصلاة الفجر أن يصلي ركعتي الفجر ما دام أنه سيدرك التشهد الأخير مع الإمام، هذا هو المشهور من مذهب الحنفية، ولذلك تلحظ بعض العمال الذين يأخذون بمذهب الحنفية أنه يأتي والناس يصلون الفجر ويشرع في صلاة السنة الراتبة، وهذا القول فيه نظر، وما في سنن البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة إلا ركعتي الفجر ) هذه الزيادة غير ثابتة، فالصواب في ذلك أنه ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )، لكن إذا أقيمت الصلاة والإنسان يصلي الراتبة أو يصلي تحية المسجد فهل يستمر في صلاته أو يقطع الصلاة.هذه المسألة موضع خلاف، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يتمها خفيفة, إلا إذا خشي أن تفوته الجماعة فإذا خشي أن تفوته الجماعة فإنه يقطعها، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.وقال بعض أهل العلم: بأنه يقطع هذه الصلاة؛ للحديث.والرأي الثالث وهو الأقرب في هذه المسألة: أنه إن صلى ركعة فإنه يضيف إليها ركعة أخرى، وإن لم يصل ركعة بأن أقيمت الصلاة قبل أن يصلي ركعة فإنه يقطعها. ويدل لهذا أنه إذا صلى ركعة لا يقطعها بل يضيف إليها ركعة أخرى خفيفة أنه أدرك هذه الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، أما إذا لم يصل ركعة فإنه لم يدرك هذه الصلاة، وحينئذ يقطعها لهذا الحديث.

تقديم الرجل اليمنى عند دخول المسجد

قال المؤلف رحمه الله: [ وإذا أتى المسجد قدم رجله اليمنى في الدخول ].إذا دخل المسجد فإنه يقدم رجله اليمنى، وقد تقدم القاعدة في ذلك، وأن اليد اليمنى والرجل اليمنى تقدم في الطيبات أو ما كان في باب التكريم، واليسرى على خلاف في ذلك.وذكرنا أن هذه المسألة لها ثلاثة أقسام: ما كان من باب التكريم، وما كان من باب الاستخباث، وما تردد، فتقدم اليمنى في موضع التكريم وإذا تردد الإنسان، أما إذا كان في باب الاستخباث كالتمخط وغير ذلك فإنه تقدم اليد اليسرى والرجل اليسرى.

دعاء دخول المسجد

قال المؤلف رحمه الله: [ وقال: باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قدم رجله اليسرى وقال ذلك، إلا أنه يقول: وافتح لي أبواب فضلك ]. هذا يدل له حديث أبي حميد أو أبي أسيد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك ).وحديث فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمها أن تقول إذا دخلت المسجد: اللهم صل على محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي، وإذا خرجت أيضاً أن تقول: افتح لي أبواب فضلك ), هذا لا يثبت، لكن الثابت في هذا حديث أبي أسيد أو أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك ).
صفة الصلاة

تكبيرة الإحرام

قال المؤلف رحمه الله: [ باب صفة الصلاة:إذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر ].صفة الصلاة يعني: الهيئة والكيفية التي تكون عليها الصلاة، والنبي عليه الصلاة والسلام بين الصلاة في قوله وفعله، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يبين الصلاة للناس ويقول: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).يقول: (إذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر). ومتى يقوم الإنسان إلى الصلاة؟هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم رحمهم الله، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه يقوم إلى الصلاة عند قول المقيم: قد قامت الصلاة، فإذا قال المقيم: قد قامت الصلاة فإنه يستحب أن يقام إلى الصلاة. هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.قال أبو حنيفة رحمه الله: يقوم إلى الصلاة إذا قال المقيم: حي على الفلاح، إذا قال المقيم: حي على الفلاح فإنه يقوم إلى الصلاة.عمر بن عبد العزيز وطائفة من السلف كـالزهري وسالم بن عبد الله وغيرهم قالوا: بأنه يقوم إلى الصلاة إذا بدأ المقيم بالإقامة, إذا بدأ المقيم بالإقامة فإنه يقوم.عند الإمام مالك رحمه الله: أنه لا توقيت في ذلك، وهذا القول هو الصواب, أنه ليس هناك سنة محددة للقيام إلى الصلاة، هذا القول هو الصواب، ولم يرد إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تقوموا حتى تروني )، هذا الذي ورد، ما عدا ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: إن الإنسان سواء قام في أول الإقامة أو في وسط الإقامة أو في نهاية الإقامة إلى آخره، لكن ينتظر حتى يأتي الإمام، فإذا جاء الإمام فإنه يقوم سواء قام في أول الإقامة، أو في وسط الإقامة، أو في نهاية الإقامة؛ لأن الذي ورد هو قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تقوموا حتى تروني )، ما عدا ذلك لم يثبت فيه سنة، والإنسان يستحب أن يكون متهيئاً للصلاة، لكن تحديده عند: حي على الفلاح أو بدء الإقامة إلى آخره كما قال الإمام مالك رحمه الله: لا توقيت فيها، وعلى هذا نقول: ينتظر المأموم حتى يرى الإمام، فإذا رأى الإمام فإنه يقوم، سواء قام في أول الإقامة أو في وسطها أو في آخرها.قال: (وإذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر).والقيام كما سيأتينا في الأركان ركن من أركان الصلاة، وأيضاً قوله: الله أكبر، تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة.وقوله: (الله أكبر) لا يجزئ إلا هذا اللفظ، فلو قال: الله الأجل، أو الله الأعظم، أو الله أعظم.. إلى آخره فإنه لا يكفي؛ لأن هذا خلاف ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله, خلافاً لـأبي حنيفة رحمه الله.

جهر الإمام بالتكبيرات وإسرار غيره بها

قال المؤلف رحمه الله: [ يجهر بها الإمام وبسائر التكبير؛ ليسمع من خلفه ].يعني: يجهر بالتكبير؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في الهدي أن إخفاء التكبير إنما هو من صنيع أمراء بني أمية؛ لأن أمراء بني أمية تصرفوا في الصلاة، فنشأ من نشأ على هذا التصرف، يعني: خالفوا في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فنشأ من نشأ على ذلك، من هذه المخالفة أنهم كانوا لا يجهرون بالتكبير، يعني: تكبير الانتقال يركع ويرفع ما يجهر، ولهذا الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يبينون للناس سنة النبي عليه الصلاة والسلام كـأبي هريرة وغيره, يجهرون بالتكبير ويبينون السنة, مخالفة لما ورد عن أمراء بني أمية رحمهم الله.وكذلك أيضاً من تصرفهم في الصلاة عدم الطمأنينة في القيام والاعتدال بعد الرفع من الركوع، بعد الرفع من الركوع كانوا لا يطمئنون، وكذلك أيضاً في الجلسة بين السجدتين كانوا لا يطمئنون، وقد ذكر الصحابة رضي الله تعالى عنهم ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم حتى يقول القائل: قد أوهم, قد نسي ). ما معنى: حتى يقول: قد أوهم قد نسي؟ هذا بالنسبة لما كان عليه الناس في زمن بني أمية؛ لأن الإمام كان إذا قام يهوي بسرعة، فإذا قام وطبق السنة كان قيامه قريباً من ركوعه ماذا يقول القائل؟ يقول القائل: إنه نسي أو وهم، وإذا جلس في الجلسة بين السجدتين وكان جلوسه قريباً من السجود يقول القائل في هذه الحالة: إنه قد وهم، هذا بناء على ما كان عليه الناس في زمن أمراء بني أمية رحمهم الله، فيجهر كما ذكر المؤلف رحمه الله.قال: [ ويخفيه غيره ].يعني: بالنسبة للمأموم وبالنسبة للمنفرد، فالإمام يجهر بحيث يسمع المأمومين، المنفرد يخفيه، المأموم يخفيه، لكن هل يشترط أن يسمع نفسه أو أن هذا ليس شرطاً؟هل يشترط بالنسبة للمأموم في التكبيرات وفي الأذكار الواجبة أن يسمع نفسه أو أن نقول: بأن هذا ليس شرطاً؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يشترط أن يسمع نفسه، يعني: يجهر به بحيث يسمع التكبير.وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بأن هذا ليس شرطاً، بل يكفي أن يمر الذكر على لسانه، إذا حرك لسانه بالتكبير أو حركه بالتسبيح أو بقول: رب اغفر لي فإن هذا كاف ولا بأس به، ولا يشترط أن يجهر به بحيث يسمع نفسه.وما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو الصواب، فنقول: يكفي أن يمر هذا الذكر على لسانه، فإذا أمره على لسانه فإن هذا كاف ولا بأس به.

رفع اليدين عند ابتداء التكبير

قال المؤلف رحمه الله: [ ويرفع يديه عند ابتداء التكبير ].والأيدي ترفع في أربعة مواضع دلت لها السنة الصحيحة، والموضع الخامس هذا موضع خلاف كما سيأتينا إن شاء الله، أيضاً الموضع الرابع محل خلاف, لكن السنة الصحيحة دلت عليه، فعندنا بالنسبة لرفع الأيدي ذكر العلماء رحمهم الله أربعة مواضع ترفع فيها الأيدي في الصلاة.قال: (يرفع يديه عند ابتداء التكبير).يعني: إذا أراد أن يكبر، وهذا هو الموضع الأول الذي ترفع فيه الأيدي في الصلاة، ويدل لذلك حديث ابن عمر في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع، قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: وكان لا يفعل ذلك في السجود )، وهذا الحديث في الصحيحين.وقال المؤلف رحمه الله: عند ابتداء التكبير, يعني: يكون الرفع عند ابتداء التكبير، وهذا ورد له صفات, يعني: عندنا حد الرفع، وعندنا زمن الرفع متى يرفع؟ وقال المؤلف رحمه الله: إنه عند ابتداء التكبير، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه يرفع مع ابتداء التكبير، وينهي الرفع مع نهاية التكبير، يبدأ بالرفع مع ابتداء التكبير، وينهيه مع نهاية التكبير، ودليل ذلك: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في صحيح البخاري قال: ( فرفع يديه حين يكبر حتى يجعلهما حذو منكبيه ) قال: ( فرفع يديه حين يكبر )، هذه الصفة هي التي مشى عليها الحنابلة رحمهم الله.الصفة الثانية: أنه يكبر ثم يرفع يديه، يعني: يقول: الله أكبر ثم يرفع يديه، وهذه الصفة رواها مالك بن الحويرث ( أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى كبر ثم رفع يديه )، وهذا أيضاً في الصحيحين من حديث مالك بن الحويرث : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى كبر ثم رفع يديه ).الصفة الثالثة: يرفع يديه أولاً ثم بعد ذلك يكبر، وهذا دليله حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه ثم كبر ).أصبح عندنا ثلاث صفات في زمن الرفع:الصفة الأولى: أن يكون الرفع مع التكبير إلى أن ينتهي، يعني: يضع مع انتهاء التكبير.الصفة الثانية: يقول: الله أكبر ثم يرفع.الصفة الثالثة: يرفع ثم يقول: الله أكبر.والقاعدة عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره: أن الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم على وجوه متنوعة أنها تفعل كلها، هذا هو السنة، السنة أنك تفعلها كلها، فتارة تكبر ثم ترفع، وتارة ترفع ثم تكبر، وتارة ترفع مع التكبير، فتفعل السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها، هذا هو الأفضل، وهذا فيه فوائد، إذا فعلت هذه السنة كلها أولاً: تحفظ العلم.ثانياً: تطبق السنة كلها.وثالثاً: أنه أدعى إلى حضور القلب والخشوع في الصلاة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-14, 03:18 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [6]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(15)

يستحب دعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام، وله صيغ متعددة، كما تستحب الاستعاذة بأية صيغة مشروعة، ثم الفاتحة وقد وقع الخلاف في حكمها، ثم يقرأ سورة تختلف طولاً وتوسطاً وقصراً بحسب الصلوات.
تابع صفة الصلاة

مواضع رفع اليدين

رفع الأيدي في الصلاة له أربعة مواضع: الموضع الأول: عند تكبيرة الإحرام.والموضع الثاني: عند الركوع.والموضع الثالث: عند الرفع من الركوع.والموضع الرابع: عند القيام من التشهد.وهناك موضع خامس ذهب إليه بعض السلف وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله وهو أنه يرفع إذا أراد السجود، وإذا رفع من السجود إلى آخره، وسيأتي إن شاء الله الإشارة إلى هذه الموضع.المهم الموضع الأول: عند تكبيرة الإحرام، وهذا الرفع مشروع؛ ودليله حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في الصحيحين قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، ولا يفعل ذلك في السجود ).قال المؤلف رحمه الله: (عند ابتداء التكبير).بين المؤلف رحمه الله زمن الرفع.. متى يرفع.فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يرفع مع التكبير، وينتهي الرفع مع نهاية التكبير، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى؛ ودليل ذلك حديث ابن عمر فقد جاء فيه: ( فرفع يديه حين يكبر حتى يجعلهما حذو منكبيه ) وهذا في صحيح البخاري .وما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله هذا هو أحد السنن الواردة في زمن الرفع. والسنة الثانية: أنه يرفع قبل التكبير، يعني يرفع يديه، وبعد أن ينتهي من الرفع يقول: الله أكبر، هذه هي السنة الثانية؛ وهذا دليله أيضاً حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه ثم كبر )، فهذه هي السنة الثانية أنه يرفع ثم بعد ما ينتهي من الرفع يقول: الله أكبر.السنة الثالثة عكس هذه السنة: يكبر يقول: الله أكبر ثم بعد ذلك يرفع يديه؛ وهذا دليله حديث مالك بن الحويرث في صحيح البخاري ( أنه كبر ثم رفع يديه )، لما ذكر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم مالك رضي الله تعالى عنه كبر ثم رفع يديه، فأصبح زمن الرفع له ثلاث سنن: السنة الأولى: أن يرفع مع ابتداء التكبير، وينهيه مع انتهاء التكبير.والسنة الثانية: أن يكبر ثم يرفع.والسنة الثالثة: أن يرفع ثم يكبر.والصواب في هذا كما سلف لنا أن العبادات الواردة على وجوه متنوعة يستحب فعلها جميعاً، فتارةً تكبر تقول: الله أكبر ثم ترفع يديك، وتارةً ترفع يديك ثم تقول: الله أكبر، وتارةً ترفع مع التكبير وتنهي الرفع مع نهاية التكبير، تفعل هذا كله، وبهذا تكون أتيت على كل السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.وفيه من الفوائد: حفظ العلم، وأيضاً من فوائد ذلك: تطبيق السنة كلها، ومن فوائد ذلك: أن العبادة بدلاً من أن تكون مجرد عادة فإنها تكون عبادة حية؛ لأن الإنسان إذا تأمل نفسه وأنه سيطبق هذه السنة في هذا الرفع وفي الصلاة الأخرى سيطبق السنة الأخرى فإن عبادته تكون حيةً، ويكون هذا أدعى إلى الخشوع وحضور القلب، والإقبال على الله عز وجل.

صفة رفع اليدين عند التكبير

قال المؤلف رحمه الله: [إلى حذو منكبيه أو إلى فروع أذنيه].وهاتان أيضاً سنتان، يعني أن حد الرفع، ورد فيه سنتان: السنة الأولى كما قال المؤلف رحمه الله: إلى حذو منكبيه؛ وهذا دليله حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه )، فأنت ترفع حتى تكونا حذو منكبيك، هذه الصفة الأولى ( أن النبي عليه الصلاة والسلام رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه )، هذه الصفة الأولى دل لها حديث ابن عمر .الصفة الثانية: قال المؤلف رحمه الله: [أو إلى فروع أذنيه]. وهذا قال به أبو حنيفة رحمه الله؛ ودليل ذلك حديث مالك بن الحويرث رضي الله تعالى عنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه )، وهذا أيضاً في مسلم ، فأنت تارة ترفع إلى حذو الأذنين، وتارةً ترفع إلى حذو المنكبين، تارة إلى حذو الأذنين، وتارة إلى حذو المنكبين، وتفعل السنة كلها، تارةً تفعل هذه السنة، وتارةً تفعل هذه السنة.وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن الإنسان بالخيار، لكن الصواب أنه يفعل هذه تارة وهذه تارةً أخرى، فتارةً ترفع إلى حذو المنكبين، وتارةً ترفع إلى أن تحاذي الأذنين.

وضع اليد اليمنى على اليسرى حال القيام

قال المؤلف رحمه الله: [ويجعلهما تحت سرته].لم يذكر المؤلف رحمه الله تعالى كيف يضع يديه، وهذا ورد فيه ثلاث سنن: السنة الأولى: القبض؛ وذلك أن تقبض اليد اليسرى من عند الكوع باليد اليمنى، وهذه دل لها حديث وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قائماً قبض بيمينه على شماله ).السنة الثانية: أن تضع اليد اليمنى على الذراع اليسرى، وهذا أيضاً دليله حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه في صحيح البخاري قال: ( كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ).السنة الثالثة: أن يضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى؛ وهذا دليله حديث وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه في مسند الإمام أحمد وفي سنن أبي داود والنسائي .فأصبح عندنا ثلاث سنن: تضع اليد اليمنى على الكف اليسرى، تقبض، تضع اليد اليمنى على الذراع اليسرى. وهذا كما سلف يستحب للإنسان أن يصلي بهذا تارة، وأن يصلي بهذا تارةً أخرى يفعل السنة كلها.قال: (ويجعلهما تحت السرة).بعد أن تضع أو تقبض يقول المؤلف رحمه الله: تجعل ذلك تحت سرتك؛ ودليل ذلك حديث علي : ( من السنة وضع اليمنى على الشمال تحت السرة )، وهذا أخرجه الإمام أحمد وأبو داود ، وإسناد هذا الحديث ضعيف، وأمثل من هذا الحديث وأصح منه حديث وائل بن حجر رحمه الله قال: ( صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره )، ولهذا ذهب الإمام مالك رحمه الله والشافعي خلاف ما ذهب إليه المؤلف، مذهب مالك والشافعي : أنك تجعل اليد اليمنى على اليد اليسرى على الصدر؛ لحديث وائل رضي الله تعالى عنه فإنه قال: ( صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره ). ويدل لذلك أيضاً ما تقدم من حديث سهل بن سعد قال: ( كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى )، فإذا وضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى هل سيكون ذلك تحت سرته أو لا بد من أن يرفع يديه؟ قطعاً لا بد أن يرفع يديه، ما يتمكن أنه يضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى ويكون ذلك تحت السرة، هذا غير ممكن، بل إذا وضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى فإن ذلك سيكون على صدره. فيكون عندنا دليلان:الدليل الأول: حديث سهل بن سعد في صحيح البخاري وهذا بالمفهوم.والدلي الثاني: حديث وائل بن حجر رحمه الله في صحيح ابن خزيمة وسنن البيهقي . ولهذا ذهب مالك والشافعي كما أسلفت إلى أن السنة أن يضعهما على صدره، وهذا هو الصواب، ولو ثبت حديث علي نقول: يفعل هذا تارة وهذا تارة، لكن حديث علي لم يثبت، وعلى هذا نقول: يضعهما على صدره.وظاهر ذلك أن الأمر في ذلك واسع، سواء كان مبتدأ الصدر أو وسط الصدر أو رفع عن الوسط، الظاهر أن الأمر في ذلك واسع.

موضع نظر المصلي

قال المؤلف رحمه الله: [ويجعل بصره إلى موضع سجوده].وهذا قال به جمهور أهل العلم، يعني إذا كان في الصلاة فإنه ينظر إلى موضع سجوده؛ ويدل لذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في مستدرك الحاكم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وصلى، ولم يتجاوز بصره موضع السجود )؛ ولأن الإنسان إذا جعل بصره إلى موضع سجوده كان ذلك أدعى إلى أن يخشع في صلاته، ويطمئن فيها، ويجتنب ما يلهيه ويصرفه عن صلاته.وعند الإمام مالك رحمه الله أنه ينظر إلى جهة القبلة، الإمام مالك رحمه الله تعالى قال: ينظر إلى جهة القبلة، ويستدل بما ثبت في الصحيح من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف، ( فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما صلى صلاة الكسوف عرضت عليه الجنة والنار في قبلته، وتأخر خشية أن يصيبه شيء من لهب النار، وتقدم لكي يأخذ شيئاً من ثمار الجنة )، فكون النبي عليه الصلاة والسلام تعرض عليه الجنة والنار في قبلته، دليل على أنه لم يكن بصره إلى موضع سجوده. والأظهر والأقرب -والله أعلم- ما ذهب إليه جمهور أهل العلم وأنه ينظر إلى موضع سجوده، وأما نظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى جهة قبلته في صلاة الكسوف فهذا حالة خاصة، حالة خاصة نظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى ذلك الموضع لما عرض عليه من عذاب النار ونعيم الجنة.يستثنى من ذلك إذا كان الإنسان في التشهد، سواء كان في التشهد الأول أو في التشهد الثاني فإنه يرمي ببصره إلى سبابته، وسيأتينا إن شاء الله في صفة الجلوس في التشهد الأول وفي التشهد الثاني أنه يقبض ويرفع السبابة ويحركها عند الدعاء، إذا جلس في التشهد فإنه يرمي ببصره إلى سبابته, كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبح ينظر المصلي إلى موضع سجوده إلا في حالة التشهد فإنه يرمي ببصره إلى السبابة.

دعاء الاستفتاح

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك].وهذا يسمى الاستفتاح، واعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام وردت عنه استفتاحات كثيرة، منها ما أورده المؤلف رحمه الله: ( سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك ).. إلى آخره، وهذا أخرجه مسلم موقوفاً على عمر ، وفي صحيح مسلم : أن عمر كان يجهر بهذه الكلمات: سبحانك اللهم وبحمدك.. وورد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً وغيره.وهناك استفتاحات كثيرة، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله له رسالة في ذلك، ما هي الاستفتاحات؟حدي ث أبي هريرة في الصحيحين: ( اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ). وكذلك أيضاً من الاستفتاحات حديث عائشة : ( اللهم رب جبرائيل وإسرافيل وميكائيل فاطر السموات والأرض.. ) إلى آخره.ومن الاستفتاحات حديث علي في مسلم : ( وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي.. ) إلى آخره.ومن الاستفتاحات أيضاً حديث ابن عباس في الصحيحين.ومن الاستفتاحات أيضاً حديث ابن عمر : ( الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ) إلى آخره. فينبغي للمسلم وخصوصاً طالب العلم أن يحفظ جملةً من هذه الاستفتاحات ويأتي بها في الصلاة، وكما أسلفنا أن الإنسان ينبغي له أن يحفظ كل السنة الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام التي وردت على وجوه متنوعة، يأتي بهذا الوجه تارة، وبهذا الوجه تارةً أخرى. ومن هذه الاستفتاحات ما يكون في صلاة الليل كحديث عائشة وحديث علي وحديث ابن عباس لكن القاعدة أن ما ثبت في الفرض ثبت في النفل إلا لدليل، فينبغي لنا أن نحفظ هذه الاستفتاحات، وهذه لعلنا إن شاء الله نصورها وأيضاً نصور الأذكار الواردة الأخرى مثل الركوع ورد فيها أذكار واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والسجود أيضاً ورد فيه أذكار واردة عن النبي عليه الصلاة والسلام، والرفع من الركوع والجلوس إلى آخره فمثل هذه الأشياء لعلنا إن شاء الله نقوم بتفصيلها وتوزيعها على الإخوة لكي يعنوا بشرحها وتطبيقها في الصلاة؛ لأن الصلاة تتكرر عليهم في اليوم والليلة أكثر من خمس مرات، الإنسان قد لا يستطيع أن يطبق في الفرض لكن يطبق في النفل، وأيضاً كثير من السنن يتمكن الإنسان أن يطبقها، فعلى طالب العلم أن يكون متميزاً. وقول المؤلف رحمه الله: (ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك..) إلى آخره، هذا ما عليه جمهور أهل العلم، جمهور العلم على استحباب الاستفتاح خلافاً للإمام مالك رحمه الله، الإمام مالك رحمه الله لا يرى شرعية الاستفتاح، وهذا فيه نظر، والإمام مالك رحمه الله يستدل بحديث أنس أنه قال: ( صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يبدءون بـ (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الفاتحة:2] )، فقوله: ( كانوا يبدءون بـ (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الفاتحة:2] ) المراد بهذا فيما يتعلق بالجهر، في الجهر لا يجهرون بالاستفتاح، ولا يجهرون بالبسملة، ولا يجهرون بالاستعاذة، وإنما يجهرون بالحمد لله مباشرةً.

الاستعاذة قبل القراءة

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم].السنة أن يستعيذ، وكما سلف أن الإمام مالك رحمه الله لا يرى الاستعاذة، يقول: الاستعاذة لا تسن في الفرض، وإنما تسن في النفل فقط. وأحمد والشافعي يقولان: بأنها سنة، مالك يقول: بأنها ليست سنةً في الفرض، وإنما هي سنة في النفل. وعند أبي حنيفة وابن حزم أنها واجبة. والصواب في ذلك: أنها سنة في الفرض وفي النفل.أما كيفية الاستعاذة فسواء قال الإنسان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، أو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، هذا كله جائز؛ لأن الاستعاذة هذه ليست للصلاة وإنما هي للقراءة، ولهذا قال الله عز وجل: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] ، تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو تقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، أو تقول كما ورد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.

البسملة

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يقول: بسم الله الرحمن الرحيم].يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، البسملة كلام المؤلف رحمه الله على أنها سنة، وهذا ما ذهب إليه أبو حنيفة والإمام أحمد ، وعند مالك رحمه الله يكره للإنسان أن يبسمل، ويقابل ذلك قول الشافعي رحمه الله: تجب البسملة، فـالشافعي يعتبرها آية من الفاتحة، وأنها واجبة لا بد للإنسان أن يأتي بها، ومالك يقول: تكره البسملة، وأحمد وأبو حنيفة يقولان: بأنها مستحبة، وهذا هو الصواب، الصواب: أنها مستحبة، وتقدم الإجابة على دليل مالك ، وأن حديث أنس : ( صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، كانوا يبدءون بـ (الحمد لله رب العالمين) )، المقصود بذلك الجهر، فكانوا لا يجهرون بهذه الأشياء، لا يجهرون بالبسملة، ولا بالاستعاذة، ولا بالاستفتاح، الاستفتاح وارد، والاستعاذة عند قراءة القرآن واردة، بل الاستعاذة واردة أيضاً حتى في الصلاة، والبسملة أيضاً واردة. فالصواب: أن البسملة سنة وليست واجبة كما قال الشافعي ، وليست أيضاً مكروهة كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى. ويدل على أنها ليست من الفاتحة ما ثبت في الحديث القدسي من حديث أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم روى عن ربه أنه قال: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الفاتحة:2]، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: (( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ))[الفاتحة:3]، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: (( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ))[الفاتحة:4]، قال الله: مجدني عبدي، فإذا قال: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ))[الفاتحة:5]، قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل )، فلم يقل: بسم الله الرحمن الرحيم.

خلاف العلماء في الجهر والإسرار بالبسملة

قال المؤلف رحمه الله: [ولا يجهر بشيء من ذلك؛ لقول أنس : ( صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم )].يعني الجهر بالبسملة هل هو مشروع أو ليس مشروعاً؟المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله عدم شرعيته، وأنك تسر به، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم؛ ودليل ذلك ما ذكره المؤلف حديث أنس : ( صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ).الرأي الثاني: رأي الشافعي : أنه يستحب الجهر بالبسملة.والجهر بالبسملة قد ألفت فيه مؤلفات، يعني هل يستحب أو يشرع الجهر بالبسملة أو لا يشرع؟ ألف فيه مؤلفات، فـالدارقطني له مؤلف، وابن خزيمة له مؤلف، وابن حبان .. إلى آخره، ألفت فيها مؤلفات مستقلة. والصواب في ذلك أن يقال: يعمل بالسنة الواردة كلها، فهدي النبي صلى الله عليه وسلم الغالب أنه كان لا يجهر بالبسملة، هذا هدي النبي عليه الصلاة والسلام الغالب أنه كان لا يجهر بالبسملة، كما ذكر أنس رضي الله تعالى قال: ( صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ).وثبت الجهر بالبسملة من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وعلى هذا نقول: الغالب على الإنسان أنه لا يجهر بالبسملة، وفي بعض الأحيان يجهر بالبسملة، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: خصوصاً إذا كان ذلك لمصلحة، يعني يجهر بها إذا كان هناك مصلحة كتأليف مثلاً يصلي خلفه أناس يرون الجهر بالبسملة، فما دام أنه ثبت في السنة ويترتب أيضاً عليه مصلحة فنقول: بأنه يجهر بها في بعض الأحيان، فيعمل بالسنة الواردة كلها. فنقول في الجهر: الغالب على الإنسان ألا يجهر بذلك، وفي بعض الأحيان يجهر، وبهذا نعمل بالسنة الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام كلها.

قراءة الفاتحة

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يقرأ الفاتحة، ولا صلاة لمن يقرأ بها إلا المأموم، فإن قراءة الإمام له قراءة].بالنسبة للفاتحة هي ركن من أركان الصلاة، وسيأتي كلام المؤلف رحمه الله عليها عندما يعدد أركان الصلاة، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك. ويدل لقراءة الفاتحة حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، وهذا في الصحيحين. وسيأتينا إن شاء الله كلام أهل العلم رحمهم الله: هل هي ركن في كل ركعة، أو أنها ركن في بعض الركعات كما هو خلاف بين الحنفية وجمهور أهل العلم؟ والصواب في ذلك كما سيأتينا إن شاء الله: أنها ركن في كل ركعة، ففي كل ركعة يجب على الإنسان أن يقرأ الفاتحة، وسيأتينا بيان ذلك، لكن بقينا فيما يتعلق بالمأموم؛ لأن المصلي لا يخلو من ثلاث حالات: إما أن يكون إماماً، وإما أن يكون منفرداً، وإما أن يكون مأموماً. فإن كان إماماً فيجب عليه أن يقرأ الفاتحة في كل ركعة، وإن كان منفرداً فيجب عليه أن يقرأ الفاتحة في كل ركعة، وإن كان مأموماً وهذا سيأتينا إن شاء الله بيانه وبيان دليله عندما يتكلم المؤلف رحمه الله على أركان الصلاة. فإن كان مأموماً قال المؤلف رحمه الله: (ولا صلاة لمن لم يقرأ بها إلا المأموم، فإن قراءة الإمام له قراءة). يعني: أن المأموم لا يجب عليه أن يقرأ الفاتحة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وسواء كان ذلك في الصلاة الجهرية أو كان ذلك في الصلاة السرية، فمثلاً في صلاة المغرب لو وقفت خلف الإمام ولم تقرأ لا في الركعة الأولى ولا الثانية ولا الثالثة، وكذلك أيضاً في صلاة العصر أتيت وكبرت ولم تقرأ لا في الركعة الأولى ولا في الثانية ولا الثالثة ولا الرابعة فإن الإمام يتحمل ذلك عنك، قراءة الإمام لك قراءة.فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن قراءة الإمام قراءة للمأموم سواء كان ذلك في الصلاة الجهرية أو كان ذلك في الصلاة السرية، وسواء كانت الصلاة فريضةً، أو كانت الصلاة نافلةً.. مطلقاً، يعني إذا أتيت لا يجب عليك أن تقرأ، لكن قالوا: يستحب لك أن تقرأ في إسرار الإمام وسكتاته، في إسراره في الصلاة السرية، يعني: في الصلاة السرية التي يسر فيها بالقراءة مثل العصر والظهر، ويستحب لك أن تقرأ في سكتاته في الصلاة الجهرية, إذا سكت لسعال أو عطاس أو تنفس أو غير ذلك، هذا تقرير المذهب عند الحنابلة رحمهم الله.والرأي الثاني يقابل هذا: أنه يجب على المأموم أن يقرأ في كل ركعة في الصلاة السرية وفي الصلاة الجهرية، في الفرض وفي النفل، يعني أن الإمام لا يتحملها عنه، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله، وهو أشد المذاهب في هذه المسألة.الرأي الثالث في هذه المسألة: أن الإمام يتحمل عنك في الصلاة الجهرية، يعني في الركعات التي يجهر فيها الإمام، يتحمل عنك الإمام، مثلاً عندنا المغرب الركعات منها ما هو جهري، ومنها ما هو سري يسر به الإمام، فالإمام يتحمل عنك الفاتحة في الركعة الأولى وفي الركعة الثانية، لكن في الركعة الثالثة الإمام لا يتحمل عنك لا بد أن تقرأ، وهذا قول الإمام مالك رحمه الله تعالى، وأيضاً ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.ومسألة القراءة خلف الإمام أيضاً مسألة طويلة جداً، والبخاري رحمه الله له كتاب مستقل في ذلك اسمه: (جزء القراءة خلف الإمام)، والبيهقي رحمه الله أيضاً له كتاب مستقل في ذلك اسمه (جزء القراءة خلف الإمام)، والبنوري من علماء الحنفية أيضاً له كتاب مستقل في ذلك، فالمسألة طويلة، لكن نذكر لكل مذهب دليلاً. أما الذين قالوا بأنه يتحملها عنه الإمام فاستدلوا بقول الله عز وجل: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] ذكر الإمام أحمد رحمه الله الإجماع على أن هذه الآية نزلت في الصلاة، فإذا كنت مأموراً بالإنصات للإمام فإن كونك تقرأ خلف الإمام هذا يخالف الإنصات يخالف ما أمرت به. وأيضاً: استدلوا بقول الله عز وجل لموسى وهارون: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]، والذي دعا موسى، وهارون أمن على دعاء موسى, قال: آمين، موسى دعا وهارون قال: آمين، ومع ذلك قال الله عز وجل: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]، فجعل كلاً من موسى وهارون داعيين، وإنما الذي دعا فقط هو موسى عليه السلام، فكذلك أيضاً الإمام يقرأ والمأموم يؤمن على قراءته، فتكون قراءة الإمام قراءة له، كما أن دعاء موسى كان دعاءً لهارون عليه السلام، مع أن هارون عليه السلام لم يدع. وكذلك أيضاً استدلوا بحديث أنس : ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة )، وهذا الحديث على كثرة طرقه معلول، الحديث هذا له طرق كثيرة، فقد ورد من حديث أنس وحديث ابن عمر وحديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد ، وقيل: بأنه يصح مرسلاً، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوى هذا الحديث: ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ).وكذلك أيضاً استدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ذات يوم فلما انتهى قال لأصحابه: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ فقالوا: نعم. فقال: أما إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ قال: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه الإمام )، وهذا أخرجه الترمذي وابن ماجه ، وحسنه الترمذي وحسنه ابن القيم . أما الذين أوجبوا القراءة فيها في كل ركعة فاستدلوا بحديث عبادة في الصحيحين: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ). وكذلك أيضاً استدلوا بحديث أبي هريرة : ( من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصلاته خداج خداج خداج )، والخداج هو الشيء الناقص، وهذا في مسلم .واستدلوا أيضاً بحديث عبادة في سنن أبي داود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة الفجر، فقال: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم. فقال: أما إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ لا تفعلوا إلا بأم الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها )، فقوله عليه الصلاة والسلام في صلاة الفجر: ( لا تفعلوا إلا بأم الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ) هذا صريح في أن الفاتحة مستثناة من النهي عن القراءة خلف الإمام.وهذا الحديث أجاب عنه أهل العلم رحمهم الله بأجوبة، فقيل: إنه ضعيف؛ لأن في إسناده محمد بن إسحاق وهو مدلس، لكن أجيب عن ذلك بأن محمد بن إسحاق صرح بالتحديث.وأجيب عنه بأنه منسوخ.أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مال إلى أنه لا يثبت مرفوعاً للنبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هذا حصل لـعبادة بن الصامت ، هذا من كلام عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه.والأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأن الإمام يتحمل القراءة عن المأموم فيما يجهر به، أما ما يسر فإنه يجب عليه أن يقرأ، هذا أقرب شيء في هذه المسألة.قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب أن يقرأ في سكتات الإمام وفيما لا يجهر فيه].وهذا تفريع على ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله أنه يستحب أن الإمام يتحمل قراءة الفاتحة عن المأموم، فيستحب للمأموم أن يقرأ في سكتات الإمام في الجهرية، وفيما لا يجهر فيه مثل الظهر العصر، ومثل الركعتين الأخريين لصلاة العشاء يستحب له أن يجهر.

السنة في القراءة بعد الفاتحة في الفرائض

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يقرأ بسورة تكون في الصبح من طوال المفصل، وفي المغرب من قصاره، وفي سائر الصلوات من أوساطه].يقرأ بسورة تكون في الصبح من طوال المفصل، وقراءة هذه السورة سنة، وسيأتينا إن شاء الله دليل قراءة هذه السورة في الأدلة التي سنذكرها الآن.قال: (بسورة تكون في الصبح من طوال المفصل).المفصل اختلف أهل العلم رحمهم الله من أين يبدأ، فقيل: بأنه يبدأ بـ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1] ، وقيل: بأنه يبدأ بسورة الفتح، وقيل: بأنه يبدأ بسورة الحجرات، وقيل: بأنه يبدأ بسورة محمد، وأقرب الأقوال: أنه يبدأ بسورة ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1] ، فطوال المفصل يبدأ من سورة ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1] إلى سورة النبأ، ومن النبأ إلى سورة وَالضُّحَى [الضحى:1] هذا أواسط المفصل، ومن سورة وَالضُّحَى [الضحى:1] إلى آخر القرآن هذا قصار المفصل.يقول المؤلف رحمه الله: (تكون في الصبح من طوال المفصل، وفي المغرب من قصاره).ويدل لذلك حديث سليمان بن يسار قال: ( كان فلان يصلي بنا، فكان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر، ويخفف العصر، ويقرأ في الصبح من طوال المفصل، وفي المغرب من قصاره، وفي العشاء من أوساطه، فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: ما صليت صلاةً أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الصلاة )، وهذا ثابت أخرجه أبو داود وغيره وإسناده ثابت، فهنا قال: يقرأ في الصبح من طوال المفصل، والنبي عليه الصلاة والسلام أيضاً ( كان يقرأ بالستين إلى المائة في صلاة الصبح )، ( وقرأ النبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الصبح بسورة وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:1-2] ).وأيضاً كان يقرأ بالواقعة ونحوها من السور، والذي نحو الواقعة من السور الذاريات والطور والنجم والرحمن.. إلى آخره. وأيضاً: قرأ النبي عليه الصلاة والسلام بسورة الروم، وقرأ بسورة يس، و( قرأ عليه الصلاة والسلام بسورة المؤمنون، فأدركته سعلة فركع لما بلغ ذكر موسى وهارون ).وقرأ عليه الصلاة والسلام بالصافات.فالسنة للإنسان المصلي أن يقرأ في الفجر من طوال المفصل، وهذا هو الهدي الغالب للنبي عليه الصلاة والسلام، ويدل لذلك القرآن، الله عز وجل قال: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] ، فمن منتصف النهار إلى منتصف الليل أربع صلوات، ثم فصل الفجر وسماها قرآناً، قال العلماء رحمهم الله: لأنه يشرع أن تطال فيه القراءة، وفي حديث رافع بن خديج وحديث محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أسفروا بالصبح، فإنه أعظم للأجر )، قال الطحاوي رحمه الله: أن المراد بذلك يطيل القراءة يعني: أن يدخل فيها بغلس ويطيل فيها بالقراءة حتى يسفر. فنقول: يستحب للمصلي وخصوصاً الإمام أن يأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتكون قراءته في صلاة الفجر من طوال المفصل، وكما سمعتم النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالطور، وقرأ بالواقعة ونحوها من السور: يس والصافات والروم والمؤمنون، وكان يقرأ ما بين الستين إلى المائة إلى آخره، وهذا هو الهدي الغالب على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأحياناً النبي عليه الصلاة والسلام قصر عن ذلك، ففي صحيح مسلم : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ في الفجر بسورة التكوير )، وأيضاً قرأ النبي عليه الصلاة والسلام بالزلزلة كررها في الركعتين. فنقول: هدي الإنسان الغالب أن يقرأ بطوال المفصل، وفي بعض الأحيان لو لم يقرأ بطوال المفصل وخصوصاً إذا كان هناك داع فإن هذا لا بأس به، فيكون عمل بالسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها.قال المؤلف: (وفي المغرب من قصاره).وتقدم في حديث سليمان بن يسار أنه قال: ( كان فلان يصلي بنا، فكان يطيل الركعتين الأوليين من صلاة الظهر، ويخفف العصر، ويقرأ في الفجر بطوال المفصل، والمغرب بقصاره ).وأيضاً حديث رافع بن خديج في الصحيحين قال: ( كنا نصلي مع النبي عليه الصلاة والسلام المغرب، ثم نخرج ننتظل -أي: نرمي بالسهام- فنرى مواقع النبل ) نرى مواقع السهام من الإسفار، فهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام بادر بصلاة المغرب وأيضاً قصر فيها القراءة، حيث إن الصحابة صلوا مع النبي عليه الصلاة والسلام المغرب وخرجوا يضربون بالسهام ويرون مواقع نبلهم من الإسفار، هذا يدل على قصر القراءة في صلاة المغرب.قال المؤلف رحمه الله: (وفي المغرب من قصاره).ذكرنا الدليل على ذلك، وأنه يستحب أن يقرأ في المغرب بقصار المفصل، وهذا أيضاً هو الهدي الغالب، الهدي الغالب على سنة النبي صلى الله عليه وسلم هو القراءة بقصار المفصل، وفي بعض الأحيان يطيل، فإنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: ( قرأ بسورة وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:1-2] في صلاة المغرب )، ( وسورة المرسلات )، أيضاً، وأيضاً سورة الأعراف كما في صحيح البخاري ، والمرسلات في مسلم ، والطور في مسلم ، وأيضاً قرأ بسورة محمد كما في صحيح ابن خزيمة رحمه الله، وأيضاً في الطبراني قرأ بسورة الأنفال.فنقول: السنة أن يقرأ بقصار المفصل، وفي بعض الأحيان يطيل، طبق السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي بعض الأحيان يقرأ الطور، وأحياناً يقرأ المرسلات.. إلى آخره.قال: (وفي سائر الصلوات من أوساطه).في سائر الصلوات يشمل الظهر والعصر والمغرب والعشاء، أما الظهر فيقرأ بأواسط المفصل، ويدل لذلك حديث جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: ( كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ في الفجر بـ(ق) )، هذا في مسلم ، وأيضاً ورد عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر بـ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [الطارق:1]، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1] ونحوها من السور )، وهذا في سنن أبي داود وهو ثابت. فقوله: ( يقرأ بـ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [الطارق:1]، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1] ونحوها من السور ) يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ في الظهر بأواسط المفصل، فالظهر تقرأ بأواسط المفصل لما ذكرنا من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، وتقرأ أحياناً بطوال المفصل، فأحياناً الظهر تقرأ بأواسط المفصل، وأحياناً تقرأ بطوال المفصل؛ لما ثبت من حديث أبي سعيد في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر في كل ركعة قدر ثلاثين آية )، هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أطال، وأيضاً تقدم حديث سليمان بن يسار وفيه: ( كان فلان يطيل الركعتين الأوليين من صلاة الظهر، ويخفف العصر )، فدل على أن هناك فرقاً بين الظهر وبين العصر. وعلى هذا نقول: الظهر فيه سنتان: السنة الأولى: أن تقرأ من أواسط المفصل كما في حديث جابر بن سمرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بـ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [الطارق:1]، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1] ونحوها من السور ) في الظهر والعصر.السنة الثانية: أن تطيل كما في حديث أبي سعيد : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر في كل ركعة قدر ثلاثين آية )، فأصبح صلاة الظهر تارةً وتارة. أما العصر فالسنة أن يقرأ فيها من أواسط المفصل كما في حديث جابر بن سمرة : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ في الظهر والعصر بـ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [الطارق:1]، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1]، ونحوها من السور )، ولما تقدم من حديث سليمان بن يسار قال: ( كان فلان -إلى آخره- قال: ويخفف العصر ).أيضاً العشاء تقرأ من أواسط المفصل؛ ويدل لما تقدم حديث سليمان بن يسار وفيه: ( والفجر بطواله، والمغرب بقصاره، والعشاء بأواسطه )، وأيضاً أرشد النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً لما أطال أرشده أن يقرأ بـ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، و سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، و اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1]، هكذا أرشده.فالخلاصة بالنسبة لما يقرأ فيه وما لا يقرأ: أن العصر يقرأ فيه أواسط المفصل، والعشاء أواسط المفصل، والظهر تارةً وتارة، تارةً تقرأ بأواسط المفصل، وتارةً تقرأ بطوال المفصل، تعمل بالسنة كلها، والمغرب الغالب قصار المفصل وأحياناً يطيل، هاتان الصلاتان اللتان في طرفي النهار هذه تطيل وأحياناً تقصر، وهذه تقصر وأحياناً تطيل، يعني الغالب في صلاة الفجر يكون من طوال المفصل، وأحياناً تقصر، والغالب في صلاة المغرب يكون من قصار المفصل وأحياناً تطيل، كما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام، والظهر التي في وسط النهار تارةً وتارة، وأما بالنسبة للعصر والعشاء فهذه من أواسط المفصل، هذا ملخص لما سلف.

الصلوات الجهرية والسرية

قال المؤلف رحمه الله: [ويجهر الإمام بالقراءة في الصبح، والأولين من المغرب والعشاء، ويسر فيما عدا ذلك].يسر فيما عدا ذلك، يجهر في الفجر والمغرب والعشاء، وهذا بالإجماع، وهذه هي السنة، السنة أن يجهر، وهذا هو الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام، ونقل الخلف عن السلف.وأما الظهر والعصر فالسنة أن يسر فيهما، هذا هو السنة، وهذا أيضاً بالإجماع؛ ويدل لذلك أيضاً حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: ( كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بأم الكتاب أو بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، ويسمعنا الآية أحياناً )، فقوله: ( ويسمعنا الآية أحياناً ) هذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسر في الظهر ويسمع الآية في بعض الأحيان.واستدل العلماء رحمهم الله بهذا الحديث حديث أبي قتادة في الصحيحين على أن الجهر في موضع الجهر سنة، وأن الإسرار في موضع الإسرار سنة، بمعنى: أنه لو أسر في صلاة العشاء فقد ترك السنة، ولو جهر في صلاة الظهر فقد ترك السنة وهي الإسرار، وأخذوا هذا من حديث أبي قتادة ؛ لأن صلاة الظهر يسر بها ومع ذلك جهر، مع ذلك هذا خلاف سنة النبي عليه الصلاة والسلام، هذا ينقله إلى البدعة، يعني لو أن الإنسان داوم عليه أو أكثر منه أسر في صلاة العشاء أو المغرب أو جهر في صلاة الظهر أو العصر نقول: هذا ينقله إلى البدعة.

صفة التكبير في الانتقال بين الأركان

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يكبر ويركع ويرفع يديه كرفعه الأول].يكبر وموضع التكبير في الانتقال بين الأركان هو بين الركنين، فلا يكون في ركن القيام ولا يكون في ركن الركوع بل يجعله بين الركنين؛ لأن التكبير هذا ذكر في حال الانتقال. ولهذا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة : ( يكبر حين يركع ) حين الركوع يكبر، فدل ذلك على أن هذا التكبير إنما يكون في حال الانتقال، ولهذا المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه لو ابتدأ التكبير في حال القيام أو أنهاه في حال السجود وفي حال الركوع أن صلاته لا تصح؛ لأن كل فعل من أفعال الصلاة له ذكره الخاص، فالركوع له ذكره خاص، والقيام له ذكره الخاص، والانتقال بين الركنين أيضاً له ذكره الخاص، فالمسلم يتنبه أن يكون إذا هوى للركوع بدأ التكبير وأنهاه قبل أن يأتي راكعاً، وإذا هوى للسجود يبدأ بالتكبير وينهيه قبل أن يسجد أو يأتي السجود.قال: (يكبر ويركع ويرفع يديه كرفعه الأول). هذا هو الموضع الثاني الذي ترفع فيه الأيدي، وسبق الموضع الأول وهو عند تكبيرة الإحرام؛ ويدل لذلك ما تقدم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. وأيضاً ورد من حديث أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة كبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ويفعل ذلك في صلاته كلها ).فقوله: ( حين يركع.. ) إلى آخره يدل لما سبق أن ذكرنا أن وقت التكبير إنما يكون بين الركنين في حال الانتقال.

الركوع

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يضع يديه على ركبتيه، ويفرج أصابعه، ويمد ظهره ويجعل رأسه حياله].شرع المؤلف رحمه الله في بيان الركوع، الركوع له كيفيتان: كيفية مجزئة، وكيفية مستحبة. الكيفية المجزئة اختلف العلماء رحمهم الله في ضابطها، ما هو ضابط الكيفية المجزئة في الركوع؟ ذكر العلماء قولين: القول الأول: أن تصل يداه ركبتيه إذا كان وسط الخلقة، إذا كان الشخص وسط الخلقة وانحنى بحيث تصل يداه ركبتيه فهذا هو الركوع المجزئ، ولا عبرة لغير وسط الخلقة، فإن بعض الناس قد تكون يداه طويلتين بحيث تصل يداه إلى ركبتيه وهو لا يزال في حد القيام أو قريباً من القيام، وبعض الناس تكون يداه قصيرتين بحيث إنه ينحني ويهوي إلى أن يتعدى حد الركوع المعتدل، فالعبرة بوسط الخلقة، إذا كان الإنسان وسط الخلقة ووصلت يداه إلى ركبتيه هذا الركوع المجزئ، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.والرأي الثاني: أن ضابط الركوع المجزئ أن يكون إلى الركوع المعتدل أقرب منه إلى القيام المعتدل، بحيث إنك إذا رأيت هذا الشخص تقول: هذا راكع وليس قائماً، وهذا اختيار المجد من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله، وهذا القول هو الأقرب، فإذا كان الإنسان إذا انحنى يكون أقرب إلى الركوع منه إلى القيام بحيث نقول: هذا الرجل راكع ما نقول: بأنه قائم، يكون ركوعه هنا مجزئاً، وأما إن كان إلى القيام المعتدل أقرب فإنه لا يكون راكعاً ولا يكون مجزئاً، هذا بالنسبة للركوع المجزئ. وأما بالنسبة للركوع الكامل المستحب فهذا ذكر المؤلف رحمه الله سنته، فتكون اليدان على الركبتين مفرجتي الأصابع كالقابض لهما، وينحي عضديه عن جنبيه، ويجعل رأسه حيال ظهره، فلا يرفع رأسه، ولا يصوبه ولا يخفضه، ويهصر ظهره، وهذا كله ورد في السنة، ويأتينا إن شاء الله ذكر الدليل عليه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-14, 03:24 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [7]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(16)


من أعظم أركان الصلاة الركوع، فهو هيئة خضوع، وعلى المسلم أن يعظم فيه ربه، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وللركوع والسجود هيئة إجزاء وهيئة كمال، ويختص كل ركن منهما بذكر معين.
تابع صفة الصلاة

كيفية الركوع

قال المؤلف رحمه الله: ( ثم يكبر ويركع ويرفع يديه كرفعه الأول ).هذا هو الموضع الثاني الذي ترفع فيه الأيدي، وتقدم لنا الموضع الأول الذي ترفع فيه الأيدي, وهو عند تكبيرة الإحرام، وهذا هو الموضع الثاني الذي ترفع فيه الأيدي، ودليل ذلك: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر رفع يديه، وإذا كبر للركوع أيضاً رفع يديه ).وقال المؤلف رحمه الله: ويرفع يديه كرفعه الأول, يعني: عند تكبيرة الإحرام، وتقدم لنا صفة الرفع عند تكبيرة الإحرام، وأنه ورد له صفتان:الصفة الأولى: أن يرفع حذو المنكبين.والصفة الثانية: أن يرفع حتى تكون يداه حذو أذنيه.وأيضاً ذكرنا وقت الرفع, هل يرفع مع التكبير أو قبل التكبير أو بعد التكبير, وذكرنا أن هذا ورد فيه ثلاث صفات عن النبي صلى الله عليه وسلم.قال المؤلف رحمه الله: (ثم يضع يديه على ركبتيه ويفرج أصابعه).أشرنا فيما سبق أن الركوع له كيفيتان, كيفية مجزئة، وكيفية مستحبة.أما الكيفية المجزئة فاختلف أهل العلم رحمهم الله في ضابطها على رأيين:فالرأي الأول: أن تصل يداه إلى ركبتيه إذا كان وسط الخلقة، فإذا كان وسط الخلقة ووصلت يداه إلى ركبتيه فإن هذا الركوع ركوع مجزئ، وقيد العلماء رحمهم الله ذلك بما إذا كان وسط الخلقة، فإن كان ليس وسطاً في الخلقة فلا عبرة، وإنما ينحني بحيث تصل يداه إلى ركبتيه لو كان وسط الخلقة، فإن كان غير وسط الخلقة قلنا: هذا لا يعتبر، قد يوجد من الناس من تكون يداه طويلتين بحيث إن يديه تصل إلى ركبتيه وإن لم ينحن الانحناء المجزئ، وآخرون تكون يداه قصيرتين بحيث إنه ينحني انحناء شديداً، وقد يكون حصل الانحناء المجزئ، فالعبرة بما كان وسط الخلقة، فإن كان ليس وسط الخلقة فينحني بقدر ما تصل يداه ركبتيه لو كان وسط الخلقة، هذا هو الرأي الأول, وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.الرأي الثاني في هذه المسألة: أن يكون إلى الركوع المعتدل أقرب منه إلى القيام المعتدل، وهذا ما ذهب إليه المجد رحمه الله جد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، هذه بالنسبة للكيفية الأولى, وهي الكيفية المجزئة للركوع.الكيفية الثانية هي الكيفية المستحبة للركوع، وذكرها المؤلف رحمه الله فقال: (ثم يضع يديه على ركبتيه ويفرج أصابعه)، فنقول: بالنسبة لليدين يضعهما على ركبتيه، وتكون أصابعه مفرجة، وهذا كما ورد في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع فرج أصابعه، وإذا سجد ضم أصابعه، فنقول: بالنسبة للكفين تكون على الركبتين كالقابض لهما، وتكون أصابعها مفرجة.قال المؤلف رحمه الله: (ويمد ظهره).وهذا دليله حديث أبي حميد رضي الله تعالى عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره ). فقوله: ( ثم هصر ظهره ) هذا دليل لما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى بقوله: ويمد ظهره, يجعل ظهره متساوياً.كذلك أيضاً قال: (ويجعل رأسه حياله), يعني: يجعل رأسه حيال ظهره، فلا يشخص رأسه، أي لا يرفعه، ولا ينزله، وإنما يكون رأسه حيال ظهره، ودليل ذلك: حديث أبي حميد وفيه: ( ولم يصوب رأسه ولم يقنع ) يعني: لم يخفض رأسه ولم يرفع رأسه، بل يكون رأسه حيال ظهره.فذكر المؤلف رحمه الله صفة الكفين، وذكر صفة الظهر، فبالنسبة لصفة الكفين يعتمد بكفيه على الركبتين ويجعلهما على ركبتيه كالقابض لهما ويكون مفرجاً لأصابعه، وأما بالنسبة لظهره فيهصره كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل، بحيث إنه يمده، وأما بالنسبة لرأسه فيجعل رأسه حيال ظهره، لا يخفضه ولا يرفعه.كذلك أيضاً بالنسبة لعضديه يجافي عضديه عن جنبيه، ودليل ذلك: حديث أبي حميد رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه فنحاهما عن جنبيه ). وهذا الحديث أخرجه أبو داود والدارمي وغيرهما.وهذا إذا كان إماماً أو كان منفرداً، فإن كان مأموماً فقد يصعب عليه أن يجافي عضديه عن جنبيه، فنقول: لا تفعل؛ لئلا تؤذي غيرك من أجل تحصيل سنة.فأصبح بالنسبة للكفين لها صفة، بالنسبة للظهر له صفة، بالنسبة للرأس له صفة، بالنسبة للعضدين له صفة، وما لم يرد له صفة في السنة فالأصل أن أعضاء الإنسان تكون على مقتضى الطبيعة، هذا الأصل.نقول: الأصل أن أعضاء الإنسان في الصلاة في أثناء السجود أو الجلوس أو القيام أن تكون على مقتضى الطبيعة، إلا إذا ورد في السنة بتحديد موضع هذا العضو، وعلى هذا بالنسبة للركبتين أو القدمين.. إلى آخره فإنها تكون على مقتضى الطبيعة.

الذكر في الركوع

قال المؤلف رحمه الله: [ ثم يقول: سبحان ربي العظيم ثلاثاً ].يقول: سبحان ربي العظيم لحديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه ( لما نزل قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74] قال النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم ). وهذا الحديث أخرجه أبو داود وكذلك أيضاً ابن ماجه والإمام أحمد والحاكم وغيرهم، وهذا الحديث في إسناده ضعف، لكن نستدل على تسبيح الركوع بحديث حذيفة ، حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ركع جعل يقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم ).وقال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثلاثاً) لورود ذلك في حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن مسعود في الترمذي : ( إذا سجد أحدكم فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً, وذلك أدناه )، فإذا كان يقال في السجود: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فكذلك أيضاً في الركوع يقول: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، وهذا حديث ابن مسعود في الترمذي أيضاً في إسناده ضعف.لكن يستدل على الثلاث بأن هدي النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سلم سلم ثلاثاً, والعلماء رحمهم الله يقولون: بأن أدنى الكمال ثلاث.واعلم أن قدر التسبيح في الركوع أو السجود نقول: المصلي لا يخلو من ثلاث حالات:الحالة الأولى: أن يكون إماماً.والحالة الثانية: أن يكون مأموماً.والحالة الثالثة: أن يكون منفرداً.أما إن كان إماماً فإنه يسبح إلى عشر تسبيحات؛ لحديث أنس أنه قال: ( ما صليت صلاة أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، فحزروا تسبيحاته في الركوع وفي السجود فوجوده يسبح عشر تسبيحات ).فنقول: الإمام المشروع له أن يسبح عشر تسبيحات، فيقول: سبحان ربي الأعلى.. إلى عشر، ويقول: سبحان ربي العظيم.. إلى عشر، وله أن يقول: سبحان ربي العظيم، ومقدار التسع الباقية يذكر فيها أذكاراً أخرى واردة، فمثلاً لو قال: ( سبوح قدوس رب الملائكة والروح )، أو قال: ( اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت ) .. إلى آخره من الأذكار الواردة في الركوع، المهم القدر الذي يكون للإمام قدر عشر تسبيحات, سواء استغرق هذا الزمن بهذه التسبيحات، جعل هذا القدر كله بقول: سبحان ربي العظيم، أو أنه أتى بتسبيحة الركوع سبحان ربي العظيم، وأتى بشيء آخر من الأذكار والأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذا بالنسبة للإمام.وأما بالنسبة للمأموم فأمره ظاهر، فإنه يكون تبعاً للإمام، فإنه يسبح ويذكر الله عز وجل بما ورد، ويعظم الله عز وجل في ركوعه إلى أن يرفع الإمام، فإذا رفع الإمام فإنه يرفع بعده، وليس له حد، فقد يطيل الإمام ويتجاوز السنة، ويصل إلى مقدار عشرين تسبيحة, نقول: المأموم يسبح، فيسبح إلى عشرين؛ لأن صلاته مرتبطة بصلاة الإمام، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا ).. إلى آخره، هذا بالنسبة للمأموم.وأما بالنسبة للمنفرد فهذا يصلي كيف شاء، فإذا أراد أن يطيل أطال، وإذا أراد أن يقصر قصر، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فإذا صلى أحدكم لنفسه فليطل ما شاء )، المصلي إذا كان منفرداً فهو أمير نفسه.واعلم أيضاً أن السنة أن تكون أفعال الصلاة متساوية، الركوع والرفع من الركوع والسجود والجلسة بين السجدتين، ما خلا القيام والتشهد، كما ورد استثناؤهما، ما عدا ذلك هذه الأربعة الأركان السنة أن تكون متساوية، كما في حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: ( رمقت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت ركوعه فرفعه من الركوع فسجوده فجلسته بين السجدتين قريباً من السواء )، فالسنة أن تكون هذه الأشياء متساوية.وورد استثناء التشهد الأخير والقيام, هذان مستثنيان، فهذه الأشياء الأربعة السنة أن تكون متساوية، وعلى هذا السنة أن يسبح الإمام إلى عشر تسبيحات، هذا هو السنة أن يطبق سنة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا يصلي لنفسه، وإنما يصلي لغيره من الناس، والعلماء رحمهم الله يقولون: إذا اختار الإنسان لنفسه فإن خياره خيار تشهي، وإذا اختار لغيره فإن خياره خيار مصلحة.قال المؤلف رحمه الله: ( ثم يقول: سبحان ربي العظيم ). وهذا يأتينا إن شاء الله في الواجبات، فهل قول: سبحان ربي العظيم واجب في الصلاة أو ليس واجباً هذا يأتي بيانه بإذن الله.

الرفع من الركوع

قال المؤلف رحمه الله: [ ثم يرفع رأسه قائلاً: سمع الله لمن حمده، ويرفع يديه كرفعه الأول، فإذا اعتدل قائماً قال: ربنا لك الحمد ].هذا هو الموضع الثالث من المواضع الذي ترفع فيه الأيدي في الصلاة، وهو ما إذا رفع من الركوع، ودليل ذلك: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما السابق ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرفع يديه إذا كبر، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع من الركوع )، وهذا في الصحيحين، فهذا هو الموضع الثالث من مواضع رفع الأيدي.فعندنا تسميع وتحميد، الإمام والمنفرد كل منهما يجمع بين التسميع والتحميد، فالإمام يقول: سمع الله لمن حمده، ويقول أيضاً: ربنا ولك الحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بينهما، وكذلك أيضاً المنفرد يجمع بين التسميع والتحميد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مالك بن الحويرث : ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، والنبي عليه الصلاة والسلام في صلاته يجمع بين التسميع والتحميد.بقينا في المأموم هل يجمع بينهما أو لا؟المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن المأموم لا يجمع بينهما، بل يكتفي بقول: ربنا ولك الحمد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد )، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: فقولوا: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.والرأي الثاني رأي الشافعي رحمه الله، وهو أن المأموم يجمع بينهما كالإمام وكالمنفرد، فالمأموم على مذهب الشافعي رحمه الله يقول: سمع الله لمن حمده، ويقول: ربنا ولك الحمد؛ لحديث مالك بن الحويرث رضي الله تعالى عنه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، والنبي عليه الصلاة والسلام يجمع بين التسميع والتحميد، فكذلك أيضاً المأموم يجمع بين التسميع والتحميد.والصوا في هذه المسألة: ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله لما أوردناه من الدليل.قال: (فإذا اعتدل قائماً قال: ربنا ولك الحمد). والتحميد هذا ورد فيه أربع صفات:الصفة الأولى: أن يجمع بين اللهم والواو فيقول: اللهم ربنا ولك الحمد، هذه الصفة الأولى.الصفة الثانية: أن يجرد التحميد من اللهم والواو، فيقول: ربنا لك الحمد.والصفة الثالثة: أن يقتصر على اللهم.والصفة الرابعة: أن يقتصر على الواو. فالصفة الثالثة يقول: اللهم ربنا لك الحمد، والصفة الرابعة يقول: ربنا ولك الحمد، هذه أربع صفات.وقد أسلفنا أن الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم على وجوه متنوعة يستحب أن يأتي بهذا تارة وبهذا تارة, وهذه الأذكار إن شاء الله ستوزع عليكم بإذن الله.قال المؤلف رحمه الله: [ ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد ].وأيضاً يكمل الذكر؛ لأن الرفع من الركوع وردت فيه أذكار، فذكر المؤلف يقول: ( ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد, وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ).وأيضاً ورد من حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاة الليل: ( لربي الحمد، لربي الحمد، لربي الحمد ).وأيضاً ورد أنه يقول: ( اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد، اللهم نقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ).ينبغي للمصلي أن يحفظ هذه الأشياء؛ لكي يطبق سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة, فيكون رفعه كركوعه، إذا كان ما يحفظ ما يستطيع أنه يأتي بالأذكار، قد يطيل الركوع لكن بالنسبة للرفع السنة أن يكون طوله كالركوع، فإذا حفظ هذه الأذكار فإنه يأتي بها، ويكون رفعه كركوعه، ويكون حينئذ حقق سنة النبي صلى الله عليه وسلم.قال المؤلف رحمه الله: [ ويقتصر المأموم على قول: ربنا ولك الحمد ].هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ، يعني: أن المأموم ما يقول: ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، فإذا كنت تصلي خلف الإمام إذا قمت واعتدلت قائماً تقول: ربنا ولك الحمد وتسكت، وهذا ليس صواباً، بل الصواب: أن الإنسان يأتي بالأذكار, يقول: ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد.. إلى آخره، ولو قال: لربي الحمد... لربي الحمد، وكرر ذلك فهذا مشروع؛ لوروده عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث حذيفة ، أو يقول الذكر الآخر الذي ذكرناه, إلى آخره. المهم أن قول المؤلف رحمه الله: ويقتصر المأموم على قول: ربنا ولك الحمد، فيه نظر.

كيفية الخرور إلى السجود

قال المؤلف رحمه الله: [ ثم يخر ساجداً مكبراً، ولا يرفع يديه ].بالنسبة لرفع الأيدي عند السجود، إذا أراد الإنسان أن يسجد هل يرفع يديه؟ إذا رفع من السجود هل يرفع يديه؟هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فجمهور أهل العلم على أنه لا يرفع يديه؛ لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في الصحيحين، فإن ابن عمر ذكر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع إذا كبر للإحرام، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع من الركوع، قال: وكان لا يفعل ذلك في السجود )، فقوله: ( وكان لا يفعل ذلك في السجود ) هذا دليل على عدم شرعية رفع الأيدي عند السجود، فـابن عمر ضبط الصلاة، ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع في ثلاثة مواضع في الصحيحين، وفي البخاري أيضاً أضاف موضعاً رابعاً, وهو عند القيام من التشهد الأول، وأما بالنسبة للسجود قال: ( وكان لا يفعل ذلك في السجود ).وأيضاً حديث علي رضي الله تعالى قال: ( ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين رفع يديه وكبر ) يعني: إذا قام من التشهد الأول، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي ، وصححه الإمام أحمد رحمه الله.فعندنا حديثان يدلان على أن الأيدي لا ترفع عند السجود، إذا أراد الإنسان أن يسجد أو يرفع من السجود أنه لا يفعل ذلك.والرأي الثاني: أنه يرفع يديه، وهذا دليله: حديث وائل بن حجر لما ذكر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وإذا رفع من السجود رفع يديه )، وهذا أخرجه الإمام أحمد وأبو داود .وأيضاً حديث ابن الزبير : ( أنه كان يشير بكفيه حين يقوم وحين يركع وحين يسجد )، وهذا أخرجه أبو داود .وهذان الحديثان وغيرهما كحديث مالك بن الحويرث ضعيفان، والبخاري رحمه الله في كتابه جزء القراءة خلف الإمام أشار إلى ضعف هذه الأحاديث، أشار إلى ضعف هذه الأحاديث الواردة في رفع الأيدي عند السجود وأنها لا تثبت، وأمثل هذه الأحاديث حديث مالك بن الحويرث في سنن النسائي ، لكن كما أشرت البخاري رحمه الله في كتابه جزء القراءة خلف الإمام أشار إلى ضعف هذه الأحاديث، وإذا كان كذلك فإن الحركات في الصلاة حركات توقيفية، الصلاة عبادة لا بد لها من دليل، وحينئذ نقول: لا يشرع للإنسان أن يرفع يديه إذا أراد أن يسجد أو إذا رفع من السجود.قال المؤلف رحمه الله: [ ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه، ثم كفاه، ثم جبهته وأنفه ].يعني: إذا أراد أن يهوي للسجود هل يبدأ بيديه أو يبدأ بركبتيه؟ يقول المؤلف رحمه الله: يبدأ بركبتيه، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله، مذهب الإمام أبي حنيفة ومذهب الشافعي أن أول ما يبدأ الإنسان إذا أهوى يبدأ بركبتيه، وعند الإمام مالك رحمه الله أنه إذا هوى يقدم يديه.وهذه المسألة كثر فيها كلام أهل العلم رحمهم الله، وألفت فيها مؤلفات مستقلة، لكن نشير إلى أهم الأدلة في ذلك، فالذين قالوا: بأنه يبدأ بركبتيه كما ذهب إليه المؤلف رحمه الله استدلوا بحديث وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه ). وهذا الحديث أخرجه أبو داود , والترمذي , وابن ماجه والنسائي ، وله شاهد من حديث أنس رضي الله تعالى عنه.أما الذين قالوا: بأنه يضع يديه قبل ركبتيه كالإمام مالك رحمه الله فاستدلوا بحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه )، الشاهد هنا قال: ( وليضع يديه قبل ركبتيه )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ، وورد فعل ذلك عن ابن عمر في البخاري معلقاً.وكلا ما استدل به يعني: حديث وائل بن حجر قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه ), وحديث أبي هريرة : ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه ) كلا الحديثين في إسناده نظر، وحينئذ نرجع إلى الطبيعة؛ لأننا ذكرنا أن الأصل في أعضاء الصلاة أن تكون على وفق الطبيعة ما لم يرد في ذلك سنة توقيفية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان كلاً من الحديثين في إسناده مقال فإننا نرجع إلى الأصل وإلى الطبيعة، وأنت إذا لاحظت طبيعة الإنسان إذا أراد أن يهوي فإنه يبدأ بركبتيه، هذا هو مقتضى الطبيعة.وأيضاً كونه يبدأ بيديه هذا يكون أشبه ما يكون بالبعير؛ لأن البعير هو الذي يبدأ بيديه، فهذا إذا نزل على يديه هذا أشبه ما يكون بنزول البعير، ولا شك وخصوصاً في الصلاة أن المصلي منهي عن مشابهة الحيوان، ولهذا نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يفترش الساجد ذراعيه في السجود افتراش الكلب، ونهى النبي عليه الصلاة والسلام عن التفات كالتفات الثعلب، وإقعاء كإقعاء الكلب، ونقر كنقر الغراب، هذه كلها منهي عنها؛ لما فيها من التشبه بالحيوان، فالأقرب في ذلك أن الإنسان يبدأ بركبتيه, هذا هو مقتضى الطبيعة في ذلك، إلا إذا كان هناك حاجة من كبر في السن أو لمرض أو نحو ذلك لا يتمكن معه الإنسان من النزول على ركبتيه فإنه ينزل على يديه.

كيفية السجود

قال المؤلف رحمه الله: [ ويجافي عضديه عن جنبه، وبطنه عن فخذيه ].شرع الآن المؤلف رحمه الله في بيان كيفية السجود، فكذلك أيضاً نقول في السجود: له كيفيتان, كيفية مجزئة، وكيفية مستحبة كاملة. أما الكيفية المجزئة فكيفما سجد الإنسان إذا سجد على أعضائه السبعة التي ورد الأمر بالسجود عليها, فالمهم أنك تجعل يديك وركبتيك وقدميك وجبهتك وأنفك على الأرض، سواء جافيت أو لم تجاف، جعلت أصابعك تجاه القبلة أو لم تجعل أصابعك تجاه القبلة، جافيت بطنك عن فخذيك، وعضديك عن جنبيك أو لم تفعل، المهم أن تسجد على هذه الأعضاء السبعة التي أمرت بالسجود عليها, هذا هو السجود المجزئ.أما بالنسبة للسجود الكامل فبينه المؤلف رحمه الله قال: (ويجافي عضديه عن جنبيه وبطنه عن فخذيه). ودليل ذلك: حديث أبي حميد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جافى عضديه عن إبطيه ).وحديث عبد الله بن بحينة رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجنح في سجوده حتى يرى وضح إبطيه )، وهذا في الصحيحين.وأيضاً ثبت أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يرقون للنبي صلى الله عليه وسلم من شدة مجافاته لعضديه عن جنبيه.فنقول: بالنسبة للعضدين السنة للإنسان أن يجافي حتى يرى بياض الإبط, كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل، وهذا إذا كان الإنسان إماماً أو منفرداً ظاهر، أما إن كان مأموماً فقد يصعب عليه ذلك، لكن إذا لم يفعل هذه السنة إذا كان مأموماً فليفعل ذلك إذا كان إماماً أو كان منفرداً، هذا بالنسبة للعضدين.قال: (وبطنه عن فخذيه). ودليل ذلك: حديث أبي حميد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه ).والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( اعتدلوا في السجود )، ومقتضى الاعتدال في السجود أن يكون الإنسان عدلاً وسطاً, لا يبالغ في الامتداد؛ لأن بعض الناس يمتد ويبالغ في الامتداد، ولا ينقبض، بل يكون الإنسان معتدلاً بحيث إنه يفرج بين بطنه وفخذيه، وبين فخذيه وساقيه، ما يكون منقبضاً بحيث يكون فخذاه على ساقيه، أو يكون بطنه على فخذيه، أو يكون ممتداً، بعض الناس أيضاً يبالغ في الامتداد، فالسنة للإنسان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( اعتدلوا في السجود ).قال المؤلف رحمه الله: [ ويجعل يديه حذو منكبيه ].هذه بالنسبة لصفة اليدين تجعلها حذو منكبيك، هذه صفة.والصفة الثانية: تسجد بين يديك.وهاتان سنتان, كل من هاتين السنتين وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتارة تجعل يديك حذو منكبيك، وتارة تسجد بين يديك، تفعل هذا تارة، وهذا تارة أخرى.قال المؤلف رحمه الله: [ ويكون على أطراف قدميه ].يعني: يسجد على أطراف قدميه، ودليل ذلك: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين ).

الذكر في السجود

قال المؤلف رحمه الله: [ ثم يقول: سبحان ربي الأعلى ].الكلام في قول المؤلف: سبحان ربي الأعلى كالكلام فيما تقدم في قوله في الركوع: سبحان ربي العظيم، وما هو قدر ذلك للإمام, وما هو قدر ذلك للمأموم, وما هو قدر ذلك للمنفرد، هذا تقدم الكلام عليه.قال المؤلف رحمه الله: [ ثلاثاً ].فأصبح بالنسبة لكيفية السجود الكامل المستحب نقول: هناك صفة للعضدين أن يجنح، وبالنسبة للكفين تارة تكون حذو المنكبين، وتارة تكون حذو الأذنين، وبالنسبة للبطن يفرج بين بطنه وفخذيه، وبين فخذيه وساقيه يكون معتدلاً.

هيئة أصابع القدمين والعقبين في السجود

وأيضاً من صفات السجود الكامل أن يثني أصابع قدميه إلى تجاه القبلة, هذا هو السنة؛ لحديث أبي حميد في صحيح البخاري قال: ( فإذا سجد وضع يديه غير مفترش، ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة )، هذا الشاهد، قال: ( واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة ). فالسنة أن الإنسان إذا سجد أن يثني أصابع الرجلين, وتكون تجاه القبلة.بقينا في القدمين، هل يرص العقبين أو لا يرص العقبين؟هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فذهب بعض أهل العلم إلى أن السنة أن يرص عقبيه, يعني: يقارب بين القدمين ويرصهما، واستدلوا على ذلك بحديث عائشة في صحيح مسلم : ( أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم فخرجت تبحث عنه، قالت: فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان )، فكونها تقع اليد على القدمين وهما منصوبتان هذا يظهر منه أن النبي عليه الصلاة والسلام قارب بينهما، هذا الذي يظهر، وإن كان ليس صريحاً في أن النبي عليه الصلاة والسلام رصهما، لكن يفهم من كون اليد وقعت عليهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قارب قدميه، وابن خزيمة بوب في صحيحه قال: باب ما جاء في رص العقبين, واستدل بحديث وائل قال: ( رص النبي عليه الصلاة والسلام عقبيه في السجود )، لكن هذا الحديث ضعيف.وعلى هذا نقول: بالنسبة للقدمين ما عندنا إلا ظاهر حديث عائشة ، يظهر أن الإنسان يقارب بينهما، أما كونه يرص القدمين ليس هناك سنة ظاهرة في هذا، يعني: ليس سنة صريحة في أن النبي عليه الصلاة والسلام رص القدمين في الصلاة، لكن نقول: بأن الإنسان يقارب بين قدميه, كما هو ظاهر حديث عائشة رضي الله تعالى عنها؛ لأن الحديث الذي في صحيح ابن خزيمة في إسناده نظر، وعلى هذا نقول: الإنسان يقارب بين قدميه، أما كونه يرصهما فهذا ليس فيه شيء صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذه بالنسبة لصفة السجود الكامل.

الجلوس بين السجدتين

قال المؤلف رحمه الله: [ ثم يرفع رأسه مكبراً ].يجلس الجلسة بين السجدتين, أيضاً لها كيفيتان:الكيفية الأولى: كيفية مجزئة كيفما جلس، كيفما جلس الإنسان فإن هذا مجزئ.والصفة الثانية: كيفية كاملة، والكيفية الكاملة بينها المؤلف رحمه الله قال: [ ويجلس مفترشاً، فيفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، ويثني أصابعها نحو القبلة ].ودليل ذلك حديث أبي حميد رضي الله تعالى عنه قال: ( ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها ).وأيضاً قالت عائشة في صحيح مسلم : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وينهى عن عقبة الشيطان ).فالسنة الكاملة أن تكون اليسرى مفروشة، ظهرها إلى الأرض، ويجلس على بطنها، وأما بالنسبة للرجل اليمنى فإنه ينصبها، ينصب رجله اليمنى، ويثني أصابعها نحو القبلة، تكون الرجل اليمنى منصوبة، وتكون أصابعها نحو القبلة.قال المؤلف رحمه الله: [ ويقول: ربي اغفر لي ثلاثاً ].وهذا دليله حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس بين السجدتين قال: ربي اغفر لي، ربي اغفر لي )، والكلام في هذا أيضاً كالكلام في الركوع والسجود بالنسبة للذكر؛ لأن كما ذكرنا أن السنة أن تكون الأركان الأربعة: الركوع والرفع والسجود والجلسة بين السجدتين قريبة من السواء.وأيضاً ورد في حديث ابن عباس ( ربي اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني واجبرني ), وفي لفظ: ( وارفعني )... إلى آخره.

النهوض من السجدة الثانية إلى القيام

قال المؤلف رحمه الله: [ ثم يسجد الثانية كالأولى، ثم يرفع رأسه مكبراً، وينهض قائماً, فيصلي الثانية كالأولى ].قول المؤلف رحمه الله: وينهض قائماً يفهم من كلام المؤلف رحمه الله تعالى أنه لا يجلس للاستراحة، وهذا قول جمهور أهل العلم أنه ليس في الصلاة ما يسمى بجلسة الاستراحة, فينهض قائماً، ودليل جمهور أهل العلم: أن أكثر الذين وصفوا صلاة النبي عليه الصلاة والسلام لم يذكروا جلسة الاستراحة.وأيضا الصحابة الذين كانوا يلازمون النبي صلى الله عليه وسلم ويتأسون به ويحرصون على سنته لم يرد أنهم كانوا يفعلون هذه الجلسة، مثل ابن عمر .. ابن مسعود .. ابن عباس .. أبي سعيد .. ابن الزبير ، لم يكونوا يفعلون مثل هذه الجلسة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-21, 03:36 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [8]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(17)

اختلف أهل العلم في سنية جلسة الاستراحة على أقوال، ويستحب الافتراش في الجلوس للتشهد عدا التشهد الأخير فيستحب فيه التورك، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقبه واجبان، ومذهب الإمام أحمد وجوب التسليمتين خلافاً للجمهور الذين أوجبوا الأولى فقط.
تابع صفة الصلاة

جلسة الاستراحة

قال المؤلف رحمه الله: (وينهض قائماً, فيصلي الثانية كالأولى).تكلمنا على ما يتعلق بجلسة الاستراحة، هل جلسة الاستراحة مشروعة أو ليست مشروعة.وذكرنا في ذلك رأيين لأهل العلم رحمهم الله.الرأي الأول: أن جلسة الاستراحة ليست مشروعة، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله.وعند الشافعي تشرع جلسة الاستراحة.وذكرن دليل كل قول، الجمهور قالوا: بأنها لا تشرع, والرأي الثاني رأي الشافعي الذي قال: بأنها تشرع.وذكرنا من أدلة الجمهور أن أكثر الذين وصفوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا هذه الجلسة، وكذلك أيضاً الصحابة رضي الله تعالى عنهم كـابن عمر وابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وأبي سعيد لم يكونوا يجلسون هذه الجلسة، ولو كانت هذه الجلسة مشروعة وكان النبي عليه الصلاة والسلام يفعلها لطبقها هؤلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم.وأما الذين قالوا بأنها مشروعة كـالشافعي رحمه الله فاستدل بورود ذلك في حديث مالك بن الحويرث رضي الله تعالى عنه ( أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض قائماً حتى يستتم قاعداً ).الرأي الثالث في هذه المسألة: أنها تشرع عند الحاجة، فإذا كان الإنسان محتاجاً إلى هذه الجلسة إما لمرض أو تعب أو لكبر سن.. إلى آخره فإنه يفعلها، وأما إذا لم يكن محتاجاً فإنه لا يفعلها، وهذا لعله هو الأقرب؛ لأن مالك بن الحويرث قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، والنبي عليه الصلاة والسلام في آخر حياته أخذه اللحم، ولهذا ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يموت كان يصلي جالساً في الليل، فهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام في آخر حياته كان يلحقه شيء من التعب, فيحتاج إلى أن يجلس، وعلى هذا نقول: إذا احتاج إليها الإنسان فإنه يجلس، وإذا لم يحتج إليها فلا يجلس. وأما محل جلسة الاستراحة فهي بعد تمام الأولى وعند القيام إلى الثانية، يعني: إذا نهض من السجود الثاني في الركعة الأولى، وقبل أن ينهض إلى الركعة الثانية فإنه يجلس للاستراحة, وكذلك أيضاً إذا انتهى من الركعة الثالثة إذا رفع رأسه من السجود في الركعة الثالثة وقبل أن ينهض إلى الرابعة فإنه يجلس للاستراحة، هذا بالنسبة لمحلها. أما بالنسبة لكيفيتها فكيفيتها ككيفية الجلوس للتشهد الأول، يعني: يجلس فيها ككيفية الجلوس في التشهد الأول.وهل لها ذكر أو ليس لها ذكر؟نقول: بأنه لا ذكر لها, وإنما يجلس الإنسان وإذا اطمأن جالساً واستراح شيئاً نهض. وهل يجلسها المأموم إذا كان الإمام لا يجلسها؟يعني: إذا كان الإمام لا يرى جلسة الاستراحة والمأموم يرى جلسة الاستراحة فهل يجلسها أو لا يجلسها؟نقول: إن المأموم إذا كان يرى جلسة الاستراحة والإمام لا يراها فإنه لا يجلسها؛ لأنه إذا جلس فإنه يتأخر عن إمامه، وكما تقدم لنا قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا ركع فاركعوا ).. إلى آخره، لو قلنا: بأنه يشرع لك أن تسجدها لخالفت إمامك, فالإمام يقوم وأنت تجلس، وهذا فيه مخالفة للإمام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه ).أما إذا كان الأمر بالعكس إذا كان الإمام يراها والمأموم لا يراها فنقول: يتابع إمامه، فإذا جلس الإمام للاستراحة جلس.إذا كان الإمام يرى جلسة الاستراحة قد يقول: إن جلست للاستراحة شوشت على الناس، نقول: لا، بإمكان الإمام إذا كان يرى جلسة الاستراحة أن يجلسها ولا يشوش على الناس، فينهض ويجلس، ثم بعد ذلك إذا أراد أن يقوم كبر، والمأمومون في تلك الحال يكونون ساجدين، ينهض الإمام ويجلس فإذا استراح قام مكبراً؛ لأن هذا كله محل للتكبير، ثم بعد ذلك يقوم معه المأموم, ولا يحصل شيء من التشويش.

الجلوس للتشهد الأول

قال المؤلف رحمه الله: [ فإذا فرغ منهما جلس للتشهد مفترشاً ].يعني: إذا فرغ من الركعة الأولى والركعة الثانية جلس للتشهد، وهذا هو التشهد الأول.والجلوس للتشهد الأول له كيفيتان:الكيفية الأولى: كيفية مجزئة.والكيفية الثانية: كيفية مستحبة.أما الكيفية الأولى وهي الكيفية المجزئة فكيفما جلس الإنسان، كيفما جلست للتشهد الأول في الصلاة فإن هذا مجزئ.وأما بالنسبة للكيفية الثانية وهي الكيفية المستحبة فأن تفترش رجلك اليسرى وأن تنصب اليمنى.وأما بالنسبة لليدين فلهما صفتان بالنسبة لكيفيتهما، وبالنسبة لمحل وضعهما، أما بالنسبة لكيفية الرجلين فالسنة أن تكون الرجل اليسرى مفروشة, وذلك بأن يكون ظهرها إلى الأرض، وبطنها يجلس عليه، وأما بالنسبة للرجل اليمنى فالسنة أن تكون منصوبة، وأن يثني أصابع رجله تجاه القبلة، تكون أصابع رجله اليمنى إلى تجاه القبلة, وتكون منصوبة، هذا بالنسبة إلى الرجلين.وأما بالنسبة للكفين لهما حالان: حال يتعلق بمكانهما، وحال يتعلق بكيفيتهما.أما بالنسبة لمكان الكفين ففيه صفتان:الصفة الأولى: أن تجعل اليد اليمنى على الفخذ اليمنى، واليد اليسرى على الفخذ اليسرى، هذه الصفة الأولى.الصفة الثانية: أن تقدم اليد اليمنى حتى تكون على حرف الركبة اليمنى، وأما اليد اليسرى فأنت تجعلها على الركبة اليسرى كأنك قابض لها.أما بالنسبة لكيفية الكفين فأيضاً ورد فيه صفتان:الصفة الأولى: تقبض الخنصر والبنصر وتحلق الإبهام والوسطى، وتشير بالسبابة، السبابة هذه تكون دائماً مشيراً بها، وورد في أبي داود أن الإنسان يحنيها, أي: ينيمها شيء يسيراً، يعني: تقبض الخنصر والبنصر وتحلق الإبهام والوسطى وتشير بالسبابة وتحنيها شيئاً يسيراً، وتحركها عند الدعاء، إذا دعا الإنسان فإنه يحركها، الإشارة تكون دائماً.أما بالنسبة للتحريك فهل يحركها دائماً أو لا يحركها أو يحركها في بعض المواضع؟هذا موضع خلاف بين أهل العلم، بعض أهل العلم يقول: يحركها دائماً ما دام في التشهد، وقال آخرون: لا يحركها، وقال آخرون: يحركها عند لفظ الجلالة، وقال آخرون: يحركها عند الدعاء، وهذا القول هو أصوب الأقوال؛ لما ورد في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم يحركها يدعو بها )، هذا القول هو أصوب الأقوال، وأما ما ورد من أنه يحركها دائماً يعني: ما ورد من إثبات التحريك وما ورد من نفي التحريك فهذا كله الصواب أنه غير ثابت، الذي ثبت في صحيح مسلم : ( أنه يحركها يدعو بها ).وعلى هذا نقول: السنة في هذه الأشياء أنك تقبض الخنصر والبنصر وتحلق الإبهام والوسطى وتشير بالسبابة تحركها عند الدعاء، فإذا قلت: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام - تحركها- عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، اللهم بارك.. أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً.. إلى آخره، تحركها عند الدعاء، هذا هو أصوب الأقوال.وأما كما أشرنا أن بعض أهل العلم انتصر إلى أنك تحركها دائماً، وأثبت زيادة يحركها، وبعضهم انتصر إلى أن الإنسان لا يحركها ويشير بها، وأثبت ما ورد من نفي التحريك، والصواب أن كلاً منهما شاذ, وليس ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي ثبت هو يحركها حال الدعاء فقط، هذه هي الصفة الأولى.الصفة الثانية: تقبض الخنصر والبنصر وأيضاً الوسطى والإبهام وتشير بالسبابة تدعو بها، تحركها عند الدعاء. هذه الصفة الثانية، فتارة تفعل هذه, تارة تقبض على جميع الأصابع، وتارة تحلق.وأيضاً بالنسبة لأماكن اليدين تارة يجعل اليد اليسرى على الركبة اليسرى، واليد اليمنى تجعلها على حرف الركبة اليمنى، وتارة تجعل اليد اليمنى على الفخذ اليمنى، واليد اليسرى على الفخذ اليسرى، فتفعل السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها، تارة تفعل هذه السنة، وتارة هذه السنة؛ لما تقدم لنا من أن القاعدة في السنن الواردة على وجوه متنوعة أن الإنسان يأتي بها تارة هكذا وتارة هكذا، يأتي تارة بهذه السنة، وتارة بهذه السنة.قال المؤلف رحمه الله: ( فإذا فرغ منهما جلس للتشهد مفترشاً ). ودليل ذلك: حديث أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه يقول أبو حميد : ( فإذا جلس في الركعتين جلس على اليسرى ونصب الأخرى )، وفي لفظ: ( فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته ) يعني: أقبل: ثنى أصابع الرجلين إلى جهة القبلة.قال المؤلف رحمه الله: [ ويضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ويده اليمنى على فخذه اليمنى، ويقبض منهما الخنصر والبنصر، ويحلق الإبهام مع الوسطى، ويشير بالسبابة في تشهده مراراً ].وهذه ذكرنا أن الصواب أنه تارة يقبض الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام والوسطى ويشير بالسبابة يحركها عند الدعاء، وتارة يقبض الخنصر والبنصر والوسطى والإبهام، ويشير بالسبابة يحركها عند الدعاء, فيه صفتان واردتان عن النبي صلى الله عليه وسلم.

صيغ التشهد

قال المؤلف رحمه الله: [ ويقول: التحيات لله، والصلوات الطيبات، السلام عليك -إلى آخره- فهذا أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد ].التشهد ورد له صيغ عن النبي عليه الصلاة والسلام.الصيغة الأولى: ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله، وهو تشهد ابن مسعود ، وهذا التشهد وارد في الصحيحين، وصفته: (التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، هذا التشهد يختاره الإمام أحمد رحمه الله تعالى.الصيغة الثانية: تشهد ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهذا وارد في صحيح مسلم , وفيه: ( التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ).. إلى آخره.الصفة الثالثة: تشهد أبي موسى الأشعري : ( التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ).. إلى آخره.الصيغة الرابعة: تشهد عمر رضي الله تعالى عنه: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله، الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته.. إلى آخره.وهناك أيضاً تشهد عائشة ، وتشهد ابن عمر .. إلى آخره.فينبغي أيضاً أن يحفظ طالب العلم شيئاً من هذه التشهدات، تحفظ تشهد ابن مسعود , هذا المشهور الذي ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله، تحفظ تشهد ابن عباس كما في مسلم ، تحفظ تشهد أبي موسى الأشعري أيضاً في مسلم ، تحفظ تشهد عمر .. عائشة .. ابن عمر , إلى آخره، فتفعل هذا التشهد في هذه الصلاة، وهذا التشهد في هذه الصلاة، وهذا في هذه السنة، وهذا في الوتر.. إلى آخره، تطبق كل السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد

قال المؤلف رحمه الله: [ ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ].نذكر هنا -أولاً- مسألة وهي:إذا تشهد التشهد الأول هل يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام أو نقول: بأنه في التشهد الأول يقتصر عليه دون الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام؟هذا موضع خلاف، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن الإنسان إذا تشهد التشهد الأول وانتهى فإنه يقوم, ولا يشرع له أن يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.والرأي الثاني رأي الشافعي رحمه الله: أنه إذا تشهد التشهد الأول فإنه يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام في التشهد الأول قبل أن يقوم إلى الركعة الثالثة، هذا قول الشافعي رحمه الله.والأقرب في ذلك: ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله, وأن الإنسان يقتصر على التشهد الأول. وقد ورد في صحيح ابن خزيمة رحمه الله: ( ثم قام ولم يدع )، فهذا دليل على أن الإنسان يقتصر على التشهد الأول, ولا يزيد عليه الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام هذه تكون في التشهد الثاني.وكذلك أيضاً الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ورد لها عدة صيغ، كما في حديث كعب بن عجرة وحديث أبي مسعود وحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وحديث أبي حميد .. إلى آخره، وسنذكر شيئاً من هذه الصيغ، فنقول: الصيغة الأولى: ما ذكره المؤلف رحمه الله من حديث كعب بن عجرة : (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم, إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم, إنك حميد مجيد).الصيغة الثانية: ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ).فهاتان الصيغتان متقاربتان، فالصيغة الأولى تقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، تقفز كما صليت على إبراهيم، على إبراهيم هذه تقفزها، والصيغة الثانية تضيفها، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، كما صليت على إبراهيم هذه في الصيغة الثانية، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في الصيغة الأولى على إبراهيم ليست موجودة في الصلاة والتبريك.الصيغة الثالثة: صيغة أبي مسعود البدري , وهي مثل الصيغة الأولى، يعني: الفروق بينها يسيرة، مثل الصيغة الأولى إلا أنك تضيف: في العالمين إنك حميد مجيد. تقول: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد). هذه صيغة أبي مسعود البدري .وكذلك أيضاً صيغة أبي حميد : ( اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد )، هذه صيغة أبي حميد في الصحيحين.فمثل هذه الصيغ ينبغي لطالب العلم أن يحفظها كما سبق، ويأتي بهذه الصيغة تارة وتلك تارة أخرى.

التعوذ من أربع بعد التشهد

قال المؤلف رحمه الله: [ ويستحب أن يتعوذ من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ].يستحب إذا انتهى من الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام أن يتعوذ من هذه الأمور الأربعة: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال.واختلف أهل العلم رحمهم الله هل التعوذ من هذه الأمور الأربعة واجب أو مستحب؟للعلماء في ذلك رأيان:الرأي الأول رأي جمهور أهل العلم: أن التعوذ من هذه الأمور الأربعة مستحب، وأنه سنة، وليس واجباً، واستدلوا على ذلك بحديث ابن مسعود في التشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علمه التشهد قال: ( ثم ليتخير من الدعاء أعجبه )، بعد أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله قال: ( ثم ليتخير من الدعاء أعجبه ) يعني: ما يعجبه من الدعاء، فهذا دليل على أن التعوذ من هذه الأربعة ليس واجباً.والرأي الثاني وإليه ذهب طاوس رحمه الله: أن التعوذ من هذه الأربع واجب؛ لما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ). فقوله: ( فليتعوذ بالله من أربع ) هذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب.والصواب في ذلك: رأي جمهور أهل العلم, وأن التعوذ بالله من هذه الأربع سنة, وليس واجباً؛ لأننا ذكرنا حديث ابن مسعود ، حديث ابن مسعود يدل على الاستحباب, قال: ( ثم ليتخير من الدعاء أعجبه )، ( ثم ليتخير من الدعاء ما شاء )، فهذا يدل على أن التعوذ بالله من هذه الأربع ليس واجباً, وإنما هو على سبيل الاستحباب، وهذا القول هو الصواب.

حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير

أيضاً بقينا في الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في التشهد الأخير هل هي واجبة أو ليست واجبة؟من مفردات مذهب الحنابلة أن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في التشهد الأخير ركن، لا بد أن تأتي بها، ويقولون: يكفي من الركن أن تقول: اللهم صل على محمد، يعني: إذا انتهيت من التشهد إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله تقول: اللهم صل على محمد فقط، وتكون قد أتيت بالركن، أما ما عدا ذلك ما بعد ذلك ليس ركناً.وعند جمهور أهل العلم رحمهم الله: أن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ليست واجبة، وإنما هي سنة، ويدل لذلك ما تقدم من حديث ابن مسعود ؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما علمه التشهد قال: ( ثم ليتخير من الدعاء أعجبه )، فقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ثم ليتخير من الدعاء أعجبه ) يدل على أن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ليست واجبة, وإنما هي مستحبة، وأيضاً يدل على أن الاستعاذة بالله من هذه الأربع ليست واجبة, وإنما هي مستحبة.

التسليم

قال المؤلف رحمه الله: [ ثم يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك ].التسليم هذا ركن، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه ليس ركناً، فـأبو حنيفة رحمه الله يرى أن التسليم تحلل من محظور، وأن الإنسان إذا أتى بالتشهد فقد انقضت صلاته، فإن لم يسلم فصلاته صحيحة، يعني: لو أن الإنسان أتى بتشهد ابن مسعود : (التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، تكون قد انتهت الصلاة، إن شاء أن يقوم قام، وإن شاء أن يتكلم تكلم، وإن شاء أن يأكل أكل.. إلى آخره، فالتسليم عنده ليس ركناً، هذا رأي أبي حنيفة , يستحب أن يأتي به.وعند الجمهور أنه ركن, وهو الصواب؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث علي : ( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ).وأيضاً حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يجزئ عن أحدكم أن يقول من على يمينه وشماله: السلام عليكم، السلام عليكم )، قال: ( يجزئ ), فدل على أن التسليم لا بد من الإتيان به للإجزاء، وأن الإنسان إذا لم يأت به لم تجزئ صلاته.وأيضاً النبي عليه الصلاة والسلام واظب عليه في الحضر وفي السفر.فالصواب في ذلك: أن التسليم ركن من أركان الصلاة.والذين قالوا: بأنه ركن اختلفوا هل الركن تسليمة واحدة أو تسليمتان؟فالمشه ور من مذهب الإمام أحمد أنه لا بد من تسليمتين، ما تكفي تسليمة واحدة، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ، في الفرض لا بد أن تسلم تسليمتين، ودليل ذلك ما تقدم من حديث جابر بن سمرة في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( يجزئ عن أحدكم أن يقول من على يمينه وشماله: السلام عليكم، السلام عليكم )، فقال: ( يجزئ من على يمينه وشماله )، فدل على أن الإنسان لكي يحصل له الإجزاء يأتي بالتسليم عن اليمين، والتسليم عن الشمال.والرأي الثاني وهو قول الشافعية والمالكية: أنه تكفي تسليمة واحدة، الركن تسليمة واحدة، وأما التسليمة الثانية فمستحبة، واستدلوا على ذلك بأن النبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الليل ربما اكتفى بتسليمة, كما في حديث عائشة وحديث ابن عمر .والصواب في ذلك: ما ذهب إليه الإمام أحمد , وهو الأحوط، ولم يحفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الفرض أنه اقتصر على تسليمة واحدة، وكذلك أيضاً خلفاؤه من بعده لم يحفظ عنهم أنهم اقتصروا على تسليمة واحدة، مع أنه تقدم لنا حديث جابر بن سمرة : ( يجزئ عن أحدكم أن يقول من على يمينه وشماله ), إلى آخره، فالصواب: أنه لا بد من تسليمتين، هذا هو الصواب في الفرض، وهذا هو الأحوط.أما بالنسبة للنافلة يكفي فيها تسليمة، السنة أن الإنسان يأتي بتسليمتين، لكن لو أنه أتى بتسليمة واحدة في النفل فإن هذا كاف, كما في حديث عائشة : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يفصل بتسليمة يسمعناها )، وأيضاً حديث ابن عمر ، فنقول: إذا سلم الإنسان في النفل تسليمة واحدة فإن هذا كاف, ولا بأس به لو اقتصر على هذه التسليمة.

حكم القراءة بعد الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة

قال المؤلف رحمه الله: [ وإن كانت الصلاة أكثر من ركعتين نهض بعد التشهد الأول كنهوضه من السجود، ثم يصلي ركعتين, لا يقرأ فيهما بعد الفاتحة شيئاً ].قول المؤلف: (ثم يصلي ركعتين لا يقرأ فيهما بعد الفاتحة شيئاً) هذا فيه نظر، والصواب: أنه يستحب للمسلم أن يقرأ في صلاة الظهر خاصة في الركعة الثالثة وفي الركعة الرابعة بعد الفاتحة أحياناً، وحديث أبي قتادة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب ) في الصحيحين، حديث أبي قتادة هذا استدل به المؤلف، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد , أن الإنسان في الركعتين الأخريين لا يقرأ إلا الفاتحة، لكن الصواب أنه يقرأ في الركعتين الأخريين من صلاة الظهر في بعض الأحيان. هذا هو السنة, فالسنة أن تقرأ في بعض الأحيان، ويدل لذلك حديث أبي سعيد في صحيح مسلم : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الركعتين الأخريين على النصف من ذلك )، إذا كان في الركعتين الأخريين كل ركعة على النصف من ذلك كم يكون قرأ النبي عليه الصلاة والسلام في الركعة الثالثة والرابعة؟ يكون قرأ في الركعة الثالثة خمس عشرة آية، وفي الرابعة خمس عشرة آية، والفاتحة سبع، يكون زاد النبي عليه الصلاة والسلام، فالصواب أن نقول: في بعض الأحيان, يعني: عندنا حديث أبي قتادة في الصحيحين: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب )، وعندنا حديث أبي سعيد وفيه: ( قراءة النبي عليه الصلاة والسلام في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الركعتين الأخريين على النصف من ذلك ). فهذا الحديث حديث أبي سعيد في مسلم يدل على أنه يستحب للمصلي أن يقرأ في الركعتين الأخريين من صلاة الظهر أحياناً، ففي بعض الأحيان تقرأ تزيد على الفاتحة، وأغلب الأحيان تترك ذلك، هذا إذا كان الإنسان إماماً أو منفرداً، أما إن كان مأموماً فإنه لا يسكت، فلو أنه قرأ الفاتحة في الركعة الثالثة والإمام حتى الآن لم يركع فإنه يواصل ويقرأ، فالصلاة ليس فيها سكوت، ولهذا في حديث معاوية بن الحكم السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هو التكبير والتسبيح وقراءة القرآن )، فحصر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بهذه الأشياء بالتكبير والتسبيح وقراءة القرآن، فنقول: بأنه لا يسكت.ومثله أيضاً كما تقدم أن الإنسان لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول، هذا إذا كان إماماً أو منفرداً، فإن كان مأموماً فإنه لا يسكت، إذا كان مأموماً انتهى من التشهد الأول والإمام حتى الآن لم ينهض فإنه يواصل ويصلي على النبي عليه الصلاة والسلام, ولا يسكت.

التورك في التشهد الأخير

قال المؤلف رحمه الله: [ فإذا جلس للتشهد الأخير تورك، فنصب رجله اليمنى وفرش اليسرى وأخرجهما عن يمينه ].أيضاً التشهد الأخير يستحب للمصلي أن يتورك فيه، وقد ورد للتورك صفتان:الصفة الأولى: أن تنصب الرجل اليمنى، تكون الرجل منصوبة، وأصابعها تجاه القبلة، وتخرج الرجل اليسرى تحت ساق اليمنى، الرجل اليسرى تكون تحت ساق اليمنى، وتفضي بمقعدتك إلى الأرض، تكون المقعدة على الأرض، والرجل اليمنى تكون منصوبة، وأما الرجل اليسرى تخرجها تحت الساق الأيمن، هذه الصفة الأولى.الصفة الثانية: أنك تخرج الرجل اليمنى والرجل اليسرى من الجانب الأيمن، وتكون كل من الرجل اليمنى والرجل اليسرى مفروشة، يعني: تكون الرجل اليمنى مفروشة، والرجل اليسرى تكون مفروشة، وتخرجهما من الجانب الأيمن، وتفضي بمقعدتك إلى الأرض، هاتان صفتان للتورك.هناك صفة ثالثة أضافها بعض أهل العلم, وهي: أنك تجعل الرجل اليسرى بين ساق اليمنى وفخذ اليمنى، تجعل الرجل اليسرى بين الساق والفخذ، والرجل اليمنى تكون مفروشة، وتخرج الرجل اليسرى بين الساق اليمنى والفخذ اليمنى.هذه الصفة هل هي صفة مستقلة أو هي الصفة الأولى؟يظهر من الأحاديث أن هذه الصفة هي الصفة الأولى؛ لأن إسناد الحديثين واحد، فهذه الصفة ترجع إلى الصفة الأولى, وهي أنه ينصب اليمنى ويخرج اليسرى تحت ساق اليمنى، ويفضي بمقعدته إلى الأرض، فيكون عندنا للتورك صفتان.قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما ].التورك لا يشرع في كل جلوس، بل يكون في التشهد الأخير إذا كان في الصلاة تشهدان.ولنعلم أن الأصل في جلسات الصلاة هو الافتراش, يعني: يفرش رجله اليسرى ويكون ظهرها إلى الأرض، ويجلس على بطنها، وينصب اليمنى، هذا هو الأصل، خرج عن ذلك الأصل التورك كما في حديث أبي حميد .لكن هل التورك مشروع في كل تشهد أو في كل جلوس.هذا موضع خلاف بين الأئمة رحمهم الله، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يتورك في التشهد الأخير بشرط أن يكون في الصلاة تشهدان، مثل صلاة العشاء وصلاة المغرب، المغرب فيها تشهدان، يتورك في الأخير، العشاء فيها تشهدان يتورك في الأخير، الظهر .. العصر, لكن إذا لم يكن فيها إلا تشهد واحد فإنه لا يتورك, مثل صلاة الفجر، مثل السنة الراتبة, ليس فيها إلا تشهد واحد, فهنا لا يتورك, وإنما يفترش.وعند الشافعي رحمه الله: أنه يتورك في كل تشهد أخير، سواء كان في الصلاة تشهد أو كان فيها تشهدان، الشافعي يقول: بأنه يتورك في كل تشهد أخير، هذا رأي الشافعي رحمه الله.الرأي الثالث رأي أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا تورك أصلاً، أبو حنيفة ليس عنده إلا الافتراش، ليس عنده ما يسمى بالتورك.عكس ذلك مالك رحمه الله يقول: يتورك في كل تشهد.والأقرب من هذه الأقوال هو: ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله, وأنه لا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان في التشهد الأخير؛ لحديث أبي حميد لما حكى صلاة النبي عليه الصلاة والسلام حكى التشهد الأول, وأن النبي عليه الصلاة والسلام افترش فيه، ثم حكى التشهد الثاني, وأن النبي عليه الصلاة والسلام تورك فيه، حديث أبي حميد يدل لما ذهب إليه المؤلف, وهو مذهب الإمام أحمد , أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أتى التشهد الأول افترش، ولما أتى التشهد الثاني تورك. فدل ذلك على أن التورك إنما هو مشروع في صلاة فيها تشهدان في التشهد الأخير منهما.

صيغ التسليم

أيضاً قول المؤلف رحمه الله قبل ذلك: [ ثم يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله ].هذه الصيغة وردت من حديث ابن مسعود في السنن: ( السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله ).والصيغة الثانية في النسائي من حديث ابن عمر يقول: ( السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ).ورد أيضاً من حديث وائل بن حجر : ( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته )، لكن زيادة (وبركاته) في هذه الصيغة شاذة لا تثبت، فأصبح عندنا صيغتان: الصيغة الأولى: حديث ابن مسعود المشهور: ( السلام عليكم ورحمة الله ).والصيغة الثانية: ( السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ).أما زيادة وبركاته سواء كانت في التسليمتين أو في التسليمة الأولى فشاذة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.وكذلك أيضاً يكون ابتداء التسليم مع ابتداء الالتفات، هذا هو السنة، وبعض الناس يسلم وهو مستقبل القبلة, وهذا قال به بعض الحنابلة وبعض الشافعية, لكن الظاهر من السنة أن الإنسان يبتدئ التسليم مع ابتداء الالتفات، هذا هو الظاهر من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

الأذكار بعد السلام

قال المؤلف رحمه الله: [ فإذا سلم استغفر الله ثلاثاً، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام! ].إذا سلم الإنسان فإنه يستغفر.واعلم أن الصلاة لها ثلاث جوابر:الجابر الأول: الذكر بعد الصلاة، ومنه الاستغفار.والجا ر الثاني: سجود السهو.والجابر الثالث: التطوعات والنوافل.فينبغي للمسلم أن يحافظ على هؤلاء الجوابر؛ لأن صلاته يعتريها شيء من الخلل والنقص والسهو والغفلة.. إلى آخره.إذا انتهى الإنسان من الصلاة يقول المؤلف رحمه الله: يستغفر ثلاثاً، أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام! كما ورد ذلك في حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم .بعض الناس إذا انتهى من الصلاة قال: أستغفر الله العظيم التواب الكريم الجليل، هذا خلاف السنة، هذا لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل الصفة الواردة أن يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ثم تقول بعد ذلك: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام!بقي جملة أذكار نذكرها في الدرس القادم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-21, 03:47 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [9]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(18)


تشتمل الصلاة على أركان وواجبات وسنن، أما الأركان فمثل: تكبيرة الإحرام، والفاتحة والركوع والسجود والرفع منهما، والواجبات مثل: تكبيرات الانتقال والتسبيح في الركوع والسجود، والسنن ما عداها.

تابع الأذكار بعد السلام

تقدم لنا الذكر الأول: الاستغفار، وذلك بأن يقول إذا انتهى من صلاته: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام! هكذا هي الصفة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما قول بعض الناس إذا انتهى من صلاته: أستغفر الله العظيم التواب الكريم.. إلى آخره فهذه الصفة لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم.ولا شك أن الأذكار توقيفية، فيتوقف فيها المسلم مع النص الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.وبعد الاستغفار يهلل فيقول: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد )، فهذا وارد من حديث المغيرة ، وكذلك أيضاً من حديث معاوية .والتسبيح ورد له أربع صفات:الصفة الأولى: أن يسبح ويحمد ويكبر ثلاثاً وثلاثين، فيقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، يسبح ويحمد ويكبر ثلاثاً وثلاثين، ثم يقول في تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، هذه هي الصفة الأولى أن يسبح ويحمد ويكبر ثلاثاً وثلاثين, فهذه تسعة وتسعون، ثم يقول في تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.الصفة الثانية: أن يسبح ثلاثاً وثلاثين, فيقول: سبحان الله، سبحان الله إلى آخره ثلاثاً وثلاثين، وأن يحمد ثلاثاً وثلاثين، وأن يكبر أربعاً وثلاثين تكبيرة، فهذه مائة، فيقول: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، ثم يقول: الحمد لله ثلاثاً وثلاثين، ثم يقول: الله أكبر أربعاً وثلاثين.الصفة الثالثة: أن يسبح ويحمد ويكبر ويهلل خمساً وعشرين مرة، فيقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، يقول ذلك خمساً وعشرين مرة، فهذه مائة.الصفة الرابعة: أن يسبح عشراً، ويحمد عشراً، ويكبر عشراً، أن يحمد عشراً يقول: سبحان الله، سبحان الله.. عشر مرات، ويقول: الحمد لله، الحمد لله.. إلى آخره عشر مرات، ويقول: الله أكبر الله أكبر.. إلى آخره عشر مرات.فهذه أربع صفات كلها واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما تقدم لنا في مثل هذه الصفات أنه يستحب أن يفعل هذه تارة وهذه تارة.. إلى آخره؛ لكي يأتي بالسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها.ثم بعد ذلك يقرأ آية الكرسي.. إلى آخره مما يشرع دبر الصلاة.قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإذا سلم استغفر ثلاثاً وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام ].وهذا دليله حديث ثوبان قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته قال ذلك )، قال الأوزاعي رحمه الله: يقول: أستغفر الله، أستغفر الله.. إلى آخره كما سبق بيانه.
أركان الصلاة

معنى الركن والفرق بينه وبين الشرط

قال المؤلف رحمه الله: [ باب أركان الصلاة وواجباتها: أركانها اثنا عشر ].الأركان جمع ركن، والركن هو جانب الشيء الأقوى، وهو جزء الماهية.والفرق بين الركن وبين الشرط من وجوه:الوجه الأول: أن شروط الصلاة قبلها, وأما أركان الصلاة فهي في نفس العبادة، فشروط الصلاة من الوضوء واستقبال القبلة وستر العورة إلى آخره هذه قبل الدخول في الصلاة، وأما بالنسبة لأركان الصلاة فهي في نفس العبادة.الفرق الثاني: أن الشرط لا بد من استمراره من أول الصلاة إلى آخرها، فلا بد أن يكون الإنسان متطهراً من أول الصلاة إلى آخر الصلاة، ولا بد أن يستقبل من أول الصلاة إلى آخرها، وأما بالنسبة للركن فهو ينتقل من ركن إلى آخر.الوجه الثالث: أن ركن الصلاة لا يسقط، فلا بد أن يأتي به الإنسان، فهو لا يسقط لا في العمد ولا في السهو إلا مع العجز، فقد لا يتمكن الإنسان من القيام فيسقط عنه ركن القيام إلى الجلوس، أما بالنسبة للشرط فقد يسقط مع السهو، فمثلاً اجتناب الخبث هذا يقول العلماء رحمهم الله: بأنه من شروط صحة الصلاة كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ومع ذلك لو أن الإنسان نسي وصلى وعلى ثوبه نجاسة أو بدنه أو بقعته فإن صلاته صحيحة.

القيام مع القدرة

قال المؤلف رحمه الله: [القيام مع القدرة ].هذا الركن الأول من أركان الصلاة: القيام، ودليل ذلك قول الله عز وجل: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238].وأيضاً من الأدلة على ذلك: حديث عمران في صحيح البخاري لما شكى للنبي صلى الله عليه وسلم أن به بواسير قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب ).وأيضاً حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر ).. إلى آخره.وقول المؤلف رحمه الله: (مع القدرة). يعني: يسقط القيام مع العجز, أي أنه إذا كان الإنسان لا يتمكن من القيام فإنه يسقط عنه، وكذلك أيضاً إذا كان يلحقه مشقة ظاهرة بحيث إنه يود أن لو ركع أو جلس, فهنا نقول أيضاً: يسقط عنه القيام، يعني: إذا كان الإنسان يجد حرجاً إذا قام يحصل له حرج وثقل ومشقة بحيث يود أنه لو ركع أو جلس فنقول هنا في حال المشقة الظاهرة: له أن يجلس.وكذلك أيضاً في حال الضرورة كما لو خاف على نفسه من عدو إذا قام فإنه يسقط عنه القيام.وهذا الركن القيام هذا بالنسبة للفرض، أما بالنسبة للنفل فإنه لا بأس أن يصلي الإنسان جالساً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة المضطجع على النصف من صلاة القاعد ).ما هو قدر القيام المجزئ؟قدر القيام المجزئ هو قدر تكبيرة الإحرام، فلا بد للإنسان أن يقوم قدر تكبيرة الإحرام؛ لأن تكبيرة الإحرام ركن وقراءة الفاتحة؛ لحديث عبادة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ).

تكبيرة الإحرام

قال المؤلف رحمه الله: [ وتكبيرة الإحرام ].هذا الركن الثاني من أركان الصلاة، ويدل لذلك حديث علي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تحريمها التكبير )، وهذا إسناده حسن.وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر )، فلا بد من تكبيرة الإحرام.

قراءة الفاتحة

قال المؤلف رحمه الله: [ وقراءة الفاتحة ].ودليل ذلك: حديث عبادة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمن لم يقر بفاتحة الكتاب ).وتقدم لنا أن المصلي لا يخلو من ثلاث حالات:الحالة الأولى والثانية: أن يكون منفرداً أو إماماً، فإذا كان منفرداً أو إماماً فهذا لا بد أن يقرأ الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: ( ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ) لما علمه النبي عليه الصلاة والسلام.الحالة الثالثة: أن يكون مأموماً، وقد تقدم أنه يجب عليه أن يقرأ فيما يسر به الإمام، فمثلاً صلاة الظهر وصلاة العصر والركعة الثالثة من المغرب والركعتان الأخيرتان من صلاة العشاء يجب على المأموم أن يقرأ.لكن فيما يجهر به الإمام هل يجب عليه أن يقرأ أو لا يجب عليه أن يقرأ؟تقدم أن أشرنا إلى الخلاف في هذه المسألة، وذكرنا أن الأقرب -والله أعلم- أنه لا يجب عليه أن يقرأ فيما يجهر به الإمام، وأن الإمام يتحمل عنه، لكن لو قرأ فهذا أحوط.

الركوع والرفع منه

قال المؤلف رحمه الله: [ والركوع ].هذا الركن الرابع الركوع، ودليل ذلك: قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77].وأيضاً حديث أبي هريرة , وفيه قول النبي عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: ( ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ).والإجماع أيضاً قائم على ذلك.قال المؤلف رحمه الله: [ والرفع منه ].وهذا قول جمهور أهل العلم أن الرفع من الركوع ركن، ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: ( ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ), وفي لفظ: ( حتى تطمئن قائماً ).وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تجزئ صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود ). وهذا قول جمهور أهل العلم أن الرفع من الركوع ركن من أركان الصلاة.وعند الحنفية أنه سنة, وليس ركناً؛ لأن الله عز وجل لم يذكره في قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، وهم يقولون: بأنه سنة؛ ولذلك تلحظ الآن الذين يتبعون مذهب الحنفية أنهم لا يطمئنون، تجد أنه إذا رفع من الركوع يهوي مباشرة؛ لأنهم يرون أن الرفع هذا سنة، ولذلك تلحظ بعض الإخوة الوافدين من المشرق إذا قام من الركوع يهوي بسرعة, ولا يعتدل قائماً؛ لأن الحنفية رحمهم الله يرون أن الرفع من الركوع سنة، وهذا فيه نظر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال للمسيء صلاته: ( ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ).وأيضاً البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه ذكر في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان ركوعه فرفعه فسجوده فجلسته بين السجدتين قريباً من السواء )، هذه الأشياء متساوية، هكذا السنة.

السجود والجلوس عنه

قال المؤلف رحمه الله: [ والسجود ].أيضاً الإجماع قائم على أن السجود ركن من أركان الصلاة؛ لقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77].وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: ( ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ).وأيضاً محافظة النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك.قال المؤلف رحمه الله: [ والجلوس عنه ].الخلاف في هذا الركن كالخلاف في ركن الرفع من الركوع، فالجمهور يرون أن الجلسة بين السجدتين ركن من أركان الصلاة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال للمسيء صلاته: ( ثم ارفع حتى تعتدل جالساً )، وفي لفظ: ( حتى تطمئن جالساً ).وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تجزئ صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود ).وعند الحنفية أن الجلسة من السجدتين سنة, وليست واجبة، يكفي أن الإنسان لكي يفصل بين السجدتين أن يرفع رأسه ثم ينزل مرة أخرى، يعني: على مذهب أبي حنيفة رحمه الله القدر المجزئ أن يرفع رأسه ثم يسجد مرة أخرى، أما كونه يجلس بين السجدتين قالوا: بأن هذا ليس واجباً، وليس ركناً وهذا فيه نظر.وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن أمراء بني أمية رحمهم الله تصرفوا في الصلاة، ومن تصرفاتهم في الصلاة أنهم خففوا الرفع بعد الركوع، والرفع بعد السجود، وهذا خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فسنة النبي عليه الصلاة والسلام أن الركوع والرفع منه والسجود والجلسة بين السجدتين هذه الأشياء قريب من السواء، يفعلها الإنسان، وقد تقدم لنا أن قدر الركوع عشر تسبيحات، قدر السجود عشر تسبيحات، وعلى هذا يرفع بمقدار عشر تسبيحات، ويجلس بمقدار عشر تسبيحات.

الطمأنينة في الأركان

قال المؤلف رحمه الله: [ والطمأنينة في هذه الأركان ].أيضاً هذا ركن من أركان الصلاة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: ( ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ).. إلى آخره.وما هو قدر الطمأنينة؟قال بعض العلماء: قدر الطمأنينة السكون وإن قل.وقال آخرون: قدر الطمأنينة أن يركع أو يسجد بقدر الذكر الواجب، يعني القول الثاني: أن قدر الطمأنينة قدر الذكر الواجب، وهذا القول هو الأقرب، وعلى هذا إذا ركع الإنسان فيجب عليه أن يطمئن بقدر قول سبحان ربي العظيم تسبيحة واحدة؛ لأن الذكر الواجب في الركوع قول: سبحان ربي العظيم، وإذا سجد يجب عليه أن يطمئن بقدر قول: سبحان ربي الأعلى، وإذا جلس بين السجدتين يجب عليه أن يطمئن بقدر قول: ربي اغفر لي، وأما السنة فأن يزيد إلى عشر, هذا إذا كان إماماً يزيد إلى عشر، وأما بالنسبة للمأموم فهو تبع للإمام، وأما بالنسبة للمنفرد فهو أمير نفسه كما سبق, فإن شاء أن يطول طول، وإن شاء أن يقصر قصر.

التشهد الأخير والجلوس له

قال المؤلف رحمه الله: [ والتشهد الأخير ].التشهد الأخير هذا ركن من أركان الصلاة، ودليل ذلك: حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: ( كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد )، فقوله: ( كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد ) هذا دليل على أن التشهد فرض.والتشهد الأخير هو كما تقدم: التحيات لله، والصلوات.. إلى قول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.قال المؤلف رحمه الله: [ والجلوس له ].أي للتشهد الأخير، هذا ركن، وعلى هذا لو أن الإنسان قال هذا التشهد في الصلاة وهو قائم فإن ذلك لا يجزئه؛ لأن هذا خلاف هدي النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتشهد وهو جالس.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد

لم يذكر المؤلف رحمه الله الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، فظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ليست ركناً، وهذا خلاف المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، فإنهم يرون أن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ركن من أركان الصلاة، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.وتقدم لنا أن أشرنا إلى الخلاف في هذه المسألة، وأن الصواب في هذه المسألة: أن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ليست ركناً، إن أتى بها الإنسان هذا هو الأحسن, هذا هو السنة، وإن لم يأت بها الإنسان فإن صلاته صحيحة.والدليل على أنها ليست ركناً: حديث ابن مسعود لما ذكر التشهد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ثم ليتخير من الدعاء ما شاء ), فهذا يدل على أن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ليست ركناً، وهذا قول جمهور أهل العلم، وهو الصواب في هذه المسألة.

التسليمتان

قال المؤلف رحمه الله: [ والتسليمة الأولى ].هذا أيضاً خلاف المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، فإن المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن التسليمتين كل منهما ركن في الفرض، في الفرض لا بد أن يسلم تسليمتين، وهذا القول هو الصواب خلافاً لما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله.الحنفية أصلاً لا يرون التسليم واجباً، فهم يقولون: إذا جلس الإنسان بقدر التشهد فله أن يقوم، وله أن يتكلم، وله أن يأكل، ولا يجب عليه أن يسلم.الرأي الثاني رأي الشافعية والمالكية: أن الواجب تسليمة واحدة فقط.والرأي الثالث مذهب أحمد رحمه الله: أن الواجب تسليمتان في الفرض، وهذا القول هو الصواب؛ لحديث جابر بن سمرة في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يجزئ من أحدكم أن يقول على يمينه وشماله: السلام عليكم .. السلام عليكم ). فقال: ( يجزئ )، وما دون الإجزاء لا تقع به الكفاية، فلا بد لكي يحصل الإجزاء من أن يقول على يمينه وعلى شماله، فدل ذلك على أن كلاً من التسليمتين واجبة، وأنه لا بد أن يأتي بهما، فهذا هو الصواب في هذه المسألة.وأيضاً لم يعهد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه اقتصر على تسليمة واحدة في الفرض أبداً، بل هدي النبي عليه الصلاة والسلام في الحضر وفي السفر وفي القرى وفي البوادي والأمصار أنه يسلم تسليمتين، ولم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على تسليمة واحدة إلا في صلاة الليل، صلاة الليل اقتصر النبي عليه الصلاة والسلام على تسليمة واحدة كما في حديث عائشة وحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فنقول: النفل لا بأس أن الإنسان يسلم تسليمة واحدة.

ترتيب الأركان

قال المؤلف رحمه الله: [ وترتيبها على ما ذكرناه ].أيضاً لا بد أن يرتب، فلو أنه سجد قبل أن يركع أو ركع قبل أن يقرأ الفاتحة.. إلى آخره نقول: لا يصح؛ لأن هذا خلاف ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً خلاف أمره وخلاف فعله، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال للمسي: ( ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع، ثم اسجد، ثم اجلس ), وهذا أمر، وأيضاً خلاف فعل النبي عليه الصلاة والسلام.وتقدم أن أشرنا إلى قاعدة, وهي أن كل عبادة مركبة من أجزاء لا بد فيها من أمرين:الأمر الأول: الترتيب بين أجزائها، وإلا لم تكن وفق السنة.والأمر الثاني: الموالاة بين أجزائها، وإلا لم تكن وفق السنة. قال رحمه الله: [ فهذه الأركان لا تتم الصلاة إلا بها ].

واجبات الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: [ وواجباتها سبعة: التكبير غير تكبيرة الإحرام، والتسبيح في الركوع والسجود مرة مرة، والتسميع ].. إلى آخره.هذه الواجبات انفرد الحنابلة رحمهم الله بذكرها، أما جمهور أهل العلم فلا يرون أنها من واجبات الصلاة, فهذا من مفردات مذهب الحنابلة، ما يتعلق بتكبيرات الانتقال وتسبيحات الركوع وتسبيحات السجود .. التسميع .. التحميد .. قول: ربي اغفر لي .. التشهد الأول .. الجلوس له، هذه ثمان واجبات انفرد الحنابلة رحمهم الله بكونها من واجبات الصلاة.

الخلاف في واجبات الصلاة

كان ما سبق هو مذهب الحنابلة، أما جمهور أهل العلم فلا يرون أنها من الواجبات، فمثلاً على رأي الجمهور: لو لم تقل: سبحان ربي العظيم في الركوع عمداً فصلاتك صحيحة، لكن عند الحنابلة إن تركت ذلك عمداً فصلاتك باطلة، وإن تركته سهواً فإنك تجبر ذلك بسجود السهو.ولكل منهما دليل، نأخذ الأدلة على سبيل الاختصار.المشهو من مذهب الإمام أحمد كما قلنا هذه الثمانية: تكبيرات الانتقال وتسبيحات الركوع وتسبيحات السجود وقول: ربي اغفر لي بين السجدتين .. التشهد الأول .. الجلوس له .. التسميع .. التحميد، ثمان واجبات، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، أما أكثر أهل العلم فلا يرون أنها من واجبات الصلاة.الحنابلة استدلوا بأدلة, من هذه الأدلة أنه ورد الأمر ببعضها، والأصل في الأمر الوجوب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة وحديث أبي هريرة في الصحيح قال: ( إذا كبر فكبروا )، قوله: (فكبروا) أمر، والأمر يقتضي الوجوب.وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد ), هذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.وأيضاً من الأدلة: حديث ابن مسعود : ( كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد )، فدل على أن التشهد فرض، لكن لم نقل: بأن التشهد الأول ركن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما قام عنه جبره بسجود السهو، لو كان ركناً ما تركه النبي عليه الصلاة والسلام, الركن لا بد أن تأتي به كما سيأتينا في باب سجود السهو إن شاء الله، فنقول: كون النبي عليه الصلاة والسلام تركه وجبره بسجود السهو هذا يدل على أنه واجب, وليس ركناً، وعلى هذا يكون قول ابن مسعود : ( كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد )، قوله: ( قبل أن يفرض علينا التشهد ) فيما يتعلق بالتشهد الأول أنه واجب؛ لوجود الصارف، وأما ما يتعلق بالتشهد الأخير فهو ركن؛ لعدم وجود الصارف.وأيضاً من الأدلة التي ذكرها الحنابلة رحمهم الله: لو قلنا: بأن هذه الأركان ليست واجبة لأدى ذلك إلى أن تخلو هذه الأركان من الذكر، والنبي عليه الصلاة والسلام في حديث معاوية بن الحكم في صحيح مسلم قال: ( إن صلاتنا هذا لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هو التكبير والتسبيح وقراءة القرآن )، فحصر النبي عليه الصلاة والسلام هذه الصلاة بالتسبيح والتكبير وقراءة القرآن.كما أنه أيضاً ورد في حديث عقبة بن عامر وإن كان فيه ضعف: ( لما نزل قول الله عز وجل: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74] قال النبي عليه الصلاة والسلام: اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] قال النبي عليه الصلاة والسلام: اجعلوها في سجودكم ), فهذا أمر.أما بالنسبة للجمهور فيستدلون بأن هذه الأشياء ليست واجبة بأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعلمها المسيء صلاته.وهذا يجاب عنه من وجهين:الوجه الأول: عدم التسليم، فقد ورد في أبي داود ما يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام علمه بعض الواجبات.والجوا الثاني: أن يقال: بأن النبي عليه الصلاة والسلام إنما علمه الشيء الذي أخل به.قال المؤلف رحمه الله: [ والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ].كلام المؤلف رحمه الله على أن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في التشهد الأخير من واجبات الصلاة، وهذا ما ذهب إليه المؤلف، وتقدم أن المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنها ركن، وأن الجمهور على أنها سنة، وذكرنا أن الأقرب أنها سنة؛ لما تقدم من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.

الفرق بين الركن والواجب

قال المؤلف رحمه الله: [ فهذه إن تركها عمداً بطلت صلاته، وإن تركها سهواً سجد لها ].هذا الفرق بين الركن والواجب، الركن لا يسقط لا في العمد ولا في السهو، وأما الواجب فإنه يسقط بالسهو، لا يسقط بالعمد إذا تركها عمداً لم تصح صلاته، وأما بالنسبة للسهو إذا تركها سهواً فنقول: بأن صلاته صحيحة، لكن يجبر ذلك بسجود السهو، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام لما قام عن التشهد الأول جبره النبي عليه الصلاة والسلام بسجود السهو، وكما في حديث عبد الله بن بحينة رضي الله تعالى عنه, وسيأتي إن شاء الله.

سنن الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: [ وما عدا هذه فسنن, لا تبطل الصلاة بعمدها، ولا يجب السجود لسهوها ].ما عدا هذه الأشياء التي ذكر المؤلف رحمه الله يقول: بأنها سنن، لا تبطل الصلاة بتركها عمداً، ولا بتركها سهواً، لو ترك السنة مثل ترك الاستفتاح: اللهم باعد بيني وبين خطاياي أو ترك الاستعاذة أو البسملة فنقول: بأن صلاته صحيحة.وقال المؤلف: (ولا يجب السجود لسهوها), لا يجب، لكن هل يستحب أو لا يستحب؟ نقول: ترك السنة لا يجب السجود لسهوه، لكن هل يستحب ذلك أو لا يستحب؟نقول: إن كان من عادته أنه يأتي بهذه السنة فيستحب السجود، وإن كان من عادته أنه لا يأتي بهذه السنة بل تارة يأتي بها وتارة لا يأتي بها فإنه لا يستحب السجود، هذا هو الصواب.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-21, 03:59 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [10]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(19)


أسباب السهو في الصلاة ثلاثة: الزيادة والنقص والشك، ولكل من هذه الثلاثة الأسباب أقسام، واختلف أهل العلم في موضع السجود، ومذهب أحمد التخيير بين قبل السلام وبعده، وإذا سها الإمام فالتسبيح للرجال والتصفيق للنساء.

سجود السهو
قال المؤلف رحمه الله: [ باب سجدتي السهو ].ذكرنا سابقاً الجابر الأول للصلاة وأشار المؤلف رحمه الله إليه وهو الأذكار، والآن شرع المؤلف رحمه الله في الجابر الثاني من جوابر الصلاة, وهو سجود السهو، وهذا من رحمة الله عز وجل؛ لكي يأتي المسلم بهذه الفريضة العظيمة يوم القيامة تامة كاملة.قال: (باب سجدتي السهو).قوله: باب مضاف، وسجدتي مضاف إليه، وسجدتي مضاف, والسهو مضاف إليه، وهذه الإضافة من باب إضافة الشيء إلى سببه، يعني: السجود الذي سببه السهو.قال المؤلف رحمه الله: [ والسهو على ثلاثة اضرب ].السهو والنسيان والغفلة قال بعض العلماء: بأنها ألفاظ مترادفة, يجمعها أنها ذهول القلب عن معلوم.والأصل في سجود السهو قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن مسعود : ( إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين ). وهذا أخرجه البخاري ومسلم . ‏ واعلم أن أسباب سجود السهو ثلاثة كما سيأتينا إن شاء الله:السبب الأول: الزيادة.والسبب الثاني: النقص.والسبب الثالث: الشك.وسيأتي بإذن الله أحكام كل سبب من هذه الأسباب.

ضابط الصلاة التي يشرع فيها سجود السهود
قبل أن ندخل في أحكام سجود السهو نبين ضابط الصلاة التي يشرع فيها سجود السهو، ما هو ضابط الصلاة التي يشرع فيها سجود السهو؟نقول: ضابط الصلاة التي يشرع فيها سجود السهو كل صلاة ذات ركوع وسجود، ضابطها: كل صلاة ذات ركوع وسجود، فدخل عندنا الفرائض والنوافل، وخرج عندنا ما لا ركوع فيه ولا سجود, مثل صلاة الجنازة، فلو أن الإنسان سها في صلاة الجنازة فإن سجود السهو غير مشروع فيها.وكذلك أيضاً سجود التلاوة، لو أنه سها في سجود التلاوة، بدلاً من أن يسجد سجدة واحدة سجد سجدتين، أو سها في سجود الشكر، أو سها في سجود السهو، نقول: لا يشرع سجود السهو، لا يشرع سجود السهو إلا في صلاة ذات ركوع وسجود، فيدخل عندنا الفرائض والنوافل، الصلوات الخمس والجمعة والسنن الرواتب والوتر وصلاة العيدين وصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء.

الضرب الأول: الزيادة في الصلاة
قال المؤلف رحمه الله: [ والسهو على ثلاثة أضرب، أحدها: زيادة ].شرع المؤلف رحمه الله في السبب الأول من أسباب سجود السهو, وهو الزيادة، واعلم أن الزيادة تنقسم إلى قسمين:القسم الأول: زيادة أفعال.والقسم الثاني: زيادة أقوال.الأفعال أيضاً تنقسم إلى قسمين:أفعال من جنس الصلاة, هذه هي التي يسجد لها.أفعال ليست من جنس الصلاة هذه لا يسجد لها.فمثال الأفعال التي من جنس الصلاة: مثلاً لو زاد قياماً.. زاد جلوساً.. زاد ركوعاً.. زاد سجوداً.. إلى آخره، هذه أفعال من جنس الصلاة تسجد للسهو، أما العمد فهذا يبطل الصلاة، لكن السهو هذا يشرع له سجود السهو، فمثلاً لو ركع ركوعين أو سجد ثلاث مرات أو بدلاً من أن يقوم جلس أو بدلاً من أن يجلس قام، هذه أفعال من جنس الصلاة نقول: يشرع لها سجود السهو.ومثال الأفعال التي ليست من جنس الصلاة: الأكل، والشرب، والمشي، والتقدم، والتأخر، هذه الأشياء لا يشرع لها سجود السهو، لكن منها ما يبطل الصلاة ومنها ما لا يبطل الصلاة كما سيأتي إن شاء الله بيانها.المهم أن ننبه إلى أن زيادة الفعل تنقسم إلى قسمين:القسم الأول: أفعال من جنس الصلاة, هذه هي التي يشرع لها سجود السهو.والقسم الثاني: أفعال ليست من جنس الصلاة، فهذه لا يشرع لها سجود السهو.

الزيادة في الأفعال
قال المؤلف: [ أحدها: زيادة فعل من جنس الصلاة كركعة أو ركن، فتبطل الصلاة بعمده، ويسجد لسهوه، وإن ذكر وهو في الركعة الزائدة جلس في الحال، وإن سلم عن نقص ].. إلى آخره.القسم الأول من زيادة الأفعال: أفعال من جنس الصلاة، وضرب المؤلف رحمه الله مثالاً: لو زاد ركعة، قام إلى خامسة وأتى بها, فنقول: إذا أتى الإنسان بركعة فإن ذكر في أثناء الركعة الزائدة أن هذه زائدة فإنه يجب عليه أن يجلس في الحال، ولو شرع في القراءة، حتى مثلاً إذا قام إلى خامسة أو قام إلى رابعة في ثلاثية أو ثالثة في ثنائية فإنه حتى ولو شرع في القراءة يجب عليه أن يجلس في الحال, ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو بعد السلام كما سيأتينا إن شاء الله، الركعة هذه من جنس الصلاة.أو ركن، ركن مثلاً زاد قعوداً أو زاد قياماً .. زاد ركوعاً.. زاد سجوداً, إلى آخره، هذا يقول المؤلف رحمه الله: فتبطل الصلاة بعمده، ويسجد لسهوه.متى يكون سجود السهو واجباً؟ ومتى يكون غير واجب؟نقول: الضابط في ذلك: كل شيء عمده يبطل الصلاة فسهوه يوجب السجود، هذا هو الضابط.متى يجب سجود السهو؟ ومتى لا يجب؟نقول: كل شيء عمده يبطل الصلاة فسهوه يوجب السجود، مثلاً: لو أن الإنسان بدلاً من أن يركع ركوعاً واحداً ركع ركوعين، الركوع الثاني عمده هذا يبطل الصلاة، لو تعمد الإنسان وركع ركوعين بطلت صلاته، فسهوه يوجب السجود.أيضاً لو أن الإنسان بدلاً من أن يجلس للتشهد الأخير قام، هذا القيام عمده يبطل الصلاة، فنقول: بأن سهوه يوجب السجود.مثال ثالث: ترك قول: سبحان ربي العظيم عمداً يبطل الصلاة عند الحنابلة، فسهوه يوجب السجود.وكذلك أيضاً لو ترك قول: سبحان ربي الأعلى عند الحنابلة متعمداً فعمده هذا يبطل الصلاة، فسهوه يوجب السجود، وعلى هذا فقس.ترك قول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك.. إلى آخره، عمده لا يبطل الصلاة، فسهوه لا يوجب السجود، وعلى هذا فقس. قال المؤلف رحمه الله: [ وإن ذكر وهو في الركعة الزائدة جلس في الحال، وإن سلم عن نقص في صلاته أتى بما بقي عليه منها ثم سجد ].هذه في زيادة الأقوال, لكن أدخلها المؤلف رحمه الله، إذا سلم الإنسان عن نقص في صلاته أتى بما بقي عليه منها ثم سجد بشرط ألا يطول الفصل، فمثلاً بدلاً من أن يصلي العشاء أربع ركعات صلى ركعتين، ثم سلم، فإن طال الفصل وجب عليه أن يعيد الصلاة من أولها، وإن يعني: ذكر بعد دقيقة .. دقيقتين .. ثلاث .. أربع .. خمس هنا الآن ما طال الفصل، فنقول: يأتي بما نقص ويسجد للسهو كما سيأتينا إن شاء الله، وموضع سجوده كما سيأتي إن شاء الله بعد السلام.ودليل ذلك: حديث أبي هريرة في الصحيحين في قصة ذي اليدين ، ( فإن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بهم إحدى صلاتي العشي، فسلم النبي عليه الصلاة والسلام عن ركعتين، فذكره ذو اليدين , فرجع النبي عليه الصلاة والسلام وأتى بالركعتين ). قال المؤلف رحمه الله: [ ولو فعل ما ليس من جنس الصلاة لاستوى عمده وسهوه، فإن كان كثيراً أبطلها، وإن كان يسيراً كفعل النبي صلى الله عليه وسلم في حمله أمامة ، وفتح الباب لـعائشة فلا بأس ].نحن ذكرنا أن زيادة الأفعال إما أن تكون من جنس الصلاة، أو تكون من غير جنس الصلاة، فإن كانت من جنس الصلاة يسجد سجود السهو، يعني: إذا أتى بفعل من جنس الصلاة سهواً سجد له.وإن كان من غير جنس الصلاة هذا لا يشرع سجود السهو، من غير جنس الصلاة مثل الأكل، مثل الشرب، مثل لبس الثوب، تقدم .. تأخر .. فتح الباب.. إلى آخره، هذه الأفعال ليست من جنس الصلاة، ما حكمه؟يقول المؤلف رحمه الله: لاستوى عمده وسهوه، فإن كان كثيراً أبطلها، وإن كان يسيراً كفعل النبي صلى الله عليه وسلم في حمل أمامة .. إلى آخره.المؤلف رحمه الله يقول: حكم هذه الأفعال التي ليست من جنس الصلاة لا تخلو من أمرين: إن كانت كثيرةً فإنها تبطل الصلاة، وإن كانت يسيرة فإنها لا تبطل الصلاة، ولا فرق عند المؤلف رحمه الله بين العمد والسهو.والصواب في ذلك أن نقول: إن هذه الأفعال التي ليست من جنس الصلاة كالأكل والشرب والحركات وغير ذلك لا تخلو من أمرين:الأمر الأول: أن تكون عمداً، إن كان هذا الفعل أكلاً أو شرباً وكان عمداً: يبطل الصلاة، وإن كان حركة تقدم أو تأخر عمداً أو تحرك بثيابه ولبس أو فتح الباب أو غير ذلك هذا إذا كان عمداً وكان كثيراً متوالياً بلا ضرورة يبطله.فعندنا الصواب: أن هذه الأفعال التي ليست من جنس الصلاة إن كانت أكلاً أو شرباً أبطلت الصلاة مطلقاً قليلها وكثيرها، لو أكل متعمداً قليلاً كان الأكل أو كثيراً أبطل.وغير الأكل والشرب من الحركات نقول: يبطل الصلاة إن كانت كثيرة متوالية عرفاً لغير ضرر، لو تحرك في الركعة الأولى حركة، وفي الركعة الثانية حركة، وفي الثالثة حركة، والرابعة حركة، هنا حركات لكنها متفرقة لا تبطل الصلاة، لو كان لضرورة وهو يصلي جاءته نار فتحرك هرباً منها أو سبع أو عدو لو تحرك هرباً منها فهذا لا تبطل صلاته.وكذلك أيضاً إذا كانت هذه الحركات ليست كثيرة مثل تحرك حركتين متواليتين نقول: لا يبطل الصلاة.هذا القسم الأول, وهو إذا كانت هذه الأشياء عمداً.القسم الثاني: إذا فعل هذه الأشياء سهواً، يعني: هذه الأفعال التي ليست من جنس الصلاة فعلها سهواً، نقول: الصواب أن صلاته لا تبطل؛ لأنه تقدم لنا أن ذكرنا قاعدة تتعلق بمحظورات العبادة، وأنه في المحظورات في العبادة وفي غيرها لا يترتب عليها أثرها إلا بثلاثة شروط:الشرط الأول: الذكر.والشرط الثاني: الاختيار.والشرط الثالث: العلم.فلو أكره على الحركة في الصلاة أو أكره على الأكل في الصلاة أو على الشرب أو نسي فتحرك ساهياً أو أكل ساهياً إلى آخره فنقول: بأن صلاته صحيحة، هذا فيما يتعلق بزيادة الأفعال.فاتضح لنا أن زيادة الأفعال تنقسم إلى قسمين: منها ما هو من جنس الصلاة، ومنها ما ليس من جنس الصلاة, وبينا حكم كل قسم من هذه الأقسام.

الزيادة في الأقوال
القسم الثاني: زيادة الأقوال، أيضاً نقول: إن زيادة الأقوال تنقسم إلى قسمين:القسم الأول: أقوال من جنس الصلاة.والقسم الثاني: أقوال ليست من جنس الصلاة.القسم الأول: إذا كان القول من جنس الصلاة كأن يقرأ في الركوع، أو يقرأ في السجود، أو يسبح في محل التشهد، أو يتشهد في محل القيام، هنا أتى بقول من جنس الصلاة في غيره محله، يعني أتى بزيادة قول من جنس الصلاة، فما حكم هذا؟نقول: هذا يشرع له سجود السهو، فلو أن الإنسان تشهد في حال القيام، أو قرأ في حال الجلوس، أو قرأ في حال السجود أو الركوع سهواً فنقول: يشرع له سجود السهو، ويستحب له أن يسجد؛ لعموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين )، فزيادة الأقوال إذا كانت من جنس الصلاة يستحب له سجود السهو لما ذكرنا من الدليل، ولا يجب سجود السهو؛ لأنه سبق لنا ضابط وجوب سجود السهو، وأن سجود السهو يجب في كل شيء عمده يبطل الصلاة، ومثل هذه الأشياء عمدها لا يبطل الصلاة، فلو أنه قرأ في موضع الجلوس، أو سبح في موضع القيام، أو أنه قرأ في موضع التسبيح ونحو ذلك نقول: بأن هذا الفعل لا يبطل الصلاة، لكن يشرع له سجود السهو، يعني يستحب له أن يسجد للسهو؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين )، ولا يجب؛ لأن سجود السهو لا يجب إلا في شيء عمده يبطل الصلاة، وعمد هذه الأشياء لا يبطل الصلاة.القسم الثاني: إذا كان القول ليس من جنس الصلاة، مثل أن يتكلم في الصلاة، فنقول: هذا لا يخلو من أمرين: إن كان متعمداً ذاكراً عالماً مختاراً فهذا تبطل عليه صلاته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه: ( إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هو التكبير والتسبيح وقراءة القرآن ).فنقول: إذا زاد قولاً من غير جنس الصلاة متعمداً كأن تكلم متعمداً فإن صلاته تبطل عليه؛ لما ذكرناه من حديث معاوية بن الحكم رضي الله تعالى عنه، وإن كان سهواً تكلم سهواً فنقول: هذا موضع خلاف بين أهل العلم، والصواب في هذه المسألة أن صلاته صحيحة ولا تبطل عليه، فلو أنه تكلم في الصلاة سهواً ناسياً، أو جاهلاً، أو مكرهاً فصلاته صحيحة؛ لأننا سبق أن أشرنا إلى قاعدة وهي أن سائر المحظورات سواء كانت في الصلاة أو في الصيام أو في الحج، وسائر المناهي والمعاصي لكي تترتب عليها آثارها لا بد لها من ثلاثة شروط: الشرط الأول: الذكر.الشرط الثاني: الاختيار.والشرط الثالث: العلة.وعلى هذا لو أنه تكلم ناسياً، أو تكلم جاهلاً، أو تكلم مكرهاً في الصلاة، فإن صلاته صحيحة، ويدل لذلك ما تقدم من حديث معاوية بن الحكم رضي الله تعالى عنه، فإن معاوية تكلم في صلاته ومع ذلك لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة؛ لأنه كان جاهلاً، وكان الكلام في الصلاة أول الإسلام جائزاً، ثم بعد ذلك نسخ، ولم يعلم معاوية رضي الله تعالى عنه بالنسخ والنهي عن الكلام، فتكلم فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره النبي عليه الصلاة والسلام بالإعادة. هناك بعض الأصوات اختلف فيها أهل العلم رحمهم الله: هل تبطل الصلاة أو لا تبطل الصلاة؟ مثل النحنحة، ومثل النفخ، يعني لو نفخ فبان حرفان، أو تنحنح وبان حرفان، ومثل البكاء (الأنين) لو أنَّ في صلاته أو تنحنح أو نفخ.. إلى آخره، هل هذه الأشياء تبطل الصلاة أو لا تبطل الصلاة؟ أيضاً لو قهقه في صلاته.. إلى آخره.فنقول: هذه الأشياء كلها لا تبطل الصلاة كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأن هذه الأصوات التي تدل على حال المصوتين لا تعتبر كلاماً من حيث الوضع، فمن حيث وضع اللغة النحنحة والنفخ والتأوه والأنين وغير ذلك من هذه الأصوات التي تدل على أحوال المصوتين لا تسمى كلاماً، والذي جاء الشرع بأنه مبطل للصلاة هو الكلام، وهذه لا تسمى كلاماً وإنما تدل على أحوال المصوتين. فالصواب في مثل هذه الأشياء ما اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنها لا تبطل الصلاة، إلا ما يتعلق بالقهقهة، إذ القهقهة ضحكة معروفة، إذا قهقه الإنسان في صلاته ضحك في صلاته فإن صلاته تبطل عليه؛ لأن مثل هذا ينافي الصلاة والخشوع فيها.وبهذا انتهينا من السبب الأول وهو الزيادة، وتلخص لنا أن الزيادة إما أن تكون زيادة أقوال، أو تكون زيادة أفعال، والأفعال إما أن تكون من جنس الصلاة أو من غير جنس الصلاة، وبينا حكم كل قسم من هذه الأقسام، والأقوال أيضاً إما أن تكون من جنس الصلاة، أو تكون من غير جنس الصلاة، وبينا أيضاً حكم كل قسم من هذه الأقسام.

الضرب الثاني: النقص في الصلاة
قال المؤلف رحمه الله: [الضرب الثاني: النقص ]. هذا السبب الثاني من أسباب سجود السهو وهو النقص، والنقص ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: نقص الواجب.والقسم الثاني: نقص الركن.والقسم الثالث: نقص المستحب.فالنقص في الصلاة ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة: نقص واجب، أو ركن، أو مستحب.

نقص واجب
قال المؤلف رحمه الله: [كنسيان واجب، فإن قام عن التشهد الأول فذكر قبل أن يستتم قائماً رجع فأتى به].بدأ المؤلف رحمه الله بنقص الواجب، فقال: (كنسيان واجب) ثم ذكر التشهد الأول؛ لأن التشهد الأول من الواجبات، والقاعدة في نقص الواجبات أن نقول: إن نقص الواجب لا يخلو من ثلاث حالات، إذا نقص المصلي واجباً من الواجبات سواء كان تسبيح ركوع أو سجود أو قول: ربي اغفر لي، أو حتى التشهد الأول على الصواب نقول: إذا نقص واجباً من الواجبات لا يخلو ذلك من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يذكر الواجب قبل أن يفارق محله، فإذا ذكر الواجب قبل أن يفارق محله فإنه يأتي به ولا شيء عليه، مثال ذلك: إنسان ركع ونسي أن يقول: سبحان ربي العظيم، دعا الله عز وجل في ركوعه ونسي أن يقول: سبحان ربي العظيم، ثم تذكر قبل أن يرفع من الركوع فنقول: يأتي به ولا شيء عليه، هذه الحالة الأولى.الحالة الثانية: أن يذكره بعد أن فارق محله وقبل أن يتلبس بالركن الذي يليه، فنقول هنا: يرجع ويأتي به ويسجد للسهو، ويكون سجوده في هذه الحال بعد السلام؛ لأنه زيادة كما سيأتينا إن شاء الله، مثال ذلك: إنسان سجد ونسي أن يقول: سبحان ربي الأعلى، ثم بعد ذلك رفع من سجوده، لكن قبل أن يتلبس بالجلسة بين السجدتين ذكر أنه لم يسبح ماذا نقول له؟ نقول: ارجع وائت بالواجب تسبيحة السجود، وعليك سجود السهو؛ لأنك زدت في الصلاة، هذا النهوض زاده في الصلاة فنقول: هذه زيادة في الصلاة تسجدها بعد السلام، هذه الحالة الثانية.الحالة الثالثة: أن يذكره بعد أن تلبس بالركن الذي يليه، فهنا نقول: يسقط عنك هذا الواجب وتجبره بالسجود، ويكون سجودك قبل السلام؛ لأنك نقصت في الصلاة، مثال ذلك: شخص سجد ونسي أن يقول: سبحان ربي الأعلى ونهض وجلس واستتم جالساً، فلما استتم جالساً تذكر أنه لم يقل: سبحان ربي الأعلى، نقول الآن: لا ترجع إلى السجود، وتكون نقصت واجباً من واجبات الصلاة تجبره بسجود السهو، ويكون سجودك حينئذ قبل السلام؛ لأنك نقصت، وسيأتينا إن شاء الله أن السجود إذا كان عن نقص فإنه يكون قبل السلام، ودليل هذا التفصيل حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قام أحدكم في الركعتين ولم يستتم قائماً فليجلس، فإن استتم قائماً فلا يجلس، وليسجد سجدتي السهو )، هذا التفصيل، وهذا التشهد الأول.نضرب مثالاً آخر في التشهد الأول نفسه، مثال ذلك: رجل جلس للتشهد الأول ونسي أن يقرأ التشهد الأول: الحالة الأولى: قبل أن ينهض ذكر نقول له: تأتي بالتشهد الأول ولا شيء عليك.الحالة الثانية: قام عن التشهد الأول لكن لم يستتم قائماً، نقول له: ارجع وائت به وتشهد، وعليك السجود بعد السلام؛ لأنك زدت.الحالة الثالثة: قام عن التشهد الأول واستتم قائماً، تلبس بالركن الذي يليه، نقول له: سقط عنك هذا الواجب؛ لأنك الآن تلبست بالركن الذي يليه، سقط عنك هذا الواجب وتجبره بسجود السهو، وتسجد قبل السلام، وهذا التفصيل هو الذي دل له حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه.قال المؤلف: (فإن قام عن التشهد الأول فذكره قبل أن يستتم قائماً رجع فأتى به، وإن استتم قائماً لم يرجع).والصواب ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله: أنه لا فرق بين التشهد الأول وبين سائر الواجبات، هذه القاعدة أن نقص الواجب لا يخلو من هذه الأحوال الثلاثة.

نقص ركن
قال المؤلف رحمه الله: [وإن نسي ركناً].الآن شرع في القسم الثاني، قلنا: إن النقص إما أن يكون نقص واجب أو يكون نقص ركن أو يكون نقص مستحب من المستحبات، هنا قال: وإن نسي ركناً فذكره قبل شروعه في قراءة ركعة أخرى رجع فأتى به وبما بعده، وإن ذكره بعد ذلك بطلت الركعة التي تركه منها، إذا نسي ركناً من أركان الصلاة فهذا لا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الركن المتروك في غير الركعة الأخيرة، ويتذكره في أثناء الصلاة، يتذكر ترك الركن في أثناء الصلاة، فهذا نقول: إذا كان في غير الركعة الأخيرة وتذكره في أثناء الصلاة يجب عليه أن يرجع، وأن يأتي بالمتروك وبما بعده، إلى أن يصل إلى موضعه من الركعة التي تليها فإنه يواصل صلاته ويأتي بركعة، تكون الركعة الأولى أو الركعة التي ترك منها الركن التغت.أعيد الحالة الأولى: أن يتذكر الركن في أثناء الصلاة وليس في الركعة الأخيرة، فالحكم في ذلك أنه يجب عليه أن يرجع وأن يأتي بما لم يصل إلى موضعه من الركعة التي تليه، فإن وصل إلى موضعه من الركعة التي تليها التغت الركعة التي تركه منها، وقامت التي تليها مقامها وأتى بركعة.مثال ذلك: إنسان كبر وصلى الركعة الأولى، ركع ورفع وسجد وجلس ونسي أن يسجد السجدة الثانية، قام مباشرة نسي أن يسجد السجدة الثانية، وفي أثناء قيامه تذكر أنه لم يسجد السجدة الثانية، ما الحكم هنا؟ نقول: ما دمت أنك ما وصلت إلى الركعة التي تليها ارجع، الآن هو قائم وحتى الآن ما وصل، ما نقول له؟ نقول: ارجع وائت بالسجدة الثانية وبما بعدها، ويكون سجوده هنا بعد السلام؛ لأنه زاد.مثال آخر: نسي السجدة الثانية، وتذكر وهو يقرأ ما نقول له؟ نقول: ارجع وائت بالسجدة الثانية وبما بعدها.مثال ثالث: نسي السجدة الثانية وهو في الركوع، ماذا نقول له؟ نقول: ارجع وائت بالسجدة الثانية وبما بعدها، يعني قم وأعد القراءة؛ لأن ما فعله من هذه الأفعال لا صحة لها؛ لأنه لا بد من الترتيب، وحتى الآن ما اكتملت الركعة السابقة فلا بد أن يرتب، فما فعله من هذه الأركان والأفعال في الصلاة نقول: هذه أصبحت في غير موضعها، فنقول: ارجع إلى الركن الذي تركته واسجد ثم قم وائت بما بعد السجود تاماً، تقوم وتقرأ وتركع من جديد.. إلى آخره.مثال رابع: نسي السجود الثاني من الركعة الأولى وقام وقرأ وركع ورفع وسجد السجدة الأولى ثم بعد ذلك رفع وجلس بين السجدتين، ثم تذكر أنه لم يسجد السجود الثاني من الركعة السابقة ماذا نقول له الآن؟ نقول: الآن وصلت إلى محله من الركعة السابقة فنقول: التغت عليك الركعة السابقة، وتقوم الركعة الثانية مقامها، وتواصل الصلاة ولا ترجع، وتكون الركعة الثانية تقوم مقام السابقة، وتأتي بركعة، يعني إذا كانت الركعة السابقة هي الأولى تصبح الآن الثانية هي الأولى، وتأتي بالركعة الثانية والثالثة والرابعة.. إلى آخره.فأصبح عندنا الحالة الأولى: أن يتذكر في نفس الصلاة، ويكون المتروك في غير الركعة الأخيرة، فإذا كان كذلك نقول: يجب عليك أن ترجع، وأن تأتي بالمتروك ما لم تصل موضعه من الركعة السابقة، فإن وصلت إلى موضعه من الركعة السابقة فإنك لا ترجع، وتلتغي الركعة السابقة، وتقوم الركعة الثانية مقامها.الحالة الثانية: أن يتذكر في أثناء الصلاة، ويكون المتروك في الركعة الأخيرة، فنقول: إذا كان المتروك في الركعة الأخيرة نقول: ترجع وتأتي به وبما بعده.مثال ذلك: رجل يصلي العشاء الآخرة، قام إلى الركعة الرابعة وقرأ الفاتحة ثم ركع ثم هوى مباشرةً ولم يرفع، يعني قرأ الفاتحة ثم ركع ولم يرفع من الركوع لكن هوى مباشرةً إلى السجود، وفي أثناء السجود تذكر أنه لم يرفع، ماذا نقول له؟ نقول: ارجع إلى الركن المتروك وائت به وبما بعده يعني قم وارفع وسمع واحمد ثم ارجع ثم اسجد وأكمل صلاتك.مثال آخر: إنسان نسي الركوع في الركعة الثالثة من المغرب، بدلاً من أن يركع هوى مباشرةً إلى السجود، وفي أثناء التشهد تذكر أنه ترك الركوع ماذا نقول له؟ نقول: ارجع واركع وارفع واسجد السجدتين وتشهد وأكمل الصلاة، يعني يأتي بالمتروك وبما بعده، يكمل صلاته.وقلنا: إنه لا يحتسب ما بعد المتروك ولو فعله صحيحاً من أجل الترتيب؛ لأنه إذا كان ترك الركوع ما بعد الركوع فعله في غير محله، وحتى الآن ما جاء محله، محله بعد الركوع وحتى الآن ما فعل الركوع.الحالة الثالثة: أن يذكر المتروك بعد نهاية الصلاة، بعد أن انتهى من صلاته تذكر أنه لم يركع مثلاً في الركعة الأولى أو لم يركع في الركعة الثانية أو إلى آخره، أو لم يسجد، تذكر بعد أن انتهى من صلاته، صلى من الصلاة وانتهى منها ثم بعد ذلك تذكر أنه ترك ركناً من أركان الصلاة في الركعة الأولى في الثانية في الثالثة في الرابعة، فنقول: إن كان هذا المتروك في غير الركعة الأخيرة فإنه يأتي بركعة كاملة، وإن كان في الركعة الأخيرة فإنه يرجع ويأتي به وبما بعده.الحالة الثالثة والأخيرة من ترك الأركان نقول: إذا تذكر بعد أن انتهى من صلاته، فإن كان المتروك في غير الركعة الأخيرة فإنه يأتي بركعة كاملة، يأتي بركعة كاملة ويسجد للسهو بعد السلام؛ لأنه زاد، وإن كان في الركعة الأخيرة فإنه يرجع ويأتي به وبما بعده ويسجد للسهو بعد السلام، فمثلاً لما سلم تذكر أنه نسي الركوع في الركعة الأولى، نقول: تأتي بركعة؛ لأنك لما نسيت الركوع في الركعة الأولى وصلت إلى محله من الركعة الثانية فالتغت الأولى باقي عليك الآن ركعة واحدة، تأتي بركعة وتسجد للسهو بعد السلام، بعدما سلم تذكر أنه لم يأت بالركوع في الركعة الأخيرة فنقول: ترجع وتأتي بالركوع وبما بعده، وتسجد للسهو بعد السلام، أو مثلاً تذكر أنه لم يأت بالسجود الأول في الركعة الأخيرة فنقول: ترجع وتأتي بهذا السجود وبما بعده، وتسجد للسهو بعد السلام، هذا ما يتعلق بنقص الأركان، فأصبح عندنا نقص الأركان ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة.

نقص مستحب
القسم الثالث: نقص المستحبات، إذا نقص مستحباً من المستحبات، مثلاً نقص الاستفتاح: اللهم باعد بيني وبين خطاياي.. إلى آخره، أو سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أو الاستعاذة، أو البسملة، أو غير ذلك من المستحبات فهذا نقول: لا يجب عليه سجود السهو؛ لأن القاعدة عندنا في وجوب سجود السهو أن سجود السهو يجب في شيء عمده يبطل الصلاة، وهذه الأشياء عمدها لا يبطل الصلاة، لو ترك الاستفتاح عمداً فإن صلاته صحيحة، لا يجب عليه أن يسجد للسهو، والمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يباح له سجود السهو، وعند بعض أهل العلم كالشيخ السعدي رحمه الله: أنه إن كان من عادته أنه يأتي بهذا المستحب فتركه سهواً يستحب له أن يسجد سجود السهو، ويسجد قبل السلام؛ لأنه نقص، وإن لم يكن من عادته أنه يأتي به فإنه لا يستحب له أن يأتي بهذا السجود، هذا ما يتعلق بالسبب الثاني من أسباب سجود السهو وهو النقص، وتبين لنا أن نقص الواجب له ثلاث حالات، وأن نقص الركن له ثلاث حالات، وأن نقص المستحب هذا فيه تفصيل.

من نسي ركناً فذكره قبل الشروع في قراءة ركعة أخرى
قال المؤلف رحمه الله: [وإن نسي ركناً فذكره قبل شروعه في قراءة ركعة أخرى رجع فأتى به وبما بعده، وإن ذكره بعد ذلك بطلت الركعة التي تركه منها].هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه لله، وأنهم يعلقون الأمر بالشروع في القراءة، يعني إذا ترك ركناً من الركعة الأولى فإن شرع في قراءة الركعة الثانية بطلت الأولى، وإن لم يشرع يعني استتم قائماً وحتى الآن لم يشرع بالقراءة فإنه يجب عليه أن يرجع وأن يأتي به.. إلى آخره.والصواب في هذه المسألة ما ذكرناه قبل ذلك، وأنه يجب عليه أن يرجع ما لم يصل إلى موضعه من الركعة التي تليها، فإن وصل إلى موضعه من الركعة التي تليها فإنه لا يرجع، هذا هو الصواب، لكن المؤلف رحمه الله علق الأمر كله بالشروع بالقراءة وعدم الشروع، وهذا فيه نظر.

نسيان أربع سجدات من أربع ركعات
قال المؤلف رحمه الله: [وإن نسي أربع سجدات من أربع ركعات فذكر في التشهد سجد في الحال فصحت له ركعة، ثم يأتي بثلاث ركعات]. لأنه نقص في الركعة الأولى ركناً، في الركعة الثانية ركناً، في الركعة الثالثة ركناً، وشرع على المذهب في قراءة الركعة الرابعة فالتغت الثلاث، فيأتي بثلاث ركعات، وأيضاً على القول الصواب أيضاً إذا ترك السجود من الركعة الثالثة، ثم بعد ذلك سجد سجدتين وأتى للتشهد يكون وصل إلى موضعه من الركعة التي تليها فعليه ثلاث ركعات.

الضرب الثالث: الشك
قال المؤلف رحمه الله: [الضرب الثالث: الشك، فمتى شك في ترك ركن فهو كتركه، ومن شك في عدد الركعات بنى على اليقين إلا الإمام خاصة فإنه يبني على غالب ظنه].هذا السبب الثالث من أسباب سجود السهو وهو الشك، والقاعدة على المذهب للإمام أحمد رحمه الله في الشك في الجملة: أنه يبني على اليقين مطلقاً، سواء كان في الصلاة أو في غير الصلاة، مثلاً إذا شككت في الركعات هل هي ثلاث أو أربع تجعلها ثلاثاً، حتى لو ترجح عندك أنها أربع. وإذا شككت في رمي حصى الجمار هل رميت ستاً أو سبعاً تجعلها ستاً وتبني على اليقين، حتى لو ترجح عندك أنها سبعاً. شككت في عدد أشواط السعي أو عدد أشواط الطواف هل طفت ثلاثة أشواط أو أربعةً فإنك تجعلها ثلاثة حتى لو ترجح عندك أنها أربعة، المهم أنك تعمل باليقين.أيضاً لو كان إمام يصلي صلاة العيد، شك في تكبيرة الزوائد هل كبر ستاً أو سبعاً فإنه يبني على اليقين.. وهكذا، يعني هم يقولون: يبنى على اليقين مطلقاً، إلا أن المؤلف رحمه الله استثنى الإمام خاصة، والصواب أنه لا فرق بين الإمام وغيره، وأن الشك ينقسم إلى قسمين:القسم الأول: ألا يترجح عند الشاك شيء، وهنا يبني على اليقين، ويسجد للسهو قبل السلام، مثال ذلك: رجل شك هل صلى ثلاثاً أم أربعاً ولم يترجح عنده شيء فنقول: اجعلها ثلاثاً وائت برابعة، واسجد للسهو قبل السلام.أيضاً شك هل طاف ثلاثة أشواط أو أربعة ولم يترجح عنده شيء نقول: اجعلها ثلاثةً.. وهكذا، ودليل ذلك حديث أبي سعيد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك، ثم ليبن على ما استيقن، وليسجد سجدتين قبل أن يصلي ). فنقول: الحالة الأولى: إذا لم يترجح عند الشاك شيء فإنه يبني على اليقين، ويأخذ بالأقل ويسجد للسهو قبل السلام.الحالة الثانية: أن يترجح عنده شيء، يعني شككت في الركعات هل هي ثلاث أو أربع والغالب عندك أنها أربع، فنقول: اجعلها أربعاً، أعمل غلبة الظن، فإذا ترجح عندك شيء يعني عندك ما يساوي ثمانين بالمائة أنها أربع، وما يساوي عشرين بالمائة أنها ثلاث، نقول: اجعلها أربعاً وتسجد للسهو بعد السلام، ودليل ذلك حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، ثم ليبن عليه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين بعد أن يسلم )، هذا في البخاري .فقوله: ( فليتحر الصواب ) هذا دليل على إعمال غلبة الظن، ( ثم ليبن عليه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين بعدما يسلم )، وهذا القول بهذا التفصيل هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأن الإنسان شكه لا يخلو من هذين الأمرين.مثال آخر: لو أن إنساناً شك في صلاته لا يدري هل هي ثلاث أو أربع لكن ترجح له أنها ثلاث ماذا نقول؟ نقول: اجعلها ثلاثاً ما دام أنه ترجح عندك أنها ثلاث يعني تعمل بالراجح سواء كان الأقل أو الأكثر، اجعلها ثلاثاً، وتسجد للسهو بعد السلام.

موضع سجود السهو
قال المؤلف رحمه الله: [ولكل سهو سجدتان قبل السلام إلا من سلم عن نقص في صلاته، والإمام إذا بنى على غالب ظنه، والناسي للسجود قبل السلام فإنه يسجد سجدتين بعد سلامه ثم يتشهد ويسلم].هنا الآن المؤلف رحمه الله تعرض لمسألة وهي: ما هو موضع سجود السهو؟ هل يسجد قبل السلام أو يسجد بعد السلام؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن الإنسان مخير، فإذا حصل لك سهو سواء كان عن زيادة بأن زدت في الصلاة ركعةً أو ركوعاً أو سجوداً أو كان عن نقص، نقصت مثلاً تسبيحة ركوع أو تسبيحة سجود إلى آخره المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنك مخير: إن شئت فاسجد قبل السلام فاسجد قبل السلام، وإن شئت تسجد بعد السلام فاسجد بعد السلام، قالوا: والأفضل أن تسجد قبل السلام إلا في حالة واحدة الأفضل أن تسجد فيها بعد السلام، وليس على سبيل الوجوب وإنما هو على سبيل الأفضلية وهي ما إذا سلم الإنسان قبل تمام صلاته، مثلاً العشاء صليت ركعتين ثم سلمت ثم ذكرت فأتيت بركعتين فالأفضل أن تسجد بعد السلام، ولو سجدت قبل السلام الحكم صحيح، يعني الجواز أنت مخير: إن شئت تسجد قبل السلام اسجد قبل السلام، وإن شئت أن تسجد بعد السلام اسجد بعد السلام، حتى مثلاً لو الإنسان نقص وقال: ما أنا بساجد قبل السلام أنا أسجد بعد السلام نقول: لا بأس على المذهب، هذا من حيث الجواز كله جائز، لكن من حيث الأفضلية الأفضل أن تسجد قبل السلام إلا في حالة واحدة فقط يستثنونها وهي ما إذا سلم المصلي قبل تمام صلاته فإنه يسجد بعد السلام، إذا أتم صلاته سجد بعد السلام، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.والرأي الثاني رأي أبي حنيفة ، أبو حنيفة يقول: السجود بعد السلام سواء عن زيادة أو عن نقص.. إلى آخره، يرى أن السجود بعد السلام.أما الشافعي فعلى العكس من ذلك، فيقول: السجود قبل السلام.أما مالك فقال: إن كان عن نقص فقبل السلام، وإن كان عن زيادة فبعد السلام. إذاً: أبو حنيفة رحمه الله يقول: بعد السلام، والشافعي : قبل السلام، ومالك : إن كان عن نقص فقبل السلام، وإن كان عن زيادة فبعد السلام، وعند شيخ الإسلام رحمه الله التفصيل في هذه المسألة. شيخ الإسلام رحمه الله يقول: سجود السهو يكون قبل السلام في موضعين وجوباً، يعني على سبيل الوجوب، فيجب عليك أن تسجد قبل السلام، وفي موضعين يكون بعد السلام على سبيل الوجوب. أما الموضعان اللذان يكون السجود فيهما قبل السلام: الموضع الأول: إذا نقص في صلاته فإنه يسجد قبل السلام، ويدل لذلك حديث عبد الله بن بحينة في الصحيح: ( فإن النبي عليه الصلاة والسلام قام في الركعتين ولم يجلس للتشهد الأول، فلما قضى صلاته وانتظر الناس تسليمه سجد سجدتين قبل أن يسلم ) وهذا في الصحيحين.الموضع الثاني: إذا شك في صلاته وبنى على اليقين على الأقل ما ترجح عنده شيء، فإنه يسجد قبل السلام، وهذا دليله حديث أبي سعيد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا شك أحدكم في صلاته فلا يدري كم صلى أثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ).أما الموضعان اللذان يكون السجود فيهما بعد السلام:الموضع الأول: إذا كان عن زيادة، إذا زاد في صلاته فإنه يسجد بعد السلام، ويدل له حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين: ( فإن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بهم إحدى صلاتي العشي فسلم من ركعتين، فذكره الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فاستقبل النبي عليه الصلاة والسلام القبلة وأتم الصلاة، وسجد بعد السلام )، وهنا زاد النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة، وبدلاً من أن يسلم سلاماً واحداً سلم سلامين، وأيضاً الحكمة تقتضي أن يكون السجود للسهو في حال الزيادة بعد السلام؛ لئلا يجتمع في الصلاة زيادتان، هو الآن زاد ركوعاً، الركعة الأولى ركع مرتين، لو قلنا: اسجد قبل السلام، حصل في الصلاة زيادتان: زيادة السهو، وزيادة سجود السهو، فنقول: اجعل سجود السهو بعد السلام؛ لئلا يجتمع في الصلاة زيادتان.الحالة الثانية: إذا شك وترجح عنده شيء فإنه يسجد بعد السلام، يعني شك ثلاث أو أربع فرجح أنها ثلاث فرجح أنها أربع فإنه يسجد بعد السلام، نقول: اسجد بعد السلام، ودليل ذلك ما تقدم من حديث ابن مسعود في البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، ثم ليبن عليه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين بعدما يسلم ).قال المؤلف رحمه الله: (والناسي للسجود قبل السلام فإنه يسجد سجدتين بعد سلامه، ثم يتشهد ويسلم).إذا كان السجود قبل السلام ونسيته فإنك تسجد بعد السلام، مثلاً في حال النقص السجود يكون قبل السلام، إنسان قبل أن يسجد نسي وسلم فنقول: اسجد حتى بعد السلام اقض هذا السجود، إلا إذا أطال الفصل على الإنسان فإنه يسقط عنه، مثال ذلك: نسي أن يسجد فنقول: اسجد بعد السلام لكن طال عليه الفصل، إذا كان بعد دقيقة دقيقتين ثلاث أربع خمس.. إلى آخره نقول هنا: يسجد، لكن إذا تطاول عليه عشر دقائق ربع ساعة هنا طال الفصل، الآن نقول: سقط عنك سجود السهو.أيضاً لو كان سجود السهو بعد السلام إنسان زاد في الصلاة فقال: سأسجد بعد السلام وسلم ونسي، نقول: إن ذكره قريباً فإنه يأتي به، وإن ذكره بعد أن طال الفصل فإنه يسقط عنه سجود السهو.

حكم سجود السهو للمأموم
قال المؤلف رحمه الله: [وليس على المأموم سجود سهو، إلا أن يسهو إمامه فيسجد معه].المأموم هل عليه سجود السهو أو ليس عليه سجود السهو؟نقول: المأموم هذا لا يخلو من حالتين:الحالة الأولى: أن يكون غير مسبوق، فإذا كان غير مسبوق فإن الإمام يتحمل عنه سجود السهو، فلو أن المأموم نقص في صلاته أو زاد أو شك فنقول: بأن الإمام يتحمل عنه سجود السهو. مثال ذلك: مأموم يصلي خلف الإمام فنسي أن يقول: سبحان ربي العظيم في الركوع، أو سبحان ربي الأعلى في السجود، فنقول: الإمام يتحمل عنه سجود السهو ولا يسجد ما دام أنه غير مسبوق. وكذلك أيضاً لو زاد, مثال ذلك: مأموم بدلاً من أن يجلس للتشهد الأول مع الإمام قام سهواً وانتصب قائماً، فنقول: لا سجود عليه، يتحمل عنه الإمام سجود السهو. أو شك في صلاته، هذا المأموم شك في الصلاة لا يدري هل هذه الركعة هي الرابعة أو الثالثة إلى آخره؟ فنقول: بأن الإمام يتحمل عنه، فما دام أنه غير مسبوق فإن الإمام يتحمل عنه.القسم الثاني: أن يكون المأموم مسبوقاً يعني فاته من الصلاة ركعة فأكثر فهذا يجب عليه سجود السهو في مواضع:الموضع الأول: إذا سها فيما انفرد به عن الإمام، فيجب عليه سجود السهو، مثال ذلك: مأموم فاته ركعة من الصلاة، فقام يقضي هذه الركعة فسها فيها: نقص واجباً من الواجبات، أو زاد ركع مرتين.. إلى آخره فنقول: بأنه يسجد للسهو.الموضع الثاني: إذا سها فيما أدرك فيه الإمام فإنه يسجد للسهو، مثال ذلك: مأموم جاء والإمام يصلي صلاة العشاء الآخرة، فأدرك معه الركعة الثالثة والرابعة، وفي الركعة الثالثة التي أدركها مع الإمام سها المأموم ونسي أن يقول: سبحان ربي الأعلى في السجود، أو سبحان ربي العظيم في الركوع أو زاد.. إلى آخره. فنقول: إذا انتهى من قضاء صلاته فإنه يسجد للسهو عن هذا النقص الذي نقصه مع الإمام.الموضع الثالث: إذا كان سجود السهو بعد السلام، فإن المأموم إذا كان مسبوقاً لا يتابع الإمام، بل يقضي ما عليه، ثم بعد ذلك يسجد للسهو إن أدرك هذا السهو مع الإمام، فإن لم يكن أدركه فلا سجود عليه، وإن شك سجد.نقول: الموضع الثالث: إذا كان سجود الإمام بعد السلام فإنه لا يتابع الإمام؛ لأن الإمام سيسلم، وكيف يتابعه بالسلام وصلاته حتى الآن لم تنته بعد؟ فماذا نقول لهذا المأموم؟ نقول لهذا المأموم: قم فاقض ما عليك من الصلاة، ثم بعد ذلك إذا انتهيت من قضاء ما فاتك من الصلاة تسجد إن أدركت السهو مع الإمام، فإن لم تكن أدركته، سها الإمام قبل أن تشرع معه فلا سجود عليك، وإن شككت فإنك تسجد. مثال ذلك: مأموم جاء والإمام في صلاة العشاء الآخرة فأدرك مع الإمام الركعة الثالثة والرابعة، الإمام في صلاته زاد، موضع سجود السهو بعد السلام، هو يأخذ مثلاً بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ويريد أن يسجد بعد السلام، الإمام إذا انتهى من الصلاة سيسلم ثم يسجد، نقول لهذا المسبوق: لا تتابع الإمام في السلام، فإذا سلم الإمام فإنك تقوم ولا تتابعه بالسلام؛ لأنك حتى الآن لم تنته صلاتك، وكيف تسلم وصلاتك لم تنته بعد؟ فنقول: قم واقض ما عليك من الركعات التي فاتت، ثم بعد ذلك إن كنت أدركت السهو مع الإمام فإنك تسجد، إن كنت أدركت هذه الزيادة مع الإمام تسجد، وإن كنت لم تدرك هذه الزيادة أو هذا السهو مع الإمام فإنه لا سجود عليك، وإن شككت لا تدري هل أدركت أو لم تكن أدركت؟ فإنك تسجد بعد السلام احتياطاً.هناك موضع رابع أضافه بعض أهل العلم فقال: إذا كان المأموم يرى سجود السهو والإمام لا يرى سجود السهو فإنه يسجد إذا انتهى من قضاء ما عليه، مثلاً الإمام لا يرى سجود السهو، وأن سجود السهو سنة وليس واجباً كما تقدم لنا قول من قال بهذا من أهل العلم أنه سنة وليس واجباً، والمأموم يرى أنه واجب، فقال بعض العلماء: إذا انتهى من قضاء ما عليه فإنه يسجد للسهو.

التسبيح والتصفيق عند سهو الإمام
قال المؤلف رحمه الله: [ومن سها إمامه أو نابه أمر في صلاته فالتسبيح للرجال، والتصفيق للنساء]. ودليل هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيحين: ( إذا نابكم أمر فليسبح الرجال، وليصفق النساء ).فإذا ناب الإمام شيء يعني حصل له سهو في الصلاة بزيادة أو نقص ونحو ذلك فإن الرجل يسبح يقول: سبحان الله، وأما المرأة فإنها تصفق ولا تظهر صوتها عند الناس، ويؤخذ من هذا أنه إذا لم يكن هناك أجانب، وإنما كانت تصلي مع محارمها فلا بأس أن تسبح المرأة؛ لأن العلة التي من أجلها نهيت المرأة عن التسبيح درء الفتنة إذا أظهرت صوتها عند الناس.وبالنسبة للتصفيق للمرأة ذكر العلماء رحمهم الله له ثلاث صفات: الصفة الأولى: أن تضرب بظهر كفها على ظهر الكف الآخر.والصفة الثانية: أن تضرب ببطن كفها على ظهر الكف الآخر.والصفة الثالثة: أن تضرب ببطن كفها على بطن الكف الآخر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( وليصفق النساء )، ولم يبين النبي عليه الصلاة والسلام كيفية هذا التصفيق. المؤلف رحمه الله ما بين هل الإمام يرجع إلى قول واحد أو لا بد من التعدد؟ هذه المسألة موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، والصواب في هذه المسألة: أن الإمام يرجع إلى قول واحد، ولا يشترط التعدد؛ ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في قصة ذي اليدين ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام رجع إلى قول ذي اليدين . ‏
أحوال الإمام إذا سبح له أحد المأمومين
والإمام إذا سبح به أحد من المأمومين فله أحوال: الحالة الأولى: أن يتيقن صدق نفسه، وأن ما مشى عليه هو الصواب، فهذا لا يرجع إلى من سبح به، يعني إمام يصلي بالناس ثم سبح به شخص وهو يتيقن صواب نفسه، يعني سبح شخص يريد منه أن يرجع، فنقول: ما دام أنه يتيقن صواب نفسه يجزم بذلك فإنه لا يجب عليه أن يرجع.الحالة الثانية: أن يغلب على ظنه صواب نفسه، وأن الصواب معه، فهذا أيضاً لا يرجع.الحالة الثالثة: أن يجزم بصواب من سبح به، فهذا يجب عليه أن يرجع إلى تسبيحه.الحالة الرابعة: أن يغلب على ظنه صواب من سبح به، فهذا يجب عليه أن يرجع.الحالة الخامسة: أن يتساوى عنده الأمران، الأمران يكونان متساويين عنده، يعني لم يترجح عنده صواب نفسه، أو يترجح عنده صواب من سبح به، فهذا الصواب أنه يرجع إلى من سبح به. فأصبح الإمام له خمس حالات: إذا جزم بصواب نفسه، إذا غلب على ظنه صواب نفسه، هذا لا يرجع، الحالة الثالثة والرابعة: أن يجزم بصواب من سبح به، أن يغلب على ظنه صواب من سبح به، هذا يرجع.الحالة الخامسة: أن يتساوى الأمران، فنقول: يرجع على الصواب من أقوال أهل العلم رحمهم الله. هذا بالنسبة لحال الإمام.

أحوال المأموم إذا سبح للإمام ولم يرجع

بالنسبة لحال المأموم، إذا سبح بالإمام ولم يرجع، فنقول: المأموم أيضاً له أحوال، يعني أنت خالفت الإمام وسبحت بالإمام ولم يرجع الإمام إلى تسبيحك، فنقول: لك أحوال: الحالة الأولى: أن يجزم المأموم بصواب نفسه فإنه لا يتابع الإمام، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إذا مضى الإمام في موضع يجب عليه الجلوس، أو جلس في موضع يجب عليه المضي فإن المأموم لا يتابعه.الحالة الأولى: أن يجزم المأموم بصواب نفسه فإنه لا يتابعه، ولو تابعه عالماً متعمداً بطلت صلاته، لو تابعه عالماً بالحكم متعمداً فإن صلاته تبطل عليه، فنقول حينئذ: إذا جزم المأموم بصواب نفسه لا يتابعه ويتركه، وحينئذ هذا المأموم بالخيار: إما أن ينوي الإنفراد ويترك هذا الإمام، وإما ألا يتابعه ويجلس، يعني إذا مضى في القيام جلس حتى يرجع، وإن جلس قام حتى يقوم إليه، هو بالخيار: إما أنه ينفرد عنه ويتركه، ينوي الإنفراد ويترك الإمام، وانفراده هنا لعذر، أو أنه يجلس وينتظره، هو بالخيار، هذه الحالة الأولى أن يجزم بصواب نفسه.الحالة الثانية: أن يغلب على ظنه صواب نفسه، أيضاً حكم هذه الحالة كالحالة السابقة.الحالة الثالثة: أن يشك أو يظن صواب الإمام، فهنا يتابع الإمام. إذا جزم المأموم بصواب نفسه وتابع الإمام قلنا: إن كان عالماً متعمداً فصلاته تبطل عليه، فإما أن ينفرد أو يترك متابعته حتى يرجع إليه الإمام. إذا كان جاهلاً جزم بصواب نفسه، لكنه جاهل بالحكم وتابع الإمام، فالعلماء رحمهم الله يقولون: من تابعه جاهلاً بالحكم فإن صلاته صحيحة لعذر الجهل.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-25, 01:10 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [11]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(20)

مما يشرع للمسلم التطوع به من الصلوات السنن الرواتب، وآكدها سنة الفجر والتي اختصت بجملة سنن عن غيرها من الرواتب، ومن التطوع كذلك الوتر، وله صفات وردت في السنة، واختلفوا في قنوت الوتر على أقوال رجح شيخ الإسلام أنه يؤتى به أحياناً.

صلاة التطوع
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب صلاة التطوع: وهي على خمسة أضرب]. التطوع في اللغة: فعل الطاعة. وفي الاصطلاح: طاعة غير واجبة. وصلاة التطوع هي الجابر الثالث من جوابر الصلاة، وسبق أن أشرنا أن الصلاة لها ثلاثة جوابر:الجابر الأول: الذكر دبر الصلاة.والجابر الثاني: سجود السهو.والجابر الثالث: صلاة التطوع.ولهذا في مسند الإمام أحمد رحمه الله: ( إن أول ما يقضى بين العباد الصلاة، فإن صلحت وإلا قال الله عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ )، فشرعية مثل هذه السنن من رحمة الله عز وجل بالعبد؛ لأن هذه السنن لو لم تكن مشروعةً لكانت بدعة، إذ إن أمر العبادة مبني على الحظر والتوقيف، والأصل فيها المنع.

السنن الرواتب
قال المؤلف رحمه الله: [أحدها: السنن الرواتب، وهي التي قال ابن عمر رضي الله عنه: (عشر ركعات حفظتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم..)] إلى آخر الحديث الذي أورده المؤلف رحمه الله.بالنسبة للسنن الرواتب هذه تحتها مباحث:

عدد السن الرواتب
أما ما يتعلق بعددها فقد ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وهو قوله: (عشر ركعات حفظتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر)، فيؤخذ من كلام المؤلف أنه يرى أن السنن الرواتب عددها عشر ركعات، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.والرأي الثاني: أن عدد السنن الرواتب ثنتا عشرة ركعة، بدليل حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بيتها قبل الظهر أربعاً)، هذا الحديث اختلف أهل العلم رحمهم الله في توجيهه، فقيل: كيف نجمع بين حديث عائشة: (يصلي قبل الظهر أربعاً)، وبين حديث ابن عمر قال: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر)؟ فالجمع الأول: أنه إذا صلى الإنسان في بيته يصلي أربع ركعات، تكون السنة أربع ركعات، وإذا صلى في المسجد فإنه يصلي السنة القبلية ركعتين، هذا الجواب الأول. الجواب الثاني: أن هذا محمول على التنويع، يعني تارة النبي عليه الصلاة والسلام يصلي أربع ركعات قبل الظهر، وتارة يصلي ركعتين.والجواب الثالث أو الجمع الثالث وهذا مال إليه ابن القيم رحمه الله: أن هذه الأربع التي في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ليست سنة الظهر وإنما هي سنة مستقلة تكون عند زوال الشمس، يعني أربع ركعات كان النبي عليه الصلاة والسلام يصليها سنة مستقلة تكون عند زوال الشمس.الصواب أنه يؤخذ بالأكثر في هذه المسألة، وهو أن السنة القبلية للظهر أربع ركعات؛ ويدل لهذا الجمع حديث أم حبيبة رضي الله تعالى عنها في صحيح مسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى لله في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة بني له بهن بيت في الجنة)، هذا في مسلم، في سنن الترمذي فسر هذه الثنتي عشرة: أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. وحينئذ نقول: يستحب للإنسان أن يحافظ على هذه الثنتي عشرة ركعة، لكي ينال هذا الفضل العظيم وهو أنه يبنى له بيت في الجنة، مع أن هذه السنن تجبر الصلاة.

وقت السنن الرواتب
هذه السنن إن كانت قبلية فوقتها من دخول وقت الصلاة المفروضة إلى إقامة الصلاة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )، هذا الصواب، الصواب بالنسبة لوقتها إذا كانت قبلية نقول: وقتها من دخول وقت الصلاة إلى إقامة الصلاة، وإن كانت بعديةً فوقتها من بعد الفراغ من الصلاة إلى خروج وقت الصلاة.الشافعية قالوا: وقتها سواء كانت بعدية أو قبلية من دخول الوقت إلى خروجه، وهذا فيه نظر؛ لأنه لو كان وقتها من دخول الوقت إلى خروجه لم يكن هناك فائدة من تقسيم السنن إلى سنن قبلية وسنن بعدية.الحنفية يستثنون ركعتي الفجر، يقولون: تصلى ولو بعد إقامة الصلاة، وهذا أيضاً فيه نظر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )، وفي لفظ: ( فلا صلاة إلا التي أقيمت ).وأما ما ورد في البيهقي من استثناء ركعتي الفجر فهذا لا يثبت، الثابت هو الذي في الصحيح: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي أقيمت )، أو ( لا صلاة إلا المكتوبة ).

قضاء السنن الرواتب
يستحب للمسلم إذا فاتته هذه السنن لعذر من نوم أو شغل أو نحو ذلك أن يقضي هذه السنن، قضاء هذه السنن مستحب، فإذا شغلت في صلاة الظهر وقد أقيمت الصلاة فبعدما تنتهي من الصلاة صل السنة البعدية، ابدأ بالبعدية، ثم بعد ذلك اقض السنة القبلية التي فاتتك. وكذلك أيضاً إذا أتيت لصلاة الفجر وقد أقيمت الصلاة فإنه يستحب لك أن تقضي سنة الفجر؛ والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح ( أن النبي عليه الصلاة والسلام لما شغله وفد عبد القيس عن السنة البعدية لصلاة الظهر قضاها النبي عليه الصلاة والسلام بعد العصر )، وكذلك أيضاً لما نام عن سنة الفجر قضاها النبي عليه الصلاة والسلام لما استيقظ. وأيضاً في حديث قيس بن قهد : ( لما انصرف النبي عليه الصلاة والسلام من صلاة الفجر وجده يصلي ركعتين، فقال: آلفجر أربعاً؟ فأخبره أنه لم يصل السنة، فأقره النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك ).فنقول: يستحب للمسلم أن يقضيها، وهل تقضى في أوقات النهي أو لا تقضى في أوقات النهي؟ يقول: لا تقضى في أوقات النهي إلا أننا نستثني من ذلك سنة الفجر، لا بأس أن الإنسان يقضيها بعد الصلاة؛ لحديث قيس بن قهد السابق، والأفضل أن تقضيها بعد طلوع الشمس، هذا الأحسن والأفضل لفعل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.يستثنى أيضاً سنة الظهر البعدية إذا شغلت عنها فلا بأس أن تقضيها بعد العصر لفعل النبي عليه الصلاة والسلام.

آكد السنن الرواتب
قال المؤلف رحمه الله: [وحدثتني حفصة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طلع الفجر وأذن المؤذن صلى ركعتين وهما آكدها )].يقول: آكد هذه السنن ركعتا الفجر، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ) رواه مسلم .وأيضاً: قول عائشة رضي الله تعالى عنها: ( لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً من ركعتي الفجر )، وهذا في الصحيحين.فينبغي أن نحافظ على هاتين الركعتين، ويكفي فيهما قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها )؛ لأن هذه الدنيا مهما ملكتها فإنك ستزول عنها، لكن بالنسبة لهاتين الركعتين اللتين صليتهما فإنك ستجدهما يوم القيامة، وستثاب عليهما الثواب الذي لا تزول عنه، هذه الدنيا مهما ملكتها فإنك ستزول إن لم تزل هي عنك، لكن بالنسبة لهاتين الركعتين ستجدهما يوم القيامة، وستثاب عليهما ثواباً لا يزول أبداً؛ ولهذا كان هاتان الركعتان خيراً من الدنيا وما فيها. بعد ركعتي الفجر في الآكدية سنة المغرب، ثم بعد ذلك قال العلماء رحمهم الله: الباقي سواء، فسنة الظهر القبلية والبعدية وسنة العشاء هذه السنن الثلاث سواء، يعني متساوية في الفضيلة.

استحباب تخفيف ركعتي الفجر وصلاتها في البيت
قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب تخفيفهما، وفعلهما في البيت أفضل، وكذا ركعة المغرب].بالنسبة لسنة الفجر لتأكد هذه السنة شرع لها سنن، يعني يشرع لسنة الفجر سنن: السنة الأولى: قال المؤلف رحمه الله: (ويستحب تخفيفهما)، يستحب للمسلم أن يخفف ركعتي الفجر؛ ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنهما قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفف الركعتين قبل الفجر حتى إني أقول: أقرأ فيهما بأم القرآن؟ ) يعني: أقرأ فيهما بالفاتحة؟ وهذا من تخفيفه عليه الصلاة والسلام، وهذا في الصحيحين.السنة الثانية: أن يقرأ في الركعة الأولى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136] . ويقرأ في الركعة الثانية قوله تعالى في سورة آل عمران : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران:64].أو يقرأ في الركعة الأولى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وفي الركعة الثانية: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].السنة الثالثة: قال: (وفعلهما في البيت أفضل).واعلم أن سائر السنن والتطوعات السنة أن تفعل في البيت، هذا هو السنة بالنسبة للنوافل والتطوعات أن تفعل في البيت؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( صلوا في بيوتكم، لا تجعلوها قبوراً )، إلا ما يشرع أن تفعله في المسجد مثل التراويح، مثل الكسوف، الاستسقاء، تحية المسجد، ما عدا ذلك السنة أن تفعله في البيت، فالسنن الرواتب السنة أن تفعل في البيت، والوتر السنة للإنسان أن يفعله في البيت إلا إذا كان هناك مقتض يقتضي أن تفعله في المسجد، يخشى الإنسان أنه لو ذهب إلى البيت أنه لا يصلي، أو أن المكان قد لا يناسبه.والصلاة في البيت فيها فضل عظيم، أولاً: اتباع النبي عليه الصلاة والسلام، يعني استجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. وثانياً: طرد الشيطان، وإحلال البركة.وأيضاً ثالثاً: أن الإنسان يعلم أهله هذه الصلاة؛ فإن الصغار والكبار يقتدون به.

الاضطجاع بعد ركعتي الفجر
السنة الرابعة لسنة الفجر: الاضطجاع بعد ركعتي الفجر هل هو مشروع أو ليس مشروعاً؟ يعني إذا صلى الإنسان ركعتي الفجر هل يسن له أن يضطجع أو لا يسن له أن يضطجع؟ هذه المسألة موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فذهب طائفة من السلف من الصحابة والتابعين إلى أن هذا سنة، يسن للإنسان أن يضطجع بعد ركعتي الفجر وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد ، يعني إذا صليت سنة الفجر المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن تضطجع على جانبك الأيمن، وهذا قال به ابن سيرين وعروة ، وأيضاً قال به من الصحابة أبو موسى وأنس وأبو هريرة ورافع وغيرهم.والرأي الثاني: أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر بدعة، وهذا قال به الإمام مالك رحمه الله، وأيضاً قال به ابن مسعود وابن عمر .والرأي الثالث: أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر واجب، وهذا ذهب إليه ابن حزم رحمه الله، ابن حزم رحمه الله يقول: إن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر واجب، وأن الإنسان إذا لم يضطجع فإن صلاة الفريضة باطلة ولا تصح! والصواب في هذه المسألة: أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر يستحب إذا كان هناك حاجة، فإن لم يكن حاجة فإنه لا يشرع، هذا لعله هو الأقرب من أقوال أهل العلم رحمهم الله.
صلاة الوتر

حكم صلاة الوتر
قال المؤلف رحمه الله: [الضرب الثاني: الوتر، ووقته ما بين صلاة العشاء والفجر].قول المؤلف رحمه الله: (الضرب الثاني: الوتر) يفهم منه أن الوتر ليس واجباً وإنما هو سنة، وهذا قول جمهور أهل العلم؛ ودليل ذلك حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن، فقال له: إنك تأتي قوماً من أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة )، الشاهد قوله: ( خمس صلوات في اليوم والليلة )، ولو قلنا بأن الوتر واجب لكانت الصلوات الواجبة في اليوم والليلة ستاً. وعند الحنفية رحمهم الله: أن الوتر واجب، وأن الإنسان إذا لم يوتر فإنه يأثم، واستدلوا بحديث أبي أيوب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الوتر حق، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه ، لكن كثير من الأئمة على أنه موقوف، وليس مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، أبو حاتم والذهلي والدارقطني والبيهقي كلهم يقولون: بأن هذا الحديث موقوف، ولو صح هذا الحديث لكان محمولاً على أنه يتأكد استحباب الوتر.وقال علي رضي الله تعالى عنه: ( الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة، ولكنه سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وهذا حسنه الترمذي .وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يجب الوتر على من يقوم الليل، إذا كان الإنسان يقوم الليل فإنه يجب عليه أن يوتر.

عدد ركعات الوتر
قال المؤلف رحمه الله: [أقله ركعة].تقدم في مباحث الوتر حكم الوتر، الآن ذكر المؤلف رحمه الله ما يتعلق بعدد الوتر، فالوتر أقله ركعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( الوتر ركعة من آخر الليل )، وورد الإيتار بواحدة عن عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، المهم أن الإنسان لا يترك الوتر، حتى لو أوترت بواحدة.قال المؤلف رحمه الله: [وأكثره إحدى عشرة].لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر إحدى عشر ركعة ) في مسلم .وأيضاً قول عائشة : ( ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة ).فنقول: أكثره إحدى عشرة، وقد ورد ثلاث عشرة كما في حديث ابن عباس وحديث عائشة ، والجمع سهل، غالب هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الوتر أنه يوتر بإحدى عشرة، الغالب أنه يوتر بإحدى عشرة ركعة، وربما زاد إلى ثلاث عشرة، وربما نقص إلى تسع إلى سبع إلى خمس، لكن الغالب أنه كان يوتر عليه الصلاة والسلام بإحدى عشرة ركعة، فينبغي للمسلم أن يتحرى سنة النبي عليه الصلاة والسلام.

صفة صلاة الوتر
قال المؤلف رحمه الله: [وأدنى الكمال ثلاث بتسليمتين].أدنى الكمال ثلاث ركعات، يعني أوترت بواحدة وقع الإجزاء، لكن أدنى كمال الوتر ثلاث ركعات، إذا أراد الإنسان أن يوتر بثلاث فله صفتان: الصفة الأولى: أن تصلي ركعتين ثم تسلم ثم تصلي ركعة، هذه الصفة الأولى. الصفة الثانية: أن تصلي ثلاث ركعات سرداً بسلام واحد وتشهد واحد، تارة تصلي هكذا، وتارة تصلي هكذا.وإذا أردت أن توتر بخمس فالسنة أن تسردها سرداً، تصلي الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة ثم تجلس تتشهد وتسلم، ولهذا في حديث أم سلمة قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبع وبخمس، لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام ). فنقول: إذا أردت أن توتر بخمس فالسنة أن تسردها سرداً، تصلي الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة ثم تجلس تتشهد وتسلم، إذا أردت أن توتر بسبع أيضاً السنة أن تسردها سرداً كالخمس، الأولى ثم الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة، ثم تجلس تتشهد وتسلم، وهذه دليله كما تقدم ما في صحيح مسلم حديث أم سلمة قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بخمس وبسبع لا يفصل بينهما بسلام ولا كلام ).وقد ورد في مسند الإمام أحمد رحمه الله صفة أخرى للإيتار بسبع، وهي أن يسردها سرداً لكن بتشهدين وسلام، يعني تصلي ست ركعات سرداً الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم تجلس تتشهد، ثم تقوم وتأتي بالسابعة ثم تجلس وتتشهد.إذا أردت أن توتر بتسع أيضاً تسردها سرداً كما في حديث عائشة رضي الله تعالى، تصلي ثمان ركعات سرداً، ثم تجلس تتشهد، ثم تقوم وتصلي التاسعة، وبعد أن تنتهي من صلاة التاسعة تتشهد وتسلم، فتسع كالصفة الثانية في السبع، والخمس كالصفة الأولى في السبع.إذا أردت أن توتر بإحدى عشرة فالصواب أنك تسلم من كل ركعتين. وقد ذكر العلماء رحمهم الله للإيتار بإحدى عشرة أربع صفات، لكن الصواب من هذه الصفات التي دلت لها السنة أنك تسلم من كل ركعتين؛ لقول عائشة : ( كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ).وأيضاً يدل لذلك حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة الليل مثنى مثنى ).

القنوت في الوتر
قال المؤلف رحمه الله: [ويقنت في الثالثة بعد الركوع].القنوت هو الدعاء، والقنوت في اللغة يطلق على معان منها: القيام، طول العبادة، التسبيح، الخشوع، الدعاء، لكن المراد بذلك هنا الدعاء.وقال المؤلف رحمه الله: (بعد الركوع)، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن السنة جاءت بأن القنوت يكون قبل الركوع ويكون بعد الركوع، وحديث أبي بن كعب في قنوت النبي صلى الله عليه وسلم قبل الركوع فيه ضعف، وعلى هذا يقنت الإنسان بعد الركوع.ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن القنوت في الوتر مشروع كل ليلة في كل قنوت، يعني كلما أوترت فإنك تقنت، وهذا مذهب أحمد وأبي حنيفة رحمهم الله.وقال مالك والشافعي : لا يقنت إلا في النصف الثاني من رمضان فقط، لا قنوت إلا في النصف الثاني من رمضان؛ لأن عمر رضي الله تعالى عنه لما جمع الناس على أبي بن كعب يصلي بهم في رمضان، فكان لا يقنت إلا في النصف الثاني من رمضان، وهذا ضعيف.واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في القنوت أنه يفعل في بعض الأحيان، ويترك في بعض الأحيان، يعني أن الإنسان ما يداوم على القنوت، يفعله في بعض الأحيان، ويتركه في بعض الأحيان.والذي يتأمل سنة النبي عليه الصلاة والسلام الثابتة في الصحيح نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقنت، كما في حديث عائشة وحذيفة وابن مسعود وجابر وغير ذلك. يعني الذي ينظر إلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام، في الصحيح من صلاته في الليل -تهجده ووتره- يجد أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يقنت، عند بعض العامة أنه إذا ما قنت ما أوتر، وهذا خطأ، بل كما ذكرت المتأمل في سنة النبي عليه الصلاة والسلام الثابتة في الصحيح الذين وصفوا صلاة النبي عليه الصلاة والسلام في الليل عائشة ابن عباس حذيفة ابن مسعود جابر وغيرهم ما ذكروا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقنت، هذا لم يذكروه، لكن القنوت هذا ورد في حديث الحسن : ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر )، مع أن بعض أهل العلم لا يثبت هذا الحديث بهذا اللفظ، وإنما قال: ( كلمات أقولهن في قيام الليل )، وورد أيضاً حديث أبي بن كعب : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام قنت في الوتر )، وهذا الحديث بعض أهل العلم يثبته وبعضهم لا يثبته. على كل حال الخلاصة في هذه المسألة: أن الغالب على هدي الإنسان أنه لا يقنت، يعني توتر بلا قنوت، وفي بعض الأحيان تقنت، هذا لا بأس؛ لأنك إذا تأملت هدي النبي عليه الصلاة والسلام تجد أنه في الغالب أنه لا يقنت، لكن في بعض الأحيان لا بأس أن تقنت.أيضاً من المسائل التي ينبه لها في القنوت: أن القنوت ورد في حديث الحسن : ( اللهم اهدني فيمن هديت )، هذا الذي ورد، يعني قال: ( كلمات أقولهن في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت.. ) إلى آخره، ولا بأس أن الإنسان أيضاً يزيد، يعني ورد أيضاً عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك )، هذا ورد. وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله أن القنوت يكون بقدر سورة إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1] ، وعلى هذا الإنسان يقنت بهذه الكلمات الواردة، أو بما ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه: اللهم إنا نستعينك ونستهديك.. إلى آخره، ولا يطيل في القنوت، يقتصر على ما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام، كما أسلفت الإمام أحمد رحمه الله قال: إنه بقدر إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1].
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-25, 01:16 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [12]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(21)

صلاة التراويح من السنن المؤكدة، وهي عشرون ركعة وقيل غير ذلك، ووقتها من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وتسن الجماعة لها كما تسن لصلاة الكسوف.

صلاة التراويح
ذكر المؤلف رحمه الله سابقاً أن صلاة التطوع على خمسة أضرب، وصلاة التطوع من جوابر الصلاة، وسبقت الإشارة إلى أن هذه الفرائض التي أوجبها الله عز وجل جعل الشارع لها جوابر تجبرها، إذ إن هذه الفرائض يعتريها شيء من الخلل والسهو والغفلة، ومن رحمة الله عز وجل أن جعل ما يجبر هذا السهو لكي يأتي المسلم يوم القيامة بصلاة تامة، فإن أول ما يقضى بين العباد فيما يتعلق بحق الله عز وجل الصلاة. وسبقت الإشارة إلى أن جوابر الصلاة ثلاثة: سجود السهو، والذكر بعد الصلاة، وصلاة التطوع، وتقدم لنا ما يتعلق بسجود السهو، وكذا أيضاً ما يتعلق بالذكر دبر الصلاة، ثم بعد ذلك شرع المؤلف رحمه الله فيما يتعلق بصلاة التطوع، وتقدم لنا في الدروس السابقة شيء من أضرب صلاة التطوع، فإن المؤلف رحمه الله جعلها على خمسة أضرب، فتقدم لنا ما يتعلق بالضرب الأول وهو السنن الرواتب، وإنما بدأ بها المؤلف رحمه الله لأنها تابعة للفرائض، فوقتها هو وقت الفريضة. وتقدم ما يتعلق من الأحكام المتعلقة بسنن الرواتب، فيما يتعلق بعددها، ووقتها، وما يتعلق بقضائها، وأيضاً السنن التي تشرع في هذه السنن أو بعضها.. إلى آخره. وكذلك أيضاً ثنى المؤلف رحمه الله بالضرب الثاني وهو الوتر؛ لأن الوتر أيضاً تابع للفرائض، الوتر يكون بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وأيضاً بعض العلماء كـأبي حنيفة رحمه الله ذهب إلى وجوبه، وسبقت الإشارة إلى أحكام الوتر من حيث الوجوب، من حيث الوقت، من حيث القضاء.. إلى آخره، وأيضاً بيان كيفية الوتر إذا أراد أن يوتر بثلاث أو خمس أو سبع أو تسع ونحو ذلك، وما كيفية ذلك تقدم بيانه… إلى آخره. ثم ثلث المؤلف رحمه الله بصلاة التطوع تطوعاً مطلقاً، وما يتعلق بصلاة الليل، تقدم لنا أيضاً صلاة الليل والسنن التي ينبغي للمسلم أن يتحلى بها عند القيام لصلاة الليل، وما هو أفضل أوقاتها، وما هو وقتها.. إلى آخره.ثم قال المؤلف رحمه الله: [الضرب الرابع: ما تسن له الجماعة وهو ثلاثة أنواع أحدها: التراويح]، هذا الضرب الرابع من ضروب صلاة التطوع.التراويح جمع ترويحة، وهي في الأصل اسم للجلسة مطلقاً.وأما في الاصطلاح: فهو قيام رمضان.

حكم صلاة التراويح
والتراويح سنة مؤكدة سنها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ليالي فصلوها معه، ثم تأخر فصلى في بيته بقية الشهر، وقال: إني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها )، وهذا في الصحيحين.ويدل لذلك أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )، وهذا في الصحيحين. والتراويح يذكرها أهل السنة رحمهم الله في تآليفهم في العقيدة، إذ إن تأدية هذه الصلاة من سمات أهل السنة، وعدم تأديتها من سمات أهل البدعة؛ الرافضة قبحهم الله لا يرون التراويح ويقولون بأنها بدعة عمر ، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: من لم يصل التراويح من أهل السنة ففيه شبه بالرافضة؛ لأن الرافضة كما أسلفت لا يرون التراويح، ويقولون: بأنها بدعة عمر رضي الله تعالى عنه، وهذا من خللهم وخطئهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سن التراويح كما تقدم لنا في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، وأيضاً بين فضلها كما سبق في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ).

عدد صلاة التراويح
قال المؤلف رحمه الله: [وهي عشرون ركعة بعد العشاء في رمضان]. تقدم حكمها وأنه سنة مؤكدة، ثم بين المؤلف رحمه الله عدد ركعاتها، فقال: عشرون ركعة دون الوتر، يعني عدد ركعات التراويح دون الوتر عشرون ركعة، فيصلي عشرين ركعة ثم بعد ذلك يوتر، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله والشافعي وأبي حنيفة ، فالأئمة الثلاثة يرون أن عدد ركعات التراويح عشرون ركعة، عند الإمام مالك رحمه الله عدد ركعاتها ست وثلاثون ركعة. وقال بعض العلماء: بأن عدد ركعاتها إحدى عشرة، وقيل: ثلاث عشرة، فهذه أربعة آراء، الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد : عشرون ركعة دون الوتر، مالك : ست وثلاثون ركعة دون الوتر، وذهب بعض أهل الحديث إلى أنها إحدى عشرة، وذهب آخرون إلى أنها ثلاث عشرة. شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يقول: التراويح ليس لها عدد معين، وحينئذ يكون تكثير الركعات وتقليلها حسب تطويل الركوع والسجود والقراءة، فإذا أطال الإنسان القراءة والركوع والسجود قلل الركعات، وإذا قصر أكثر الركعات وهو كله حسن.المؤلف رحمه الله ذهب إلى أن عدد ركعات التراويح عشرون، وقلنا بأن هذا أيضاً مذهب أبي حنيفة والشافعي ، واستدلوا على ذلك بأثر السائب بن يزيد قال: كانوا يقومون على عهد عمر رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة. وهذا أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، والبيهقي في السنن الكبرى، وإسناده صحيح.من قال: بأنها إحدى عشرة استدل بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشر ركعة )، وهذا في الصحيحين. وكذلك أيضاً استدلوا بأن عمر رضي الله تعالى عنه أمر أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما بالناس بإحدى عشرة ركعة. وهذا أخرجه مالك والبيهقي ، وإسناده صحيح.والذين قالوا: بأنها ثلاث عشرة استدلوا بما ورد من حديث عائشة وحديث ابن عباس في فعل النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث عشرة.. إلى آخره، وتقدم أن أشرنا إلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, وأنه ليس في التراويح عدد معين، وأن هذا كله حسن.والأقرب في ذلك أن يقال: إن الإنسان ينظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهدي النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ( أنه ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشر ركعة )، فيأخذ بهدي النبي عليه الصلاة والسلام، ويطيل القراءة والركوع والسجود؛ لأنه كما سلف من قول شيخ الإسلام أن التكثير والتقليل يكون على حسب طول القراءة والركوع والسجود، وعلى هذا إذا قلل الركعات فإنه يركد الركوع والسجود والقراءة. وكان السلف رحمهم الله يعتمدون على العصي من طول القيام، وكانوا ينصرفون قبل طلوع الفجر، فينبغي للإنسان أن يطيل، ولو أن أحداً صلى عشرين فهذا لا إنكار عليه، فالسلف رحمهم الله تقدم لنا حديث السائب بن يزيد كانوا يقومون في عهد عمر بعشرين ركعة, وأيضاً السلف فعلوا العشرين، فـالأعمش وسعيد بن جبير وأبو مجلز وابن أبي مليكة رحمهم الله كانوا يصلون عشرين ركعة، فلا تحجير. وتقدم لنا حديث ابن عمر في الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( صلاة الليل مثنى مثنى )، فلا حد، لو صلى الإنسان عشرين كما قال الأئمة أو صلى ستاً وثلاثين كما قال الإمام مالك فإنه لا تحجير، لكن الأفضل أن الإنسان يتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي كما صلى النبي عليه الصلاة والسلام، ويطيل القراءة والركوع والسجود.

وقت صلاة التراويح
قال المؤلف رحمه الله: [بعد العشاء في رمضان]. هنا بين المؤلف رحمه الله وقت صلاة التراويح، وأن وقت صلاة التراويح بعد صلاة العشاء، فإذا صلى الإنسان العشاء وصلى السنة الراتبة يصلي التراويح.قال المؤلف رحمه الله: [ويمتد وقتها إلى طلوع الفجر]. يعني: الوقت يمتد إلى طلوع الفجر؛ لأن التراويح من صلاة الليل، وصلاة الليل يمتد وقتها إلى طلوع الفجر، وسبق بيان ذلك وذكر الأدلة عليه من حديث أبي سعيد , ابن عمر وكذلك أيضاً حديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بإحدى عشرة ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر يسلم من كل ركعتين )، وهل الأفضل أن يؤديها الإنسان في أول الليل أو في آخره؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فقال بعض العلماء كالإمام أحمد رحمه الله: الأفضل أن تكون في أول الليل؛ لأن الناس في عهد عمر رضي الله تعالى عنه كانوا يقومون أول الليل.والرأي الثاني: أن الأفضل أن يصليها آخر الليل، وهذا قال به الإمام مالك رحمه الله؛ لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من طمع أن يقوم من آخر الليل فليوتر آخره، فإن صلاة آخر الليل مشهودة محظورة، ومن لم يطمع أن يقوم من آخر الليل فليوتر أوله )، وهذا أخرجه مسلم .وأيضاً حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا فيقول: من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ من يدعوني فأستجيب له؟ إلى طلوع الفجر، وذلك كل ليلة ).وأيضاً قال عمر رضي الله تعالى عنه: والتي ينامون عنها أفضل. يعني: كونهم يتركون الوتر في آخر الليل، ويفعلونه في أول الليل، وينامون عن الصلاة في آخر الليل، شرف الفضيلة. والأقرب في ذلك أن يقال: أنه ينظر الإنسان إلى الأرفق ما دام الناس يفعلونها في المساجد، والأرفق بالناس اليوم أن تؤدى في أول الليل؛ لأنها إذا أديت في آخر الليل أو قيل بأنها تؤدى في آخر الليل للحق الناس في ذلك مشقة، إلا إن كانوا جماعة محصورة، أو كان الإنسان منفرداً فإن السنة أن تكون صلاته آخر الليل هذا الأفضل.

صلاة الكسوف
قال المؤلف رحمه الله: [والثاني: صلاة الكسوف، فإذا ما كسفت الشمس أو القمر فزع الناس إلى الصلاة إن أحبوا جماعة، وإن أحبوا أفراداً].الكسوف في اللغة: التغير إلى سواد. والخسوف في اللغة: الذهاب والنقصان.وأما في الاصطلاح: فهو انحجاب ضوء الشمس أو القمر بسبب غير معتاد، ويقال: كسفت الشمس وخسفت الشمس، وكسف القمر وخسف القمر، هذا كله وارد، والسنة وردت كسفت الشمس وخسفت الشمس هذا كله وارد، فيجوز أن تقول: كسفت الشمس، وخسفت الشمس، ويجوز أيضاً أن تقول: كسف القمر وخسف القمر.قال ثعلب وهو من أئمة اللغة: أجود الكلام أن يقول الإنسان: كسفت الشمس، وخسف القمر، هذا هو أجود الكلام.وظاهر كلام المؤلف رحمه الله في قوله: (صلاة الكسوف) أنها سنة وتأتي الإشارة إلى ذلك، والأصل في صلاة الكسوف القرآن والسنة والإجماع.أما القرآن فقول الله عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [فصلت:37] استنبط بعض العلماء من هذه الآية شرعية صلاة الكسوف والخسوف.وأما السنة في ذلك كثيرة جداً، وسيأتينا إن شاء الله في بحث مسائل الكسوف كثيراً من الأدلة، من ذلك حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده )، وفي حديث عائشة : ( إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته.. ) إلى آخره، ويأتينا إن شاء الله بقية الأحاديث الواردة في ذلك. والإجماع قائم على ذلك. ‏

حكم صلاة الكسوف
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن صلاة الخسوف سنة؛ لأنه ذكرها في صلاة التطوع، وجعلها من الضرب الرابع وهو التطوع الذي تسن له الجماعة، وذكر أن هذا الضرب على ثلاثة أنواع، فظاهر كلامه رحمه الله أن صلاة الكسوف سنة وليست واجبة، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم، فجمهور العلماء رحمهم الله على أن صلاة الكسوف سنة وليست واجبة.والرأي الثاني: أن صلاة الكسوف واجبة، وهذا صرح به أبو عوانة رحمه الله، ونقل عن أبي حنيفة وكذلك أيضاً مالك ، ولكل من القولين دليل. أما الذين قالوا: بأنها سنة وهم الجمهور فاستدلوا بحديث ابن عباس : ( لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال: إنك تأتي قوماً من أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة )، فدل على أن المفروض خمس صلوات، وما عدا ذلك ليس واجباً. وأيضاً استدلوا بحديث طلحة بن عبيد الله في الصحيحين: ( في السائل الذي سأل عما افترض الله عز وجل من الصلوات؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة )، فلو كان هناك صلاة واجبة غير هذه الصلوات لبينه النبي صلى الله عليه وسلم.والرأي الثاني الذين قالوا بالوجوب استدلوا على ذلك بدليلين: أما الدليل الأول: ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالفزع إلى الصلاة عند حدوث الكسوف )، والأصل في الأمر الوجوب.وأيضاً الدليل الثاني: قالوا: إن الكسوف سببه الشرعي تخويف العباد، فكون الإنسان يرى مثل هذه الآية العظيمة، وتخويف الله للناس، وانطماس ضوء هذا الكوكب العظيم، ولا يفزع إلى الصلاة هذا يدل على قلة الإيمان، وعدم المبالاة، وهذا من تعظيم الله عز وجل وتعظيم آياته، فالله عز وجل يقول: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] ، وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30] ، وهذا أحوط أن الإنسان إذا حصل مثل هذه الآيات العظيمة يفزع إلى الصلاة.

سبب الكسوف
الكسوف له سببان: السبب الأول: سبب شرعي. والسبب الثاني: سبب حسي كوني.أما السبب الشرعي فبينه النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي بكرة كما سبق، فقال عليه الصلاة والسلام: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده )، فسببهما الشرعي: تخويف العباد، وقد ذكر بعض العلماء أن حدوث الكسوف والخسوف بمنزلة الإنذار بوقوع العقوبة، فينبغي للإنسان إذا حصل ذلك أن يلجأ إلى الله عز وجل أولاً بالتوبة، ثم بعد ذلك يلجأ إلى الصلاة كما أرشد النبي عليه الصلاة والسلام بالصلاة، والصدقة، والدعاء، والاستغفار، والعتق، هذه كلها مستحبة عند حصول الكسوف، يصلي، ويذكر الله، ويتصدق، ويعتق، ويستغفر.. إلى آخره، هذا السبب الشرعي تخويف العباد.أما السبب الكوني بالنسبة لكسوف الشمس هو حيلولة القمر بين الأرض وبين الشمس، إذا حال القمر بين الأرض وبين الشمس حصل كسوف الشمس، انحجب ضوؤها عن كوكب الأرض.وأما بالنسبة للسبب الكوني لكسوف القمر فهو حيلولة الأرض بين الشمس وبين القمر؛ لأن القمر يستقي نوره من الشمس، فالشمس كالقنديل، والقمر كالمرآة، فيأخذ القمر من هذا القنديل ويعكسه على كوكب الأرض، فإذا حالت الأرض بين الشمس وبين القمر انحجب ضوء القمر عن كوكب الأرض فحصل خسوف القمر، فأصبح السبب الكوني لخسوف القمر أن الأرض تحول بين الشمس وبين القمر، وأما السبب الكوني لكسوف الشمس فهو حيلولة القمر بين الشمس وبين الأرض.

وقت حصول الكسوف والخسوف
وهل الكسوف متصور في كل وقت أو أنه ليس متصوراً في كل وقت؟ هذه المسألة موضع خلاف بين أهل العلم، يعني هل كسوف الشمس متصور في كل يوم أو نقول: له أوقات معينة؟ هل خسوف القمر متصور في كل ليلة أو نقول: له أوقات معينة؟ هذه المسألة موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فجمهور أهل العلم قالوا: يتصور كسوف الشمس وخسوف القمر في كل وقت.وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لا يتصور في كل وقت، وهذا قول أهل الفلك، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: الله عز وجل أجرى العادة أن خسوف القمر لا يكون إلا في وقت إبدار القمر حينما يكون بدراً، ومتى يكون بدراً؟ في ليالي البيض: ليلة الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، ما عدا هذه لا يمكن أن يخسف فيها القمر، هكذا أجرى الله عز وجل العادة، كما أن الله عز وجل أجرى العادة أن القمر يقل في بداية أول شهر قمري.. وهكذا حتى يكون بدراً، ثم يحصل له استسرار، فهذه أشياء أجراها الله عز وجل، وكسوف الشمس لا يكون إلا في أيام الاستسرار، يعني استسرار القمر ليلة التاسع والعشرين وليلة الثلاثين، ما عدا هذا لا يمكن أن يحدث خسوف أو كسوف.الجمهور استدلوا على ذلك قالوا: بأن إبراهيم ابن النبي عليه السلام مات في اليوم العاشر، وفي ذلك اليوم كسفت الشمس، وهذا الحديث باطل من وجهين: من جهة الإسناد، ومن جهة الواقع.من جهة الإسناد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الواقدي لا يحتج بمسانيده فكيف بمراسيله؟ مرسل من مراسيل الواقدي . من جهة الواقع أن بعض الفلكيين حسب الكسوفات التي حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر ذلك الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على كتاب المحلى لـابن حزم ، أن بعض الفلكيين حسب الكسوف الذي وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فتبين أن الكسوف وقع في السنة العاشرة للهجرة، في يوم الثلاثاء في اليوم الرابع عشر في الساعة الثامنة والنصف صباحاً، وقد ذكر هذا الفلكي أنه أيضاً أثناء الحساب وجد أن القمر خسف أيضاً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام في السنة الرابعة للهجرة، لكن لم ينقل أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الكسوف، فالذي نقل أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى لكسوف الشمس. الصواب في مثل هذا أن الكسوف والخسوف لا يمكن أن يحدثا إلا في أوقات معينة فقط؛ لأنه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أجرى الله عز وجل العادة أن تكون هذه الأشياء في هذه الأوقات، كما أن الهلال يخرج في وقت كذا وكذا.. إلى آخره.

حكم أداء صلاة الكسوف جماعة
قال المؤلف رحمه الله: [فإذا ما كسفت الشمس أو القمر فزع الناس إلى الصلاة إن أحبوا جماعة، وإن أحبوا أفراداً].ويؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله أن الجماعة في صلاة الكسوف ليست واجبة، كما أن الجماعة في صلاة التراويح ليست واجبة، فلو أن الإنسان صلى في بيته لا بأس، لكن الأفضل أن يجتمع الناس في المساجد، والأفضل أيضاً أن يجتمعوا في الجوامع، الأفضل أن يجتمعوا في المساجد وفي الجوامع، ( والنبي عليه الصلاة والسلام صلاها جماعة، وبعث منادياً ينادي: الصلاة جامعة )، فاجتمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم النساء.

صفة صلاة الكسوف
قال المؤلف رحمه الله: [فيكبر ويقرأ الفاتحة وسورةً طويلة، ثم يركع..] إلى آخره. هنا شرع المؤلف رحمه الله في بيان صفة صلاة الكسوف، وصفة صلاة الكسوف أشكلت على العلماء رحمهم الله لورود صفات كثيرة لها في السنة، وهذه الصفات سنسردها كما ذكر ابن حزم رحمه الله وغيره.الصفة الأولى: أن يصلي ركعتين في كل ركعة ركوعان كما هو المعمول عندنا الآن، يصلي ركعتين في كل ركعة ركوعان، فيكبر ويستفتح ويستعيذ ويبسمل ويقرأ الفاتحة، ثم يقرأ سورة طويلة، في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أنها بقدر سورة البقرة )، كما في صحيح البخاري ، ثم يركع ركوعاً طويلاً، ثم يرفع، ويشرع في قراءة الفاتحة، ثم يقرأ سورة طويلة دون الأولى، ثم يركع ويطيل الركوع دون الأول، ثم يرفع ويسمع ويحمد ويطيل -على الصواب- ثم يسجد سجدتين يطيل فيهما، ويطيل أيضاً بين السجدتين، ثم يقوم ويفعل الركعة الثانية كالأولى لكنها دونها في القراءة والركوع إلى آخره، هذه الصفة دل لها حديث ابن عباس وحديث عائشة رضي الله تعالى عنهم.الصفة الثانية: أن يصلي في كسوف الشمس ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات.الصفة الأولى: يكرر الركوع مرتين، الصفة الثانية: يكرر الركوع ثلاث مرات، يعني يقرأ، ثم يركع، ثم يرفع ويقرأ، ثم يركع، ثم يرفع ويقرأ، ثم يركع، ثم يرفع ويسمع ويحمد.. إلى آخره.الصفة الثالثة أيضاً في كسوف الشمس: أن يصلي ركعتين في كل ركعة أربع ركوعات.الصفة الرابعة: أن يصلي ركعتين في كل ركعة خمس ركوعات.الصفة الخامسة: أن يصلي ركعتين في كل ركعة ركوع واحد كسائر المواطن.الصفة السادسة: أن يقوم ويكبر ويرفع يديه يذكر الله عز وجل ويدعوه حتى يتجلى الكسوف، فإذا تجلى الكسوف فإنه يصلي ركعتين في كل ركعة ركوع.الصفة السابعة: أن يصلي كأحدث صلاة صلاها من المكتوبة، فإذا كسفت الشمس ضحى أحدث صلاة صلاها الفجر، فيصلي ركعتين كصلاة الفجر، إذا كسفت بعد الظهر يصلي كصلاة الظهر.. وهكذا يصلي في كسوف الشمس وخسوف القمر كأحدث صلاة من المكتوبة، وعلى هذا لو خسف القمر بعد المغرب صلى ثلاثاً، ولو خسف بعد العشاء صلى أربعاً.. وهكذا.الصفة الثامنة والأخيرة: أن يصلي ركعتين ركعتين، وهذه الصفات الثمان اختلف العلماء رحمهم الله تجاهها إلى مسلكين: المسلك الأول: مسلك الترجيح، وهذا ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله والشافعي والبخاري وشيخ الإسلام وابن القيم والإمام مالك ذهبوا إلى مسلك الترجيح، وذلك بترجيح حديث عائشة وابن عباس الذي فيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين في كل ركعة ركوعان ) على بقية الصلوات، وما عدا هذه الصفة شاذ، وإن ثبت بعضها في صحيح مسلم ، ويدل لهذا الترجيح أمران: الأمر الأول كما ذكر البيهقي : أن الروايات التي وردت في صفة صلاة الكسوف تشير إلى موت إبراهيم عليه السلام، وموت إبراهيم عليه السلام وقع مرة واحدة، فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الكسوف مرة واحدة فقط ولم يعدد، لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة وإنما صلى مرةً واحدة فقط، فيدل على أنه صلى صفة واحدة، وما عدا هذه الصفة فإنه شاذ.الأمر الثاني: ما سبق أن نقلناه عن الفلكي الذي حسب الكسوف الذي حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الشمس لم تكسف في عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلا مرةً واحدة فقط، فإذا كان كذلك فيدل على أن صفة الكسوف لم تتعدد.المسلك الثاني: مسلك الجمع، وهذا ذهب إليه ابن حزم رحمه الله، وكذلك أيضاً إسحاق بن راهويه وابن خزيمة وغيرهم من أهل العلم ذهبوا إلى مسلك الجمع، وأنه يعمل بسائر الصفات الواردة، فتارةً يصلي هذه الصفة وتارةً يصلي هذه الصفة إلى آخره. والصواب أنه يسلك مسلك الترجيح كما ذهب إليه الإمام أحمد ومالك والشافعي والبخاري وشيخ الإسلام ابن القيم ، فترجح صفة الصلاة التي وردت في حديث عائشة وابن عباس على غيرهما من الصفات، هذا هو الصواب.

إطالة القراءة والأركان في صلاة الكسوف
قال المؤلف رحمه الله: [فيكبر ويقرأ الفاتحة وسورةً طويلة].السنة في صلاة الكسوف: أن يقرأ سورةً طويلة، وقد سبق أن أشرت ما ورد في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قام قياماً طويلاً قدر سورة البقرة )، وهذا أخرجه البخاري في صحيحه، وبهذا نعرف الخطأ الذي يكون عليه بعض الأئمة، إذ بعض الأئمة يصلي صلاة خفيفة، هذا خلاف السنة، السنة أن يطيل القراءة، كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يكثرون من طول القيام، وإذا كان الإنسان لا يحفظ فإنه يأخذ القرآن ويقرأ فيه، لا بد أن يحقق سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو المشروع.قال المؤلف رحمه الله: [ثم يركع ركوعاً طويلاً، ثم يرفع فيقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون التي قبلها، ثم يركع فيطيل دون الذي قبله، ثم يرفع]. وأيضاً الصواب أنه يطيل في الرفع الثاني بعد الركوع الثاني، هل يطيل فيه أو لا يطيل؟ هذا موضع خلاف، والمشهور من المذهب أنه لا يطيل فيه، والصواب أنه يطيل فيه، ويدل لذلك حديث جابر في صحيح مسلم قال: ( ثم ركع فأطال، ثم رفع فأطال، ثم ركع فأطال، ثم رفع فأطال )، فالصواب أنه يطيل.قال المؤلف رحمه الله: [ثم يسجد سجدتين طويلتين]. أيضاً يطيل ما بين السجدتين، الجلوس بين السجدتين هل يطيله أو لا يطيله؟ الصواب أنه يطيله؛ ويدل لذلك أن هدي النبي عليه الصلاة والسلام في صلاته أنها معتدلة كما في حديث البراء بن عازب قال: ( رمقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت ركوعه فرفعه، فسجوده، فجلسته بين السجدتين قريباً من السواء )، فمن السنة أن يطيل.

حكم الخطبة في صلاة الكسوف
قال المؤلف رحمه الله: [ثم يسجد سجدتين طويلتين، ثم يقوم فيفعل مثل ذلك، فتكون أربع ركعات وأربع سجدات]. وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن الإمام لا يخطب، لا يشرع له أن يخطب، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وقال به جمهور أهل العلم، وعند الشافعية: أنه يشرع للإمام أن يخطب، وهذا هو الصواب. نقول: يشرع للإمام أن يخطب، ويدل لذلك لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة في حديث عائشة قالت: ( ثم قام فقال: إن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته.. ) إلى آخر الحديث في الصحيحين.وأيضاً حديث أسماء في الصحيحين قالت: ( فحمد الله فأثنى عليه.. ) إلى آخره.فالصواب في هذه المسألة: أن الخطبة في صلاة الكسوف مشروعة، فإذا انتهى الإمام من الصلاة فإنه يخطب ويعظ الناس ويذكرهم ويخوفهم بالله عز وجل، ويبين لهم سبب الكسوف، وما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف.. إلى آخره.

انتهاء صلاة الكسوف ولم ينجل الكسوف
باقي مسائل تتعلق بصلاة الكسوف من هذه المسائل: إذا انتهت الصلاة والكسوف لم يتجل فماذا يفعل؟ نقول: يفعل ما أرشد له النبي صلى الله عليه وسلم، أن يدعو ويذكر الله عز وجل، يستمر في الذكر والدعاء إلى أن يتجلى الكسوف هذا هو السنة.

زوال الكسوف أثناء الصلاة
مسألة أخرى: إذا تجلى الكسوف وهو لا يزال في الصلاة، فنقول: إذا تجلى الكسوف وهو لا يزال في الصلاة فإنه يتمها خفيفة؛ لحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم )، وهذا في الصحيحين.

حكم صلاة الكسوف في أوقات النهي
المسألة الثالثة: صلاة الكسوف هل تفعل في أوقات النهي أو نقول: بأنها لا تفعل في أوقات النهي؟ جمهور أهل العلم أنها لا تفعل في أوقات النهي، وعند الشافعية: أنها تفعل في أوقات النهي، وهذا القول هو الصواب، وسيأتينا إن شاء الله ما يتعلق بذوات الأسباب هل تفعل في أوقات النهي أو لا تفعل في أوقات النهي؟ وأن الصواب أنها تفعل في أوقات النهي، ذوات الأسباب الصواب أنها تفعل في أوقات النهي، وهذا سيأتينا إن شاء الله بيانه في بيان الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، وما يشرع فيها من الصلوات وما لا يشرع فيها من الصلوات، وصلاة الكسوف من ذوات الأسباب.

حكم صلاة الكسوف لآية أخرى غير كسوف الشمس وخسوف القمر
المسألة الرابعة: هل يصلى بآية أخرى غير الكسوف أم نقول: بأن هذه الصلاة خاصة بصلاة الكسوف؟ العلماء رحمهم الله اختلفوا في ذلك على أقوال، المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه لا يصلى بآية أخرى إلا الزلزلة، إذا حصلت زلزلة فإنه يصلى كصلاة الكسوف؛ لورود ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكذلك أيضاً حذيفة بأسانيد صحيحة.والقول الثاني: هذه الصلاة لا تشرع إلا للكسوف، وهذا قال به مالك والشافعي ، مالك والشافعي قالا: لا يصلى إلا لصلاة الكسوف؛ قالوا: لأن هذه الآيات وجدت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وقع في عهد النبي عليه الصلاة والسلام هبوب الرياح، والظلمة في النهار، ونحو ذلك من الآيات ومع ذلك لم يرد أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى.والرأي الثالث رأي أبي حنيفة وهو اختيار شيخ الإسلام : أنه يصلى لكل آية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حديث أبي بكرة كما سبق: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده )، فالعبرة التخويف، فكل آية يحصل فيها تخويف تشرع لها صلاة الكسوف، كالزلزلة، وأيضاً وجود الظلمة في النهار، أو حصول الرياح والعواصف ونحو ذلك قالوا: بأن كل آية يحصل فيها تخوف تشرع لها الصلاة. والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-25, 01:25 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [13]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(22)

تستحب صلاة الاستسقاء جماعة، ولها كيفية معينة وردت في السنة كما أن لها جملة آداب ينبغي مراعاتها، كما يستحب سجود التلاوة، وقد اختلف أهل العلم في عدد سجدات التلاوة على أقوال، كما اختلفوا في كونها صلاة أو مجرد سجدة فلا يشترط فيها شروط الصلاة كالطهارة واستقبال

تابع صلاة الكسوف
تقدم لنا في الدرس السابق الضرب الرابع من صلاة التطوع مما تسن له الجماعة، وتكلمنا في هذا الضرب عن صلاة التراويح، وعرّفناها في اللغة والاصطلاح، وأن حكمها سنة، وذكرنا دليل ذلك، ثم بعد ذلك تطرق المؤلف رحمه الله إلى عدد ركعاتها، وذكر أن عدد ركعاتها عشرون ركعة. وقلنا: بأن هذا هو قول الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة ، وأن الإمام مالك رحمه الله يرى أن عدد ركعاتها ست وثلاثون ركعة من غير الوتر، وأن بعض أهل العلم ذهب إلى أنها إحدى عشرة, وقيل: ثلاث عشرة.وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كل ذلك حسن فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام والسجود والقراءة وقصر ذلك.وأيضاً تكلمنا عن صلاة الكسوف، وذكرنا حكمها، وما يتعلق بصفاتها… إلى آخره.وأيضاً تكلمنا هل يصلى بآية أخرى غير الكسوف؟ وأن العلماء اختلفوا في ذلك على ثلاثة آراء: الرأي الأول: أنه يصلى للزلزلة، إذا حصلت زلزلة في الأرض فإنه يصلى كما يصلى للكسوف، وهذا قال به الإمام أحمد رحمه الله لورود ذلك عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.والرأي الثاني: أنه لا يصلى إلا للكسوف، وهذا قال به مالك والشافعي ؛ لأن شيئاً من هذه الآيات وجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يرد أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى إلا للكسوف.والرأي الثالث: رأي أبي حنيفة رحمه الله واختار شيخ الإسلام : أنه يصلى لكل آية فيها تخويف؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، يخوف الله بهما عباده ) إلى آخره.وبقي علينا من أحكام صلاة الكسوف: إذا تجلى الكسوف وهو في الصلاة فإنه يتمها خفيفة، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود : ( فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم ) أخرجاه في الصحيحين. فإذا ذهب الكسوف وهو في الصلاة فإنه يتمها الإمام على صفتها خفيفةً. كذلك أيضاً إذا انتهت الصلاة ولم يتجل الكسوف فإنه يستحب أن يكثر من الاستغفار والذكر من التهليل والتسبيح إلى آخره، يعني يستحب أن يستغفر الإنسان، يكثر من الاستغفار ومن الذكر والتهليل والتسبيح والتحميد حتى يتجلى الكسوف؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بذلك، فأمر بالفزع إلى ذكر الله واستغفاره. وهل تكرر الصلاة مرةً أخرى أو لا تكرر؟ الصواب أنها لا تكرر، إذ لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى إلا مرةً واحدة. ويستحب أيضاً في صلاة الكسوف التوبة، وكذلك أيضاً الصدقة، وكذلك أيضاً العتق لأمر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك.

صلاة الاستسقاء
قال المؤلف رحمه الله: [الثالث: صلاة الاستسقاء، وإذا أجدبت الأرض واحتبس القطر خرج الناس مع الإمام متخشعين متبذلين متذللين متضرعين..] إلى آخره. هذا النوع الثالث مما تسن له الجماعة من صلاة التطوع: صلاة الاستسقاء، والاستسقاء استفعال بمعنى: طلب السقيا. وأما في الاصطلاح: فهو التعبد لله عز وجل بطلب السقيا بالصلاة على وجه مخصوص، والأصل في الاستسقاء السنة، ففي حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي، فاستقبل القبلة يدعو، وحول رداءه، وصلى ركعتين )، وكذلك أيضاً حديث أبي هريرة وحديث عائشة وغير ذلك من الأحاديث. ‏

صفات الاستسقاء
واعلم أن الاستسقاء ورد على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: الاستسقاء بالصلاة المعروفة، فيخرج الإمام إذا حصل سبب الاستسقاء من انقطاع الأمطار، وقحط الديار، وغور العيون والآبار، فإنه يخرج الإمام ويخرج معه الناس فيصلون صلاة الاستسقاء. وهذا قال به جمهور أهل العلم رحمهم الله خلافاً لـأبي حنيفة ، فإن أبا حنيفة رحمه الله لا يرى الصلاة، وإنما يرى أن يخرج الناس للدعاء فقط دون الصلاة، وهذا لا شك أنه ضعيف؛ لأن السنة ثابتة في ذلك كما في حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه في الصحيحين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي، فاستقبل القبلة يدعو، وحول رداءه وصلى )، ولعل عذر أبي حنيفة رحمه الله أن الحديث لم يبلغه.الوجه الثاني: الاستسقاء في صلاة الجمعة في الخطبة، فإنه يستحب للإمام أن يدعو الله عز وجل بنزول المطر إذا حصل سببه كما تقدم من جدب الديار، وانقطاع الأمطار، وغور مياه العيون والأنهار؛ ويدل لذلك ما ثبت أيضاً في الصحيحين من حديث أنس رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب الجمعة، فدخل رجل فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، وجاع العيال، فادع الله أن يسقينا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم أغثنا.. اللهم أغثنا.. اللهم أغثنا.. فلم ينزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر إلا والمطر يتحدر من لحيته عليه الصلاة والسلام ).الوجه الثالث من وجوه الاستسقاء: الدعاء المجرد، دون أن يرتبط بصلاة أو بخطبة، فيستحب للمسلمين عموماً إذا حصل سبب الاستسقاء أن يفزعوا إلى الله عز وجل بالدعاء، أن يدعوا الله عز وجل بنزول المطر في صلواتهم، وفي خلواتهم، وأن يبتهلوا إلى الله عز وجل صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً؛ لورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. فيستحب إذا انقطعت الأمطار أن يفزع المسلم، وأن يدعو الله عز وجل في صلاته وخارج الصلاة، وفي أوقات إجابة الدعاء: الرجال والنساء، الذكور والإناث الصغار والكبار، فإن هذا سنة.
حكم صلاة الاستسقاء
واعلم أن صلاة الاستسقاء سنة إذا وجد سببها، أما إذا لم يوجد السبب فإنها بدعة، فإذا وجد سببها من انقطاع الأمطار وغور مياه العيون والأنهار فإنها تكون سنةً، أما إذا لم يكن هناك حاجة إلى الاستسقاء لم يكن هناك حاجة إلى طلب السقيا إلى طلب الغيث كأن تكون البلاد أمطرت… إلى آخره، فإن صلاة الاستسقاء غير مشروعة.

كيفية صلاة الاستسقاء
قال المؤلف رحمه الله: [وإذا أجدبت الأرض واحتبس القطر خرج الناس مع الإمام متخشعين متبذلين متذللين متضرعين]. ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في الاستسقاء متضرعاً متبذلاً متذللاً متخشعاً )، فيستحب للناس إذا خرجوا في الاستسقاء أن يخرجوا وعليهم الخشوع والذل.وقول المؤلف رحمه الله: (متبذلين) يعني: يخرجون في ثيابهم العادية، فلا يلبسون أحسن ثيابهم وإنما يخرجون في الثياب البذلة، يعني: الثياب التي تبتذل، فيخرجون على هيئتهم وفي ثيابهم العادة، ولا يطلبون ثياباً جميلةً كما يطلب ذلك في صلاة العيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما خرج متبذلاً.قال المؤلف رحمه الله: [فيصلي بهم ركعتين كصلاة العيد]. ودليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ( سنة الاستسقاء سنة العيدين )، فيصلي الإمام ركعتين كما يصلي في العيدين، وعلى هذا يكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات مع تكبيرة الإحرام، الزوائد تكون ستة، فيكبر تكبيرة الإحرام ويزيد على ذلك، سبع تكبيرات كما سيأتي بيانه إن شاء الله في صلاة العيدين.وأما في الركعة الثانية فإنه يكبر خمس تكبيرات سوى تكبيرة الانتقال، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنه يكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات سوى تكبيرة الإحرام، وعلى هذا يكبر في الركعة الأولى مع تكبيرة الإحرام ثمان ركعات، وأما الركعة لثانية فيكبر فيها خمس ركعات سوى تكبيرة الانتقال، وقيل: بأنها تكبيرات ثلاث، يكبر في الأولى ثلاث زوائد، وفي الثانية ثلاث كما ذهب إليه أبو حنيفة ، وقيل: أربع.. إلى آخره، وسيأتي إن شاء الله بيان هذه الأقوال في صلاة العيدين. المهم أن سنة الاستسقاء كصلاة العيدين، ويقرأ في الركعة الأولى ما يقرأ الإمام في صلاة العيدين، والإمام يقرأ في صلاة العيدين إما بسبح والغاشية، أو يقرأ بسورة (ق) وسورة: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1] .

الخطبة في صلاة الاستسقاء
قال المؤلف رحمه الله: [ثم يخطب بهم خطبةً واحدة]. هنا صلاة الاستسقاء خالفت صلاة العيدين فيما يتعلق بالخطبة، فقال المؤلف رحمه الله: (خطبةً واحدة)، لا يخطب خطبتين في الاستسقاء وإنما يخطب خطبة واحدة؛ لأن هذا هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما بالنسبة لصلاة العيدين فإنه يخطب فيها خطبتين على المشهور من مذهب الحنابلة كما سيأتينا إن شاء الله، فصلاة الاستسقاء خطبة واحدة، وصلاة العيدين خطبتان على المشهور من مذهب الإمام أحمد ، كذلك أيضاً هنا قول المؤلف: (ثم يخطب بهم خطبةً واحدة) كصلاة العيدين، يبدأ أولاً بالصلاة، ثم بعد ذلك يخطب؛ لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( سنة الاستسقاء سنة العيدين ).وقال بعض العلماء: بل يقدم الخطبة كصلاة الجمعة، قال بعض العلماء: صلاة الاستسقاء كصلاة الجمعة يبدأ الإمام أولاً بالخطبة، ثم بعد ذلك بالصلاة، فهذان رأيان: الرأي الأول: ما ذهب إليه المؤلف: أنه يبدأ بالصلاة كصلاة العيدين، ثم يصلي، ثم يخطب؛ ودليله حديث ابن عباس : ( سنة الاستسقاء سنة العيدين )، والعيدان يبدأ بالصلاة أولاً ثم بعد ذلك بالخطبة هكذا ورد في السنة.وقال بعض العلماء: بل الاستسقاء كصلاة الجمعة يبدأ أولاً بالخطبة، ثم بعد ذلك بالصلاة، واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه، فإنه قال: ( خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فاستقبل القبلة يدعو، وحول رداءه، وصلى ركعتين )، فظاهر هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام بدأ بالخطبة قبل الصلاة، وأيضاً أصح من ذلك حديث عائشة في سنن أبي داود : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام لما طلعت الشمس خرج وقد وضع له المنبر فصعد المنبر وخطب ثم بعد ذلك صلى ).والصحيح في هذه المسألة أن يقال: بأن السنة وردت بهذا وفي هذا، فيستحب للإمام أنه تارة يخطب قبل الصلاة، وتارةً يصلي ثم يخطب لكي يفعل السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها، فتارةً يصلي كهيئة الجمعة، وتارةً يصلي كهيئة العيدين لورود ذلك كله عن النبي عليه الصلاة والسلام.

الإكثار من الاستغفار في الاستسقاء
قال المؤلف رحمه الله: [ويكثر فيها من الاستغفار، وتلاوة الآيات التي فيها الأمر به]. يكثر في صلاة الاستسقاء من الاستغفار، وأيضاً الدعاء بطلب السقي، وتخويف العباد، وأمرهم بالرجوع، وتذكيرهم أن احتباس القطر إنما هو بسبب الذنوب والمعاصي.. إلى آخره. وهذا أيضاً ما تفارق به خطبة العيدين خطبة الاستسقاء، فإن خطبة العيدين تخالف خطبة الاستسقاء، وخطبة العيدين يكون الموضوع فيها مناسباً لحال الناس، وأما بالنسبة لخطبة لاستسقاء فإنه يكثر فيها كما ذكر المؤلف رحمه الله من الاستغفار، وتلاوة الآيات التي فيها الأمر به.

تحويل الأردية في الاستسقاء
قال المؤلف رحمه الله: [ويحول الناس أرديتهم]. تحويل الأردية اختلف أهل العلم رحمهم الله في موضعه، فقال بعض العلماء: يحول الرداء في أثناء الخطبة، في أثناء الخطبة يحول الإمام رداءه، ثم بعد ذلك يحول الناس أرديتهم. وقال بعض العلماء: يكون تحويل الرداء بعد نهاية الخطبة. والأمر في هذا واسع كله، المهم أن يحول المصلي رداءه، يسن له أن يحول رداءه، فإذا كان يلبس إزاراً ورداءً فإنه يحول الرداء بحيث يجعل الأيمن موضع الأيسر، والأيسر موضع الأيمن، وإن كان يلبس عباءةً فإنه يحول عباءته، وإن كان يلبس عمامةً أو غترةً يحول، والحكمة من ذلك التفاؤل بتحول الحال من القحط إلى الخصب، ومن انقطاع الأمطار والبركات إلى نزولها.قال: (ويحول الناس أرديتهم). قلنا: بأن تحويل الرداء إما أن يكون في وسط الخطبة، وإما أن يكون في نهاية الخطبة، وفي نهاية الخطبة يستقبل الإمام القبلة ويدعو الله عز وجل سراً.

خروج أهل الذمة مع المسلمين للاستسقاء
قال المؤلف رحمه الله: [وإن خرج معهم أهل الذمة لم يمنعوا، ويؤمرون أن ينفردوا عن المسلمين]. يعني: إذا خرج أهل الذمة للصلاة فإنهم لا يمنعون؛ لأن القطر هذا رحمة من الله عز وجل، وكل محتاج إلى رحمة الله عز وجل، والله عز وجل رحم الناس رحمةً عامة، الرحمة العامة هذه شملت كل الناس المؤمن والكافر، فحتى الكفار رحمهم الله عز وجل رحمةً عامة، فهيأ لهم أسباب الرزق والمعاش وما يكون به قوتهم، وحتى الحيوان رحمه الله عز وجل رحمةً عامة. وأما الرحمة الخاصة فهذه خاصة بالمؤمنين، وهذه الرحمة تختلف، وكلما كان الإنسان أكثر تقىً وورعاً وفقهاً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كانت رحمته وأخذه من هذه الرحمة الخاصة أكثر. المهم أنه إذا أراد أهل الذمة أن يخرجوا للاستسقاء فإنه لا بأس بذلك ويخرجون، لكن يمنعون من أمرين: الأمر الأول: أن يكونوا مع المسلمين، يمنعون من الخروج مع المسلمين.والأمر الثاني: يمنعوا من أن ينفردوا بيوم، فلا ينفردون بيوم مستقل، وإنما يكون خروجهم زمن خروج المسلمين، ويكون لهم مكان يجتمعون فيه يسألون الله عز وجل القطر، وأيضاً لا يكونون مع المسلمين.

مدة بقاء الأردية بعد تحويلها
بقي علينا من المسائل عن صلاة الاستسقاء متى يغير المصلي رداءه؟ ذكرنا أنه يشرع للمصلي أن يحول رداءه، فمتى يغيره؟ قال العلماء رحمهم الله: يتركونه حتى ينزعوه، فنقول: بأن الإنسان إذا غير رداءه وحوله فإنه يتركه على هيئته إلى أن ينزعه، إلى أن يحتاج إلى نزعه، فإذا احتاج إلى نزعه فلا بأس، أو يحتاج إلى تغييره، فنقول: بأنه يبقى الرداء على هيئته إلى أن يحتاج إلى نزعه أو يحتاج إلى تغييره.

وقت صلاة الاستسقاء
صلاة الاستسقاء كما أسلفنا لا تفعل إلا عند وجود سببها، فإذا وجد سببها فمتى تفعل؟ نقول: بأن لها وقتين: الوقت الأول: وقت الاستحباب. والوقت الثاني: وقت الجواز.أما وقت الاستحباب فأن تصلى كصلاة العيد، بحيث تصلى بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، هذا هو وقت الاستحباب؛ لقول ابن عباس : ( سنة الاستسقاء سنة العيدين )، فنقول: بأنه يصلي كهيئة صلاة العيد بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح, هذا هو وقت الاستحباب.وأما وقت الجواز فإنها تفعل في كل وقت إلا في أوقات النهي، في أوقات النهي لا تفعل فيها، فلو أن الإمام استسقى ضحىً، أو استسقى بعد الظهر، أو استسقى بعد المغرب أو بعد العشاء فإن هذا كله جائز ولا بأس به، فتبين لنا بالنسبة لوقت صلاة الاستسقاء أن لها وقت استحباب، وكذلك أيضاً وقت جواز.
سجود التلاوة

حكم سجود التلاوة
قال المؤلف رحمه الله: [الضرب الخامس: سجود التلاوة]. سجود مضاف، والتلاوة مضاف إليه، والإضافة هنا من باب إضافة الشيء إلى سببه، فالسجود هنا أي: السجود الذي سببه التلاوة، أي: تلاوة آية السجدة. وظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أن سجود التلاوة سنة وليس واجباً؛ لأنه ذكره ضمن صلاة التطوع، وهذا قول جمهور أهل العلم، قول جمهور العلماء رحمهم الله: أن سجود التلاوة سنة وليس واجباً. والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن سجود التلاوة واجب، ولكل منهما دليل.أما الذين قالوا: بأنه سنة وليس واجباً؛ فاستدلوا بحديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه في صحيح البخاري ( أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم ولم يسجد فيها )، ولو كان السجود واجباً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً مما يدل لذلك أن عمر رضي الله تعالى عنه كما في البخاري قرأ على المنبر السجدة في سورة النحل، فنزل وسجد وسجد الناس معه، فلما كانت الجمعة القادمة المقبلة قرأ نفس الآية فتهيأ الناس للسجود، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. وهذا قاله عمر رضي الله تعالى عنه بمحضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأقره الصحابة على ذلك.وأما الحنفية فقالوا: بوجوب سجود التلاوة، قالوا: بأن سجود التلاوة واجب، واستدلوا بما ورد من الآيات الآمرة بالسجود كما في قول الله عز وجل: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19] ، وأيضاً قول الله سبحانه وتعالى: وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ [الانشقاق:21] فتبين أن سجود التلاوة مستحب وليس واجباً، فنقول: يستحب للإنسان ويسن له إذا قرأ آيةً أن يسجد.

شروط سجود التلاوة
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أيضاً أن سجود التلاوة صلاة، يعني: أنه في حكم الصلاة، وهذا أيضاً المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن سجود التلاوة صلاة، وعلى هذا يقولون: بأن له شروط الصلاة، وله أركان، وله واجبات، يجعلون له شروطاً وأركاناً وواجبات إلى آخره. وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بأنه ليس صلاةً، وهذا قول ابن حزم ، الجمهور يرون أنه صلاة، وعند ابن حزم وشيخ الإسلام : أنه ليس صلاة، وإنما هو سجدة مجردة، ويأتينا إن شاء الله ما يترتب على هذا الكلام. الذين قالوا: بأنه صلاة استدلوا بقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر. وهذا الأثر أخرجه البيهقي في سننه وهو صحيح، يعني قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر، فاشتراط الطهارة هنا يدل على أنه في حكم الصلاة.والرأي الثاني: قالوا: بأنه ليس صلاةً وإنما هو سجدة مجردة، واستدلوا بحديث عبادة بن الصامت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، وسجود التلاوة ليس فيه فاتحة، فدل على أنه ليس صلاةً، النبي عليه الصلاة والسلام حكم بأنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، انتفت الصلاة لمن لم يقرأ بالفاتحة، وسجود التلاوة ليس فيه فاتحة فانتفى عنه حكم الصلاة. وكذلك أيضاً حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة الليل مثنى مثنى )، وهذا أيضاً يدل على أنه ليس صلاةً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( صلاة الليل مثنى مثنى )، فحكم النبي عليه الصلاة والسلام على أن صلاة الليل مثنى مثنى، ويستثنى من ذلك الوتر فإنه ركعة ما عدا ذلك ليس بصلاة، فسجود التلاوة ليس داخلاً في صلاة الليل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام حكم على أن صلاة الليل مثنى مثنى إلى آخره.وأيضاً مما يدل لذلك ما أخرجه البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه كان يسجد على غير وضوء.وهذا القول هو الصواب، فنقول: الصواب: أن سجود التلاوة ليس صلاةً وإنما هو سجدة مجردة. ماذا يترتب على هذا الخلاف؟ هذا الخلاف له ثمرة, فالذين قالوا: بأنه صلاة قالوا: تشترط له شروط الصلاة، لا بد أن تستقبل القبلة، لا بد أن تكون متوضئاً، لا بد أن تستر عورتك، لا بد أن تكون متنزهاً عن الخبث.. إلى آخره، يشترطون شروط الصلاة. أما إذا قلنا: بأنه ليس صلاة فنقول: لا يشترط، يسجد الإنسان وهو غير متوضئ، وكذلك أيضاً لا يشترط استقبال القبلة، ولا يشترط ستر العورة إلى آخره، فلو أن المرأة قرأت وسجدت وهي لم تستر رأسها فنقول: بأن سجودها صحيح.

أركان وواجبات سجود التلاوة
أيضاً الذين قالوا: بأنه صلاة قالوا: له واجبات وله أركان، أما أركانه، فهي:الركن الأول: السجود على الأعضاء السبعة.والركن الثاني: الرفع من السجود.والركن الثالث: التسليمة الأولى.وأما واجباته، فهي:الواجب الأول: تسبيحة السجود أن يقول: سبحان ربي الأعلى في السجود.والواجب الثاني: تكبيرة السجود.والواجب الثالث: تكبيرة الرفع.والصواب في ذلك: أنه سجدة مجردة، ليس فيه تكبير لا في حال النزول ولا في حال الرفع؛ لأن الذي ورد في ذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في سنن أبي داود : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا سجد كبر ) هذا الحديث ضعيف لا يثبت. وعلى هذا نقول: إذا قرأ الإنسان السجدة فإنه يسجد سجدة مجردة، ويسبح الله عز وجل، ويذكر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما التكبير عند السجود والتكبير عند الرفع والتسليم فنقول: هذا كله لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الوارد أن الإنسان يسجد امتثالاً لما ورد.كذلك أيضاً اشتراط شروط الصلاة، هذه كلها الصواب أنها لا تشترط؛ لأنه ليس صلاة، فلو أن الإنسان قرأ وهو على غير وضوء، أو لم يستتر، أو في ثيابه خبث ونحو ذلك فنقول: بأن هذا كله صحيح.

الذكر في سجدة التلاوة
هناك أذكار وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم يستحب للإنسان أن يذكرها في سجود التلاوة، وهذه الأذكار في أسانيدها مقال، وعلى هذا إن ثبتت عند الإنسان فإنه يذكرها، وأما إذا لم تثبت فإنه لا يأتي بها، وهذه هي: ( سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، اللهم اكتب لي بها أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعل لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلت من نبيك داود ).. إلى آخره، فهذه إذا ثبتت فإن الإنسان يشرع له أن يأتي بها، وإن لم تثبت فإنه لا يشرع، وإنما يقتصر على التسبيح، والأذكار التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي بها في السجود، وسبق أن نقلنا لكم هذه الأذكار ووزعناها عليكم.

مواضع سجود التلاوة
قال المؤلف رحمه الله: [وهي أربع عشرة سجدة، في الحج منها اثنتان]. يقول المؤلف رحمه الله: بأن عدد سجود التلاوة أربع عشرة سجدة، ونص المؤلف رحمه الله على أن في الحج منها سجدتان لرد خلاف الحنفية، فإن الحنفية لا يرون السجدة الثانية في سورة الحج، سورة الحج فيها سجدتان، الحنفية يقولون بالسجدة الأولى ولا يقولون بالسجدة الثانية، خلافاً لجمهور أهل العلم رحمهم الله، فإن جمهور أهل العلم يثبتون في سورة الحج سجدتان: السجدة الأولى عند قول الله عز وجل: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18] ، والسجدة الثانية عند قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77] .والصواب في هذه المسألة ثبوت السجدة الثانية في سورة الحج كما دل لذلك حديث عمرو بن العاص أنه قال: ( أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سجدة، في الحج منها اثنتان )، وهذا الحديث رواه أبو داود .وكذلك أيضاً ورود ذلك عن الصحابة أن في الحج سجدتين، وارد عن ابن عمر وابن عباس وعلي بن أبي طالب وأبي الدرداء رضي الله تعالى عنهم، فوروده عن الصحابة هذا يدل على أن في الحج سجدتين، وهذا القول هو الصواب. ويفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن سجدة (ص) ليست من عزائم السجود؛ لأنه قال: (أربع عشرة سجدة)، وفي حديث عمرو بن العاص : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة، ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود وغيره.فيفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن سجدة (ص) ليست من عزائم السجود؛ لأنه اقتصر على أربع عشرة سجدة، ولو كان المؤلف يعتبر سجدة (ص) من عزائم السجود لكانت السجدات خمس عشرة سجدة، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم رحمهم الله: هل سجدة (ص) من عزائم السجود أو أنها ليست من عزائم السجود إلى آخره؟ فالمشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب الشافعي : أنها ليست من عزائم السجود؛ لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: سجدة (ص) ليست من عزائم السجود. هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ، وكذلك أيضاً مذهب الشافعي . وكذلك أيضاً استدلوا بحديث أبي سعيد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سجدة (ص) على المنبر، ثم بعد ذلك نزل وسجد، فلما كان في المرة الثانية قرأها فتنتشر الناس للسجود، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما هي توبة نبي )، وهذا أخرجه الحاكم وأبو داود .وعند الحنفية والمالكية: أن سجدة (ص) من عزائم السجود؛ لحديث أبي هريرة : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسجد سجدة (ص) )، وهذا أخرجه الدارقطني ، ورجاله ثقات.والصواب في هذه المسألة: أن سجدة (ص) من عزائم السجود، وكونها توبة نبي، وكون أيضاً داود عليه السلام سجدها، هذا لا يمنع كونها من عزائم السجود.

من يشرع له سجود التلاوة؟
قال المؤلف رحمه الله: [ويسن السجود للتالي والمستمع دون السامع]. السجود يستحب للتالي والمستمع دون السامع، عندنا رجل يقرأ، ورجل يستمع، ورجل مستمع، فالذي يستحب له أن يسجد هو التالي، وكذلك أيضاً المستمع، المستمع هو الذي قصد الاستماع للتلاوة، هذا أيضاً يستحب له أن يسجد دون السامع، السامع هو الذي لم يقصد الاستماع، وإنما استمع للسجدة عرضاً، كأن مر مع شخص يقرأ ثم استمع إلى سجدته عرضاً، فنقول: هذا لا يستحب له أن يسجد، لكن من جلس إلى القارئ يستمع إليه فهذا نقول: بأنه يستحب له أن يسجد؛ لقول عثمان رضي الله تعالى عنه: إنما السجدة على من استمعها، فالتالي يستحب له، وكذلك أيضاً المستمع يستحب له، والسامع لا يستحب له. وذكرنا الفرق بين المستمع والسامع: أن المستمع قصد الاستماع، وأما السامع فإنه لم يقصد الاستماع.

كيفية سجود التلاوة
قال المؤلف رحمه الله: [ويكبر إذا سجد وإذا رفع رأسه ثم يسلم]. وهذا كما أسلفنا مبني على أن سجود التلاوة صلاة، وأن له تكبيرة السجود، تكبيرة الرفع، وأنه يسلم إلى آخره، وذكرنا أن هذا كله لا دليل عليه، وأن الذي ورد في حديث ابن عمر في سنن أبي داود في تكبيرة السجود أن هذا الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا نقول: سجود التلاوة سجدة مجردة يسجدها الإنسان، فيسجد ويأتي بالأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له شروط، لا تشترط له الشروط، وكذلك أيضاً ما ذكروه من الواجبات والأركان هذه فيها نظر.

الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
قال المؤلف رحمه الله: [باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها: وهي خمس].شرع المؤلف رحمه الله تعالى في بيان أوقات النهي، والحكمة من أوقات النهي هي تجميم القلوب وتنشيطها وتقويتها على العبادة؛ لأن الإنسان إذا منع من الصلاة في هذه الأوقات يكون عنده من الرغبة والنشاط وإجمام القلب للصلاة عندما يحل وقتها. فالشارع منع من الصلاة في هذه الأوقات لحكمة، والحكمة هي تنشيط النفوس، وإجمام القلوب، وتقويتها على فعل الصلاة، ولكي يكون لها رغبة على فعل الصلاة؛ لأنها إذا منعت ثم بعد ذلك أبيح لها كان عندها من الرغبة والشوق والقوة وحصل لها شيء من تجميم القلب.قال المؤلف رحمه الله: (وهي خمس) يعني الساعات التي ينهى عن الصلاة فيها خمس ساعات، وهذه بالبسط، وأما بالاختصار فهي ثلاث ساعات، ففي البسط خمس ساعات، وأما في الاختصار فهي ثلاث ساعات. ‏

بعد الفجر
قال المؤلف رحمه الله: [بعد الفجر حتى تطلع الشمس]. الوقت الأول متى يبدأ؟ ومتى ينتهي؟ يقول المؤلف رحمه الله: (بعد الفجر)، وإذا قال العلماء رحمهم الله: الفجر فإنهم يريدون بذلك الفجر الثاني، الفجر الصادق، فإن هذا الفجر هو الذي تعلق عليه الأحكام، أما بالنسبة للفجر الكاذب فهذا لا تعلق عليه الأحكام. والقول بأن وقت النهي يبدأ من بعد طلوع الفجر الثاني هذا قول جمهور العلم، جمهور أهل العلم يرون أن وقت النهي يبدأ من بعد طلوع الفجر الثاني، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر )، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود ، وحسنه جمع من أهل العلم.والرأي الثاني رأي الشافعي رحمه الله قال: بأن النهي لا يبدأ بطلوع الفجر، وإنما يبدأ بالصلاة من بعد الفراغ من الصلاة؛ لحديث أبي سعيد في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس )، وهذا في الصحيحين، فعلق النبي عليه الصلاة والسلام النهي بالصلاة. وعلى كل حال سواء قلنا: بأن النهي يبدأ من بعد طلوع الفجر، أو قلنا: بأن النهي يبدأ من بعد الصلاة فإن هدي النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الصحيحين وغيرهما أنه إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين، هذا هدي النبي عليه الصلاة والسلام، لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد طلوع الفجر إلا أنه يصلي ركعتين خفيفتين هما ركعتا الفجر. فنقول: بأن الإنسان إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتي الفجر, هذا الذي حفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا جاء المسجد فإنه يصلي ركعتين ينوي بهما تحية المسجد، وينوي بهما السنة القبلية ويغنيه ذلك. نهاية هذا الوقت إلى طلوع الشمس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( حتى تطلع الشمس )، فنقول: بأنه يبدأ سواء قلنا: من الفجر أو من بعد الصلاة ويستمر إلى طلوع الشمس، هذا هو الوقت الأول.

بعد طلوع الشمس حتى ترتفع
قال المؤلف رحمه الله: [وبعد طلوعها حتى ترتفع قيد رمح]. هذا الوقت الثاني، الوقت الثاني من بعد طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، يعني: قدر رمح في الأفق، وهذا في مرأى العين، يعني إذا طلعت الشمس من الأفق انتظر حتى ترتفع قدر رمح، وقدر رمح بما يقرب من مترين، وهذا في مرأى العين، وإلا في الواقع أنها ارتفعت آلاف الأمتار، لكن في مرأى العين إذا رأيتها تجد أنها ارتفعت قدر رمح، وهذا يقدره العلماء رحمهم الله بثنتي عشرة دقيقة، يعني إذا مضى بعد خروج الشمس من الأفق ما يقرب من ثنتي عشرة دقيقة يكون خرج وقت النهي الثاني. ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز ). وكذلك أيضاً حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنهما قال: ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع ). وأيضاً حديث أبي سعيد فيه: ( حتى ترتفع )، وكذلك أيضاً حديث عمرو بن عبسة رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم .. إلى آخره. المهم الوقت الثاني من طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح.

عند الاستواء
قال المؤلف رحمه الله: [وعند قيامها حتى تزول]. يعني: إذا توسطت الشمس في كبد السماء حتى تزول إلى جهة المغرب، فإن الشمس إذا خرجت من المشرق تسير حتى تتوسط في كبد السماء، ثم بعد ذلك إذا تحركت من جهة المشرق إلى جهة المغرب تكون زالت الشمس وخرج وقت النهي، ويقدر وقت النهي هذا بما يقرب من عشر دقائق. فإذا توسطت الشمس في كبد السماء وقام قائم الظهيرة بحيث لا يكون هناك ظل إلا فيء الزوال, لا من جهة المشرق ولا من جهة المغرب إلا فيء الزوال, ثم بعد ذلك تحركت الشمس إلى جهة الغروب، نقول: خرج وقت النهي، لكن ما دام أنها في كبد السماء فإن هذا هو وقت النهي، ويقدر هذا قبل الزوال بما يقرب من عشر دقائق. ودليله حديث عمرو بن عبسة في مسلم ، وكذلك أيضاً حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف للغروب حتى تغرب ). والقول: بأن توسط الشمس في كبد السماء من أوقات النهي هذا ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله وأبو حنيفة ، وهو الذي دل له حديث عمرو بن عبسة في صحيح مسلم .وعند الشافعي رحمه الله واختاره شيخ الإسلام أن نصف النهار ليس وقتاً للنهي يوم الجمعة، واستدلوا على ذلك بحديث سلمان رضي الله تعالى عنه في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من اغتسل يوم الجمعة وتطهر ما استطاع من طهره، ومس من دهن بيته أو طيبه ثم راح إلى الجمعة، فصلى ما بدا له، فإذا خرج الإمام أنصت واستمع غفر له ما بينه وبين الجمعة القادمة )، وهذا الحديث في صحيح البخاري . والشاهد منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فصلى ما بدا له، فإذا خرج الإمام استمع وأنصت غفر له ما بين وبين الجمعة الأخرى ). هنا قال: ( صلى ما بدا له، فإذا خرج الإمام )، وخروج الإمام بعد الزوال، فدل على أن الإنسان يشرع له أن يصلي إلى أن يخرج الإمام، وخروج الإمام بعد الزوال بعد ذهاب وقت النهي، الإمام يدخل الجمعة بعد الزوال، فدل ذلك على أنه ليس وقتاً للنهي، هذا ما ذهب إليه الشافعي وشيخ الإسلام واستدلوا بحديث سلمان رضي الله تعالى عنه.قلنا: بأن مذهب الشافعي واختاره شيخ الإسلام : أن نصف النهار ليس وقتاً للنهي يوم الجمعة خاصة، واستدلوا على ذلك بحديث سلمان في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة وتطهر ما استطاع من طهره، ومس من دهن بيته أو طيبه، ثم راح إلى الجمعة فصلى ما بدا له، فإذا خرج الإمام استمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)، قلنا: استدلوا بهذا على أن يوم الجمعة ليس فيه وقت نهي؛ لقوله: ( فصلى ما بدا له فإذا خرج الإمام )، وخروج الإمام بعد الزوال، فيفهم منه أنه صلى في وقت الزوال. ابن قدامة رحمه الله تعالى أجاب عن هذا الحديث في كتابه المغني، أجاب عنه وقال: بأنه يصلي ما بدا له ويتحرى، فإذا كان وقت النهي فإنه يتوقف عن الصلاة، وهذا هو الأحوط، الأحوط للإنسان يوم الجمعة يصلي ما بدا له ويتحرى، فإذا جاء وقت النهي فإنه يترك الصلاة. وعند الإمام مالك رحمه الله: أن نصف النهار ليس وقتاً للنهي مطلقاً سواء كان في يوم الجمعة أو في غير يوم الجمعة، وقال: بأن عمل أهل المدينة على هذا. والصواب في ذلك قلنا: الأقرب والأحوط مذهب أبي حنيفة وأحمد ، وأن نصف النهار وقت للنهي سواء كان في يوم الجمعة أو في غيره من الأيام، والإنسان يتحرى، فإذا جاء وقت النهي فإنه يقف عن الصلاة، هذا هو الصواب في هذه المسألة.

بعد صلاة العصر
قال المؤلف رحمه الله: [وبعد العصر حتى تتضيف الشمس للغروب]. هذا هو الوقت الرابع، الوقت الرابع من بعد صلاة العصر، ودليله ما تقدم من حديث أبي سعيد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ).فنقول الوقت الرابع: من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم، وذهب بعض السلف إلى أن ما بعد صلاة الفجر وما بعد صلاة العصر ليس وقتاً للنهي، ذهب إليه جمع من السلف كـعطاء وطاوس وعمرو بن دينار قالوا: ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، وما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس هذا ليس وقتاً للنهي، فالنهي عندهم في الأوقات المغلظة ما بعد الوقتين الطويلين هذا ليس وقتاً للنهي. وهذا فيه نظر، فإن الأحاديث ثابتة في ذلك كحديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه في الصحيحين، وكذلك أيضاً حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ( شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس )، وهذا في الصحيحين.وحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها )، هم استدلوا بهذا الحديث قالوا: إنه نهي عن الصلاة بعد صلاة العصر من أجل هذين الوقتين المغلظين، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها )، وهذا في الصحيحين. نقول: وإن كان هذا الحديث يفهم منه أن ما عدا هذين الوقتين ليس وقتاً للنهي إلا أن هذا المفهوم لا يعارض منطوق حديث أبي سعيد وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

عند تضيف الشمس للغروب
قال المؤلف رحمه الله: [وإذا تضيفت حتى تغرب]. هذا هو الوقت الخامس، وهو: من تضيفها حتى تغرب، ومعنى تضيف الشمس يعني بدؤها في الغروب، من بدء الشمس في الغروب حتى تغرب، يعني إذا غاب حاجب الشمس حتى تغرب، هذا معنى تضيف الشمس للغروب، ودليله حديث عقبة بن عامر السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا.. إلى أن قال: وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب )، ومعنى تضيف الشمس للغروب: هو غياب حاجب الشمس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة )، هذا ما عليه أكثر أهل العلم.وعند الشافعية تضيف الشمس للغروب هو اصفرارها، فإذا اصفرت دخل الوقت الخامس. لكن الصواب في هذا ما دل له حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغرب )، ويستمر هذا الوقت إلى غروب الشمس، فإذا غربت الشمس خرج وقت النهي الخامس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد : ( ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس )، فإذا غربت الشمس خرج وقت النهي.وعند الحنفية والمالكية أن وقت الغروب يمتد إلى إقامة صلاة المغرب، ولذلك تلاحظ بعض الذين يقلدون الحنفية يدخل المسجد بعد غروب الشمس ويجلس ولا يصلي؛ لأنهم يرون أن وقت النهي يمتد إلى إقامة صلاة المغرب، وهذا لا شك أنه ضعيف؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قيد النهي إلى غروب الشمس قال: ( حتى تغرب الشمس ).وأيضاً حديث عبد الله بن مغفل الثابت في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة: لمن شاء ) كراهية أن تتخذ سنة. فالصواب في ذلك أن وقت النهي ينتهي بغروب الشمس، وما بين غروب الشمس إلى إقامة صلاة المغرب هذا ليس وقتاً للنهي، بل النبي عليه الصلاة والسلام أمر بالصلاة فقال: ( صلوا قبل المغرب )، وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم إذا غربت الشمس وأذن المغرب يبتدرون للسواري يصلون حتى يظن الرجل الغريب أن الصلاة قد أقيمت من كثرة من يصليها.

صلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي
قال المؤلف رحمه الله: [فهذه الساعات لا يصلى فيها تطوعاً إلا في إعادة الجماعة]. المؤلف رحمه الله استثنى بعض الصلوات، قال: بأنها تفعل في أوقات النهي، وذكر منها -أولاً- إعادة الجماعة، فلو أن الإنسان صلى في مسجد من المساجد، ثم أتى إلى مسجد آخر لحضور درس أو لصلاة على جنازة، أو لطلب شخص ونحو ذلك فوجدهم يصلون فإنه يعيد معهم الصلاة. فلو صلى العصر، ثم جاء إلى مسجد آخر وهم يصلون العصر فإنه يعيد معهم الصلاة، صلى الفجر ثم جاء إلى مسجد آخر ووجدهم يصلون فإنه يعيد معهم الصلاة، مع أن وقت النهي في حقه قد دخل، لكنه يستثنى من ذلك؛ ودليله على استثنائه حديث يزيد بن الأسود رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح، فوجد رجلين لم يصليا، فدعا بهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا قد صلينا في رحالنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيما مسجد الجماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة ). وأيضاً حديث أبي ذر رضي الله تعالى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا أقيمت وأنت في المسجد فصل، ولا تقل: إني صليت فلا أصلي )، هذا رواه مسلم في صحيحه. فنقول: إعادة الجماعة هذا جائز ولا بأس به، وإعادة الجماعة هذه سنة لأمر النبي عليه الصلاة والسلام بها، بشرط ألا تكون الإعادة مقصودة؛ لأن هذا ليس من هدي السلف، بأن يتتبع الإنسان المساجد التي لم تصل ويذهب ويصلي معهم، لكن إذا كانت الإعادة ليست بمقصودة، ذهب لغرض من الأغراض ووجدهم يصلون فإنه يصلي معهم، أما الإعادة المقصودة يعني يقصد الإنسان إعادة الجماعة فهذا فيه نظر، وهذا ليس مشروعاً وليس من هدي السلف.قال المؤلف رحمه الله: [وإذا أقيمت وهو في المسجد]. أيضاً استثنى المؤلف قال: إذا أقيمت الصلاة وأنت في المسجد، يعني صلى العصر ثم أتى ثم أقيمت وهو في المسجد، أو صلى الفجر ثم أتى ثم أقيمت وهو في المسجد، فإنه يصلي مع الناس، وتقدم حديث أبي ذر في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقيمت وأنت في المسجد فصل، ولا تقل: إني صليت فلا أصلي ).قال المؤلف رحمه الله: ( وركعتي الطواف بعده ). أيضاً ولو كان في أوقات النهي إذا طاف الإنسان فإنه يستحب له أن يصلي ركعتين لحديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى في أية ساعة شاء من ليل أو نهار )، وهذا الحديث صححه الترمذي .قال المؤلف رحمه الله: [والصلاة على الجنازة]. الصلاة على الجنازة أيضاً، يصلى على الجنازة في الوقتين الطويلين، وقد حكي الإجماع على ذلك، يعني يصلى على الجنازة بعد العصر، ويصلى على الجنازة بعد الفجر، وقد حكي الإجماع على ذلك كما حكى ابن المنذر أنه لا خلاف في هذا.ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن الصلاة على الجنازة مطلقاً، سواء كان في الوقتين الطويلين، أو في الأوقات الثلاثة المغلظة فإنه يصلى على الجنازة، وذكرت أن ابن المنذر رحمه الله قال: إنه لا خلاف بأنه يصلى على الجنازة في أوقات النهي.

قضاء السنن والفرائض في أوقات النهي
قال المؤلف رحمه الله: [وقضاء السنن الرواتب في وقتين منها، وهما بعد الفجر، وبعد العصر]. قضاء السنن الرواتب، قضاء سنة الفجر بعد صلاة الفجر هذا دل له حديث قيس بن قهد رضي الله تعالى عنه: ( رآه النبي عليه الصلاة والسلام يصلي بعد صلاة الفجر فقال: آلصبح أربعاً؟ فذكر له أنه لم يركع ركعتي الفجر، فأقره النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك ). كذلك أيضاً صلاة الظهر البعدية بعد العصر هذا لا بأس، ويدل لذلك حديث عائشة : ( أن وفد عبد القيس شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن سنة الظهر البعدية حتى دخل العصر، فقضاهما النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر ).فنقول: السنن الرواتب سنة الفجر القبلية تقضى بعد صلاة الفجر، سنة الظهر البعدية إذا شغل الإنسان عنها فإنه لا بأس أن يصليها بعد العصر.قال المؤلف رحمه الله: [وقضاء الفرائض]. أيضاً قضاء الفرائض يكون في كل أوقات النهي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها )، وهذا يشمل كل أوقات النهي.
الأسئلة

سجود ابن عمر للتلاوة بلا وضوء
السؤال: أثر ابن عمر : أنه كان يسجد للتلاوة وهو على غير وضوء، هذا الأثر من رواه؟ الجواب: هذا الأثر رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم.
سترة المأموم الذي يقضي ما فاته من الصلاة
السؤال: عرفنا أن سترة الإمام سترة لمن خلفه فلا يضرهم من مر بين الإمام والمأمومين، ولكن هل المأمومون الذين يكملون ما فاتهم بعد تسليم الإمام تكون سترتهم سترة الإمام؟ الجواب: نقول: لا، المأموم الذي يقوم ويقضي لا تكون سترته سترة الإمام؛ لأن الإمام انتهت الآن صلاته، وليس له سترة الآن.

تكبير الإمام لسجود التلاوة
السؤال: لو مر الإمام في آية سجدة فهل يسجد مباشرة أو يكبر ليعلم من خلفه عند الرفع؟الجواب: هذا السؤال جيد وأيضاً ما نبهنا على ذلك، نحن ذكرنا أن الإنسان لا يكبر لا في حال الرفع، ولا في حال الخفض، إلا في الصلاة، الصلاة يكبر في حال الرفع وفي حال الخفض؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هدي النبي عليه الصلاة والسلام أنه يكبر في كل خفض ورفع في الصلاة، وعلى هذا إذا سجد الإنسان سجدة التلاوة في الصلاة فإنه يكبر في الخفض وفي الرفع.

موضع التورك
السؤال: ما هي المواضع الصحيحة للتورك؟الجواب: المواضع الصحيحة للتورك: الصواب ما دلل له حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان يتورك في كل صلاة فيها تشهدان في التشهد الأخير، ما عدا ذلك فإنه يفترش، مثل صلاة الفجر يفترش، صلاة السنة الراتبة يفترش.. إلى آخره، المغرب يتورك التشهد الأخير، الظهر إلى آخره؛ لأن هذه فيها تشهدان، هاتان الصلاتان فيهما تشهدان، هذا دل لهما حديث أبي حميد رضي الله تعالى عنه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-27, 10:21 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [14]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(23)

جاء النهي عن الصلاة في خمسة أوقات معلومة، وهذا النهي يتعلق بالنفل المطلق، واختلف العلماء في حكم صلاة ذوات الأسباب في هذه الأوقات.والصلاة خلف الإمام المحدث أو من وقعت عليه نجاسة لها أحوال بينها العلماء، واختلفوا في كيفية الصلاة خلف الإمام إذا صلى جالساً ل

تابع الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
تقدم لنا ما يتعلق بسجود التلاوة، وذكرنا حكمه، وهل هو واجب أو ليس واجباً؟ وأن أهل العلم رحمهم الله اختلفوا في ذلك على رأيين: فعند جمهور أهل العلم أنه ليس واجباً، وذهب أبو حنيفة وشيخ الإسلام إلى أنه واجب.قلنا: بأن الأقرب أنه ليس واجباً؛ لأن زيد بن ثابت كما تقدم قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم ((وَالنَّجْمِ)) ولم يسجد فيها ومع ذلك أقره النبي عليه الصلاة والسلام.وقال عمر رضي الله تعالى عنه: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء، وأقره الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وهل هو صلاة تعتبر له شروط الصلاة أو ليس صلاةً؟ قلنا: الصواب أنه سجدة مجردة لا تشترط له شروط الصلاة، فيصح أن يسجد وهو غير مستتر، أو غير متوضئ أو تلبس بخبث ونحو ذلك.وأيضاً تكلمنا ما يتعلق بالسجدة الثانية من سجدتي سورة الحج، وهل هي ثابتة أو ليست ثابتة، ثم بعد ذلك تطرقنا لما يتعلق بأوقات النهي، وأن أوقات النهي خمسة أوقات بالبسط، وثلاثة بالاختصار. وأن الوقت الأول يبدأ من بعد طلوع الفجر كما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله وغيره، وقيل: بأنه يبدأ من بعد الصلاة ثم يمتد إلى طلوع الشمس. ويبدأ الوقت الثاني من بعد طلوع الشمس إلى أن ترتفع الشمس قيد رمح. ثم بعد ذلك الوقت الثالث وقت نصف النهار، وهل هو وقت للنهي أو ليس وقتاً للنهي؟ وذكرنا أن الإمام مالكاً رحمه الله لا يرى أنه وقت للنهي، وأن الشافعي يقول: هو وقت للنهي إلا في يوم الجمعة، وأحمد وأبو حنيفة قالا: بأنه وقت للنهي، وقلنا: بأن هذا هو الأقرب. ثم بعد ذلك الوقت الرابع من بعد صلاة العصر إلى أن تبدأ الشمس بالغروب. ثم الوقت الخامس من شروعها في الغروب إلى أن تغرب، فإذا غربت الشمس خرج وقت النهي. قلنا: بأن هذا هو الصواب من قولي أهل العلم، خلافاً لما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك إلى أن وقت النهي يمتد إلى إقامة صلاة المغرب، والصواب: أن وقت النهي ينتهي بغروب الشمس؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة: لمن شاء، خشية أن يتخذها الناس سنةً.. ) إلى آخره. ثم بعد ذلك تطرق المؤلف رحمه الله إلى ما يفعل في أوقات النهي فقال: [إلا في إعادة الجماعة إذا أقيمت وهو في المسجد، وركعتي الطواف بعده، والصلاة على الجنازة، وقضاء السنن الرواتب في وقتين منها وهما بعد الفجر وبعد العصر، ويجوز قضاء المفروضات]. يقول المؤلف رحمه الله: (يجوز قضاء المفروضات).المقض يات يجوز فعلها في أوقات النهي، فاستثنى المؤلف إعادة الجماعة إذا أقيمت وهو في المسجد، ركعتي الطواف إذا طاف بعد العصر أو بعد الفجر له أن يصلي ركعتي الطواف، أيضاً الصلاة على الجنازة له أن يصليها، وقضاء السنن الرواتب أيضاً له أن يقضي سنة الفجر بعد صلاة الفجر، وله أن يقضي سنة الظهر البعدية بعد صلاة العصر. أما سنة الفجر فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر قيس بن قهد لما رآه يصلي بعد الفجر ركعتين فسأله عن ذلك، فقال: هما ركعتا الفجر، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.وأما قضاء سنة الظهر البعدية بعد العصر فهذا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام شغله وفد عبد القيس عن سنة الظهر البعدية حتى دخل عليه وقت العصر، فقضاها النبي عليه الصلاة والسلام بعد العصر، فلا بأس إذا شغل الإنسان عن سنة الظهر البعدية أن يقضيها بعد العصر؛ لفعل النبي عليه الصلاة والسلام.قال: (ويجوز قضاء المفروضات). أيضاً قضاء المفروضات يجوز في أوقات النهي، فلو كان الإنسان عليه قضاء صلوات، مثلاً صلى الفجر والظهر وهو محدث ناسياً فإنه يجوز أن يقضي الفجر والظهر بعد العصر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله تعالى عنه: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها )، فقوله عليه الصلاة والسلام: ( فليصلها إذا ذكرها ) يشمل كل أوقات النهي.

خلاف العلماء في جواز صلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي
أيضاً بقي من الأشياء التي تفعل في أوقات النهي ذوات الأسباب، وذوات الأسباب هي كل صلاة تشرع عند وجود سببها، فإنه يجوز فعلها في أوقات النهي، وهذا قول الإمام الشافعي رحمه الله، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وعند جمهور أهل العلم: أن ذوات الأسباب لا يجوز أن تفعل في أوقات النهي من حيث الجملة، وإن كانوا يستثنون بعض الصلوات، فيجوزونها في أوقات النهي، فتلخص عندنا قولان: القول الأول: رأي الجمهور: أن ذوات الأسباب لا يجوز أن تفعل في أوقات النهي.والرأي الثاني: رأي الشافعي واختاره شيخ الإسلام : أنها تفعل في أوقات النهي.أما بالنسبة للجمهور فاستدلوا بعمومات أدلة النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، وهذا يشمل ذوات الأسباب وغيرها، كحديث أبي سعيد في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ).وأيضاً: حديث عقبة بن عامر في صحيح مسلم : ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين تتضيف للغروب حتى تغرب، وحين يقوم قائم الظهيرة ).وكذلك أيضاً حديث ابن عباس : ( شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر .. ) إلى آخره، وحديث أبي هريرة إلى آخره، فاستدلوا بعمومات أدلة النهي.والرأي الثاني: رأي الشافعي : أن ذوات الأسباب تفعل في أوقات النهي؛ لحديث أبي قتادة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )، وهذا يشمل كل وقت، يشمل ما بعد العصر، وما بعد الفجر، وهذا الحديث في الصحيحين. وكذلك أيضاً ما تقدم لنا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفزع إلى الصلاة حين حصول الكسوف، وهذا يشمل كل وقت، وكذلك أيضاً ما تقدم من حديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً صلى وطاف في هذا البيت في أية ساعة شاء من ليل أو نهار ).وكذلك أيضاً ما تقدم من حديث أبي ذر : ( إذا أقيمت وأنت في المسجد فصل، ولا تقل: إني صليت فلا أصلي )، وهذا القول هو الراجح. الراجح أن ذوات الأسباب تفعل في أوقات النهي؛ لأن عمومات الأمر بذوات الأسباب أقوى من عمومات النهي عن صلاة ذوات الأسباب في هذه الأوقات؛ لأن عمومات الأمر عمومات محفوظة لم يدخلها التخصيص، وأما عمومات النهي فقد دخلها التخصيص، فعموم الأمر بذوات الأسباب أقوى من عموم النهي عن ذوات الأسباب في هذه الأوقات. وعلى هذا لو أن الإنسان توضأ بعد العصر فإنه يستحب له أن يصلي ركعتي الوضوء، ولو كان في وقت النهي أو بعد الفجر، ولو أنه دخل المسجد فإنه يصلي ركعتي تحية المسجد، ولو كسفت الشمس في وقت النهي فإنه يصلي أيضاً في وقت النهي، وكذلك أيضاً يصلي صلاة الاستخارة لما يفوت، لو كان هناك شيء يفوت ولا يمكنه أن يؤخره فإنه يستخير ولو كان ذلك في وقت النهي.كذلك أيضاً إعادة الجماعة فإن الإنسان يعيدها في أوقات النهي؛ لأنها من ذوات الأسباب.وكذلك أيضاً ركعتا الطواف فإنه يصليهما في أوقات النهي.وكذلك أيضاً صلاة الجنازة، وسجود التلاوة.. إلى آخره، فكل صلاة متعلقة بسبب تفوت إذا أخرت عن سببها فإنها تشرع في أوقات النهي، هذا هو ضابط ذوات الأسباب كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ذوات الأسباب التي تفعل في أوقات النهي: كل صلاة إذا أخرت عن سببها فإنها تفوت، فنقول: بأنها تشرع في أوقات النهي، أما إذا كانت لا تفوت فإنها لا تشرع في أوقات النهي، مثلاً صلاة الاستسقاء صلاة ذات سبب، الناس يستسقون يصلون صلاة الاستسقاء عند وجود سبب الاستسقاء وهو جدب الديار، وانقطاع الأمطار.. إلى آخره، لكن لا تفعل صلاة الاستسقاء في أوقات النهي، فلا تفعل بعد العصر، لماذا؟ لأنها لو أخرت إلى المغرب لا تفوت، وهم يستسقون بالضحى، ويستسقون أيضاً بعد المغرب، لا حاجة إلى أن تفعل بعد العصر. كذلك أيضاً صلاة الاستخارة لما لا يفوت، لو أن الإنسان أراد أن يشتري سيارةً أو أن يشتري بيتاً، وهذا الشراء له أن يتأخر بعد غد أو بعد يومين إلى آخره، فنقول: لا يفعل صلاة الاستخارة في أوقات النهي.

دخول وقت النهي أثناء الصلاة
بقي علينا من أوقات النهي إذا دخل وقت النهي والإنسان يصلي، فجمهور أهل العلم رحمهم الله قالوا: بأنه يقطع الصلاة، وقال المالكية: يتمها خفيفة. والصواب في هذه المسألة: أنه إن صلى ركعة أتم صلاته خفيفة، وإن صلى أقل من ركعة فإنه يقطعها؛ لأنه إذا صلى ركعةً يكون قد أدرك هذه الصلاة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة ).

حكم الصلاة في أوقات النهي
أيضاً من المسائل المتعلقة بأوقات النهي هل النهي للتحريم أو للكراهة؟ نقول: بأن النهي في أوقات النهي للتحريم وليس للكراهة؛ لأن هذا هو الأصل في النواهي كما هو مقرر في أصول الفقه.
الإمامة

الأولى بالإمامة
قال المؤلف رحمه الله: [باب الإمامة: روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )]. الإمامة في اللغة: القصد. وأما في الاصطلاح: فهي ربط صلاة المؤتم بالإمام. من الأولى بالإمامة؟ بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ).

أولاً: الأقرأ
الأولوية في الإمامة لا تخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يكون للمسجد إمام راتب مرتب إما من قبل الجماعة, ارتضوا هذا الشخص أن يصلي بهم، أو أنه مرتب من قبل الإمام الأعظم أو نائبه، ونائب الإمام الأعظم اليوم إدارة الأوقاف، فإدارة الأوقاف رتبت هذا الشخص إماماً، فنقول: هو الأولى بالإمامة، ولا يتقدم عليه أحد؛ لما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا يؤم الرجل الرجل في بيته ولا في سلطانه )، وإمام المسجد سلطان في مسجده، فإذا كان مرتباً إما من قبل المسئول أو من قبل جماعة المسجد فهو الأولى بالإمامة, ولا يتقدم عليه أحد.الأمر الثاني: ألا يكون هناك إمام راتب، بأن تكون جماعة منفردة خرجت في سفر، أو هذا المسجد ليس له إمام راتب نريد أن نضع له إماماً راتباً، فمن الأولى بالإمامة؟ بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ). فالمرتبة الأولى: مرتبة القراءة، فإذا اجتمع عندنا شخصان نقول: من الأقرأ منهما؟ فإنه هو الذي يقدم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ) حديث أبي مسعود في مسلم .وأيضاً حديث أبي سعيد في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم ).فنقول: المرتبة الأولى: مرتبة القراءة، وما المراد بالأقرأ في قول النبي صلى الله عليه وسلم؟ للعلماء في ذلك رأيان: الرأي الأول: أن المراد بالأقرأ هو الأجود قراءة، وليس المراد التجويد المعروف بمدوده وغناته وتشديداته، بل المراد أن يأتي بألفاظ القرآن على وفق قواعد اللغة العربية، وألا يلحن فيه، فيخرج الحروف من مخارجها، ولا يلحن في قراءته، ويأتي به على وفق القواعد العربية، هذا هو الرأي الأول. والرأي الثاني: أن المراد بالأقرأ هو الأكثر حفظاً، وعلى هذا إذا تقدم شخصان ننظر من هو الأكثر حفظاً منهما، فإذا كان هذا يحفظ كامل القرآن، وهذا يحفظ نصف القرآن، فنقول: بأن كامل القرآن هو الأقرأ. وهذا القول هو الصواب؛ لحديث عمرو بن سلمة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً )، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( وليؤمكم أكثركم قرآناً )، فنظروا من هو الأكثر قرآناً فوجدوا عمرو بن سلمة رضي الله تعالى عنه هو الأكثر قرآناً أكثرهم حفظاً فقدموه يؤمهم، وله ست سنوات. فالمهاجرون الأولون كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة ، وفيهم عمر وأبو سلمة ؛ لأن سالم مولى أبي حذيفة رضي الله تعالى عنه أكثرهم قرآناً. فالصواب أن المراد بالأقرأ هو الأكثر قرآناً، فإذا اجتمع عندنا شخصان: شخص يحفظ كذا وكذا، وشخص يحفظ كذا وكذا فننظر إلى من هو الأكثر قرآناً ونقدمه.

ثانياً: الأعلم بالسنة
قال المؤلف رحمه الله: [فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة]. هذه المرتبة الثانية، إذا تساووا في القراءة كل منهم يحفظ مثلاً نصف القرآن أو القرآن كاملاً، ننظر إلى الأفقه من هو الأفقه منهما؟ والمراد بالفقه هنا معرفة أحكام الصلاة؛ لأن كون الإنسان يعرف أحكام الصلاة له أثر في إقامة صلاته. فنقول: أعلمهم بالسنة، المراد بالسنة هو الفقه، فننظر إلى من هو الأكثر فقهاً، فإذا كان أحد هذين الشخصين أكثر فقهاً ومعرفة لأحكام الصلاة فإنه يقدم، هذه المرتبة الثانية، فأصبحت المرتبة الثانية هي المعرفة بالفقه.

ثالثاً: الأقدم هجرة
قال المؤلف رحمه الله: [فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة]. هذه المرتبة الثالثة إذا تساووا في القراءة في الحفظ، وتساووا في الفقه في معرفة أحكام الصلاة ننظر إلى المرتبة الثالثة وهي الأسبق بالهجرة. والهجرة في اللغة: الترك والانتقال. وأما في الاصطلاح: فهي الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام. فلو كان عندنا شخصان كل منهم يحفظ كذا وكذا من القرآن على وجه السواء، وكل منهم يعرف أحكام الصلاة على وجه السواء، ننظر إلى أقدمهما هجرةً، فإذا كان أحدهما هاجر من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام يعني أسلم، وأحدهما سبق في الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام فإننا نقدم الأقدم هجرة، إذا لم يوجد ذلك وكانا في بلاد الإسلام أصلاً ومنشأً إلى آخره فإننا ننتقل إلى المرتبة الرابعة. المهم لو فرضنا أنهما تساويا في المرتبة الأولى في القراءة، وفي مرتبة الفقه، وأحدهما سبق بالهجرة كل منهما أسلم في بلد الشرك وأحدهما سبق الآخر فإننا نقدم الأقدم هجرة.

رابعاً: الأكبر سناً
قال المؤلف رحمه الله: [فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سناً]. هذه المرتبة الرابعة، لو فرض أنهما هاجر جميعاً من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، أو أصلاً ولدا في بلاد الإسلام ونشأا في بلاد الإسلام فإننا ننتقل إلى المرتبة الرابعة وهي الأكبر سناً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فليؤمهم أكبرهم سناً ).وقال بعض العلماء: يقدم الأتقى على الأسن، فإذا كان أحدهما أتقى وأورع من الآخر فإنه يقدم على الأسن، وهذا اختيار الشيخ السعدي رحمه الله. وعلى هذا نقول: المرتبة الرابعة: الأتقى، فننظر إلى أتقاهما، فإن تساويا في التقى فإننا ننظر إلى مرتبة السن، فالمرتبة الخامسة هي مرتبة السن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فليؤمهم أكبرهم سناً )، وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام لـمالك بن الحويرث ومن معه: ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما، وليؤمكما أكبركما ). قلنا: المرتبة الأولى: القراءة.والمرتب الثانية: السنة.المرتبة الثالثة: الهجرة.المرتبة الرابعة: التقى.المرتبة الخامسة: السن.المرتبة السادسة: من يختاره أكثر الجيران، فننظر إلى اختيار جيران المسجد وجماعة المسجد، فإذا تساووا في هذه المراتب الخمس ننظر إلى اختيار الجيران، فإذا اختار الجيران أحد هذين الشخصين فإنه يقدم، نقدم هذا الذي اختاره أكثر الجيران.المرتبة السابعة والأخيرة: إذا تساويا في اختيار الجيران، أو أن الجيران لم يختاروا واحداً منهما فإننا نصير إلى المرتبة السابعة والأخيرة القرعة، فنضرب القرعة بينهما، فمن خرجت له القرعة فإنه يكون أحق بالإمامة.

أحقية صاحب البيت بالإمامة
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يؤمن الرجل الرجل في بيته]. صاحب البيت أحق بالإمامة ممن حضر، فلو أن شخصاً أتى إلى شخص في بيته وأراد الصلاة النافلة مثلاً فنقول: الأحق بالإمامة هو صاحب البيت؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا يؤم الرجل الرجل في بيته )، فهو مقدم، صاحب البيت مقدم على من حضر، حتى ولو كان الذي حضر أقرأ منه، أو أفقه منه… إلى آخره، فنقول: بأنه مقدم على غيره. لكن إذا كان الذي حضر أولى منه بالإمامة مقدم عليه بالإمامة لكونه أقرأ أو لكونه أفقه… إلى آخره فإنه يستحب لصاحب البيت أن يقدمه، لكن الأصل أن صاحب البيت مقدم في الإمامة على من حضره.

أحقية السلطان بالإمامة
قال المؤلف رحمه الله: [ولا في سلطانه]. وهذا سبق أن أشرنا إليه، إمام المسجد سلطان في مسجده فهو أحق بالإمامة، حتى ولو كان الذي حضر وأتم خلفه أقرأ منه، أو كان أفقه منه، أو كان أتقى منه… إلى آخره، فنقول: إمام المسجد أحق بالإمامة؛ لأنه سلطان في مسجده.وكذلك أيضاً الإمام الأعظم إذا حضر المسجد فإنه أحق بالإمامة؛ لعموم سلطانه وولايته؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا في سلطانه ).

الصلاة خلف الإمام المحدث
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه، وقال لـمالك بن الحويرث وصاحبه: ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما، وليؤمكما أكبركما، وكانت قراءتهما متقاربة ولا تصح الصلاة خلف من صلاته فاسدة ). حكم الصلاة خلف من صلاته فاسدة، تكون صلاة الإمام فاسدة إما من أول الصلاة تكون فاسدة، أو أنها تفسد في أثناء الصلاة، يعني الإمام إما أن يبني صلاته على حدث، أو أن يسبقه الحدث، تفسد صلاة الإمام إذا سبقه الحدث، أو إذا بنى صلاته على حدث، يعني اختل شرط من شروط صحة الصلاة، مثل الحدث، فهل تصح صلاة المأمومين أو لا تصح صلاة المأمومين؟ إذا صلى الإمام وهو محدث نقول: لا يخلو من أحوال:الحالة الأولى: ألا يعلم بالحدث إلا بعد نهاية الصلاة، أكل لحم جزور ثم تقدم يصلي بالناس ونسي أنه أكل لحم جزور أو جهل يظن أنه ليس لحم جزور فإذا هو لحم إبل فصلى بالناس ولم يعلم إلا بعد نهاية الصلاة، فنقول: بأن صلاة الإمام باطلة، ويجب عليه أن يعيد الوضوء والصلاة. وأما بالنسبة لصلاة المأمومين فصحيحة؛ ويدل لذلك حديث أبي هريرة في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم ).وأيضاً عمر رضي الله تعالى عنه صلى بالناس وهو جنب ولم يذكر إلا بعد نهاية الصلاة، فأعاد ولم يأمر الناس بالإعادة. وكذلك أيضاً عثمان رضي الله تعالى عنه صلى بالناس وهو جنب ولم يذكر إلا بعد نهاية الصلاة فأعاد ولم يأمر الناس بالإعادة.فنقول: إذا كان الإمام لا يعلم بالحدث أو لم يعلم بالحدث حتى انتهى من صلاته فنقول: بأن صلاته صحيحة. الحالة الثانية: أن يعلم بالحدث في أثناء الصلاة، شرع يصلي بالناس، وبعد أن صلى ركعةً أو ركعتين علم أنه محدث، فالعلماء رحمهم الله لهم في ذلك رأيان: الرأي الأول: أنه لا استخلاف، وعلى هذا صلاة الإمام باطلة، وتبطل صلاة المأمومين، فيقولون: إذا علم بالحدث في أثناء الصلاة فلا استخلاف، يجب عليه أن يخرج الإمام من الصلاة، وكذلك أيضاً بالنسبة للمأمومين تبطل صلاتهم، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.والرأي الثاني: أن صلاة الإمام هي الباطلة؛ لأنه بناها على حدث، وأما بالنسبة لصلاة المأمومين فصحيحة؛ لما تقدم من الدليل على ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم )، وكذلك أيضاً ما تقدم من أثر عمر وعثمان أنهما لم يأمرا الناس بالإعادة.فالصوا : أن صلاة المأموم صحيحة، وحينئذ الإمام يخلف بالناس من يتم بهم الصلاة، كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه لما طعن، لما طعن عمر رضي الله تعالى عنه ولم يتمكن من إكمال الصلاة استخلف عبد الرحمن بن عوف فأكمل بالناس.الحالة الثالثة: أن يبني الصلاة على طهارة، لكن يسبقه الحدث في أثناء الصلاة، في أثناء الصلاة يحدث الإمام، فالخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة. ونقول: الصواب في ذلك: أن صلاة المأمومين صحيحة؛ لما تقدم من الدليل على ذلك، والإمام يجب عليه أن يخرج، ولا يجوز له أن يستمر في صلاته، ويستخلف بالمأمومين شخصاً يصلي بهم، فإن لم يستخلف شخصاً يصلي بهم فللمأمومين أن يستخلفوا شخصاً يصلي بهم، ولهم أن يتموها فراداً، والأحسن أن الإمام يستخلف بهم من يصلي كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي . لو أن الإمام استمر في صلاته بعد أن سبقه الحدث، أو بعد أن علم أنه محدث استمر في صلاته ولم يخرج نقول: بأنه يأثم، وأما بالنسبة لصلاة المأمومين فصحيحة؛ لما تقدم أن أشرنا إليه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم )، هذا بالنسبة لما يتعلق بصلاة الإمام المحدث.

الصلاة خلف الإمام الذي عليه نجاسة
أيضاً: مسألة أخرى: صلاة الإمام الذي عليه خبث، عليه نجاسة، يعني في ثوبه نجاسة ولم يعلم بها، نقول: الإمام الذي عليه نجاسة في ثوبه أو في بدنه أو في بقعته التي يصلي عليها نجاسة أيضاً نقول: هذا لا يخلو من أمور: الأمر الأول: ألا يعلم بالنجاسة إلا بعد نهاية الصلاة، بعد أن انتهى الإمام من الصلاة علم أن في ثوبه نجاسة، فنقول: بأن صلاته صحيحة، وصلاة المأمومين صحيحة؛ لأن النجاسة يعذر فيها بالجهل والنسيان؛ لأنها من باب التروك، من باب المحظورات. ولهذا جبريل جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وأخبر -كما في حديث جابر وحديث أبي سعيد -: ( أن في نعليه أذى، فخلعهما النبي صلى الله عليه وسلم واستمر في صلاته ). فإذا لم يعلم المصلي الإمام أو المأموم أن في ثوبه نجاسة حتى انتهت الصلاة فنقول: بأن صلاته صحيحة، فإذا جهل المأموم أن في ثوبه نجاسة نقول: صلاتك صحيحة، وصلاة المأمومين صحيحة، ودليل ذلك ما أشرنا إليه. وأيضاً ننبه إلى الفرق بين الحدث وبين الخبث، فالحدث من باب الأوامر، يعني لو أن الإنسان صلى وهو محدث فإنه يجب عليه أن يعيد؛ لأن رفع الحدث من باب الأوامر، لا يعذر فيه بالجهل والنسيان، وأما بالنسبة لإزالة الخبث فإنه من باب التروك والنواهي يعذر فيه بالجهل والنسيان.الأمر الثاني: إذا علم الإمام في أثناء الصلاة أن على ثوبه نجاسة أو في بدنه نجاسة… إلى آخره فنقول: إن تمكن من إزالة النجاسة فإنه يزيلها ويستمر في صلاته، فمثلاً إذا علم أن في عمامته أو غترته نجاسة فإنه يزيل هذا اللباس ويستمر في صلاته، هذا إذا تمكن، أما إذا لم يتمكن من إزالته كما لو كان في ثوبه وليس عليه ثوب آخر يستر عورته فنقول: بأنه يخرج، وأما بالنسبة للمأمومين فإنهم فصلاتهم صحيحة، فيستخلف بهم، أو يخلفون شخصاً يتم بهم الصلاة.باقي أيضاً مسألة أخرى: إذا علم المأموم أن الإمام محدث أو أن عليه نجاسة فنقول: إذا علم أنه محدث فإنه لا يجوز له أن يستمر معه؛ لأنه يعتقد أن صلاته باطلة، فيجب عليه أن ينوي الانفراد، ولا يتابعه، لا يتابعه إذا علم أنه محدث، علم أن هذا الإمام قد انتقض وضوءه بأكل لحم جزور مثلاً فإنه لا يتابعه، ويجب عليه أن ينفرد، ويتم صلاته منفرداً. أما إن علم المأموم أن على ثوب الإمام نجاسة… إلى آخره فنقول: يتابعه، ويصلي معه، وصلاة كل منهما صحيحة؛ لأن الإمام معذور بالجهل هنا، الإمام معذور بجهل هذه النجاسة ونسيانها فصلاته صحيحة ما دام أنه ناس أو جاهل. أما بالنسبة للحدث فنقول: بأنه لا يعذر فيه، لا بد أن يعيد المأموم الصلاة ما دام أنه يعلم أنه محدث، فإن صلاة الإمام باطلة، وحينئذ لا يتابعه على ذلك.

إمامة العاجز عن القيام
قال المؤلف رحمه الله: [ولا تصح خلف تارك ركن إلا إمام الحي إذا صلى جالساً لمرض يرجى برؤه، فإنهم يصلون وراءه جلوساً، إلا أن يبتدئها قائماً ثم يعتل فيجلس فإنهم يأتمون وراءه قياماً]. الإمام إذا كان تاركاً لركن من أركانها فنقول: بأنه لا يخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يكون هذا الركن المتروك ركوعاً أو سجوداً، الإمام لا يستطيع أن يركع لمرض في ظهره مثلاً، لا يستطيع أن يسجد لمرض في رأسه أو عينه، لا يتمكن من السجود، ولا يتمكن من الركوع يومئ إيماءً بالركوع وبالسجود كما يأتينا في صلاة المريض، فهل تصح الصلاة خلفه أو لا تصح الصلاة خلفه؟ نقول: بأن أكثر أهل العلم قالوا: لا تصح الصلاة خلفه، إذا كان يعجز عن الركوع أو يعجز عن السجود يومئ بالركوع أو يومئ بالسجود, أكثر أهل العلم قالوا: لا تصح الصلاة خلفه.والرأي الثاني رأي الشافعي : أن الصلاة خلفه صحيحة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الصواب؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ). فإذا كان هذا المريض هو الأقرأ فإننا نقدمه، ولو كان لا يستطيع الركوع أو السجود إلا إيماءً فإننا نقدمه، هذا هو الصواب، فيومئ الإمام بالركوع والمأمومون يركعون ركوعاً تاماً، ويومئ الإمام بالسجود والمأمومون يسجدون سجوداً تاماً.الأمر الثاني: أن يكون الإمام عاجزاً عن ركن القيام، فقال المؤلف رحمه الله: (إلا إمام الحي إذا صلى جالساً لمرض يرجى برؤه فإنهم يصلون وراءه جلوساً). يقول المؤلف رحمه الله: تصح إمامة العاجز عن القيام بشرطين: الشرط الأول: أن يكون الإمام الراتب.الشرط الثاني: أن يرجى زوال هذه العلة منه.وعلى هذا إذا كان الإمام الراتب إمام المسجد الراتب أصابه كسر في رجله، فأصبح لا يستطيع القيام، الآن المرض يرجى زواله أو لا يرجى زواله؟ يرجى زواله، فنقول: تصح إمامته؛ لأنه توفر فيه شرطان: الشرط الأول: أنه الإمام الراتب.والشرط الثاني: أنه يرجى زوال هذه العلة، فيصح أن نصلي خلفه، هو يصلي جالساً الآن، لكن هل نصلي خلفه جلوساً أو نصلي خلفه قياماً؟ قال المؤلف رحمه الله: (فإنهم يصلون وراءه جلوساً إلا أن يبتدئها قائماً ثم يعتل فيجلس فإنهم يأتمون وراءه قياماً). الإمام إن افتتح الصلاة جالساً فإننا نصلي خلفه جلوساً، وإن افتتحها قائماً ثم أصابه مرض وما استطاع القيام فإننا نصلي خلفه قياماً. ودليل ذلك في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ( لما جحش عن فرسه, وأم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة, وكان قد افتتح الصلاة جالساً أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجلوس، وقال: وإذا صلى جالساً فصلوا خلفه جلوساً أجمعون ).ولما مرض النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة ( وأمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فوجد النبي عليه الصلاة والسلام من نفسه خفة فخرج وأكمل الصلاة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي جالساً والصحابة يصلون خلفه قياماً ) لماذا؟ لأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قد افتتح الصلاة بهم قائماً.فنقول: بالنسبة للمأمومين إن افتتح الإمام الصلاة قاعداً فإنهم يصلون خلفه قعوداً، وإن افتتح الصلاة قائماً ثم حصلت له العلة فإنهم يصلون خلفه قياماً كما دلت لذلك السنة، هكذا جمع الإمام أحمد رحمه الله تعالى، لكن كما أشرنا أن المؤلف رحمه الله قال: تصح إمامة العاجز عن ركن القيام بشرطين: الشرط الأول: أن يكون إمام الحي.والشرط الثاني: أن يرجى زوال علته.وعلى هذا لو كان الإمام ليس إمام الحي، جاء شخص ليس الإمام الراتب، وهو لا يستطيع القيام لكسر به، أو لعرج أو شلل ونحو ذلك، فهل يجوز أن يتقدم ويصلي بالناس؟ يقول المؤلف رحمه الله: لا يجوز؛ لأنه لا بد أن يكون إمام الحي. أيضاً لو أن إمام الحي كبر وأصبح لا يستطيع القيام فهل يجوز أن يتقدم بالناس؟ لا يجوز؛ لأن هذه العلة لا يرجى زوالها، علة السن هذه لا يرجى زوالها.والرأي الثاني: أنه لا يشترط شيء، الرأي الثاني رأي أبي حنيفة .
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-27, 10:28 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [15]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(24)

اختلف أهل العلم في جملة من مسائل الإمامة منها: من تصح إمامته ومن لا تصح، ويندرج تحتها إمامة صاحب الحدث الدائم، والمتنفل بالمفترض، كما اختلفوا في بطلان صلاة المأموم إذا وقف عن يسار الإمام أو أمامه أو خلفه، وقد بيّن أهل العلم جملة من أحوال الإمام والمأموم و
تابع الإمامة
تقدم لنا في الدرس السابق شيء من أحكام الإمامة، وذكرنا من الأولى بالإمامة، وأن الأولى بالإمامة من قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي حديث أبي مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )، فالأولى بالإمامة هو الأقرأ، وذكرنا كلام أهل العلم رحمهم الله في المراد بالأقرأ؟ وأن أهل العلم اختلفوا في ذلك على رأيين:الرأي الأول: أن المراد بالأقرأ هو الأكثر حفظاً، وقيل: بأن المراد بالأقرأ هو الذي يجيد القراءة، بحيث لا يلحن، ويخرج الحروف من مخارجها، يأتي بالقراءة ولا يلحن فيها ويراعي قواعد اللغة العربية، ويخرج الحروف من مخارجها.. إلى آخره.ثم بعد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن كانوا في القراءة في سواء فأعلمهم بالسنة ).وتكلمنا ما المراد بذلك، وأن المراد بذلك هو الأكثر فقهاً فيما يتعلق بأحكام الصلاة، ثم بعد ذلك أقدمهم هجرة، ثم بعد ذلك أقدمهم سلماً، وفي رواية سناً.. إلى آخره، وتكلمنا على هذه المراتب كلها.وكذلك أيضاً تكلمنا عن حكم إمامة المحدث، وذكرنا أقسامها، وأيضاً عن حكم إمامة من عليه نجاسة في ثوبه، أو بدنه، أو بقعته، وتكلمنا عن أقسام هذه المسألة. وكذلك أيضاً تكلمنا عن حكم إمامة من ترك ركناً من أركان الصلاة. إلى آخره. ‏

إمامة المرأة بالرجال
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا تصح إمامة المرأة بالرجال].يقول المؤلف: (لا تصح إمامة المرأة بالرجال)، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم رحمهم الله؛ ودليل ذلك حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ).وأيضاً حديث أبي هريرة في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها )، وإذا كانت المرأة إمامةً فإن صفها سيكون هو الأول، وقد حكم عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالشرية، فإذا كان كذلك فإنها لا تتقدم؛ لأنها إذا تقدمت فقد حكم النبي عليه الصلاة والسلام بالشرية، وهذا القول هو الصواب، وإن كان ورد عن بعض أهل العلم ما يخالف ذلك، ورد عن الإمام أحمد رحمه الله أنه تصح إمامة المرأة في التراويح، وهذا إذا كان المأمومون من محارمها.

حكم إمامة من به سلس بول
قال المؤلف رحمه الله: [ومن به سلس البول]. من به سلس البول، أو سلس الريح، أو سلس الغائط، يعني من حدثه دائم لاستمرار خروج الحدث منه، يقول المؤلف رحمه الله: [لا تصح إمامته إلا بمثله]، فالذي به سلس بول لا يصح أن يكون إماماً للصحيح، فلا يكون إماماً إلا لمن به سلس بول، والعلة في ذلك قالوا: لأنه أخل بشرط من شروط صحة الصلاة وهي الطهارة.والرأي الثاني: أن من به سلس بول تصح إمامته؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )، وهذا يدخل فيه من به سلس بول، فإذا كان هو الأقرأ فإنه يقدم.وأيضاً حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم ) ويدخل في ذلك من به سلس بول… إلى آخره.وأما قولهم: بأنه أخل بشرط من شروط صحة الصلاة وهي الطهارة نقول: هذا غير مسلم، فهو لم يخل بشرط؛ لأن خروج هذا الحدث قد عفا عنه الشارع، ولهذا تصح صلاته مع خروج هذا الحدث، فهذا الحدث قد عفا عنه الشارع، فالصواب صحة إمامته.

إمامة الأمي
قال المؤلف رحمه الله: [والأمي الذي لا يحسن الفاتحة أو يخل بحرف منها]. أيضاً الأمي في اللغة: هو الذي لا يكتب ولا يقرأ.وأما في اصطلاح الفقهاء رحمهم الله فالأمي يشتمل على أمور: الأمر الأول: من لا يحسن الفاتحة، يعني: لا يحفظ الفاتحة، فهذا أمي، وإن كان من أعلم الناس في غير الفاتحة، نقول: بأنه أمي، الذي لا يحفظ الفاتحة هذا لا تصح إمامته.الأمر الثاني: الذي يدغم حرفاً بحرف لا يقاربه ولا يماثله فهذا أمي، ويسميه العلماء رحمهم الله بالأرت، الذي يدغم حرفاً بحرف آخر لا يماثله ولا يقاربه فهذا أمي، مثال ذلك لو أدغم حرف الهاء بحرف الراء، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] ، لو قال: الحمد للرب العالمين، فأدغم الهاء بالراء، فهنا أدغم حرفاً بآخر لا يماثله ولا يقاربه هذا أمي لا تصح إمامته.الأمر الثالث: الألثغ وهو الذي يبدل الراء غيناً أيضاً هذا أمي لا تصح إمامته إلا بمثله، فالذي يبدل الراء غيناً يقول: غب العالمين، بدلاً من أن يقول: رب العالمين يقول: غب العالمين، فنقول: بأن هذا أمي لا تصح إمامته.الأمر الرابع: الذي يلحن في الفاتحة لحناً يحيل المعنى، مثاله: يقول: إياكِ نعبد وإياكِ نستعين، بدلاً من أن يقول: إياكَ يقول: إياكِ، فهذا لحن لحناً يحيل المعنى، فهذا الأمي لا تصح إمامته إلا بمثله، فلا تصح إمامته بغير الأميين. ونعلم أيها الإخوة أن مسألة القراءة مسألة مهمة؛ لأن الشارع أكد عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يؤم القوم أقرؤهم ) نص على القراءة، وقال: ( إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم ).وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أقرؤكم ) إلى آخره.فمسألة القراءة هذه أكد عليها الشارع، قال بعض العلماء: من صحت صلاته صحت إمامته، لكن هذا الضابط الذي ذكره بعض أهل العلم لا تدخل فيه القراءة، الأمي لا تصح إمامته، مثلاً: لو كان عندنا شخص يقول: غب العالمين تصح قراءته هذا ما في وسعه، لكن لا نقول: بأن إمامته تصح؛ لأن القراءة أكد عليها الشارع، وجعل المحور يدور عليها، فمن به سلس بول قلنا: بأن صلاته صحيحة، فتكون إمامته صحيحة، لكن الأمي لا نقول: بأن صلاته صحيحة فتكون إمامته صحيحة؛ لأنك إذا تأملت النصوص الشرعية تجد أن الشارع أكد على مسألة القراءة، واعتبرها واشترطها وحينئذ نقول: هذا الأمي لا تصح إمامته إلا برجل أمي مثله.

إمامة المتيمم بالمتوضئ
قال المؤلف رحمه الله: [ويجوز ائتمام المتوضئ بالمتيمم]. لأن التيمم عبادة شرعية، والتيمم كالوضوء تماماً كما سبق لنا من أنه يرفع الحدث على الصحيح، لكن الفرق بين التيمم وبين الوضوء أن الوضوء يرفع الحدث رفعاً مطلقاً، وأما التيمم فإنه يرفع الحدث إلى وجود الماء. وأيضاً يدل لذلك ( أن عمرواً بن العاص لما أصابته الجنابة تيمم وصلى بأصحابه وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك )، وأيضاً يدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )، فإذا كان الإمام متيمماً والمأموم متوضئاً فتصح الإمامة.

إمامة المتنفل بالمفترض
قال المؤلف رحمه الله: [والمفترض بالمتنفل]. إذا كان الإمام متنفلاً والمأموم مفترضاً أيضاً تصح الإمامة؛ ويدل لذلك فعل معاذ رضي الله تعالى عنه، فإن معاذاً رضي الله تعالى عنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء، ثم يذهب إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة.وفي سنن البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( هي له تطوع ولهم نافلة ).وحديث معاذ رضي الله تعالى عنه الذي رواه جابر في الصحيحين ( أن معاذاً كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يذهب إلى قومه فيصلي بهم )، فإذا كان الإمام متنفلاً والمأموم مفترضاً صحت الإمامة. واعلم أن اختلاف النية بين صلاة الإمام وصلاة المأموم هذا لا يضر، فالمأموم يصلي نافلة، والإمام يصلي فريضة، أو العكس الإمام يصلي فريضة والمأموم يصلي نافلة هذا لا يضر، أو هذا يصلي العصر وهذا يصلي الظهر، أو هذا يصلي التراويح وهذا يصلي العشاء… إلى آخره نقول: هذا كله لا يضر، أو هذا يصلي مؤداة وهذا يصلي مقضية… إلى آخره لا يضر، لا يضر إلا إذا كان الاختلاف في الأفعال، وكان هذا الاختلاف كثيراً.

أقسام اختلاف صلاة المأموم عن صلاة الإمام
إذا اختلفت صلاة المأموم عن صلاة الإمام فلذلك ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن تتفق الصلاتان في الأفعال، فهنا لا يضر اختلاف النية، ولا يضر اختلاف الاسم، ما دام أن الصلاتين اتفقتا في الأفعال، فمثلاً هذا يصلي العشاء لأنه مسافر ركعتين خلف من يصلي التراويح ركعتين نقول: صحيحة، الأفعال هنا واحدة، هذا يصلي الظهر والإمام يصلي العصر نقول: هذا صحيح؛ لأن الأفعال واحدة، أيضاً هذا يصلي الظهر أداءً، وهذا يصلي ظهر الأمس قضاءً نقول: هذا أيضاً صحيح.فالقسم الأول: إذا اتفقت الأفعال بين الصلاتين فلا يضر اختلاف الاسم أو اختلاف النية، فإذا نوى المأموم صلاة ونوى الإمام صلاة، أو اختلف اسم الصلاتين، فاسم صلاة الإمام يختلف عن اسم صلاة المأموم نقول: بأن هذا لا يضر.القسم الثاني: أن تختلف الصلاتان في الأفعال، لكن هذا الاختلاف اختلاف يسير، هذا أيضاً نقول: بأنه لا يضر. مثال ذلك: هذا رجل يصلي العشاء أربع ركعات، وهذا رجل يصلي المغرب ثلاث ركعات، هنا اختلفت الأفعال، الاختلاف هنا يسير، فالذي يصلي المغرب يصلي ثلاث ركعات ثم يجلس وهو بالخيار: إن شاء أن ينتظر الإمام، وإن شاء أن يسلم، وإن انتظر الإمام فهو أحسن.أيضاً مثال آخر: الإمام يصلي العيدين، والمأموم يصلي الفجر، هنا اختلفت الأفعال، لكن هذا الاختلاف اختلاف يسير؛ لأن صلاة العيدين كصلاة الفجر، إلا أن العيدين فيهما التكبيرات الزوائد.فنقول القسم الثاني: إذا اختلفت الأفعال اختلافاً يسيراً فإن هذا لا يضر.القسم الثالث: أن تختلف الأفعال اختلافاً كثيراً، مثال ذلك: هذا رجل يصلي الفجر والإمام يصلي الكسوف، الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان، هنا الآن اختلفت الأفعال اختلافاً كثيراً.مثال آخر: الإمام يصلي صلاة الجنازة، والمأموم يصلي الفريضة مثلاً فريضة الظهر، نقول هنا: اختلفت الأفعال اختلافاً كثيراً فلا يصح. فأصبح إذا اختلفت صلاة الإمام وصلاة المأموم أن هذه المسألة لها ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن تتفق في الأفعال فيصح سواء اتفقا في النية أو اختلفا، اتفقا في الاسم أو اختلفا… إلى آخره.القسم الثاني: أن تختلف الصلاتان في الأفعال اختلافاً يسيراً فنقول: أيضاً هذا لا يضر.القسم الثالث: أن تختلف الأفعال اختلافاً كثيراً فنقول: بأن هذا هو الذي يضر؛ لأن الشارع اعتبر اختلاف الأفعال؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا.. ) إلى آخره، فاعتبر الشارع اختلاف الأفعال، ولم يعتبر اختلاف النية، أو اختلاف الاسم إلى آخره.هذا الضابط الذي ذكرناه يحل كثيراً من الإشكالات التي توجد عند كثير من الناس، تجد وخصوصاً في المساجد التي على الطرقات يختلف الناس هذا يصلي وهذا لا يصلي، أو يسأل عن صلاة هذا.. إلى آخره، أنت إذا دخلت المسجد ووجدت جماعة يصلون صل معهم، سواء كان يصلي المغرب، أو يصلي العشاء، أو يصلي الظهر، كون المأموم يختلف عن الإمام في النية أو في اسم الصلاة هذا لا يضر، ولو مع اختلاف الفعل اليسير نقول: بأنه لا يضر.

موقف المأموم الواحد من الإمام
قال المؤلف رحمه الله: [وإذا كان المأموم واحداً وقف على يمين الإمام]. هنا شرع المؤلف رحمه الله في بيان موقف المأموم، والمأموم لا يخلو إما أن يكون واحداً أو أكثر من واحد، فإن كان واحداً فإنه يقف عن يمين الإمام؛ ويدل لذلك ما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بات ابن عباس في بيت خالته ميمونة قام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فجاء ابن عباس وقام عن يساره، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأسه، وأداره من خلفه إلى يمينه ). فإذا كان المأموم واحداً فالسنة أن يقف عن يمين الإمام، لكن لو وقف عن يسار الإمام، ويمين الإمام خالٍ فهل تصح صلاة المأموم أو لا تصح صلاة المأموم؟

حكم صلاة من وقف عن يسار الإمام
قال المؤلف رحمه الله: [فإن وقف عن يساره أو قدامه أو وحده لم تصح]. إذا وقف المأموم عن يسار المأموم لا يصح، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وعند جمهور أهل العلم أن ذلك صحيح ولا بأس به.الحنابلة استدلوا بحديث ابن عباس قالوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أدار ابن عباس من يساره إلى يمينه.الجمهور استدلوا أيضاً بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأن ابن عباس أدى جزءاً من الصلاة عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يأمره النبي عليه الصلاة والسلام بالإعادة، جاء ابن عباس وكبر عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، فأدى جزءاً من الصلاة: تكبيرة الإحرام، ثم أداره النبي عليه الصلاة والسلام.أيضاً: حديث جابر : ( جابر جاء وكبر عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك جاء جبار وكبر عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وأدارهما النبي عليه الصلاة والسلام خلفه.. ) إلى آخره، فهنا أدى جزءاً من الصلاة عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم.وما ذهب إليه جمهور أهل العلم أقرب إلى الصحة، فنقول: إذا صلى المأموم عن يسار الإمام ترك الفضيلة والسنة وصلاته صحيحة.

حكم صلاة من وقف قدام الإمام
قال المؤلف رحمه الله: [أو قدامه]. إذا صلى المأموم قدام الإمام فإنها لا تصح صلاته، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم خلافاً للإمام مالك ، الإمام مالك رحمه الله يقول: إذا صلى المأموم قدام الإمام صحت الصلاة.الجمهور استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به )، وإذا كان الإمام مؤتماً به ومقتدىً به فإن مكان المؤتم والمقتدي إنما يكون خلف الإمام المقتدى به، فإذا كان كذلك فإنه يكون موضع المأموم خلف الإمام. وتوسط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة وقال: تصح صلاة المأموم قدام المأموم عند الضرورة، وذلك كما يوجد في حالة الزحام، في حالة الزحام إذا كثر الناس في صلاة الجمعة أو في صلاة العيدين ونحو ذلك وفي المناسبات إلى آخره، فإذا حصل الزحام وكثر الناس ولم يتمكن الناس، أو ظهر عليهم مشقة شديدة في كونهم يكونون خلف الإمام أو محاذين له وصلوا قدامه فإن هذا صحيح. وما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو الأقرب، وهذا على قاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، شيخ الإسلام يقول: بأن الواجبات تسقط بالعجز عنها؛ ويدل لذلك حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب.. ) إلى آخره، وهذا القول هو الصواب، وهو وسط بين القولين في هذه المسألة.

حكم صلاة المنفرد خلف الإمام
قال المؤلف رحمه الله: [أو وحده لم تصح]. إذا صلى منفرداً خلف الصف يقول المؤلف رحمه الله: لا تصح صلاته؛ واستدلوا بما أخرجه أبو داود في سننه من حديث وابصة بن معبد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف فأمره أن يعيد ). وأيضاً حديث علي بن شيبان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمنفرد خلف الصف ).وعند جمهور أهل العلم أن الصلاة خلف الصف صحيحة، يعني لو جاء فرد وصلى خلف الصف فإن صلاته صحيحة، الحنفية والمالكية والشافعية كلهم يصححون صلاته، واستدلوا على ذلك بحديث أنس أنه قال: ( قمت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من خلفنا )، فالعجوز صلت خلف الصف منفردةً.وأيضاً قالوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أدار ابن عباس من يساره إلى يمينه، وفي أثناء الإدارة أدى جزءاً من الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أيضاً توسط في هذه المسألة وقال: بأن المصافة واجبة لحديث وابصة وحديث علي بن شيبان رضي الله تعالى عنهما، لكن تسقط بالعجز عنها، فإذا عجز عنها المأموم سقطت، فإذا جاء والصف مكتمل فإنه يصف خلف الصف، ويسقط عنه واجب المصافة، وهذا القول هو الصواب، وهو توسط بين الرأيين. فعلى هذا نقول: بأنه تجب المصافة لحديث علي بن شيبان ووابصة ، إلا إذا كان الإنسان لا يتمكن من ذلك، لا يتمكن لكون الصف مكتملاً فنقول: بأنه يصلي خلف الصف وصلاته صحيحة. قال المؤلف رحمه الله: (لم تصح..) إلى آخره. هذا إذا كان المأموم واحداً فإن موقفه كما تقدم السنة أن يكون عن يمين الإمام، ولو صلى عن يسار الإمام فذكرنا أن الصواب ما عليه جمهور أهل العلم وأن صلاته صحيحة. إن كان المأموم أكثر من واحد فإن السنة أن يصلوا خلف الإمام، ولو صلوا من على يمينه ويساره فإن هذا صحيح ولا بأس به، وكان في أول الإسلام إذا كانوا ثلاثة يصف واحد عن يمين الإمام، والآخر عن يسار الإمام، وابن مسعود رضي الله تعالى عنه خفي عليه النسخ، فلما فاتته الصلاة جعل علقمة عن يمينه والأسود عن يساره، لكن هذا نسخ كما في حديث سعد رضي الله تعالى عنه، والسنة أن يصلي المأمومون خلف الإمام، كما أدار النبي صلى الله عليه وسلم جابراً وجباراً خلفه.

موقف المرأة من الإمام
قال المؤلف رحمه الله: [إلا أن تكون امرأةً فتقف وحدها خلفه]. المرأة لا تخلو من أمرين: إما أن تكون مع النساء, أو تكون مع الرجال، فإن كانت مع الرجال فإنها تقف خلف الصف، حتى ولو كان الصف غير مكتمل، وحتى ولو كان الإمام محرماً لها. وعلى هذا لو أن رجلاً صلى بزوجته في الليل مثلاً فإن السنة أن تقوم المرأة خلفه، أو فاتته الصلاة وصلى مع أهله فإن السنة أن تقوم المرأة خلفه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها ).وأيضاً حديث أنس رضي الله تعالى عنه فإنه قال: ( قمت أنا واليتيم وراءه والعجوز من خلفنا )، ولو وقفت عن يمين الإمام صح ذلك، لكن السنة أن تقف وراء الإمام وراء الصف كما سبق الدليل لذلك.أما إذا كانت المرأة مع نساء فحكمها حكم الرجل مع الرجال، إن كانت واحدة تقف عن يمينها، وإن كن أكثر من واحدة فإنهن يقفن عن يمين الإمامة وعن يسارها هذا هو الأفضل، وإن كانت واحدة فإنها لا تقف خلف الصف إلا إذا كان الصف مكتملاً تجب المصافة، كما أن الرجل لا يقف خلف الصف إلا إذا كان الصف مكتملاً كما قلنا عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وعلى هذا نقول: المرأة مع النساء كالرجل مع الرجال، إلا أن إمامة النساء تقف في وسطهن لورود ذلك عن أم سلمة وعائشة كما سيأتي إن شاء الله، لكن إن وقفت المرأة خلف الصف لا تصح صلاتها إلا إذا كان الصف مكتملاً، ولو وقفت المرأة خلف المرأة نقول: لا تصح صلاتها، يجب أن تقف عن يمينها، ولو وقفت عن يسارها فسبق أن أشرنا أن وقوفها صحيح كما عليه جمهور أهل العلم لكن تركت السنة.

موقف جماعة المأمومين من الإمام
قال المؤلف رحمه الله: [وإن كانوا جماعةً وقفوا خلفه]. وهذا كما قلنا: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام أدار جابراً وجباراً ، فإن أحدهما قام عن يمينه، والآخر قام عن يساره فأدارهما النبي صلى الله عليه وسلم خلفه )، وأيضاً هذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم وكان أصحابه يقومون خلفه.قال المؤلف رحمه الله: [فإن وقفوا عن يمينه أو عن جانبيه صح]. يعني إذا كانوا ثلاثة فأكثر ووقفوا عن يمينه أو عن يمينه ويساره صح ذلك لكن تركوا الفضيلة، وسبق أن أشرت أنه كان في أول الإسلام إذا كانوا ثلاثة فإن أحدهما يقوم عن يمين الإمام، والآخر يقوم عن يسار الإمام، وذكرنا أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه صلى وجعل علقمة عن يمينه، والأسود عن يساره، لكن خفي عليه النسخ. فالصواب: أن هذا كان في أول الإسلام ثم نسخ كما في حديث سعد رضي الله تعالى عنه الثابت في صحيح مسلم .قال المؤلف رحمه الله: [فإن وقفوا قدامه أو عن يساره لم تصح]. هذا تكلمنا عليه، وقلنا: الصواب في هذه المسألة أن المأموم إذا وقف قدام الإمام أنها تصح عند العجز، عند الضرورة يصح كما في حال الزحام إلى آخره. أو عن يساره لم تصح، أيضاً ذكرنا أن الصواب في هذه المسألة أنه إذا وقف المأموم عن يسار الإمام فإن الصلاة صحيحة كما عليه جمهور أهل العلم، لكن ترك الأفضل.

موقف المرأة إذا أمّت النساء
قال المؤلف رحمه الله: [وإن صلت امرأة بنساء قامت معهن في الصف وسطهن]. هذا على سبيل الاستحباب والفضيلة، ويجوز أن تتقدم المرأة كالرجال، لكن الأفضل أن تصلي في وسطهن، تكون إمامتهن وسطهن؛ لأن هذا وارد عن عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما بأسانيد صحيحة.

موقف إمام الرجال العراة
قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك إمام الرجال العراة يقوم وسطهم]. لو فرض أن هناك جماعةً عراةً سلبت ثيابهم ثم حضرت الصلاة فأرادوا أن يصلوا، فإن إمامهم يقوم وسطهم وجوباً؛ لأن هذا أستر عن النظر إلى العورة، إذ إن النظر إلى العورة محرم ولا يجوز؛ لقول الله عز وجل: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30] ، إذا كانوا عراةً الإمام يقوم في وسطهم وجوباً، أما بالنسبة لإمامة النساء فإنها تقوم في وسطهن استحباباً.

كيفية ترتيب الصفوف في الصلاة
قال المؤلف رحمه الله: [وإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء قدم الرجال، ثم الصبيان، ثم الخناثى، ثم النساء]. هذا إذا اجتمعوا دفعةً واحدة، أما إذا لم يجتمعوا دفعةً واحدة فإن من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به. فنقول: من يلي الإمام؟ نقول: هذه المسألة لا تخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يسبق أحد إلى هذا المكان الفاضل، فمن سبق إليه فهو أحق به، وثبت في صحيح مسلم ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقيم الرجل أخاه من مجلسه ) هذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا إذا سبق الصبي إلى هذا المكان الفاضل نقول: هو أحق به، ومن سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به ولا يقام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يقيم الرجل أخاه من مجلسه ثم يقعد فيه، سبق الجاهل نقول: هو أحق به.الحالة الثانية: أن يؤتوا دفعةً واحدة فهنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى )، أصحاب الأحلام يعني: البالغون العقلاء هم الذين يلون النبي صلى الله عليه وسلم، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الذين يلون الإمام، فإذا جاءوا دفعةً واحدة فإنه كما ذكر المؤلف رحمه الله نبدأ بالرجال البالغين، ثم الصبيان الذين لم يبلغوا، ثم بعد ذلك الخناثى؛ لأن الخنثى يحتمل أن يكون ذكراً، ثم بعد ذلك النساء؛ لما تقدم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها ).

ما تدرك به الجماعة
قال المؤلف رحمه الله: [ومن كبر قبل سلام الإمام فقد أدرك الجماعة]. تدرك الجماعة على ما ذهب إليه المؤلف بتكبيرة الإحرام، فإذا كبر قبل أن يسلم الإمام التسليمة الأولى قال: الله أكبر قبل أن يسلم الإمام التسليمة الأولى أدرك صلاة الجماعة، والعلة في ذلك قالوا: أنه أدرك جزءاً من الصلاة، فكما لو أدرك ركعةً من الصلاة.والرأي الثاني: أن الجماعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة، وهذا القول هو الصواب؛ ويدل له حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، نعم هذا هو الصواب في هذه المسألة. وعلى هذا إذا جاء الشخص والإمام قد رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة فإن كان يظن أن أحداً سيأتي فإنه لا يدخل مع الإمام؛ لأن الجماعة قد فاتت وينتظر حتى يأتي أحد فيصلي معه، وإن كان يظن أنه لن يأتي أحد فإنه يدخل مع الإمام.

ما تدرك به الركعة
قال المؤلف رحمه الله: [ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة وإلا فلا]. بم تدرك الركعة؟ يقول المؤلف رحمه الله: بأن الركعة تدرك بإدراك الركوع، فإذا أدركت الركوع مع الإمام، جئت وركعت مع الإمام فقد أدركت الركعة، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله. واستدلوا على ذلك بحديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه، ( فإن أبا بكرة جاء والنبي صلى الله عليه وسلم راكع فركع دون الصف، ثم دخل بعد ذلك في الصف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصاً ولا تعد )، وإنما فعل أبو بكرة رضي الله تعالى عنه ذلك لكي يدرك الركعة. وقد ورد أيضاً في حديث أبي هريرة في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة ).الرأي الثاني: ذهب إليه ابن حزم وغيره من أهل العلم قالوا: بأنه لا يدرك الركعة بإدراك الركوع، فلو أنه ركع مع الإمام فإنه لا يكون مدركاً للركعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا )، فالنبي عليه الصلاة والسلام أمر بالقضاء، وهذا الرجل فاته ركن من أركان الصلاة، فيجب عليه أن يقضيه، فاتته قراءة الفاتحة والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) والقيام لها، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( وما فاتكم فاقضوا )، فإذا كان كذلك فإنه يجب عليه أن يقضي هذا الذي فاته، وحينئذ لا يكون مدركاً للركعة لأمره بقضاء ما فاته، ولما فاته هذا الركن فيجب عليه أن يقضيه، هذا ما احتج به من قال: بأنه لا يكون مدركاً للركعة بإدراك الركوع. والصواب: ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، هذا هو الصواب. ويجاب عن هذا الاستدلال نقول: بأن هذا الاستدلال سقط قضاؤه؛ لأن قراءة الفاتحة وإن كانت ركناً سقطت بفوات محلها، نقول: فات محلها وهو القيام فسقطت. وأيضاً: جواب آخر أن الشارع في قوله عليه الصلاة والسلام: ( وما فاتكم فاقضوا ) هذا عام خص منه ما إذا جاء وأدرك الركوع مع الإمام فإنه لا يجب عليه القضاء؛ لما ذكرنا من دليل جمهور أهل العلم رحمهم الله. ومتى يكون مدركاً للركعة؟ قلنا: إذا أدرك الركوع، لكن متى يكون مدركاً للركوع مع الإمام؟ نقول: بأنه يكون مدركاً للركوع مع الإمام إذا اجتمع معه في الركوع المجزئ، إذا اجتمع مع الإمام في الركوع المجزئ فإنه يكون مدركاً للركوع، فإذا كان الإمام منحنياً بحيث إنه يسمى راكعاً، ثم انحنى المأموم واجتمع معه في الانحناء بحيث إن كلاً منهما يسمى راكعاً فإنه حينئذ يكون أدرك الركوع، فأدرك الركعة، حتى وإن لم يسبح فإنه يطمئن ويسبح، فالعبرة بوضع الإمام، فإذا كان الإمام لا يزال يسمى راكعاً، ثم جاء المأموم وانحنى بحيث كل منهما يسمى راكعاً، واجتمعا في ذلك لحظة حينئذ يكون المأموم قد أدرك الركوع، فأدرك الركعة. وضابط الركوع المجزئ كما تقدم لنا في صفة الصلاة: أن يكون إلى الركوع أقرب منه إلى القيام، فإذا كان الإمام لا يزال يسمى راكعاً ثم ركع معه المأموم واجتمع معه كل منهما يسمى راكعاً في لحظة، فإنه حينئذ يكون قد أدرك الركوع، ولو أن الإمام تحرك، قد يكون الإمام انخفض شديداً ثم تحرك، ثم جاء المأموم وركع معه، فاجتمع في الانحناء الذي يسمى ركوعاً، فنقول: حينئذ المأموم قد أدرك الركوع. وإذا شك المأموم هل أدرك أو لم يدرك؟ سلف لنا في سجود السهو إذا شك يعمل بغالب الظن، إن غلب على ظنه أنه أدرك يعمل بغالب الظن وأنه مدرك لهذه الركعة، إن غلب على ظنه أنه لم يدرك لا يحسب هذه الركعة، إذا شك ولم يترجح له شيء لا يحسب هذه الركعة، والسجود إن بنى على الأقل يسجد قبل السلام، وإن بنى على غالب الظن يسجد بعد السلام كما سلف لنا.

صلاة المريض
قال المؤلف رحمه الله: [باب صلاة المريض]. سيتكلم المؤلف رحمه الله عن صلاة المريض وصلاة المسافر وصلاة الخائف، وهذه يسميها العلماء رحمهم الله صلاة أهل الأعذار، فغير المؤلف يترجم بباب صلاة أهل الأعذار، ثم بعد ذلك يتكلم عن صلاة المريض، وصلاة المسافر، وصلاة الخائف.المرض في اللغة: هو السقم. وأما في الاصطلاح: فهو اعتلال الصحة. والمريض تجب عليه الصلاة ما دام عقله باقياً كالصحيح تماماً، فالصلاة لا تسقط أبداً، ما دام أن العقل باق، المريض لصلاته أحوال: الحالة الأولى: أن يصلي قائماً؛ لأن هذا هو الأصل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعمران بن حصين رضي الله تعالى عنه: ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب ).نقول: يجب على المريض أن يصلي قائماً، ولو كان معتمداً على عصا، أو كان متكئاً، أو كان مستنداً إلى آخره، فنقول: الأصل أنه يجب عليه أن يصلي قائماً ما دام أنه يستطيع لذلك، هذه الحالة الأولى. ثم بعد ذلك ينتقل للحالة الثانية ( فإن لم تستطع فجالساً )، ما المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ( فإن لم تستطع )؟ نقول: يراد بها أمران: الأمر الأول: ألا يستطيع بالكلية، يعجز بالكلية.الأمر الثاني: أن تلحقه مشقة ظاهرة يستطيع أن يصلي قائماً لكن مع المشقة الظاهرة، بحيث إنه يصحبه من القلق والتعب ما يود أن يجلس، فنقول هنا: يصلي جالساً. نقول: ينتقل إلى الحالة الثانية وهي أن يصلي جالساً في حالتين: الحالة الأولى: ألا يستطيع أن يصلي قائماً، فنقول: صل جالساً.الحالة الثانية: أن يستطيع أن يصلي قائماً لكن تلحقه مشقة ظاهرة، بحيث يلحقه القلق والتعب، وقد يلحقه زيادة مرض… إلى آخره ما يرغب أن يصلي جالساً، فنقول هنا في هذه الحالة: صل جالساً.الحالة الثالثة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن لم تستطع فقاعداً ) يصلي جالساً، وكيف يصلي جالساً؟ نقول: يصلي جالساً في حال القيام يتربع، والتربع هو أن يجلس على إليتيه ويرد ساقه الأيمن إلى فخذه الأيمن، وساقه الأيسر إلى فخذه الأيسر، وأما بالنسبة ليديه فيضعهما على صدره كحال القيام تماماً، ويومئ بالركوع. السجود يسجد سجوداً تاماً إذا كان يستطيع، وإذا كان لا يستطيع السجود فإنه يومئ بالركوع والسجود ويكون سجوده أخفض من ركوعه. في حال القيام كما ذكرنا يصلي متربعاً؛ لما في النسائي : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى من الليل متربعاً ). وهذا وإن كان في إسناده شيء إلا أن أهل العلم رحمهم الله استدلوا به. في غير حال القيام يجلس، وفي حال الافتراش يعني كالصلاة العادية في حال الافتراش في الجلسة بين السجدتين يفترش، في التشهد الأخير في حال التورك يتورك، في حال الافتراش يفترش. المهم في غير حال القيام يصلي كهيئة الصلاة العادية فيفترش في مواضع الافتراش، ويتورك في مواضع التورك، هذه الحالة الثانية. ثم بعد ذلك الحالة الثالثة قال: ( فإن لم تستطع فعلى جنبك )، يصلي على جنب كما قلنا: ينتقل إلى الجلوس إذا لم يستطع أو إلى الصلاة على الجنب، ينتقل من الجلوس إلى الصلاة على الجنب في حالتين: الحالة الأولى: إذا لم يستطع. والحالة الثانية: إذا لحقته مشقة ظاهرة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-27, 10:34 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [16]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(25)


بينت السنة كيفيات مختلفة لصلاة المريض تبعاً لحالته، فالأصل أن يصلي قائماً فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب، فإن عجز عن هذا كله أومأ إيماءً، ويجوز له ولأهل الأعذار الجمع بين الصلاتين في السفر عند الجمهور، واختلفوا في الجمع في الحضر، وأوسع المذاه
تابع صلاة المريض

أحوال المريض
تقدم لنا شيء من أقسام الإمامة والائتمام، وذكرنا من ذلك موقف المأموم، وذكرنا أن المأموم لا يخلو أن يكون رجلاً أو امرأةً، فإن كان رجلاً فإن موقفه عن يمين الإمام إن كان واحداً، وذكرنا حكم ما إذا وقف عن يسار الإمام هل تصح صلاته أو لا تصح صلاته؟ وإن كان أكثر من واحد فذكرنا أن السنة أن يقف خلف الإمام، وإن وقفوا عن جانبيه يمينه وشماله فإن هذا صحيح. وتكلمنا أيضاً عن حكم التقدم على الإمام، وكذلك أيضاً حكم الصلاة منفرداً خلف الصف، وأن الأقرب في هذه المسألة أنه تسقط المصافة بالعجز عنها، كما لو كان الصف مكتملاً. وأيضاً تكلمنا عن موقف المرأة مع الرجال، وموقف المرأة مع النساء.. إلى آخره، وكذلك أيضاً إمامة النساء أين تقف، وكذلك أيضاً إمام العراة أين يقف إلى آخره. وحكم ما إذا اجتمع الرجال والصبيان والنساء فمن يقدم للأمام.. إلى آخره، وهل تدرك الركعة بإدراك الركوع.. إلى آخره.ثم بعد ذلك شرعنا في صلاة المريض، وذكرنا أن المريض له أحوال: الحالة الأولى: أن يتمكن من الصلاة قائماً، فهذا هو الواجب؛ لقول الله عز وجل: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] .وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم لـعمران بن حصين : ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب ).ثم بعد ذلك الحالة الثانية: أن يصلي جالساً، وذكرنا كيفية الجلوس وأنه يتربع في موضع القيام، وما عدا ذلك فيفترش في موضع الافتراش، ويتورك في موضع التورك، وذكرنا أنه يومئ بالركوع، وأما السجود فإنه يسجد سجوداً تاماً.ثم بعد ذلك الحالة الثالثة: أن يصلي على جنب، إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يصلي قاعداً فإنه يصلي على جنبه، ودليل ذلك حديث عمران رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب ).الحالة الثالثة: أن يصلي على جنبه، وكما سلف ينتقل من القعود إلى الصلاة على الجنب في حالتين:الحالة الأولى: إذا لم يستطع أن يصلي قاعداً.الحالة الثانية: إذا كان في صلاته قاعداً مشقة ظاهرة تلحقه بحيث يقلق ويتعب ويريد أن يضطجع فنقول هنا: يصلي على جنبه. وهل الأفضل أن يصلي على الجنب الأيمن أو الجنب الأيسر؟ قال بعض العلماء: الأفضل: أن يكون على جنبه الأيمن؛ لورود ذلك في حديث علي ، لكن هذا الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا نقول: الأفضل للمريض أن يفعل ما هو الأرفق به والأيسر عليه، فإذا كان الأرفق به أن يصلي على الأيسر صلى على الجانب الأيسر، وإن كان الأرفق أن يصلي على الأيمن صلى على الجانب الأيمن؛ لأن صلاة المريض على هذه الكيفية إنما شرعت تخفيفاً وتيسيراً ورفقاً بالمريض، وعلى هذا فنقول: بأنه يفعل ما هو الأرفق به.

صلاة المريض على ظهره
قال المؤلف رحمه الله: [فإن شق عليه فعلى ظهره]. هل هذه مرتبة مستقلة أو أنها داخلة في المرتبة الثالثة؟ الصلاة على الظهر، كون المريض يصلي على ظهره ورجلاه إلى القبلة هل هذه مرتبة مستقلة بحيث إنه لا يصلي على ظهره حتى يعجز عن الصلاة على جنبه، أو يشق عليه الصلاة على جنبه، أو أن له أن يصلي على ظهره وهو قادر؟هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فمن العلماء من جعلها مرتبةً مستقلة، وأن المريض ليس له أن يصلي على ظهره حتى يعجز عن الصلاة على جنبه، أو تلحقه مشقة ظاهرة، وبعض العلماء لم يجعلها مرتبةً مستقلة فرخص للمريض أن يصلي على جنبه، وإن شاء أن يصلي على ظهره فله ذلك، وهذا القول هو الأقرب؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن لم يستطع فعلى جنبه )، الظهر قريب من الجنب، فالهيئة واحدة. وعلى هذا نقول: إذا كان الإنسان مريضاً وكان الأرفق به أن يصلي على ظهره ورجلاه إلى القبلة فإن هذا جائز ولا بأس به.

العجز عن الركوع والسجود
قال المؤلف رحمه الله: [فإن عجز عن الركوع والسجود أومأ إيماءً]. إذا صلى قاعداً فإنه بالنسبة للركوع يومئ إيماءً؛ لأنه لا يستطيع القيام أو يشق عليه القيام، بالنسبة للسجود يسجد سجوداً تاماً، إن عجز عن السجود فإنه يومئ أيضاً بالسجود، إذا صلى على جنبه فإنه يومئ بالسجود والركوع، ويكون إيماؤه إلى صدره.

صلاة المريض بالإيماء
المرتبة الرابعة أضاف بعض العلماء: إذا لم يستطع الإيماء فإنه يصلي بطرفه، يعني: يصلي بعينيه، إن كان لا يستطيع أن يومئ برأسه فقال بعض العلماء: يومئ بطرفه يعني: بعينه، فيفتح عينيه، ثم بعد ذلك في حال الركوع يغلقهما قليلاً، ثم في حال السجود يغلقهما أكثر.. وهكذا يومئ بطرفه. ولكن حديث علي الوارد بالإيماء بالطرف هذا ضعيف، وعلى هذا لا توجد عندنا هذه الحالة، ما دام أنه لم يثبت فيها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم نقول: هذه الحالة لا ترد علينا، فالصلاة بالطرف هذه لا وجود لها في الشرع.كذلك أيضاً بعض العامة يضيف الصلاة بالإصبع، وأنه يصلي بإصبعه ويحرك إصبعه عند الركوع ويحركه عند السجود إلى آخره، وهذه الصفة لا وجود لها لا في الشرع ولا في كلام العلماء رحمهم الله، فالصلاة بالإصبع هذه ليس لها وجود. وعلى هذا نقول: إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يومئ برأسه فإنه يصلي بقلبه، فيستحضر بقلبه أنه ركع، ثم يتلفظ إن قدر أن يحرك لسانه بألفاظ الركوع حركها، إذا لم يقدر فإنه يستحضر أقوال الصلاة، يستحضر أنه قام، وأنه ركع، وأنه سجد.. إلى آخره، الأذكار إن كان يستطيع أن يأتي بها في لسانه أتى بها في لسانه، إذا لم يستطع فإنه أيضاً يستحضرها. فأصبحت عندنا المرتبة الرابعة: الصلاة بالقلب، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله خلافاً لـأبي حنيفة رحمه الله فإنه لا يرى هذه الحالة، والصواب: إثباتها، وأن الصلاة لا تسقط ما دام عقل المكلف باقياً، وهذا يدل على عظم الصلاة، وأن الإنسان يؤدي الصلاة على حسب استطاعته في هذه المراحل الأربع، ويدل أيضاً على يسر الشريعة ورحمتها بالمكلف، ويدل أيضاً على عظم شأن الوقت، فتلخص لنا أن صلاة المريض لها أربع حالات: الحالة الأولى: أن يصلي قائماً.الحالة الثانية: أن يصلي قاعداً.الحالة الثالثة: أن يصلي على جنبه.الحالة الرابعة: أن يصلي في قلبه.

قضاء المغمى عليه ما فاته من الصلاة
قال المؤلف رحمه الله: [وعليه قضاء ما فاته من الصلوات في إغمائه]. لو أن الإنسان أغمي عليه لمدة يوم أو يومين أو شهر أو شهرين إلى آخره، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله كما ذكر المؤلف أن عليه أن يقضي كل الصلوات التي أغمي فيها، وسواء كان الإغماء باختياره أو بغير اختياره، باختياره كما لو تناول دواءً كالبنج مثلاً ثم بعد ذلك أغمي عليه لمدة يوم أو يومين فإنه إذا أفاق من بنجه فإنه يقضي الصلوات التي عليه، أو كان بغير اختياره مثل ما يحدث الآن لبعض المصابين -نسأل الله لنا ولهم السلامة والعافية- في الحوادث تجد أن الإنسان يصاب بحادث ثم يظل أسبوعاً أو أسبوعين إلى آخره وهو مغمىً عليه، أو قد يجلس شهراً أو شهرين… إلى آخره وهو مغمىً عليه ثم يفيق بعد ذلك. فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه يجب عليه أن يقضي، سواء طالت المدة أو قصرت، وسواء كان الإغماء باختياره، أو كان بغير اختياره. واستدلوا بالقياس على النائم، فكما أن النائم يجب عليه القضاء فكذلك أيضاً المغمى عليه يجب عليه القضاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في النائم: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها )، وكذلك أيضاً قالوا: بأن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه أغمي عليه لمدة ثلاث أيام ثم قضى.وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه إن أغمي عليه لأكثر من يوم وليلة، يعني صلوات أكثر من يوم وليلة فهذا لا يجب عليه القضاء، وإن أغمي عليه لمدة يوم وليلة فهذا يجب عليه القضاء.والرأي الثالث: رأي الشافعية، التفصيل بين الإنسان الذي يغمى عليه باختياره، والذي يغمى عليه بغير اختياره، فالذي يغمى عليه باختياره كما لو تناول دواءً كبنج ونحو ذلك فهذا يجب عليه القضاء، أما إذا كان الإغماء بغير اختياره كما لو سقط أو أصابه حادث فإنه لا يجب عليه القضاء إلا الصلاة التي أفاق في وقتها، يعني أدرك من وقتها قدر ركعة وهو مفيق، أو أغمي في وقتها وهو لم يصلها، أدرك من وقتها قدر ركعة فهذا يجب عليه القضاء؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيحين: ( من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة ). وهذا القول هو الأقرب، فنقول: إن أغمي على الإنسان في حال الاختيار يجب عليه أن يقضي، إن أغمي عليه في غير حال الاختيار نقول: لا يجب عليه القضاء إلا إن أغمي عليه في وقت الصلاة، بحيث أدرك من وقتها قدر ركعة، أو أفاق في وقت الصلاة بحيث أدرك من وقتها قدر ركعة لعموم حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها )، ( من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة ). وفرق بين المغمى عليه والنائم، فإن النائم يستيقظ بالإيقاظ بخلاف المغمى عليه، فإنه لا يستيقظ بالإيقاظ فحاله قريب من حال فاقد العقل، وفاقد العقل لا تثريب عليه، وعلى هذا ذكرنا أن الأقرب أنه إذا أغمي عليه بغير اختياره أنه لا قضاء عليه.
الجمع بين الصلاتين

الجمع في الحضر
قال المؤلف رحمه الله: [وإن شق عليه فعل كل صلاة في وقتها فله الجمع بين الظهر والعصر..] إلى آخره. هنا تكلم المؤلف رحمه الله عن الجمع، والجمع له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون في السفر.والحالة الثانية: أن يكون في الحضر.أما الحالة الأولى، وهي أن يكون في السفر فسيشير إليها المؤلف رحمه الله في آخر هذا الباب، فإنه قال في آخر الباب: ويجوز الجمع للمسافر الذي له القصر.أما الحالة الثانية: أن يكون في حال الحضر، فهذا يجوز الجمع، لكن متى يجوز الجمع؟ الجمع يجوز في حال العذر، لكن اختلف العلماء رحمهم الله في العذر الذي يجوز الجمع في الحضر هل هو معدود أو أنه مضبوط ومحدود؟ على رأيين: الرأي الأول: وهو قول أكثر أهل العلم الذين يجوزون الجمع مثل المالكية والشافعية والحنابلة، أما الحنفية فعندهم لا يجوز الجمع لا في الحضر ولا في السفر، فلا يجوزون إلا جمع عرفة يوم عرفة، وأيضاً لا يجوز إلا خلف الإمام الأعظم، ولا يجوزون إلا جمع مزدلفة فقط خلف الإمام الأعظم ما عدا ذلك فإنهم لا يجوزونه، فالحنفية أقفلوا باب الجمع، فأضيق المذاهب في باب الجمع مذهب الحنفية، وأوسع المذاهب في باب الجمع مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى. فالخلاصة عندنا الجمع في الحضر هل هو مضبوط بضابط أو أنه معدود؟ قلنا: بأن أكثر أهل العلم الذين يجوزون الجمع كالمالكية والشافعية والحنابلة لا يقولون بأنه مضبوط، وإنما يقولون بأنه معدود، فيعددون الأعذار، يجوز الجمع في الحضر بعذر المرض، بعذر المطر، بعذر الوحل، بعذر الريح الباردة الشديدة.. إلى آخره، تجد أنهم يعددون أعذاراً، فما عدا هذه الأعذار لا يجوزون الجمع فيها. وهم يختلفون في هذه الأعذار، فمنهم من يثبت الجمع في حال المرض، ومنهم من لا يثبت الجمع في حال المرض، مثلاً الإمام أحمد ومالك يقولون بالجمع في حال المرض، الشافعي يقول: لا يجمع المريض.. إلى آخره، منهم من يثبت الجمع في حال الريح الباردة الشديدة، منهم من لا يثبت ذلك.. إلى آخره. المهم أنهم يقولون: الأعذار معدودة وليست محدودة، الدليل على ذلك أن هذه الأعذار هي التي ورد بها الأثر.الرأي الثاني: أن الجمع في حال الحضر عذره ليس معدوداً, وإنما هو محدود مضبوط بضابط، وهذا الضابط هو الحرج والمشقة، فمتى كان في ترك الجمع حرج ومشقة ظاهرة فإن الإنسان يجوز له أن يجمع، وهذا قال به ابن سيرين وابن شبرمة … إلى آخره. وقبل سنوات قرأت كتاباً ألف في هذا (إزالة الخطر عمن جمع بين الصلاتين في الحضر)، وذهب مؤلف هذا الكتاب إلى ترجيح الجمع بين الصلاتين في الحضر لعذر المشقة الظاهرة؛ ودليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ( جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر )، وفي رواية ( من غير خوف ولا مطر )، وهذا في صحيح مسلم ، وسئل عن ذلك فقال: ( أراد ألا يحرج أمته ). فقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أراد ألا يحرج أمته ) دليل على أنه متى كان في الجمع حرج ومشقة فإنه يجوز الجمع، متى لحق الأمة حرج ومشقة في الجمع فإنه يجوز الجمع، وهذا القول هو الأقرب وهو الذي دل له حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. فنقول: إذا كان في الجمع حرج ومشقة يجوز الجمع، وبهذا نعرف أنه لو حصل مطر هل يجوز الجمع أو لا يجوز الجمع؟ ننظر هل فيه حرج ومشقة على الناس أم لا؟ إذا كان الناس إذا خرجوا لحقهم حرج ومشقة بكثرة الأمطار وكثرة المياه في الطرقات، أو الوحل وهو الطين الرقيق، أو الرياح الشديدة، أو الجليد، أو الغبار الذي يؤثر على صحة الإنسان وغير ذلك… إلى آخره نقول: يجوز الجمع في هذه الحالة. لكن أيضاً علينا ألا نفرط في هذا الباب؛ لأن أحاديث المواقيت كالجبال، النبي عليه الصلاة والسلام بين مواقيت الصلاة قولاً وفعلاً في حديث ابن عباس في إمامة جبريل بالنبي عليه الصلاة والسلام حديث جابر ( أنه أم النبي عليه الصلاة والسلام لما فرضت عليه الصلاة في أول الوقت وفي آخره )، والنبي عليه الصلاة والسلام أيضاً بين المواقيت كما في حديث عبد الله بن عمرو ، حديث أبي هريرة ، حديث أبي موسى ، حديث بريدة رضي الله تعالى عن الجميع.

حكم جمع التقديم والتأخير
قال المؤلف رحمه الله: [فله الجمع بين الظهر والعصر، وبين العشائين في وقت أحدهما].ترجح لنا أن الجمع يجوز بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء لعذر المشقة الظاهرة، إذا كان هناك حرج ومشقة ظاهرة فإنه يجوز الجمع، وذكرنا أيضاً أن مذهب أبي حنيفة رحمه الله عدم جواز الجمع، وأن الحنفية رحمهم الله لا يجوزون إلا الجمع الصوري، ورأي الحنفية رحمهم الله فيه نظر؛ لأنه مخالف للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، وكما أشرنا إليه من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. بل قال بعض العلماء: بأن الجمع الصوري هذا ليس فيه تخفيف بل فيه زيادة حرج ومشقة؛ لأن صورة الجمع الصوري أن يؤخر الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وأن يقدم الصلاة الثانية في أول وقتها، فمثلاً إذا أراد أن يجمع بين الظهرين يؤخر الظهر إلى آخر وقته، ثم بعد ذلك يقدم العصر في أول وقتها، فينتهي من الظهر ثم يدخل الوقت ثم يفعل العصر، فهو يحتاج أن يراقب خروج الوقت ودخوله وهذا فيه حرج ومشقة على المكلف. فالقول بالجمع الصوري كما ذهب إليه الحنفية رحمهم الله هذا غير ظاهر.

شروط جمع التقديم
إذا أراد الإنسان أن يجمع فإنه لا يخلو من أمرين:الأمر الأول: أن يجمع جمع تقديم.والأمر الثاني: أن يجمع جمع تأخير.فإن أراد أن يجمع جمع تقديم فإنه يشترط لذلك شروط. قال المؤلف رحمه الله: [فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند فعلها]. يعني: إذا أردت أن تجمع بين المغرب والعشاء لا بد أن تنوي نية الجمع، لا بد أن نفهم أنه ليس المراد نية الصلاة، هذه نية الصلاة لا بد منها، فأنت إذا أردت أن تجمع بين المغرب والعشاء كونك تنوي أن هذه المغرب وأن هذه العشاء هذا شرط من شروط صحة الصلاة، لكن الذي اشترطه المؤلف رحمه الله هو نية الجمع، يعني إذا أردت أن تكبر للمغرب تنوي أنك ستجمع معها العشاء، ففرق بين نية الجمع ونية الصلاة، نية الصلاة هذه شرط لصحة الصلاة، نية الجمع شرط لصحة الجمع. وعلى هذا على كلام المؤلف رحمه الله لو أن الإنسان مسافر ثم صلى المغرب ولم ينو الجمع، ثم لما انتهى من الصلاة بدا له أن يجمع العشاء هل له ذلك أو ليس له ذلك؟ على كلام المؤلف رحمه الله ليس له ذلك؛ لأنه لم ينو الجمع، لا بد أن ينوي الجمع. وكذلك أيضاً لو فرض أننا صلينا المغرب ثم بعد ذلك جاءت الأمطار فهل للإمام أن يجمع بنا أو ليس له أن يجمع بنا؟ على كلام المؤلف ليس له أن يجمع بنا. ولو فرض أن الإنسان كان صحيحاً ثم صلى المغرب، ثم لحقته علة فأراد أن يجمع العشاء ليس له ذلك.. إلى آخره، اشتراط نية الجمع هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.والرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن نية الجمع ليست شرطاً؛ لعدم ورودها عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل ظاهر فعل النبي عليه الصلاة والسلام أن نية الجمع ليست شرطاً؛ لأنه لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه إذا أراد أن يجمع قال للصحابة: إنه يريد أن يجمع، يخبرهم لكي ينووا، ظاهر فعل النبي عليه الصلاة والسلام أنه يصلي الصلاتين ثم بعد ذلك يتابعه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فنقول الصواب في هذا: إن هذا الشرط فيه نظر، إن نية الجمع ليست شرطاً.قال المؤلف رحمه الله: [ويعتبر استمرار العذر حتى يشرع في الثانية منهما]. هذا الشرط الثاني، الشرط الثاني على المشهور من المذهب: لا بد من وجود العذر، عند افتتاح الأولى والثانية وعند السلام من الأولى، لا بد من وجود العذر، لا بد أن يوجد العذر عند افتتاح الأولى وافتتاح الثانية وعند سلام الأولى.وعلى هذا إذا لم يكن العذر موجوداً فإنه لا يصح الجمع، نقول: لا بد أن يوجد العذر عند افتتاح الصلاة الأولى، فإذا أردنا أن نجمع المغرب مع العشاء لمطر أو مرض أو رياح شديدة أو غير ذلك لا بد أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح صلاة المغرب، ولا بد أيضاً أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح صلاة العشاء، وأيضاً لا بد أن يكون العذر موجوداً عند السلام من صلاة المغرب هذا هو المشهور من المذهب. والعلة في ذلك قالوا: لا بد من وجود العذر عند افتتاح الأولى هذا يبنونه على الشرط الأول؛ لأن افتتاح الأولى هو موضع النية، فلا بد أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الأولى، ولا بد أيضاً من وجود العذر عند افتتاح الثانية؛ لأن افتتاح الثانية هو محل الجمع، فلا بد أن يكون العذر موجوداً عندها، السلام من الأولى وافتتاح الثانية هو موضع الجمع، فلا بد أن يكون العذر موجوداً. وإذا كان كذلك فنقول: الصواب في ذلك أنه يشترط أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الثانية فقط؛ لأن هذا هو محل الجمع، وعلى كلام المؤلف رحمه الله: لو أن الإنسان لم يكن مريضاً عند افتتاح الأولى ثم لحقته علة وأصبح مريضاً فأراد أن يجمع يقول المؤلف رحمه الله: ليس له أن يجمع؛ لأنه اشترط أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الأولى. والصواب في هذا أنه يقتصر على وجود العذر عند افتتاح الثانية؛ لأن هذا هو محل الجمع. وكما أيضاً أشرنا في المثال السابق لو لم يكن هناك أمطار عند افتتاح الأولى وحصلت الأمطار في أثناء صلاة الأولى أو بعد الفراغ منها فأراد الناس الجمع ليس لهم أن يجمعوا؛ لأن العذر ليس موجوداً عند افتتاح الأولى، والصواب كما أسلفنا أنه يشترط أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الثانية؛ لأن افتتاح الثانية هو موضع الجمع.قال المؤلف رحمه الله: [ولا يفرق بينهما إلا بقدر الوضوء]. هذا الشرط الثالث: الموالاة، الشرط الثالث: أن يوالي بين الصلاتين، فلا يفرق بين الصلاتين إلا بقدر الوضوء الخفيف والإقامة، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله. وعلى هذا لو فرق بينهما أكثر من ذلك فإنه لا يصح الجمع، وعند الشافعية: أنه تشترط الموالاة لكن التفريق بين الصلاتين لم يحدوه بقدر الوضوء والإقامة، وإنما قدروه بالفاصل اليسير، قالوا: إن فرق بين الصلاتين بفاصل يسير عرفاً فلا بأس، وإن كان الفاصل كثيراً عرفاً فإنه لا يصح الجمع.والرأي الثالث اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأنه لا تشترط الموالاة بين المجموعتين، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بأن اشتراط الموالاة يبطل مقصود الرخصة، وعلى كلام الشيخ رحمه الله لو أن إنساناً مسافراً صلى المغرب ثم بعد أن مضى نصف ساعة أو ساعة إلا ربع يصلي العشاء قال: له أن يجمع، ولو أن مسافراً صلى الظهر وبعد ساعة قال: أريد أن أجمع مع العصر هذا أيضاً على كلام الشيخ لا بأس بذلك، أنه لا تشترط الموالاة، أما عند الحنابلة والشافعية… إلى آخره فقالوا: لا يصح ذلك، لا بد من التوالي بين الصلاتين، لكن الحنابلة كما أسلفنا رخصوا في مقدار الإقامة والوضوء الخفيف، والشافعية رخصوا في الفاصل اليسير عرفاً، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الموالاة ليست شرطاً. والأحوط في هذا أن الإنسان يوالي؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام والى بين الصلاتين، لم يحفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه فرق بينهما، نقول: الأحوط للإنسان أن يوالي بين الصلاتين المجموعتين. وأيضاً نعلم أنه يجوز الجمع في أول الوقت، في وسط الوقت، في آخر الوقت، يعني لا بأس للإنسان أن يجمع بين الظهرين في أول وقت الظهر، يجمع بين الظهر والعصر في وسط وقت الظهر، يجمع بين الظهر والعصر في آخر وقت الظهر، ليس بشرط أن يكون الجمع في أول الوقت كما يتوهم بعض الناس، سواء جمع في أول الوقت أو في وسط الوقت أو في آخر الوقت هذا كله جائز ولا بأس به. هذه شروط الجمع في وقت الأولى إذا أراد أن يجمع جمع تقديم, فتلخص لنا أن نية الجمع هذه ليست شرطاً، وأنه يشترط أن يوجد العذر عند افتتاح الثانية هذا الشرط؛ لأن العذر هو سبب الجمع، وعند افتتاح الثانية هو محل الجمع فلا بد من وجوبه. وأما بالنسبة للتوالي فعند شيخ الإسلام لا يشترط، فأصبح عنده شرط واحد فقط: العذر، وقلنا: الأحوط للإنسان أن يوالي، فأصبح هذان الشرطان.

شروط جمع التأخير
قال المؤلف رحمه الله: [وإن أخر اعتبر استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية، وأن ينوي الجمع في وقت الأولى قبل أن يضيق عن فعلها]. إذا جمع جمع تأخير فإنه يشترط شرطان: الشرط الأول: استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية، وهذا ظاهر، لا بد أن يستمر العذر إلى دخول وقت الثانية؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا زال السبب زال الحكم المرتب عليه. وهذه أيضاً مسألة يخطئ فيها كثير من الناس. تجد أن بعض الناس ينوي جمع التأخير وهو مسافر ثم يقدم البلد في الأولى فيقول: أجمع جمع تأخير. وهذا لا يجوز، فلا بد أن تصلي الأولى في وقتها فقد زال السبب الآن. سبب الجمع زال وهو السفر، فيجب عليك أن تصلي الصلاة في وقتها. مثل ذلك أيضاً: لو أن مريضاً نوى جمع التأخير.. الظهر يؤخرها إلى العصر، ثم بعد ذلك في أثناء وقت صلاة الظهر شفاه الله عز وجل نقول: يجب عليك أن تبادر، وأن تصلي الصلاة في وقتها.الشرط الأول: استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية.قال المؤلف رحمه الله: [وأن ينوي الجمع في وقت الأولى قبل أن يضيق عن فعلها]. أيضاً هذا الشرط الثاني أن ينوي الجمع؛ لأن الإنسان يؤخر الصلاة، قد يؤخر الصلاة بنية الجمع، وقد يؤخر الصلاة بغير نية الجمع، فلا بد من النية التي تحدد هذا العمل، هو الآن أخر الصلاة قد يكون أخر الصلاة بنية الجمع، وقد يكون أخر الصلاة بغير نية الجمع، فلا بد من النية التي تبين المراد. بعض أهل العلم قال: بأن المسافر لا يجب عليه ذلك، كونه ينوي الجمع في وقت الثانية قال: بأنه لا يجب عليه ذلك، يعني كونه ينوي أن يجمع الأولى إلى الثانية، قال: لأن المسافر أصبح الوقتان في حقه وقتاً واحداً. وقوله: (قبل أن يضيق عن فعلها) يجب عليه أن ينوي جمع الأولى إلى الثانية قبل أن يضيق وقت الفعل، فإن ضاق وقت الفعل هنا لا يجوز؛ لأنه الآن تحتم عليه أن يفعل هذه الصلاة، يعني لو أن الإنسان أخر الظهر حتى بقي على وقت العصر مقدار فعل الظهر، يعني عشر دقائق أو ثمان دقائق مثلاً فقال: أنوي الجمع.نقول هنا: لا يجوز لك أن تنوي الجمع، بل يتحتم عليك أن تفعل الصلاة في وقتها الظهر، ولا يجوز لك أن تنوي الجمع؛ لأنه الآن تضايق الوقت، كونك تؤخرها إلى هذا الوقت هذا لا يجوز، تؤخر الصلاة بلا نية الجمع إلى هذا الوقت هذا لا يجوز، لا بد أن تنوي قبل ذلك.

الجمع في السفر
قال المؤلف رحمه الله: [ويجوز الجمع للمسافر الذي له القصر، ويجوز في المطر بين العشاءين]. يجوز الجمع للمسافر، تقدم لنا الجمع إما أن يكون في حال الحضر، وإما أن يكون في حال السفر، وقول المؤلف رحمه الله: (يجوز الجمع للمسافر) ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه يجوز الجمع مطلقاً للمسافر، سواء كان سائراً أم نازلاً، وسواء كان جمع تقديم أم جمع تأخير، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن المسافر يجوز له أن يجمع سواء كان جمعه جمع تقديم أو جمع تأخير وسواء كان نازلاً أو كان جاداً به السفر، هذا المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وقال به أكثر أهل العلم.والدليل على هذا أنه يجوز للإنسان أن يجمع جمع تقديم وجمع تأخير، وسواء كان جاداً أو كان نازلاً ثبوت السنة بذلك، فمن ذلك حديث أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع وهو نازل بالبطحاء بين الظهر والعصر جمع تقديم، وهذا الحديث في الصحيحين. في هذا إثبات الجمع في حال النزول، والنبي عليه الصلاة والسلام مقيم في البطحاء، وفيه أيضاً إثبات جمع التقديم. وأيضاً من الأدلة على ذلك حديث جابر رضي الله تعالى عنه، وفيه جمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، ففيه الجمع للمسافر وهو نازل، وفيه أيضاً جمع التقديم. وأيضاً من الأدلة على ذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فإنه قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء )، وهذا في الصحيحين.وفي هذا جمع التأخير، وفيه أيضاً الجمع والإنسان جاد في السير.الرأي الثاني: أنه لا يجوز الجمع إلا لمن جد به السير، يعني الذي يسير هذا الذي يجمع، أما الذي نزل فهذا لا يجمع، وهذا قال به الإمام مالك رحمه الله، ومال إليه ابن القيم رحمه الله تعالى. واستدلوا بما سبق أن أوردناه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء )، فقالوا: في هذا الحديث ( إذا أعجله السير ) قالوا: بأنه يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء، قالوا: هذا الحديث دليل على أن الإنسان يجمع إذا كان جاداً في السير، وهذا فيه نظر، فإنه كما سلف ثبت الجمع في حال النزول. فالصواب في هذا أن الجمع جائز مطلقاً، سواء كان الإنسان جاداً في السير أو كان نازلاً، وسواء كان جمع تقديم أو جمع تأخير، هذا الصواب في هذه المسألة، وذكرنا الدليل على ذلك. لكن هل الأفضل للإنسان أن يجمع أو الأفضل أن يترك الجمع؟ نقول: إذا كان الإنسان سائراً فالسنة أن يجمع؛ لأن هذا هدي النبي عليه الصلاة والسلام، إذا كان الإنسان سائراً فالسنة أن يجمع الإنسان، ويعمل الأرفق به من جمع تقديم أو تأخير، وكونك وأنت سائر تصلي كل الصلاة في وقتها هذا خلاف السنة، وإن كان الإنسان نازلاً فالسنة أن يصلي كل صلاة في وقتها، هذا السنة، لكن إن أراد الإنسان أن يجمع فهذا جائز، لكن إن كان الإنسان نازلاً فالسنة أن تصلي كل صلاة في وقتها، فإن أراد الإنسان أن يجمع فإن هذا جائز ولا بأس به.

الجمع بين الصلاتين للمسافر الذي صلى خلف المقيم
ونعلم أيضاً مسألة أخرى أن الإنسان إذا كان داخل البلد وهو مسافر فإنه يجب عليه أن يصلي مع الناس جماعة، يعني يجب عليك أن تصلي الجماعة، لكن إذا صليت مع الناس فأردت أن تجمع معها الصلاة الأخرى جاز لك ذلك، لكن كون الإنسان يمكث في بيته ويقول: لا أخرج إلى المسجد أنا مسافر يحق لي القصر ويترك الصلاة مع الجماعة.نقول: هذا لا يجوز، لم يحفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه ترك الجماعة لا في الحضر ولا في السفر، والعمومات -عمومات أدلة صلاة الجماعة- شاملة للحاضر والمسافر، علي رضي الله تعالى عنه يقول: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، في حديث ابن مسعود وحديث ابن عباس وأبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر ) إلى آخره، لكن لو أن الإنسان خرج وصلى وقال: أريد أن أجمع التي معها نقول: لا بأس هذا مباح، خرج وصلى الظهر وقال: أريد أن أجمع العصر نقول: لا بأس تجمع العصر، خرج وصلى المغرب قال: أريد أن أجمع العشاء نقول: لا بأس أن تجمع العشاء، لكن يترك الظهر ويقول: أنا مسافر سأقصر، أو يترك العصر وهو لم يجمعها، أو يترك المغرب.. إلى آخره، نقول: هذا لا يجوز.

الجمع للمطر
قال المؤلف رحمه الله: [ويجوز الجمع في المطر بين العشاءين]. هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، أن الجمع في المطر خاص بين العشاءين: المغرب والعشاء، فليس لك أن تجمع بين الظهرين بعذر المطر. وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله فيقولون: المطر وعذر الوحل وعذر الريح الباردة الشديدة.. إلى آخره هذه الأشياء إنما تكون بين العشاءين فقط؛ لأن الدليل ورد هكذا، وعند الشافعية أنه يجوز الجمع بين الظهر والعصر بعذر المطر، لما تقدم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فلما سئل عن ذلك قال: أراد ألا يحرج أمته ).ففي هذا جواز الجمع، ابن عباس لما سئل قال: ( أراد ألا يحرج أمته )، وقوله: بين الظهر والعصر إلى آخره، وسبق أن أشرنا أن الجمع في الحضر مضبوط بضابط، متى وجد هذا الضابط جاز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين وهو وجود الحرج والمشقة الظاهرة، هذا هو الأقرب، وعلى هذا كلام الشافعية أقرب إلى السنة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-27, 10:40 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [17]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(26)

السفر مظنة لوجود المشقة والتعب، ومن رحمة الله أن خفف الصلاة فيه، فشرع قصر الصلاة الرباعية بشروط معينة، وشرع للمسافر الجمع بين الصلاتين تيسيراً عليه، فيجوز له أن يجمع بين الصلاتين جمع تقديم أو جمع تأخير.

صلاة المسافر
قال المؤلف رحمه الله: [باب صلاة المسافر].فقد سبق في الدرس السابق شيء من أحكام الجمع بين الصلاتين، وذكرنا أن الجمع لا يخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يكون في الحضر.والأمر الثاني: أن يكون في السفر.وتطرقنا إلى الجمع في الحضر هل هو معدود أو محدود مضبوط بضابط العذر، الجمع في الحضر هل هو معدود أو محدود؟ وأشرنا إلى أن جمهور أهل العلم رحمهم الله على أنه معدود، وأن هناك أعذاراً يجمع بسببها، وهناك أعذار لا يجمع بسببها، ثم بعد ذلك تطرقنا لشروط الجمع إذا أراد أن يجمع في الأولى، وذكرنا أن المؤلف رحمه الله ذكر ثلاثة شروط… إلى آخره، ثم بعد ذلك شروط الجمع في الثانية… إلى آخره. وأيضاً تطرقنا إلى خلاف أهل العلم رحمهم الله الجمع في السفر، وأن الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في السفر وهو نازل، وكذلك أيضاً جمع وهو جاد في السير، وجمع أيضاً جمع تقديم وجمع تأخير.. إلى آخره.ثم قال المؤلف رحمه الله: [باب صلاة المسافر]. تقدم تعريف السفر، وأن السفر هو مفارقة محل الإقامة، وسمي السفر سفراً قيل: لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، فإن كثيراً من الناس لا تعرف أخلاقهم من الصبر والكرم والمروءة والتحمل.. إلا في حال السفر، وقيل: لأن الإنسان يسفر به بعد أن كان مكنوناً.والصلاة في السفر ركعتان, وأما في الحضر فهي أربع ركعات؛ كما دل لذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ( فرضت الصلاة ركعتين، فزيد في الحضر، وأقرت في السفر )، فإذا سافر الإنسان فإن الأصل أن الرباعية ركعتان، وله قصر هذه الرباعية إلى ركعتين، لكن هذا القصر له شروط، وسيأتينا أيضاً حكم هذا القصر هل هو مباح أو واجب.. إلى آخره. ‏

الشرط الأول: مسافة القصر
الشرط الأول: قال المؤلف رحمه الله: [وإذا كانت مسافة سفره ستة عشر فرسخاً]. الشرط الأول: وجود المسافة، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم اشتراط المسافة، واختلفوا في تحديد قدر هذه المسافة، فحدها المؤلف رحمه الله بستة عشر فرسخاً، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم، والفرسخ يساوي ثلاثة أميال، فتكون المسافة ثمانيةً وأربعين ميلاً، فإذا أراد أن يقطع هذه المسافة ثمانيةً وأربعين ميلاً فله أن يقصر، وإن أراد أن يقطع دونها فليس له أن يقصر، هذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وهذه الأميال اختلف في تقديرها بالكيلوات، فقال بعض العلماء: قدرها بالكيلو يساوي ثمانيةً وثمانين كيلو وسبعمائة وأربعة أمتار، القول الأول بالكيلوات أنها ثمانية وثمانون كيلو متراً وسبعمائة وأربعة أمتار. والقول الثاني: أنها سبعة وسبعون كيلو متراً ومائتان وثمانية وثلاثون متراً.والقول الثالث: أنها ثمانون كيلو متراً وستمائة وأربعون متراً.والقول الرابع: أنها ثنتان وسبعون كيلو متراً.هذا ما أسلفنا هو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله؛ واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا أهل مكة! لا تقصروا فيما دون أربعة برد )، والبريد الواحد يساوي أربعة فراسخ، فأربعة برد تساوي ستة عشر فرسخاً. استدلوا بهذا الحديث: ( يا أهل مكة! لا تقصروا فيما دون أربعة برد )، وهذا الحديث أخرجه الدارقطني وغيره، وهو ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقالوا: أيضاً لأن هذا هو الوارد عن ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهذا الوارد عن ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا حجة فيه؛ لأن الوارد عن ابن عمر وابن عباس مختلف كثير جداً، فقد ورد عنهما القصر، ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه القصر في ستة وسبعين ميلاً، وورد عنه أيضاً القصر في ميل واحد، وورد عنه القصر في اثنتين وسبعين ميلاً، وورد عنه أيضاً في ثلاثين ميلاً، فالآثار الواردة عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهما مختلفة، وحينئذ يرجع إلى ظاهر القرآن.الرأي الثاني في هذه المسألة: أن مسافة القصر ليست محددة شرعاً، وإنما هي محددة عرفاً، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فما دل العرف على أنه سفر تقصر فيه الصلاة، وما لم يدل العرف على أنه سفر فإنه لا تقصر فيه الصلاة، هذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واستدل على ذلك بأن الأدلة وردت مطلقة في القرآن والسنة، ولم ترد مقيدة بمسافة محددة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بأن المسافة القصيرة في الزمن الطويل سفر، بدليل خروج أهل مكة من مكة إلى عرفات، وجمعهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم جمعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقصروا الصلاة مع النبي عليه الصلاة والسلام، فهم خرجوا من مكة إلى عرفات، والمسافة قصيرة بين مكة وعرفات ومزدلفة، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإتمام، لكن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: المسافة القصيرة في الزمن الطويل سفر، وعلى هذا تكون هذه المسألة على كلام الشيخ رحمه الله لها أربع حالات: الحالة الأولى: أن تكون المسافة طويلة والزمن طويلاً، فهذا سفر لا إشكال في ذلك.مثال ذلك: لو خرج إنسان إلى مكة أو إلى المدينة ونوى أن يقيم يومين أو ثلاثة أيام فنقول: بأن هذا سفر.الحالة الثانية: عكس القسم السابق: أن تكون المسافة قصيرة والزمن قصيراً، فهذا ليس سفراً، مثال ذلك: كما لو خرج لمسافة ثلاثين كيلو، أربعين كيلو… إلى آخره ثم رجع في يومه فإنه لا يعتبر هذا سفراً، وحينئذ لا يترخص.الحالة الثالثة: أن تكون المسافة طويلة والزمن قصيراً، وذلك كما لو خرج من بيته مسافة ثمانين كيلو، مائة كيلو… إلى آخره ثم رجع في نفس اليوم، فهذا ليس سفراً عرفاً إلا إن دل العرف على أنه سفر، فإذا دل العرف على أنه سفر وتعارف الناس على أنه سفر فإنه يترخص. إذاً: إذا كانت المسافة طويلةً والزمن قصيراً نقول: هذا ليس سفراً إلا إن دل العرف، فمثلاً لو خرج إلى الرياض ثم رجع في نفس اليوم فعرف الناس أنه سفر، لكن لو كان يعمل موظفاً في بلد يقطعه في سبعين كيلو أو ثمانين أو مائة… إلى آخره ويرجع في نفس اليوم فالناس لا يعتبرون هذا مسافراً، والقصر من خصائص السفر، فليس له أن يقصر، إلا كما أسلفت إذا دل العرف كما لو خرج مثلاً إلى الرياض ثم رجع في نفس اليوم فعرف الناس أنه سفر.الحالة الرابعة: أن تكون المسافة قصيرة والزمن طويلاً، فهذا يأخذ حكم السفر، وذلك كما لو خرج أربعين كيلو، خمسين كيلو… إلى آخره جلس ولم يرجع في نفس اليوم، فهذا حكمه حكم المسافر، ويأخذ أحكام السفر؛ والدليل على ذلك ما أسلفنا ( أن أهل مكة خرجوا من مكة إلى عرفات ومع ذلك قصروا الصلاة، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإتمام الصلاة ).قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إذا لم يرجع إلى أهله في ليلته فهذا حكمه حكم السفر، كما قلنا في الحالة الرابعة: إذا كانت المسافة قصيرة والزمن طويلاً فهذا يأخذ حكم السفر.تحديد المسافة كما ذهب إليه المؤلف رحمه الله قلنا: هذا قول جمهور أهل العلم، يعني هو مذهب الحنابلة والمالكية والشافعية إلا الحنفية، فالحنفية يزيدون على ذلك يقولون: بدلاً من أن تكون ستة عشر فرسخاً المسافة تساوي أربعةً وعشرين فرسخاً فيزيدون في ذلك ثلث المسافة، بدلاً من أن تكون المسافة يومين كما قال المؤلف: (وهي مسيرة يومين قاصدين) يقولون: المسافة التي يقصر فيها الصلاة مسيرة ثلاثة أيام، فيزيدون أربعةً وعشرين ميلاً. فمسافة القصر تساوي ثمانيةً وأربعين ميلاً عند جمهور أهل العلم، الحنفية يزيدون أربعةً وعشرين ميلاً، فعندهم تساوي المسافة التي تقصر فيها الصلاة ثنتين وسبعين ميلاً، هذا هو الشرط الأول.

الشرط الثاني: مفارقة العمران
الشرط الثاني للقصر: أن يفارق عامر بلده، فليس له أن يقصر أو يترخص ما دام داخل البلد، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يحفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه ترخص داخل المدينة، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يحج حجة الوداع صلى في المدينة الظهر أربع ركعات، ثم خرج عليه الصلاة والسلام إلى ميقات ذي الحليفة وهو بقرب المدينة فصلى ركعتين، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم خارج المدينة ترخص عليه الصلاة والسلام، والله عز وجل يقول: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] . يعني: (وإن كنتم مرضى أو على سفر فأفطرتم فعدة من أيام أخر)، فالله عز وجل قال في الآية: (أو على سفر) والذي في بلده ليس على سفر وإنما على نية السفر، وعلى هذا نقول: الشرط الثاني: أن يفارق عامر بلده، وليس له أن يترخص حتى يفارق عامر بلده.

الشرط الثالث: أن يكون السفر مباحاً
قال المؤلف رحمه الله: [وكان مباحاً]. هذا هو الشرط الثالث، الشرط الثالث: أن يكون السفر مباحاً، وعلى هذا لو كان السفر محرماً فإنه ليس له أن يترخص، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، وهو قول جمهور أهل العلم أنه يشترط أن يكون السفر مباحاً. وعلى هذا لو كان سفره محرماً سافر لكي يشرب خمراً أو نحو ذلك فليس له أن يقصر، هذا ما عليه جمهور أهل العلم؛ واستدلوا على ذلك بأن الله عز وجل قال: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173] ، فرخص الله عز وجل للمضطر أن يأكل من الميتة بشرط: ألا يكون باغياً أو عادياً، والعادي هو قاطع الطريق، والباغي هو الخارج عن الإمام، فهذان لا يرخص لهما في الأكل من الميتة، مع أن قاطع الطريق قد يكون في حال السفر فلا يرخص له.والرأي الثاني: مذهب أبي حنيفة رحمه الله واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن هذا ليس شرطاً، فالعاصي في سفره له أن يترخص، فلو سافر لأجل معصية من المعاصي له أن يقصر الصلاة الرباعية، وله أن يجمع.أجاب ابن تيمية رحمه الله عن قوله سبحانه وتعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173] بأن معنى الآية: (غير باغ ولا عاد) الباغي هو الذي يبغي الحرام مع قدرته على الحلال، والعادي هو الذي يأكل أكثر من حاجته.هذه ثلاثة شروط: الشرط الأول: المسافة.والشرط الثاني: أن يفارق عامر بلده.والشرط الثالث: أن يكون السفر مباحاً.فإن توافرت هذه الشروط فله أن يقصر الرباعية، وهناك أيضاً شروطاً أخرى ذكروها لكن ما يقوم عليها دليل.

ما يقصر من الصلوات
قال المؤلف رحمه الله: [فله قصر الرباعية خاصة]. قول المؤلف رحمه الله: (خاصة) يعني أن القصر خاص في الرباعية، الظهر والعشاء والعصر، وأما بالنسبة للمغرب والفجر فإنهما لا تقصران، أما الفجر فلا تقصر لأنها ركعتان، وقصرها إجحاف بها، وأما المغرب فلا تقصر لأنها وتر النهار، فلو أنها قصرت ركعة وأصبحت ركعتين لم تكن وتراً. قال المؤلف رحمه الله: [إلا أن يأتم بمقيم]. المسافر الأصل أنه يقصر الصلاة، الأصل أن صلاته مقصورة ركعتان، كما أشرنا إلى ذلك في أول الدرس، وذكرنا دليل ذلك من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ( أول ما فرضت الصلاة ركعتان فزيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر ) على الفريضة الأولى.قال المؤلف رحمه الله: (إلا أن يأتم بمقيم). يعني: إذا ائتم بمقيم فإنه لا يقصر الرباعية؛ ودليل ذلك حديث ابن عباس كما في صحيح مسلم : ( أن ابن عباس سئل عن الرجل المسافر إذا صلى خلف الإمام يصلي أربعاً، وإذا صلى في بيته صلى ركعتين؟ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تلك السنة ). وأيضاً: ثبت ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بإسناد صحيح أنه إذا صلى مع الإمام صلى أربع ركعات، فإذا لم يصل صلى ركعتين. فنقول: إذا ائتم بمقيم فإنه يصلي الرباعية أربع ركعات، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه إذا ائتم بمقيم مطلقاً حتى ولو أدرك التشهد الأخير، يعني لو جئت في التشهد الأخير والإمام في صلاة العشاء وهو مقيم وأنت مسافر فأدركت معه التشهد الأخير فإنك تصلي أربع ركعات، هذا ظاهر كلام المؤلف رحمه الله، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد ، يعني سواء أدرك ركعة أو أدرك أقل من ركعة فإنه إذا ائتم بمقيم فإنه يصلي أربعاً.والرأي الثاني: رأي الإمام مالك رحمه الله تعالى وهو: أن المسافر إن أدرك من صلاة المقيم ركعة صلى أربعاً، وإن أدرك أقل من ركعة صلى ركعتين، وهذا القول هو الصواب؛ لأنه إذا أدرك من صلاة المقيم يكون قد أدرك صلاته فيتابعه ويصلي مثله أربع ركعات، وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة ).وأما إن أدرك أقل من ركعة جاء والإمام قد نهض من الركوع في الركعة الأخيرة فإن المسافر يصلي ركعتين؛ لأنه لا يدرك صلاة هذا المقيم، ولم يدرك الجماعة، فنقول ما ذهب إليه المالكية رحمهم الله هو الصواب في هذه المسألة.واعلم أن المسافر إذا صلى خلف المقيم لا يخلو ذلك من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يصلي رباعيةً خلف ثنائية، فنقول: بأنه يقصر الصلاة، مثلاً لو جاء والإمام يصلي التراويح ركعتان وهو لم يصل العشاء، فنقول: ادخل معه في صلاة العشاء وصل ركعتين، فإذا صلى رباعية خلف ثنائية فإنه يصلي ركعتين.الحالة الثانية: أن يصلي رباعيةً خلف رباعية، مثلاً لو صلى العشاء خلف العشاء، أو صلى العصر خلف العشاء، أو الظهر خلف العشاء، أو الظهر خلف الظهر فهذا نقول: يصلي أربعاً لكن بشرط أن يدرك من صلاته ركعةً فأكثر، أدرك ركعة ركعتين أربعاً ثلاثاً فهنا يصلي أربع ركعات، فنقول الحالة الثانية: أن يصلي رباعيةً خلف رباعية، فنقول: بأنه يصلي أربع ركعات بشرط أن يدرك ركعة، فإن أدرك أقل من ركعة فإنه يصلي ركعتين.الحالة الثالثة: أن يصلي رباعيةً خلف ثلاثية، كما لو صلى العشاء خلف المغرب، صلى هو المغرب ثم جاء جماعة وصلت المغرب وهو يريد أن يصلي العشاء، هو الآن يريد أن يصلي العشاء رباعية خلف من يصلي المغرب وهي ثلاثية، فهل يقصر أو يتم؟ فنقول: بأنه بالخيار: إن شاء قصر، وإن شاء أتم، وإن كان الإتمام أحوط نقول: أنت بالخيار. وعلى هذا إن صلى رباعية خلف رباعية صلى أربعاً، رباعية خلف ثنائية صلى ثنتين، رباعية خلف ثلاثية هو بالخيار إن شاء أن يصلي أربعاً، وإن شاء أن يصلي ثنتين، إن شاء أن يقصر، وإن شاء أن يتم.

نية القصر في صلاة السفر
قال المؤلف رحمه الله: [أو لم ينو القصر]. يعني: لو أن الإنسان لم ينو القصر، شرع في الصلاة في السفر وهو لم ينو القصر، فيقول المؤلف رحمه الله: بأنه يتم، وهذا بناء على اشتراط نية القصر، فالمشهور من مذهب الحنابلة رحمهم الله أنهم يشترطون لكي يقصر الإنسان في السفر أن ينوي القصر عند الإحرام بالصلاة، فإذا أراد أن يحرم بالصلاة فإنه ينوي أنه سيقصر، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى. والصواب في هذه المسألة: أن نية القصر ليست شرطاً، وعلى هذا لو أن الإنسان لم ينو القصر أو شك هل نوى القصر أو لم ينو القصر فنقول: بأنه يصلي ركعتين؛ لما سبق أن أشرنا إليه أن الأصل في صلاة المسافر أنها ركعتان كما في حديث عائشة ، فالمسافر يرجع إلى الأصل، وإذا كان يرجع إلى الأصل فلا حاجة إلى أن ينوي الأصل؛ لأنه على الأصل، فلا حاجة إلى أن ينويه. فنقول: الصواب أن نية القصر ليست شرطاً، فلو أن الإنسان ينوي نقول: له أن يصلي ركعتين؛ لأن هذا هو الأصل في صلاة المسافر.

قضاء المسافر للصلاة في السفر والحضر
قال المؤلف رحمه الله: [أو نسي صلاة حضر فيذكرها في السفر]. لو أن الإنسان سافر، وبعد أن خرج من بلده تذكر أنه صلى الظهر وهو محدث، سافر بعد العصر، ثم بعد أن خرج من بلده تذكر أنه صلى الظهر وهو محدث، أو أنه نسي أن يصلي الظهر بالكلية، فيريد أن يقضي هذه الصلاة، هل يقضيها تامة أو يقضيها مقصورة؟ نقول: بأنه يقضيها تامة؛ لأن القضاء يحكي الأداء، وقد حكي الإجماع على هذا، وأنه يصليها تامةً.قال المؤلف رحمه الله: [أو صلاة سفر فيذكرها في الحضر فعليه الإتمام]. يعني: لو أن الإنسان نسي أن يصلي الظهر وهو مسافر حتى قدم إلى بلده ثم بعد ذلك تذكر أنه لم يصل في السفر، نسي أن يصلي الظهر ثم قدم البلد ثم تذكر أنه لم يصل الظهر فهل يصليها ركعتين أو يصليها أربعاً؟ يقول المؤلف رحمه الله: يصليها أربع ركعات؛ لأن السبب الذي هو السفر قد زال، زال سبب القصر وهو السفر فيجب عليه أن يصلي أربع ركعات.

حكم القصر في السفر
قال المؤلف رحمه الله: [وللمسافر أن يتم، والقصر أفضل]. يقول المؤلف رحمه الله: المسافر له أن يتم، وكونه يقصر هذا هو الأفضل، وهذا قول جمهور أهل العلم، يعني: أن القصر ليس واجباً، فإن شاء المسافر أن يقصر قصر، وإن شاء المسافر أن يتم أتم، القصر ليس واجباً، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة رحمه الله: أن القصر واجب، وأن الإنسان إذا لم يقصر في السفر فإنه يأثم. وتوسط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين القولين فقال: بأن القصر هو الأفضل وهو السنة، والإتمام مكروه، كون الإنسان يتم الصلاة في السفر هذا مكروه، ولكل منهم دليل.أما بالنسبة للجمهور قالوا: بأن القصر ليس واجباً؛ واستدلوا على ذلك بأدلة من أدلتهم: أن عثمان رضي الله تعالى عنه أتم في السفر، ومن أدلتهم أيضاً ما سبق أن المسافر إذا ائتم بالمقيم في الرباعية فإنه يتم.أما بالنسبة للحنفية فقالوا: بأن القصر واجب قالوا: هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في حجة الوداع حتى رجع إلى المدينة من مكة ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين ركعتين )، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أنه أتم الصلاة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).وكذلك أيضاً: استدل الحنيفة بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ( أن الصلاة أول ما فرضت ركعتان، فزيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر )، فصلاة السفر ركعتان، فكون الإنسان يزيد فيها كما لو زاد في صلاة الظهر أو صلاة العصر… إلى آخره. لكن الأقرب في ذلك ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأن إتمام الصلاة في السفر مكروه، والسنة أن الإنسان يقصر الصلاة، هذا هو السنة.

ما ينقطع به حكم السفر
قال المؤلف رحمه الله: [ومن نوى الإقامة أكثر من إحدى وعشرين صلاةً أتم، وإن لم يجمع على ذلك قصر أبداً]. يقول المؤلف رحمه الله: إذا نوى الإنسان أن يقيم أكثر من إحدى وعشرين صلاةً، يعني: إذا نوى أن يقيم أكثر من أربعة أيام فإنه بمجرد وصوله إلى البلد لا يترخص. مثال ذلك: إنسان سافر إلى مكة وهو يريد أن يقيم في مكة خمسة أيام، نقول: ما دام أنه يريد خمسة أيام بمجرد وصوله إلى مكة خرج عن حكم السفر فلا يترخص، لا يجمع ولا يقصر، يريد أن يقيم أسبوعاً لا يترخص لا يجمع ولا يقصر، بمجرد وصوله إلى البلد خرج من حكم السفر، إن أراد أن يقيم ثلاثة أيام أربعة أيام فهذا له أن يترخص. فالمشهور من المذهب وهو أيضاً قول الشافعية والمالكية أنهم يحدون مدة السفر بأربعة أيام، فإن أراد أن يقيم أكثر من أربعة أيام فإنه لا يترخص، إن أراد أن يقيم أربعة أيام فأقل فإنه يترخص، هذا رأي الحنابلة والشافعية والمالكية إلا أن الشافعية والمالكية يقيدونها بأربعة أيام إي أنهم لا يحسبون يومي الدخول والخروج، فيكون أربعة أيام، ما نحسب اليوم الذي دخل فيه، واليوم الذي خرج فيه، فإذا أضفت أربعة أيام مع يومي الدخول والخروج أصبحت الأيام عند المالكية والشافعية ستة أيام. عند الحنفية يقيدونها بأكثر من خمسة عشر يوماً، قالوا: هذا الوارد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن عمر ، فإذا أراد الإنسان أن يقيم أكثر من خمسة عشر يوماً فإنه لا يترخص، إن أراد أن يقيم أقل من خمسة عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً فإنه يترخص، هذا المشهور من مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى.هذان رأيان ولكل منهما دليل، أما أهل الرأي الأول الذين قيدوه بأربعة أيام فقالوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة من المدينة في حجة الوداع في اليوم الرابع، وجلس يترخص الرابع والخامس والسادس والسابع في اليوم الثامن خرج من مكة إلى منى، هو قدم في صبح اليوم الرابع، جلس الرابع والخامس والسادس والسابع، في صبح اليوم الثامن خرج النبي عليه الصلاة والسلام إلى منى. فقالوا: أقام النبي عليه الصلاة والسلام بمكة في حجة الوداع أربعة أيام يترخص، فدل ذلك على أن الإنسان له أن يترخص مدة أربعة أيام، ما عدا ذلك فإنه ليس له أن يترخص. أما بالنسبة لـأبي حنيفة رحمه الله فإنه يستدل على ذلك بأن هذا هو الوارد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن عمر رضي الله تعالى عنهما.الرأي الثالث: أن الإنسان له أن يترخص مطلقاً ما دام أنه لم ينو الاستيطان أو ينوي الإقامة المطلقة، فإن كان الإنسان ينوي الاستيطان فهذا أصبح مستوطناً لا يحق له أن يترخص، إن نوى الإقامة المطلقة التي ليست مقيدة بعمل وليست مقيدة بزمن، إقامة مطلقة لا تقيد بعمل ولا زمن، لا يقول: أنا سأجلس شهراً أو شهرين ثم أرجع… إلى آخره، فهذا ليس له أن يترخص.الرأي الثالث: أن الإنسان له أن يترخص ما لم ينو الاستيطان أو الإقامة المطلقة، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأيضاً أخذ به من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن السعدي ، والشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهم من أهل العلم، فقالوا: بأن الإنسان له أن يترخص ما دام أنه لم ينو الاستيطان، أو ينوي الإقامة المطلقة.واستدلو على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة في عام الفتح تسعة عشر يوماً، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يترخص فيها، وكذلك أيضاً في حجة الوداع أقام النبي صلى الله عليه وسلم عشرة أيام يترخص. كذلك أيضاً في تبوك أقام النبي عليه الصلاة والسلام عشرين يوماً، قالوا: بأنه يترخص، وكذلك أيضاً قالوا: بأن هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فـابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر, كما في السنن الكبرى للبيهقي وصححه النووي ، وكذلك أيضاً عبد الرحمن بن سمرة أقام سنتين في بعض بلاد فارس يقصر الصلاة، وهذا أخرجه عبد الرزاق . فاستدلوا بهذه الأدلة. والأقرب في ذلك أن يقال: بأن الإنسان له أن يترخص ما لم ينو الاستيطان أو الإقامة المطلقة، لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، تحديد مدة السفر، لكن إذا أطال الإنسان الإقامة وتشبه بالمقيمين فإنه لا يظهر أنه يترخص. فنقول: إذا كان الإنسان يسافر مثلاً لمدة عشرة أيام أو عشرين يوماً أو ثلاثين يوماً نقول: هذا يترخص، لكن إن كان موظفاً في بلد أو يدرس في بلد وهو سيقيم فيه سنتين أو ثلاث سنوات… إلى آخره, فنقول: هذا تشبه الآن بالمقيمين وأخذ حكمهم، فنقول: بأنه لا يترخص، إنما سفره عارض فنقول: بأنه ليس له أن يترخص، وهذا هو الأقرب. وأما ما استدل به الحنابلة أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل مكة في اليوم الرابع وخرج في اليوم الثامن، فنقول: بأن هذا لا يدل على تحديد المدة؛ لأن مثل هذا وقع منه صلى الله عليه وسلم باتفاق ولم يكن عن قصد والقاعدة: أن ما وقع اتفاقاً لا يكون شرعاً.

تردد المسافر في مدة بقائه
قال المؤلف رحمه الله: [وإن لم يجمع على ذلك قصر أبداً]. يعني: إذا كان الإنسان لا ينوي الإقامة، ومثل ذلك أيضاً إذا كان الإنسان سفره غير محدد بزمن أو عمل ولم ينو إقامةً، إنسان ذهب إلى عمل لا يدري متى يرجع، قد يرجع اليوم، قد يرجع غداً… إلى آخره، لم ينو إقامةً، فهذا له أن يترخص، حتى لو جلس شهر.. أو شهرين... إلى آخره. فلو مثلاً الإنسان سافر إلى بلد وهو لم ينو الإقامة ولا يدري متى ينتهي سفره، قد ينتهي اليوم، قد ينتهي غداً... إلى آخره فنقول: بأن له أن يترخص؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وإن لم يجمع على ذلك قصر أبداً).

صلاة الخوف
قال رحمه الله تعالى: [باب صلاة الخوف]. سبق أن ذكرنا أن صلاة أهل الأعذار ثلاثة أنواع:النوع الأول: صلاة المريض.والنوع الثاني: صلاة المسافر.والنوع الثالث: صلاة الخوف، والخوف ضد الأمن. ‏
مشروعية صلاة الخوف
صلاة الخوف دل عليها القرآن والسنة: أما القرآن فقول الله عز وجل: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102] إلى آخر الآية.وأما السنة فكما في حديث ابن عمر ، حديث جابر ، حديث سهل بن أبي حثمة ، حديث أبي هريرة .
صفات صلاة الخوف
قد وردت صفات الخوف على وجوه متنوعة، لكن بعض العلماء رحمهم الله إذا رأى اختلاف الرواة جعل هذا الاختلاف من قبل الرواة نوعاً مستقلاً، ولهذا بعض العلماء أوصل أنواع صلاة الخوف أربعة عشر نوعاً، وبعضهم أوصلها إلى ستة عشر نوعاً، وبعضهم أوصلها إلى سبعة عشر نوعاً.. إلى آخره. والصواب كما ذكر ابن القيم رحمه الله: أن صلاة الخوف ترجع إلى ستة أصول، وسنذكر هذه الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف.الصفة الأولى: أن يكون العدو في جهة القبلة، فالإمام يقسم الجيش صفين ثم بعد ذلك يحرمون بالصلاة، فيكبر الإمام ويكبرون جميعاً، ويركع ويركعون جميعاً، ويرفع ويرفعون جميعاً، ثم بعد ذلك يهوي الإمام للسجود ويهوي الصف الذي يليه، وأما الصف الثاني فإنه يبقى قائماً للحراسة، فيسجدون سجدتين الإمام والصف الذي يليه، ثم بعد ذلك يقومون، فيتأخر الصف المقدم ويتقدم الصف المؤخر. ثم بعد ذلك إذا قام الصف الذي يلي الإمام فإن الصف الذي نهض من الركوع يهوي إلى السجود ويسجد سجدتين ثم يقوم، ثم بعد ذلك يتقدم الصف المؤخر, ويتأخر الصف المقدم، ثم بعد ذلك يركعون جميعاً ويرفعون جميعاً، ويهوي الإمام والصف الذي يليه الذي الآن مؤخراً, ويسجد السجدتين ثم يجلس للتشهد، ثم بعد ذلك يهوي الصف الثاني الذي كان مقدماً ثم تأخر ويسجد السجدتين, ثم يتشهدون جميعاً، ثم يسلمون جميعاً، هذه هي الصفة الأولى من صفات صلاة الخوف.الصفة الثانية: أن يكون العدو في غير جهة القبلة، فهنا يقسمهم الإمام إلى قسمين: قسم يكون تجاه العدو، وقسم يصلي إلى جهة القبلة، فيصلي الإمام ويصلي القسم الذي معه ركعة ثم يقوم الإمام، ثم تذهب هذه الفرقة التي صلت مع الإمام وهي في صلاتها تذهب وتواجه العدو. وتأتي الفرقة التي كانت مواجهةً للعدو والإمام لا يزال قائماً، ثم بعد ذلك يصلي بها ركعة، إذا صلى بها ركعة يجلس الإمام ويتشهد ويسلم، وهي تقوم وتكمل لها ركعة، ثم بعد ذلك الطائفة التي كانت مواجهةً للعدو تكمل لها ركعةً أخرى؛ لأنها صلت مع الإمام ركعة، والإمام صلى بهذه ركعة، ثم بعد ذلك يجلس الإمام ويتشهد ويسلم، ثم تقوم الطائفة التي كانت مواجهة للعدو ثم جاءت معه فتأتي بركعة أخرى وتسلم.الصفة الثالثة: إذا كان العدو أيضاً إلى غير جهة القبلة، فيقسمهم الإمام قسمين: القسم الأول: يصلي معه ركعة، طائفة تصلي معه، وطائفة تكون في إزاء العدو، فيصلي بهذه الطائفة ركعة ثم يقوم ويظل واقفاً، ثم تنزل هذه الطائفة وتصلي تكمل الركعة. يعني: الآن صلى بها ركعة، كبروا جميعاً وركعوا جميعاً ثم قام، لا يزال الإمام قائماً تهوي هذه الطائفة وتكمل الركعة الثانية لها وتسلم وتذهب، ثم تأتي الطائفة التي كانت في إزاء العدو فيصلي بها الإمام ركعة ويجلس في التشهد ينتظرها، تقوم وتأتي بركعة ثانية، ثم تتشهد معه، ويسلم بهم الإمام، هذه الصفة الثانية.الصفة الرابعة: أن يصلي بطائفة ركعتين ويسلمون جميعاً، ويصلي بطائفة ركعتين ويسلمون جميعاً، يعني يقسمهم الإمام قسمين، وهذا أيضاً إذا كان في غير جهة القبلة يقسمهم الإمام قسمين فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين ويسلمون جميعاً، ويصلي بالطائفة الثانية ركعتين ويسلمون جميعاً.الصفة الخامسة: أيضاً إذا كان العدو في غير جهة القبلة يقسمهم الإمام قسمين: فيصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعتين وتسلم، ثم يقوم هو إلى الثالثة، وتأتي الطائفة التي كانت في إزاء العدو ويصلي بها ركعتين، فيكون للإمام أربع ركعات، ولكل طائفة ركعتان ركعتان.الصفة السادسة: أيضاً يقسمهم الإمام قسمين، فيصلي بالطائفة الأولى ركعة، وتجلس الطائفة، يعني يكبرون ويركعون ويسجدون ثم يقوم الإمام وتجلس وتسلم من ركعة واحدة، ثم بعد ذلك تأتي الطائفة الثانية ويصلي بها الإمام ركعة ويسلمون جميعاً، فيكون لكل طائفة ركعة ركعة والإمام ركعتان. هذه صفات صلاة الخوف، تبين أنها ست صفات.قال المؤلف رحمه الله: [وتجوز صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمختار منها أن يجعلهم الإمام طائفتين..] إلى آخره.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-27, 10:45 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [18]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(27)


يشترط لصلاة الجمعة شروط هي: الوقت، والاستيطان في قرية، وحضور أربعين رجلاً، وأن تتقدمها خطبتان، ولهما ركنان هما: الجهر والوعظ، وزاد بعضهم أركاناً أخرى.
صلاة الجمعة
تقدم لنا في الدرس السابق شيء من أحكام صلاة الخوف، وذكرنا الصفات الواردة في صلاة الخوف إلى آخره، وأن هذه الصفات تعود إلى ستة أصول, أو الروايات المختلفة في تعداد صلاة الخوف تعود إلى هذه الأصول الستة. ‏

فضل يوم الجمعة
قال المؤلف رحمه الله: [باب صلاة الجمعة]. الجمعة ورد فيها ثلاث لغات، نقول: الجمُعة بالضم، وكذلك الجمْعة بالتسكين، والجمِعة بالكسر، والأفصح هو الضم.يوم الجمعة كان يسمى في الجاهلية بيوم العروبة، وسمي بهذا الاسم قيل: لأن خلق آدم جمع فيه، وهذا ورد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بإسناد قوي. وقيل: لأن خلق الخلق اكتمل في يوم الجمعة.وقيل: لأنها تجمع الخلق الكثير.وقيل: إن كعب بن لؤي كان يجمع الناس في الجاهلية ويذكرهم بتعظيم الحرم.وقيل: لاجتماع الناس للصلاة فيها.وأصح هذه الأقوال هو الرأي الأول، وأن يوم الجمعة سمي بهذا الاسم لأن خلق آدم جمع فيه، ويوم الجمعة هو أفضل أيام الأسبوع، وقد ورد في سنن ابن ماجه من حديث أبي لبابة البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سيد الأيام يوم الجمعة ). وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الثابت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة ).وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام.وصلاة الجمعة صلاة مستقلة ليست ظهراً مقصورة، وليست بدلاً عن الظهر، بل هي صلاة مستقلة لها أحكامها التي تختص بها، وصلاة الجمعة أفضل من صلاة الظهر، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله ثلاثاً وثلاثين خصيصة من خصائص يوم الجمعة، والسيوطي رحمه الله له كتاب في خصائص الجمعة اسمه اللمعة في خصائص يوم الجمعة.

من تجب عليهم الجمعة
قال المؤلف رحمه الله: [كل من لزمته المكتوبة لزمته الجمعة]. أفاد المؤلف رحمه الله بأن صلاة الجمعة واجبة، ووجوب صلاة الجمعة دل عليه القرآن والسنة والإجماع. أما القرآن: فقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] .وأما السنة: فحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم )، وهذا أخرجه مسلم في صحيحه.وثبت أيضاً في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليطبعن الله على قلوبهم ).والإجماع قائم على أن الجمعة واجبة، وإن اختلف العلماء رحمهم الله في شيء من تفاصيلها.قال المؤلف رحمه الله في بيان من تجب عليه الجمعة قال: [كل من لزمته المكتوبة لزمته الجمعة إن كان مستوطناً]. فالذي تجب عليه الجمعة من اجتمعت فيه شروط: الشرط الأول: أن يكون ذكراً، فالأنثى لا تجب عليها الجمعة؛ ويدل لذلك الإجماع، الإجماع منعقد على أن الجمعة لا تجب على الأنثى. وأيضاً: ما سبقت الإشارة إليه من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة )، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( على رجال يتخلفون على الجمعة ).الشرط الثاني: الحرية، وهذا اشترطه كثير من أهل العلم، فقالوا: يشترط أن يكون حراً، وعلى هذا فالرقيق لا تجب عليه الجمعة؛ لأنه مشغول بخدمة سيده. والرأي الثاني: أنه لا فرق بين الحر والرقيق، فالرقيق تجب عليه الجمعة كما تجب على الحر. وهذا القول هو الصواب؛ والقاعدة في ذلك: أن الأصل تساوي الأحرار والأرقاء في العبادات البدنية المحضة إلا لدليل، فكما أن الحر يجب عليه الغسل كذلك أيضاً الرقيق يجب عليه الغسل، والحر يجب عليه الوضوء والصلاة كذلك الرقيق يجب عليه الوضوء والصلاة.. إلى آخره، لا فرق، هذا هو الصواب.الشرط الثالث: الإسلام، فالكافر لا تجب عليه الجمعة؛ لأنه فاقد للأصل، فالجمعة لا تصح من الكافر؛ لقول الله عز وجل: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65].وأيضاً: قول الله عز وجل: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54].فيشترط لوجوب الأداء الإسلام، فالكافر لا تجب عليه وجوب أداء وإن كان مكلفاً بها يعاقب عليها؛ لقول الله عز وجل: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر:42-44] ، فدل ذلك على أن تركهم للعبادات له أثر في تعذيبهم.الشرط الرابع: العقل، فالمجنون لا تصح منه الجمعة؛ لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم النبي صلى الله عليه وسلم: المجنون حتى يفيق ).الشرط الخامس: الاستيطان، فغير المستوطن لا تجب عليه الجمعة، ويخرج بقولنا (الاستيطان) اثنان: الأول: من ليس له مكان يستوطن فيه، كأهل البادية الذين يتنقلون يطلبون القطر ومواضع النبات، فهؤلاء لا تجب عليهم الجمعة؛ لأنهم ليسوا مستوطنين؛ ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعراب الذين حول المدينة بصلاة الجمعة.والثاني: المسافر؛ فالمسافر لا تجب عليه الجمعة إلا تبعاً لغيره، فإذا كان سائراً فإنه لا تجب عليه الجمعة ولا يقيمها، فلو كان هناك مجموعة مسافرون فإنهم لا يقيمون الجمعة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحفظ عنه أنه أقام الجمعة في السفر وهو سائر. لكن الجمعة كما أسلفنا تجب على المسافر تبعاً لغيره، فتبعاً لغيره لا بأس؛ ويدل على أنها تجب عليه تبعاً لغيره حديث الحكم بن حزن رضي الله تعالى عنه أنه قال: ( وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه الجمعة )، وأيضاً يدل لذلك العمومات؛ كقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ [الجمعة:9] ، فإذا كان المسافر في البلد فإنه لا يجوز له أن يتخلف عن صلاة الجمعة.وبهذا الشرط أيضاً نعرف أن غير المستوطنين الذين يقيمون خارج البلد كما قلنا كأهل البوادي وهم لا يريدون استيطان هذا المكان، أو يخرجون خارج البلد لنزهة، أو لغرض ويقيمون معسكراً أو مركزاً وهم لا يريدون الاستيطان أنه لا تشرع لهم الجمعة، ولا يصلون الجمعة.الشرط الأخير: البلوغ؛ فالصبي لا تجب عليه الجمعة؛ كما تقدم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم النبي عليه الصلاة والسلام: الصبي حتى يبلغ )، لكن يؤمر بالجمعة لسبع, ويضرب عليها لعشر؛ لما سبق من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ).

حكم صلاة الجمعة على المستوطن خارج البلد
قال المؤلف رحمه الله: [إن كان مستوطناً ببناء وبينه وبين الجامع فرسخ فما دون ذلك]. من تجب عليه الجمعة لا يخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يكون داخل البلد، فهذا تجب عليه الجمعة مطلقاً قرب من الجامع أو بعد؛ لأن المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت محالاً متباعدة، ولم يكن يقام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا جمعة واحدة، فنقول: من تجب عليه الجمعة هذا إن كان داخل البلد وجب عليه أن يصلي مطلقاً.الأمر الثاني: أن يكون خارج البلد، فهذا تجب عليه إن كان بينه وبين المسجد فرسخ فما دونه، فإن كان بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ فلا تجب عليه الجمعة.والفرسخ قدره ثلاثة أميال، والميل قدره ألف وستمائة كيلو، فما يقرب من خمسة كيلو يعني إذا كان الإنسان خارج البلد أكثر من خمسة كيلو فهذا لا تجب عليه الجمعة، وإن كان دون ذلك فإن الجمعة تجب عليه. الدليل على هذا قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] ، فقال: (إذا نودي للصلاة)، قالوا: والنداء إذا كانت الرياح ساكنة والأصوات هادئة يسمع لمسافة فرسخ.والرأي الثاني: أن العبرة بسماع النداء، فإذا كان من خارج البلد يسمع النداء فيجب عليه أن يجيب، وإن كان لا يسمع النداء فلا يجب عليه.

حكم صلاة الجمعة على المرأة والعبد والمسافر والمعذور
قال المؤلف رحمه الله: [إلا المرأة والعبد والمسافر والمعذور بمرض أو مطر أو خوف]. ويقول المؤلف رحمه الله: (إلا المرأة) فالمرأة لا تجب عليها الجمعة، وهذا دليله الإجماع كما سلف؛ لأن الإجماع منعقد على أن المرأة لا تجب عليها الجمعة. وسبق أيضاً أن ذكرنا حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم )، فالمرأة لا تجب عليها الجمعة.قال: (والعبد). أيضاً تكلمنا عن ذلك، وذكرنا أن كثيراً من أهل العلم لا يرى وجوب الجمعة على الرقيق، وذكرنا أن الصواب في هذه المسألة أن الجمعة تجب على الرقيق، وأن القاعدة في ذلك: أن العبادات البدنية المحضة لا فرق بين الأحرار والأرقاء فيها إلا لدليل، هذا الأصل.قال: (والمسافر). أيضاً المسافر لا تجب عليه الجمعة، ولا تشرع منه، لا يشرع له أن يقيمها، فلو كان سائراً وتوقف في أثناء الطريق وأقام الجمعة نقول: هذا الفعل بدعة، لكن المسافر تجب عليه الجمعة تبعاً لغيره. وذكرنا دليل ذلك وهو العمومات كقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] ، فالعمومات تدل على وجوبها. كذلك أيضاً من الأدلة على أنها لا تجب على المسافر إذا كان سائراً, فإنه لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام الجمعة وهو في السفر سائراً، فإن كان داخل البلد فإنه يجب عليه أن يصلي الجمعة تبعاً لغيره؛ لعموم قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] ، ولما سبق إيراده من حديث الحكم بن حزن رضي الله تعالى عنه. قال المؤلف رحمه الله: [والمعذور بمرض أو مطر أو خوف]. إذا كان الإنسان معذوراً بمرض يلحقه مشقة ظاهرة في إتيان الجمعة، أو معذوراً بخوف يخاف على نفسه ويخاف على أهله، أو يخاف على ماله، أو معذوراً بأمطار غزيرة.. إلى آخره فإنه يعذر بترك الجمعة، ويصلي ظهراً أربعاً إن كان غير مسافر، وثنتين إن كان مسافراً. ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] ، وقوله سبحانه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] .
حضور المعذورين صلاة الجمعة
قال المؤلف رحمه الله: [وإن حضروها أجزأتهم ولم تنعقد بهم إلا المعذور إذا حضرها وجبت عليه وانعقدت به].يعني: إذا حضرها الرقيق, المؤلف ذهب إلى أن الرقيق لا تجب عليه الجمعة، لكنه حضر مع الناس وصلى فإنها تجزئه ولا يطالب أن يصلي ظهراً. وكذلك أيضاً المرأة لو حضرت مع الناس وصلت فنقول: بأنها تجزئها الجمعة، ولا تطالب أن تصلي ظهراً، مثل أيضاً بقية من لا تجب عليه الجمعة.ومعنى قوله: (لم تنعقد بهم) يعني: أنهم لا يحسبون من عدد الجمعة، فالمرأة والرقيق والمسافر على كلام المؤلف لا يحسبون. الجمعة لا بد لها من العدد, تشترط لها الجماعة فلا بد من العدد، وعدد الجمعة على المشهور من المذهب أربعون، وعند شيخ الإسلام ثلاثة، فإذا أخذنا برأي الحنابلة وأنه لا بد من أربعين لو كان عندنا تسعة وثلاثون رجلاً وامرأة فإنهم لا يصلون جمعةً وإنما يصلون ظهراً، قالوا: لأن المرأة لا تنعقد بها الجمعة. وكذلك أيضاً على رأي شيخ الإسلام لو كان عندنا رجلان وامرأة فإنهم لا يصلون جمعة، وهذا الصواب أن المرأة لا تنعقد بها الجمعة؛ لأنها ليست من أهل الجمعة ولا الجماعات، ولكن إذا حضرت الجمعة فإن الجمعة تجزئها.أما بالنسبة للرقيق والمسافر فكذلك أيضاً على المذهب، الرقيق لو كان عندنا تسعة وثلاثون رجلاً والأربعون رقيق، على المشهور عند الحنابلة أنهم لا يصلون جمعةً، وإنما يصلون ظهراً؛ لأن الرقيق لا تنعقد به، لكن لو حضر وصلى مع الناس الجمعة أجزأته كما سبق. أيضاً المسافر، لو كان عندنا تسعة وثلاثون رجلاً والأربعون مسافر لا يصح منهم الجمعة، ولا تنعقد بهذا المسافر أو بهذا الرقيق. أيضاً لو اخترنا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأن عدد الجمعة ثلاثة، فإذا كان الثالث رقيقاً أو مسافراً لا تنعقد به. والصواب في ذلك أن يقال: بأنها تنعقد بالرقيق والمسافر، هذا هو الصواب؛ لأن هؤلاء من أهل الجمعة والجماعات.قال: إذا حضر فإنها تنعقد به وتصح منه وتجزئ، فلو فرض أن عندنا تسعةً وثلاثين رجلاً والأربعون مريض، لكن تحامل على نفسه وأتى ليصلي مع الناس, هل تنعقد الجمعة أو لا تنعقد؟ نقول: بأنها تنعقد. أو عندنا الأربعون شخص معذور بخوف أو معذور بمطر، يقول المؤلف رحمه الله: بأنها لا تنعقد به. والصواب: أنها تنعقد به، وأيضاً تنعقد بالرقيق وبالمسافر، الذي لا تنعقد به هو فقط المرأة؛ لأن المرأة ليست من أهل الجمعة ولا الجماعات.
شروط صلاة الجمعة

الشرط الأول: الوقت
قال المؤلف رحمه الله: [ومن شرط صحتها فعلها في وقتها في قرية، وأن يحضرها من المستوطنين أربعون من أهل وجوبها]. الجمعة يشترط لها شروط: الشرط الأول: الوقت؛ وهذا من خصائص صلاة الجمعة، يشترط دخول الوقت، ولو أن الإنسان نام عن الظهر أو نسي أن يصلي الظهر فإنه يصلي الظهر يقضيها بعد الوقت، أما الجمعة فلو أن الإنسان نام عنها أو نسيها فإنه لا يصليها, فاتت عليه. فنقول: الشرط الأول: الوقت، والوقت فيه ثلاث مسائل:المسألة الأولى: ما هو أول الوقت؟ المشهور من مذهب الحنابلة رحمهم الله: أن أول وقت صلاة الجمعة هو أول وقت صلاة العيد، ووقت صلاة العيد يبدأ إذا طلعت الشمس وارتفعت قيد رمح بعد طلوع الشمس بما يقرب من ثنتي عشرة دقيقة يدخل وقت صلاة العيد، كذلك أيضاً الجمعة يدخل وقتها كدخول وقت صلاة العيد. وعلى هذا لو صلينا الجمعة بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح فإن الصلاة صحيحة، هذا المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله؛ واستدلوا على ذلك بحديث جابر أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة، ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين الزوال )، وهنا قال: يصلي الجمعة ثم بعد ذلك يذهبون إلى جمالهم ثم يريحونها وقت الزوال, دل ذلك على أن الجمعة وقعت قبل الزوال، وهذا الحديث حديث جابر رضي الله تعالى عنه في الصحيحين. وكذلك أيضاً: استدلوا بحديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال: ( كنا نجمع مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به )، وهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام بادر بها بحيث إنهم ينصرفون من الجمعة وليس للحيطان ظل يستظل به.الرأي الثاني: رأي جمهور أهل العلم وأن الجمعة وقتها بعد زوال الشمس؛ واستدلوا على ذلك بحديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس )، فقال: ( حين تميل الشمس )، وهذا أخرجه البخاري في صحيحه.وأيضاً: حديث سلمة بن الأكوع قال: ( كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ).وذهب بعض أهل العلم كـالخرقي من الحنابلة إلى أن الجمعة يصح فعلها قبل الزوال بساعة؛ واستدل على ذلك بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا دخل الإمام دخلت الملائكة.. ) إلى آخره.فهنا قال: في الخامسة: ( قرب بيضة )، والزوال يكون بعد السادسة، وقال: ( فإذا دخل الإمام )، فدل ذلك على أن دخول الإمام يكون بعد الخامسة، والزوال يكون بعد السادسة. والأقرب في هذا أن الإنسان يسلك ما سلكه جمهور أهل العلم, وأنه يجوز تقديم الجمعة قبل الزوال بشيء يسير هذا لا بأس به، وأدلة الحنابلة تدل على أنه يجوز تقديمها بشيء يسير، لكن لا تدل على أنها تفعل كما تفعل صلاة العيد. نقول: هذا لم يرد فيه دليل على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الدليل دل على أنه لو بادر بها قبل الزوال بشيء يسير فنقول: بأن هذا لا بأس به؛ كما في حديث جابر قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة، ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين الزوال )، فهذا يفهم أن الجمعة تقدمت بشيء يسير. وأيضاً: حديث سلمة بن الأكوع : ( أنهم يصلون الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يذهبون يتتبعون الفيء، وليس للحيطان ظل يستظل به ).المسألة الثانية: آخر وقت صلاة الجمعة هو آخر وقت صلاة الظهر بالإجماع، ووقت صلاة الظهر ينتهي إذا صار ظل كل شيء مثله، فكذلك أيضاً صلاة الجمعة آخر وقتها ينتهي إذا صار ظل كل شيء مثله. أما بالنسبة لوقت الاستحباب, صلاة الجمعة يستحب أن تفعل بعد الزوال مباشرة؛ لما تقدم من حديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس )، وهذا في البخاري ، وأيضاً حديث سلمة : ( كنا نجمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس )، وهذا في الصحيحين.فنقول: بأن وقت صلاة الجمعة المستحب هو بعد زوال الشمس مباشرة، ولا يشرع الإبراد بها إذا كان في شدة حر، صلاة الظهر في شدة الحر يشرع الإبراد بها، أما الجمعة ففي شدة الحر لا يشرع الإبراد بها: أولاً: لما تقدم من الأدلة: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي الجمعة إذا زالت الشمس ) كما في حديث سلمة بن الأكوع وحديث أنس رضي الله تعالى عنهما. وأيضاً أن الناس ينتابون الجمعة مبكرين، ويندب لهم ذلك، فلو قيل: بالإبراد وأن الجمعة تؤخر إلى قرب العصر حتى ينكسر الحر لكان في ذلك مشقة؛ لأن الناس كما أسلفت يأتونها مبكرين من أول النهار، فلو قلنا: بأنه يبرد بها لكان في ذلك مشقة ظاهرة عليهم.

الشرط الثاني: الاستيطان في قرية
قال المؤلف رحمه الله: [في قرية]. هذا الشرط الثاني، وهو: أن يكونوا مستوطنين في قرية، وعلى هذا كما أسلفنا المسافر السائر ليس له أن يقيمها، وأيضاً غير المستوطن ليس له أن يقيمها؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأمر الأعراب حول المدينة بإقامة صلاة الجمعة.

الشرط الثالث: العدد
قال المؤلف رحمه الله: [أربعون من أهل وجوبها]. هذا هو الشرط الثالث، الشرط الثالث من شروط صحة الجمعة: أن يكونوا أربعين، وهذا مذهب أحمد والشافعي ؛ واستدلوا على ذلك بأن مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه لما قدم المدينة جمع بهم، قال: وكان عددهم أربعين.وأيضاً: أسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنه جمع في نقيع الخضمات, وكان عددهم أربعين. وأيضاً: ورد في الحديث: ( مضت السنة أن في كل أربعين: جمعة وفطر وأضحى )، وهذا الحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.الرأي الثاني: رأي أبي حنيفة رحمه الله أنه لا بد من أربعة؛ واستدلوا بحديث أم عبد الله الدوسية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( في كل قرية فيها إمام جمعة وإن لم يكن فيها إلا أربعة )، وهذا الحديث أخرجه الطبراني وابن عدي ، وهو ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.والرأي الثاني رأي الظاهرية: وأنه يكتفى باثنين، الظاهرية قالوا: بأنه يكتفى باثنين؛ لأن أقل الجماعة اثنان. وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يكتفى بثلاثة؛ وهذا أصوب الأقوال؛ لأن الصلاة لا بد لها من جماعة، والخطبة لا بد لها من جماعة، وأقل الجماعة اثنان. لو قلنا برأي الظاهرية لكان الذي يستمع الخطبة واحد، يخطب واحد، ويستمع واحد، والخطبة لا بد لها من جماعة. على رأي شيخ الإسلام يخطب واحد ويستمع اثنان، كذلك أيضاً في الصلاة يخطب واحد ويصلي واحد ويأتم اثنان، فما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو الأقرب في هذه المسألة.

الشرط الرابع: الخطبتان
قال المؤلف رحمه الله: [وأن تتقدمها خطبتان في كل خطبة حمد الله تعالى، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، وقراءة آية، والموعظة]. هذا الشرط الرابع: أن تتقدم الجمعة خطبتان؛ ويدل لذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، فقال: (اسعوا إلى ذكر الله) وهنا أمر بالسعي إلى الخطبة، وهذا يدل على الوجوب، فإذا وجب استماع الخطبة وجبت الخطبة من باب أولى، يعني الاستماع فرع، فإذا وجب الفرع وجب الأصل.وأيضاً: حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت فقد لغوت )، فإذا وجب الإنصات للخطبة فوجوب الخطبة من باب الأولى، فيشترط تقدم خطبتين. وأيضاً يدل لذلك: مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على هاتين الخطبتين، فإن النبي عليه الصلاة والسلام داوم عليهما ولم يتركهما، وكذلك أيضاً الخلفاء من بعده، والمسلمون مجمعون عليهما.

أركان الخطبتين وشروطهما
قال المؤلف رحمه الله: (في كل خطبة حمد الله)، كل خطبة لها أركان ولها شروط، فأركان الخطبتين على المذهب ستة أركان: الركن الأول: حمد الله، فلا بد من حمد الله في كل خطبة.والثاني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لا بد من الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في كل خطبة.والثالث: قراءة آية أيضاً لا بد من ذلك في كل خطبة.والرابع: الوصية بتقوى الله عز وجل.والخامس: الجهر بحيث يسمع العدد المعتبر.والسادس: أن يوالي بين الخطبتين والصلاة. هذه ستة أركان، والصواب من هذه الأركان أن نقول: لا بد من الجهر بحيث يسمع العدد المعتبر، وأيضاً لا بد من الموعظة، هذان الركنان هما اللذان يشترطان في خطبة الجمعة، لا بد من الموعظة التي تحرك القلوب وتفيد الناس، وتعالج مشاكلهم، وتذكرهم وتفيدهم فيما ينفعهم، تفيد المسلم فيما ينفعه في أمور العقائد، وفي أمور العمليات، وما يتعلق بالمجتمع… إلى آخره، المهم أن تكون الخطبة مما تفيد وتذكر وتحث على السير إلى الله والدار الآخرة، ونصرة هذا الدين.. إلى آخره، هذا هو المطلوب.أما ما عدا ذلك فآداب وسنن، فكونه يقرأ آية أو آيات، يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، أيضاً حمد الله… إلى آخره هذه آداب للخطبة ينبغي للخطيب أن يأتي بها. أما أن نقول: لو أن الإنسان نسي أن يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام نقول: الخطبة غير صحيحة ثم بعد ذلك يترتب على ذلك أن تكون الصلاة غير صحيحة فهذا فيه نظر.أما بالنسبة لشروط الخطبة فخمسة شروط: الشرط الأول: الوقت؛ تقدم بيان وقت صلاة الجمعة، فلا بد أن تكون الخطبة بعد دخول الوقت.الشرط الثاني: النية؛ لحديث عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات ).الشرط الثالث: وقوع الخطبة حضراً.الشرط الرابع: حضور العدد المعتبر لصلاة الجمعة، فإذا كان هذا المعتبر أربعين لا بد أن يحضر أربعون، إذا كان العدد المعتبر ثلاثة لا بد.. إلى آخره كما تقدم، لا بد أن يحضر العدد المعتبر.الشرط الأخير: أن تكون الخطبة ممن تصح إمامته في صلاة الجمعة.قال: (وأن تتقدمها خطبتان، في كل خطبة يحمد الله تعالى، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم). على المشهور من المذهب أنه لا بد من حمد الله كما تقدم في الخطبة، وأنه ركن لكن يقولون: لا يشترط أن يكون الحمد في أول الخطبة، يعني كون الحمد في أول الخطبة هذا ليس شرطاً. والصواب: أن المشروع أن يكون الحمد في أول الخطبة؛ ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه الراتبة أو العارضة أنه استفتح بغير الحمدلة.قال: (وقراءة آية). قراءة آية؛ لحديث جابر بن سمرة قال: ( كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قصداً، يقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس ) أخرجه أبو داود .قال: (والموعظة). تقدم أن الموعظة هي ركن الخطبة، وأنها هي المطلوبة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-12, 12:35 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [19]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(28)


الجمعة عيد أسبوعي للمسلمين، ويشرع الاغتسال فيه والتطيب، وينبغي للمسلم التبكير لصلاة الجمعة، والمشروع الصلاة في جامع واحد، ولا يجوز تعدد الجمعة إلا لعذر. وصلاة العيدين لها أحكام خاصة، فلها وقت معلوم وصفة مخصوصة وآداب معلومة.

تابع صلاة الجمعة
تقدم لنا شيء من أحكام صلاة الجمعة، وذكرنا من ذلك وجوب صلاة الجمعة، ودليل وجوبها، ومن تجب عليه صلاة الجمعة، وأيضاً ما يتعلق بشروط صحة صلاة الجمعة من الوقت والخطبتين، وإذن الإمام وغير ذلك مما سبق، وتكلمنا أيضاً عن خطبتي الجمعة وذكرنا أنهما شرط لصحة الصلاة، وأن كل خطبة لها أركان ولها شروط، وذكرنا ما ذكره أهل العلم رحمهم الله من أركان الخطبتين وشروطهما… إلى آخره. ‏

الخطبة على المنبر
قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب أن يخطب على منبر]. يستحب للإمام يوم الجمعة أن يخطب على منبر؛ ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ المنبر من طرفاء الغابة وخطب عليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يخطب على جذع نخلة ) ؛ ولأن خطبة الإمام على منبر أبلغ في أداء الخطبة، وإيصالها للمستمعين. ويفهم من كلام المؤلف رحمه الله أنه لو لم يخطب على منبر فإن الخطبة صحيحة، فلو خطب على الأرض فإن خطبته صحيحة، وهذا ظاهر؛ لأن المقصود الخطبة وقد حصلت، وأما اتخاذ المنبر فهذا من باب الكمال.قال المؤلف رحمه الله: [فإذا صعد أقبل على الناس فسلم عليهم ثم يجلس إلى فراغ المؤذن]. يستحب للإمام إذا صعد على المنبر وأقبل على الناس أن يسلم عليهم، وقد روى جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر سلم عليهم )، وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه وغيره، وهو ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يستدل على هذا بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حق المسلم على المسلم خمس، وذكر منها النبي صلى الله عليه وسلم: إذا لقيته فسلم عليه ). ولا شك أن الإمام إذا صعد المنبر وأقبل على الناس فإنه لقيهم، فيستحب له أن يسلم عليهم، وكذلك أيضاً يستدل على ذلك بأن هذا وارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهو وارد عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن مسعود وابن الزبير رضي الله تعالى عن الجميع.قال المؤلف رحمه الله: [ثم يقوم الإمام فيخطب، ثم يجلس، ثم يخطب الخطبة الثانية]. يعني: بعد أن يدخل يجلس؛ لأن هدي النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا دخل صعد المنبر ثم بعد ذلك يسلم ويجلس صلى الله عليه وسلم، ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يجلس حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب ). أخرجه أبو داود وغيره.وأيضاً: يدل لذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر بن سمرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب ).وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن الإمام لو خطب جالساً فإن الخطبة صحيحة؛ لأن المراد هو تبليغ الخطبة وأداء الخطبة، وقد حصل ذلك سواء كان جالساً أو قائماً.

صفة صلاة الجمعة
قال المؤلف رحمه الله: [ثم يخطب الخطبة الثانية، ثم تقام الصلاة، فينزل فيصلي بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة]. وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والإجماع قائم على ذلك، ويستحب للإمام أن يقرأ في الركعة الأولى بسورة الأعلى، وفي الركعة الثانية بسورة الغاشية تارةً، وتارةً يقرأ في الركعة الأولى بسورة الجمعة، وفي الركعة الثانية بسورة المنافقون؛ ويدل لذلك حديث النعمان : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسورة الأعلى والغاشية )، وهذا في مسلم .وحديث أبي هريرة : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ بالجمعة والمنافقون ) وهذا في مسلم .

ما تُدرك به صلاة الجمعة
قال المؤلف رحمه الله: [فمن أدرك معه منها ركعةً أتمها جمعة]. إذا أدرك المأموم من الصلاة ركعةً أتمها جمعة؛ ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، ويدخل في ذلك صلاة الجمعة، وقد ورد في النسائي وغيره حديث أبي هريرة أيضاً : ( من أدرك ركعةً من الجمعة فقد أدرك الجمعة )، وسواء ثبت هذا الحديث أو لم يثبت فإن عندنا حديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة ).وعلى هذا لو أن الإنسان أتى وقد رفع الإمام من الركوع في الركعة الثانية فقد فاتته صلاة الجمعة، وحينئذ ماذا يفعل؟ العلماء يقولون: يتمها ظهراً إن كان نوى الظهر. يعني: إذا أتيت والإمام قد رفع رأسه من ركوع الركعة الثانية فأنت تنوي الظهر، تدخل مع الإمام وتصليها ظهراً، فإذا ما نويتها ظهراً ثم تبين لك أن الإمام قد رفع من الركوع في الركعة الثانية فإنك تتمها نافلة, ثم بعد ذلك تصلي ظهراً، هذا ذهب إليه جمع من أهل العلم رحمهم الله. والصواب في هذه المسألة: أن الإنسان يصلي الفريضة، وعلى هذا إن أدرك من الجمعة ركعةً فإنه يتمها جمعة، وإن لم يدرك الجمعة فإنه يتمها ظهراً أربع ركعات، هذا هو الصواب في هذه المسألة, ولا بأس أن يحدث الإنسان نيةً في أثناء الصلاة. الصواب في هذه المسألة: أنه يدخل يكبر مع الإمام، فإن تبين له أنه أدرك الجمعة فإنه يصليها جمعة، يعني إذا تبين أن الإمام لم يرفع من الركوع في الركعة الثانية وقد أدرك الركعة الثانية فإنه يأتي بركعة ويتمها جمعة، وإن تبين له أنه قد رفع من الركوع في الركعة الثانية وأن الجمعة قد فاتته فإنه ينوي ظهراً, وتصح صلاته ظهراً.

نقصان العدد المعتبر في صلاة الجمعة
قال رحمه الله: [وكذلك إن نقص العدد]. تقدم لنا أن من شروط صحة صلاة الجمعة: الجماعة، وهذا من خصائص صلاة الجمعة، صلاة الظهر لا يشترط لها الجماعة، الجماعة ليست شرطاً؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة )، فصلاة الظهر والعصر لو صلاها الإنسان منفرداً فإن صلاته صحيحة، لكنه إن لم يكن معذوراً ترك واجب الجماعة. لكن بالنسبة للجمعة لا بد لها من الجماعة، وتقدم أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في قدر الجماعة في صلاة الجمعة، فمن العلماء من جعلهم أربعين، منهم من جعلهم أربعة، منهم من جعلهم اثني عشر، منهم من جعلهم ثلاثة، منهم من جعلهم اثنين. وذكرنا أن أقرب الأقوال: هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, وأن عدد الجماعة في صلاة الجمعة ثلاثة؛ لأن الخطبة لا بد لها من جماعة، فواحد يخطب واثنان يستمعان، هذا الصواب، وعلى هذا الثلاثة تنعقد بهم الجمعة، لو أن أحد هؤلاء الثلاثة تخلف في أثناء الصلاة فما الحكم؟ هل يتمونها جمعة أو يتمونها ظهراً؟ أو أحد الأربعين إذا قلنا برأي الشافعية والحنابلة أنهم يشترطون أربعين رجلاً، أو رأي الحنفية أنهم يشترطون أربعة، إذا تخلف واحد من هؤلاء هل يتمونها جمعة أو يتمونها ظهراً؟ نقول: الصواب في هذه المسألة أن في هذا تفصيلاً, وهو إن صلوا ركعةً فقد أدركوا الجمعة، يعني: إن صلوا ركعةً ثم تخلف واحد من هؤلاء، يعني إذا أخذنا برأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ثلاثة يصلون الجمعة، وبعد أن صلى الإمام ركعة بسجدتيها تخلف أحد هؤلاء الثلاثة، سبقه الحدث مثلاً فنقول هنا: يتمونها جمعةً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، وإن لم يصلوا ركعةً لم يدركوا الصلاة، يصلونها ظهراً هذا الصواب. وظاهر كلام المؤلف رحمه الله قال: (وكذلك إن نقص العدد) أنهم يصلونها ظهراً مطلقاً، وهذا فيه نظر. بل الصواب في هذه المسألة: التفصيل الذي أشرنا إليه؛ لأن هذا التفصيل هو الذي دل له حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة ).

خروج الوقت أثناء صلاة الجمعة
قال المؤلف رحمه الله: [أو خرج الوقت وقد صلوا ركعةً أتموها جمعة وإلا أتموها ظهراً]. يعني: إن صلوا ركعة ثم بعد ذلك خرج الوقت، وسبق أيضاً أن أشرنا إلى أن الجمعة من شروط صحتها الوقت، وهذا من خصائص الجمعة، كما أن الجمعة من شروط صحتها الجماعة، كذلك أيضاً من شروط صحتها الوقت، الظهر يصح أن تفعلها بعد خروج الوقت، أما الجمعة إذا خرج وقتها والناس لم يصلوا الجمعة، فإنهم لا يقدرون على أن يصلوها جمعةً، وإنما يصلون ظهراً. وعلى هذا إن خرج الوقت ننظر إن كانوا صلوا ركعةً قبل خروج الوقت فإنهم يضيفون إليها ركعةً، ويتمونها جمعةً؛ لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، وإن خرج الوقت قبل أن يصلوا ركعةً بسجدتيها يعني كبروا للإحرام ثم بعد ذلك خرج الوقت فإنهم لا يتمونها جمعةً، وإنما يتمونها ظهراً، هذا هو الصواب، وهو الذي مشى عليه المؤلف.

تعدد صلاة الجمعة في المصر الواحد
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يجوز أن يصلى في المصر أكثر من جمعة إلا أن تدعو الحاجة إلى أكثر منها]. أيضاً هذا من خصائص الجمعة أن الجمعة لا تتعدد، بخلاف مساجد الجماعة فإنها تتعدد, ولهذا ورد في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في السنن: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر ببناء المساجد في الدور -يعني: في الأحياء- وأن تنظف ). أما بالنسبة للجمعة فإن السنة ألا تتعدد، وأن يكون هناك جامع واحد في البلد، ولهذا لم يحصل تعدد للجمعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي في المدينة، وكان الناس ينتابون الجمعة من العوالي حول المدينة، وأيضاً لم تتعدد الجمعة في عهد أبي بكر ، ولا عمر ، ولا عثمان ، ولا علي .. الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم، ولم يحصل تعدد الجمعة إلا في القرن الثالث لما كبرت بغداد وأصبح لها جانبان -جانب من جهة شرق النهر، وجانب من جهة غرب النهر- فاحتاج الناس أن تقام جمعتان: جمعة في الجانب الشرقي، وجمعة في الجانب الغربي، وهذا في حدود سنة مائتين وخمسين للهجرة، من ذلك الوقت تعددت الجمعة أما قبل ذلك فإن الجمعة لم تتعدد. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ولا يجوز أن يصلى في المصر) يعني: في المدينة (أكثر من جمعة إلا أن تدعو الحاجة إلى أكثر منها)، فإذا دعت الحاجة فلا بأس أن تعدد الجمعة، أما مع عدم الحاجة فإنه لا يجوز. وعلى هذا لو أن الجمعة تعددت بلا حاجة هل تصح الصلاة أو لا تصح الصلاة؟ العلماء يقولون: بأن الصلاة لا تصح، التي تصح هي الجمعة التي أذن بها الإمام أو باشرها، ما عدا ذلك إذا كان إقامة هذه الجمعة بلا حاجة فإنها لا تصح. هذا المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، يقولون: الجمعة الصحيحة هي التي باشرها الإمام أو أذن بها، وما عدا ذلك فإنها لا تصح إذا كان لغير حاجة، فإن استوت الجمعتان في أن كلاً منهما أذن بها الإمام، أو أن الإمام أذن بهذه وباشر تلك، فقالوا: الصحيحة التي سبقت في تكبيرة الإحرام.والرأي الثاني في أصل المسألة: أنه إذا حصل تعدد للجمعة فإن المأمومين معذورون، وصلاتهم صحيحة، لكن يأثم من سعى في تعدد الجمعة إذا لم يكن هناك حاجة كبعد الجامع أو كثرة الناس ونحو ذلك، فإذا لم يكن هناك حاجة فإن من سعى في تعدد الجمعة يأثم، وأما بالنسبة للمأمومين فإن صلاتهم صحيحة، وهذا القول هو الذي مال إليه الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى.
آداب يوم الجمعة

الغسل
قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل]. صريح كلام المؤلف رحمه الله أن غسل يوم الجمعة مستحب وليس واجباً، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.وعند ابن حزم رحمه الله أن غسل يوم الجمعة واجب، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن غسل يوم الجمعة واجب لمن كان يصيبه عرق أو رائحة. فالأقوال في هذه المسألة ثلاثة: جمهور أهل العلم: أن غسل يوم الجمعة مستحب؛ واستدلوا على ذلك بحديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل ).وأيضاً: ثبت في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من توضأ يوم الجمعة ثم أتى المسجد.. ) إلى آخره. وأما عند ابن حزم رحمه الله فالغسل واجب، واستدل على ذلك بأدلة ظاهرة صريحة كحديث أبي سعيد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ) يعني: بالغ، هذا صريح.حديث ابن عمر أيضاً في الصحيحين: ( من جاء منكم الجمعة فليغتسل ).حديث أبي هريرة أيضاً في الصحيحين: ( حق على كل مسلم في كل سبعة أيام أن يغسل رأسه وجسده )، وهذا أيضاً صريح.وأما استدلال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فهو استدل بحديث عائشة في الصحيحين قالت: ( كان الناس ينتابون المسجد من العوالي وعليهم العباء فيلحقهم الغبار والعرق، فتظهر منهم الريحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تطهرتم ليومكم هذا ).فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جعل المناط على وجود الرائحة والعرق خشية إيذاء الناس.والأقرب في ذلك ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله؛ لأن كلام النبي عليه الصلاة والسلام صريح قال: ( واجب على كل محتلم )، ما دام النبي عليه الصلاة والسلام يقول: واجب, كيف لو قاله أحد العلماء؟ لو قال أحد العلماء: واجب تجد أن كثيراً من الناس ممن يقلدون هذا العالم ويأخذون برأيه يسارعون للامتثال، وما دام أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو القدوة والإمام والأصل في المتابعة قال: ( واجب ) فيظهر أن غسل يوم الجمعة واجب.وأما بالنسبة لحديث سمرة فهذا لا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل )، هذا لا يثبت لا سنداً ولا متناً، ومتنه هذا فيه ركاكة، ويبعد أن يكون من مشكاة النبوة، كذلك أيضاً في سنده عدم سماع الحسن عن سمرة . وأما ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من توضأ ثم جاء إلى الجمعة ) فقد جاء أيضاً في مسلم بلفظ: ( من اغتسل ثم جاء الجمعة )، وعلى هذا الأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله.والغريب أن ابن حزم رحمه الله مع أنه أخذ بأن غسل يوم الجمعة واجب، إلا أنه لم يجعله للصلاة، وإنما جعله لليوم، وقال: لو أن الإنسان ذهب إلى المسجد بلا غسل ثم جاء بعد الصلاة واغتسل سقط عنه ذلك, هذا ضعيف، وهذا كله سببه هو عدم النظر إلى المعنى، فإن أهل الظاهر لا ينظرون إلى المعاني وإنما يأخذون بالألفاظ، يجمدون على الألفاظ، هذا لا شك أنه ضعيف جداً، والشريعة قائمة على الحكم، فالحكمة من إيجاب الغسل هو التنظف للصلاة لاجتماع الناس، الناس يجتمعون فيكون الإنسان على هيئة تليق، هذا هو الصحيح.ويبدأ وقت الغسل من طلوع الفجر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أضاف الغسل إلى اليوم، واليوم يبدأ من طلوع الفجر، وعلى هذا لو أن الإنسان أصابته جنابة ليلاً ولم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر، ثم اغتسل بعد طلوع الفجر فإنه يجزئه عن غسل يوم الجمعة؛ لأن المقصود التنظف وقد حصل ذلك، مع أن الأفضل أن يكون الغسل عند الرواح؛ لأنه أبلغ في التنظف. فنقول: الغسل له وقتان: وقت جواز من طلوع الفجر الثاني إلى الصلاة، ووقت استحباب وذلك عند الذهاب إلى الجمعة.

لبس الثياب النظيفة
قال المؤلف رحمه الله: [ويلبس ثوبين نظيفين]. أيضاً هذا من السنة أن يلبس الإنسان أحسن ثيابه يوم الجمعة؛ ويدل لذلك ما ثبت في صحيح البخاري ( أن عمر رضي الله تعالى عنه وجد حلةً من إستبرق تباع عند المسجد فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! لو ابتعت هذه -يعني: اشتريت هذه- تتجمل بها للجمعة والوفد )، فقال: ( تتجمل بها للجمعة والوفد )، فأقره النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك، وإنما لم يقره على كونها حريراً فقال: ( هذه لباس من لا خلاق له ).

التطيب والتبكير لصلاة الجمعة
قال المؤلف رحمه الله: [ويتطيب]. ويتطيب؛ ويدل لذلك حديث سلمان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، ويمس من طيب بيته، ولا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى )، وهذا أخرجه البخاري .فيستحب للإنسان أن يتطيب، وأيضاً إذا كان له شعر أن يرجل شعره؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ويدهن من دهنه )، وألا يؤذي أحداً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ولا يفرق بين اثنين )، ويفعل ما هو الأخشع له من الصلاة أو الذكر والدعاء، ما هو الأخشع والأصلح لقلبه، وإذا تكلم الإمام فإنه ينصت فإن هذا سبب للمغفرة.قال المؤلف رحمه الله: [ويبكر إليها]. السنة أن يبكر؛ ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا حضر الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر )، فيستحب للإنسان أن يبكر. والتبكير هذا اختلف أهل العلم رحمهم الله فيه، الإمام أحمد يقول: من بعد صلاة الفجر، وعند أبي حنيفة : من بعد طلوع الشمس، وعند الشافعي : من طلوع الفجر يعني يبكر قبل الصلاة. الإمام مالك رحمه الله مذهبه في التبكير غريب، الإمام مالك رحمه الله يرى أن هذه الساعات أجزاء من الساعة الأخيرة قبل الزوال، فإذا كان مثلاً الزوال يبدأ في الساعة الثانية عشرة التبكير عند الإمام مالك رحمه الله من الساعة الحادية عشرة تقريباً، يقسم هذه الساعة، هذا لا شك أنه ضعيف، ومثل ذلك أيضاً في صلاة العيدين يرى التبكير يكون من بعد طلوع الشمس، وهذا أيضاً ضعيف.الصواب في التبكير -والله أعلم- ما ذهب إليه أبو حنيفة أو الإمام أحمد أنه من بعد صلاة الفجر، أو أنه من بعد طلوع الشمس، فمن قال: بأنه من بعد طلوع الشمس هذا له وجه؛ لأن الإنسان قبل طلوع الشمس مشغول بالصلاة والجلوس في المصلى؛ لأن هدي النبي عليه الصلاة والسلام إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حتماً. ومن قال: إنه من بعد الصلاة هذا أيضاً له وجه، لكن ربما يترجح مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وعلى هذا إذا قلنا بأن الأقوى هو ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله: تبدأ الساعات من بعد طلوع الشمس، وإن قلنا: بأن الأقرب ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله: تبدأ الساعات من بعد الصلاة.

صلاة تحية المسجد أثناء خطبة الجمعة
قال المؤلف رحمه الله: [فإذا جاء والإمام يخطب لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما]. ويدل لذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر : ( ويتجوز فيهما )، فإذا دخل والإمام يخطب فإنه لا يجلس حتى يصلي ركعتين، يوجز فيهما: يخفف فيهما.

الإنصات في خطبة الجمعة
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يجوز الكلام والإمام يخطب إلا الإمام أو من كلمه الإمام]. لا يجوز الكلام والإمام يخطب؛ لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قلت لصاحبك: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت )، فالكلام حال الخطبة محرم ولا يجوز.وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( والإمام يخطب ) يشمل كل أجزاء الخطبة، ما يتعلق بأركانها، وما يتعلق بمستحباتها، هذا هو ظاهر الحديث، وأما تفريق بعض أهل العلم بين الأركان وبين المستحبات فقال: بأنه لا بأس أن يتكلم إذا شرع الإمام في الدعاء هذا فيه نظر؛ لأن هذا الدعاء من الخطبة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( والإمام يخطب ). كذلك أيضاً يؤخذ من الحديث أنه لا بأس أن يتكلم الإنسان إذا جلس الإمام بين الخطبتين؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( والإمام يخطب )، وكذلك أيضاً قبل شروع الخطبة إذا جلس على المنبر، وكذلك أيضاً إذا انتهى من الخطبة قبل إحرامه بالصلاة، الكلام في هذه المواضع الثلاثة كلها جائزة. وقوله: (إلا الإمام) يدل لذلك ما تقدم من حديث جابر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن دخل وجلس: أصليت يا فلان؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين ).وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتكلم في خطبته مع المأمومين مع الصحابة، وأن الصحابة يكلمونه، فعند المصلحة لا بأس أن الإنسان يتكلم مع الإمام إذا لم يسمع الخطبة، إذا لم يفهم شيئاً، لا بأس أن يتكلم مع الإمام، وأن يسأله… إلى آخره، فكلام الإمام مع المأمومين، أو كلام المأمومين مع الإمام هذا كله جائز ولا بأس به، وهو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا ما تقدم.قال: (أو من كلمه الإمام)؛ ويدل لذلك حديث أنس رضي الله تعالى عنه ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قائماً يخطب، فدخل رجل فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل وجاع العيال فادع الله أن يغيثنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا ) إلى آخره، فهذا يدل على أنه لا بأس أن يتكلم الإنسان مع الإمام.

صلاة العيدين
قال المؤلف رحمه الله: [باب صلاة العيدين]. العيدان جمع عيد، والعيد في اللغة: اسم لما يتكرر ويعود مجيئه.وأما في الاصطلاح: فالمراد بهما يوم الفطر ويوم الأضحى. والأعياد في الإسلام ثلاثة لا رابع لها: عيدان في السنة، وعيد في الأسبوع، أما العيدان اللذان في السنة فهما عيد الفطر وعيد الأضحى، وأما عيد الأسبوع فهو يوم الجمعة، ما عدا هذه الثلاثة الأعياد فإنها ليست شرعية، ما عداها من الأعياد التي يحدثها الناس أو يقلد فيها الناس المشركين أعياد مبتدعة ليست أعياداً شرعية.الأصل في صلاة العيدين الكتاب والسنة, كما استنبطها بعض المفسرين من قول الله عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15] ، فقالوا: بأن المراد بالزكاة هنا زكاة الفطر، والمراد بالصلاة هنا صلاة العيد. وأيضاً استنبطها آخرون من قول الله عز وجل: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] ، قالوا: بأن المراد هنا صلاة عيد الأضحى، والنحر المراد به هنا الأضحية.أما بالنسبة للسنة فهذا ظاهر من حديث أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: ( أمرنا أن نخرج العواتق والحيض في العيدين، يشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيض المصلى )، وهذا في الصحيحين، والإجماع قائم على شرعيتها. ‏

حكم صلاة العيدين
قال المؤلف رحمه الله: [وهي فرض كفاية]. هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنها فرض كفاية، والمؤلف رحمه الله ذكر أنها فرض، وأن هذا الفرض على الكفاية. أما الدليل على أنها فرض فقالوا: بأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بها النساء، كما سلف من حديث أم عطية ، فالرجال من باب أولى، وأيضاً الله عز وجل أمر بها في قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] ، وأيضاً داوم النبي عليه الصلاة والسلام عليها والصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقالوا: هذا دليل على أنها فرض. وأما الدليل على أن هذا الفرض على الكفاية وليس على سبيل الأعيان أنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وإذا كانت من شعائر الإسلام الظاهرة, وقام بإظهارها طائفة من الناس سقط الفرض عن الباقي.وعند مالك والشافعي رحمهم الله أنها سنة؛ واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما بعث النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن فقال: ( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة )، فقال: ( خمس صلوات في اليوم والليلة )، فدل على أن الفرض هي هذه الصلوات الخمس. وأيضاً استدلوا بحديث طلحة بن عبيد الله في الصحيحين في قصة الرجل الذي سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن شرائع الإسلام وسأله عن الصلاة فقال: ( خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع ). وعند أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنها واجبة على الأعيان وليست على الكفاية، على يعني أنها فرض عين، يجب على الرجال المكلفين أن يصلوها. والدليل على ذلك هو أمر النبي عليه الصلاة والسلام بإخراج النساء، فإذا كانت المرأة مأمورة فمن باب أولى الرجل، فالأحوط والأقرب ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله، واختاره شيخ الإسلام أنها فرض عين.وأما بالنسبة للنساء لا تجب عليهن صلاة العيد؛ لأنهن لسن من أهل الجمعة والجماعة.

اشتراط الجماعة في صلاة العيدين
قال المؤلف رحمه الله: [إذا قام بها أربعون من أهل المصر سقطت عن سائرهم]. يعني: صلاة العيد كصلاة الجمعة تشترط لها الجماعة، والخلاف في عدد الجماعة في صلاة العيدين كالخلاف في عدد الجماعة في صلاة الجمعة. والمشهور من مذهب أحمد والشافعي رحمهم الله: أن العدد المعتبر في الجمعة أربعون، وعند أبي حنيفة أربعة، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ثلاثة.. إلى آخره، وسبق أن أشرنا أن الأقرب في ذلك ما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.

وقت صلاة العيدين
قال المؤلف رحمه الله: [ووقتها من ارتفاع الشمس إلى الزوال]. وقت صلاة العيدين من ارتفاع الشمس إلى الزوال؛ ويدل لذلك حديث عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنه: ( أنه شهد العيد مع الناس عيد الفطر أو الأضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين التسبيح ). فقوله: ( حين التسبيح ) المراد بذلك حين حل النافلة، والنافلة تباح وتحل إذا طلعت الشمس وارتفعت قيد رمح، فدل ذلك على أن صلاة العيدين تكون في هذا الوقت من ارتفاع الشمس إلى الزوال, يعني آخر الوقت هو الزوال، هذا يدل له ما رواه رجال من الأنصار ( أنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم عشية فأخبروه أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالفطر، وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد )، فهذا دليل على أن وقت صلاة العيدين ينتهي بزوال الشمس.فوقتها وقت الجواز من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى الزوال، والاستحباب سيذكره المؤلف رحمه الله: تعجيل الأضحى وتأخير الفطر.

صلاة العيدين في المصلى
قال المؤلف رحمه الله: [والسنة فعلها في المصلى]. ويدل لذلك حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج في الفطر والأضحى إلى المصلى )، فالسنة أن تفعل في المصلى، العلماء رحمهم الله يقولون: يكره أن تفعل في الجامع إلا إذا كان هناك عذر، إذا كان هناك عذر فلا بأس؛ فإن علياً رضي الله تعالى عنه خلف أبا مسعود يصلي بضعفة الناس يوم العيد، فإذا كان لعذر فإن هذا لا بأس به، أما إذا كان لغير عذر فإنه يكره، العذر مثل كثرة الناس، وضيق المصلى، أو مثلاً وجود أمطار ونحو ذلك فهذا لا بأس به.استثنى العلماء رحمهم الله مكة، قالوا: صلاة العيد تفعل في الحرم، ولا يخرج الناس، وذكر العلماء رحمهم الله العلة من ذلك قالوا: بأن مكة فيها الكعبة والناس يتوجهون إليها، فليس من اللائق أن يترك الناس القبلة خلف ظهورهم وهم مأمورون بالتوجه إليها، وأيضاً شرف البقعة، وأيضاً ثالثاً أنه لم يعهد عن السلف رحمهم الله ترك المسجد، والعلة الرابعة: أن مكة ليست كغيرها من البلاد، قد يكون الخروج خارج البلد فيه شيء من المشقة لكثرة جبالها، وعدم تيسر طرقها… إلى آخره، فيستثنى من ذلك مكة، فإن السنة أن تفعل صلاة العيد في المسجد، ما عدا ذلك فالسنة أن تفعل صلاة العيد في المصلى كما سبق؛ لحديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه.
تعجيل صلاة عيد الأضحى وتأخير صلاة عيد الفطر

قال المؤلف رحمه الله: [وتعجيل الأضحى، وتأخير الفطر]. هذا وقت الاستحباب، السنة بالنسبة لصلاة عيد الفطر أن تؤخر عن أول الوقت، فلا تفعل بعد ارتفاع الشمس مباشرةً، وذلك أنه يستحب في صبح يوم العيد إخراج زكاة الفطر، فلكي يتسع وقت الإخراج للناس يستحب للإمام أن يؤخر الصلاة شيئاً, وأما بالنسبة للأضحى فإنه يستحب للإنسان أن يمسك حتى يأكل من أضحيته. وعلى هذا يستحب للإمام أن يبادر لصلاة الأضحى، وأن يفعلها في أول الوقت لكي يبادر الناس إلى نسكهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-12, 12:42 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [20]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(29)


لصلاة العيدين صفة مخصوصة جاءت بها السنة، وهي أن يبدأ الإمام بالصلاة ركعتين يكبر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً ثم يخطب بعدها، ويستحب التكبير في العيدين والاغتسال وغير ذلك من الآداب.
آداب يوم العيد

الفطر قبل الخروج لصلاة عيد الفطر
تقدم لنا شيء من أحكام صلاة الجمعة، وأتممنا الحديث على هذا الباب، ثم شرعنا في باب صلاة العيدين، وأخذنا شيئاً من أحكام صلاة العيدين، فتكلمنا عن حكم صلاة العيدين، وأن المؤلف رحمه الله يرى أنها فرض على الكفاية، وذكرنا أن الأقرب ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله أنها فرض عين، وأيضاً تكلمنا عن عددها، وكذلك أيضاً عن وقتها، وأن وقتها من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى الزوال، وذكرنا الدليل على ذلك، ثم تكلمنا على قول المؤلف رحمه الله: (والسنة فعلها في المصلى..) إلى آخره. قال المؤلف رحمه الله: [والفطر في الفطر خاصةً قبل الصلاة]. يوم العيد يشتمل على آداب، من هذه الآداب: أن يفطر في الفطر قبل أن يخرج إلى الصلاة، فيستحب للإنسان في يوم عيد الفطر قبل أن يخرج إلى الصلاة أن يفطر، وأن يكون فطره على تمرات؛ لما روى بريدة رضي الله تعالى عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي ).وورد أيضاً في حديث أنس رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر على تمرات، ويأكلهن وتراً ).فيستحب قبل خروج الإنسان إلى مصلى العيد أن يفطر على تمرات على ثلاث أو خمس أو سبع، ويبدأ مشروعية أكل هذه التمرات من طلوع الفجر الثاني إلى الذهاب إلى المصلى، فإذا ذهب الإنسان إلى المصلى انتهت هذه السنة؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم. والحكمة من أكل هذه التمرات والإفطار قبل الخروج هو تحقيق فطر ذلك اليوم وتأكيده أن ذلك اليوم يوم عيد، ويوم العيد يحرم صومه، فلتحقيق فطر ذلك اليوم يشرع أن يأكل قبل أن يخرج تمرات.وأما بالنسبة في عيد يوم الأضحى فالسنة ألا يأكل شيئاً؛ لما تقدم من حديث بريدة رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يطعم يوم النحر حتى يصلي، فإذا صلى وذبح أضحيته أكل منها )؛ لقول الله عز وجل: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]. قال العلماء رحمهم الله: ويستحب أن يأكل من كبدها؛ لأن الكبد أسرع نضوجاً وأسهل هضماً، ( والنبي عليه الصلاة والسلام لما نحر بدنه -قد أهدى مائة بعير- أمر أن يؤخذ من كل بدنة قطعةً من اللحم، فطبخت في قدر فأكل من لحمها وشرب من مرقها ).

الغسل
قال المؤلف رحمه الله: [ويسن أن يغتسل]. أيضاً هذا من الآداب، في يوم العيدين يستحب للإنسان أن يغتسل، والاغتسال ورد فيه حديثان ضعيفان: حديث ابن عباس وحديث الفاكه بن سعد رضي الله تعالى عنهم، لكنه ثابت عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهو ثابت عن ابن عمر والسائب بن يزيد . فنقول: يشرع للإنسان أن يغتسل يوم العيد؛ لورود ذلك عن الصحابة، والغسل يوم العيد يكون من بعد طلوع الفجر الثاني، فإذا طلع الفجر الثاني يوم العيد فإنه يستحب للإنسان أن يغتسل، ولو أن الإنسان وجب عليه الغسل ثم استيقظ بعد الفجر واغتسل فإن هذا كاف.

التنظف
قال المؤلف رحمه الله: [ويتنظف]. المراد بالتنظف أمران: الأمر الأول: أخذ ما أمر الشارع بأخذه شرعاً.والأمر الثاني: أخذ ما تدعو الحاجة إلى أخذه طبعاً.أما الأول فهو أخذ ما أمر الشارع بأخذه فهذا يشمل سنن الفطرة كتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الشارب، هذه الأشياء يقول المؤلف رحمه الله: (يتنظف) يعني: يأخذها في يوم العيد، لكن لم يرد في ذلك سنة.والسنة في مثل هذه الأشياء أن يأخذها الإنسان إذا طالت، فإذا طالت هذه الأشياء مع الإنسان فإنه يستحب له أن يأخذها، سواء كان ذلك في يوم العيد أو في غيره، وعلى هذا ينظر الإنسان في يوم العيد فإن كانت هذه الأشياء طويلة يعني أظافره وشاربه وعانته وإبطه فإنه يأخذ ذلك.وأما الأمر الثاني: قطع ما يشرع قطعه طبعاً أو تدعو الحاجة إلى قطعه طبعاً فهو قطع كل رائحة كريهة، يقطع كل رائحة كريهة؛ لأنه يجتمع بالناس، وإذا كان عنده شيء من الروائح غير الطيبة ربما تأذى الناس بهذه الرائحة.

التطيب
قال المؤلف رحمه الله: [ويتطيب]. أي: يسن أن يتطيب في يوم العيد، وهذا أيضاً لم ترد فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن قال العلماء رحمهم الله: يوم الجمعة يشرع فيه الطيب، وهو يوم عيد، فكذلك أيضاً يوم الأضحى ويوم الفطر كل منهما عيد، فما دام أنه ورد الدليل على التطيب في العيد الأصغر فكذلك أيضاً في العيد الأكبر وهو عيد الفطر وعيد الأضحى.

صفة صلاة العيدين
قال المؤلف رحمه الله: [فإذا حلت الصلاة تقدم الإمام فصلى بهم ركعتين بلا أذان ولا إقامة]. صلاة العيد ركعتان بإجماع المسلمين، ولا يشرع لها الأذان ولا الإقامة؛ لأن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يشرع لصلاة العيد أذان ولا إقامة ولا نداء؛ لأن هذا لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام، والعبادات مبناها على التوقيف. قال المؤلف رحمه الله: [يكبر في الأولى سبعاً بتكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة القيام]. وهذا دليله حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( التكبير في الفطر والأضحى في الأولى سبع وفي الثانية خمس ) أخرجه أبو داود ، وكذلك أيضاً حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وهو ثابت يعني يصح بشواهده. فيستحب للإمام أن يكبر في صلاة العيد في الأولى بسبع، وفي الثانية بخمس؛ كما ثبت ذلك من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، وهذه التكبيرات تسمى بالتكبيرات الزوائد، وهذه التكبيرات كما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله سبع في الأولى مع تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمس بلا تكبيرة القيام، في الأولى سبع ويحسبون تكبيرة الإحرام، في الثانية خمس دون تكبيرة القيام، وهذا قول الإمام أحمد رحمه الله، وأيضاً قال به الإمام مالك ، وأيضاً قال به الشافعي إلا أن الشافعي رحمه الله يقول في الأولى: سبع بلا تكبيرة الإحرام، عند مالك وأحمد : سبع مع تكبيرة الإحرام، وعند الشافعي : سبع بلا تكبيرة الإحرام، لا تحسب تكبيرة الإحرام. وأما الثانية فهم يتفقون على أنها خمس دون تكبيرة القيام، يعني إذا قمت قلت: الله أكبر هذه لا تحسب، ثم تكبر الخمس الزوائد، هذه يتفق عليها الشافعي ومالك وأحمد ، لكن في الأولى منهم من قال: تحسب تكبيرة الإحرام، ومنهم من قال: سبع بلا تكبيرة الإحرام، وقال أبو حنيفة : التكبيرات الزوائد ثلاث أن يكبر ثلاثاً ثلاثاً، والأقرب في ذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.قال المؤلف رحمه الله: [ويرفع يديه مع كل تكبيرة]. يرفع يديه مع كل تكبيرة: الله أكبر، الله أكبر، يرفع يديه مع كل تكبيرة؛ لأن هذا ورد في تكبيرات الجنائز عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كـابن عمر وابن عباس ، وورد أيضاً من حديث ابن عمر مرفوعاً في الدارقطني ، وهذا صححه الشيخ عبد العزيز رحمه الله، فيرفع يديه مع التكبيرات، هذا وارد عن الصحابة، وكذلك أيضاً ورد من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وارد عن الصحابة في تكبيرات الجنائز، وكذلك أيضاً في تكبيرات العيد. قال المؤلف رحمه الله: [ويحمد الله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين]. يعني: بين كل تكبيرتين يقول: الله أكبر ثم يذكر الله يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أو يقول: الله أكبر، اللهم صل على محمد، الحمد لله، يذكر الله بين كل تكبيرتين، وهذا ورد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بإسناد حسن كما أخرجه الطبراني والبيهقي ، وهذا أيضاً قال به الشافعي . وذهب بعض أهل العلم كـأبي حنيفة ومالك أنه لا يذكر بين التكبيرات، أبو حنيفة ومالك قالا: لا يذكر بين التكبيرات، بل يوالي بين التكبيرات، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر يوالي بينها، وقال ابن القيم رحمه الله: يفصل بين كل تكبيرتين بسكتة. وما ذهب إليه المؤلف رحمه الله هو الوارد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.فإذا شرع في صلاة العيدين يبدأ -أولاً- بالاستفتاح يستفتح، ثم بعد الاستفتاح يكبر التكبيرات الزوائد، يكبر أولاً تكبيرة الإحرام ثم يستفتح ثم بعد ذلك يكبر التكبيرات الزوائد، بعد أن ينتهي من التكبيرات الزوائد يستعيذ ويقرأ ويبسمل؛ لأن الاستعاذة والبسملة هذه ليست للصلاة، وإنما هي للقراءة. فالترتيب كما يلي: أولاً يبدأ بتكبيرة الإحرام، ثم بعد ذلك يستفتح، ثم بعد ذلك يكبر التكبيرات الزوائد، ثم بعد ذلك يستعيذ، ثم يبسمل، ثم يقرأ الفاتحة.قال المؤلف رحمه الله: [ثم يقرأ الفاتحة وسورة يجهر فيهما بالقراءة]. قوله: (يجهر فيهما بالقراءة) لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا الصحابة رضي الله تعالى عنهم أخبروا بما قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم في العيد، فدل ذلك على أنهم كانوا يسمعون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: يجهر فيهما بالقراءة.ولم يذكر ما هي هذه السورة التي تقرأ، وإنما قال المؤلف رحمه الله: (يقرأ الفاتحة وسورةً يجهر فيهما بالقراءة)، وقد ورد في ذلك سنتان عن النبي صلى الله عليه وسلم:السنة الأولى: أن يقرأ في الركعة الأولى بـ(سبح)، وفي الركعة الثانية بـ(هل أتاك حديث الغاشية)، وهذا كما ورد من حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه.والسنة الثانية: أن يقرأ في الركعة الأولى بـ (ق)، وفي الركعة الثانية يقرأ بسورة (اقتربت الساعة). هاتان سنتان، وقد سبق أن أشرنا إلى أن السنن التي وردت على وجوه متنوعة يستحب للإنسان أن يقرأ بهذا تارة، وبذاك تارةً أخرى.

الخطبة بعد صلاة العيدين
قال المؤلف رحمه الله: [فإذا سلم خطب خطبتين]. يؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله أن هاتين الخطبتين بعد الصلاة، وهذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، فإن الجمهور يرون أن هاتين الخطبتين بعد الصلاة؛ كما ثبت ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان كانوا يصلون ويخطبون بعد الصلاة. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا بأس أن يخطب قبل الصلاة كالجمعة، قالوا: لوروده عن عمر وعثمان ومعاوية رضي الله تعالى عنهم، لكن الوارد عن عمر وعثمان هذا شاذ لا يثبت، نقول: بأنه شاذ مخالف لما ثبت عنهم في الصحيحين أنهم كانوا يصلون قبل الخطبة في العيد. ففي الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة )، فنقول: ما ورد عنهم رضي الله تعالى عنهم شاذ، والصواب في ذلك أن الخطبة في العيدين تكون بعد الصلاة.قال المؤلف رحمه الله: [فإن كان فطراً حثهم على الصدقة، وبين لهم حكمها]. يقول المؤلف رحمه الله: إن كان العيد عيد الفطر فإنه في الخطبة يبين لهم صدقة الفطر، ويحثهم عليها، يعني يحثهم على صدقة الفطر ويبينها لهم. وهذا فيه نظر؛ لأن صدقة الفطر انتهى وقتها، صدقة الفطر وقتها إلى الصلاة، ولهذا جاء في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات )، فهذا يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يؤخر زكاة الفطر إلى ما بعد صلاة العيد، فإن تعمد ذلك فإنها لا تقبل منه ويكون آثماً، لكن إن كان معذوراً كأن ينسى إخراجها، أو يوكل أحداً لكي يخرجها ولم يخرجها فإنه يخرجها. وعلى هذا يكون كلام المؤلف رحمه الله فيه نظر، يقول: يحثهم على الصدقة يعني صدقة الفطر ويبين لهم حكمها هذا فيه نظر؛ لأن وقت الزكاة انتهى، فكونه يحثهم على ذلك هذا يتكلم عن شيء قد مضى حكمه، لكن المؤلف رحمه الله ذكر ذلك؛ لأن الحنابلة رحمهم الله يرون أن زكاة الفطر يمتد وقتها إلى غروب الشمس، يعني يكره أن تؤخرها إلى بعد الصلاة، ويجوز أن تدفعها في سائر اليوم إلى غروب الشمس، فإن كان بعد الغروب فهذا يحرم، والصواب أنه يحرم تأخيرها إلى ما بعد الصلاة.قال المؤلف رحمه الله: [وإن كان أضحى بين لهم حكم الأضحية]. نقول: هذا صحيح، في الأضحى تبين لهم حكم الأضحية، ولا يقتصر على ذلك، بل يبين للناس ما يحتاجون إليه، يعني يتلمس حاجات الناس وما يحتاجون إلى التنبيه عليه ونحو ذلك فيبينه لهم، ويبين أيضاً في خطبته أحكام الأضحية؛ لأن الناس مقبلون على ذبح الأضاحي، وقد يجهلون شيئاً من أحكامها.

حكم التكبيرات الزوائد والخطبتان في صلاة العيد
قال المؤلف رحمه الله: [والتكبيرات الزوائد والخطبتان سنة]. التكبيرات الزوائد سنة، يعني لو أن الإنسان كبر للإحرام ولم يكبر التكبيرات الزوائد، فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس به؛ لأن هذه التكبيرات الزوائد سنة. والدليل على أنها سنة أنها زائدة عن الصلاة العادية. كذلك أيضاً يقول المؤلف رحمه الله: (الخطبتان سنة)؛ والدليل على أنها سنة قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في أبي داود : ( إنا نخطب، ومن أحب أن يجلس فليجلس، ومن أحب أن ينصرف فلينصرف )، فعدم وجوب الاستماع لهما يدل على عدم وجوبهما. فهم يقولون: لو كانت خطبة العيدين واجبة لوجب على المأمومين أن يستمعوا لها، عدم وجوب الاستماع يدل على عدم وجوب خطبة العيد، وهذا الاستدلال فيه نظر. فنقول: هذا الحديث دل على أنه لا يجب الاستماع إلى خطبة العيد، لا يجب على الإنسان أن يجلس، إن أحب أن يجلس فليجلس، وإن أحب أن ينصرف فلينصرف، لكن بالنسبة للإمام فإنه يخطب بالناس، ولا نقول: بأن الخطبة في حقه سنة، بل هو مأمور بالخطبة؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام داوم على ذلك، وكون النبي عليه الصلاة والسلام داوم على ذلك يدل على أن الخطبة مأمور بها. فنقول: الأقرب في ذلك أن الإمام يجب عليه أن يخطب، فإن جلس أحد معه واستمع الحمد لله وهذا هو الظاهر، وإن لم يجلس أحد فإنه يسقط عنه الوجوب.وقوله قبل ذلك: [فإذا سلم خطب خطبتين]. يؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله أن العيد له خطبتان وليس خطبة واحدة، تقدم لنا أن الاستسقاء له خطبة واحدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب في الاستسقاء إلا خطبة واحدة، بالنسبة للعيدين قالوا: بأن لها خطبتين؛ بدليل حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم فطر أو أضحى فخطب خطبةً قائماً، ثم قعد قعدة، ثم قام )، فقالوا: بأن هذا يدل على الخطبتين؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام خطب قائماً، ثم قعد، ثم قام، لكن هذا الحديث ضعيف، لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمتأمل للسنة الصحيحة يظهر له أنه يشرع خطبة واحدة، هذا الذي يظهر من السنة، النبي عليه الصلاة والسلام خطب خطبة واحدة، خطب الرجال خطبة واحدة ثم بعد ذلك ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النساء وخطبهن وذكرهن.

التنفل قبل صلاة العيد وبعدها
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها في موضعها]. يقول المؤلف رحمه الله: إنه لا يتنفل قبل الصلاة ولا بعدها في موضعها، يعني: يأتي ويجلس ولا يتنفل، ثم بعد ذلك إذا انتهت الصلاة فإنه يخرج ولا يتنفل في الموضع؛ ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما )، وهذا ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله أنه يكره للإنسان أن يتنفل قبل الصلاة أو بعدها في موضعه. وعند الشافعي رحمه الله أن هذا لا يكره، أنه يجوز أن يتنفل قبل الصلاة وبعد الصلاة، هذا رأي الشافعي رحمه الله قال: يستثنى من ذلك الإمام، فالإمام ليس له ذلك، أما من عداه فإن له ذلك. وآثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم الواردة في هذه المسألة مختلفة، وإذا كان كذلك فإننا نرجع إلى الكتاب والسنة، عند التنازع يكون الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والكتاب والسنة يدلان على أن الصلاة فعل خير، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لمن سأله مرافقته في الجنة: ( أعني على نفسك بكثرة السجود )، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة، وحط عنك بها خطيئة ). وعلى هذا نقول: الإنسان إذا أتى بصلاة العيد لا يخلو من أمرين: الأمر الأول: أن تكون الصلاة في المصلى، فنقول: يجلس ولا يصلي؛ لأن المصلى لا يأخذ حكم المسجد فلا تشرع له تحية المسجد، نقول: هذا لا تشرع له، وإن كان وقت النهي لا يزال باقياً فإنه لا يجوز له أن يتنفل، إن كان وقت النهي لا يزال باقياً فإن التنفل لا يجوز له، وإن كان وقت النهي قد زال نقول: الأفضل أن يأتي وأن يجلس وألا يصلي، وأن يشتغل بعبادة الوقت التكبير، يشتغل بالتكبير عبادة الوقت، ولو صلى فإن هذا لا بأس به ولا يكره.فتلخص لنا: أنه إن كانت الصلاة في المصلى فإن كان وقت النهي لا يزال باقياً فلا يجوز له أن يصلي مطلقاً حتى التحية؛ لأن المصلي ليس له تحية، وإن كان وقت النهي قد زال طلعت الشمس وارتفعت قيد رمح فلا بأس أن يتنفل، يجوز لكن الأفضل أن يشتغل بالتكبير بعبادة الوقت.الأمر الثاني: أن تكون الصلاة في المسجد، فإن كانت الصلاة في المسجد فنقول: أما تحية المسجد فمشروعة مطلقاً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي قتادة : ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )، فنقول: تحية المسجد مشروعة مطلقاً سواء كان فيه وقت نهي أو لم يكن فيه وقت نهي، مشروعة مطلقة، أما التنفل بغير تحية المسجد فنقول كما قلنا في القسم الأول: إن كان وقت النهي لا يزال باقياً فلا يتنفل، وإن كان وقت النهي قد زال فله أن يتنفل، لكن الأفضل أن يشتغل بعبادة الوقت وهي التكبير، هذا فيما يتعلق بالتنفل قبل الصلاة. أما التنفل بعد الصلاة فجائز، لكن الأفضل أيضاً ألا يتنفل في المصلى وإنما يتنفل في بيته؛ كما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام، فنقول: لا بأس أن الإنسان يتنفل في المصلى أو في المسجد بعد نهاية الصلاة، لكن الأفضل أن يترك ذلك حتى يأتي بيته فيتنفل فيه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ).

حكم من أدرك الإمام قبل سلامه في صلاة العيد
قال المؤلف رحمه الله: [ومن أدرك الإمام قبل سلامه أتمها على صفتها]. يؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله أن صلاة العيد تدرك بإدراك تكبيرة الإحرام، فإذا كبر للإحرام قبل سلام الإمام التسليمة الأولى أدرك صلاة العيد، فيقضيها على صفتها بالتكبيرات الزوائد. والصواب في هذه المسألة: أن صلاة العيد كغيرها من الصلوات، وأنها لا تدرك إلا بركعة؛ لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، ويدخل في هذا صلاة العيد. والصواب: أنه إذا لم يدرك ركعة نقول: بأن صلاة العيد قد فاتت، فلا يقضيها على صفتها، إن جاء والإمام قد رفع من الركوع في الركعة الثانية نقول: بأن الصلاة قد فاتت، فتصلي ركعتين كسائر النوافل، وأما صلاة العيد فإنها قد فاتت.

قضاء صلاة العيد
قال المؤلف رحمه الله: [ومن فاتته فلا قضاء عليه].يقول المؤلف رحمه الله: من فاتته صلاة العيد فإنه لا يقضي.والراجح أنك إذا جئت والإمام قد سلم فإنك تقضي الصلاة، وبهذا قال الشافعي . واستدل على ذلك بحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ). وأيضاً: ورد عن ابن مسعود أنه قال: ( من فاته العيد فليصل بعدها أربعاً ) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي ، وإسناده صحيح.وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه إذا فاتته صلاة العيد أنه لا يتمكن من قضائها، وهذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأن الإنسان إذا فاتته صلاة العيد فإنه لا يتمكن منها؛ ويدل لذلك حديث أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: ( أمرنا أن نخرج العواتق والحيض في العيدين يشهدن الخير ودعوة المسلمين ). يؤخذ من هذا الحديث أن صلاة العيد لا تشرع إلا على هذا الوجه، وأنها لا تشرع على غير هذا الوجه، إذ لو كانت مشروعة لشرع للمرأة أن تصليها في بيتها، ولم تؤمر بالخروج، لو كانت مشروعةً لشرع للمرأة أن تصلي في البيت ركعتين كسائر صلواتها. لكن هذا يدل على أنها مشروعة على هذا الوجه وهذا الاجتماع وهذه الهيئة، وأن من لم يصل على هذا الوجه والاجتماع والهيئة فإنه لا يصليها، ولهذا أمرت النساء أن تخرج من أجل أن تدرك هذا الخير، تدرك دعوة المسلمين، وهذا القول هو الأقرب، وأن الإنسان إذا فاتته صلاة العيد فإنه لا يتمكن من قضائها.قال المؤلف رحمه الله: [فإن أحب صلاتها تطوعاً إن شاء ركعتين، وإن شاء أربعاً]. إن أحب أن يصلي ركعتين؛ لأن التكبيرات الزوائد سنة فله أن يتركها، وإن أحب أن يصليها على صفتها؛ لأن القضاء يحكي الأداء؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته صلاة الفجر صنع كما يصنع كل يوم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-12, 12:48 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [21]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(30)

للميت أحكام في الشريعة، فقد اهتمت الشريعة بالإنسان حياً وميتاً، وقد بين العلماء ما يشرع فعله عند المحتضر، ثم ما يفعل بعد موته من تغميض وتجهيز له قبل دفنه، وذلك تغسيله وتكفينه، ثم الصلاة عليه والإسراع به إلى المقابر لدفنه.

التكبير في العيدين
سبق لنا في الدرس الماضي شيء من أحكام صلاة العيدين، وذكرنا من ذلك أن السنة فعل صلاة العيدين في المصلى، وأيضاً تطرقنا لوقت استحباب فعل صلاة العيدين، كذلك أيضاً ذكرنا شيئاً من الآداب التي تشرع في يوم العيد، فمن ذلك أن يغتسل، وأن يتنظف، وأن يلبس أحسن ثيابه، وأن يطعم قبل أن يخرج في عيد الفطر، وأن يمسك في عيد الأضحى.. إلى آخره. وتكلمنا أيضاً عن صفة صلاة العيدين، وما يتعلق بالتكبيرات الزوائد، وهل يشرع أن يذكر شيئاً بين التكبيرات أو لا يشرع.. إلى آخره، وهل تقضى صلاة العيد أو لا تقضى صلاة العيد، وما يتعلق بخطبة صلاة العيد.. إلى آخره، ثم بعد ذلك توقفنا على التكبير في العيدين. قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب التكبير في ليلتي العيدين، ويكبر في الأضحى عقيب الفرائض في الجماعة]. التكبير ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: التكبير في عيد الفطر.القسم الثاني: التكبير في عيد الأضحى.

التكبير في عيد الفطر
أما التكبير في عيد الفطر فليس فيه إلا تكبير مطلق، وليس فيه مقيد، يعني: ليس فيه تكبير يكون أدبار الصلوات، وإنما هو تكبير مطلق، فيكبر الناس في الأسواق، في المساجد، في البيوت والطرقات.. إلى آخره. ويبدأ وقت هذا التكبير من بعد غروب الشمس من آخر يوم من أيام رمضان، وينتهي كما قال بعض العلماء بالفراغ من الخطبة، كما هو مذهب أحمد ، يعني يستمر هذا التكبير إلى أن تنتهي خطبة صلاة العيد.وقال بعض العلماء: بمجيء الإمام، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يكبر إلى أن يجلس الإمام، وقال بعض العلماء: بالإحرام بالصلاة. والأمر في هذا واسع إن شاء الله؛ والدليل على ذلك قول الله عز وجل: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185] ، وإكمال العدة يكون بغروب شمس آخر يوم من أيام رمضان، فإذا غربت الشمس من آخر يوم من أيام رمضان فقد أكمل الإنسان العدة، ثم قال الله عز وجل: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185] .وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا غدا إلى مصلى العيد غدا مكبراً إلى أن يجلس الإمام، فيستحب التكبير في تلك الليلة، وحين الغدو إلى صلاة العيد، وأن يجهر الإنسان بذلك، وأما المرأة فتخفي لئلا يظهر صوتها للأجانب، لكن إذا كانت في بيتها وعند محارمها فإن هذا لا بأس به، هذا بالنسبة للتكبير في عيد الفطر.

التكبير في عيد الأضحى
أما التكبير في عيد الأضحى فينقسم إلى قسمين:القسم الأول: تكبير مطلق.والقسم الثاني: تكبير مقيد.أما التكبير المطلق فيبدأ من أول عشر ذي الحجة، والخلاف في وقت انتهائه كالخلاف في التكبير المطلق في عيد الفطر، فالمشهور عند الحنابلة رحمهم الله أنه ينتهي بالفراغ من الخطبة، وقيل: بمجيء الإمام، وقيل: بإحرام الإمام بالصلاة.والصواب: أن التكبير المطلق يستمر إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق. فعندنا: التكبير المطلق، ويبدأ من أول العشر الأول من شهر ذي الحجة، ويستمر على المذهب إلى فراغ خطبة عيد الأضحى، وعلى الصواب الذي اختاره ابن حزم رحمه الله أنه يستمر إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق، وعلى هذا تكون أيام التكبير المطلق في عيد الأضحى ثلاثة عشر يوماً، وهذا هو الصواب؛ ويدل لذلك حديث نبيشة الهذلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل ) أخرجه مسلم ، وهذا يدل على أن أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله كثيراً في التكبير. وكذلك أيضاً ما ورد في البخاري أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يكبر في فسطاطه بمنى وهذا في أيام التشريق، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، وأهل السوق فيكبرون، وترتج منى تكبيراً، عمر يكبر في خيمته. وكذلك أيضاً ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أنه يكبر في فسطاطه وفي ممشاه في مجلسه، وهذا أيضاً أخرجه البخاري معلقاً، وأيضاً التكبير أيام العشر ورد عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا يخرجان في أيام العشر فيكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما.فهذا يدل على أن أيام العشر يشرع فيها التكبير. وقلنا: الصواب أن التكبير يبدأ من أول عشر ذي الحجة إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق؛ ويدل لذلك أيضاً أنه يستمر إلى غروب الشمس من آخر أيام التشريق قول الله عز وجل: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203]، والأيام المعدودات هي أيام التشريق.أما بالنسبة للتكبير المقيد فإنه يبدأ من بعد صلاة الفجر من يوم عرفة, ويستمر إلى ما بعد صلاة العصر من آخر يوم من أيام التشريق، وهذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كـعمر ، وابن عباس ، وعلي ، وابن مسعود ، وهي ثابتة عنهم بأسانيد صحيحة، صححها الحاكم وابن المنذر والبيهقي وغيرهم من أهل العلم، وقد ورد في ذلك حديثان ضعيفان، لكن هذا ثابت عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وعلى هذا يجتمع التكبير المطلق والمقيد في عيد الأضحى من اليوم التاسع؛ لأن التكبير المطلق يبدأ من أول الشهر ويستمر إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق، التكبير المقيد يبدأ من اليوم التاسع من بعد صلاة الفجر من يوم عرفة إلى ما بعد صلاة العصر من آخر يوم من أيام التشريق.يقول المؤلف رحمه الله: (ويكبر في الأضحى عقيب الفرائض في الجماعة). يقول المؤلف رحمه الله: يكبر في الجماعة، وعلى هذا لو أن الإنسان صلى وحده ولم يصل في جماعة فإنه لا يكبر. قالوا ويدل لذلك: بأن هذا هو الوارد عن ابن عمر رضي الله تعالى، فإن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان إذا صلى وحده لا يكبر، وهذا أخرجه ابن المنذر وإسناده صحيح، وكذلك أيضاً قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إنما التكبير على من صلى في جماعة، وهذا أيضاً أخرجه ابن المنذر وإسناده صحيح.وقال بعض العلماء: الأمر في هذا واسع للعمومات، سواء صلى في جماعة، أو صلى وحده أو قضاءً ونحو ذلك؛ لقول الله عز وجل: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] .وكذلك أيضاً حديث نبيشة الهذلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل ).

وقت الشروع في التكبير بعد الصلاة
متى يكبر؟ قال المؤلف: يكبر عقيب الفرائض، وذكرنا كلام أهل العلم حول هذه المسألة، لكن عقيب الفريضة متى يشرع في التكبير؟ قال العلماء: إذا استغفر ثلاثاً وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، شرع في التكبير, فيستغفر ثلاثاً يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ثم يقول بعد ذلك: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم يشرع في التكبير، يكبر ما شاء الله، ثم بعد ذلك يسبح.

صفة التكبير
قال المؤلف رحمه الله: [وصفة التكبير شفعاً: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد]. يعني: يكبر شفعاً، وقال الشافعي رحمه الله: يكبر وتراً، يعني تكبر شفعاً: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، أو أنه يكبر وتراً كما اختاره الشافعي رحمه الله الله أكبر ثلاثاً: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. والإمام مالك رحمه الله يقول: وتراً وشفعاً، فالأمر في هذا واسع، إن كبرت شفعاً أو وتراً نقول: الأمر في هذا واسع.

الجنائز
قال المؤلف رحمه الله: [كتاب الجنائز].الجنائز جمع جِنازة، ويقال: جَنازة، يقال: جِنازة بالكسر، ويقال: جَنازة بالفتح اسم للميت أو للنعش عليه الميت، وقال بعض العلماء: الجَنازة بالفتح اسم للميت، والجِنازة بالكسر اسم للنعش.كتاب الجنائز ذكره العلماء رحمهم الله مع كتاب الصلاة؛ لأن أهم شيء يفعل بالميت هو الصلاة عليه، وإلا فإن العلماء رحمهم الله يذكرون أحكام الجنائز من التغسيل، والتكفين، وكذلك أيضاً الحمل، والدفن، والصلاة.. إلى آخره. وإنما ذكروا كتاب الجنائز في باب الصلاة وإن كان حقه أن يكون بين كتاب الوصايا والفرائض، يعني بعد كتاب الوصايا يكون كتاب الجنائز، ثم كتاب الفرائض، هكذا الترتيب، الوصية تكون قبل الموت، ثم بعد ذلك أحكام الجنائز بعد الموت، ثم الفرائض مال الإنسان بعد أن يموت هذا محله، لكن العلماء رحمهم الله درجوا على أن يذكروه في كتاب الصلاة؛ لأن أهم شيء يفعل بالميت هو الصلاة. ‏
ما يُفعل بعد موت الميت تغميض عيني الميت إذا تيقن موته
قال المؤلف رحمه الله: [وإذا تيقن موته غمضت عيناه]. ذكر المؤلف رحمه الله شيئاً من الآداب التي تكون بعد الموت، بعد قبض الروح، قال: (وإذا تيقن موته غمضت عيناه)، والدليل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها ( أن النبي صلى الله عليه وسلم غمض أبا سلمة لما مات ).وقوله: (تيقن موته) وذلك بمعرفة علامات الموت، والعلماء رحمهم الله يذكرون علامات للموت، والأطباء لهم علامات أيضاً تدل على موته، فالعلماء يقولون: من علاماته: انخساف صدغيه، الصدغان تجد أنها تنخسف تدخل، وانفصال كفيه، تجد أن كفيه ترتخي، وميل أنفه تجد أن أنفه يميل، وكذلك أيضاً انفصال قدميه تجد أن قدميه تسترخي… إلى آخره، هذه علامات يذكرها الفقهاء رحمهم الله، والأطباء الآن في الوقت الحاضر لهم علامات بسبب ترقي الطب يعرفون بها موت هذا الشخص.

شد لحيي الميت وجعل شيء على بطنه وتسجيته
قال المؤلف رحمه الله: [وشد لحياه]. هذا الأدب الثاني، الأدب الأول: أنك تغمض عينيه.الأدب الثاني: أنك تشد لحييه، فتأتي بخرقة وتربط لحييه من فوق الرأس إلى ما أسفل من اللحيين، وهذا ذكر العلماء رحمهم الله له دليلين: الدليل الأول: قالوا: هذا ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال لابنه عبد الله : ( إذا أنا مت فضع يدك اليمنى على جبهتي، ويدك اليسرى تحت ذقني وأغمضني )، هكذا أورده ابن قدامة رحمه الله في المغني عن عمر ، ولم يسنده لأحد. أيضاً من النظر قالوا: إن كونه لا تشد لحياه يؤدي هذا إلى أن يبقى الفم مفتوحاً فيكون وسيلةً إلى دخول الهوام، أو قبح المنظر، فكان من الأفضل أن تشد لحياه. قال المؤلف رحمه الله: [وجعل على بطنه مرآة]. هذا الأدب الثالث، إذا مات أن تجعل على بطنه مرآة؛ واستدلوا على ذلك بما يروى عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: ضعوا على بطنه شيئاً من الحديد. وهذا أخرجه البيهقي وهو ضعيف لا يثبت، ولهذا قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: ليس في وضع الحديد على بطن الميت سنة تتبع، فما دام أنه لا يثبت فنقول: ليس من السنة أن يوضع على بطنه شيء.أيضاً من الآداب: أن يسجى الميت، أن يغطى الميت؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة في الصحيحين: ( لما مات سجي -غطي- ببرد حبرة )، فيستحب أن يغطى بدن الميت.والعلماء رحمهم الله يذكرون بأن الميت إذا مات أصبح كله عورة، وعورته هذه تكون عورتين: العورة الأولى: مخففة.والعورة الثانية: مغلظة. العورة المغلظة ما بين السرة إلى الركبة، وأما العورة المخففة فكله يكون عورةً، يعني يستر عن الأنظار. بل يذكر العلماء رحمهم الله من الآداب: أن هيئة الميت كلها تستر عن الأنظار، يعني لا تكون في مكان عام يرده كل الناس أو أكثر الناس، وإنما يحفظ في مكان خاص. فمن الآداب: أن يسجى كما سجي النبي صلى الله عليه وسلم ببرد حبرة كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.
غسل الميت وما يتصل به صفة غسل الميت
قال المؤلف رحمه الله: [فإذا أخذ في غسله ستر عورته، ثم يعصر بطنه عصراً رفيقاً]. العلماء يقولون: يستحب وهذا من الآداب أنه إذا مات يعصر بطنه عصراً رقيقاً خفيفاً، وذلك بأن يضع رأسه فوق يده اليسرى، ثم يرفعه إلى قرب جلوسه، ثم يمر يده على بطنه. والعلة في ذلك قالوا: لكي يخرج ما كان متهيئاً للخروج، فإذا كان في بطنه شيء متهيئ للخروج فإنه إذا فعل ذلك يخرج، ولا شك أن الإنسان إذا مات يصبح لا يستمسك وترتخي أعصابه، فإذا كان هناك شيء متهيئ للخروج فإنه يمر يده على بطنه لكي يخرج. لكن قال ابن المنذر رحمه الله: ليس في عصر بطن الميت سنة تتبع، فما دام أنه لم يرد شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فنقول: لا يستحب ذلك؛ لأن العبادات توقيفية.قال المؤلف رحمه الله: [ثم يلف على يده خرقةً فينجيه بها]. من الآداب: أن المغسل يحضر كل ما يحتاج إليه في تغسيله، فيحضر لفافتين، العلماء يقولون: لفافتين: لفافة للفرجين، ولفافة لبقية البدن، والآن ينوب عن هذه اللفائف القفازات، يحضر الآن قفازات للفرجين، وقفازات لبقية البدن، وكذلك أيضاً يحضر الكافور، والكافور هذا نوع من الطيب وسنذكر إن شاء الله شيئاً من فوائده، ويحضر الحنوط، والحنوط أخلاط من الطيب تستعمل للميت خاصة، ويحضر السدر، والسدر هو ورق النبق المطحون، ويحضر الأكفان إلى آخره، فيحضر هذه الأشياء هذا من الآداب.قال: (ثم يلف على يده خرقة فينجيه بها). يجرده من ملابسه؛ ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ( لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا هل نجرده كما نجرد موتانا؟ )، فدل ذلك على أن الموتى يجردون، لكن كما أسلفت يستر، وعورته عورتان: عورة مغلظة ما بين السرة إلى الركبة، وعورة مخففة هي كل البدن، وعلى هذا يستره المغسل، ويدخل يديه تحت الستر ويبدأ بتغسيله.قال المؤلف رحمه الله: [ولا يمس بدنه]. يعني كما قلنا: يحضر قفازات للفرجين، يبدأ أولاً بتنجيته، ينجيه يغسل فرجيه، هذه القفازات خاصة بالفرجين، ثم بعد ذلك يلبس قفازات لبقية البدن، فلا يمس بقية بدنه إلا من وراء حائل، بل يكون قد ستره، ويدخل يديه ويدخل الماء من وراء هذا الحائل؛ لأنه كما أسلفت بعد موته أصبح الميت كله عورة مخففة.قال المؤلف رحمه الله: [ثم يوضئه]. ينوي ويسمي ثم يوضئه كوضوء الصلاة؛ ويدل لذلك حديث أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للاتي غسلن ابنته: ( اغسلنها ثلاثاً أو خمساً.. إلى آخره إلى أن قال: وابدأن بمواضع الوضوء منها )، فدل ذلك على أن السنة أن يوضأ.قال العلماء رحمهم الله: ولا يدخل الماء في فيه ولا أنفه؛ لئلا يحرك ما في بطنه، بل يأتي بخرقة ويلفها على إصبعه، ثم بعد ذلك يبلها ثم يمسح أسنانه، ثم يأتي بخرقة أخرى ويلفها على إصبعه ثم يمسح بها داخل أنفه، وينظف داخل أنفه، ولا يدخل الماء في أنفه ولا في فمه؛ لأن إدخال الماء في الأنف أو الفم يؤدي إلى تحريك ما في داخل البطن، ثم بعد ذلك يوضئه كما يتوضأ الحي، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح رأسه، ويغسل رجليه.قال المؤلف رحمه الله: [ثم يغسل رأسه ولحيته بماء وسدر]. يكون عنده الماء ثم يأتي بالسدر، وقلنا: بأن السدر هو ورق النبق المطحون، فيضعه على الماء، ثم يخلطه بأن يقوم بضربه، فإذا ضرب هذا السدر بالماء ستظهر له رغوة، هذه الرغوة يغسل بها رأسه ولحيته، وأما بالنسبة للثفل الباقي فإنه يغسل به بقية لبدن، فيأخذ هذه الرغوة ويغسل بها رأسه وكذلك أيضاً اللحية. والعلة في أنه يغسل بالرغوة الرأس واللحية أنه لو غسل رأسه ولحيته بالثفل لأدى إلى بقاء أجزاء من السدر في الشعر، فالثفل يكون فيه حبيبات من السدر أو قطع من السدر تبقى في الشعر، فقالوا: بأنه لا يغسل بالثفل الشعر، وإنما يغسل الشعر بهذه الرغوة التي تظهر بعدما يقوم بضرب السدر بهذا الماء.قال المؤلف رحمه الله: [ثم شقه الأيمن، ثم الأيسر، ثم يغسله كذلك مرةً ثانية وثالثة]. ثم بعد ذلك يأخذ الثفل ويغسل به الجانب الأيمن، ثم بعد ذلك الجانب الأيسر؛ لحديث أم عطية أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها )، فيبدأ بعد أن يوضئه بالشق الأيمن ثم بعد ذلك الشق الأيسر، يفعل هذا مرةً، ثم بعد ذلك مرة ثانية، ثم بعد ذلك مرة ثالثة، يعيد الغسل في كل مرة إلا الوضوء، الوضوء لا يوضئه إلا مرةً واحدة فقط. أما بالنسبة للتغسيل فإنه يغسله ثلاث مرات، هذا هو السنة، جمهور أهل العلم قالوا: يكره أن يقتصر على أقل من ثلاث، يعني يقتصر على واحدة أو اثنتين هذا مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك )، فالسنة أن يغسله ثلاثاً، وأما غسله أقل من ثلاث فهذا مكروه، وعند الظاهرية يحرم أن يغسله أقل من ثلاث غسلات.إذا احتاج له أن يزيد إذا لم ينق يعني لو كان هذا الميت عليه أوساخ مثلاً طال مرضه ولحقه الضنى وتراكمت عليه الأوساخ ويحتاج إلى زيادة على ثلاث فإنه يزيد، نقول للغاسل: زد اغسل رابعة وجوباً، ما دام أنه لم ينق ولم يتنظف فإنه يزيد حتى ينقى ويتنظف، زد رابعة وجوباً، ثم بعد ذلك زد خامسة استحباباً، لكي يبقى على وتر، ما أنقى بخمس فإنه يزيد سادسة وجوباً، ثم بعد ذلك يزيد سابعةً استحباباً، ما أنقى بسبع أيضاً يزيد ثامنة وجوباً، ثم تاسعة استحباباً لكي يبقى على وتر. ودليل ذلك ما أسلفنا من حديث أم عطية رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك ).قال المؤلف رحمه الله: [يمر في كل مرة يده، فإذا خرج منه شيء غسله وسده بقطن]. يقول المؤلف رحمه الله: في كل مرة يمر يده على بطنه، يعني: في كل مرة يمسح بطنه، كل مرة يغسله يمسح بطنه، لماذا يمسح البطن؟ قالوا: لكي يخرج ما كان متهيئاً للخروج، وهذا فيه نظر كما تقدم، وكما نقلنا كلام ابن المنذر رحمه الله, وأنه ليس في عصر بطن الميت سنة تتبع.

خروج شيء من بطن الميت بعد تغسيله
قال المؤلف رحمه الله: [فإن خرج منه شيء غسله وسده بقطن، فإن لم يستمسك فبطين حر، ويعيد وضوءه]. إن خرج من الميت شيء يعني خرج منه نجاسة فما الحكم هل يعيد الوضوء؟ هل يعيد الغسل؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنهم يقسمون ذلك إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يخرج بعد أن يكفن، بعد أن يكفن وتلف عليه ثياب الأكفان يخرج منه نجاسة هذا لا ينظر إليه، ولا تفك الأكفان للمشقة؛ ولأن هذا لا يؤمن عوده، قد نفك الأكفان وننظف ثم نعيد التكفين ثم يخرج… إلى آخره، فنقول: بعد الأكفان هذا لا ينظر إليه.القسم الثاني: أن يكون خروج الخارج قبل الغسلة السابعة، فقالوا: يجب أن يعاد وضوءه وغسله.القسم الثالث: أن يكون خروج الخارج بعد الغسلة السابعة، فقالوا: يجب الوضوء دون الغسل. فيقسمون خروج الخارج ثلاثة أقسام: إن كان بعد الأكفان لا ينظر إليه، إن كان قبل السابعة يجب أن نعيد الوضوء والغسل، إن كان بعد السابعة وقبل التكفين يجب أن نعيد الوضوء دون الغسل مع تغسيل المحل.وعند جمهور أهل العلم أنه لا يجب لا وضوء ولا غسل، وإنما يغسل المحل وينظف، ما عدا ذلك لا يجب، فإن كان بعد التكفين لا ينظر إليه، إن كان قبل أن يكفن خرج منه شيء نقول: لا حاجة إلى أن يعاد الوضوء، ولا أن يعاد الغسل، وإنما ننظف المحل، المحل الذي خرج منه هذه النجاسة نقوم بتنظيفه ثم بعد ذلك محل خروج الخارج يسد بقطن أو بأي شيء يمنع الخارج أو بطين حر… إلى آخره. أما بالنسبة لإعادة الوضوء أو إعادة الغسل الصواب أنه لا حاجة لذلك؛ لأن تغسيل الميت ليس عن حدث، توضئته أيضاً ليس عن حدث، تغسيل الميت إنما هو للتنظيف والتطهير. ولهذا سيأتينا إن شاء الله أنه لا مدخل للتيمم في تغسيل الميت، المقصود من تغسيل الميت تنظيفه وتطهيره، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام -كما في حديث ابن عباس - في الذي وقصته راحلته: ( اغسلوه بماء وسدر )، قال: ( سدر ) لأن السدر فيه تنظيف، وقال للاتي غسلن ابنته: ( اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك )؛ لأن المقصود من ذلك التطهير والتنظيف. فالصواب في ذلك: أنه لا حاجة إلى أن يوضأ أو أن يعاد غسله مرةً أخرى، وإنما إذا خرج منه شيء يغسل المحل ويسد الخارج، هذا الخارج نسده بقطن أو بأي شيء آخر كما أشار المؤلف.

تنشيف الميت بعد تغسيله
قال المؤلف رحمه الله: [وإن لم ينق بثلاث زاد إلى خمس أو إلى سبع ثم ينشفه بثوب]. إذا لم ينق بثلاث يقول المؤلف: إذا كانت عليه أوساخ ولم ينق بثلاث يجب أن يزيد رابعةً ثم خامسةً استحباباً، فإذا لم ينق زاد سادسةً وجوباً ثم سابعةً استحباباً.. وهكذا؛ ودليل ذلك ما تقدم من حديث أم عطية .قال: (ثم ينشفه بثوب). ينشفه بثوب أو بمنشفة وغير ذلك، والحكمة في ذلك لئلا تبتل الأكفان.أيضاً يجعل المغسل في الغسلة الأخيرة كافوراً، والكافور هذا نوع من الطيب معروف، والحكمة من وضع الكافور أولاً: أنه يطيب رائحة الميت، ويبعد عنه الهوام، وثانياً: أنه يصلب بدن الميت.

تطييب الميت وتجمير أكفانه
قال المؤلف رحمه الله: [ويجعل الطيب في مغابنه ومواضع سجوده، وإن طيبه كله كان حسناً]. بعد أن ينتهي من تغسيله يطيبه، الميت يعد له طيب يقال له: الحنوط؛ ولهذا في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الذي وقصته راحلته قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تحنطوه )، والحنوط يستعمل في مواضع من الميت: الموضع الأول: في منافذه، فيؤخذ من الحنوط ويوضع في قطن يوضع على منافذ الميت: العينين، والمنخرين، والأذنين، والدبر، هذه منافذ الميت، تأخذ قطن وتضع فيها شيء من الحنوط تضعه على عينيه، وفي أنفه، وعلى فمه، وعلى أذنيه، وأيضاً في دبره، هذا الموضع الأول. الموضع الثاني: مواضع السجود، فيؤخذ من الحنوط ويوضع في قطن وتوضع هذه القطن على مواضع سجوده: الجبهة والأنف واليدين والركبتين والرجلين، مواضع السجود لشرفها.الموضع الثالث: في مغابنه، مثل عمق السرة، ومثل الإبطين، ومثل طي الركبتين، فيوضع في هذه الأشياء.الموضع الرابع: بين الأكفان، يوضع بين الأكفان شيء من هذا الحنوط، وهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ولا تحنطوه )، وقد ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه بإسناد صحيح أنه طلا ميتاً بالمسك, فدل ذلك على أنه يوضع في مثل هذه الأشياء، وأيضاً في مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة أن أنساً رضي الله تعالى عنه طلي بالمسك، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وإن طيبه كله كان حسناً).قال المؤلف رحمه الله: [ويجمر أكفانه]. يعني: تأتي بالأكفان، الأكفان ثلاث لفائف بيض من قطن كما كفن النبي صلى الله عليه وسلم، وتجمر يعني: تبخر هذه الأكفان، قال العلماء رحمهم الله: ويرش عليها شيء من ماء الورد؛ لكي يعلق فيها هذا البخور، فيؤتى بشيء من ماء الورد ويرش على هذه الأكفان ثم بعد ذلك تجمر؛ لما ثبت في مسند الإمام أحمد رحمه الله وصححه ابن حبان وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثاً )، فترش هذه اللفائف بشيء من ماء الورد، ثم بعد ذلك تبخر.

قص شارب الميت وأظفاره إن كانت طويلة
قال المؤلف رحمه الله: [وإن كان شاربه أو أظفاره طويلةً أخذ منه]. بالنسبة لما يتعلق بسنن الفطرة، بالنسبة لقص الشارب، نتف الإبط، حلق العانة، تقليم الأظفار هذه الأشياء الأربعة هل تؤخذ أو لا تؤخذ؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، والصواب في ذلك ما مشى عليه المؤلف رحمه الله أنه ينظر إن كانت هذه الأشياء طويلة فإنها تؤخذ، يعني إذا كان شاربه طويلاً أو كانت عانته طويلة، أو إبطه كان طويلاً، كذلك أيضاً بالنسبة للأظافر فإنها تقص، ويكون ذلك من وراء حائل كما ذكرنا أن السنة أنه لا يمس بدن الميت إلا من وراء حائل، فإذا كانت هذه الأشياء طويلة فإنها تقص، أما إذا كانت غير طويلة فإنها تترك، ولا يتعرض لها. وأما بالنسبة للختان وحلق الشعر فهذا يحرم، العلماء يقولون: يحرم؛ لأنه لا حاجة إليه، الختان الحاجة إليه قد زالت بالموت؛ لأنه يحتاج إلى الختان لكي لا يؤدي ذلك احتقان البول في الحشفة، الجلدة هذه تكون على الحشفة وعدم أخذها يؤدي إلى احتقان البول، فيؤدي ذلك إلى تعدي النجاسة، وحبس النجاسة، هذا الآن زال بالموت، وكذلك أيضاً حلق الشعر هذا أيضاً لا حاجة إليه.

تسريح شعر الميت وتضفيره
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يسرح شعره]. لا يسرح شعر الميت؛ لأن تسريح الشعر يؤدي إلى تقطيعه، يعني لا يأتي بمشط ويقوم بتسريح الشعر، أو المتوفاة إذا كانت امرأةً لا تأتي بمشط وتقوم بتسريح الشعر. وقد ورد في حديث أم عطية قالت: ( فضفرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناه خلفها )، هذا في صحيح البخاري ، بل يؤخذ الشعر هذا ويضفر، إذا كان شعر الرجل طويلاً أو شعر المرأة يؤخذ ويضفر يجعل ثلاث ضفائر ثلاث جدائل ويلقى من خلفها.

تكفين الميت
قال المؤلف رحمه الله: [والمرأة يضفر شعرها ثلاثة قرون، ويسدل من ورائها، ثم يكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، يدرج إدراجاً]. بالنسبة للتكفين بعد أن ينتهي المغسل من غسله يأتي بالأكفان، والأكفان ثلاث لفائف كما كفن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة ( كفن في ثلاثة أثواب ) ثلاث لفائف، وهذه اللفائف تبسط بعضها فوق بعض. قال العلماء رحمهم الله: ويجعل أعلاها أحسنها وأوسعها، فننظر إلى أحسن هذه اللفائف وأوسعها نجعلها الأولى، ثم نأتي باللفافة الثانية ونبسطها فوقها تماماً، ثم نأتي باللفافة الثالثة ونبسطها فوقها تماماً، يعني اللفائف كهذا الكتاب نجعل اللفافة الأولى ثم نجعل اللفافة الثانية فوقها، ثم نجعل اللفافة الثالثة فوقها، ثم يؤتى بالميت مستلقياً ويجعل على ظهره، وتكون يداه من جانبيه، ثم تلف عليها هذه اللفائف، يؤخذ اللفافة اليسرى وترد على جنبه الأيمن، ثم تؤخذ اللفافة من الجانب الأيمن وترد على جنبه الأيسر، ثم الثانية كذلك ثم الثالثة كذلك، ثم بعد ذلك يربط بثلاث عقد، ويجعل أكثر الفاضل عند رأسه، يربط بثلاث عقد: عقدة تكون عند رأسه، وعقدة في وسطه، وعقدة عند رجليه.قال المؤلف رحمه الله: [وإن كفن في قميص وإزار ولفافة فلا بأس]. في قميص يعني في ثوب؛ لأن ( عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول طلب من النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لكي يكفن فيه أباه لما مات، فأعطاه النبي عليه الصلاة والسلام ثوبه فكفن فيه )، ولذلك قال المؤلف: (في قميص وإزار) الإزار ما يستر النصف الأسفل من البدن. والكفن ينقسم إلى قسمين: كفن مجزئ، وكفن كامل، الكفن الكامل أن يكفن بثلاثة أثواب كما كفن النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث لفائف، وأما المجزئ فهو أن يكفن بثوب واحد يستر بشرته.قال المؤلف رحمه الله: [والمرأة تكفن في خمسة أثواب في درع ومقنعة وإزار ولفافتين]. الدرع: القميص. والمقنعة: الخمار. والإزار: ما يستر النصف الأسفل من البدن. واللفافتان معروفتان. فالمرأة تكفن بخمسة أثواب؛ ودليل ذلك حديث ليلى الثقفية رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ( كنت فيمن كفن ابنة النبي صلى الله عليه وسلم.. ) إلى آخره ثم ذكرت الحديث وفيه: ( أنهن كفن ابنته عليه الصلاة والسلام بخمسة أثواب ).لكن هذا الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا نقول: الأصل أن المرأة كالرجل، وأن المرأة تكفن في ثلاثة أثواب، كما أن الرجل يكفن في ثلاثة أثواب فإن المرأة تكفن في ثلاثة أثواب، هذا الصواب. نقول: الصواب أنه لا فرق بين الرجل والمرأة، وأن ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء إلا لدليل، والعكس بالعكس، وليس هناك دليل يدل على التفريق بين الرجال والنساء، وهذا الحديث حديث ليلى الثقفية لم يثبت.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-12, 12:54 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [22]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(31)

صلاة الجنازة فرض كفاية، وأركانها: التكبيرات الأربع، والفاتحة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء للميت، والسلام، وتجوز لمن فاتته الصلاة على الميت الصلاة على قبره.

أحق الناس بغسل الميت والصلاة عليه
في الدروس السابقة تكلمنا عن شيء من أحكام الجنائز، فتعرض المؤلف رحمه الله في بداية كتاب الجنائز لشيء من الآداب التي تفعل بالميت بعد موته ثم بعد ذلك شرع فيما يتعلق بتغسيل الميت، ثم شرع بما يتعلق بتكفينه وأحكام ذلك.قال المؤلف رحمه الله: [وأحق الناس بغسله والصلاة عليه ودفنه وصيه في ذلك، ثم الأب، ثم الجد]. يعني: من يستحق ولاية تغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه، وحمله، ودفنه يقول المؤلف: الأولى في ذلك وصيه، وهذا عند التنازع وعند التشاح، يعني إذا تنازع الناس في تغسيل هذا الميت، أو تشاحوا في تغسيله كل يريد أن يغسله فمن الأولى؟ من الذي يقدم؟ من المستحق لهذا؟ يقول المؤلف رحمه الله: وصيه، فإن كان الميت أوصى أن يغسله فلاناً أو أن يكفنه فلاناً أو أن يتولى دفنه فلاناً فإنه يقدم؛ والدليل على هذا أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنه فغسلته.وكذلك أيضاً أنس رضي الله تعالى عنه أوصى أن يغسله محمد بن سيرين رحمه الله ففعل، فهذه الوصايا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم دليل على أن الموصى له أحق بالتقديم.قال: (ثم الأب) يعني: إذا لم يكن هناك وصي أو كان هناك وصي لكن الوصي يتأخر عن ذلك فإننا نقدم الأصول أو نقول: الأحق بتغسيله أصوله، وأصوله هم آباؤه، ثم بعد ذلك بعد الآباء الأجداد، ثم بعد الأصول الفروع، الفروع أبناؤه، ثم أبناء أبنائه.. وهكذا، ثم بعد الفروع الحواشي، فنقدم الإخوة وبنيهم ثم الأعمام وبنيهم كالميراث تماماً. فنقول: أولاً الوصي، ثم بعد الوصي الأصول الأب ثم الجد وإن علا، ثم بعد الأصول الفروع الابن وابن الابن وإن نزل، ثم بعد الفروع الحواشي الإخوة وبنوهم الأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، ثم ابن الأخ لأب، ثم بعد ذلك الأعمام العم الشقيق، ثم العم لأب، ثم ابن العم الشقيق، ثم ابن العم لأب.قال المؤلف رحمه الله: [فالأقرب من العصبات]. وهذا كما بيناه أننا نبدأ بالأصول ثم الفروع ثم الحواشي، وبينا أن الإخوة يقدمون على الأعمام كما تقدم.قال المؤلف رحمه الله: [والأولى بغسل المرأة الأم ثم الجدة]. بالنسبة للمرأة الأولى بتغسيلها وصيتها، فإذا أوصت أن تغسلها فلانة إلى آخره فنقول: بأن من أوصت لها فإنها تغسلها، هي أحق بالتغسيل كما قلنا في الذكر أنه إذا أوصى أن يغسله أحداً فإن الموصى له أولى بالتغسيل، وذكرنا دليل ذلك، ثم بعد ذلك بعد وصيتها ووصية المرأة أصولها كما أفاده كلام المؤلف رحمه الله تعالى الأم ثم الجدة.. وهكذا وإن علت، ثم بعد الأصول الفروع، ثم بعد الفروع الحواشي كما سبق بيانه؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم الأقرب فالأقرب من نسائها]. قال المؤلف رحمه الله: [إلا أن الأمير يقدم في الصلاة على الأب ومن بعده]. تقدم أن ذكرنا من هو الأولى في تغسيله وتكفينه ودفنه، بالنسبة للصلاة عليه عندنا الأمير وكذلك أيضاً إمام المسجد هذان مستثنيان فإنهما يقدمان. فالأمير إذا حضر فإنه الأولى بالصلاة على الميت، حتى ولو كان هناك الأصول أو الفروع أو الحواشي أو الوصي نقول: بأن الأمير مقدم، هذا استثناه المؤلف رحمه الله. كذلك أيضاً استثنى بعض العلماء إمام المسجد، فقالوا: بأن إمام المسجد مقدم في الصلاة. فعندنا فيما يتعلق بالصلاة كما تقدم في التغسيل نقول: الأولى الوصي، ثم بعد ذلك الأصول، ثم الفروع، ثم الحواشي، إلا أننا في الصلاة نستثني اثنين لهما الأحقية: الأول: الأمير؛ ويدل لهذا أن سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه تولى الصلاة على أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنها، تقدم وصلى عليها سعيد بن العاص ، والحسن بن علي رضي الله تعالى عنه كان حاضراً، والحسين كان حاضراً، أخواها الحسن والحسين كانا حاضرين، وكذلك أيضاً أبو هريرة وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم، فـسعيد بن العاص كان أميراً على المدينة وتولى الصلاة على أم كلثوم بنت علي رضي الله تعالى عنها مع حضور الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما. وأيضاً يدل لهذا حديث أبي مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله.. إلى أن قال النبي عليه الصلاة والسلام: ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه )، فدل هذا على تقديم السلطان، وكذلك أيضاً نواب السلطان من الأمراء، فإنهم يستحقون الإمامة.وكذلك أيضاً إمام المسجد استثناه بعض العلماء؛ لأن إمام المسجد سلطان في مسجده، وله الولاية عليه، فنقول: بأن إمام المسجد له أن يتولى الصلاة وهو الأحق بالتقديم، لكن لو تنازل للوصي أو تنازل للأصول أو الفروع فله ذلك. فأصبح عندنا فيما يتعلق بالصلاة كما قلنا في التغسيل: الأولى الوصي ثم الأصول، ثم الفروع، ثم الحواشي، إلا أن العلماء رحمهم الله استثنوا اثنين لهما الأحقية: الأول: الأمير؛ لما تقدم من الدليل على ذلك. الثاني: إمام المسجد، أيضاً لما تقدم من حديث أبي مسعود البدري رضي الله تعالى عنه، وأشرنا أن إمام المسجد سلطان في مسجده. ‏
الصلاة على الميت


حكم الصلاة على الميت
الصلاة على الميت حكمها فرض كفاية، وهذا باتفاق الأئمة رحمهم الله أن الصلاة على الميت حكمها فرض كفاية، فهي فرض بالأمر، وهذا الفرض على الكفاية وليس على التعيين؛ لأن الملاحظ هنا هو العمل وليس العامل. وهذا هو الفرق بين فرض الكفاية وفرض العين، أنه إذا لوحظ العمل، وأن المطلوب هو تحصيل هذا العمل فهذا فرض كفاية، وإذا لوحظ العامل، وأن المطلوب حصول هذا العمل من كل عامل فهذا فرض عين، وهنا المطلوب تحصيل الصلاة على هذا الميت سواء قام به زيد أو عمرو أو بكر… إلى آخره.فنقول: الصلاة على الميت حكمها فرض كفاية؛ والدليل على ذلك الأمر أنها فرض، وأما أنها على الكفاية فلأن هذا الأمر لوحظ فيه العمل دون العامل. وأيضاً الصلاة على الجنازة تجوز فرادى وتجوز جماعةً، لكن قال العلماء رحمهم الله: السنة أن تصلى جماعة، وقد ذكره النووي رحمه الله بلا خلاف أن السنة أن تصلى جماعة؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي على الجنائز ومعه صحابته رضي الله عنهم.

مكان وقوف الإمام من الميت وترتيب الجنائز
لم يذكر المؤلف رحمه الله أين يقف الإمام من الميت، فنقول: بالنسبة لوقوف المصلي من الميت لا يخلو من أمرين: الأمر الأول: وقوف جائز؛ وذلك بأن يقف على أي جزء من أجزاء الميت، فسواء وقف عند رأسه أو عند وسطه أو عند رجليه نقول: بأن هذا كله جائز.الأمر الثاني: وقوف مستحب؛ وهذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله. والصواب في هذه المسألة: ما دلت عليه السنة وهو أن يقف على الرجل عند رأسه إذا كان ذكراً، وأما إن كان أنثى فإن السنة أن يقف عند وسطها. ويدل لهذا ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أم كعب فقام عند وسطها ).وكذلك أيضاً حديث أنس رضي الله تعالى عنه: ( أنه أتي إليه برجل فقام عند رأسه، ثم أتي إليه بامرأة فقام عند وسطها، ورفع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي ، وحسنه الترمذي ، وكذلك أيضاً أخرجه ابن ماجه إلى آخره.فإن اجتمعت جنائز فإنه يقدم إلى الإمام الذكور، ثم بعد ذلك النساء؛ ويدل لهذا فعل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فإن ابن عمر صلى على تسع جنائز، فجعل الرجال مما يلي الإمام، وجعل النساء مما يلي القبلة. فنقول: إذا اجتمع عندنا ذكور وإناث فإننا نقدم الذكور إلى الإمام، وأما النساء فإنهن يلين القبلة، ومن نقدم من الذكور؟ نقول: يقدم من الذكور من سبق فإنه يقدم، ثم بعد ذلك الأفضل، الأفضل من هؤلاء الذكور فإنه يقدم، نقول: من سبق نقدمه، فإن استووا في السبق نقدم الأفضل علماً وورعاً إلى آخره، وكذلك أيضاً بالنسبة للنساء.

تكبيرة الإحرام
قال المؤلف رحمه الله: [والصلاة عليه يكبر]. سيأتينا إن شاء الله ما يتعلق بأركان الصلاة على الجنازة، يكبر تكبيرة الإحرام، هذه ركن من أركان الصلاة على الجنازة، ويدل لهذا حديث المسيء في صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر ).وأيضاً: يدل لهذا حديث علي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم )، ويدل لهذا أيضاً حديث أبي أمامة بن سهل : ( أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبره: أن السنة في الصلاة على الجنازة: أن يكبر الإمام ثم يقرأ الفاتحة، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخلص الدعاء للميت ).

قراءة الفاتحة
قال المؤلف رحمه الله: [ويقرأ الفاتحة]. قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة على الجنازة؛ ويدل لهذا حديث أبي أمامة بن سهل الذي أوردناه: ( أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبره: أن السنة في الصلاة على الجنازة: أن يكبر، ثم يقرأ الفاتحة، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويخلص الدعاء للميت ). وأيضاً: حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، وأيضاً حديث ابن عباس في النسائي : ( أنه قرأ الفاتحة وجهر وقال: لتعلموا أنها سنة ).ولم يذكر المؤلف رحمه الله هل يبسمل ويستعيذ أو لا يبسمل ولا يستعيذ؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله والشافعي أنه يستعيذ ويبسمل, يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو ما ورد من صفات الاستعاذة, ثم يقول: بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن الاستعاذة والبسملة ليستا للصلاة وإنما للقراءة، والقراءة مشروعة في صلاة الجنازة عند الشافعية والحنابلة فيستعيذ ويبسمل. عند أبي حنيفة رحمه الله ومالك : أنه لا يبسمل ولا يستعيذ؛ لأنهم يرون أن صلاة الجنازة لا قراءة فيها، حتى قراءة الفاتحة لا قراءة فيها، وهذا لا شك أن فيه نظراً. والصواب: أن فيها القراءة؛ كما تقدم من حديث أبي أمامة بن سهل وغيره من الأحاديث، فالصواب أن القراءة مشروعة، وعلى هذا نقول: بأنه يستعيذ ويبسمل. وهل يستفتح؟ هل يأتي بدعاء الاستفتاح أو لا يأتي به؟ الإمام أحمد رحمه الله سئل: هل يقول: سبحانك اللهم وبحمدك؟ فقال الإمام أحمد رحمه الله: ما سمعت. يعني: أنه لم يرد شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. وعلى هذا نقول: بأن الاستفتاح في صلاة الجنازة ليس مشروعاً، فلا يشرع أن يستفتح في صلاة الجنازة؛ لأن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والعبادات توقيفية عن النبي عليه الصلاة والسلام.

قراءة سورة بعد الفاتحة
قال المؤلف رحمه الله: [ويقرأ الفاتحة]. ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يقرأ سورةً بعد الفاتحة؛ لأنه قال: (يقرأ الفاتحة ثم يكبر)، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله, وهو قول أكثر أهل العلم، وتقدم أن أشرنا أن الحنفية والمالكية لا يرون القراءة في صلاة الجنازة حتى قراءة الفاتحة لا يرون قراءة الفاتحة، فأكثر أهل العلم على أن قراءة السورة ليست مشروعة. وقال بعض العلماء بشرعية قراءة السورة بأنه يقرأ سورةً؛ لحديث ابن عباس في سنن النسائي : ( أنه قرأ الفاتحة وسورة )، فإن ثبت هذا الحديث حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فنقول: بأن الإمام أحياناً يقرأ وأحياناً لا يقرأ، أما بالنسبة للمأموم فالأمر في حقه ظاهر، المأموم لا يسكت؛ لأن الصلاة لا سكوت فيها. نقول: المأموم يقرأ الفاتحة، وإذا انتهى من قراءة الفاتحة ولم يكبر الإمام التكبيرة الثانية فإنه يقرأ ولا يسكت، فنقول: بالنسبة للمأموم لا يسكت، وأما بالنسبة للإمام أو المنفرد فإن ثبت حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في النسائي فإنه يقرأ أحياناً بسورة.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله: [ثم يكبر الثانية ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم]. وهذا دليله ما تقدم من حديث أبي أمامة بن سهل : (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبره: أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر، ثم يقرأ الفاتحة، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم)، فنقول: يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام. والمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة ركن من أركان صلاة الجنازة، وكيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة ككيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة المفروضة في التشهد الأخير، فيقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.وقد سلف أن ذكرنا الصيغ الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة المفروضة في التشهد، سبق أن أشرنا إلى هذه الصيغ وكتبناها ووزعناها لكي يحفظها الإخوة.

الدعاء للميت
قال المؤلف رحمه الله: [ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يكبر ويقول: اللهم أغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا]. الدعاء للميت يقسمه العلماء رحمهم الله إلى قسمين: القسم الأول: الدعاء الكامل؛ وهو أن يتقيد الإنسان بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أربع صيغ للدعاء في صلاة الجنازة: الصيغة الأولى: ما أشار إليها المؤلف: ( اللهم اغفر لحينا وميتنا.. ) إلى آخره، وهذا حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.والصيغة الثانية: أشار بقوله: ( اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.. ) إلى آخره, وهذا حديث عوف بن مالك . فعندنا الأول: حديث أبي هريرة , والثاني: حديث عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه. وأيضاً الثالث: حديث واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه. والرابع: حديث يزيد بن ركانة . والمؤلف رحمه الله فيما نقل لم ينقل متن الحديث بتمامه، وإنما زاد فيه بعض الزيادات، ولهذا نحتاج إلى أن نرجع إلى أصول السنة، لننقل حديث أبي هريرة لكي نحفظه ( اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا.. ) إلى آخره، وأيضاً حديث عوف بن مالك : ( اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأبدله داراً خيراً من داره، وزوجاً خيراً من زوجه.. ) إلى آخره.وأيضاً حديث واثلة بن الأسقع ، وحديث يزيد بن ركانة ، زاد المؤلف رحمه الله فيه بعض الجمل على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الأدعية ينبغي أن يحفظها الإنسان, ويتقيد بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي بالدعاء الكامل.وأما القسم الثاني: فالدعاء المجزئ، فأن يدعو الإنسان بما شاء، العلماء قالوا: إذا دعا بما شاء ولو لم يتقيد بالوارد فإن هذا مجزئ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء )، وأيضاً ما تقدم من حديث أبي أمامة بن سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السنة عن صلاة الجنازة قال: ( ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويخلص الدعاء للميت ).

عدد التكبيرات
ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه يكبر أربع تكبيرات فقط؛ لأنه ذكر التكبيرة الأولى، ثم قراءة الفاتحة، ثم يكبر الثانية، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يكبر الثالثة، ثم يدعو، ثم يكبر الرابعة ثم يسلم. فظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن التكبير على الميت أربع تكبيرات فقط، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى أنه يكبر على الميت أربع تكبيرات فقط؛ وهذا دل له حديث أبي هريرة في الصحيحين، وحديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على النجاشي ، فنقول: بالنسبة للأربع هذا دلل لها حديث أبي هريرة وحديث جابر بن عبد الله . وأيضاً ورد في السنة خمس تكبيرات؛ كما في صحيح مسلم من حديث زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه، فنقول: الأربع ثابتة في السنة، والخمس أيضاً ثابتة في السنة. والست والسبع فيهما آثار عن الصحابة، فالست تكبيرات هذه وردت عن علي رضي الله تعالى عنه كما في المحلى وغيره لـابن حزم ، والسبع أيضاً واردة عن علي رضي الله تعالى عنه أنه صلى على أبي قتادة وكبر عليه سبع تكبيرات كما في الطحاوي والسنن الكبرى للبيهقي ، والست صلى على سهل بن حنيف وكبر عليه ست تكبيرات، فنقول: الست والسبع هذه واردة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم. ويذكر بعض العلماء أن الوارد عن الصحابة إلى تسع، لكن أنا لم أر إلا إلى سبع تكبيرات، يمكن فيه شيء لم يصل إلينا، لكن يذكر بعض العلماء كـالقاضي عياض أن الوارد عن الصحابة إلى تسع تكبيرات. وعلى هذا نقول: عندنا أربع تكبيرات هذه ثابتة في السنة، خمس تكبيرات ثابتة في السنة، ست وسبع هذه ثابتة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وعلى هذا التكبير في الجنائز يكون إلى سبع تكبيرات، ويظهر من أثر علي رضي الله تعالى عنه أن الزيادة تكون لمن كان من أهل الفضل؛ لأنه لما زاد علل بأنه بدري يعني من أهل بدر، فيظهر أن أهل الفضل يزاد في التكبير عليهم.أما بالنسبة للخمس ظاهر السنة أنه يكبر الخمس سواء على أهل الفضل أو على غيرهم، لكن بالنسبة للست والسبع هذا يظهر من التعليل الذي ذكره علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن الزيادة على من كان من أهل الفضل.وعلى هذا إذا كبر خمساً أو ستاً أو سبعاً فماذا يقول بعد الرابعة وبعد الخامسة إلى آخره؟ نقول: بأنه يدعو؛ لأن هذه الصلاة على الميت صلاة دعاء وصلاة شفاعة؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما من ميت يقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه )، فهذه صلاة دعاء وصلاة شفاعة. فنقول: بأنه يدعو للميت، فيذكر الأدعية والصيغ الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أتم هذه الصيغ يدعو أيضاً, يسأل الله عز وجل له المغفرة والعفو والتجاوز… إلى آخره.وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه بعد التكبيرة الرابعة يكبر ولا يذكر شيئاً، والصواب أنه يدعو للميت، فإن كانت الأدعية قد انتهت قد أتى على كل الأدعية الواردة فإنه يدعو للميت بما شاء؛ ويدل لهذا حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه، ولما سبق أن أشرنا إليه أن الصلاة على الميت صلاة دعاء وصلاة شفاعة فلا يسكت، وعلى هذا إذا كبر الرابعة فإنه لا يسكت بل يدعو للميت.

التسليم
قال المؤلف رحمه الله: [ويسلم تسليمةً واحدةً عن يمينه]. هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك أيضاً مذهب الإمام مالك رحمه الله أن المشروع في الصلاة على الجنازة أن يسلم تسليمةً واحدةً فقط.الحنابلة وكذلك أيضاً المالكية اعتمدوا في ذلك على الآثار الواردة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم ورد عنهم تسليمة واحدة، علي بن أبي طالب ، ابن عمر ، جابر ، ابن عباس ، عبد الله بن أبي أوفى ، أبو هريرة ، فهؤلاء الصحابة علي وابن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو هريرة وعبد الله بن أبي أوفى كلهم ورد عنهم أنه يسلم تسليمةً واحدةً على الجنازة. وعند الحنفية والشافعية أنه يسلم تسليمتين، وألحقوا صلاة الجنازة بالصلاة المفروضة؛ لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسلم تسليمتين في الصلاة المفروضة وفي سائر الصلوات، هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسلم تسليمتين.وأيضاً ورد في حديث ابن مسعود في مسند الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: ( ثلاث خلال من السنة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل بهن تركهن الناس، وذكر منهن التسليم في الجنازة كالتسليم في المكتوبة ) والتسليم في المكتوبة أنه يسلم تسليمتين, وهذا الحديث جود إسناده النووي رحمه الله. وعلى هذا نقول: إن ثبت هذا الحديث فيشرع للإمام وللمصلي على الجنازة الإمام أو المنفرد إذا صلى على الجنازة أنه يسلم تارةً تسليمة واحدة، يعني الغالب على هديه أنه يسلم تسليمة واحدة؛ كما ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وفي بعض الأحيان يسلم تسليمتين؛ لما ورد من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. فنقول: تارةً يسلم تسليمة واحدة، وتارةً يسلم تسليمتين، والغالب على هديه أنه يسلم تسليمة واحدة كما ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

رفع اليدين مع التكبيرات
قال المؤلف رحمه الله: [ويرفع يديه مع كل تكبيرة]. رفع اليدين ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: رفع اليدين في التكبيرة الأولى التي هي تكبيرة الإحرام، فهذا متفق عليه، فقد حكى ابن المنذر الإجماع على شرعية رفع اليدين في التكبيرة الأولى. أما بالنسبة لبقية التكبيرات فقد اختلف فيها الأئمة رحمهم الله، فالإمام أحمد والشافعي قالا: يشرع الرفع في بقية التكبيرات، وعلى هذا ترفع في التكبيرة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة إن زدت… إلى آخره يشرع أن ترفع. واعتمدوا على أن هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهو الوارد عن ابن عمر كما في صحيح البخاري معلقاً، ووصله البخاري في كتابه جزء القراءة خلف الإمام إن لم أكن نسيت، فورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما في البخاري معلقاً.وكذلك أيضاً ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في سنن سعيد بن منصور بإسناد صحيح، وكذلك أيضاً ورد عن زيد بن ثابت في مصنف ابن أبي شيبة رحمه الله، فعندنا أثر ابن عمر في صحيح البخاري ، وأثر ابن عباس في سنن سعيد بن منصور ، وأثر زيد بن ثابت في مصنف ابن أبي شيبة ، وأيضاً ورد حديث ابن عمر مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم في رفع الأيدي في تكبيرات الجنائز، وهذا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله يرى صحته.فعندنا ما اعتمد عليه الشافعية والحنابلة في رفع الأيدي في الصلاة على الجنازة حديث ابن عمر , والآثار الواردة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم. والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة وأيضاً مالك : أنه لا يشرع، الحنفية والمالكية يرون عدم شرعية رفع الأيدي.

أركان الصلاة على الجنازة
قال المؤلف رحمه الله: [والواجب من ذلك التكبيرات]. شرع المؤلف رحمه الله في بيان أركان الصلاة على الجنازة، فقال: الواجب من ذلك التكبيرات، التكبيرات الأربع يرى أنها واجبة، هذا الركن الأول.قال المؤلف رحمه الله: [والقراءة]. هذا الركن الثاني، قراءة الفاتحة؛ تقدم حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ). والتكبيرات الأربع تقدم أيضاً لنا دليلها حديث أبي أمامة بن سهل ( أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.. ) إلى آخره، وأيضاً تقدم أن أشرنا إلى حديث أبي هريرة وحديث جابر وحديث زيد بن أرقم , وغير ذلك من الأحاديث.قال المؤلف رحمه الله: [والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم]. الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام يرى المؤلف رحمه الله أنها ركن، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله. وتقدم لنا لما تكلمنا عن أركان الصلاة المفروضة أن جمهور أهل العلم يرون أن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ليست ركناً، حتى في الصلاة المفروضة ليست ركناً، وإنما هي سنة، وهذا من مفردات الحنابلة، فالحنابلة يرون أنها ركن، تقدم أن ذكرنا أن الأقرب أنها سنة وليست ركناً، وإذا كان ذلك في الصلاة المفروضة فكذلك أيضاً في الصلاة على الجنازة. قال المؤلف رحمه الله: [وأدنى دعاء الحي للميت]. هذا ركن، ولا إشكال في أن الدعاء ركن، يعني أدنى دعاء. سبق أن أشرنا أن الدعاء في الصلاة ينقسم إلى قسمين: كامل؛ وهو أن يأتي بما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام. ومجزئ، وهو أدنى دعوة للميت، فلو قلت: اللهم اغفر له كفى ذلك، أو اللهم ارحمه كفى ذلك، أي دعوة تدعوها يتحقق بها الركن. لكن الأولى المحافظة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ودليل ذلك ما تقدم من حديث أبي أمامة بن سهل عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ).قال المؤلف رحمه الله: [والسلام]. هذا الركن الأخير: السلام؛ وهذا دليله كما تقدم حديث ابن مسعود , وأيضاً حديث أبي هريرة والآثار الواردة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأيضاً حديث علي : ( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ).

الصلاة على القبر
قال المؤلف رحمه الله: [ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر إلى شهر]. وفي هذه الجملة مسألتان: المسألة الأولى: الصلاة على القبر.والمسألة الثانية: حد الصلاة على القبر.فبين المؤلف رحمه الله شرعية الصلاة على القبر، وبين أيضاً حدها، فقال: (صلى على القبر إلى شهر)، ذكر المسألتين جميعاً، أما الصلاة على القبر فهذه متفق عليها بين الأئمة، فالأئمة يتفقون على ذلك, وأنه تشرع الصلاة على القبر؛ ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر منبوذ ).وكذلك أيضاً في قصة الجارية السوداء التي كانت تقم المسجد ففقدها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح فأخبروه أنها ماتت وأنهم قبروها، فقال: ( دلوني على قبرها، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليها ).فنقول: الصلاة على القبر هذه متفق عليها بين الأئمة، لكن اختلف الأئمة رحمهم الله في حد ذلك. فقال المؤلف رحمه الله: (إلى شهر) يعني: لك أن تصلي إلى شهر، بعد الشهر ما تصلي، فأنت مثلاً إذا دفن الميت لك أن تصلي عليه بعد يوم ويومين وأسبوع وأسبوعين، لكن إذا مضى شهر فإنك لا تقدر على الصلاة عليه. واستدلوا على ذلك: ( بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أم سعد بن عبادة بعدما دفنت بعد شهر )، قالوا: هذا دليل على أن هذا هو أقصى حد.الرأي الثاني: لم يقيدوه بالزمن وإنما قيدوه بالحال؛ وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ، قيدوه بحال الميت، فقالوا: لا بأس أن يصلى عليه ما لم يغلب على الظن أن جسده قد فني، قالوا: نصلي عليه ما لم يغلب على الظن أن جسده قد فني، فإن غلب على الظن أن جسده قد فني فإنه لا يصلى عليه.يعني: ينظر إلى الجسد، فإذا ظننا أن الجسد قد فني وأكلته الأرض فإنه لا يصلى عليه، فإذا كان في أرض لا يبقى إلا شهر أو شهران ثم تأكله الأرض فإنه لا يصلى بعد ذلك، أما إذا كنا نظن أن الجسد لا يزال باقياً فإننا نصلي عليه، هذا ما ذهب إليه الحنفية والمالكية.الشاف ية قالوا: يقيد بالحال لكن ليست حال الميت، وإنما هي حال المصلي، قالوا: إذا كان المصلي من أهل فرض الصلاة عليه حين موته فله أن يصلي عليه بلا حد.ما معنى من أهل فرض الصلاة عليه؟ يعني: هذا الشخص إذا كان مكلفاً بالغاً عاقلاً حين مات هذا الميت له أن يصلي عليه بعد شهر أو شهرين أو سنة أو سنتين، المهم أنه حال الموت كان مكلفاً، يعني من أهل فرض الصلاة عليه الذين يسقط بهم الفرض، والمكلف هو هذا الذي يسقط به الفرض. وقال بعض علمائهم: ليس من أهل الفرض وإنما من أهل الصلاة عليه بأن يكون مميزاً، والمميز من أهل الصلاة عليه؛ لأنه تصح صلاته على الميت، فإذا كان مميزاً حين موته فله أن يصلي عليه، حتى بعد سنة أو سنتين.. إلى آخره.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-12, 01:04 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصلاة [23]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(32)


اختلف أهل العلم في الصلاة على الغائب على أقوال، منها جواز ذلك إن لم يصل عليه أحد حيث مات، والشهيد إذا مات في المعركة لم يُغسل ولم يصلّ عليه، ولدفن الميت صفتان: صفة كمال وصفة إجزاء، وتحرم النياحة على الميت والندب ما لم يكن يسيراً.

تابع الصلاة على الميت

تابع الصلاة على القبر
تقدم لنا في الدرس السابق شيء من أحكام الصلاة على الجنائز، وذكرنا من ذلك كيفية الصلاة، وأيضاً ما يتعلق بحكمها، وأنها تشرع جماعةً، وأيضاً تطرقنا لأركان الصلاة على الجنائز، وكذلك أيضاً ما يتعلق بالدعاء المشروع, وذكرنا أن هناك صيغاً واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي للمسلم وخصوصاً طالب العلم أن يحفظ هذه الصيغ, وأن يأتي بها في أثناء صلاته على الجنازة. قال المؤلف رحمه الله: (ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر إلى شهر). هنا مسألتان: المسألة الأولى: الصلاة على القبر.والمسألة الثانية: الصلاة على الغائب.الصلاة على القبر؛ المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يصلى على القبر إلى شهر من دفنه، فلو أن الإنسان فاتته الصلاة على الجنازة فله أن يذهب إلى قبره وأن يصلي عليه، ومدة ذلك إلى شهر، فله أن يصلي بعد أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة أسابيع إلى آخره، لكن إذا مضى شهر من دفنه ولم يصل عليه فإنه لا يتمكن من الصلاة عليه، هذا المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة ومالك قالوا: بأنه يصلى على القبر ما لم يغلب على الظن فناء الجسد، فإذا غلب على الظن أن الجسد قد فني فإنه لا يصلى عليه، وحينئذ يرجع إلى أهل الخبرة, فيسأل أهل الخبرة هل الجسد الآن باق أو أن الأرض قد أكلته؟ فإذا قال أهل الخبرة: بأن الجسد لا يبقى أكثر من شهر أو من شهرين أو من ثلاثة أشهر.. إلى آخره, إذا غلب على الظن أن الجسد قد فني فإنه لا يصلى عليه، أما إذا غلب على الظن أن الجسد لا يزال باقياً فإنه يصلى عليه.الرأي الثالث: ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله, الشافعية قالوا: يصلى على القبر بشرط أن يكون المصلي حين موت الميت من أهل فرض الصلاة عليه، يعني: أن يكون بالغاً، فإذا مات أحد وأنت بالغ فلك أن تصلي عليه، ولا يحدد هذا بشهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر، بشرط أن تكون بالغاً، فلو أنه مات ميت وأنت غائب وقدمت بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات, وأنت من أهل فرض الصلاة عليه, يعني أنك بالغ فلك أن تصلي عليه. وتوسع بعض الشافعية فقالوا: يشترط أن يكون من أهل الصلاة عليه، يعني أن يكون مميزاً، فإذا مات قريب أو صديق أو نحو ذلك وأنت قد بلغت حد التمييز فلك أن تصلي عليه، وحد التمييز بعض أهل العلم يحده بسبع سنوات، وبعضهم يحده بالحال لا يحده بالسن، فيقول: إذا كان يفهم الخطاب, ويرد الجواب فهذا صبي مميز، وبعضهم يحدده بسبع سنوات، المهم أن الإنسان إذا كان مميزاً حين موت هذا الميت فله أن يصلي عليه. وما ذهب إليه الشافعية هو أقرب المذاهب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما سلف صلى على القبر، ولم يحفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه حد ذلك بمدة، ما ورد التحديد. أما ما استدل به الحنابلة رحمهم الله من كون ( النبي عليه الصلاة والسلام صلى على أم سعد بعد موتها بشهر ), هذا يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنه ضعيف لا يثبت. والجواب الثاني: أنه لو ثبت فإن هذا حصل من النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقاً، والعلماء يقولون: ما وقع اتفاقاً لا يكون شرعاً. فعلى هذا نقول: الصواب في هذا ما ذهب إليه الشافعية، وأن الإنسان له أن يصلي على القبر حتى بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات بشرط أن يكون بالغاً أو أن يكون مميزاً كما هو القول الثاني عند الشافعية.أما إذا لم يكن مميزاً فإنه لا يصلي عليه كما لو كان صغيراً لم يميز، أو أنه ولد بعد موت الميت لا يصلي عليه؛ والدليل على ذلك: أن السلف رضي الله تعالى عنهم لم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي .

الصلاة على الغائب
قال المؤلف رحمه الله: [وإن كان الميت غائباً عن البلد صلى عليه بالنية]. أيضاً الصلاة على الغائب، لو مات ميت في بلد ونحن في هذا البلد فهل نصلي عليه صلاة الغائب أو لا؟ يقول المؤلف رحمه الله: يصلى عليه، وأيضاً المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنهم يحدون ذلك بشهر, فيقولون: يصلى على الغائب عن البلد إلى شهر، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ؛ واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي ) رحمه الله ورضي الله عنه، وهذا في الصحيحين.الرأي الثاني: أن الصلاة على الغائب غير مشروعة، لا تشرع الصلاة على الغائب، وهذا قول أبي حنيفة ومالك رحمه الله؛ واستدلوا على ذلك بأنه مات كثير من الصحابة في المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم خارج المدينة ولم يحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليهم. وتوسط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة فقال: الغائب إن صلي عليه فلا تشرع الصلاة عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحفظ عنه أنه كان يصلي على من مات في المدينة إذا كان خارج المدينة، فيقول شيخ الإسلام : إن صلي عليه فإنه لا يصلى عليه، وإن لم يصل عليه فإنه يصلى عليه؛ ودليل ذلك قصة النجاشي , فإن النجاشي في بلد لم يكن فيها مسلم فمات فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم, في بلد كفر. فنقول: الغائب إن صلي عليه لا نصلي عليه، وأما إذا لم يصل عليه فإننا نصلي عليه، وهذا هو أقرب الأقوال، وهو الذي تجتمع به أدلة المسألة.

تعذر تغسيل الميت
قال المؤلف رحمه الله: [ومن تعذر غسله لعدم الماء, أو الخوف عليه من التقطع كالمجدور أو المحترق، أو لكون المرأة بين رجال، أو الرجل بين نساء فإنه ييمم]. يقول المؤلف رحمه الله: من تعذر تغسيله لعدم الماء، لم نجد ماءً نغسله به, فطريق ذلك أن نيممه، وكيفية ذلك أن يأتي الغاسل ويضرب الصعيد، ثم بعد ذلك يمسح وجه الميت ويمسح كفيه الباطن والظاهر، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.والصواب في ذلك أنه إذا لم يكن ماء أن التيمم لا يشرع؛ لأن التغسيل ليس لرفع الحدث، وإنما تغسيل الميت لتنظيفه وتطهيره؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته: ( اغسلوه بماء وسدر )، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( بسدر )، وقال أيضاً: ( اجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً )؛ كما في حديث أم عطية ، فدل ذلك على أن المراد تنظيف الميت وتطييبه وتطهيره لكي يقدم على الله عز وجل على هذه الحال. وأما التيمم فهذا ليس فيه تنظيف، التيمم طهارته ليست طهارةً حسية، وإنما طهارته طهارة معنوية؛ وعلى هذا نقول: إذا لم نجد ماءً فإنه يسقط تغسيل الميت، وحينئذ نكفنه، ولا حاجة إلى أن نيممه.قال: (أو الخوف عليه من التقطع كالمجدور أو المحترق). يعني: لو كان الميت أصابه مرض الجدري، أو احترق الميت، أو مثلاً في حادث من حوادث السيارات ونحو ذلك، فبالنسبة لتغسيله نقول: لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يسقط منه شيء بالتغسيل، مثلاً احترق هذا الميت ثم إذا غسلناه بالماء يتساقط شيء من أجزائه، فهذا لا نغسله، وعلى كلام المؤلف رحمه الله نيممه، يعني يأتي الغاسل ويضرب الصعيد ويمسح وجهه وكفيه كما سبق. والصواب في ذلك: أنه لا حاجة إلى ذلك، وأنه إذا كان تغسيله يؤدي إلى تساقط شيء من بدنه فإنه لا حاجة إلى تغسيله ولا تيميمه، لا يشرع أن يغسل ولا أن ييمم فيسقط ذلك، وحينئذ يصار إلى التكفين، هذه الحالة الأولى.الحالة الثانية: أننا إذا غسلناه لا يسقط شيء من بدنه أو أجزائه، حتى لو كان محترقاً، أو كان مجدوراً، أو أصيب بحادث ونحو ذلك، فهذا نغسله.قال: (أو لكون المرأة بين رجال، أو الرجل بين نساء). يعني: مات رجل بين نساء، أو ماتت امرأة بين رجال؛ لأن الرجل لا يغسله إلا الرجال، وليس هناك أحد من الرجال، أو هناك زوجة له أو أمة له، فإن النساء حتى ولو كن محارم لا يغسلن، حتى لو كان بين أمه أو أخته أو بنته… إلى آخره لا تتولى تغسيله، فيقول المؤلف رحمه الله: نيممه.والرأي الثاني في هذه المسألة: أنه إذا مات الرجل بين النساء أنه يدرج عليه الماء إدراجاً، يعني لا حاجة إلى أن تباشره المرأة، فنقول: بأن النساء يأخذن الماء ويصببنه عليه، يدرج عليه الماء إدراجاً إذا كن أجنبيات من وراء ستر ويكفي ذلك؛ لأنه كما تقدم لنا في الغسل المجزئ أنه تعميم البدن بالماء، فإذا عممنا البدن بالماء فإن هذا غسل مجزئ، وعكسه إذا ماتت المرأة بين رجال فإننا -كما قال بعض السلف- ندرج الماء إدراجاً، يعني: يقوم الرجال ويصبون عليها الماء بدون أن يباشروها بالتقليب ونحو ذلك، بل يقومون بصب الماء عليها، فإذا ظنوا أن الماء عم البدن كفى ذلك.

تغسيل أحد الزوجين للآخر
قال المؤلف رحمه الله: [إلا أن لكل من الزوجين غسل صاحبه، وكذا أم الولد مع سيدها]. لكل واحد من الزوجين أن يغسل صاحبه، فالزوجة لها أن تغسل زوجها، والزوج له أن يغسل زوجته، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم خلافاً لـأبي حنيفة رحمه الله تعالى؛ ودليل ذلك قول عائشة رضي الله تعالى عنها: ( لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرناه ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه ).وأيضاً: حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ( ما ضرك لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ).وأيضاً: أبو بكر رضي الله تعالى عنه أوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس ، وعلي رضي الله تعالى عنه غسل فاطمة . فالصواب في هذه المسألة: أن لكل واحد من الزوجين أن يغسل صاحبه خلافاً لما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى.قال: (وكذا أم الولد مع سيدها). أم الولد هي الأمة التي وطئها سيدها فألقت ما تبين فيه خلق إنسان، إذا كان الإنسان له أمة ثم جامعها فحملت ثم ولدت أو حتى ألقت مضغة، لو ألقت مضغة تبين فيها خلق الإنسان، يعني من تخطيط يد أو رجل أو نحو ذلك هذه تصبح أم ولد، من باب أولى إذا ولدت ولداً كاملاً. المهم أنها إذا ولدت من سيدها أو ألقت من سيدها ما تبين فيه خلق الإنسان فهذه تكون أم ولد، وعمر رضي الله تعالى عنه منع بيع أمهات الأولاد، وحكمها أنها تعتق بموت سيدها، فهذه أم الولد لها أن تغسل سيدها لو مات, ولسيدها أن يغسلها، وكذلك أيضاً الأمة التي ملك للسيد له أن يغسلها، وأيضاً لها أن تغسله.

تغسيل الشهيد وتكفينه والصلاة عليه

تغسيل الشهيد
قال المؤلف رحمه الله: [والشهيد إذا مات في المعركة لم يغسل]. من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فقتل هذا هو الشهيد، فإذا قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ثم بعد ذلك قتل فيقول المؤلف رحمه الله بأنه لا يغسل، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم رحمهم الله، وخالف في ذلك الحسن البصري وسعيد بن المسيب فقالا: يغسل. والصواب في ذلك: أنه لا يغسل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث جابر كما في صحيح البخاري ( لم يغسل شهداء أحد، وإنما دفنهم بدمائهم ).وأما القول بأنه يغسل فهذا ضعيف كما أشار إليه ابن القيم رحمه الله، يقول ابن القيم رحمه الله: القول بتغسيل الشهيد أضعف من القول بالصلاة عليه؛ لأن بعض أهل العلم كـأبي حنيفة رحمه الله يرى أن الشهيد يصلى عليه، لكن يقول ابن القيم رحمه الله: الخلاف في تغسيل الشهيد أضعف من الخلاف في الصلاة عليه؛ لأن تغسيل الشهيد لم يرد فيه من الآثار ما ورد في الصلاة على الشهيد، الشهيد ورد فيه آثار بالنسبة للصلاة عليه، أما بالنسبة للتغسيل فلم يرد شيء من ذلك. وعلى هذا نقول: القول بتغسيل الشهيد ضعيف، بل العلماء رحمهم الله اختلفوا في حكم تغسيله هل هو مكروه أو محرم؟ فبعض العلماء قالوا: يحرم تغسيله، وبعضهم قال: يكره تغسيله. وعلى كل حال تغسيل الشهيد هذا ليس مشروعاً بل منهي عنه، وهذا النهي إما أن يكون نهي تحريم، وإما أن يكون نهي كراهة.وقال المؤلف رحمه الله: (إذا مات في المعركة). قيد ذلك إذا مات في المعركة؛ فيفهم من ذلك أنه إذا حمل من المعركة ثم مات فإنه يغسل. والدليل على ذلك: قصة سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، ( فإن سعداً أصيب في أكحله ثم بعد ذلك حمل وضرب له النبي صلى الله عليه وسلم خيمةً في المسجد لكي يعوده من قريب فمات، فغسل وصلي عليه ).يقول المؤلف رحمه الله: بأنه إذا مات في المعركة فإنه لا يغسل، أما لو جرح ثم حمل من المعركة ثم مات فإنه يغسل؛ والدليل على ذلك ما أشرنا إليه من قصة سعد رضي الله تعالى عنه فإنه أصيب فحمل وضرب له النبي عليه الصلاة والسلام قبة، ثم بعد ذلك غسل. والصواب في هذه المسألة أن يقال: إنه ينظر إلى جرح هذا الشهيد، فإن كان جرحه موحياً يعني: إذا كانت الإصابة قاتلةً فإنه حتى ولو حمل ولو تكلم أو عطس أو أكل أو شرب.. إلى آخره فإن هذا وإن لم يكن ميتاً فإنه في حكم الميت. فنقول: إن كان الجرح موحياً يعني: قاتلاً ثم مات فإنه لا يغسل, ويأخذ أحكام الشهداء، أما إن كان الجرح غير موح ليس قاتلاً كحال سعد رضي الله تعالى عنه فإنه إن مات يغسل ويصلى عليه، اللهم إلا إن مات وكان موته قريباً من حمله, يعني لا يكون هناك فاصل طويل عرفاً بل حمل ثم مات، فنقول: بأنه لا يغسل. فأصبح التفصيل في هذه المسألة نقول: إن كان الجرح موحياً قاتلاً فإننا لا نغسله ويأخذ أحكام الشهداء، أما إن كان الجرح غير موح ليس قاتلاً فإنه يغسل إلا إن مات قريباً بحيث لا يكون هناك فاصل.

الصلاة على الشهيد
قال المؤلف رحمه الله: [ولم يصل عليه]. هذا ما عليه جماهير أهل العلم رحمهم الله أنه لا يصلى على الشهداء؛ ودليل ذلك حديث جابر في البخاري : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام دفن شهداء أحد ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم ).وأيضاً: الصلاة على الميت كما سبق لنا أنها شفاعة، والشاهد شفيع، وكفى ببارقة السيوف على رأسهم شفاعة، فهو يشفع، فلا يشفع فيه، فما عليه جمهور أهل العلم أنه لا يصلى عليه.وعند أبي حنيفة رحمه الله أن الشهيد يصلى عليه؛ لحديث عقبة بن عامر في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ).والجواب عن قصة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام على شهداء أحد نقول: بأن هذه الصلاة صلاة خاصة أراد منها النبي صلى الله عليه وسلم أن يودع أهل أحد, فإن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته خرج إلى أهل البقيع وزارهم ودعا لهم، وخرج إلى أهل أحد وصلى عليهم صلاة الميت، وهذا بعد ثمان سنوات من معركة أحد يعني في آخر حياته. فهذه صلاة توديع من النبي عليه الصلاة والسلام لأهل أحد في آخر حياته، فودع النبي عليه الصلاة والسلام الأحياء والأموات، ودعا لأهل البقيع ودعا أيضاً للشهداء، فالشهداء خرج وصلى عليهم صلاة الميت، وأهل البقيع خرج ودعا لهم، واستغفر لهم، وهذه ليست هي صلاة الميت المعروفة، إذ لو كانت صلاة الميت المعروفة لبادر بها النبي عليه الصلاة والسلام بعد الموت مباشرة، ولم يتركها ثمان سنوات حتى آخر حياته. فنقول: بأن هذه صلاة توديع؛ كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله، فأراد منها النبي صلى الله عليه وسلم أن يودع الأحياء والأموات كما سلف، فهي ليست الصلاة على الميت. وأما ما روي ( أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على حمزة , وصلى على شهداء أحد بعد المعركة ) فهذا كله شاذ لا يثبت، وإن أثبته بعض أهل العلم فنقول: بأن هذه الروايات كلها شاذة. وأما حديث شداد بن الهاد في قصة الأعرابي في سنن النسائي الذي ( جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبايعه وآمن به ثم بعد ذلك أصابه سهم فأدرجه النبي عليه الصلاة والسلام في أثوابه ثم قدمه وصلى عليه )، فهذا الحديث لا يعارض حديث جابر في الصحيح، حديث جابر أقوى منه وأصح منه. فنقول: الصواب في هذه المسألة: أن الشهيد لا يصلى عليه، فأجبنا عن حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى بأنه صلاة توديع وليست هي الصلاة الخاصة بالأموات، وأما ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على حمزة أو صلى على شهداء أحد فهذا كله شاذ، وأما ما يتعلق بحديث شداد بن الهاد فقلنا: حديث جابر أصح وأقوى منه.

تكفين الشهيد
قال المؤلف رحمه الله: [وينحى عنه الحديد والجلود ثم يزمل في ثيابه، وإن كفن بغيرها فلا بأس]. معنى ينحى عنه الحديد والجلود: ينزع عنه؛ وقد ورد في سنن أبي داود من حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بشهداء أحد أن ينزع عنهم الحديد، وأن يدفنوا بثيابهم ودمائهم ) لكن هذا الحديث ضعيف، لكن الدليل على هذا حديث مصعب بن عمير : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كفنه بنمرةً له، إذا غطي رأسه بدت رجلاه، وإذا غطيت رجلاه بدا رأسه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطى الرأس, وأن يجعل على رجليه شيء من الحشيش ). فظاهر هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام اقتصر على هذه النمرة، وأيضاً كونه يكون معهم شيء من السلاح… إلى آخره يدفن معهم هذا فيه شيء من الإسراف.قال: (ثم يزمل في ثيابه). ما سبق أن ذكرناه من حديث خباب رضي الله تعالى عنه في قصة مصعب بن عمير ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كفنه بنمرةً له، كان إذا غطي رأسه بدت رجلاه، وإذا غطيت رجلاه بدا رأسه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطى الرأس، وأن يجعل على رجليه شيء من الحشيش ).قال: (وإن كفن بغيرها فلا بأس). يعني: إذا كفن بغير ثيابه فلا بأس، فلو فرض أن هذا الشهيد أخذت منه هذه الثياب, ثم أتينا بثياب أخرى فكفناه بها فلا بأس في ذلك، وقد ورد ( أن صفية رضي الله تعالى عنها أرسلت ثوبين ليكفن حمزة فيهما، فكفنه النبي صلى الله عليه وسلم في أحدهما ).

غسل المحرم وتكفينه
قال المؤلف رحمه الله: [والمحرم يغسل بماء وسدر، ولا يلبس مخيطاً، ولا يقرب طيباً]. لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تقربوه طيباً )، وفي لفظ: ( ولا تحنطوه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ). فقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ) هذا دليل على أن حكم الإحرام لا يزال باقياً عليه، وإذا كان حكم الإحرام لا يزال باقياً عليه فإنه يأخذ حكم المحرم الحي لا نطيبه، ولا نلبسه المخيط، ولا نقلم أظافره، وأيضاً لا نحلق رأسه.. إلى آخره، حكم الإحرام لا يزال باقياً عليه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ولا تقربوه طيباً، ولا تحنطوه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ).قال المؤلف رحمه الله: [ولا يقطع شعره ولا ظفره] كالمحرم الحي.

دفن الميت

حكم دفن الميت
قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب دفن الميت في لحد]. دفن الميت حكمه فرض كفاية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بدفن الميت، والله عز وجل يقول: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21] ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أكرمه بدفنه. ويدل لذلك أيضاً ما في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصناديد بدر أن يقذفوا في طوي من أطواء بدر )، يعني: في بئر من آبارها، وأيضاً: ( لما توفي أبو طالب جاء علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: اذهب فواره ). فهذا أمر بالدفن، والأمر يدل على الوجوب، وإنما كان هذا الوجوب أو هذا الفرض على الكفاية؛ لأنه سبق لنا أن الأمر إذا تعلق بالعمل أو لوحظ فيه العمل فهو على الكفاية، وإذا لوحظ فيه العامل فهو فرض عين، وهنا الذي لوحظ فيه هو العمل، فالمقصود تحصيل هذا العمل، فهذا فرض كفاية.

صفة دفن الميت
قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب دفن الميت في لحد].العلماء رحمهم الله يذكرون للدفن صفتين: الصفة الأولى: الصفة الكاملة. والصفة الثانية: الصفة المجزئة.الدفن له صفتان: صفة مجزئة، وصفة كاملة.أما الصفة المجزئة؛ فهي أن يوارى يدفن بحيث تمتنع عنه السباع، وأيضاً لا يحصل منه رائحة، هذه هي الصفة المجزئة. وأما الصفة الكاملة فهي أن يحفر له، وأن يوسع، وأن يلحد له؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام يوم أُحد: ( احفروا وأوسعوا وأعمقوا )، قال العلماء رحمهم الله: وقدر ذلك نصف قامة رجل. فنقول: الدفن الكامل المستحب أننا نحفر ونوسع ونعمق ونضع له لحداً، واللحد هو أن يحفر وإذا وصلنا إلى الجدار في قعر القبر من جهة القبلة نحفر في طرف هذا الجدار من جهة الأسفل ما يسع الميت؛ ودليل ذلك قول سعد رضي الله تعالى عنه كما في صحيح مسلم : ( الحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم )، فالسنة أن يلحد.وهناك طريقة أخرى أيضاً وهي الشق، والشق هي أن يحفر في وسط القبر مثل الساقي الصغير يجعل فيه الميت على جنبه الأيمن، ورأسه إلى جهة القبلة، لكن اللحد أفضل من الشق؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لحد له، لكن قد يحتاج إلى الشق لطبيعة الأرض فإنه يصار إلى الشق.قال المؤلف رحمه الله: [وينصب عليه اللبن نصباً كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل القبر آجراً ولا خشباً ولا شيئاً مسته النار]. الآجر هو الطين المطبوخ، الطوب الأحمر، والخشب أيضاً؛ لأنه مادة النار، ولا شيئاً مسته النار، وهذا هو الوارد عن السلف رحمهم الله، فإن السلف كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب تفاؤلاً في عدم تأذي هذا الميت، وأيضاً يكرهون أن يدخل في القبر شيء مسته النار تفاؤلاً ألا يصاب هذا الميت بشيء من النار. فنقول: هذا وارد عن السلف رحمهم الله أنهم كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب والآجر، وإنما السلف رحمهم الله استحبوا اللبن وكرهوا الخشب والآجر كما تقدم تفاؤلاً ألا يصاب بشيء من النار؛ لأن الخشب هو مادة النار، والآجر هذا كما تقدم مطبوخ بالنار.

التعزية

حكم التعزية
قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب تعزية أهل الميت]. التعزية هي التسلية، يعني: تسلية المصاب عن مصيبته، فيستحب أن نعزي أهل الميت؛ ويدل لذلك حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من فرج عن مسلم كربةً فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة )، وأيضاً فعل النبي عليه الصلاة والسلام ( فإن النبي عليه الصلاة والسلام عزى ابنته لما مات ابن لها, فقال: إن لله ما أخذ, وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب ).والتعزية إنما تكون للمصاب، فإذا كان هناك أحد من أهل الميت مصاب فإنه يعزى، أما إذا لم يكن هناك إصابة فإنه لا يشرع، ويعزى بما عزى به النبي صلى الله عليه وسلم، هذا أحسن شيء، وهو: إن لله ما أخذ, وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، اصبر واحتسب.

البكاء والنياحة على الميت
قال المؤلف رحمه الله: [والبكاء عليه غير مكروه إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة]. الندب: هو تعداد محاسن الميت، والندب قسمه العلماء رحمهم الله إلى قسمين: الأول: ندب مذموم؛ وهو أن يكثر من الندب؛ لأن هذا يهيج الأحزان، يعني يشرع في تعداد محاسن الميت, مات فلان الذي يصل الرحم، ويبر الوالدين، ويأتينا بالطعام والشراب واللباس وغير ذلك، هذه الأشياء تهيج الأحزان، والشرع جاء بتخفيف الأحزان.الثاني: ندب يسير؛ وهذا أجازه العلماء؛ لقول فاطمة رضي الله تعالى عنها لما مات النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا أبتاه! أجاب رباً دعاه، يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه! إلى جبريل نعاه )، وهذا في البخاري ، فقال العلماء: إذا كان الندب يسيراً فإنه لا بأس به. أما الندب الذي فيه تعداد محاسن الميت بحيث إنه يهيج الأحزان, ويدعو إلى البكاء, فإن هذا مذموم ومنهي عنه.قال: (والبكاء عليه). أيضاً البكاء ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: بكاء طبيعي تمليه الطبيعة ليس فيه تكلف وإنما شيء تمليه الطبيعة، فنقول: بأن هذا جائز، والنبي عليه الصلاة والسلام بكى لما مات ابنه إبراهيم وقال: ( إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون )، فإذا كان البكاء طبيعياً تمليه الطبيعة فهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( رحمة جعلها الله في قلوب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ).القسم الثاني: بكاء متكلف؛ بأن يكون هناك رفع للصوت، أو يصحب البكاء ندب تعداد محاسن الميت، أو يكثر منه، فنقول بأن هذا مذموم. قال: (ولا نياحة). النياحة فسرها العلماء رحمهم الله بتفسيرين: الأول: قالوا: بأن النياحة هي البكاء مع الندب، إذا اجتمع البكاء والندب فهذه نياحة، يعني يبكي ويعدد محاسن الميت، يبكي ويقول: ذهب فلان الذي يفعل ويفعل ويفعل… إلى آخره، فهذا القول الأول.الثاني: أن المراد بالنياحة هو أن تجتمع عدة نساء على البكاء. ولا شك أن النياحة من كبائر الذنوب، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب )، وهذه عقوبة خاصة، ولا تكون هذه العقوبة الخاصة إلا على كبيرة من كبائر الذنوب.

أحوال المصاب بمصيبة
الإنسان إذا أصيب بمصيبة فله أحوال: الحالة الأولى: الصبر؛ وهذا واجب، والصبر: أن يحبس القلب واللسان والجوارح عما نهي عنه، فيحبس قلبه عن كراهة قضاء الله وقدره ورفضه وعدم التسليم له، ويحبس لسانه عن السب والشتم ونحو ذلك، ويحبس جوارحه عن الضرب أو إتلاف المال ونحو ذلك؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية ) هذا في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.الحالة الثانية: التسخط، والتسخط هي ضد الصبر، وهي محرمة، يكون التسخط بالقلب وباللسان وبالجوارح، فبالقلب أن يسخط قضاء الله وقدره، يعني: يكره قضاء الله وقدره، ولا يسلم، وباللسان أن يفعل المحرم من السب والشتم والقذف، وبالجوارح أن يفعل المحرم باللسان أن يقول المحرم، والجوارح أن يفعل المحرم من الضرب أو الشق أو إتلاف المال أو غير ذلك.الحالة الثالثة: الرضا؛ والرضا ينقسم إلى قسمين: رضا بالقضاء والقدر، ورضا بالمقدور والمقضي، أما الرضا بالقضاء والقدر فهذا واجب، يجب على الإنسان أن يرضى بقضاء الله وقدره، أما الرضا بالمقضي والمقدور فهذا سنة، الأفضل أن ترضى. يعني: لا يلزم للإنسان إذا حصل عليه حادث في سيارته أن يرضى بهذا، لو كره ذلك لا يلام على هذا، أو أنه لو مات قريب الأفضل له أن يرضى بذلك، لو كره ذلك هذا لا يلام عليه، لكن الأفضل أن يرضى وأن يسلم، هذا تمام الإيمان بقضاء الله وقدره. فنقول: المقضي والمقدور (المصائب) لا يلزم الرضا بها، لكن يستحب الرضا بها، لكن فعل الله عز وجل من القضاء والقدر هذا يجب الرضا به.الحالة الرابعة: الشكر؛ وهو أن يشكر الله عز وجل على هذه المصيبة التي حلت به؛ لأن هذه وإن كانت في ظاهرها مصيبة إلا أنها في باطنها منحة من الله عز وجل، فإنه لا يزال العبد يبتلى في أهله وماله حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة. ولهذا شرع للإنسان إذا أصيب بمصيبة أن يسترجع, وأن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها، وأن يحمد الله عز وجل، فكونه شرع له أن يحمد الله دل ذلك على أن هذه منحة من الله عز وجل: ( وما يصيب المؤمن من هم ولا غم، ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه )، ( وإذا ابتلي العبد بحبيبتيه -يعني: بعينيه- فصبر عوض عنهما في الجنة ).

زيارة القبور
قال المؤلف رحمه الله: [لا بأس بزيارة القبور للرجال]. هذه العبارة فيها نظر، الصواب أن زيارة القبور للرجال سنة؛ لما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكركم الموت )، فزيارة القبور هذه سنة، وزيارة القبور يقسمها العلماء رحمهم الله إلى قسمين: القسم الأول: زيارة مشروعة.والقسم الثاني: زيارة بدعية.أما الزيارة المشروعة السنية فهي التي ينتفع منها الزائر، وينتفع المزور، أما الزائر فإنه ينتفع بالتذكر، والاتعاظ، وتحصيل السنة، وامتثال الأمر، ونيل الأجر، ينتفع الزائر بهذه الأشياء: يتذكر، ويتعظ، وأن مآله سيكون إلى مثل ما صار إليه صاحب هذا القبر، وأيضاً ينال الأجر وتحصل له السنة… إلى آخره، هذه الزيارة السنية، وأما بالنسبة للمزور فما يحصل له من الدعاء. وأما الزيارة البدعية فهي التي يقصد منها أو التي يحصل فيها شيء من البدع أو الشركيات، مثل أن يتحرى الدعاء عند هذا القبر، أو أن يتحرى فعل العبادة عند هذا القبر، أو أن يتمسح بالقبر، أو أن يتوسل به إلى الله عز وجل، أو أن يصرف له شيئاً من أنواع العبادة… إلى آخره، كما عليه أهل الخرافة والصوفية والقبوريون.قال المؤلف رحمه الله: [ويقول إذا مر بها أو زارها: سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، نسأل الله لنا ولكم العافية]. قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث: ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ) ما هو وجه التعليق على المشيئة مع أنه محقق اللحوق؟ يعني: كوننا سنموت هذا أمر محقق لا مرية فيه، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] ، لكن كيف قال: ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون )؟ قال بعض العلماء: إن التعليق هنا ليس على أصل الموت، وإنما التعليق على المكان، يعني: إن شاء الله سنلحق بكم في هذا المكان.وقال بعض العلماء: إن المراد التعليق على الإيمان، يعني: إن شاء الله نموت على الإيمان. وقال بعض العلماء: إن المراد هنا ليس التعليق وإنما المراد التعليل، يعني: إن لحوقنا بكم سيكون بمشيئة الله عز وجل. وقال بعض العلماء: إن التعليق على الزمن يعني: متى شاء الله أن نلحق بكم لحقنا بكم.بالنسبة للزيارة كيفية الزيارة, قال العلماء: يزور الميت كما يزور الحي، وإذا زار الحي فإنه يقابله، يعني يجعل وجهه إلى وجهه، وعلى هذا إذا زرت الميت فإنك تجعل وجهك إلى وجه الميت، وحينئذ تجعل ظهرك إلى جهة القبلة، الميت سيكون على جنبه الأيمن ووجه للقبلة، فأنت تجعل ظهرك إلى جهة القبلة، وتقف عند رأسه بحيث تجعل وجهك إلى وجهه ثم تسلم عليه، ثم بعد ذلك تدعو له. قال العلماء: إذا دعا ينصرف إلى القبلة، يتوجه إلى القبلة ويدعو له، وإذا رفع يديه حال الدعاء فإن هذا أيضاً لا بأس به؛ كما ورد ذلك في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ( لما زار النبي عليه الصلاة والسلام أهل البقيع رفع يديه ). فنقول: كيفية الزيارة أن الإنسان يجعل وجهه إلى وجه الميت وظهره إلى جهة القبلة، ثم بعد ذلك إذا أراد أن يدعو فإنه ينحرف إلى القبلة، ويرفع يديه، كما ورد ذلك من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.

إهداء الثواب للموتى
قال المؤلف رحمه الله: [وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك]. القربة العبادة، يعني على كلام المؤلف رحمه الله أن أي عبادة تفعلها ثم تهدي ثوابها إلى الميت فإنه يصله بإذن الله، وسواء كانت هذه العبادة بدنية أو مالية، يعني لو أن الإنسان تصدق بصدقة ثم أهدى ثواب هذه الصدقة لأبيه الميت، أو لأخيه، أو صلى ثم أهدى ثواب هذه الصلاة لأبيه أو لأخيه، أو أنه صام، أو أنه قرأ القرآن أو نحو ذلك. فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن سائر القرب سواء كانت بدنيةً, أو ماليةً, أو مركبة من المال والبدن مثل الحج والعمرة إذا أهديت ثواب هذه الأشياء إلى الميت فإنها تصله، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.والحنابلة رحمهم الله هم أوسع المذاهب في هذه المسألة.وبعد فسبق لنا في آخر كتاب الجنائز شيء من مسائل زيارة القبور، وذكرنا أن زيارة القبور تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: زيارة شرعية. والقسم الثاني: زيارة بدعية.وذكرنا ضابط كل قسم من هذه الأقسام، وأيضاً تكلمنا عما يتعلق بكيفية الزيارة، وأين يقف الزائر، وصيغة الدعاء عند الزيارة.. إلى آخره. وفي آخر هذا الكتاب تكلم المؤلف رحمه الله عن إهداء القرب، إهداء ثواب العبادات للأموات وغيرهم، وذكر أن أي قربة يفعلها المسلم ثم يهدي ثوابها لمسلم حي أو ميت فإنه يصله هذا الثواب، وذكرنا أن هذه القرب تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: قرب مالية، يعني: عبادات مالية.والقسم الثاني: قرب مركبة من المال والبدن.أما القرب المالية فمثل الصدقة، كما لو تصدق إنسان عن أبيه الميت، أو أعتق رقيقاً وجعل ثواب هذا العتق لأبيه الميت، أو وقف وقفاً وجعل ثوابه لقريبه الميت ونحو ذلك.قلنا: القرب المالية والقرب المركبة من المال والبدن مثل الحج والعمرة، كما لو حج وجعل ثواب هذا الحج لقريبه، أو اعتمر وجعل ثواب هذه العمرة لقريبه. وأيضاً من أمثلة القرب المالية الأضحية، لو ضحى وجعل ثواب هذه الأضحية لقريبه الميت ونحو ذلك فهذه يصل ثوابها، ثواب القرب المالية والقرب المركبة من المال والبدن يصل ثوابها؛ ويدل لهذا حديث ابن عباس : ( أن امرأةً أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي عنها ).وأيضاً: يدل لهذا حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في صحيح مسلم : ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمه التي ماتت أينفعها إن تصدق عنها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم ).وأيضاً: في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أن رجلاً ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن أباه مات ولم يوص أفيتصدق عنه؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم ).فهذه الأدلة ونحوها تدل على أن القرب المالية والقرب المركبة من المال والبدن يصل ثوابها، وينفع ذلك الميت.القسم الثاني: العبادات البدنية؛ مثل الصلاة، قراءة القرآن، الصيام، الاعتكاف، الذكر، لو أن الإنسان صلى وجعل ثواب هذه الصلاة لقريبه الميت، أو قرأ القرآن أو جزءاً منه ثم أهدى ثوابه، أو أنه ذكر الله، أو اعتكف ثم أهدى ثواب هذه العبادات للميت هل يصل أو لا يصل؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يصل ثوابها، والحنابلة رحمهم الله هم أوسع المذاهب في هذه المسائل، فيرون أنه يصل الثواب مطلقاً، سواءً كانت العبادة مالية أو مركبة من المال والبدن، أو كانت العبادة بدنية، فالمشهور عند الحنابلة أنه إذا فعل عبادةً بدنية ثم أهدى ثوابها فإن ثوابها يصل.وعند الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك والشافعي : أنه لا يصل الثواب فيما يتعلق بالعبادات البدنية, والحنابلة احتجبوا بمثل حديث عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )، فهذا يدل على أن الإنسان إذا صام عن قريبه الميت أن ذلك ينفعه، لو مات وعليه صيام واجب ولم يصم فإنه ينفعه لو صام عنه أحد، ومثل ذلك إهداء الثواب.وأما الذين قالوا بأنه لا يصل؛ فاستدلوا بأن الله عز وجل قال: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، وأيضاً ورد عن ابن عباس : أنه لا يصلي أحد عن أحد, ونحو ذلك. والصواب في هذه المسائل أن يقال: إن إهداء القرب ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: مشروع؛ وهو ما ورد النص به وهو الدعاء، فإن الله عز وجل قال: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10] ، فنقول: ما يتعلق بالدعاء السنة إهداء ثوابه، السنة أن يدعو المسلم لقريبه الميت والحي، وأنه مأمور بذلك، وأن هذا الدعاء ينفعه عند الله عز وجل، وأيضاً يدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، وذكر منها: أو ولد صالح يدعو له )، فدل ذلك على أن الدعاء ينفع الميت، فنقول:القسم الأول: إهداء العبادة المشروعة، وهذا يتعلق بالدعاء والاستغفار.القس الثاني: ما عدا ذلك من إهداء ثواب الصدقة، وإهداء ثواب الحج والعمرة، وكذلك أيضاً الصلاة وقراءة القرآن والصيام فنقول: بأن هذا كله يصل ثوابه إلى الميت، وينتفع به الميت، لكن هذا ليس من المشروع، وإنما هو من المباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بذلك. فنقول: بأنه لا يفرض على الإنسان إذا فعل عبادة وأهدى ثوابها لقريبه الميت أو لقريبه الحي فإن ذلك يصل بإذن الله عز وجل، فيكون القسم الثاني المباح وهو بقية العبادات نقول: إهداء ثوابها مباح, ويصل إن شاء الله، لكن يبقى النظر أنه ليس من المشروع أن يكثر الإنسان من ذلك، المشروع أن يكثر الإنسان من القسم الأول وهو الدعاء، لكن لو فعل ذلك أحياناً وأهدى الثواب فنقول: بأن هذا يصل إن شاء الله؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما تقدم لنا في حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة وغيرهما أذن في الوصية للميت، وأذن في الصدقة للميت.. إلى آخره.

الأسئلة

الإعراض عن الوساوس بعد الاستنجاء من البول
السؤال: إذا قضيت حاجة التبول أقوم بغسل ذكري بالماء ثم أنشفه بمنديل أو غيره ثم ألاحظ بعد أن أتوضأ أن في مقدمة الذكر عند مخرج البول رطوبة ظاهرة، هل يلزمني إعادة الوضوء أم ماذا؟ وهذا يتكرر.الجواب: الإنسان إذا قضى حاجته من البول يغسل رأس الذكر، ولا حاجة إلى أن يشف بالمنديل، صحيح إذا أراد أنه يجمع بين الاستجمار والاستنجاء هذا طيب، يبدأ أولاً بالتنشيف بالمنديل ثم يغسل رأس الذكر، وإذا توضأ أجزأ، ولا تنظر إلى شيء آخر، لا تعلق قلبك بمثل هذه الأمور، بل تذهب وتصلي، وصلاتك صحيحة إن شاء الله.

محل دعاء الاستخارة
السؤال: دعاء الاستخارة هل يقال في السجود أم بعد التشهد أم بعد السلام؟ الجواب: دعاء الاستخارة ظاهر الحديث أنه يقال بعد السلام، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: الأفضل أن يكون قبل السلام؛ لأن كون الإنسان يقوله قبل أن يسلم أفضل من كونه يقوله بعد السلام، والعلة في ذلك ظاهرة، فإن كون الإنسان في صلاة فهو أقرب إلى الله عز وجل من كونه خارج الصلاة، والأمر في هذا واسع إن شاء الله، يعني إذا قاله بعد التشهد قبل السلام أو قاله بعد السلام الأمر في هذا واسع إن شاء الله.

حكم اعتداد المسبوق بالركعة الخامسة التي زادها الإمام سهواً
السؤال: إذا زاد الإمام ركعة سهواً في صلاة الرباعية, هل تعتبر هذه الركعة الزائدة متممة لمسبوق تخلف عن الإمام؟الجواب: نقول: إذا زاد الإمام ركعة خامسة ثم جاء مسبوق, فهذا المسبوق لا يخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يعلم أنها زائدة، فإذا كان يعرف أنها زائدة فلا يتابع الإمام عليها، كل من عرف أنها زائدة لا يتابع الإمام عليها، لكن إذا كان يجهل أنها زائدة أو يجهل الحكم، ما يعرف ثم تابع الإمام فإنه يعتد بهذه الزيادة، هذا اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله خلافاً لمذهب أحمد . الصواب: أنه إذا كان يجهل أنها زائدة يعني يجهل الحال أو يجهل الحكم نقول: الصواب أنه يعتد بها.
حكم التعزية لمن فاته أجر عظيم

السؤال: ما حكم من يعزي من فاته أجر عظيم مثل صلاة الفجر؟الجواب: نقول: هذا لم يرد، يعني وإن كان ورد عن بعض السلف رحمهم الله لكن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتصر على ما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام.

الجلوس عند أهل الميت للتعزية
السؤال: يقول: هل الجلوس عند أهل الميت من النياحة؟ الجواب: هذا لا يعتبر من النياحة، اجتماع أهل الميت في مكان لتعزيتهم هذا لا يعتبر من النياحة، وقد نص على ذلك الفقهاء الحنابلة رحمهم الله، نقول: بأن هذا إن شاء الله لا بأس به، لكن من أتى لكي يعزي فإنه لا يطيل المقام.

تغسيل الميت بثيابه لعذر
السؤال: إدراج الماء على الميت حالة وجود الرجل بين النساء هذا ليس فيه تنظيف بل فيه زيادة تنجيس الميت؟الجواب: لا، نحن ذكرنا أن الغسل المجزئ هو أن يعم الماء البدن، فإذا عممنا الماء للبدن فهذا فيه تنظيف فيه تطهير، وإن لم يكن التنظيف الكامل والتطهير الكامل.
مكان وقوف الداعي للميت
السؤال: إذا أراد الإنسان الدعاء للميت بعد دفنه أين يقف؟ وما حكم الالتفات حول القبر حال الدعاء للميت بعد دفنه؟ الجواب: يقف على القبر؛ كما قال الله عز وجل: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] ، لا تقم على أي جزء من أجزاء القبر، ( وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا دفن الميت قال: استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ).تقوم على قبره على أي جزء من القبر، وتستغفر له، وتسأل له التثبيت.

التيمم بغبار تراب داخل قماش
السؤال: ما حكم وضع التراب في داخل قماش ويحافظ عليه ويتيمم به المريض، فإن ضربه خرج الغبار من خلال القماش، والعلة في هذه الطريقة حتى لا يتسخ المستشفى؟ الجواب: التيمم كما سبق لنا ليس خاصاً بالتراب، بل كل ما تصاعد على وجه الأرض يصح التيمم عليه؛ كما هو قول أبي حنيفة ومالك ، فيصح أن تتيمم على صخرة، ويصح أن تتيمم على قطعة من الرخام، أو على قطعة من البلاط وغير ذلك، يعني كل ما تصاعد على وجه الأرض فإنه يصح التيمم عليه.
تجهيز القبور قبل حصول الأموات

السؤال: هل من السنة تجهيز القبور قبل حصول الأموات؟الجواب: تهيئة القبور للأموات هذا هو الأفضل وعليه عمل الناس اليوم؛ لأن هذا أسرع في تجهيز الميت، النبي عليه الصلاة والسلام كما سبق لنا في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: ( أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخيراً تقدموها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ).

الكسوة في كفارة اليمين
السؤال: عندي ثلاثة أيمان ولم أكفر عن أي واحدة منها، وناسي واحدة منها, والتكفير يكون إطعام هل يجوز أن أبدل الإطعام بشراء كساء أو ثياب للصغار؟ الجواب: نقول: نعم، أنت مخير، من عليه كفارة يمين هو مخير بين أن يطعم عشرة مساكين، أو أن يكسوهم، أو أن يعتق رقبة، إذا لم يجد الكفارة المالية فإنه ينتقل إلى الكفارة البدنية يعني يصوم ثلاثة أيام، لا ينتقل إلى الصيام حتى يعجز عن الإطعام أو الكساء، أو إعتاق الرقبة، وسواء كسوت صغاراً أو كباراً المهم تكسي عشرة مساكين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-20, 04:19 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الزكاة [1]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(33)

تجب الزكاة على كل مسلم، حر، ملك نصاباً ملكاً تاماً، حال عليه الحول، وتجب الزكاة على ما زاد على النصاب بحسابه، أما الحال المستفاد وأثناء الحول فأقسام ولكل قسم حكمه.
تعريف الزكاة وأهميتها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كتاب الزكاة].لما تكلم المؤلف رحمه الله عن أحكام الصلاة أردفه بأحكام الزكاة، وذلك لأمرين:الأمر الأول: اتباعاً للقرآن، فإن القرآن قرن بين الزكاة والصلاة فيما يقرب من ثلاثة وثمانين موضعاً، واتباعاً للسنة، كما في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا رتب أركان الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان ). والأمر الثاني: إن حاجة المسلم إلى معرفة أحكام الزكاة أكثر من حاجته إلى معرفة أحكام الصيام والحج، فأردف المؤلف رحمه الله- ما يتعلق بأحكام الزكاة بأحكام الصلاة.والزكاة في اللغة: تطلق على معان، منها النماء، والزيادة، والتطهير، والمدح، والصلاح، فنقول: في اللغة: تطلق على معانٍ منها: النماء، والزيادة، والتطهير، والمدح، والصلاح... إلى آخره.وأما في الاصطلاح: فهي التعبد لله عز وجل بإخراج جزء مخصوص من المال لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص. والأصل في الزكاة من حيث الدليل: الكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب فالأدلة في ذلك ظاهرة، كقول الله عز وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وسيأتينا في ثنايا البحث كثير من ذلك، والسنة كما تقدم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والإجماع، المسلمون مجمعون على الزكاة، وأنها فرض من فرائض الإسلام.

شروط وجوب الزكاة
قال المؤلف رحمه الله: [وهي واجبة على كل مسلم]. هذا كما تقدم الوجوب دل عليه القرآن، والسنة، والإجماع؛ لكن اشترط المؤلف رحمه الله لهذا الوجوب شروطاً: الشرط الأول: أن يكون مسلماً، وعلى هذا الكافر لا تجب عليه الزكاة، وسبق أن أشرنا إلى هذه المسألة، وأن الكافر يتعلق به خطابان أو تكليفان: الخطاب الأول: خطاب وجوب الأداء، فهذا لا يتوجه إلى الكافر، فالكافر لا يجب عليه أن يؤدي الزكاة؛ لأنه فاقد لأصل التوحيد، والله عز وجل قال: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54]، فلأنهم كفروا بالله ورسوله لا تقبل منهم نفقاتهم، فما يتعلق بخطاب وجوب الأداء هذا لا يتوجه إلى الكافر.الخطاب الثاني: ما يتعلق بخطاب وجوب التكليف، ونقول: بأن الكافر مكلف بهذه الشرائع، وأنه سيحاسب عند الله عز وجل عليها، ويدل لهذا قول الله عز وجل: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر:42-45]، فلكونهم يخوضون مع الخائضين ولا يطعمون المسكين كان ذلك له أثر بتعذيبهم في النار، وإلا لم يذكره الله عز وجل.قال: [حر].هذا الشرط الثاني: أن يكون حراً، وعلى هذا الرقيق الذي يباع ويشترى لا تجب عليه الزكاة، وهذا بالإجماع؛ لأن الرقيق مال لا يملك شيئاً، بل هو من عروض التجارة يباع ويشترى ويجب على سيده أن يخرج الزكاة عنه، فنقول: الرقيق هذا لا تجب عليه الزكاة؛ لأنه مال لا يملك، والزكاة لا بد لها من الملك، وهذا بالإجماع.لكن إن كان هذا الرقيق مبعضاً، يعني: بعضه حر وبعضه رقيق، فنقول: تجب عليه الزكاة بقدر ما فيه من الحرية، فلو كان عندنا رقيق بعضه حر، وبعضه رقيق، نصفه حر، ونصفه رقيق، نقول: تجب عليه الزكاة بمقدار الحرية الموجودة فيه، فإذا كان عند الحر ألف ريال، تجب فيه خمسة وعشرون ريالاً ربع العشر، وإذا كان نصفه حراً ونصفه رقيقاً فيجب عليه نصف الخمسة والعشرين، وعلى هذا نقول: يجب عليه اثنا عشر ريالاً ونصف، وهكذا، فإذا كان ربعه حراً نقول: يجب عليه ربع الخمسة والعشرين وهكذا، كذلك أيضاً المكاتب الذي اشترى نفسه من سيده لا تجب عليه الزكاة؛ لأن المكاتب رقيق ما بقي عليه درهم.قال: [ملك نصاباً]. هذا الشرط الثالث: أن يكون مالكاً للنصاب، أو بلوغ النصاب، وعلى هذا إذا لم يبلغ النصاب فلا زكاة عليه، سيأتينا إن شاء الله في زكاة الذهب أن أقل نصاب الذهب عشرون مثقالاً، فلو كان عنده تسعة عشر مثقالاً فنقول: لا زكاة عليه، كذلك أيضاً أقل نصاب الإبل خمس، فخمس -كما سيأتينا- فيها شاة، لو أنه لم يملك إلا أربعاً نقول: لا زكاة عليه، كذلك أيضاً أقل نصاب الخارج من الأرض -كما سيأتينا إن شاء الله- خمسة أوسق، ثلاثمائة صاع، فلو أنه ملك أقل من ذلك، لم يبلغ ما خرج من الأرض في مزرعته النصاب فنقول: لا زكاة عليه، والأدلة على هذا كثيرة كما سيأتينا إن شاء الله، ومن ذلك حديث أنس في الكتاب الذي كتبه أبو بكر رضي الله تعالى عنه له حينما وجهه إلى البحرين، وجاء في الكتاب: ( هذه فريضة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات )، وبين أبو بكر رضي الله تعالى عنه في هذا الكتاب الأنصبة، أنصبة الإبل، وأنصبة البقر... إلى آخره، كما سيأتينا إن شاء الله.قال: [ملك تاماً].هذا الشرط الرابع: أن يكون ملكه تاماً يعني: مستقراً ليس عرضة للسقوط، فإن كان المال الذي يملكه عرضة للسقوط، فإنه لا تجب عليه الزكاة عند جمهور أهل العلم رحمهم الله، ومثل العلماء رحمهم الله لذلك بأمثلة، من هذه الأمثلة: دين المكاتب، قالوا: دين المكاتب لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه عرضة للسقوط، سبقنا أن أشرنا إلى تعريف المكاتب، وأن المكاتب هو الذي اشترى نفسه من سيده، فإذا كان عندنا رقيق اشترى نفسه من سيده بعشرة آلاف، كل شهر يدفع ألفاً، يملك في ذمة الرقيق عشرة آلاف ريال، هذا الدين هل تجب فيه الزكاة أو لا تجب فيه الزكاة؟ على كلام المؤلف رحمه الله أنه لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه عرضة للسقوط، إذ بإمكان الرقيق أن يعجز نفسه، وحينئذٍ يسقط الدين الذي عليه، ويعود رقيقاً، يعني: هذا المكاتب الرقيق بإمكانه أن لا يسدد وأن يترك التسديد، فحينئذٍ يسقط الدين الذي يريده السيد منه، ويعود المكاتب رقيقاً، فيملك أن يعجز نفسه، وحينئذٍ إذا عجز نفسه فإنه يعود رقيقاً ويسقط، وعلى هذا قالوا: بأن دين الكتابة لا زكاة فيه.قال المؤلف رحمه الله: [ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول إلا في الخارج]. هذا الشرط الخامس: اشتراط الحول، وهذا قول جمهور أهل العلم، فهم يشترطون في وجوب الزكاة مضي الحول، وهذا في الجملة، لأن هناك من الأموال الزكوية ما لا يشترط فيه مضي الحول كما سيأتي بيانه إن شاء الله.المهم: أن جمهور أهل العلم رحمهم الله يشترطون لوجوب الزكاة حولان الحول، ويدل لهذا حديث علي رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول )، وهذا الحديث فيه كلام لأهل العلم رحمهم الله؛ لكن قال ابن حجر رحمه الله: لا بأس بإسناده والآثار تعضده، فيصلح للحجة، وله شاهد من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، وكذلك أيضاً هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقد ورد ذلك عن علي كما في مصنف ابن أبي شيبة ، وورد ذلك أيضاً عن أبي بكرة كما في سنن البيهقي ، وورد عن ابن عمر كما في سنن البيهقي، وأيضاً النبي عليه الصلاة والسلام كان يبعث السعاة في كل عام، مما يدل على اشتراط الحول، ولم يحفظ أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يبعث السعاة كل شهر أو كل شهرين... إلى آخره، مما يدل على أنه يشترط لوجوب الزكاة مضي الحول.وخالف بعض أهل العلم كالظاهرية فقالوا: لا يشترط مضي الحول، واستدلوا على ذلك بالعمومات، كما في كتاب النبي عليه الصلاة والسلام في الصدقات، ( في كل خمس من الإبل شاة ) ولم يرد ذكر الحول، وكذلك أيضاً: ( في كل خمس وعشرين بنت مخاض ) ولم يرد ذكر الحول، وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( في الرقة ربع العشر )... إلى آخره مما سيأتي إن شاء الله من الأدلة، وكذلك أيضاً قالوا: بأنه وارد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الرجل يستفيد المال قال: يزكيه حين يستفيده، ولم يعتبر الحول، كذلك أيضاً ورد عن ابن مسعود ومعاوية فالأقرب في ذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، فإنه قول كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأيضاً لورود حديث علي رضي الله تعالى عنه، ولأن الزكاة شرعت مواساة، ولو قلنا: بأن الزكاة لا يشترط لها مضي الحول لكان في ذلك إجحاف بمال المزكي، وهي إنما شرعت على سبيل المواساة.

ما لا يشترط فيه الحول من الأموال الزكوية
قال المؤلف رحمه الله: [إلا في الخارج من الأرض]. هذا النوع الأول الذي لا يشترط فيه الحول من الأموال الزكوية، نحن قلنا: بأنه يشترط مضي الحول إلا في بعض الأموال الزكوية لا يشترط فيها مضي الحول، فالأول: الخارج من الأرض، الخارج من الأرض لا يشترط فيه مضي الحول، وعلى هذا لو كان عند الإنسان مزرعة وزرعها براً، ثم بعد ذلك أنتجت بعد خمسة أشهر أو ستة أشهر حصدها، فإنه لا يشترط أن يمضي الحول على هذا الحصد، بل نقول كما قال الله عز وجل: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141] ، فنقول: ما يتعلق بالحبوب والثمار لا يشترط مضي الحول، بل إذا حصد فإنه كما قال الله عز وجل: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141] .النوع الثاني: ربح التجارة:ربح التجارة هذا حوله حول أصله، وعلى هذا لو كان الإنسان عنده محل تجاري يبيع فيه سلعاً، مثلاً: عنده بقالة، وهذه البقالة افتتحها مثلاً في أول الحول، والسلع التي فيها تقدر بخمسين ألف ريال، شرع يتاجر ويبيع ويشتري، يعني: ابتدأ مثلاً في محرم، وعند مضي الحول في محرم من السنة القابلة كانت عروض هذه البقالة أو المحل التجاري تساوي مائة ألف، فنقول: بأنه يزكي عن مائة ألف ريال عن قيمته، وهذا الربح الذي حصل لم يحل عليه الحول، قد يكون ربح بعض الأموال قبل الحول بيوم أو يومين؛ لكن نقول: بأن ربح التجارة هذا حوله حول أصله، وأيضاً النبي عليه الصلاة والسلام كان يبعث السعاة لقبض الزكاة، ولذلك ما كانوا يستفصلون عن الأرباح، ومتى حصلت هذه الأرباح؛ ولأن اعتبار مثل هذه الأشياء فيه مشقة، إذ من المشقة الشديدة أن يحسب صاحب المال ربح كل مال يكسبه، فاليوم كسب كذا، وغداً... إلى آخره، فهذا فيه مشقة شديدة.والنوع الثالث: نتاج السائمة:أيضاً نتاج السائمة حوله حول أصله، ويدل لهذا قول عمر رضي الله تعالى عنه: (اعتد عليهم في السخلة، ولا تأخذها منهم) والسخلة: هي الصغير من أولاد الضأن، فاعتبرها عمر وأمر الساعي أن يعدها في الزكاة، وأن لا يأخذها، وأيضاً ما سبق أن أشرنا إليه حيث كان السعاة يخرجون ومع ذلك لم يرد أنهم كانوا يستفصلون عن النتاج متى حصل، ومتى لم يحصل. فنقول: بالنسبة لنتاج السائمة هذا حوله حول أصله، فلو فرض أن رجلاً ملك أربعين شاة في محرم، الأربعون الشاة هذه زكاتها شاة واحدة، تنامت هذه الشياه وقبل الحول بلغت هذه الشياة إحدى وعشرين ومائة، والغنم نصابها أربعون، ثم لا شيء فيها حتى تبلغ إحدى وعشرين ومائة، فإذا بلغت إحدى وعشرين من الشياه وجبت فيها شاتان، لو حال عليها الحول، وليس عنده إلا عشرون ومائة نقول: عليه شاة واحدة؛ لكن لو قبل الحول ولدت إحدى الشياه، وبلغت إحدى وعشرين ومائة، فإنه تجب عليه شاتان، هذه ثلاثة أنواع.النوع الرابع: العسل:سيأتينا إن شاء الله كلام أهل العلم في العسل، هل تجب فيه الزكاة أو لا تجب؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة أن الزكاة واجبة في العسل.وعند مالك والشافعي أن الزكاة لا تجب في العسل، وهذا هو الأقرب كما سيأتينا إن شاء الله.لكن على القول بأن الزكاة واجبة في العسل لا يشترط حولان الحول، فإذا أخرج من ملكه أو موات ما يساوي نصاباً فإنه يجب عليه أن يزكيه كما سيأتينا إن شاء الله.النوع الخامس: المعدن:لا يشترط فيه حولان الحول، فلو أن الإنسان أخرج من الأرض شيئاً من المعادن من الحديد أو النحاس، أو الصفر، ونحو ذلك من هذه المعادن، فبلغت قيمة هذا المعدن نصاب الذهب أو نصاب الفضة، فإنه حين الإخراج وبلوغ القيمة يجب عليه أن يخرج الزكاة ولا يشترط أن يحول عليه الحول، الحول هذا ليس بشرط.النوع السادس: الأجرة عند شيخ الإسلام:شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: بأن الأجرة لا يشترط لها الحول، وعلى هذا لو أن الإنسان أجر دكانه بعشرة آلاف ريال، وقبض الأجرة عند العقد، على كلام شيخ الإسلام رحمه الله، يقول: يجب عليه أنه يخرج الزكاة مباشرة، أو أنه أجر بيته بعشرة آلاف ريال، وقبض مقدماً مثلاً: نصف الأجرة، أو قبض الأجرة كاملة، فعلى رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يجب عليه أن يخرج الزكاة مباشرة؛ لأنه يرى أن الأجرة بمنزلة الثمرة، فكما أن ثمرة الشجرة لا يشترط لها الحول، فكذلك أيضاً الأجرة، ثمرة هذا البيت لا يشترط لها الحول، هذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. والرأي الثاني في المسألة: أنه لا بد من الحول، والحول يبدأ من حين العقد، وعلى هذا لو أجر دكانه أو بيته بعشرة آلاف ريال في أول محرم، وقبض المقدم خمسة آلاف في أول محرم، هذه الخمسة الآلاف فيها زكاة أو ليس فيها زكاة؟ على رأي الحنابلة لا زكاة فيها؛ لأنه ما حال عليها الحول؛ لكن لو مكثت عنده حتى مضى عليها حول لم يأكلها ففيها الزكاة، المؤخر الذي يقبضه بعد تمام الحول فيه زكاة أو ليس فيه زكاة؟ نقول: فيه الزكاة، يخرج الزكاة مباشرة؛ لأن الحول يبدأ من العقد.نعيد المثال، هذا رجل أجر بيته بعشرة آلاف ريال، ولنفرض أنه قبض شيئاً من الأجرة عند العقد، والشيء الآخر لم يقبضه، فنقول: ما قبضه في أول العقد لا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول، حتى يمضي حول من حين العقد، ولو قبض بعد خمسة أشهر متى تجب الزكاة؟نقول: انتظر سبعة أشهر، إن بقيت الدراهم في يده سبعة أشهر وجبت الزكاة، أكلها ما فيها زكاة، ولو لم يقبض الأجرة إلا بعد نهاية العام، ما الحكم هنا؟ نقول: يخرج الزكاة مباشرة؛ لأن الحول تم، ونحن أشرنا إلى أن الحول يبدأ من حين العقد، فقد يكون أجر الدكان في أول محرم، ثم بعد ذلك لما تمت السنة قبضه بعد سنة كاملة، نقول: يخرج الزكاة مباشرة، لو لم يقبض إلا بعد سنتين يخرج زكاة سنتين، وعلى هذا فقس.النوع السابع مما لا يشترط له الحول: الركاز، فالركاز هذا لا يشترط له الحول، فلو أن الإنسان وجد مالاً مدفوناً في الأرض، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( وفي الركاز الخمس )، فإذا وجد مالاً مدفوناً من دفن الجاهلية، يعني: عليه علامة من علامات الجاهلية كاسم ملك من ملوكهم، أو تاريخ ونحو ذلك، فمن وجد هذا المال قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( وفي الركاز الخمس )، فيجب عليه أن يخرج خمسه مباشرة، ولا يشترط أن يحول عليه الحول.

الأموال الزكوية
قال المؤلف رحمه الله: [ولا تجب الزكاة إلا في أربعة أنواع: السائمة من بهيمة الأنعام]. الأموال الزكوية أربعة:النوع الأول: السائمة من بهيمة الأنعام، والمراد بالسائمة كما سيأتينا: الراعية، والمراد ببهيمة الإنعام: الإبل، والبقر، والغنم، سواء كانت ضأناً أو معزاً، هذا الذي تجب فيه الزكاة من السائمة، لو كان عنده غزلان سائمة يرعاها ما فيها زكاة إلا إن كانت عروض تجارة، أو عنده حمر لا زكاة فيها إلا إن كانت عروض تجارة، يعني: يبيع ويشتري فيها، أو كان عنده خيل راعية يرعاها في البر لا زكاة فيها إلا إن كانت عروض تجارة، أو عنده دجاج أو حمام ونحو ذلك من هذه الأشياء لا زكاة فيها إلا إن تكون عروض تجارة، وهذا سيأتي أن المؤلف رحمه الله يعقد باباً مستقلاً لما يتعلق بزكاة السائمة.قال المؤلف رحمه الله: [والخارج من الأرض]. الخارج من الأرض هذا سيعقد له المؤلف رحمه الله باباً مستقلاً، ما المراد بالخارج ونصابه ومقدار الزكاة؟ سيأتي بيانه إن شاء الله.قال المؤلف رحمه الله: [والأثمان]. المراد بالأثمان: الذهب والفضة، وما يقوم مقامهما من الأوراق النقدية اليوم، الريالات والجنيهات والدراهم وغير ذلك، هذه المراد بالأثمان، وهذه أيضاً سيعقد لها المؤلف رحمه الله باباً مستقلاً. قال المؤلف رحمه الله: [وعروض التجارة]. هذا الرابع والأخير، عروض التجارة تجب فيه الزكاة، فالأموال الزكوية هذه الأربعة ما عداها ليس من الأموال الزكوية، وعلى هذا لو أن الإنسان عنده بر حصده من المزرعة، تجب فيه الزكاة؛ لأنه من الخارج من الأرض؛ لكن لو حال عليه حول آخر، لا زكاة فيه؛ لأنه ليس داخلاً في هذه الأموال الزكوية، ليس هو الآن من الخارج من الأرض إلا إن كان عروض تجارة، يعني: جعله عروض تجارة يبيع ويشتري، أو أن الإنسان عنده سيارات يستعملها، أو البيت الذي يسكنه، أو الآلات الذي يستخدمها، أو الأوان التي يستخدمها، أو الفرش ونحو ذلك من هذه الأشياء، فهذه كلها لا زكاة فيها، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ليس على المسلم في فرسه وعبده صدقة )، فالفرس الذي اختصه لنفسه، والرقيق الذي اختصه لنفسه، هذه لا زكاة فيها.قال المؤلف رحمه الله: [ولا زكاة في شيء من ذلك حتى يبلغ نصاباً]. هذا سيأتي إن شاء الله بيانه بإذن الله.

زكاة الزائد على النصاب
قال المؤلف رحمه الله: [وتجب فيما زاد على النصاب بحسابه إلا السائمة فلا شيء في أوقاصها]. يقول: تجب فيما زاد على النصاب بحسابه إلا في السائمة، فمثلاً: أقل نصاب الذهب عشرون مثقالاً كما سيأتي، لو أن هذه المثاقيل زادت مثقالاً واحداً، فهذا المثقال فيه زكاة، بالنسبة للأوراق النقدية سيأتي بيان نصابها، إذا فرضنا أن أقل نصابها ثلاثمائة ريال، لو زادت ثلاثمائة ريال تجب فيها الزكاة ربع العشر، لو زاد ريال أو ريالان تجب الزكاة، ومثل ذلك أيضاً الخارج من الأرض كالحبوب، أقل النصاب ستمائة واثنا عشر كيلو، لو زاد كيلو أو كيلوان أو ثلاثة... إلى آخره، تزيد فيه الزكاة، أيضاً: عروض التجارة، إلا السائمة، ففي السائمة الوقص، والوقص: هو ما بين الفريضتين، ما بين الفريضتين لا زكاة فيه، وهذا من خصائص السائمة، فإن السائمة لها خصائص، من خصائصها الوقص، فهذا لا زكاة فيه، الوقص، والجبران، والخلطة، هذه من خصائص السائمة كما سيأتينا إن شاء الله. مثال ذلك: أقل نصاب الإبل خمس، فيها شاة، ست فيها شاة، سبع فيها شاة، فالسادسة هذه ما فيها زكاة، السابعة، الثامنة، التاسعة، كل هذا ما فيه زكاة، حتى تبلغ عشراً، فإذا بلغت عشراً ففيها شاتان، ثم لا شيء فيها حتى تبلغ خمسة عشر، ففيها ثلاث، ثم لا شيء فيها حتى تبلغ عشرين، ففيها أربع شياه، وهكذا. وأيضاً في الغنم، الضأن أو الماعز، أقل نصاب الغنم أربعون وفيها شاة، ثم لا شيء فيها حتى تبلغ إحدى وعشرين ومائة، يعني: لو أن عندك خمسين، ستين، مائة، مائة وعشرين، هذه لا زكاة فيها، لا تتغير الزكاة عن شاة واحدة حتى تبلغ إحدى وعشرين ومائة ففيها شاتان، فالوقص الذي يكون بين الفريضتين في السائمة لا زكاة فيه، وهذا كما أشرنا أنه من خصائص سائمة بهيمة الأنعام.

زكاة المال المستفاد
قبل أن ننتقل لباب زكاة السائمة نتكلم فيما يتعلق بالمستفاد أثناء الحول، إذا استفاد الإنسان مالاً في أثناء الحول، فهل يضمه إلى ما عنده في النصاب وفي الحول أو نقول: بأنه يعتبر له حولاً مستقلاً؟ نقول: هذه المسألة لها ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يكون ربح تجارة أو نتاج سائمة، فإن كان المستفاد في أثناء الحول ربح تجارة، أو نتاج سائمة فهذا يضمه إلى ما عنده، في الحول وفي النصاب، في الحول مثلاً: عنده أربعون شاة ابتدأ حولها من محرم، ثم تنامت هذه الشياة حتى أصبحت إحدى وعشرين ومائة، الزيادة هذه هل نقول: بأن لها حولاً مستقلاً أو نقول بأن حولها حول أصلها؟ نقول: بأن حولها حول أصلها، كذلك أيضاً يضمه في النصاب، لو كان عنده عشرون شاة، العشرون الشاة هذه لا زكاة فيها؛ لأنها لا تبلغ نصاباً؛ لكن لو تنامت حتى بلغت أربعين فنقول: يضمها إلى ما عنده من السائمة، وتجب فيها الزكاة، ويبدأ الحول من حين بلغت نصاباً، هذا القسم الأول: أن يكون المستفاد ربح تجارة أو نتاج سائمة.القسم الثاني: أن يكون المستفاد ليس ربح تجارة، ولا نتاج سائمة؛ لكنه من جنس المال، فهذا يضم إلى ما عنده في النصاب، ولا يضمه في الحول، مثال ذلك: إنسان عنده مال، عنده دراهم، هذه الدراهم لا تبلغ نصاباً، مثلاً: عنده مائة ريال، المائة الريال هذه لا تبلغ نصاباً، ثم بعد ذلك جاءه راتب، هل نضم هذا الراتب إلى ما عنده في تكميل النصاب أو لا نضمه؟ نقول: نعم نضمه في تكميل النصاب، مائة ريال هذه لا تبلغ النصاب، جاءه راتب ألف ريال مثلاً: يضم هذه الألف إلى المائة فيبلغ النصاب فحينئذٍ تجب الزكاة، فيبدأ الحول من بلوغ النصاب، هذا نقول: نضمه في تكميل النصاب، ما دام أنه من جنس المال؛ لكن هل نضمه في الحول؟ نقول: لا نضمه في الحول، مثال ذلك: إنسان عنده ألف ريال، ابتدأ حولها من محرم، بعد شهر أو شهرين جاءه راتب ألف ريال، هذا الراتب له حول مستقل، فمثلاً: لو جاءه في ربيع ألف ريال، نقول: هذه الألف ما نضمها إلى الألف السابقة في الحول، الألف السابقة لها حولها المستقل، وهذه الألف الأخرى لها حولها المستقل، فما دام أنه من جنس المال وليس ربح تجارة أو نتاج سائمة، فهذا نضمه في النصاب، ولا نضمه في الحول. ومثل ذلك: رواتب الموظفين تضم في النصاب؛ لكن الأصل أن كل راتب له حول مستقل؛ لكن لو أن الإنسان أخرج الزكاة عن جميع الرواتب فهذا جائز لا بأس به، كما سيأتينا إن شاء الله في تعجيل الزكاة؛ لكن الأصل أن راتب محرم، وراتب صفر، وراتب ربيع، أنه ما يجب عليك حتى يتم حولها، وتضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، فإذا بلغ النصاب وجبت عليك الزكاة، فمثلاً: إذا بلغ النصاب في صفر وجبت عليك الزكاة، فما ملكته في صفر له حوله المستقل، في ربيع الأول له حوله، في ربيع الثاني له حوله، جماد الأول، جماد الثاني كل له حوله، هذا الأصل؛ لكن لو أن الإنسان أخرج الزكاة عن كل ما عنده فإن هذا جائز ولا بأس به إن شاء الله.القسم الثالث: أن يكون المستفاد غير جنس المال الذي عنده، يعني: ليس من جنس المال الذي عنده، فهنا لا يضم لا في الحول ولا في تكميل النصاب، مثلاً: لو أن الإنسان عنده من الذهب عشرة مثاقيل، أو عنده من الريالات مائة ريال ليست نصاباً، ثم ملك عشرين شاة سائمة ترعى، أيضاً هذه ليست نصاباً، ما نقول: نضم العشرين إلى المائة، أو نضم هذه السائمة العشرين إلى الذهب، لا يضم لا في تكميل النصاب، ولا في الحول، ما نقول: نضم هذه الشياة إلى الذهب أو إلى الريالات، هذا لا نضمه، كذلك أيضاً في الحول أيضاً لا نضم، فمثلاً: لو كان عنده عشرون مثقالاً حال عليها الحول أو ابتدأ حولها من محرم، ثم ملك سائمة في رمضان أربعين شاة، فنقول: بأن العشرين مثقالاً حولها يبدأ من محرم، وأما بالنسبة للشياة التي ملكها في رمضان فحولها يبدأ في رمضان. فأصبحت الأقسام ثلاثة:القسم الأول: يضم في النصاب وفي الحول. والقسم الأخير: لا يضم لا في النصاب ولا في الحول. والقسم الوسط: هذا فيه التفصيل، يضم في النصاب لا في الحول.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-20, 04:24 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الزكاة [2]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(34)


تجب الزكاة في الأنعام السائمة وهي: الإبل والبقر والغنم، ويشترط فيها أن تبلغ النصاب الشرعي، وقد بينه أهل العلم بياناً شافياً.

زكاة السائمة
تقدم لنا في الدرس السابق، شروط وجوب الزكاة، وذكرنا من ذلك الإسلام والعقل، الإسلام، والحرية، وبلوغ النصاب، وتمام الملك، وحولان الحول، وذكرنا أن هناك بعض الأموال الزكوية التي لا يشترط لها مضي الحول، وعددنا هذه الأموال فذكرنا من ذلك: نماء التجارة، ونتاج السائمة، والأجرة عند شيخ الإسلام، وكذلك أيضاً ما يتعلق بالمعدن والعسل، والركاز... إلى آخره، وكذلك أيضاً أشرنا إلى ما يتعلق بالأوقاص، وأن الوقص -وهو ما كان بين الفريضتين- لا زكاة فيه، وهذا من خصائص السائمة، ثم بعد ذلك شرع المؤلف رحمه الله في الأموال الزكوية، وفي بيان أحكامها.والأموا الزكوية أربعة أموال: الأول: سائمة بهيمة الأنعام، والثاني: الخارج من الأرض، والثالث: النقدان، والرابع: عروض التجارة، وسيعقد المؤلف رحمه الله لكل مال من هذه الأموال باباً مستقلاً يبين فيه النصاب، وقدر الواجب، وغير ذلك مما يتعلق بأحكام هذا الباب.قال المؤلف رحمه الله: [باب زكاة السائمة، وهي الراعية]. أي: المكتفية بالمباح، عن العلف، والشعير ونحوه، وبدأ المؤلف رحمه الله بباب السائمة اقتداءً بكتاب أبي بكر رضي الله تعالى عنه، الذي كتبه لـأنس حينما وجهه إلى البحرين، وفيه: ( هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: في أربع وعشرين من الإبل فما دونها في كل خمس شاة... ) إلى آخر هذا الكتاب.قال المؤلف رحمه الله: [وهي ثلاثة أنواع: أحدها الإبل، ولا شيء فيها حتى تبلغ خمساً].يقول المؤلف رحمه الله: (ثلاثة أنواع) الإبل على اختلاف أنواعها سواء كانت من العراب أو من البخاتي، والبقر على اختلاف أنواعها، سواء من العراب أو من الجواميس، والغنم على اختلاف من أنواعها سواء كانت من الضأن أو من المعز، هذه الأنواع الثلاثة هي التي تجب فيها الزكاة، ما عدا هذه الأنواع لا تجب فيها الزكاة، فلو كان الإنسان عنده حمر ترعى المباح، تتكفى بالمباح عن أن يشتري لها علفاً، لا تجب فيها الزكاة إلا إن كانت عروض تجارة، كذلك أيضاً لو كان عنده خيل نقول: هذه الخيل لا تجب فيها الزكاة إلا إن كانت عروض تجارة يبيع ويشتري، كذلك أيضاً لو كان عنده غزلان ترعى المباح نقول: هذه لا تجب فيها الزكاة، فالزكاة لا تجب إلا في هذه الأنواع الثلاثة، ما عداها لا يجب فيه الزكاة إلا إن كانت عروض تجارة، فمثلاً: لو كان الإنسان عنده طيور على اختلاف أنواعها وغير ذلك من الحيوانات نقول: لا تجب فيها الزكاة إلا إن كانت عروض تجارة يبيع ويشتري فيها، فهي داخلة في عروض التجارة.

شروط زكاة السائمة
قال المؤلف رحمه الله: (وهي الراعية).هذا الشرط الأول من شروط الزكاة في السائمة، السائمة اشترطوا لوجوب الزكاة فيها شروط: الشرط الأول: أن تكون راعية المباح كل الحول أو أكثره، وحينئذٍ لا تخلو هذه المسألة من ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن تكون راعية كل الحول، فهذه لا إشكال أن فيها الزكاة، وهذا باتفاق الأئمة.القسم الثاني: أن تكون راعية أكثر الحول، وهذه اختلف فيها أهل العلم رحمهم الله، هل تجب فيها الزكاة أو لا تجب فيها الزكاة؟ والمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه تجب فيها الزكاة، إلحاقاً للأكثر بالكل، وعند الشافعي أنه لا تجب في الزكاة.القسم الثالث: أن تكون راعية أقل الحول، أو نصف الحول، فهذه لا زكاة فيها، إلا على رأي الإمام مالك رحمه الله فإنه يقول: لا يشترط أن تكون سائمة، فلو كانت معلوفة فإنه تجب فيها الزكاة، وهذا خلاف ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وخلاف ما دلت عليه الأدلة، فإن الأدلة بينت أنه يشترط في هذه الأنواع أن تكون سائمة، يشترط في كل أربعين سائمة شاة، كما في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، فقيدها النبي صلى الله عليه وسلم بأن تكون سائمة، فالأقسام ثلاثة.الشرط الثاني: أن تكون متخذة للدر والنسل، وعلى هذا إذا كانت عاملة فلا زكاة فيها، ولو كان الإنسان عنده خمس من الإبل اتخذها لإخراج الماء، أو للحمل عليها، أو لتأجيرها ونحو ذلك، فهذه لا زكاة فيها، أو عنده ثلاثون من البقر اتخذها للحرث، أو للحمل ونحو ذلك، فنقول: بأنه لا زكاة فيها، لا بد أن تكون متخذة للدر، للحليب والنسل، ويدل لهذا قول النبي عليه الصلاة والسلام -كما ثبت في الصحيح-: ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة )، فأضاف العبد وأضاف الفرس إليه، فدل ذلك على أن ما يختص به المسلم لا زكاة فيه، وهذا أيضاً خلافاً للإمام مالك رحمه الله، فإن الإمام مالك رحمه الله يرى أن العاملة فيها الزكاة. الشرط الثالث: أن تبلغ النصاب الشرعي.

زكاة الإبل
قال المؤلف رحمه الله: [ولا شيء فيها حتى تبلغ خمساً فيجب فيها شاة، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه إلى خمس وعشرين]. يعني: أقل نصاب الإبل خمس، الأربع ليس فيها زكاة، الخمس فيها شاة، ثم بعد ذلك لا زكاة فيها حتى تبلغ عشراً.فالعشر فيها شاتان، وما بين الفريضتين هذه لا زكاة فيها، فالخمس فيها شاة، والست كذلك شاة، والسبع شاة، والثمان شاة، والتسع إلى أن تبلغ عشراً.فإذا بلغت عشراً ففيها شاتان، ثم بعد ذلك لا شيء فيها حتى تبلغ خمس عشرة، فإذا بلغت خمسة عشر إبلاً ففيها ثلاث شياه، ثم بعد ذلك لا شيء فيها حتى تبلغ عشرين.فإذا بلغت عشرين ففيها أربع شياه، ثم لا شيء فيها حتى تبلغ خمساً وعشرين.فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض، يعني: أنثى لها سنة واحدة، وسميت بهذا لأن الغالب أن أمها قد حملت فهي ماخض، فسميت ببنت مخاض، ثم بعد ذلك لا شيء فيها، فعندك ست وعشرون فيها بنت مخاض، ثلاثون فيها بنت مخاض، خمس وثلاثون فيها بنت مخاض، حتى تبلغ ستاً وثلاثين.فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون، بكرة لها سنتان؛ وسميت بهذا الاسم لأن الغالب أن أمها قد وضعت وهي ترضع الآن ذات لبن، فست وثلاثون فيها بنت لبون، الأربعون فيها بنت لبون، خمس وأربعون فيها بنت لبون، حتى تبلغ ستاً وأربعين.فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة لها ثلاث سنوات، وسميت بهذا الاسم لأنها استحقت أن تحمل عليها الأحمال، أو أن يطرقها الفحل، ثم بعد ذلك لا شيء فيها حتى تبلغ إحدى وستين، فخمسون فيها حقة، خمس وخمسون فيها حقة، ستون فيها حقة، حتى تبلغ إحدى وستين.فإذا بلغت إحدى وستين ففيها جذعة، والجذعة هذه لها أربع سنوات، وسميت بذلك لأنها تجذع يعني: تسقط الثنية، فإحدى وستون هذه فيها جذعة، ثم بعد ذلك لا شيء فيها حتى تبلغ ستاً وسبعين، فخمس وستون فيها جذعة، وسبعون فيها جذعة، وخمس وسبعون فيها جذعة.إذا بلغت ستاً وسبعين ففيها بنتا لبون، وعلى هذا سبعون فيها جذعة، وخمس وسبعون جذعة، في ست وسبعين بنت لبون، ثم بعد ذلك لا شيء فيها حتى تبلغ إحدى وتسعين، فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان.ومن ست وسبعين إلى تسعين لا شيء فيها، من ست وسبعين فيها بنت لبون، ثم لا شيء فيها، يعني: ما تتغير الفريضة حتى تبلغ إحدى وتسعين، فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان، وعلى هذا ثمانون فيها بنتا لبون، وخمس وثمانون فيها بنتا لبون، تسعون فيها بنتا لبون، إحدى وتسعون فيها حقتان، ثم بعد ذلك لا شيء فيها حتى تبلغ عشرين ومائة، فإذا بلغت عشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون، وكان عنده مائة وعشرون فعليه ثلاث بنات لبون، ثم بعد ذلك تستقر الفريضة في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، وعلى هذا مائة وثلاثون لبون وحقة، بنتا لبون بثمانين، وحقة بخمسين، فيساوي مائة وثلاثين، نحن قلنا: إذا بلغت مائة وعشرين فيها ثلاث بنات لبون، ثم بعد ذلك تستقر الفريضة في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، فعلى هذا مائة وثلاثون فيها بنتا لبون وحقة، بنتا لبون بثمانين، وحقة بخمسين تساوي مائة وثلاثين، قال العلماء رحمهم الله: إذا قدرت وبقي معك عشر، فاعلم أن التقدير خطأ، وإذا بقي أقل من عشر فالتقدير صحيح، فمثلاً: مائة وخمس وثلاثون كم فيها؟ بنتا لبون وحقة، يبقى معك خمس، نقول: التقدير هنا صحيح، يعني: الباقي ليس عشراً، وإنما الباقي خمس.مائة وأربعون كم فيها؟حقتان وبنت لبون حقتان بمائة، وبنت لبون بأربعين، تساوي مائة وأربعين.مائة وسبعة وأربعون كم فيها؟حقتان وبنت لبون، يبقى معك سبع، حقتان بمائة وبنت لبون بأربعين، مائة وأربعون، يبقى عندك سبع. ومائة وخمسون فيها ثلاث حقق، ومائة وستون فيها أربع بنات لبون، فبنتا لبون بثمانين وبنتا لبون بثمانين. ومائة وسبعون فيها حقة وثلاث بنات لبون، ثلاث بنات لبون بمائة وعشرين، وحقة بخمسين تساوي مائة وسبعين. مائة وثمانون فيها حقتان وبنتا لبون، حقتان بمائة، وبنتا لبون بثمانين، ومائة وتسعون فيها ثلاث حقاق وبنت لبون، ثلاث حقاق بمائة وخمسين، وبنت لبون بأربعين تساوي مائة وتسعين، ومائتان فيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون.قال المؤلف رحمه الله: [وفي العشرين أربع شياه إلى خمس وعشرين ففيها بنت مخاض، وهي بنت سنة، فإن لم تكن عنده فابن لبون: وهو ابن سنتين]. هذا الموضع الأول الذي يجزء فيه الذكر، الأصل في السائمة أن تخرج الأنثى، ما نخرج الذكر، ولهذا في كتاب أبي بكر لـأنس في فريضة النبي عليه الصلاة والسلام في الصدقة: ( بنت مخاض، بنت لبون، حقة، جذعة مسنة )... إلى آخره؛ لكن هناك مواضع يجزئ أن نخرج الذكر، وهذا الموضع الأول، إذا كان الإنسان ليس عنده بنت مخاض، وعنده ابن لبون لا بأس أن يخرج ابن اللبون عن بنت المخاض، وهذا جبر للنقص، أيهما أكمل في البهائم الأنوثة أو الذكورة؟ الأنوثة أكمل، فهو يجب عليه أنثى، ما وجد الأنثى يجبر هذا النقص بارتفاع السن، فنقول: يخرج بدلاً من بنت المخاض ابن لبون ذكر، ويجزئ من ذلك وأولى من ذلك أن يخرج حقاً أو جذعاً ما فيه بأس، نقول: تخرج بدل بنت المخاض بنت لبون كما ورد في الحديث، لو قال: ما عندي ابن لبون، نقول: أخرج حقاً، يقول: ما عندي حق، نقول: أخرج جذعاً، هذا كله أولى؛ لأنه جبر الآن النقص، الأنوثة جبرها بزيادة السن، هذا الموضع الأول، وستأتي بقية المواضع إن شاء الله.قال المؤلف رحمه الله: [فإن لم تكن عنده فابن لبون وهو ابن سنتين إلى ست وثلاثين، فيجب فيها بنت لبون، وست وأربعين فيجب فيها حقة لها ثلاث سنين، إلى إحدى وستين فيجب فيها جذعة لها أربع سنين إلى ست وسبعين ففيها ابنتا لبون، إلى إحدى وتسعين ففيها حقتان، إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون، ثم في كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون إلى مائتين، فيجتمع فيها الفرضان، فإن شاء أخرج أربع حقاق، وإن شاء خمسة بنات لبون…]. هذا كلام المؤلف رحمه الله كله تقدم.

الجبران في زكاة السائمة
قال المؤلف رحمه الله: [ومن وجبت عليه سن فلم يجدها أخرج أدنى منها ومعها شاتان أو عشرون درهماً، وإن شاء أخرج أعلى منها، وأخذ شاتين أو عشرين درهماً]. هذا يسمى: الجبران، والجبران هذا من خصائص السائمة، وهو أيضاً من خصائص الإبل، وصورة الجبران أن يجب عليه سن، ولا يجد هذا السن؛ لكن يجد أعلى منه، أو يجد أنزل منه، فحينئذٍ إذا لم نجد هذا السن فإنه إذا كان يجد أعلى منه، يخرج الأعلى ويأخذ الجبران، يجد أنزل منه، يدفع الأنزل، ويدفع معه الجبران، وهذا الجبران دل له حديث أنس في كتاب أبي بكر رضي الله تعالى عنه الصدقات.ورد في الحديث قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( شاتين أو عشرين درهماً ) يعني: هو بالخيار، إما أن يخرج شاتين، وإما أن يخرج عشرين درهماً، فقوله: ( عشرين درهماً ) هل هو على سبيل التعيين أو على سبيل التقويم؟ اختلف في هذا أهل العلم رحمهم الله، يعني: هل النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( عشرين درهماً )؛ لأن الدراهم هي قيمة هاتين الشاتين في عهده عليه الصلاة والسلام أو أن هذا على سبيل التعيين؟ هذا فيه خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، والصواب أنه على سبيل التقويم، وأن الشاة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت قيمتها تساوي ما يقرب من عشرة دراهم، وعلى هذا الآن تغير السعر؛ لأن الدراهم هذه -كما سيأتينا إن شاء الله- لا تساوي إلا شيئاً يسيراً، فإذا قلنا: بأنه على سبيل التعيين، وأنه مخير، فلن يخرج شاتين وإنما سيخرج دراهم؛ لأن عشرة دراهم تساوي الآن خمسة ريال، كم الشاة بالنسبة لخمسة ريالات؟ لا شك أنه سيختار المزكي خمسة ريالات إذا قلنا: إنه على سبيل التعيين، فالدراهم الآن لا تساوي شيئاً؛ لأن الفضة الآن نازلة جداً؛ لكن إذا قلنا: بأنه على سبيل التقويم، وليس على سبيل التعيين، فننظر إلى قيمة الشاتين، فنقول: إما أن تخرج شاتين، وإما أن تخرج قيمة الشاتين، وعلى هذا لو وجبت عليه بنت لبون، عنده مثلاً: أربعون من الإبل، أربعون من الإبل فيها بنت لبون، ما وجد بنت اللبون وعنده بنت مخاض، نقول: أنت بالخيار، إما أن تأتي ببنت لبون، وإلا تدفع بنت المخاض، وتدفع معها الجبران، كم الجبران؟ نقول: تدفع شاتين أو قيمة شاتين في الوقت الحاضر؛ لأن العشرة الدراهم الصواب أنها على سبيل التقويم، فنقول لمن وجبت عليه الزكاة: أنت بالخيار، إما أن تدفع ما وجب عليك، وهي بنت لبون، أو تدفع بنت المخاض التي عندك وتدفع الجبران، كم الجبران؟ نقول: الجبران حكم به النبي عليه الصلاة والسلام، تدفع مع بنت المخاض شاتين، أو تدفع مع بنت المخاض قيمة شاتين.وإذا وجب عليه سن، وليس عنده هذا السن؛ لكن عنده أعلى منه، يدفع الأعلى ويأخذ جبراناً، فمثلاً: وجب عليه بنت مخاض، ما وجد بنت المخاض؛ لكن وجد بنت لبون، نقول: إما أن تأتي ببنت مخاض، أو تدفع بنت لبون، ويعطيك الساعي الجبران، كم يعطيك الساعي؟ يعطيك شاتين أو قيمة شاتين، وأيضاً الساعي بالخيار كما أنه بالخيار، قد يكون في دفع الجبران مصلحة، وقد لا يكون فيه مصلحة، قد تكون أسعار الغنم ارتفعت، فكونه يأخذ بنت لبون ويدفع إليه شاتين، لا يكون هناك مصلحة للفقراء.المهم الخلاصة في الجبران: أن يجب على المالك سن، ولا يجد هذا السن؛ لكن يجد أنزل منه أو يجد أعلى منه، فإن وجد الأنزل فنقول: تدفع هذا الأنزل وتأخذ، أو تدفع الجبران وأنت بالخيار، إما أنك تأتي بما وجب عليك، أو أنك تدفع ما عندك من السن النازل مع الجبران، إما شاتان، وإما قيمة شاتين، إذا كان يجد أعلى نقول: تدفع هذا الأعلى وتأخذ الجبران، والساعي بالخيار، ينظر ما هي المصلحة في ذلك.

زكاة البقر
قال المؤلف رحمه الله: [النوع الثاني: البقر، ولا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين، فيجب فيها تبيع أو تبيعة لها سنة…]. النوع الثاني: البقر، وأقل النصاب في البقر ثلاثون، فلا تجب فيها الزكاة حتى تبلغ ثلاثين، فإن كانت أقل من ثلاثين فلا شيء فيها، لو كان عنده تسع وعشرون بقرة، فإنه لا شيء فيها، فإذا وجد ثلاثين ففيها تبيع أو تبيعة، وهذا هو الموضع الثاني الذي يجزئ فيه إخراج الذكر في السائمة، إذا كان عنده ثلاثون من البقر، فإنه يخرج تبيعاً أو تبيعة، والتبيع أو التبيعة ما له سنة، وسمي بذلك لأنه يتبع أمه، ثم بعد ذلك لا شيء فيها حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة ثنية لها سنتان، ثم بعد ذلك تستقر الفريضة في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة.وعلى هذا خمسون فيها مسنة، وستون فيها تبيعان أو تبيعتان، أو تبيع وتبيعة، وسبعون فيها تبيع ومسنة، أو تبيعة ومسنة، وثمانون فيها مسنتان، وتسعون فيها ثلاثة أتبعة، أو ثلاثة تبيعات، أو من الذكور والإناث، تبيع وتبيعتان، أو تبيعة وتبيعان، ومائة فيها تبيعان ومسنة، تبيعان بستين، ومسنة بأربعين، وعلى هذا فقس.

زكاة الغنم
قال المؤلف رحمه الله: [النوع الثالث: الغنم، ولا شيء فيها حتى تبلغ أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة…]. الغنم أقل النصاب فيها أربعون، فإذا كان عنده تسعة وثلاثون لا شيء فيها، حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغت أربعين ففيها شاة، ثم بعد ذلك لا شيء فيها حتى تبلغ إحدى وعشرين ومائة، يعني: ثمانون فيها شاة، مائة فيها شاة، مائة وعشرون فيها شاة، مائة وإحدى وعشرون فيها شاتان، ثم بعد ذلك لا شيء فيها حتى تبلغ مائتين وواحدة، فمائة وثلاثون فيها شاتان، ومائة وخمسون فيها شاتان، مائتان فيها شاتان، مائتان وواحدة فيها ثلاث شياه، ثم بعد ذلك تستقر الفريضة في كل مائة شاة، فعلى هذا مائتان وواحدة فيها ثلاث شياة، ثلاثمائة ثلاث شياة، مائتان وخمسون ثلاث شياة، مائتان وثلاثون ثلاث شياة، ثلاثمائة وثلاثون ثلاث شياة، ثلاثمائة وخمسون ثلاث شياة، أربعمائة أربع شياة، يقول العلماء رحمهم الله: وهذا أكثر وقص في السائمة، يعني: من مائتين وواحدة إلى ثلاثمائة وتسعة وتسعين ما تتغير الفريضة، من مائتين وواحدة فيها ثلاث شياة، إلى ثلاثمائة وتسعة وتسعين ثلاث شياة، حتى تبلغ أربعمائة، فإذا بلغت أربعمائة ففيها أربع شياه، يعني: مائة وثمان وتسعون شاة ما فيها شيء، هذا أكبر وقص في السائمة، يعني: من مائتين وواحدة إلى ثلاثمائة وتسع تسعين ثلاث شياه، أربعمائة فيها أربع شياه.

ما لا يؤخذ في زكاة الأنعام
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يؤخذ في الصدقة تيس]. يعني: ذكر، ما يؤخذ الذكر، قلنا: بأن الذكر يؤخذ في مواضع:الموضع الأول: إذا لم تكن عنده بنت المخاض، فإنه لا بأس أن يخرج ابن اللبون، ومن باب أولى يخرج حقاً أو جذعاً.الموضع الثاني: في البقر، إذا كان عنده ثلاثون بقرة، فإنه لا بأس أن يخرج تبيعاً أو تبيعة.الموضع الثالث: إذا كان النصاب كله ذكوراً، فإنه لا بأس أن يخرج الذكر، ولا يكلف أن يخرج أنثى.الموضع الرابع والأخير: إذا كان المصدق يرى أن المصلحة في إخراج الذكر، يعني: إذا رأى المتصدق أن المصلحة في إخراج الذكر فلا بأس أن يأخذ الذكر، يعني: يرى أن سائمة الصدقة تحتاج إلى الذكر، فنقول: لا بأس.قال المؤلف رحمه الله: [ولا ذات عوار]. يعني: لا تؤخذ المعيبة؛ لأن الله عز وجل قال: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267] وأيضاً روى أنس في كتاب الصدقات: ( ولا يجزئ في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار ولا تيس )، قالوا: الهرمة الكبيرة، والزكاة بينت أسنانها كما تقدم: بنت مخاض، بنت لبون، حقة، جذعة، تبيع، مسنة، جذع ضأن، ثني معز، حددت من قبل الشارع. قال المؤلف رحمه الله: [ولا الربى]. الربى: هي التي تربي ولدها. قال: [ولا الماخض].الماخض: هي الحامل. قال: [ولا الأكولة]. الأكولة: هي السمينة، ودليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : ( وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ).قال المؤلف رحمه الله: [ولا يؤخذ شرار المال، ولا كرائمه إلا أن يتبرع به أرباب المال]. يعني: أن الساعي يكون عدلاً فلا يؤخذ شرار المال ولا كرائمه، وإنما يأخذ من الوسط لما تقدم الحديث.قال المؤلف رحمه الله: [ولا يخرج إلا أنثى صحيحة، إلا في ثلاثين من البقر، وابن لبون مكان بنت مخاض إذا عدمها إلا أن تكون ماشية كلها ذكورا أو مراضاً فيجزئ واحد منها].قال المؤلف رحمه الله: بأن الذكر لا يجزئ إلا في هذه المواضع، إذا كان النصاب كله ذكوراً في ثلاثين من البقر يجزئ تبيع أو تبيعة في بنت المخاض إذا لم يجدها يخرج عنها ابن لبون، والموضع الرابع: إذا شاء المتصدق. قال: (أو مراض) فيجزئ، أيضاً اشترط في المخرج: أن يكون أنثى إلا في مواضع، أن تكون صحيحة ليست مريضة أو معيبة، إلا إذا كان النصاب كله مراض فيخرج مريضة ولا يكلف، الثالث: أن تبلغ السن المعتبر شرعاً كما تقدم. قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يجزئ إلا جذعة من الضأن أو ثنية من المعز، والسن المنصوص عليها]. السن المنصوص عليها كما تقدم في الإبل: بنت مخاض، بنت لبون، حقة، جذعة، في البقر: تبيع تبيعة، مسنة، في الغنم: جذعة ضأن أو ثني معز، جذع الضأن: ما له ستة أشهر، ثني المعز: ما له سنة. قال المؤلف رحمه الله: [إلا أن يختار رب المال إخراج سن أعلى من الواجب، أو تكون كلها صغاراً فيخرج صغيره]. إذا اختار رب المال أن يخرج سناً أعلى، مثلاً: وجب عليه بنت مخاض، قال: أنا أخرج بنت لبون، هذا جائز لإقرار النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، وأيضاً أن هذا من الإحسان والصدقة، أو مثلاً: وجبت عليه بنت لبون فقال: أنا أخرج حقة أو جذعة، فنقول: بأن هذا جائز، أو في البقر وجبت عليه تبيعة فقال: أنا أخرج مسنة، فنقول: بأن هذا جائز، ولا بأس به فيها.

كيفية أخذ الزكاة من غنم فيها صحاح ومراض وصغار وكبار
قال المؤلف رحمه الله: [وإن كان فيها صحاح ومراض، وذكور وإناث، وصغار وكبار أخرج صحيحة كبيرة قيمتها على قدر المالين]. يعني: إذا كان النصاب الذي عنده فيه صحاح، وفيه مريضات، وفيه كبار، وفيه صغار، وفيه ذكور، وفيه إناث، ماذا يخرج؟ نقول: يخرج أنثى كبيرة صحيحة، ذكور وإناث يخرج أنثى من الإناث، صحاح ومعيبات يخرج صحيحة، صغار وكبار يخرج كبيرة؛ لكن قال المؤلف رحمه الله: على قيمة المالين لكي يكون عدلاً، فلا إجحاف بالنسبة للمالك، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس: ( وإياك وكرائم أموالهم ) فيجب أن يكون عدلاً، كيف يكون على قيمة المالين؟ نقول: مثال ذلك: إذا كان النصاب فيه صحاح ومعيبات، فنخرج صحيحة على قدر قيمة المالين، وطريق ذلك أن نتبع الخطوات الآتية:الخطوة الأولى: أن ننسب عدد الصحاح إلى المال الزكوي.الخطوة الثانية: أن ننسب عدد المريضات إلى المال الزكوي.الخطوة الثالثة: أن نخرج قيمة متوسط الصحيحة، وقيمة متوسط المعيبة بمقدار تلك النسبة.الخطوة الرابعة: أن نجمع القيمتين فنخرج صحيحة بمقدار تلك القيمة. مثال ذلك: هذا زيد عنده مائة شاة، المائة الشاة فيها شاة واحدة، هذه الشياه منها ما هو صحيح، ومنها ما هو معيب، قلنا: الخطوة الأولى ننسب عدد الصحيح إلى المال الزكوي، ولنفرض أن الصحيحات خمسة وسبعون شاة، خمسة وسبعين إلى مائة تساوي ثلاثة أرباع، ننسب عدد الصحيحات إلى المال الزكوي، خمسة وسبعون إلى مائة تساوي ثلاثة أرباع، هذه الخطوة الأولى.الخطوة الثانية: ننسب المعيب إلى المال الزكوي، المعيب خمسة وعشرون، انسبه إلى المال الزكوي يساوي الربع.الخطوة الثالثة: نخرج قيمة متوسط الصحيح بتلك النسبة، الصحيحات الخمسة والسبعون بعضها قيمته بستمائة ريال، وبعضها قيمته بأربعمائة ريال، وبعضها قيمته بمائتين ريال، كله صحيح، وما المتوسط هنا؟ الأربعمائة، نحن قلنا: نخرج قيمة متوسط الصحيح بمقدار تلك النسبة، كم نسبة الصحيح إلى المال الزكوي؟ ثلاثة أرباع، كم ثلاثة أرباع الأربع مائة؟ ثلاثمائة، أيضاً نرجع إلى المعيب، المعيب فيه شيء بثلاثمائة وهو معيب، وفيه شيء بمائتين وهو معيب، وفيه شيء بمائة وهو معيب، ما المتوسط؟ المائتان، قلنا: نخرج قيمة متوسط المعيب بمقدار تلك النسبة وهي الربع، أي خمسون، نجمع القيمتين ثلاثمائة وخمسين، نخرج شاة صحيحة قيمتها ثلاثمائة وخمسون.وهذا المثال تطبقه أيضاً لو اجتمع عندك صغار وكبار، لو اجتمع عندك أيضاًجنسان تطبق أيضاً هذا المثال، لو اجتمع عندك جنسان مثلاً: إبل بخاتي وعراب، بقر وجواميس، غنم ضأن ومعز، تطبق أيضاً هذا المثال.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-20, 04:29 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الزكاة [3]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(35)


بين النبي صلى الله عليه وسلم ما يخرج من زكاة السائمة بالتفصيل، ولكيفية إخراج الزكاة منها أحكام معلومة بحسب أحوال السائمة ككونها كلها سليمة، أو فيها صحاح ومراض، وكبار وصغار، وذكور وإناث، ونحو ذلك.وتأثر الخلطة في الزكاة؛ لأنها تجعل المالين مالاً واحداً، ول

أحكام زكاة السائمة
تقدم لنا شيء من أحكام السائمة، وذكرنا أن السائمة تنقسم ثلاثة أنواع:النوع الأول: الإبل، فتجب الزكاة فيها سواء كانت من البخاتي أو من العراب، وأن أقل النصاب في الإبل خمس، فلا شيء فيها حتى تبلغ خمساً ففيها شاة، ثم بعد ذلك لا تتغير الفريضة، فإذا بلغت عشراً ففيها شاتان، ثم لا تتغير الفريضة حتى تبلغ خمسة عشر بعيراً، فإذا بلغت خمسة عشر بعيراً ففيها ثلاث شياه، فإذا بلغت عشرين ففيها أربع شياه، فإذا بلغت خمساًوعشرين ففيها بنت مخاض، فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون، فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة، فإذا بلغت إحدى وستين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان، فإذا زادت عن عشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون، يعني: مائة وعشرون فيها حقتان، وليس ثلاث بنات لبون، بل إذا زادت عن عشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون، فمن إحدى وتسعين فيها حقتان حتى تزيد على عشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون، فمائة وعشرون فيها حقتان، ثم بعد ذلك تستقر الفريضة، في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.النوع الثاني: البقر، وذكرنا أن أقل النصاب ثلاثون وفيه تبيع أو تبيعة، ثم بعد ذلك لا تتغير الفريضة حتى تبلغ أربعين ففيها مسنة، ثم تستقر الفريضة، في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة. النوع الثالث: الغنم، أقل النصاب فيها أربعون شاة، ثم بعد ذلك لا تتغير الفريضة حتى تزيد على عشرين ومائة، يعني: مائة وعشرون فيها شاة واحدة، فإذا زادت عن مائة وعشرين واحدة ففيها شاتان، ثم بعد ذلك لا تتغير الفريضة حتى تبلغ مائتين وواحدة ففيها ثلاث شياه، ثم تستقر الفريضة في كل مائة شاة.

ما يجزئ إخراجه في زكاة السائمة
ثم قال المؤلف رحمه الله: [ولا يخرج إلا أنثى صحيحة إلا في الثلاثين من البقر، وابن لبون مكان بنت مخاض إذا عدمها…]. تقدم أن ذكرنا أن الأصل في زكاة السائمة أن يخرج أنثى، وأنه يجوز إخراج الذكر في مواضع:الموضع الأول: إذا كان النصاب كله ذكوراً، فإنه يخرج ذكراً.الموضع الثاني: في زكاة البقر ففي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة على التخيير.الموضع الثالث: إذا لم يجد بنت مخاض، وعنده ابن لبون، يعني: إذا كان الإنسان عنده خمس وعشرون من الإبل، فيجب عليه بنت مخاض، أو عنده ثلاثون يجب عليه بنت مخاض، لم يجد بنت المخاض فإنه لا بأس أن يخرج ابن اللبون، وأيضاً أولى من ذلك أن يخرج حقاً أو جذعاً، هذا لا بأس، يعني: يخرج عن بنت المخاض ابن اللبون، أو الحق، أو الجذع، كما ورد أن ابن اللبون يجزئ عن بنت المخاض.الموضع الرابع والأخير: إذا شاء المتصدق، يعني: الساعي الذي يأخذ الصدقة، فإذا شاء أن يأخذ ذكراً لمصلحة الزكاة فإن هذا لا بأس به.قال المؤلف رحمه الله: [إلا أن تكون ماشية كلها ذكوراً أو مراضا، فيجزئ واحدة منها، ولا يخرج إلا جذعة من الضأن أو ثنية من المعز، والسن المنصوص عليها]. بالنسبة للغنم يخرج جذعة من الضأن، أو ثني معز، والجذع من الضأن له ستة أشهر، والثني من المعز له سنة، فمثلاً: عنده أربعون شاة أو أربعون من المعز، نقول: يجب عليك شاة، إما أن تخرج جذع ضأن، أو ثني معز، أنت بالخيار. كذلك أيضاًعنده خمس من الإبل عليه شاة، نقول: أنت بالخيار، إما أن تخرج جذع ضأن فما فوق، أو ثني معز، وعلى هذا فقس.قال: (والسن المنصوص عليها)، تقدم لنا في الإبل: بنت مخاض في خمس وعشرين إلى ست وثلاثين، بنت لبون..، حقة، جذعة... إلى آخره، في البقر: تبيع تبيعة، مسنة... إلى آخره.

إخراج السن الأعلى من الواجب
قال المؤلف رحمه الله: [إلا أن يختار رب المال إخراج سن أعلى من الواجب]. فهذا الأمر إليه، فإذا اختار رب المال أن يخرج سناً أعلى من السن الذي وجب عليه فإن هذا جائز ولا بأس به، فمثلاً: رجل عنده ثلاثون من الإبل فيها بنت مخاض، قال: أنا أريد أن أخرج بنت لبون، فنقول: هذا جائز ولا بأس به، هذا زيادة فضل من المالك، أو رجل عنده أربعون من الإبل يجب عليه بنت لبون، قال: أنا أريد أن أخرج حقة أو جذعة، نقول: هذا كله جائز ولا بأس به، أو رجلٌ عنده ثلاثون من البقر، قال: أريد أن أخرج مسنة بدلاً من أخرج تبيعاً أو تبيعة، نقول: بأن هذا جائز ولا بأس به، الأمر إليه ما دام أنه اختار أن يتبرع بالزائد.

إخراج الصغيرة
قال المؤلف رحمه الله: [أو تكون كلها صغاراً فيخرج صغيرة]. إذا كان عنده نصاب صغار، فهذا نقول: لا يجب عليه أن يخرج كبيرة، ويتصور ذلك فيما إذا كان الإنسان عنده نصاب الكبار فأبدله بنصاب صغار، عنده نصاب سائمة كبار، فأبدله بنصاب سائمة صغار، فنقول هنا: يجب عليه أن يخرج صغيرة، ولا يكلف أن يخرج كبيرة ما دام أن النصاب كله صغار، ونظير ذلك كما تقدم إذا كان النصاب كله ذكورا، فإنه يخرج ذكراً، أو يكون النصاب كله مراضاً، فإنه يخرج مريضة.

كيفية إخراج الزكاة من السائمة التي فيها صحاح ومراض ونحو ذلك
قال المؤلف رحمه الله: [وإن كان فيها صحاح ومراض، وذكور وإناث، وصغار وكبار، أخرج صحيحة كبيرة قيمتها على قدر المالين]. يعني: إذا كان النصاب فيه صغار وكبار، أو فيه ذكور وإناث، وهذا الغالب، فيه صحيحات وفيه معيبات؟ نقول: ما دام أنه مختلط فلا تخرج صغيرة، وإنما تخرج كبيرة بلغت السن الشرعي كما تقدم، والسن الشرعي تقدم بيانه، في الغنم: جذع ضأن، أو ثني معز، في الإبل: بنت مخاض، بنت لبون... إلى آخره، وتخرج أنثى ما تخرج ذكراً، وتخرج صحيحة.قال المؤلف رحمه الله: (على قدر قيمة المالين)، كيف على قدر قيمة المالين؟ نقول: يسلك الإنسان الطريقة الآتية:إذا فرضنا أن عنده صحاحاً ومعيبات، أو صغار وكبار... إلى آخره، ولنفرض أن هذا رجل عنده صحاح ومعيبات، فنقول: الخطوة الأولى: أن ننسب عدد الصحيح إلى المال الزكوي.الخطوة الثانية: أن ننسب عدد المعيب إلى المال الزكوي.الخطوة الثالثة: أن ننظر إلى متوسط قيمة الصحيح، وإلى متوسط قيمة المعيب، فنخرجه بمقدار تلك النسبة.الخطوة الأخيرة: أن نجمع القيمتين، فنخرج كبيرة صحيحة أنثى بمقدار هذه القيمة.مثال ذلك: رجل عنده مائة شاة، المائة الشاة زكاتها شاة واحدة، لكن هذه المائة فيها معيبات، فيها صحيحات، فيها كبار، فيها صغار، فيها ذكور، فيها إناث، كيف نعمل؟ إذا فرضنا فيها صحاح وكبار؟ الخطوة الأولى: ننسب الصحيح إلى المال الزكوي، هذا عنده مائة شاة، نفرض أن الصحيحات خمس وسبعون شاة، فنسبة الخمسة والسبعين إلى المائة ثلاثة أرباع، ومثلها أيضاً: ننسب المعيبات إلى المال الزكوي، كم نسبة المعيبات الخمسة وعشرين إلى مائة؟ الربع، هذه الخطوة الثانية، الخطوة الأولى: ننسب عدد الصحيح إلى مجموع المال الزكوي، الصحيح خمسة وسبعون، ننسبه إلى مائة يساوي ثلاثة أرباع، المعيب خمسة وعشرون ننسبه إلى المائة يساوي الربع.الخطوة الثالثة: ننظر إلى قيمة متوسط الصحيح، وإلى قيمة متوسط المعيب، فنخرجه بمقدار تلك النسبة، هذه الصحيحات فيها شيء قيمته ستمائة ريال مثلاً، وشيء قيمته أربعمائة ريال، وشيء قيمته ثلاثمائة ريال، وشيء قيمته مثلاً خمسمائة، وما المتوسط هنا؟ أربعمائة، نأخذ الأربعمائة هذه، ونخرج هذه الأربعمائة بمقدار تلك النسبة، كم نسبة الصحيح إلى المعيب؟ ثلاثة أرباع، نأخذ ثلاثة الأربعمائة، كم ثلاثة أرباع الأربعمائة؟ ثلاثمائة، مثله أيضاً: في المعيب، عندك في المعيبات شيء بمائتين، وشيء بثلاثمائة، وشيء بمائة، المتوسط مائتان، فنسبة المعيب إلى مجموع المال الربع، فربع المائتين خمسون، تجمع القيمتين ثلاثمائة زايد خمسين يساوي ثلاثمائة وخمسين، فتخرج شاة واحدة كبيرة أنثى صحيحة قيمتها ثلاثمائة وخمسين ريالاً، وهذا عدل، يعني: ما يغبن المالك، ولا يغبن أهل الزكاة.قال المؤلف رحمه الله: [فإن كان فيها بخات وعراب، وبقر وجواميس، ومعز وضأن، وكرام ولئام، وسمان ومهازيل، أخذ من أحدهما بقدر قيمة المالين]. بالطريقة السابقة، إذا كان عنده كبار وصغار، ذكور وإناث، مراض وصحاح، اختلفت الأنواع، جواميس وبقر، عراب وبخاتي، ضأن ومعز، أيضاً عنده سمان ومهازيل، عنده أيضاً كرام ولئام، كل هذه تسلك هذه الطريقة.

زكاة الخليطين
قال المؤلف رحمه الله: [وإن اختلط جماعة في نصاب من السائمة حولاً كاملاً]. تقدم لنا أن السائمة لها خصائص، وذكرنا أن الجبران من خصائص السائمة، وأيضاً الوقص، فالأوقاص لا زكاة فيها، وأيضاً من خصائص السائمة -على ما ذهب إليه المؤلف وهو قول أكثر أهل العلم رحمهم الله- الخلطة، والخلطة تنقسم إلى قسمين:القسم الأول: خلطة اشتراك وأعيان:فهذه لا إشكال أن المالين كالمال الواحد، وخلطة الاشتراك والأعيان هي أن يملك اثنان من أهل الزكاة فأكثر نصاباً من السائمة بهبة، أو ميراث، أو شراء، بحيث لا يتميز نصيب أحدهما على الآخر، بل كلهم يشتركون في كل فرد من أفراد هذه السائمة، كل منهما شريك في كل فرد من أفراد هذه السائمة، فهذه لا إشكال أنها كالمال الواحد، مثال ذلك: زيد وعمرو اشتريا نصاباً من السائمة، فهذا عليهم الزكاة، اشتريا أربعين شاة، وحال عليها الحول وهي سائمة، نقول: عليهم الزكاة أو ورثاها أو اتهباها نقول: عليهم الزكاة.القسم الثاني الذي هو مراد المؤلف رحمه الله، وهو الذي اختلف فيه أهل العلم رحمهم الله، خلطة الأوصاف والجوار:وذلك بأن يتميز نصيب كل واحد من المختلطين؛ لكن تشترك هذه السائمة في الاختلاط ببعض الأوصاف، فخلطة الأوصاف يتميز نصيب كل واحد من المختلطين؛ لكن هذه السائمة تشترك في بعض الأوصاف حال الاختلاط، هل هذه الخلطة تصير المالين كالمال الواحد أو أنها لا تصير المالين كالمال الواحد؟مثال ذلك: زيد وعمرو، هذا زيد له عشرون شاة، وعمرو له عشرون شاة، هذا دفع الشياة التي له إلى هذا الراعي لكي يرعاها، وهذا أيضاًقام ودفع هذه الشياه، وبكر كذلك إلى آخره، نصيب زيد متميز، ونصيب عمرو متميز، ونصيب بكر متميز، هذه يسميها العلماء: خلطة الأوصاف والجوار، وهي التي وقع فيها الخلاف بين الأئمة، هل هذه الخلطة مؤثرة أو ليست مؤثرة؟ الجمهور أنها مؤثرة، تؤثر تغليظاً وتخفيفاً، وعند الحنفية أنها لا تؤثر، والصواب ما عليه جمهور أهل العلم لدلالة الحديث، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية )، هذا ما عليه جمهور أهل العلم بدلالة الحديث، وتؤثر تخفيفاً وتغليظاً، تغليظاً مثاله: زيد يملك عشرين شاة، وبكر يملك عشرين شاة فاختلطا حولاً، نقول: الزكاة تجب عليهم، لو أن زيداً انفرد، وأيضاً الآخر انفرد ما وجب عليهما الزكاة، يعني: لو أن زيداً له عشرون شاة يرعاها حولاً كاملاً ما وجبت عليه الزكاة؛ لأنه لم يملك نصاباً، كذلك أيضاً لو أن عمراً انفرد لم تجب عليه الزكاة بهذه العشرين؛ لأنها لم تبلغ نصاباً؛ لكن لما اختلطا وجب عليهما شاة، هنا أفادت التغليظ، فنقول: يجب عليهما شاة، فيدفع أحدهما شاة، ويرجع على شريكه، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية )، فإذا دفع زيد الشاة يرجع على من خالطه بنصف شاة إذا كان له نصف وهذا له نصف، ولو كان لزيد ثلاثون، ولعمرو عشر، ما الحكم؟ تجب عليهم الزكاة، فلو أخذنا من زيد الشاة يرجع على عمرو بالربع، هو يجب عليه ثلاثة أرباع شاة، وخليطه يجب عليه ربع، نقول: يرجع عليه بالربع، ولو كان العكس، لو أخذنا الشاة من صاحب الربع يرجع على خليطه بثلاثة الأرباع، هذه تفيد التغليظ. مثال إفادتها التخفيف: زيد له أربعون، وعمرو له أربعون اختلطا، لو أن كل واحد منهما انفرد كم يجب عليه؟ زيد يجب عليه شاة، وعمرو يجب عليه شاة؛ لكن الآن لما اجتمعا أصبح مالهما كالمال الواحد فيجب عليهما شاة واحدة.مثال آخر: زيد له أربعون، وعمرو له أربعون، وبكر له أربعون، كم يجب عليهم؟ شاة واحدة، لو انفرد كل واحد منهم يجب عليه شاة مستقلة، يعني: بدلاً من أن تجب ثلاث شياه وجبت الآن شاة واحدة، فأفادت الخلطة التخفيف، وأفادت أيضاً التغليظ.

شروط الخلطة
هذه الخلطة لها شروط، أشار المؤلف رحمه الله إلى الشروط فقال: [في نصاب من السائمة]. هذا الشرط الأول: أن تكون في السائمة، وعلى هذا لو كانت في غير السائمة، فسيأتينا إن شاء الله هل تؤثر أو لا تؤثر؟ مثلاً: لو اختلطوا في عروض التجارة، أو اختلطوا في الذهب والفضة.قال المؤلف رحمه الله: [حولاً كاملاً]. هذا الشرط الثاني: أن يكون الاختلاط حولاً كاملاً، وعلى هذا لو اختلطوا ستة أشهر أو ثمانية أشهر لا تؤثر الخلطة، يكون لكل مالٍ حكم نفسه، فمثلاً: زيد وعمرو، زيد له عشرون وعمرو له عشرون، اختلطا عشرة أشهر، ثم تفارقا، وليس تحيلاً على إسقاط الزكاة، هل تجب الزكاة أو لا تجب؟ نقول: لا تجب الزكاة؛ لأنهما لم يختلطا حولاً كاملاً، فلكل حكم نفسه، هذا له عشرون لا تجب عليه الزكاة، وهذا له عشرون لا تجب الزكاة. أيضاً: زيد له أربعون، وعمرو له أربعون، واختلطا عشرة أشهر هل تجب عليهم أو لا تجب؟ يجب على كل واحد شاة مستقلة، ما نقول: يدفعون شاة واحدة فقط، بل لكل حكم نفسه.قال المؤلف رحمه الله: [وكان مرعاهم وفحلهم ومبيتهم ومحلبهم ومشربهم واحداً]. الشرط الثالث: أن تشترك في صفات، هذه الصفات اختلف أهل العلم رحمهم الله في تعدادها، فعدد المؤلف فقال: (مرعاهم واحد)، أي المكان التي ترعى فيه، لو كان هذا يرعى في هذا الوادي، وهذا في هذا الوادي، الخلطة ما لها أثر. (مبيتهم) هذه الشياة مبيتها واحد، لو كانت هذه تبيت في هذا المكان, وهذه في هذا المكان، ما له عبرة. (محلبهم) هذه تحلب هنا وهذه تحلب هنا، لا عبرة. (مشربهم) هذه تشرب من هنا وهذه تشرب من هنا، لا بد أن تتفق في هذه الصفات.المذهب: أنها لا بد أن تشترك في المراح، والمسرح، والمرعى، والفحل، والمحلب، يعني: خلاف ما ذكره المؤلف رحمه الله، المذهب لا بد أن تشترك في هذه الصفات الخمس: المراح، والمسرح، والمرعى، والفحل، والمحلب. والشافعية كالحنابلة إلا أنهم يزيدون صفتين: المشرب، والراعي. والمالكية قالوا: لا بد أن تشترك في ثلاثة أوصاف من خمسة أوصاف، وهذه الأوصاف الخمسة هي: المراح، والمسرح، والمشرب، والفحل، والراعي. وهناك قول لـابن مفلح رحمه الله صاحب الفروع قال: هذه الصفات يرجع في تحديدها إلى العرف؛ لأنه لم يرد شيء ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، والذي ورد ضعيف، فيرجع في تحديد هذه الصفات إلى العرف.الشرط الرابع: أن يكون مجموع السائمة نصاباً، فلو اشتركا في أقل من نصاب فهذا لا يؤثر، لو هذا له بعيران، وهذا له بعيران واختلطا حولاً كاملاً، لا يؤثر؛ لأن أقل نصاب الإبل خمس من الإبل. الشرط الخامس: أن يكون كل خليط من أهل الزكاة، لا بد أن يكون الخليط من أهل الزكاة، فلو كان ليس من أهل الزكاة فلا أثر، فلو اختلط كافر ومسلم، نقول: المسلم له حكم نفسه، فمثلاً: زيد مسلم له عشرون، وعمرو كافر له عشرون، اختلطا حولاً، هل يؤثر ذلك أو لا يؤثر؟ نقول: لا يؤثر، هل تجب الزكاة على زيد أو لا تجب؟ نقول: لا تجب؛ لأنه الآن لا يملك إلا عشرين، فنقول: لا تجب الزكاة.

تراجع الخليطين بالسوية
قال المؤلف رحمه الله: [فحكم زكاتهم حكم زكاة الواحد، وإذا أخرج الفرض من مال أحدهم رجع على خلطائه بحصصهم]. هذا تقدم فمثلاً: زيد وعمرو اختلطا، زيد له خمسون شاة، وعمرو له خمسون شاة، المجموع مائة، يجب عليهم شاة، إذا أخذنا هذه الشاة من زيد يرجع على عمرو بالنصف. مثال آخر: زيد له ثمانون، وعمرو له عشرون المجموع مائة، فيها شاة واحدة، إذا أخذنا من صاحب الثمانين الشاة على بكم يرجع على عمرو؟ زيد له الثمانون وعمرو له عشرون، إذا أخذنا من زيد الشاة يرجع على عمرو بالخُمس، نقول: يجب عليه خُمس شاة، وإذا أخذنا من عمرو الشاة يرجع على زيد بأربعة أخماس، ودليل هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية ).

الخلطة في غير السائمة
قال المؤلف رحمه الله: [ولا تؤثر الخلطة إلا في السائمة].هذا المذهب وهو قول أكثر أهل العلم: أن الخلطة لا تؤثر إلا في السائمة، فلا تؤثر في عروض التجارة، ولا في النقدين، ولا في الخارج من الأرض.الرأي الثاني: رأي الشافعي رحمه الله: أن الخلطة تؤثر حتى في غير السائمة، والشافعية لا يجعلون الخلطة من خصائص السائمة، بل يقولون: تؤثر حتى في الأموال الزكوية الأخرى، فمثلاً: زيد وعمرو اختلطا في عروض التجارة، لهما عروض تجارة خلطاها، مثلاً: هذه عروض التجارة لعمرو، وهذه عروض التجارة لزيد، جعلاها في دكان واحد، مثلاً: يبيعان البر، هذا بر زيد، وهذا بر عمرو، يبيعان في دكان واحد، الميزان واحد، والدكان واحد، والمخزن واحد، اشتركا في مثل هذه الصفات، هل هذا مؤثر أو ليس مؤثراً؟ الحنابلة وجمهور أهل العلم على أنها ليست مؤثرة، لكل واحد منهما ماله وله حكم مستقل، لكل واحد منهما حكم نفسه، فـزيد يزكي ماله، وعمرو يزكي ماله، إذا كان مال زيد أقل من النصاب ما يجب عليه، وإذا كان مال عمرو نصاباً يجب عليه يزكي وحده فقط، هذا رأي جمهور أهل العلم رحمهم الله، وقالوا: بأن الدليل إنما ورد في السائمة فقط، والأصل براءة الذمة، وعند الشافعية أن الخلطة تؤثر؛ لأن الخلطة أثرت في السائمة لحصول الارتفاق للملاك، بحيث إن الراعي أصبح واحداً، والمحلب واحداً، والمبيت واحداً، فحصل لهم ارتفاق، وحصل لهم نوع من السهولة، فأثرت الخلطة، فكذلك أيضاً الآن المخزن واحد، والميزان واحد، والبائع قد يكون واحداً... إلى آخره، فيحصل لهم أيضاً ارتفاق، فقالوا: بأنها مؤثرة. والأقرب -والله أعلم- رأي جمهور أهل العلم، وأن الخلطة إنما تكون مؤثرة في السائمة فقط.

زكاة الخارج من الأرض
قال المؤلف رحمه الله: [باب زكاة الخارج من الأرض:وهو نوعان: أحدهما النبات، فتجب الزكاة منه في كل حب وثمر يكال ويدخر]. الخارج من الأرض، هذا النوع الثاني من أنواع الأموال الزكوية، تقدم أن الأموال الزكوية أربعة: الأول: السائمة وتقدمت، والثاني: الخارج من الأرض، والثالث: الأثمان، والرابع: عروض التجارة كما سيأتينا إن شاء الله.زكاة الخارج من الأرض دليله القرآن، والسنة، والإجماع، أما القرآن فقول الله عز وجل: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141] ، وأيضاً قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267]. والسنة كما ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فيما سقت العيون أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر ). والإجماع قائم على ذلك من حيث الجملة، وإن اختلف العلماء رحمهم الله في بعض التفاصيل.قال: (وهو نوعان: أحدها النبات). ما الذي تجب فيه الزكاة من النبات؟ المشهور من المذهب: أن النبات لا يخلو من أمرين: إما أن يكون حباً أو ثمراً، حباً مثل: البر، مثل: الشعير، مثل: الأرز، مثل: الدخن... إلى آخر هذه الحبوب، أو ثمر مثل: التمر، مثل: اللوز، مثل: الفستق، مثل: التين، مثل: المشمش... إلى آخره الثمار.يقولون: أنه إن كان حباً فالزكاة تجب في كل الحبوب، وإن كان ثمراً لا بد من قيدين: القيد الأول: أن يكون مكيلاً. والقيد الثاني: أن يكون قوتاً.أما بالنسبة للحبوب، فقالوا: تجب في الحبوب كلها، حتى لو لم تكن قوتاً مثل: حب الرشاد، قالوا: بأن الزكاة تجب فيه، هذا هو المذهب. فلا بد من قيدين: القيد الأول: الاقتيات، والقيد الثاني: الكيل.والرأي الثاني: رأي الشافعية والمالكية قالوا: لا بد من قيدين: القيد الأول: الادخار، والقيد الثاني: الاقتيات، أن يكون مدخراً مقتاتاً.الرأي الثالث: رأي الحنفية، والحنفية هم أوسع المذاهب في الخارج من الأرض، قالوا: تجب الزكاة في كل ما خرج من الأرض من الحبوب والثمار مما يقصد الآدمي تنميته.يقابل قول الحنفية ما ذهب إليه بعض السلف كـالحسن البصري وغيره، قالوا: بأن الزكاة لا تجب إلا في أربعة أصناف فقط: البر، والشعير، والتمر، والزبيب. فأصبح عندنا طرفان ووسط، الحنفية يتوسعون، والرأي الأخير يحصر الزكاة في أربعة أصناف فقط، والحنابلة، والمالكية، والشافعية يتوسطون وإن كانوا يختلفون، فالمذهب أنه يجب في كل الحبوب، وأما الثمار فيشترط أن تكون مكيلة مقتاتة، وأما بالنسبة للمالكية، والشافعية فيقولون: يشترط أن تكون مدخرة مقتاتة. والأقرب في ذلك ما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله، أو المالكية، والشافعية؛ لكن مذهب الحنابلة رحمهم الله أقرب، فالحنابلة بالنسبة للحبوب تجب في كل الحبوب، وأما بالنسبة للثمار فيشترطون أن تكون مكيلة مدخرة، يشترط في كل ثمر يكال ويدخر، عبارة الزاد يشترط أن تكون مكيلة ومدخرة. المالكية، والشافعية يشترطون أن تكون مقتاتة مدخرة، لا يشترطون الكيل، الحنابلة هم الذين يشترطون الكيل، والدليل على اشتراطهم الكيل حديث أبي سعيد في الصحيح: ( ليس فيما بين دون خمسة أوسق صدقة )، والوسق هذا من معايير الكيل، قالوا: وهذا دليل على اعتبار الكيل، قالوا: والدليل على اعتبار الادخار أن النعمة لا تكتمل إلا بما يدخر.المالكية والشافعية قالوا: الدليل على اشتراط الادخار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الزكاة في الفواكه والخضروات؛ لأنها ليست مدخرة، ومقتاتة لأن تمام النعمة لا يكتمل إلا بما يقتات. وأما الحنفية فاستدلوا بعموم الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267].
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-20, 04:34 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الزكاة [4]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(36)


تجب الزكاة في الحبوب والثمار، ولهما نصاب معلوم، وأحكام ومسائل خاصة، فمن ذلك أن ما سقي منها بمئونة ففيه نصف العشر، وما سقي بلا مئونة ففيه العشر، وتجب الزكاة إذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر، كما تجب الزكاة في المعدن والركاز.

تابع زكاة الخارج من الأرض
تقدم لنا شيء من أحكام زكاة الخارج من الأرض، وذكرنا دليل ذلك، وضابط ما تجب فيه الزكاة، وأن أهل العلم رحمهم الله اختلفوا في ذلك على ثلاثة آراء، فقال بعضهم: تجب في الحبوب والثمار التي تكال وتدخر، كما هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وعند مالك والشافعي : أنها تجب في كل ما كان قوتاً مدخراً، وعند أبي حنيفة رحمه الله: أنها تجب في كل ما خرج من الأرض مما يقصد الآدمي تنميته، وذكرنا أن طوائف من السلف قالوا: بأنها لا تجب إلا في أربعة أصناف: البر، الشعير، التمر، الزبيب. وذكرنا أن الأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه أحمد أو مالك والشافعي ، فهذا القول وسط بين القولين الآخرين.وتقدم أيضاً بيان النصاب، وأنها لا تجب في الحبوب والثمار حتى تبلغ نصاباً، والنصاب خمسة أوسق، والوسق: يساوي ستين صاعاً، فيساوي النصاب بالأصواع النبوية ثلاثمائة صاع، والصاع النبوي يساوي بالكيلوات: كيلوين وأربعين جراماً، وعلى هذا يكون النصاب بالكيلوات يساوي ستمائة واثني عشر كيلو. ‏

زكاة الخضروات والفواكه
عند جمهور أهل العلم: أن الزكاة لا تجب في الخضروات والفواكه، كالبرتقال، والتفاح، والموز، وأيضاً سائر الخضروات كالطماطم والبقول كالكراث، والبصل، والجزر، وغير ذلك من الخضروات، فهذه لا تجب فيها الزكاة؛ لما يلي:أولاً: لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الزكاة من هذه الأشياء مع وجود هذه الأشياء في المدينة وحول المدينة، كانت تزرع، ومع ذلك لم يرد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الزكاة من هذه البقول. ثانياً: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد : ( ليس فيما دون خمسة أوسق )، وهذه الأشياء لا تكال، التفاح، والبرتقال، والخضروات، هذه الأشياء لا تكال، وحينئذٍ لا تجب الزكاة في هذه الأشياء؛ لكن إذا كانت عروض تجارة فتجب فيها الزكاة، إذا كان الإنسان عنده محل لبيع الخضروات، أو لبيع الفواكه يبيع ويشتري، تجب عليه الزكاة، الفلاح الذي ينتج هذه الأشياء لا تجب عليه الزكاة إلا إذا باعها وحال الحول على الثمن، فإذا حال الحول على الثمن فإنه يجب عليه أن يخرج الزكاة.

مقدار الواجب في زكاة الحبوب والثمار
قال المؤلف رحمه الله: [ ويجب العشر فيما سقي من السماء والسيوح، ونصف العشر فيما سقي بكلفة كالدوالي والنواضح ].هنا بين المؤلف رحمه الله مقدار الواجب في زكاة هذه الحبوب والثمار، وهذا ينقسم إلى أقسام:القسم الأول: ما سقي بكلفة ومئونة، كمثل بلادنا هذه: الذي يسقى بحفر الآبار، والمرشات، والمكائن، ونحو ذلك، فهذا فيه نصف العشر، يعني: فيه واحد من عشرين، وعلى هذا إذا أنتجت المزرعة ألف صاع من البر، فإنك تقسم هذا الناتج على عشرين، وحاصل القسمة هو الزكاة، فألف على عشرين يكون الواجب خمسين صاعاً من البر، هذا القسم الأول: ما سقي بكلفة ومئونة.القسم الثاني: ما سقي بغير كلفة ولا مئونة، كالذي يسقى عن طريق الأمطار، أو الأنهار، أو الأودية، أو يشرب بعروقه... إلى آخره، فهذا فيه العشر، يعني: فيه واحد من عشرة، وعلى هذا إذا كان عندنا مزرعة أنتجت ألف صاع من البر فمقدار الزكاة ألف صاع تقسم هذا الناتج على عشرة، وحاصل القسمة هو الزكاة، ودليل هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري : ( فيما سقت العيون أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر ).والذي يسقى بالأنهار، أو بالأودية، أو بالأمطار، هذا كما سلف فيه العشر، ولا يخرجه عن كونه سقي بلا مئونة كون صاحب المزرعة يقوم بتمديد المواسير للنهر، أو يقوم بحفر الجداول والسواقي حتى يصل الماء إلى النهر، هذا لا يخرجه عن كونه سقي بلا كلفة ولا مئونة، فمثل هذه الأشياء لا بد منها.القسم الثالث: أن يسقى بمئونة وبغير مئونة نصفين، فهذا فيه ثلاثة أرباع العشر، فمثلاً: إذا كان عندنا مزرعة سقيت بمئونة وبغير مئونة نصفين، فهذا زكاتها ثلاثة أرباع العشر، يعني: فيه خمسة وسبعون صاعاً إذا أنتجت ألف صاع.القسم الرابع: إذا تفاوتا يعني: سقي بمئونة، وسقي بغير مئونة؛ لكنه متفاوت، يعني: لم يسقا بمئونة وبغير مئونة على السواء هذا نصف وهذا نصف، وإنما تفاوتا، فقال العلماء رحمهم الله: ينظر إلى الأكثر نفعاً، فإذا كان الأكثر نفعاً ما سقي بمئونة ففيه نصف العشر، وإذا كان الأكثر نفعاً ما سقي بلا مئونة ففيه العشر.القسم الخامس والأخير: إذا جهلنا السقي، هل هي بمئونة أو بغير مئونة؟ يعني: جهلنا في السقي ما هو الأكثر نفعاً؟ هل هو السقي بمئونة أو بغير مئونة؟ فهذا فيه العشر احتياطاً وإبراءً للذمة.

وقت وجوب زكاة الحبوب والثمار
قال المؤلف رحمه الله: [ وإذا بدا الصلاح في الثمار، واشتد الحب وجبت الزكاة ].الآن بين المؤلف رحمه الله وقت وجوب الزكاة في الحبوب والثمار، ثم بعد ذلك يبين وقت الإخراج، فوقت الوجوب بالنسبة للثمار، فإن كانت الثمرة تمراً، فوقت وجوب الزكاة إذا بدا صلاحها بأن تحمر أو تصفر، فإذا بدا فيها الاحمرار أو الاصفرار، فنقول: وجبت الزكاة، وحينئذٍ إذا باعها بعد أن بدا فيها الاحمرار أو الاصفرار، فالزكاة تكون على البائع؛ لأن الزكاة وجبت في ملكه، إلا إذا شرط البائع على المشتري. فنقول: وقت الوجوب في الثمرة إذا كانت الثمرة تمراً إذا احمرت أو اصفرت، فإذا بدأ فيها الاحمرار أو الاصفرار نقول: وجبت الزكاة، وحينئذٍ لو أن المالك لهذه الثمرة باعها أو وهبها أو جعلها صداقاً لامرأة ونحو ذلك فنقول: بأن الزكاة تجب على البائع؛ لأنها وجبت الزكاة وهو مالك لها، هذا إذا كانت الثمرة تمراً، فإن كان من الثمار الأخرى غير التمر، فوقت الوجوب فيها أن تنضج وأن يطيب أكلها. أما بالنسبة للحبوب، فوقت الوجوب أن يشتد، يعني: أن تقوى الحبة وتصلب بحيث إذا ضغطها لا تنضغط، فحينئذٍ تجب الزكاة في هذه الحبوب.وعلى هذا إذا كان هذا الشخص مالكاً لهذه المزرعة، واشتد الحب وقوي وصلب، ثم باع هذا الزرع فنقول: بأن الزكاة تجب على البائع، أو وهب هذا الزرع نقول: الزكاة تجب على الواهب، أي المالك الأول أو جعله صداقاً ونحو ذلك فنقول: بأن الزكاة تجب على المالك الأول، هذا بالنسبة لوقت الوجوب.

وقت إخراج زكاة الحبوب والثمار
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يخرج الحب إلا مصفى ولا الثمر إلا يابسا ].هذا وقت الإخراج، يعني: الفلاح المزارع لا يخرج الزكاة من الحبوب إلا بعد أن يصفيه من قشره، لا بد أن يصفيه من قشره.قال: (ولا الثمر إلا يابساً) ما تخرج زكاة الثمر رطباً، وعلى هذا لو أن الفلاح خرف التمر وأخرج زكاة التمر رطباً، أخرج رطباً لقيطاً، ما يجزئ هذا، أو مثلاً: التين أخرج تيناً طرياً هذا لا يجزئ، أو المشمش أخرج مشمشاً طرياً هذا لا يجزئ، ما يجزئ إلا اليابس، يعني: لا بد أن تخرج ثمراً يابساً، فانتظر حتى يكون حويفاً، فإذا أصبح يابساً حويفاً تخرج الزكاة، ويستدلون على هذا بحديث عتاب بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أمر أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ زكاة النخل تمراً )؛ لكن هذا الحديث منقطع. وذهب ابن القيم رحمه الله: إلى أنه يجزئ أن يخرج رطباً، هذا مذهب ابن القيم رحمه الله، وهذا هو الأنفع الآن للناس، الناس الآن لو أعطيتهم صطلاً يابساً، أو صطلاً رطباً يأخذون الصطل الرطب، وعلى هذا لو أن الفلاح أو المزارع خرف النخل، وأخرج من عشرين صطلاً صطلاً من الخراف، وجعله زكاة، نقول: بأن هذا مجزئ، أما القول بأنه لا يجزئ إلا أن يكون التمر يابساً... إلى آخره، فالحديث الذي اعتمد عليه المؤلف رحمه الله وكثير من أهل العلم منقطع، وعلى هذا نقول: الصواب في هذه المسألة يجزئ إخراج الرطب، وهذا هو الأصلح، والأنفع للناس والفقراء.

حكم الزكاة على من لم يكن مالكاً لها قبل وقت الوجوب
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا زكاة فيما يكتسبه من مباح الحب والتمر، ولا في اللقاط ].يعني: يشترط لوجوب الزكاة في الحبوب والثمار: أن يكون مالكاً لها وقت الوجوب، وتقدم لنا بيان وقت الوجوب، وأنه في الحبوب أن تشتد، وفي الثمار أن يبدو صلاحها بأن تحمر أو تصفر كما تقدم، فيشترط لوجوب الزكاة في الحبوب والثمار أن يكون مالكاً لها وقت الوجوب، وعلى هذا إذا لم يكن مالكاً لها وقت الوجوب فلا تجب عليه الزكاة.مثال ذلك: رجل اشترى المزرعة، وفيها حبوب، هذه الحبوب إذا اشتراها بعد أن اشتد الحب زكاتها تكون على البائع؛ لأن البائع هو المالك لهذه الحبوب وقت الوجوب، وهو وقت الاشتداد، كذلك أيضاً لو اشترى ثمرة النخيل بعد أن بدا الصلاح احمر أو اصفر وجاز البيع، فنقول: الزكاة هنا تجب على البائع؛ لأن البائع هو المالك وقت الوجوب، أما المشتري فليس مالكاً وقت الوجوب اللهم إلا إن كان هناك شرط، يعني: شرط البائع على المشتري أن يخرج الزكاة، فالمسلمون على شروطهم.كذلك أيضاً أشار المؤلف رحمه الله إلى اللقاط: الذي يتتبع المزارع بعد حصاد الناس، ويقوم بلقط الحب أو لقط الثمر بعد خراف الناس أو جذاذهم، فإذا لقط حباً أو لقط ثمراً يساوي نصاباً، فإنه لا تجب عليه الزكاة؛ لأن هذا اللقاط الذي قام بلقط لم يكن مالكاً لهذا الحب أو الثمر وقت الوجوب. ومثل ذلك أيضاً: لو أن شخصاً حصد الزرع ببعضه، مثلاً: اتفق صاحب المزرعة مع رجل حصاد يقوم بالحصد، فحصد الزرع بثلثه أو بربعه، فهذا الحصاد لا تجب فيه الزكاة، الزكاة تجب على المالك، أما بالنسبة للحصاد فما يأخذه من الحب أو الجذاذ الذي يأخذه من الثمر لا زكاة عليه؛ لأنه لم يكن مالكاً لهذه الأشياء وقت الوجوب.قال: (ولا زكاة فيما يكتسبه من مباح الحب والثمر).يعني: لو أن شخصاً خرج إلى البر، إلى الصحراء، وجمع من نبات الصحراء حباً حتى بلغ نصاباً، أو جمع ثمراً حتى بلغ نصاباً، نقول: لا زكاة عليه.قال المؤلف رحمه الله: (ولا ما يأخذه أجرة لحصاده).هذه الأشياء كلها -كما أسلفنا- لا يجب فيها الزكاة على اللقاط، ولا ما يأخذه أجرة لحصاده، ولا على المشتري بعد وقت الوجوب، ولا على من وهبت له، ولا المرأة إذا أصدقت بعد وقت الوجوب... إلى آخره؛ لأن هؤلاء لم يكونوا مالكين لهذا الحب، أو الثمر وقت وجوب الزكاة.

ضم صنف إلى غيره في زكاة الحبوب والثمار
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يضم صنف من الحب والثمر إلى غيره في تكميل النصاب، إلا أن يكون صنفاً واحداً مختلف الأنواع كالتمور ففيها الزكاة ].لا يضم صنف إلى غيره، فلو أن رجلاً عنده مزرعة زرع جانباً منها شعيراً، والجانب الآخر براً، الشعير يساوي مائة صاع، والبر يساوي مائتي صاع، فهل نقول: تجب عليك الزكاة بحيث تضم المائة إلى المائتين، أو نقول: بأن الزكاة لا تجب؟ نقول: بأن الزكاة لا تجب، لا يجب أن يضم الحب إلى غيره إذا كان مختلفاً بالجنس، فلا يجب عليه أن يضم الشعير إلى البر، وكذلك لا يضم البر إلى الرز، والرز إلى الدخن، والدخن إلى الذرة... إلى آخره، لا يجب عليه أن يضم هذه الأصناف إذا كانت مختلفة في الجنس. كذلك أيضاً: بالنسبة للثمر، ما يجب عليه أن يضم التمر إلى الزبيب، ولا يضم الزبيب إلى التين، والتين إلى المشمش، وغير ذلك من الثمار، نقول: بأنه لا يجب عليه أن يضم هذه الثمار بعضها إلى بعض، فإن بلغت بنفسها نصاباً، وإلا فإنه لا تجب الزكاة.قال: (فإن كان صنفاً واحداً مختلف الأنواع).إذا كان جنساً؛ لكنه أنواع، فإنه يضم بعض هذه الأنواع إلى بعضها، فإذا كان عنده مائة صاع من تمر السكري، ومائتا صاع من تمر البرحي، فنقول: يضم الأنواع بعضها إلى بعض، فيضم السكري إلى البرحي فيكمل عنده النصاب. أيضاً مثل ذلك: الحبوب، إذا كان الجنس مختلف الأنواع، مثلاً: البر تحته أنواع، الحنطة، والقيمي والمعين... إلى آخره، فإذا كان عنده من الحنطة مائة صاع، وعنده من القيمي مائتا صاع، فإنه يضم هذه المائة إلى المائتين في تكميل النصاب، الأنواع تضم، أما بالنسبة للأجناس فإنها لا تضم.

كيفية إخراج الزكاة من الأنواع المختلفة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويخرج من كل نوع زكاته].وعلى هذا إذا كان عنده سكري، وبرحي، وشقر، السكري يخرج زكاته سكريا، والبرحي يخرج زكاته برحيا، والشقر يخرج زكاة من الشقر... إلى آخره.أيضاً: في الحبوب: الحنطة يخرج زكاته حنطة، واللقيمي يخرج زكاته لقيمي، والمعية يخرج زكاته معية ... إلى آخره. فيخرج الزكاة من كل نوع، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، والذي مشى عليه المؤلف رحمه الله؛ لكن هذا فيه مشقة، ولهذا الرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله أنه يخرج من الوسط، ينظر إلى أوسط هذه الثمار، أو أوسط هذه الحبوب، ويخرج منها؛ لأن كونه يخرج من كل نوع على حدته، هذا مراعاته فيه مشقة، وعلى هذا نقول: الأقرب في هذه المسألة الرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله، وأنه يخرج الوسط.أيضاً قال الإمام أحمد رحمه الله: لا بأس أن يخرج القيمة إذا باع البستان، لو أن إنساناً باع الثمرة، كما يفعل بعض الناس اليوم، يكون عنده ثمار، ويبدو صلاح هذه الثمار، يقوم ببيع الثمرة، فلا بأس بذلك ويخرج القيمة، ولا يكلف ويشتري ثمرة، فإذا باع الثمار مثلاً: بخمسين ألف ريال، وهو يسقى بكلفة ومئونة ففيه نصف العشر، يقسم خمسين ألفاً على عشرين وتخرج الزكاة.وعموماً الأصل في الزكاة أنك تخرج من جنس المال الزكوي، فالثمار تخرج ثمرها، والسائمة تخرج سائمة، والحبوب تخرج حباً، والذهب والفضة تخرج من الذهب والفضة... إلى آخره، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه لا بأس أن تخرج القيمة عند المصلحة، إذا كان هناك مصلحة فلا بأس أن تخرج القيمة، وذكرنا ما ورد عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه إذا باع المزرعة فلا بأس أن يخرج من القيمة.قال المؤلف رحمه الله: [ وإن أخرج جيداً عن الرديء جاز وله أجره ].لو أن إنساناً تبرع وأخرج عن الرديء جيداً، هذا جائز، وله أجر الزيادة، فمثلاً: إذا كان عنده سكري، وعنده شقر، فأخرج الزكاة كلها من السكري، فنقول: بأن هذا جيد، وله الأجر على ذلك؛ لأنه زيادة خير.

زكاة المعدن
قال المؤلف رحمه الله: [النوع الثاني: المعدن، ومن استخرج من معدن نصاباً من الذهب أو الفضة، أو ما قيمته نصاباً من الجواهر أو الكحل، والصفر والحديد أو غيره فعليه الزكاة ].هذا المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وبه قال الإمام مالك أن الزكاة تجب في المعدن، والمعدن على المشهور من المذهب لا يخلو من أمرين:القسم الأول: أن يكون ذهباً أو فضة، فإن كان ذهباً أو فضة فتجب عليه الزكاة إذا أخرج نصاب ذهب أو فضة، تقدم لنا أن نصاب الذهب يساوي بالغرامات خمسة وثمانين غراماً، فإذا أخرج من الذهب خمسة وثمانين غراماً وجبت عليه الزكاة، والفضة نصابها خمسمائة وخمسة وتسعون غراماً، فإذا أخرج من معدن فضة خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً وجبت عليه الزكاة، هذا القسم الأول: إذا كان المعدن ذهباً أو فضة، فإذا أخرج نصاب ذهب أو نصاب فضة وجبت عليه الزكاة.القسم الثاني: أن يكون غير ذهب ولا فضة، كالكحل، والحديد، والرصاص، والنحاس... إلى آخره، فهذا تجب زكاته إذا أخرج قيمة نصاب ذهب، أو قيمة نصاب فضة، فإذا أخرج من الحديد ما قيمته نصاب ذهب، أو نصاب فضة، فينظر الأحظ للفقراء، والأحظ للفقراء اليوم الفضة؛ لأن الفضة نازلة، فإذا جمع مثلاً: من الحديد، أو من الرصاص، أو من النحاس ما تساوي قيمته خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً من الفضة، نقول: تجب في هذا الخارج الزكاة، غرام الفضة اليوم لعله يساوي ريالاً واحداً، وعلى هذا إذا أخرج من الحديد، أو من الرصاص، أو من الكحل، أو غير ذلك من المعادن ما تساوي قيمته خمسمائة وخمسة وتسعين ريالاً سعودي، إذا قلنا: بأن غرام الفضة يساوي ريالاً واحداً، نقول: وجبت عليه الزكاة، وقدر الزكاة: هو ربع العشر، ودليل وجوب الزكاة في هذا قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267] ، فيدخل في قوله سبحانه وتعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267] . وعند الشافعي رحمه الله: أن الزكاة لا تجب إلا في الذهب والفضة فقط؛ لكن المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن الزكاة تجب في الذهب والفضة وفي غيرها من الرصاص، والنحاس، والصفر، وغير ذلك، وعند أبي حنيفة رحمه الله يقول: إن كان يقبل الطرق والسحب، وإلا لا تجب فيه الزكاة. قال المؤلف رحمه الله: [ولا يخرج إلا بعد السبك والتصفية]. كما تقدم أنه لا يخرج زكاة الحب إلا بعد أن يصفيه من قشره، فكذلك أيضاً لا يخرج زكاة المعدن إلا بعد سبكه وتصفيته.قال المؤلف رحمه الله: [ ولا شيء في اللؤلؤ، والمرجان، والعنبر، والسمك ].اللؤلؤ، والمرجان، هذان يستخرجان من البحر، فاللؤلؤ الذي يستخرج من البحر والمرجان، وكذلك أيضاً: العنبر والسمك، هذه لا شيء فيها؛ لأن الأصل براءة الذمة، وهذه ليست خارجة من الأرض، فلا تكون داخلة في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267] ، هذه خارجة من البحر، ولا ورد ما يدل على وجوب الزكاة فيها، فنقول: إذا أخرج شيئاً من البحر من معادن البحر، أو جواهر البحر، ونحو ذلك، نقول: هذا لا زكاة فيه.وكذلك أيضاً: ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ولا شيء في صيد البر والبحر؛ لأن الأصل براءة الذمة، ولم يرد ما يدل على وجوب الزكاة في صيد البر أو البحر، فإذا صاد سمكاً أو حوتاً، أو صاد من البر طيوراً أو حيوانات أو غير ذلك، فإنه لا زكاة فيها؛ لكن كما سلف لنا إذا باع هذه الأشياء، وحال الحول على الثمن فهذا فيه زكاة، أو جعله عروض تجارة يبيع ويشتري، فهذا فيه زكاة عروض التجارة.

الركاز
قال المؤلف رحمه الله: [وفي الركاز الخمس، أي نوع كان من المال قل أو كثر، ومصرفه مصرف الفيء وباقيه لواجده].الركاز: ما وجد من دفن الجاهلية، واعلم أن الركاز الذي وجد مدفوناً ينقسم إلى ثلاثة أقسام:القسم الأول: أن يكون من دفن الجاهلية، والجاهلية ما كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بأن يوجد عليه تاريخ، أو عليه اسم من أسماء ملوكهم، أو اسم من أسماء آلهتهم ونحو ذلك، فما وجد من دفن الجاهلية، فهذا ركاز فيه الخمس.القسم الثاني: ما وجد عليه علامة من علامات المسلمين، كأن يوجد عليه اسم من أسماء ملوكهم، أو غير ذلك من الأشياء كالتاريخ الهجري ونحو ذلك، فهذا حكمه حكم اللقطة.القسم الثالث: أن لا يوجد عليه علامة، لا من علامات الجاهلية، ولا من علامات الإسلام، فهذا أيضاً -كما قال العلماء- حكمه حكم اللقطة. وقول المؤلف رحمه الله: (وفي الركاز الخمس).المراد بالركاز هنا: ما كان من دفن الجاهلية، أي: قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا فيه الخمس، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وفي الركاز الخمس). وقال المؤلف رحمه الله: (أي نوع كان المال قل أو كثر).يعني: سواء كان الركاز من الذهب أو من الفضة، أو من الصفر، أو من النحاس، أو من الرصاص... إلى آخره، وهذا ما عليه كثير من أهل العلم رحمهم الله، خلافاً للشافعي فإنه يقول: لا بد أن يكون من الذهب أو الفضة لكي يأخذ حكم الركاز، المؤلف يقول: من أي نوع كان، سواء كان من الذهب، أو الفضة، أو الرصاص، أو النحاس، أو اللؤلؤ أو غير ذلك، وعند الشافعي يشترط أن يكون من الذهب أو الفضة.وقوله: (قل أو كثر).يعني: لا يشترط في الركاز أن يبلغ النصاب، أي شيء تجده من دفن الجاهلية ففيه الخمس، سواء كان قليلاً أو كثيراً، وهذا أيضاً ما عليه كثيراً من أهل العلم رحمه الله خلافاً للشافعي، فإن الشافعي يشترط أن يبلغ نصاب الذهب أو الفضة، نصاب الذهب إن كان ذهباً، والفضة إن كان فضة.قال: (ومصرفه مصرف فيء).هذا أيضاً قول كثير من أهل العلم رحمهم الله خلافاً للشافعي ، فإن الشافعي رحمه الله يرى أن مصرفه مصرف الزكاة، فيصرف في أهل الزكاة عند الشافعي ، أما الرأي الأول الذي ذهب إليه المؤلف رحمه الله -وهو المذهب- فإنه يصرف مصارف الفيء في مصالح المسلمين.فتلخص لنا أن الشافعي رحمه الله غلب جانب الزكاة في الركاز، فيشترط أن يكون من الأموال الزكوية الذهب والفضة، وكذلك أيضاً يبلغ النصاب، وكذلك أيضاً يصرف في أهل الزكاة، والرأي الأول: غلبوا جانب خمس الغنيمة، فلا يشترط النصاب، ولا يصرف في مصارف الزكاة، وإنما في مصالح المسلمين كخمس الغنيمة، وكذلك أيضاً: لا يشترطون أن يكون من الذهب والفضة سواء كان من الذهب والفضة أو غيرهما.

زكاة الأثمان
قال المؤلف: [باب زكاة الأثمان]. تكلم المؤلف رحمه الله عن المال الزكوي: الأول السائمة، ثم تكلم عن الخارج من الأرض، ثم تكلم على المال الثالث، وهو زكاة الأثمان. والأثمان: جمع ثمن، والمراد بذلك: الذهب والفضة، وكذلك أيضاً ما يقوم مقام الذهب والفضة من الأوراق النقدية. والأدلة على وجوب الزكاة في الذهب والفضة القرآن، والسنة، والإجماع. أما القرآن فقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]. وأيضاً من السنة كما سيأتينا في الأحاديث، ومن ذلك حديث أبي هريرة في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فيكوى به جنبه، وجبينه، وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، كلما بردت ردت عليه حتى يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار )، والإجماع قائم على ذلك. ‏

نصاب الفضة
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا زكاة في الفضة حتى تبلغ مائتي درهم فيجب فيها خمسة دراهم ].ولا زكاة في الفضة حتى تبلغ مائتي درهم، ويدل لذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ليس فيما دون خمس أواق صدقة ) والأوقية: تساوي أربعين درهماً، فخمسة في أربعين يساوي مائتي درهم، وأيضاًحديث علي رضي الله تعالى عنه الذي أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وصححه الحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا شيء عليك -أي: في الفضة- حتى تبلغ مائتي درهم، ففيها خمسة درهم )، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ولا شيء عليك -يعني: في الذهب- حتى تبلغ عشرين مثقالاً ففيها نصف مثقال ).

نصاب الذهب
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا في الذهب حتى تبلغ عشرين مثقالاً، فيجب فيها نصف مثقال ]. يعني: يجب فيها ربع العشر. أولاً: النصاب في الذهب يساوي عشرين مثقالاً، المثقال هذا قدره العلماء رحمهم الله في الزمن السابق بحب الشعير، قالوا: المثقال يساوي ثنتين وسبعين من حب الشعير مما دق وطال وعليه قشره، يعني: مما كان قشره عليه، وقطع أطرافه الحبة الشعير قدرها العلماء في الوقت الحاضر، واختلفوا في تقديرها بالغرامات:القول الأول: وزنها أربع غرامات وربع.والقول الثاني: أنها تساوي ثلاثة غرامات ونصف، وهذان القولان هما أشهر الأقوال.القول الثالث: ثلاثة وستين غراماً.القول الرابع: أربعة وثلاثين غراماً.لكن القولان الأولان هما أشهر الأقوال، والأقرب من هذين القولين: أربعة غرامات وربع، وهو مقتضى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن المثقال يساوي أربعة غرامات وربع، وعلى هذا العشرون مثقالاً إذا أردت أن تخرج النصاب بالغرامات، عشرون في أربعة وربع يساوي خمسة وثمانين غراماً، هذا نصاب الذهب.إذا قلنا: بأن المثقال يساوي ثلاثة ونصف غرامات، تضرب عشرين في ثلاثة ونصف، فعشرين في ثلاثة ونصف يساوي سبعين غراما، فالنصاب إما سبعون غراماً من الذهب، أو خمسة وثمانون غراماً، والأقرب إلى الصحة أنه خمسة وثمانون غراماً، وعلى هذا ما تجب الزكاة في الذهب حتى يملك الإنسان خمسة وثمانين غراماً من الذهب.بالنسبة للفضة، الفضة النصاب فيها يساوي مائتي درهم، قال العلماء رحمهم الله: كل عشرة دراهم تساوي سبعة مثاقيل، أنت الآن حول الدراهم إلى المثاقيل، لما عرفت الآن وزن المثقال بالغرامات حول الدراهم إلى المثاقيل، ثم بعد ذلك اضرب هذه المثاقيل بوزن المثقال بالغرامات، فعندك الآن مائة درهم كم تساوي مثاقيل؟ كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، كم مائة درهم تساوي من المثاقيل؟تساوي سبعين، ومائتان تساوي مائة وأربعين مثقالاً، فنصاب الفضة يساوي مائة وأربعين مثقالاً، المثقال وزنه أربعة وربع، أو ثلاثة ونصف، فإذا أخذنا بقول من يقول: بأنه أربعة وربع تضرب مائة وأربعين بأربعة وربع، يساوي خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، فيكون نصاب الفضة إذا قلنا: بأن وزن المثقال أربعة غرامات وربع يساوي خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، وإذا قلنا: بأنه ثلاثة ونصف، مائة وأربعين بثلاثة ونصف يساوي أربعمائة وتسعين غراماً من الفضة. فتلخص لنا: أن النصاب في الذهب يساوي خمسة وثمانين غراماً، وأن النصاب في الفضة يساوي خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، هذا أقرب من القول بأن نصاب الذهب يساوي سبعين غراماً، وأن نصاب الفضة يساوي أربعمائة وتسعين غراماً.قال المؤلف رحمه الله في الفضة: (حتى تبلغ مائتي درهم)، وقال في الذهب: (حتى يبلغ عشرين مثقالاً)، فاعتبر الفضة بالعدد، ما قال: حتى تبلغ الفضة مائة وأربعين مثقالاً، اعتبر الفضة بالعدد، واعتبر الذهب بالوزن، فهل هذا مقصود أو غير مقصود؟ هذه المسألة موضع خلاف بين أهل العلم، فجمهور أهل العلم قالوا: إن العبرة هو الوزن، ولا عبرة بالعدد، فإذا كان عندك وزن عشرين مثقالاً من الذهب تجب عليك الزكاة، وإذا كان عندك وزن مائة وأربعين مثقالاً من الفضة تجب عليك الزكاة ولا عبرة بالعدد، يعتبرون الوزن، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يعتبر العدد، ويظهر الخلاف بين الرأيين، قلنا: بأن نصاب الذهب بالغرامات يساوي خمسة وثمانين غراماً، على رأي الجمهور لو أن الإنسان ملك عشرة دنانير، وهذه الدنانير تساوي خمسة وثمانين غراماً، تجب عليه الزكاة عند الجمهور، وأما عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما تجب عليه الزكاة؛ لأنه يعتبر العدد، لا بد أن تبلغ عشرين ديناراً. أيضاً الفضة قلنا: بأن نصاب الفضة يساوي خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، لو أن إنساناً ملك مائة درهم، وهذه المائة ثقيلة تبلغ خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، تجب الزكاة فيها على رأي الجمهور؛ لكن على رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لا تجب؛ لأنها لم تبلغ مائتي درهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-20, 04:39 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الزكاة [5]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(37)


الذهب والفضة تجب فيها الزكاة، وتلحق بهما الأوراق النقدية، ويجب إخراج الزكاة عن الدين، واختلف الفقهاء في كون الدين يمنع الزكاة أو لا، والراجح أنه لا يمنعه.

تابع زكاة الأثمان
تقدم لنا في الدرس السابق شيء من أحكام زكاة الثمار والزروع، وذكرنا ما يتعلق بوقت الوجوب، وكذلك أيضاً ما يتعلق بوقت الإخراج، وكذلك أيضاً هل يضم الجنس… إلى آخره؟ وهل تضم الأنواع بعضها إلى بعض... إلى آخره؟ ثم تطرقنا إلى زكاة المعدن وما يتعلق به، ثم بعد ذلك إلى أحكام زكاة الركاز وما يتعلق به، ثم شرعنا في باب زكاة الأثمان كالذهب والفضة وما يقوم مقامهما من الأوراق النقدية، فتكلمنا عن دليل وجوب الزكاة في الذهب والفضة، وأن الدليل هو القرآن، والسنة، والإجماع. أما القرآن فقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]. وأما السنة فحديث أبي هريرة في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فيكوى فيها جنبه وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين سنة، كلما بردت ردت عليه، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ).وذكرنا النصاب في الذهب وفي الفضة، وأن نصاب الذهب يساوي عشرين مثقالاً، ووزن المثقال بالغرامات قيل: أربعة وربع غرامات، وقيل: ثلاثة ونصف من الغرامات، والأقرب: أن وزن المثقال يساوي أربعة وربع من الغرامات، وعلى هذا يكون نصاب الذهب من الغرامات خمسة وثمانين غراماً، فإذا ملك الإنسان من الذهب خمسة وثمانين غراماً فإنه تجب عليه الزكاة، وبالنسبة لنصاب الفضة يساوي مائتي درهم، وذكرنا أن العلماء رحمهم الله قالوا: إن كل عشرة دراهم تساوي سبعة مثاقيل، وعلى هذا يكون نصاب الفضة بالمثاقيل مائة وأربعين مثقالاً، والمثقال الواحد وزنه يساوي أربعة وربع من الغرامات، فإذا ضربت مائة وأربعين في أربعة وربع خرج لك نصاب الفضة من الغرامات، فيكون نصاب الفضة من الغرامات يساوي خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً من الفضة، فإذا ملك الإنسان من الفضة خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، فإنه تجب عليه الزكاة، وإذا ملك أقل من ذلك فإن الزكاة لا تجب عليه. ومقدار الزكاة في الذهب والفضة ربع العشر كما تقدم تقريره، والإجماع قائم على ذلك، ومن ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وفي الرقة ربع العشر )، وتقدم أيضاً لنا حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. ‏

نصاب الأوراق النقدية
وأما بالنسبة لنصاب الزكاة في الأوراق النقدية التي يتداولها الناس، والتي نابت في البيع والشراء مناب الذهب والفضة، فقد قال العلماء رحمهم الله: تقدر بالأحظ للفقراء من الذهب والفضة، ننظر ما هو الأحظ للفقراء، هل هو الذهب أو الفضة؟ ثم نقدر نصاب هذه الأوراق إما بالذهب أو بالفضة، ينظر ما هو الأحظ، فتبين لنا الآن نصاب الذهب من الغرامات، وأن نصاب الذهب من الغرامات يساوي خمسة وثمانين غراماً، فالآن اسأل عن قيمة غرام الذهب، غرام الذهب كم يساوي اليوم؟ فإذا قلنا: بأن الغرام الواحد من الذهب يساوي ثلاثين ريالاً، فتضرب خمسة وثمانين بثلاثين ريالاً، يساوي ألفين وخمسمائة وخمسين ريال، إذا أخذنا باعتبار الذهب يكون نصاب الأوراق النقدية اليوم يساوي ألفين وخمسمائة وخمسين ريالاً، هذا إذا اعتبرنا الذهب، وإذا اعتبرنا الفضة، فنصاب الفضة من الغرامات يساوي خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، وغرام الفضة اليوم رخيص، يساوي ريالاً واحداً تقريباً، فيكون نصاب الأوراق النقدية إذا اعتبرنا الفضة يساوي خمسمائة وخمسة وتسعين، أيهما أحظ للفقراء، هل نقدر بالذهب أو نقدر بالفضة؟ نقدر بالفضة؛ لأننا إذا قدرنا بالفضة، من ملك خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً وجبت عليه الزكاة، أما إذا قدرنا بالذهب فمن ملك هذا المبلغ ما تجب عليه الزكاة، إذا ملك ألف ريال ما تجب عليه الزكاة، إذا ملك ألفين ما تجب عليه الزكاة، إذا ملك ألفين وثلاثمائة أو أربعمائة لا تجب عليه الزكاة، فنقول: نأخذ باعتبار الفضة؛ لأن هذا هو الأحظ للفقراء، والفضة من زمن بعيد وقيمتها رخيصة، وعلى هذا يكون الأحظ للفقراء أن نقدر نصاب الأوراق النقدية بالفضة، وعلى هذا إذا حال الحول وأراد الإنسان يعرف هل تجب عليه الزكاة أو لا تجب عليه الزكاة؟ هل عنده نصاب أو ليس عنده نصاب؟ يسأل عن قيمة غرام الفضة، فتسأل الصرافين عن قيمة غرام الفضة، فإذا قالوا: بأن قيمة غرام الفضة يساوي ريالاً واحداً تضرب واحد في خمسمائة وخمسة وتسعين، إذا قالوا: يساوي ريالين، تضرب خمسمائة وخمسة وتسعين في اثنين، وهكذا، فيخرج عندك نصاب الأوراق النقدية.

نصاب الذهب المغشوش
قال المؤلف رحمه الله: [ فإن كان فيهما غش فلا زكاة فيهما حتى يبلغ قدر الذهب نصاباً ].يعني: لو كان الإنسان عنده ذهب، وهذا الذهب فيه غش مخلوط بصفر مثلاً، فنقول: ننظر إلى مجموع الذهب الموجود، فإن كان الذهب الموجود يساوي نصاباً وقدر النصاب كما تقدم لنا عشرون مثقالاً، وتساوي بالغرامات خمسة وثمانين غراماً، فإذا كان الذهب الموجود الخالص يساوي هذا القدر تجب فيه الزكاة، أما إذا كان لا يساوي هذا الذهب، الذهب الخالص يساوي مثلاً ثمانين غراماً أو سبعين غراماً فنقول: لا تجب عليه الزكاة.قال المؤلف رحمه الله: [ فإن شك في ذلك خير بين الإخراج وبين سبكهما؛ ليعلم قدر ذلك ].إذا شك، لا يدري، هل الذهب المخلوط مع المغشوش مع غير الذهب من صفر وغير ذلك، يساوي نصاباً أو لا يساوي نصاباً؟ شك في ذلك، نقول: أنت بالخيار، إما أنك تقوم بالسبك، تقوم بتخليص الذهب الخالص وتزنه، هل يساوي عشرين مثقالاً أو لا يساوي؟ أو أنك تخرج بلا سبك، يعني: تخليصه من المغشوش، وتنظر هل يساوي نصاباً أو لا؟ ثم تخرج الزكاة، أو أنك تحتاط وتخرج الزكاة، تقدر كم يساوي هذا الذهب، ثم بعد ذلك تقوم بإخراج الزكاة عنها، وتحتاط في ذلك، فنقول: أنت بالخيار، فإذا كان السبك سيؤدي إلى فساد هذا الذهب، أو فساد الصنعة، أو يحتاج السبك إلى قيمة ونحو ذلك، فنقول: الإنسان يحتاط ويقدر ويخرج الزكاة.

زكاة الحلي المباح
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا زكاة في الحلي المباح المعد للاستعمال والعارية ].قوله: (في الحلي) يخرج ما عدا الحلي من الذهب والفضة، فإذا كان الإنسان عنده سبائك أو نقود من الذهب والفضة، فإنه تجب فيه الزكاة؛ لكن ما يتعلق بالحلي، سواء كان ذلك للرجال كما لو أن الإنسان عنده خاتم من فضة ونحو ذلك، أو كان للنساء، هل تجب فيه الزكاة أو لا تجب فيه الزكاة؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، وهذه المسألة كثر كلام العلماء رحمهم الله، وألفت فيها مؤلفات مستقلة، فالأئمة الثلاثة: الشافعي ومالك وأحمد : أنه لا زكاة في الحلي المعد للاستعمال. والرأي الثاني رأي أبي حنيفة رحمه الله: أن الحلي المعد للاستعمال فيه الزكاة، ولكلاً من هذين القولين دليل: أما الذين قالوا: بأنه لا زكاة في الحلي من الذهب والفضة المعد للاستعمال، فاستدلوا بأدلة، نذكر طرفاً من أدلتهم: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة )، وهذا في الصحيحين، فقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقه ) يدل على أن الشيء الذي اختصه الإنسان لنفسه لا زكاة فيه، فالرقيق الذي اختصه لخدمته، أو الفرس الذي يركبه أو السيارة التي يركبها، والبيت الذي يسكنه، والذهب الذي يلبسه، هذا كله لا زكاة فيه، فكذلك أيضاً فيما يتعلق بالذهب والفضة، هذه اختص بها لنفسه يستعملها، فلا زكاة فيها. وأيضاً استدلوا بما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء في خطبة العيد: ( تصدقن ولو من حليكن )، فقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( تصدقن ولو من حليكن ) يدل على أن الحلي ليس موضع صدقة. وقالوا: أيضاً حديث جابر : ( ليس في الحلي زكاة ) أخرجه الدارقطني ، وهو معلول ضعيف. وكذلك أيضاً قالوا: بأن هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهو الوارد عن أنس وجابر وأسماء وعائشة وابن عمر ، عن خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنس وجابر وأسماء وعائشة وابن عمر رضي الله تعالى عنهم. أما الذين قالوا: بأن الزكاة تجب في الحلي فاستدلوا على ذلك بالعمومات، كقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]. ومن ذلك أيضاً حديث أبي هريرة ( ما من صاحب ذهب ولا فضة )... إلى آخره كما تقدم. وكذلك أيضاً استدلوا بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: ( أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يدها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أتؤدين زكاة هذا؟ فقالت: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: هو حسبك من النار ) أخرجه أبو داود والترمذي .كذلك أيضاً استدلوا بحديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وفي يدها فتخات من ورق، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم: أتؤدين زكاتهن؟ قالت: لا، قال: هو حسبك من النار )، وهذا أيضاً في سنن أبي داود . مثله أيضاً: حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها: ( أنها كانت تلبس أوضاحاً من ذهب، فقالت: يا رسول الله! أكنز هو؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز )، وهذا أيضاً في سنن أبي داود وأخرجه الحاكم والدارقطني .والذي يظهر في المسألة -والله أعلم- أن الأقرب أنه لا زكاة في حلي النساء، لأن الفيصل في هذه المسألة هو هذه الأحاديث التي يستدل بها الحنفية ومن تابعهم، حديث عبد الله بن عمرو ، وحديث أم سلمة ، وحديث عائشة ، وهذه الأحاديث فيها مقال عند أهل الحديث، ففي أسانيدها مقال، فلا يبقى في المسألة إلا العمومات وأقوال الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكما تقدم أنه عن خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا زكاة في حلي النساء. وكذلك أيضاً: ما تقدم أن ذكرنا حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( ليس على المسلم في فرسه ولا عبده صدقة ).فيظهر -والله أعلم- أنه لا زكاة؛ لكن لو احتاط الإنسان وأخرج الزكاة فهذا أبرأ لذمته، وهذا أبعد عن الخلاف؛ لكن الاحتياط شيء والإيجاب شيء آخر.قال: ( المعد للاستعمال، والعارية ).فإذا كان يستعمل، أو يعار فإنه لا زكاة فيه، أما لو كان لا يستعمل ولا يعار، فهذا تجب فيه الزكاة، حتى قال العلماء رحمهم الله: لو كان معداً للنفقة، بأن كان عند إنسان حلياً ينفق على نفسه منها ولا يستعملها، وإنما ينفق على نفسه منها طعاماً، وشراباً، وكساءً، فهذا تجب فيه الزكاة، وكذلك أيضاً: لو كان يكري هذه الحلي تجب فيه الزكاة، ونظير ذلك أيضاً لو كان الإنسان عنده دراهم حبسها للنفقة على نفسه، إما للطعام أو للشراب، فهذا تجب فيه الزكاة إذا حال عليها الحول، كذلك أيضاً: لو حبسها للزواج، أو حبسها لكي يشتري سكناً له، وحال عليها الحول، فإنه تجب عليه فيها الزكاة للعموم؛ لأن هذه أموال زكوية، وقد حال عليها الحول.وقول المؤلف رحمه الله: ( ولا زكاة في الحلي المباح ).يخرج الحلي المحرم، كما لو كان هناك حلي على شكل صورة تمثال، صورة إنسان، أو حيوان، أو غير ذلك، فهذا محرمٌ لبسه، وحينئذٍ تجب فيه الزكاة.

لبس الذهب والفضة
قال المؤلف رحمه الله: [ ويباح للنساء كل ما جرت العادة بلبسه من الذهب والفضة ].بالنسبة للتحلي بالذهب والفضة نقول: ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون ذلك للنساء.القسم الثاني: أن يكون ذلك للرجال.أما بالنسبة للنساء: فالأصل في ذلك الحل، فيباح للمرأة من الذهب والفضة ما جرت العادة بلبسه، يعني: يباح لها من الذهب والفضة ما جرت العادة بلبسه، سواء كان محلقاً أو غير محلق، وما ورد من الأدلة في النهي عن الذهب المحلق لا تثبت، بل الثابت عن نساء الصحابة رضي الله تعالى عنهن لباس الذهب المحلق، فنقول: الأصل في التحلي بالذهب أو الفضة للنساء الإباحة، ويدل لهذا: حديث أبي موسى ، وحديث علي : ( حرم الذهب والحرير على ذكور أمتي، وأحل لنسائها ). فنقول: الأصل في ذلك الحل، وأيضاً حديث: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ حريراًوذهباً فجعل أحدهما في يمينه، والآخر في شماله، وقال: هذان حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها ). فنقول: الأصل في التحلي بالذهب والفضة للنساء أنه جائز بكل ما جرت العادة بلبسه، أما ما خرج عن العادة فهذا لا يجوز، لو أن المرأة تحلت بحلي خارج عن العادة نقول: هذا لا يجوز؛ لأنه إما أن يكون شهرة، وإما أن يكون إسرافاً. ‏

لبس الخاتم للرجل
قال المؤلف رحمه الله: [ ويباح للرجل من الفضة الخاتم ].تقدم ما يتعلق بالنساء، وأن الأصل في ذلك الحل، فيباح للمرأة من الذهب والفضة كل ما جرت العادة بلبسه بلا تقييد، سواء كان قليلاً أو كثيراً ما لم يكن هناك شهرة أو إسراف كما سلف. أما بالنسبة للقسم الثاني: وهو تحلي الرجل فنقول: تحلي الرجل إما أن يكون بالفضة أو يكون بالذهب، بدأ المؤلف رحمه الله بالفضة قال: (ويباح للرجل من الفضة الخاتم). هذا الأمر الأول، يباح أن يتختم الذكر بالفضة، ويدل لهذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام، كما في حديث أنس ، وحديث ابن عمر ، وحديث ابن عباس ، وغيرها من الأحاديث. فنقول: الخاتم من الفضة جائز للرجل، وهنا مسألة تتعلق بالتختم، هل التختم من قبيل العادات أو هو من قبيل السنن التي يؤمر بها الإنسان؟ الصواب في هذه المسألة: أنه من قبيل العادات، فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما اتخذ الخاتم لأن الناس في عهده كانوا يتختمون، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يتخذ الخاتم إلا لما قيل له: إن الملوك لا يقبلون إلا كتاباً مختوماً، فاتخذ النبي عليه الصلاة والسلام الخاتم، فنقول: اتخاذ الخاتم هذا ليس من السنن، وإنما هو من قبيل العادات، فإذا جرت عادة البلد أنهم يلبسون الخاتم فليلبس، وإذا لم تجر فإنه لا يلبس؛ لأنه يخشى أن يكون ذلك من لباس الشهرة.وهل الأولى أن يتختم الإنسان بيمينه، أو الأولى أن يتختم بيساره؟ هذا موضع خلاف، والصواب في ذلك أن هذا كله جائز، يعني: يجوز للإنسان أن يتختم باليمين، ويجوز له أيضاً أن يتختم باليسار؛ لأن السنة كلها وردت بذلك، وحينئذٍ نقول: الأمر فيه سعة والحمد لله. وبأي الأصابع يتختم؟ نقول: الأصابع تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يستحب التختم فيه، وهو الخنصر.القسم الثاني: ما يكره التختم فيه: وهي السبابة والوسطى، يكره للإنسان أن يتختم في السبابة والوسطى، لحديث علي في صحيح مسلم قال: ( نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختم في هذه والتي تليها ) يعني: السبابة والوسطى، فنقول: بأنه يكره للإنسان أن يتختم بالسبابة والوسطى.هذا بالنسبة للذكر، أما بالنسبة للأنثى فلها أن تتختم بما شاءت من الأصابع؛ لأن حال المرأة ليس كحال الرجل فيما يتعلق بالتحلي، فأمرها أوسع.القسم الثالث: المباح، وهو الإبهام والبنصر، فنقول: يباح للإنسان أن يتختم بإبهامه، وأن يتختم بأصبعه البنصر. فأصبحت الأصابع بالنسبة للتختم تنقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة.

تحلية السيف والمنطقة بالفضة
قال المؤلف رحمه الله: [ وحلية السيف والمنطقة ]. المنطقة: هي ما يشده الإنسان على وسطه، فهذه يباح أن يكون فيها شيء من الفضة، كذلك أيضاً: السيف يباح أن يحلى بالفضة. قال المؤلف رحمه الله: [ ونحوها ].يعني: ما يتعلق بآلات الحرب والسلاح مثل: الدرع، ومثل: الجوشن، ومثل: السهم، والدرع وغير ذلك، يباح أن تحلى. إذاً: يستثنى بالنسبة للذكر من الفضة ثلاثة أشياء: الأول: الخاتم.والثاني: المنطقة؛ لأن الصحابة اتخذوا المناطق محلاة بالفضة.والثالث: ما يتعلق بآلات الحرب.هذه ثلاثة أشياء تباح للذكر من الفضة.وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الأصل في الفضة للذكر الإباحة، وأنه لم يرد دليل يدل على النهي، واستدل بكون النبي عليه الصلاة والسلام اتخذ خاتما من فضة، وكون الصحابة رضي الله تعالى عنهم اتخذوا المناطق محلاة بالفضة، وأيضاً بعض الأسلحة محلاة بالفضة، وأيضاً: ورد في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وإن كان في إسناده شيء: ( وأما الفضة فالعبوا بها لعباً )، وعلى هذا القول: لو أن الإنسان اتخذ ساعة من فضة، فإن هذا جائز، أو اتخذ أزارير من فضة، فإن هذا جائز، أو اتخذ نظارة وجعل إطاراتها من فضة، فإن هذا جائز. فأصبح عندنا الفضة للرجال فيها رأيان كما تقدم:الرأي الأول: أنها محرمة لكن يباح بعض الأشياء.والرأي الثاني: أن الأصل فيها الحل.

ما يباح للرجال من الذهب
الذهب بالنسبة للذكور تقدم أنه محرم؛ لكن ما الذي يباح منه؟ هذا موضع خلاف، فالمذهب أنه يباح للذكر من الذهب شيئان: الشيء الأول: قبيعة السيف، وهو طرف المقبض.والأمر الثاني: ما دعت إليه الضرورة: قبيعة السيف؛ لأن هذا وارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم. والأمر الثاني: ما دعت إليه الضرورة، كما في سنن أبي داود ( أن أسعد بن عرفجة قطع أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن عليه، فرخص له النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب )، فنقول: ما دعت إليه الضرورة، فإن هذا لا بأس به. فأصبح أنه يباح من الذهب شيئان، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.الرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام ، وأيضاً قول الحنفية رحمهم الله: أنه يباح اليسير التابع، اليسير التابع جائز ولا بأس به، يعني: لو كان هناك يسير من الذهب تابع لشيء آخر، فإن هذا جائز ولا بأس به، ويدل لهذا حديث المسور بن مخرمة في صحيح البخاري أنه ( ذهب هو وأبوه مخرمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لما جاءت النبي صلى الله عليه وسلم أقبية، فذهبوا لكي يأخذوا حقهم من الأقبية، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه قباء من ديباج مزرر بالذهب )، فدل ذلك على أنه إذا كان يسيراً تابعاً لا بأس به، فمثلاً: لو كان عنده ساعة من حديد أو من صفر، وفي هذه الساعة شيء من المحركات من الذهب، أو كان في ثوبه تطريز من الذهب، أو في قداحته تطريز من الذهب، أو في نظارته شيء من الذهب ونحو ذلك من الأشياء، فإن هذا ما دام أنه يسير تابع، فالرأي الثاني: أن هذا جائز ولا بأس به.قال المؤلف رحمه الله: [ فأما المعد للكراء أو الادخار والمحرم ففيه الزكاة ].تقدم أن الحلي إذا كان معداً للكراء، أو معداً للادخار، فإن فيه الزكاة.

زكاة الدين
قال المؤلف رحمه الله: [ باب: حكم الدين ].الدين: ما ثبت في ذمة الإنسان من قرض وغيره.هل تجب الزكاة في الدين أو لا تجب الزكاة في الدين؟ يعني: لو أن الإنسان له دين على شخص يريد من شخص مالاً، فهل تجب فيه الزكاة أو لا تجب فيه الزكاة؟ المشهور عند الحنابلة رحمهم الله: أن الزكاة تجب في الدين مطلقاً، مذهب الحنابلة رحمهم الله من أوسع الحنابلة في إيجاب الزكاة في الدين، فيقولون: الزكاة تجب في الدين مطلقاً، سواء كان هذا الدين على معسر، أو كان على مليء باذل، وسواء كان على مليء مماطل، أو مليء باذل، فالمشهور من المذهب أن الزكاة تجب في الدين مطلقاً، كما أشرت أنهم من أوسع المذاهب في إيجاب الزكاة في الدين، يوجبونها مطلقاً، سواء كان الدين على معسر، أو كان على مليء غني باذل، أو على مماطل؛ لكن لا يجب عليه أن يخرج، هم يقولون: يستحب له أن يخرج كل عام بعامه؛ لكن لا يجب عليه أن يخرج حتى يقبض، والأفضل أن يخرج الإنسان كل سنة بسنتها، فمثلاً: لو كان لك عشرة آلاف ريال على زيد من الناس، وزيد هذا فقير معدم ما عنده شيء، أو لك عشرة آلاف ريال عند زيد وهو غني باذل، أو غني مماطل، نقول: أنت بالخيار، إما أن تخرج كل عام بعامه، قالوا: وهذا هو الأفضل، وإما أن تنتظر حتى تقبض المال، فتخرج عن كل السنوات، فإذا قبضت المال بعد عشر سنوات من هذا الفقير، فإنك تخرج عن عشر سنوات، أو قبضت هذا المال من هذا الغني بعد عشر سنوات، فإنك تخرج زكاة عشر سنوات، وهكذا.قال المؤلف رحمه الله: [ ومن كان له دين على مليء، أو مال يمكن خلاصه، كالمجحود الذي له به بينة، والمغصوب الذي يتمكن من أخذه، فعليه زكاته إذا قبضه بما مضى ].يعني: بكل ما مضى، فالمذهب أن الزكاة تجب في الدين مطلقاً، سواء كان على معسر، أو على مليء؛ لكنهم يقولون: لا يجب على الإنسان أن يخرج حتى يقبض، والأفضل أن يخرج، فإذا قبض أخرج الزكاة عن كل ما مضى، هذا الرأي الأول.الرأي الثاني: رأي الظاهرية والحنفية، يقولون: لا زكاة في الدين، بل إذا قبض الإنسان الدين يستأنف، إذا قبض الدراهم يستأنف بها حولاً مستقلاً، مثلاً: لك عشرة آلاف على زيد، ما يجب عليك أن تزكي حتى تقبض، فإذا قبضت هذه العشرة يبدأ فيها حول جديد، قبل ذلك ما يجب عليك زكاة، وهذا أيضاً من أضيق المذاهب.القول الثالث: وسط بين هذين الرأيين، وهو التفصيل: إن كان الدين على معسر، يعني: على فقير معدم، أو على غني مماطل، فهذا لا يجب عليك أن تخرج الزكاة كل سنة، وإنما تخرج الزكاة مرة واحدة إذا قبضت، مثلاً: جلس هذا الدين عند هذا المعسر مدة عشر سنوات، ثم قبضته، فإنك تخرج زكاة مرة واحدة.القسم الثاني: أن يكون الدين على مليء بادل، يعني: غني قادر على الوفاء، بقوله لا يماطل، وببدنه يمكن إحضاره مجلس الحكم، وبماله عنده ما يوفي، فهي مليء باذل، فهذا يجب أن تزكي عن الدين كل عام، فإذا كان على مليء باذل وجبت الزكاة كل عام وارد عن الصحابة عمر وابن عمر وعثمان وجابر رضي الله تعالى عنهم. وهذا القول هو الأقرب، ومثل ذلك أيضاً: المال المغصوب، لو كان الإنسان له مال مغصوب، ما يستطيع أن يخلصه، أو مسروق، أو منتهب، أو مختلس، أو مال ضائع مفقود، لم يجده إلا بعد سنتين، أو ثلاث سنوات، فهذا كله تجب فيه الزكاة مرة واحدة فقط إذا قبضه. كذلك أيضاً: ألحق بعض العلماء بهذا الحقوق التي تكون للإنسان عند الدولة في بيت المال، يعني: إذا كان له قروض، أو حقوق عند الدولة، فهذه إذا قبضها فإنه يخرج زكاتها مرة واحدة، فالمال المنسي، والموروث المجهول، والمغصوب، والمسروق، والمنتهب، وغير ذلك من هذه الأموال، هذه كلها لا تجب فيها الزكاة إلا مرة واحدة.قال المؤلف رحمه الله: [ أو مالٍ يمكن خلاصه كالمجحود الذي له فيه بينة، والمغصوب الذي يتمكن من أخذه فعليه زكاته إذا قبضه لما مضى ].لو كان الإنسان له مال مغصوب وهو يتمكن من أخذه، فهذا مثل المال الذي على مليء باذل، يجب عليه أن يزكي؛ لكن إذا كان مغصوباً لا يتمكن منه، أو مسروق لا يتمكن منه، لا يدري من سرق، أو المغصوب هذا ظالم؟ ما يستطيع أن يأخذه منه، فهذا لا يزكيه إلا إذا قبضه مرة واحدة. مثل أيضاً: إذا جحد المال ، إن كان يتمكن أن يأخذ منه فهذا تجب عليه الزكاة كل عام؛ لأنه مثل الدين على مليء باذل، وإذا كان لا يتمكن يجب عليه أن يزكي مرة واحدة.قال المؤلف رحمه الله: [ وإن كان متعذراً كالدين على مفلس، لفقير معول أو على جاحد، ولا بينة به، والمغصوب، والضال الذي لا يرجى وجوده، فلا زكاة فيه ].هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله؛ لكن المذهب خلاف ذلك، المذهب كما سبق تقريره أن الدين إذا كان على معسر، والمغصوب ونحو ذلك من الأشياء، يرون أنها تجب فيها الزكاة كل عام لما مضى؛ لكن ذهب المؤلف رحمه الله أنه لا زكاة فيه، والصواب في ذلك أن الدين على معسر، أو المغصوب الذي لا يستطيع خلاصه، والمنتهب والمسروق، والمال المنسي، وغير ذلك، هذه كلها تجب فيها الزكاة مرة واحدة، والدليل على ذلك القياس على ثمرة الشجرة، فإن الثمار إذا أخرجت تزكى مرة واحدة، كما قال الله عز وجل: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، مثله أيضاً: كونه يخلص هذا الغصب، أو يخلص هذه السرقة... إلى آخره هذه منزلة الثمرة التي حصلت له، فيجب فيها الزكاة مرة واحدة.قال المؤلف رحمه الله: [ وحكم الصداق حكم الدين ].الصداق كما تقدم أن المذهب أنه تجب فيه الزكاة مطلقاً. ‏

الدين يمنع الزكاة
قال المؤلف رحمه الله: [ ومن كان عليه دين يستغرق النصاب الذي معه أو ينقصه فلا زكاة فيه ].هذه مسألة أخرى مستقلة، هل الدين يمنع الزكاة أو ينقصها أو لا؟ المشهور من المذهب كما قرره المؤلف أن الدين يمنع الزكاة أو ينقص الزكاة، فيمنع الزكاة إذا أنقص النصاب، وينقص الزكاة إذا لم ينقص النصاب، مثال ذلك: هذا رجل عنده خمسون ألف ريال، حال عليه الحول، وعليه دين خمسون ألف ريال، قالوا: هذا لا زكاة عليه؛ لأنه الآن أصبح ما عنده نصاب، أو رجل إذا قلنا: بأن نصاب الريالات مثلاً أربعمائة ريال، هذا رجل عنده أربعمائة ريال، وعليه دين مائة ريال، هنا ينقص النصاب قالوا: لا زكاة عليه.إذا كان لا ينقص النصاب؛ لكنه ينقص الزكاة، مثال ذلك: رجل عنده مائة ألف ريال، وعليه دين يساوي خمسين ألف ريال، فهذا يزكي عن خمسين ألف ريال، والخمسون الألف الأخرى: لا تجب عليه فيها الزكاة؛ لأن الدين يمنع بقدره، فإن أنقص النصاب فلا زكاة، وإن لم ينقص النصاب فإنه يمنع بقدره كما تقدم، هذا رجل عنده مليون ريال، وعليه دين خمسمائة ألف، يزكي عن خمسمائة ألف ريال، هذا هو المشهور من المذهب.الرأي الثاني: يقابل هذا قول الشافعي ، أن الدين لا يمنع الزكاة مطلقاً، لا في الأموال الظاهرة، ولا في الأموال الباطنة، فهذا رجل عنده خمسون ألف ريال، وعليه دين بمقدار خمسين ألف ريال يزكي عن الخمسين التي عنده، وأما بالنسبة للدين الذي عليه فهذا لا يمنع الزكاة، لعموم قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، وأيضاً حديث: ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منه حقاً )، وقول الله: يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34] وهذا يشمل هذا، فهذا رجل حال عليه الحول، وعنده هذا المال، فيجب عليه أن يزكي.الرأي الثالث: التفصيل في المسألة، وقالوا: بأن المال لا يخلو من أمرين: إما أن يكون ظاهراً أو باطناً، يعني: المال الزكوي إما أن يكون من الأموال الظاهرة، وإما أن يكون من الأموال الباطنة، الأموال الزكوية يقسمونها إلى قسمين: ظاهرة وباطنة، الظاهرة هي السائمة، والخارج من الأرض، هذه يقولون: بأنها ظاهرة، والباطنة هي عروض التجارة والأثمان. فيقولون: بالنسبة للباطنة يمنع الدين الزكاة في الباطنة، مثلاً: إنسان عنده مائة غرام من الذهب، وعليه دين خمسون غراماً من الذهب، هذا ما يجب عليه الزكاة، في الباطنة يمنع، وفي الظاهرة لا يمنع. إنسان مزارع زرع الحب أو غرس الأشجار، واحتاج إلى مال واستدان، ثم المزرعة أنتجت، فقالوا: بأنه تجب عليه الزكاة والدين لا يمنع. بالنسبة للظاهرة لا يمنع، ولا ينقص، ولا عبرة بالدين، واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السعاة لقبض زكاة المال الظاهر، ومع ذلك لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم أن يسألوا عن الدين، أو أن لا يأخذوا بقدر الدين.وأما الذين قالوا: بأنه يمنع -كما هو رأي الحنابلة- فاستدلوا بقول عثمان رضي الله تعالى عنه: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده، فدل ذلك على اعتبار الدين، وأنه ينقص الزكاة أو يمنع الزكاة.والصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى: وأنه لا دخل للدين في الزكاة، وأن الإنسان إذا حال عليه الحول، وعنده أموال، وعليه ديون، فإنه يجب عليه أن يزكي عن كل الأموال التي عنده، وهذا يدعو الإنسان إلى أن يسدد الدين الذي عليه، كما قال عثمان رضي الله تعالى عنه: هذا شهر زكاتكم، فنقول: أنت مثلاً: عليك خمسون ألف ريال، وعندك مائة ألف ريال، سدد الدين، وما فضل أخرج زكاته، ما دام أن عليك ديوناً نقول: أخرج الدين، سدد الدين من المال الذي عندك، فإذا سددت عندك مائة ألف وعليك خمسون ألفاً سدد خمسين ألف، ويبقى خمسون ألف يحول عليها الحول وأخرج منها الزكاة، أما كون الإنسان ما يسدد الدين الذي عليه، ويحول الحول على هذه الأموال، نقول: يجب عليه فيها الزكاة، فنقول: كما قال عثمان رضي الله تعالى عنه: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده، نقول: ابدأ بالدين وسدد، فإن فضل شيء فإنك تخرج زكاته، وإن ما فضل شيء فإنه لا يلزمك أن تخرج الزكاة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-20, 04:45 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الزكاة [6]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(38)


عروض التجارة من الأموال التي يجب إخراج زكاتها، وهي ما يملكه الإنسان بنية التجارة، فإذا بلغ نصاباً وحال عليه الحول وجب فيه ربع العشر.وزكاة الفطر واجبة على كل مسلم صغير وكبير وذكر وأنثى، طعمة للمساكين وطهرة للصائم من اللغو والرفث، ولها أحكام بينها أهل العلم
زكاة عروض التجارة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: زكاة العروض].تقدم لنا ما يتعلق بأحكام التحلي، وذكرنا ما يتعلق بأحكام التحلي بالنسبة للمرأة، وأيضاً ما يتعلق بأحكام التحلي بالنسبة للرجل، وذكرنا أيضاً حكم تحلي الرجل بالفضة، وحكم تحلي الرجل بالذهب، ثم بعد ذلك تعرضنا لزكاة الدين وأحكامها، وأن الدين ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون على مليء باذل، وإما أن يكون على معسر، أو على مليء مماطل، وكذلك أيضاً تطرقنا إلى ما يتعلق بزكاة المال الضائع أو المغصوب أو المنتهب أو المختلس ونحو ذلك من هذه الأشياء.ثم قال المؤلف رحمه الله: (باب: زكاة العروض).العروض: جمع عرض، وهو ما أعد للبيع والشراء من أجل الربح، وزكاة العروض هي المال الرابع والأخير من الأموال الزكوية التي تجب فيها الزكاة، تقدم لنا زكاة السائمة بهيمة الأنعام، وزكاة الخارج من الأرض، وزكاة النقدين، ثم بعد ذلك زكاة العروض.

حكم زكاة عروض التجارة
عروض التجارة تجب فيها الزكاة باتفاق الأئمة، الأئمة الأربعة كلهم يتفقون على إيجاب الزكاة في عروض التجارة، وإنما خالف في ذلك الظاهرية، فلا يرون إيجاب الزكاة في عروض التجارة، والراجح بلا شك هو ما ذهب إليه الأئمة رحمهم الله، والأدلة على هذا كثيرة، فمن ذلك قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، فقال: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24] وهذا يشمل عروض التجارة؛ لأن هذه العروض لم يقتنها المسلم لخاصته، وإنما قصد بها قيمتها، فهي مال يقصد بها قيمة هذه العروض، لا يقصد بها ذات هذه العروض، فهو لم يشترها من أجل ذاتها، وإنما اشتراها من أجل الربح فيها، فهي معتبرة بقيمتها، وقيمتها تجب فيها الزكاة. ومن الأدلة على ذلك: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر ) أخرجه مسلم ، دل ذلك على أن ما يختص به الإنسان بنفسه أنه لا زكاة فيه، ويفهم منه أن ما لا يختص به الإنسان كعروض التجارة أن فيه الزكاة. وأيضاً: من الأدلة على ذلك حديث عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) وهذه الأموال التي اشتراها لم يقصدها لذاتها، وإنما قصد قيمتها والربح من وراء هذه العروض. وكذلك أيضاً: هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مثل: عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وعمر له سنة متبعة، وابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم. وأيضاً ورد في ذلك حديث -وإن كان ضعيفاً- عن سمرة قال: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الزكاة مما نعده للتجارة ) أخرجه أبو داود ؛ لكن في إسناده ضعف لا يثبت. والرأي الثاني: كما أشرنا هو قول الظاهرية، وقالوا: بأن الزكاة لا تجب في عروض التجارة؛ لأن الأصل هو براءة الذمة، ولم يرد الدليل، وهذا فيه نظر؛ لأن الصواب في هذه المسألة أن الدليل ورد، كما أسلفنا في أدلة الجمهور.

اشتراط نية التجارة في زكاة العروض وبلوغها النصاب
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا زكاة فيها حتى ينوي بها التجارة ].قول المؤلف رحمه الله: ( لا زكاة فيها حتى ينوي بها التجارة )؛ لحديث عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، فإذا نوى بها القنية، وأن الإنسان يختص بها لنفسه يستعملها، السيارة اشتراها لم ينو بها التجارة بالبيع والشراء، وإنما اشتراها لكي يركبها، والبيت اشتراه لكي يسكنه... إلى آخره، فهذه الأشياء لا زكاة فيها لما تقدم أن ذكرنا من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ).قال المؤلف رحمه الله: [ وهي نصاب حولاً].الصواب في هذه المسألة: أنه إذا كانت عروض التجارة نصاباً ونوى بها التجارة فإنها تكون للتجارة، فإذا حال عليها الحول فإنه يخرج زكاتها، كما سيأتي.قال المؤلف رحمه الله: [ ثم يقومها، فإذا بلغت أقل نصابٍ من الذهب والفضة أخرج الزكاة من قيمتها ].نصاب عروض التجارة معتبر بأحد النقدين، فينظر إلى الأقل من نصاب الذهب أو نصاب الفضة، فيقدر نصاب العروض بالأقل من نصاب الذهب أو نصاب الفضة، وتقدم لنا أن نصاب الذهب يساوي خمسة وثمانين غراماً، وخمسة وثمانون تساوي اليوم مثلاً: ألفين ريال، فإذا اعتبرنا الذهب قلنا: لا تجب الزكاة في عروض التجارة حتى تبلغ قيمتها ألفي ريال، فإذا كان عنده من المواد الغذائية، والأقمشة... إلى آخره ما يساوي قيمته ألفي ريال وجبت، وإذا كان أقل من ألفي ريال لا تجب فيه الزكاة، هذا إذا اعتبرنا نصاب الذهب، وإذا اعتبرنا نصاب الفضة، فإنه كما تقدم لنا أن نصاب الفضة يساوي خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، والفضة -كما أشرنا فيما سبق- نزلت قيمتهما فهي رخيصة جداً، فخمسمائة وخمسة وتسعون غراماً من الفضة تساوي اليوم تقريباً ستمائة ريال، وعلى هذا نقول: العروض معتبرة بالفضة؛ لأن الفضة هي الأقل، فإذا ملك عروضاً تبلغ قيمتها ستمائة ريال، إذا قلنا: بأن الغرام بريال، أما إذا قلنا: بأن الغرام بنصف ريال، فيساوي تقريباً ثلاثمائة ريال، فإذا ملك من عروض التجارة ما يساوي ثلاثمائة ريال وجبت عليه الزكاة، وإذا ملك أقل من ذلك فإنه لا تجب عليه الزكاة، وعلى هذا تقدر عروض التجارة. وكذلك أيضاً كما أشرنا الأوراق النقدية اليوم تقدر كلها بالفضة؛ لأن الفضة سعرها نازل فهو الأحظ للفقراء، فعندك نصاب الفضة يساوي خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً تنظر إلى قيمته بالريالات، ثم بعد ذلك تعرف نصاب العروض، فإذا ملك عروضاً يساوي قيمة هذه الغرامات من الفضة، وجبت عليه الزكاة، وإلا لم تجب عليه الزكاة.

ضم الذهب والفضة إلى قيمة العروض
قال المؤلف رحمه الله: [ وإن كان عنده ذهب أو فضة ضمها إلى قيمة العروض في تكميل النصاب ].إذا كان عنده ذهب أو فضة يضمها إلى قيمة العروض في تكميل النصاب، فهذا رجل عنده من الفضة مائتا غرام، تقدم لنا أن نصاب الفضة يساوي خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، فإذا كان عنده مائتا غرام من الفضة والباقي عنده عروض، يعني: عنده من عروض التجارة ما يساوي أربعمائة غرام، فيضيف مائتي غرام إلى أربعمائة غرام، يبلغ أكثر من النصاب؛ لأن النصاب كما تقدم يساوي خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، فتجب عليه الزكاة؛ لأن هذه العروض كما تقدم ليست مرادة لذاتها، وإنما المراد: هو القيمة. ومثل ذلك أيضاً: لو كان عنده أوراق نقدية وعنده عروض تجارة، الأوراق النقدية تساوي نصف النصاب، وعروض التجارة تساوي النصف الآخر، نقول: تجب عليه الزكاة. كذلك أيضاً: إذا كان عنده من الذهب مثلاً: خمس غرامات، والباقي عروض تجارة، فإنه ينظر إلى قيمة هذه الغرامات، وينظر إلى قيمة العروض، ويضم بعضها إلى بعض حتى يكتمل النصاب، فتجب عليه الزكاة.

تأثير نية القنية على عروض التجارة
قال المؤلف رحمه الله: [ وإن نوى بعروض التجارة القنية فلا زكاة فيها ].يعني: لو كان عنده سيارة للتجارة، ثم بعد ذلك نوى بها القنية، نوى أن يستعملها، فنقول: ينقطع حولها ولا زكاة فيها؛ لما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة )، وأيضاً: الإجماع منعقد على أن ما يقتنيه الإنسان لخاصة نفسه استعماله أنه لا زكاة عليه. وكذلك أيضاً: لو كان عنده آلات أو أثواب وغير ذلك يتاجر فيها، ثم نوى أن يجعلها لنفسه؛ لكي يلبسها ونحو ذلك، فإنه لا زكاة فيها. قال المؤلف رحمه الله : [ ثم إن نوى بها بعد ذلك التجارة استأنف له حولاً ].يعني: إذا كانت هذه السيارة للتجارة، ثم نواها للقنية، مضى عليها خمسة أشهر، وهو ناويها للتجارة في المعرض، ثم بعد أن مضت خمسة أشهر نوى أنها للقنية، الآن انقطع حول التجارة ولا زكاة فيها، فإذا نوى بعد أن نواها للقنية أن يجعلها للتجارة مرة أخرى نقول: يستأنف حولاً جديداً؛ لأن الحول الأول قد انقطع، فإذا انقطع ثم بعد ذلك عاود ونوى بها القنية مرة أخرى نقول: يستأنف بها حولاً جديداً.

تقدير عروض التجارة
هناك بعض المسائل المتعلقة بعروض التجارة، من هذه المسائل: كيف تقدر عروض التجارة؟ يعني: صاحب المحل، صاحب البقالة، أو صاحب المعرض، أو الذي يبيع أقمشة، أو يبيع آلات، أو يبيع سيارات ونحو ذلك، كيف يقدر عروض التجارة؟ نقول: يقدرها بسعرها الذي تباع به الآن، فإن كان يبيع تجزئة يقدرها بسعر التجزئة، وإن كان يبيع جملة يقدرها بسعر الجملة، ولا ينظر إلى السعر الذي اشتريت به، بل ينظر إلى سعرها، إن كان يبيع تجزئة مثل: أصحاب البقالات، وأصحاب الأقمشة، والمعارض ونحو ذلك، فإنه يقدر بسعر التجزئة، وإن كان يبيع بالجملة مثل أصحاب المحلات الكبيرة فهذا يقدرها بسعر الجملة، ولا ينظر إلى السعر الذي اشتريت به، إنما ينظر إلى سعرها عند حولان الحول عند وجوب الزكاة، والواجب فيها ربع العشر، يعني: واحد من أربعين، فحاصل ما تأتي به، أو ما يأتي به هذا الدكان يقسمه على أربعين، والناتج هو الزكاة ربع العشر.

التاجر المدير والتاجر المحتكر
أيضاً: جمهور أهل العلم رحمهم الله لا يفرقون بين التاجر المدير، والتاجر المحتكر:التاجر المدير: هو الذي يدير التجارة، يبيع ويشتري على الدوام، مثل: أصحاب البقالات الآن يبيع ويشتري، تذهب هذه السلع وتأتي سلع أخرى، فلا يكاد يمر عليه يوم، أو يومان، أو أسبوع بالكثير إلا وقد تغيرت هذه السلع. ومثل أيضاً: أصحاب المعارض، وأصحاب قطاع السيارات وغير ذلك، الذين يحركون التجارة، يحركون سلعهم، أو أصحاب معارض السيارات وغير ذلك، هذا يسميه العلماء رحمهم الله: التاجر المدير، هذا لا إشكال أنه تجب عليه الزكاة كل عام، وتقليب البضائع لا يقطع عليه الحول كما تقدم لنا؛ لأن أمور التجارة هذا مبني على التقليب والاستبدال، فقد يكون هذا الشهر عنده سلع، وفي الشهر الآخر عنده سلع أخرى... إلى آخره، لا ينظر إلى تغير التجارة. كذلك أيضاً كما سبق لنا أن ربح التجارة حوله حول أصله، فإذا حال عليه الحول ينظر إلى السلع التي عنده سواء كانت من جنس السلع التي ابتدأ الحول بها أو اختلفت وتغيرت، وبالنسبة للربح فإن حوله كما تقدم حول أصله. والتاجر المحتكر: هو الذي يحبس السلع حتى يرتفع سعرها، ثم بعد ذلك إذا ارتفع سعرها يقوم ببيعها، جماهير أهل العلم قالوا: لا فرق بين التاجر المدير، والتاجر المحتكر، كلهم تجب عليهم الزكاة، فإذا كان عنده سلع ما يحركها مثلاً: عنده أراض لا يحركها لكنه قاصد بها ارتفاع السعر، فإذا ارتفع سعرها باع، فهذا عند جمهور أهل العلم تجب عليه الزكاة سواء كان مديراً أو محتكراً، كلهم يوجبون الزكاة على الصنفين.الرأي الثاني: رأي الإمام مالك رحمه الله، الإمام مالك رحمه الله يفرق بين التاجر المدير والتاجر المحتكر، فيقول: التاجر المدير تجب عليه الزكاة كل عام، وأما التاجر المحتكر الذي يحبس السلعة حتى يرتفع السعر، ثم بعد ذلك يبيع، يقول: هذا لا يجب عليه أن يزكي كل عام، وإنما يجب عليه أن يزكي مرة واحدة إذا باع. والأقرب في هذه المسألة أن نقول: بأن التاجر المدير لا إشكال أنه تجب عليه الزكاة كل عام، وإما بالنسبة للتاجر المحتكر فهذا فيه تفصيل فنقول: هذا التاجر إذا كان عنده سلع يحتكرها، وسلع يحركها، فنقول: تجب عليه الزكاة في كل عام، سواء كانت السلع التي تحرك أو السلع التي لا تحرك، فإذا كان يشتغل بهذه البضائع بعضها يحركه، وبعضها يحبسه، وينتظر بها زيادة السعر، نقول: الصواب في ذلك أنه تجب عليه الزكاة كل عام، أما إنسان ليس عنده شيء يحركه؛ لكن عنده سلعة ينتظر بها زيادة السعر، فهذا لا تجب عليه الزكاة إلا مرة واحدة، مثلاً: إنسان لا يشتغل بالتجارة؛ لكنه اشترى هذه الأرض، وهو يقصد من ذلك أنه إذا ارتفع سعرها أنه يبيع، فنقول: الصواب والأقرب في هذه المسألة أنه يجب عليه أن يزكي مرة واحدة، أو مثلاً: عنده سيارة، وحبس هذه السيارة حتى يرتفع السعر ثم يبيع، فنقول: هذا تجب عليه الزكاة مرة واحدة. هذا يظهر اليوم في عمل كثير من الناس فيما يتعلق بالأراضي، تجد إنساناً ليس مشتغلاً بالأراضي والبيع والشراء، وإنما يشتري هذه الأرض، ثم يحبسها حتى يزيد سعرها، ثم يبيع، فنقول: إذا باع يؤدي الزكاة مرة واحدة. فأصبح عندنا المحتكر هذا فيه تفصيل، إن كان إنسان يقلب شيئاً من تجارته وشيئاً يحبسه تجب عليه الزكاة في الجميع، وإن كان ليس عنده ما يقلبه وإنما عنده سلع يحتكرها فقط، فهذا تجب عليه الزكاة مرة واحدة فقط إذا باع. أما الذي يشتري أرضاً، وهو يقصد من ذلك أن يعمرها للسكنى، أو يقصد من ذلك أن يعمرها للتأجير فلا زكاة فيها.

زكاة الفطر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: زكاة الفطر ].الفطر: اسم مصدر، وقوله: (باب) مضاف، و(زكاة) مضاف إليه، و(زكاة) مضاف، و(الفطر) مضاف إليه، وهذا من إضافة الشيء إلى سببه يعني: الزكاة التي سببها الفطر من رمضان. وهذه الزكاة زكاة البدن، فالزكاة زكاتان: زكاة المال، وتقدم كلام المؤلف عليها: عروض التجارة، النقدان، السائمة، الخارج من الأرض... إلى آخره، هذه زكاة المال، وزكاة الفطر هذه زكاة البدن.

حكم زكاة الفطر
الأصل في زكاة الفطر السنة، وبعض العلماء قال: الأصل فيها الكتاب، الله عز وجل يقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز : المراد بذلك زكاة الفطر: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى:14] المراد بذلك زكاة الفطر، والصلاة المراد بذلك: صلاة العيد، هذا من القرآن. وأما السنة فحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد من المسلمين )، فهذا صريح في أنها فرض، وفرض زكاة الفطر قبل فرض زكاة المال، زكاة الفطر فرضت في السنة الثانية من الهجرة قبل فرض زكاة المال، كما في حديث قيس بن سعد رضي الله تعالى عنه. قال المؤلف رحمه الله: [ وهي واجبة ].باتفاق الأئمة أنها واجبة، وحديث ابن عمر صريح في الوجوب: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير )... إلى آخره، هذا صريح في الوجوب.

من تجب عليه زكاة الفطر
قال المؤلف رحمه الله: [ على كل مسلم ].من تجب عليه زكاة الفطر؟ أو ما هي شروط من تجب عليه زكاة الفطر؟ الشرط الأول: الإسلام، فالكافر لا تجب عليه زكاة الفطر، ودليل ذلك ما تقدم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير على الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد من المسلمين)، فيفهم من ذلك أن الكافر لا تجب عليه، ولأنها طهره كما في حديث ابن عباس، يعني: الحكمة منها طعمة للمساكين، وطهرة للصائم من اللغو والرفث، والكافر نجس، ليس أهلاً للتطهير حتى يسلم، إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28] ، وتقدم أن أشرنا أن الكافر يتوجه إليه خطابان: خطاب وجوب التكليف، وهذا مكلف بحيث إنه يحاسب عليها يوم القيامة. والخطاب الثاني: خطاب وجوب الأداء، فهذا لا يجب عليه، فلو أنه أسلم لا نلزمه أن يؤدي زكاة الفطر عن الأعوام الماضية، وإنما إذا أسلم قبل وقت الوجوب وجبت عليه زكاة الفطر.قال المؤلف رحمه الله: [إذا ملك فضلاً عن قوته، وقوت عياله].الشرط الثاني: الغنى، وضابط الغنى يختلف باختلاف أبواب الفقه، فالغنى في دفع الزكاة، يختلف عن الغنى في أخذ الزكاة، والغنى في باب زكاة الفطر يختلف أيضاً عن الغنى في باب زكاة المال، والغنى في النفقة يختلف، والغنى في العقل في إيجاب الدية... إلى آخره. المهم أن الغنى يختلف باختلاف أبواب الفقه. إذاً: الشرط الثاني: أن يكون غنياً، الغني في باب زكاة الفطر هو الذي يملك قوته وقوت من يمونه يوم العيد وليلته بعد الحوائج الأصلية، فمثلاً: هذا رجلٌ هو وعائلته يكفيه يوم العيد وليلته صاعان، والحوائج الأصلية متوافرة من الفرش، والأواني، والآلات التي يحتاجها في بيته، هذه متوافرة، الآن ملك قوت يوم العيد وليلته صاعان، وأيضاً ملك على ذلك زيادة صاع، فنقول: هذا غني في باب زكاة الفطر، ما دام أنه يملك مئونته يوم العيد وليلته مع ملكه للحوائج الأصلية، وملك شيئاً يزيد على ذلك نقول: الآن أنت غني في باب زكاة الفطر، يجب عليك أن تخرج زكاة الفطر، فقد يكون الإنسان فقيراً في باب أخذ الزكاة، لكنه في باب زكاة الفطر غني يجد قوته وقوت من يمونه يوم العيد وليلته، ويجد حوائجه الأصلية، من الفرش، والغطاء، والوطاء، والأواني، والآلات... إلى آخره، ويملك زيادة على ذلك طعاماً، أو نقود يشتري بها، فنقول هنا: تجب عليه زكاة الفطر.ولم يشترط المؤلف رحمه الله التكليف، فنقول: بأن زكاة الفطر واجبة على الصغير والكبير، والحر والرقيق، والذكر والأنثى.

قدر زكاة الفطر
قال: [ وقدر الفطرة صاع من البر، أو الشعير، أو دقيقهما، أو سويقهما، أو من التمر والزبيب ].في هذه الجملة بين المؤلف رحمه الله: قدر الفطرة، وأيضاً بين جنس المخرج، فقدر الفطرة أو قدر زكاة الفطر صاع، كما في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان، صاعاً من تمرٍ، أو صاعاً من شعير، على الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد من المسلمين)، وكذلك أيضاً في حديث أبي سعيد قال: ( كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط ). وقول المؤلف رحمه الله (وقدر الفطرة صاع من البر).هذا ما عليه جمهور أهل العلم أنه لا فرق بين الشعير وبين البر وغيره من الأصناف، فيجب على الإنسان أن يخرج صاعاً، سواء كان هذا الصاع من البر، أو من الشعير، أو من التمر، المهم مما يجزئ إخراجه كما سيأتي إن شاء الله، ولا فرق بين البر، وبين غيره، هذا ما عليه جمهور أهل العلم. وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا أخرج من البر يخرج نصف صاع، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يفرقون بين البر وغيره، وقالوا: بأنه إذا أخرج من البر فإنه يخرج نصف صاع، ودليل ذلك أن معاوية رضي الله تعالى عنه قدم المدينة فقال: أرى أن مدين من سمراء الشام يعدل صاعاً من تمر، فعدل الناس بذلك، يعني: أخذ بذلك كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فأخذ بهذا أبو حنيفة ، وأنه إذا أخرج من البر أخرج نصف صاع، وكذلك أيضاً اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. لكن الأقرب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وأنه يخرج صاعاً كاملاً، حتى ولو أخرج من البر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها صاعاً كما في حديث أبي سعيد : ( كنا نخرجها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب ). وأيضاً فعل معاوية رضي الله تعالى عنه ومن وافقه من الصحابة خالفهم في ذلك أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، فإنه قال: ( أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم )، يعني: أنه يخرج صاعاً، وكذلك أيضاً خالف في ذلك ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فالصواب في ذلك أنه لا يكفي أن يخرج نصف صاع، حتى ولو أخرج من البر.

ما يخرج في زكاة الفطر
قال المؤلف رحمه الله: (من البر، أو الشعير، أو دقيقهما).يعني: الذي يخرج منه خمسة أشياء على المذهب: البر، الشعير، دقيق البر، دقيق الشعير، يعني: الدقيق الطحين المطحون، يعني: إذا كان عندك بر طحنته، أو عندك شعير طحنته، تخرج من الطحين. (أو سويقهما) سويق البر، سويق الشعير، يقلى البر، أو يقلى الشعير ثم يطحن، هذا السويق. من البر، الشعير، الزبيب، التمر، كذلك أيضاً الأقط، هذه خمسة أصناف، المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنك إذا كنت واجداًلشيء من هذه الأصناف الخمسة فإنه لا يجزئ أن تخرج من غيرها، فلا يجزئ أن تخرج من الأرز وأنت تجد البر، أو تجد الشعير، أو التمر، ولا تخرج من العدس، أو من الذرة، وأنت تجد هذه الأصناف، قالوا: ما يجزئ الإخراج إلا من هذه الأصناف الخمسة، هذا هو المشهور من المذهب.الرأي الثاني: أن هذه الأصناف ليست متعينة، وإنما يخرج الإنسان من غالب قوت البلد، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وإنما جاء النص على هذه الأصناف في حديث أبي سعيد : ( كنا نخرج صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو شعير، أو زبيب، أو أقط ) جاء النص عليها في حديث أبي سعيد ؛ لأن هذه هي غالب أقوات الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فالصواب في ذلك أن الإنسان يخرج من غالب قوت البلد، فمثلاً: إذا كان غالب قوت البلد هو الأرز، فإنه يخرج من الأرز، وإذا كان غالب قوتهم هو الأقط يخرج من الأقط، وإذا كان غالب قوتهم اللحم يخرج من اللحم، وإذا كان غالب القوت هو اللبن أو الحليب فإنه يخرج من ذلك ولا يكلف، هذا هو الصواب، وقد أيده ابن القيم رحمه الله في كتابه أعلام الموقعين، وانتصر لهذا القول، فهذا هو الصواب.

زكاة الفطرة على الزوجة والأولاد
قال المؤلف رحمه الله: [فإن لم يجده أخرج من قوته أي شيء كان صاعاً، ومن لزمته فطرة نفسه لزمته فطرة من تلزمه مئونته ليلة العيد إذا ملك ما يؤدي عنه].يعني: يقول المؤلف رحمه الله: الإنسان يجب عليه أن يخرج عن نفسه، ويجب عليه أيضاً أن يخرج عمن يمونه، عمن ينفق عليه، فأنت مثلاً: تنفق على أبيك، مثلاً: أبوك معك في بيتك تنفق على أبيك، تنفق على أمك، تنفق على زوجتك، تنفق على أولادك، يجب عليك أن تخرج عنهم الفطرة، يجب عليك أن تخرج الفطرة عن أولادك، عن زوجتك، عن أبيك، عن أمك، حتى لو كان عندك إخوان تنفق عليهم فإنه يجب عليك أن تخرج عنهم زكاة الفطر، ويستدلون على هذا بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أدوا الفطرة عمن تمونون ). والرأي الثاني: أنه لا يجب على الإنسان أن يخرج عن زوجته، ولا عن أبيه، ولا عن أمه، ولا عن أولاده الكبار، لا يجب عليه ذلك، كل يخرج الفطرة عن نفسه؛ لكن ابن المنذر ذكر الاتفاق على أن الأولاد الصغار يخرج عنهم أبوهم، وما عدا ذلك الزوجة عند الحنفية تخرج عن نفسها، حتى ولو كنت يجب عليك الإنفاق عليها، والأب يخرج عن نفسه، والأم تخرج عن نفسها، يعني: يجب على كل أحد بنفسه، والأخ يخرج عن نفسه، والأخت تخرج عن نفسها، والأولاد الكبار يخرجون عن أنفسهم. وهذا القول هو الأقرب، حديث ابن عمر ظاهر: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد من المسلمين )، فكل مخاطب؛ لكن لو أن صاحب البيت تبرع بإخراجها عنهم جميعاً فإن هذا مجزئ؛ لكن الأصل في ذلك أن كل أحدٍ يخرج عن نفسه.قال المؤلف رحمه الله: [ إذا ملك ما يؤدي عنه ].يعني: إذا ملك ما يؤدي عنه، لو أنه يملك مئونته، ومئونة من يمونه يوم العيد وليلته، وفضل عن ذلك صاع، فإنه يبدأ بنفسه، أولاً لا بد أن يوفر النفقة لكي يكون غنياً في باب الإخراج في زكاة الفطر، لا بد أن يملك قوته وقوت من يمونه يوم العيد وليلته بعد الحوائج الأصلية، فإذا ملك زيادة على ذلك يبدأ بنفسه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ابدأ بنفسك ) يخرج عن نفسه صاعاً، ملك صاعين، يخرج عن زوجته، ملك ثلاثة، يخرج عن رقيقه، ملك أربعة يخرج عن أمه، ملك خمسة يخرج عن أبيه، ملك ستة يخرج عن ولده، ملك سبعة يخرج عن الأقرب فالأقرب، هذا على ما مشى عليه المؤلف رحمه الله؛ لكن إذا قلنا: أن الإنسان لا يجب عليه أن يخرج إلا عن نفسه، إلا كما ذكر ابن المنذر الأولاد الصغار، فما يتعلق بفطرة الزوجة والأب... إلى آخره كل يخرج عن نفسه؛ لكن لو أنه تبرع وأخرجها عنهم، فإن هذا جائز ولا بأس به.

زكاة الفطرة على من تلزم جماعة النفقة عليه
قال المؤلف رحمه الله: [ فإن كانت مئونته تلزم جماعة كالعبد المشترك، أو المعسر القريب لجماعة، ففطرته عليهم على حسب مئونته ].الرقيق يجب على سيده أن يخرج عنه زكاة الفطر، لما في حديث أبي هريرة في مسلم : ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر )؛ لكن إذا كان يملك هذا الرقيق اثنان، أو يملكه ثلاثة، فإن فطرته عليهم على حسب ملكهم، فإذا كان هذا الرقيق يملكه زيد وعمرو مناصفة، نقول: عمرو عليه نصف صاع، وزيد عليه نصف صاع، لكن لو كان زيد يملك ثلثاً، وعمرو يملك ثلثين، فنقول: زيد عليه ثلث الفطرة ثلث صاع، وعمرو عليه الثلثان، ثلثا الفطرة. (أو المعسر القريب لجماعة) يعني مثلاً: هذا أخ، وعنده أخوان ينفقان عليه، فإن فطرته على أخويه، وهذا مبني على المذهب؛ لكن إذا قلنا: كل يجب عليه أن يخرج الفطرة عن نفسه لا تجب عليهما.قال المؤلف رحمه الله: [ وإن كان بعضه حراً ففطرته عليه وعلى سيده ].يعني: هذا رقيق بعضه حر، ولنفرض أن نصفه حر، ونصفه رقيق، فنقول: فطرته في نصفه الرقيق على السيد، والنصف الحر على الرقيق نفسه المبعض، فيجب على السيد أن يخرج عنه نصف صاع، ويجب عليه هو أن يخرج عن نفسه نصف صاع.

وقت إخراج زكاة الفطر
قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة، ولا يجوز تأخيرها عن يوم العيد].شرع المؤلف رحمه الله في بيان وقت زكاة الفطر، وزكاة الفطر يذكر العلماء رحمهم الله لها خمسة أوقات:الأول: وقت وجوب الفطرة، متى تجب الفطرة؟ هذا فيه رأيان مشهوران:الرأي الأول: رأي جمهور أهل العلم، قالوا: بأن زكاة الفطر تجب بغروب الشمس من آخر يوم من أيام رمضان؛ لحديث ابن عمر : ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان ) فقال: ( من رمضان )، والذي يتحقق به الفطر من رمضان هو غروب الشمس من آخر يومٍ من أيام رمضان، إذ إنه إذا غربت الشمس من آخر يوم من أيام رمضان، فقد حصل الفطر من رمضان، خرج رمضان، ودخل شوال.الرأي الثاني: رأي أبي حنيفة رحمه الله، قال: بأن وقت الوجوب يكون بطلوع الفجر الثاني من أول يوم من أيام شوال، وهو يوم العيد، ويستدل أيضاً بنفس الحديث: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان )، قالوا: ما يتحقق الفطر إلا بطلوع الفجر الثاني من أول يوم من أيام شوال، وهو يوم العيد.يترتب على هذا الخلاف مسائل: من هذه المسائل إذا أسلم قبل غروب الشمس، فتجب عليه زكاة الفطر عند الجمهور وعند أبي حنيفة ؛ لأن وقت الوجوب جاء وهو من أهل الوجوب، وإذا أسلم بعد غروب الشمس لا تجب عليه عند الجمهور؛ لكن تجب عليه عند أبي حنيفة ؛ لأن عند الجمهور هو كافر وقت الوجوب فلا تجب عليه؛ لكن عند أبي حنيفة هو مسلم من أهل الوجوب.المسألة الثالثة: إذا ملك رقيقاً قبل غروب الشمس، زكاة الفطر على المشتري، أو على من ملك هذا الرقيق، عند القولين؛ لكن إذا ملك الرقيق بعد غروب الشمس، يعني: اشترى الرقيق بعد غروب الشمس، نقول: زكاة الفطر على رأي الجمهور تكون على البائع، لكن عند أبي حنيفة تكون على المشتري. ومثل ذلك أيضاً: إذا تزوج زوجة، إذا قلنا: بأن الإنسان يجب عليه أن يخرج زكاة الفطر عن زوجته، فإذا تزوج المرأة قبل غروب الشمس يجب عليه أن يخرج عنها زكاة الفطر على الرأيين؛ لكن لو تزوجها بعد غروب الشمس، فعند أبي حنيفة يجب عليه أن يخرج عنها؛ لكن عند الجمهور لا يجب عليه أن يخرج عنها. ومثل ذلك أيضاً: إذا ولد له ولد... إلى آخره، وعلى هذا فقس، هذا هو الوقت الأول.قال المؤلف رحمه الله: [ ويستحب إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة ].هذا الوقت الثاني: وقت الاستحباب، الوقت الأول: وقت الوجوب، والوقت الثاني: وقت الاستحباب، وقت الاستحباب أن تخرج صبح يوم العيد قبل الصلاة، ودليل ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين قال: ( وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى صلاة العيد )، فنقول: وقت الاستحباب صبح يوم العيد قبل الصلاة، هذا وقت الاستحباب، ولهذا تقدم لنا في صلاة العيد أنه يستحب تأخير صلاة عيد الفطر شيئاً لكي يتسع الإخراج لزكاة الفطر.قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يجوز تأخيرها عن يوم العيد ].هذا الوقت الثالث: يقول المؤلف رحمه الله: لا يجوز أن تؤخر عن يوم العيد، يعني: يحرم تأخيرها عن يوم العيد، يعني: ما بعد غروب الشمس هذا محرم. قبل غروب الشمس يوم العيد هذا الوقت الرابع قالوا: هذا وقت كراهة، المذهب إخراجها صبح يوم العيد قبل الصلاة هذا سنة، وبعد الصلاة في يوم العيد هذا وقت كراهة، وبعد غروب الشمس هذا وقت تحريم. فأصبح عندنا وقت الكراهة هو الوقت الرابع من بعد الصلاة إلى غروب الشمس، وقت التحريم الوقت الثالث الذي أشار إليه المؤلف من بعد غروب الشمس إلى ما لا نهاية له، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله. والرأي الثاني: أنه لا يوجد وقت كراهة وإنما وقت تحريم، يحرم تأخيرها عن صلاة العيد، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأنها إذا أخرت عن صلاة العيد فإنه لا يقدر عليها، وإنما تكون صدقة من الصدقات؛ لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ). نقول: إذا أديت قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، وأما إذا أديت بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات، لا تجزئ. وهذا هو الصواب، فأصبح عندنا أنه يحرم تأخير إخراجها بعد صلاة العيد، وهذا محرم ولا يجوز، ولا يقدر عليها، يعني: لا تقضى، اللهم إلا إذا كان التأخير لعذر، كما لو نسي الإنسان أن يخرجها، أو وكل أحداً يقوم بإخراجها ولم يخرجها، أو لم يتمكن من الإخراج؛ لكونه بعيداً عن البلدان، ونحو ذلك في صحراء، ففي هذه الحالة نقول: لا بأس أن يخرجها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-20, 04:52 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الزكاة [7]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(39)


يجب إخراج الزكاة فوراً إلا لحاجة كما هو مذهب شيخ الإسلام، فإن تلفت بعد الوجوب ضمن، ويجوز نقل الزكاة في حالات على الراجح، أما مصارف الزكاة فأصناف بينهم القرآن.

تابع زكاة الفطر
تقدم لنا شيء من أحكام زكاة الفطر، وذكرنا من ذلك تعريفها وحكمها، وكذلك أيضاً من تجب عليه، وأيضاً الجنس الذي يجب إخراجه، وما هو مقدار الواجب؟ وما هو وقت الوجوب؟وتوقفنا على ما يتعلق بوقت زكاة الفطر، وذكرنا أن زكاة الفطر لها خمسة أوقات:الوقت الأول: وقت الوجوب، وذكرنا أن أهل العلم اختلفوا في ذلك، فجماهير العلماء: أن وقت وجوب زكاة الفطر يكون بغروب الشمس من آخر يوم من أيام رمضان، وعند أبي حنيفة أن وقت الوجوب يكون بطلوع الفجر من يوم الفطر، وذكرنا ما يترتب على ذلك. وكذلك أيضاً ذكرنا الوقت الثاني: وهو وقت الاستحباب، وأن السنة أن تخرج زكاة الفطر صبح يوم العيد قبل الصلاة، وذكرنا أيضاً قول المؤلف: (ولا يجوز تأخيرها عن يوم العيد) وأن الفقهاء رحمهم الله قالوا: يكره، فالوقت الثالث: وقت الكراهية في يوم العيد، ويحرم بعد غروب الشمس من يوم العيد، ويجوز قبل العيد بيوم أو يومين،هذه خمسة أوقات. وقلنا: الصواب أنه لا يجوز تأخيرها بعد الصلاة، كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ). ‏

تعجيل إخراج زكاة الفطر
وأما بالنسبة لوقت الجواز، فقال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويجوز تقديمها عليه].أي: على يوم العيد بيوم أو يومين، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ، وأيضاً: قال به الإمام مالك أنه يجوز تقديمها قبل العيد بيوم أو يومين. والرأي الثاني: قال به الشافعية، وأيضاً الحنفية أنه يجوز تقديمها من أول الشهر، والأقرب في ذلك ما ذهب إليه الحنابلة، وقال به: الإمام مالك أنها تقدم قبل العيد بيوم أو يومين؛ لأن هذا فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، قال نافع رحمه الله: كان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير حتى إن كان يعطي عن بني، وكان يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين، وهذا في البخاري، فقوله: وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين، هذا حكاية عن فعلهم رضي الله عنهم.

إعطاء الواحد ما يلزم الجماعة والعكس
قال المؤلف رحمه الله: [ ويجوز أن يعطي واحداً ما يلزم الجماعة، والجماعة ما يلزم الواحد ].لا بأس أن تعطي شخصاً واحداً ما يلزم جماعة، فإذا كان هناك جماعة ثلاثة، عليهم ثلاثة أصواع، فلا بأس أن تعطي هذه الأصواع لواحد، لو كان هناك أهل بيت عشرة، يلزمهم عشرة أصواع، لا بأس أن تعطي هذه الأصواع لواحد، والعكس بالعكس، لا بأس أن تعطي الصاع الواحد واثنين، فمثلاً: إنسانٌ تجب عليه زكاة الفطر، وزكاة الفطر مقدارها صاع، فلا بأس أن يعطيها اثنين، أو أن يعطيها ثلاثة، أو أن يعطيها أربعة، يعطي كل واحدٍ مداً، نقول: بأن هذا لا بأس به إن شاء الله، والدليل على هذا أن الشارع قدر الفطرة، ولم يقدر المعطى، قدر الواجب، ولم يقدر من يعطى هذا الواجب، الواجب صاع سواء أعطيته واحداً، أو أعطيته أكثر من واحد، هذا جائز. كذلك أيضاً: لو أن جماعة أعطوا فطرهم لشخص واحد، فإن هذا أيضاً لا بأس به، لكن قال العلماء رحمهم الله: إذا أعطى الفقير دون الصاع فليخبره بذلك؛ لأنه قد يخرج هذه الفطرة عن نفسه على أنها صاع، وليست صاعاً، فمثلاً: لو أعطى فقيراً ثلثي صاع، أو أعطاه ثلاثة أرباع الصاع، لم يعطه صاعاً كاملاً، فإنه يخبره بذلك؛ لأنه كما سلف قد يخرجها هذا الفقير عن نفسه على أنها صاع وليست صاعا.
إخراج الزكاة


تأخير إخراج الزكاة عن وقت وجوبها
قال المؤلف رحمه الله: [باب: إخراج الزكاة: لا يجوز تأخيرها عن وقت وجوبها إذا أمكن ].وقت الوجوب كما تقدم إذا حال الحول، فإذا حال الحول يجب على الإنسان أن يخرج الزكاة، والدليل على هذا قول الله عز وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] هذا أمر، والأصل في أوامر الشارع أنها على الفور، هذا الأصل، يدل لهذا حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية لما أمر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن يحلوا من إحرامهم، وأن يحلقوا، تباطئوا فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً في حديث عائشة لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي من الصحابة أن يحل، وأن يقلب حجه إلى عمرة، فتباطأ الصحابة في ذلك، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن الأصل في أوامر الشارع أنها على الفور.قال: (لا يجوز تأخيرها عن وقت وجوبها إذا أمكن إخراجها)، وذكرنا الدليل على ذلك، وأيضاً لأن حاجة الفقير حاضرة، فلا يجوز تأخير الإخراج، إلا أنه يستثنى من ذلك مسائل يجوز فيها تأخير الإخراج:الأولى: الضرر، إذا خشي الإنسان على نفسه ضرراً فلا بأس أن يؤخر إخراجها، كما لو خشي أن يهجم عليه سراق لصوص، أو غير ذلك، فأخر إخراجها فإن هذا لا بأس به، لو أخرجها علم اللصوص أن لديه مالاً فهجموا عليه، فنقول: في هذه الحالة لا بأس أن يؤخر الإخراج.الثانية: إذا لم يتمكن من الإخراج؛ لكون المال ليس عنده، كما لو كان المال ديناً، أو كان غائباً ونحو ذلك، فهذا لا يجب عليه الإخراج حتى يتمكن منه، حتى يعود المال الغائب، ويعود الدين.الثالثة: إذا كان في التأخير مصلحة، فإذا كان في تأخير إخراج الزكاة مصلحة للفقير، فإن هذا لا بأس به، كما لو أخر إخراجها لزمن حاجة، أو لأشد حاجة، أو لقريب، أو لطالب علم ونحو ذلك، فإن هذا لا بأس به؛ لكن قال العلماء رحمهم الله: إذا أخرها لقريب، أو لشديد الحاجة، أو لجار ونحو ذلك، فإنه يفرزها عن ماله، يخرجها عن ماله، ويبين أنها صدقة.

ضمان الزكاة إذا تلفت
قال المؤلف رحمه الله: [ فإن فعل، فتلف المال لم تسقط عنه الزكاة ].يعني: إذا أخر إخراجها بلا عذر، كأن احترق مثلاً وجبت عليه الزكاة في رمضان مثلاً، وأخر إخراجها حتى تلفت، ثم احترق الدكان، أو سرقت الأموال، ونحو ذلك، فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: (لم تسقط عنه الزكاة)؛ لأنه فرط بترك الواجب عليه، الواجب أن يبادر بالإخراج، فما دام أنه فرط في ترك المبادرة، فإنه يضمن، اللهم إلا إذا كان التأخير في إحدى المسائل التي بين أنها تستثنى، إذا كان هناك مصلحة، إذا كان هناك ضرر، إذا كان المال غائباً، فأخر الإخراج، فهنا نقول: لا شيء عليه إذا تلف المال، أما إذا أخرها لغير هذه المسائل، ثم تلف المال، فإن الزكاة لا تسقط عنه؛ لأنه فرط في ترك الواجب عليه.قال المؤلف رحمه الله: [ وإن تلفت قبله سقطت ].يعني: إذا تلفت الزكاة قبل أن يؤخرها، يعني: قبل التأخير، فيقول المؤلف رحمه الله: (سقطت)؛ لأنه لم يفرط بالتأخير.

تعجيل الزكاة بعد اكتمال النصاب
قال المؤلف رحمه الله: [ ويجوز تعجيلها إذا كمل النصاب ولا يجوز قبل ذلك].يقول المؤلف رحمه الله: إذا اكتمل النصاب لا بأس أن تعجلها لعامين أو عام، فمثلاً: إنسان تجب عليه الزكاة في رمضان، الحول يحول عليه في شهر رمضان، فعجل الإخراج، هو الآن في شهر ربيع الأول، والزكاة لا تجب إلا في رمضان، فقال: أريد أن أعجل الزكاة؛ لأن هناك رجلاًمحتاجاً، أو إنساناً يريد أن يتزوج، أو مريضاً ونحو ذلك، فعجل زكاة ماله فنقول: لا بأس أن تعجل زكاة المال لعام أو عامين.مثلاً: رمضان في عام 1424هـ لا بأس أن تعجل زكاته في ربيع في السنة، زكاة 1425هـ لا بأس أن تعجلها لعامين، فقال: أنا أخرج زكاة 1424هـ في ربيع، وأيضاً أنا أخرج زكاة 1425هـ في ربيع، كل هذه الزكوات أجمعها وأعطيها هذا الفقير الذي يريد الزواج مثلاً فنقول: لا بأس، تعجل زكاة عام 1425هـ وتعجل زكاة عام 1424هـ، وتدفعها في هذا الشهر، فتعجل زكاة 1425هـ لعامين، وعام 1424هـ مرة واحدة، هذا جائز، ولا بأس به. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: ( ويجوز تعجيلها إذا كمل النصاب، ولا يجوز قبل ذلك ).والدليل على ذلك حديث علي رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقة سنتين ) أخرجه أبو عبيد في الأموال، وحسنه بعض أهل العلم، وكذلك أيضاً حديث أبي هريرة في الصحيحين: ( بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة، فقيل: منع خالد بن الوليد وابن جميل والعباس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما العباس فهي عليّ ومثلها معها )، فقالوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أما العباس فهي عليّ ومثلها معها )؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل منه صدقة عامين.عند الحنفية: يجوز تعجيل الزكاة لما شاء الإنسان من السنين، لا يقيدونه بعامين، فعام 1430هـ يجوز أن تعجل زكاته، مثلاً: لو كان الإنسان تجب عليه الزكاة في رمضان، عام 1430هـ يجوز تعجل زكاته عن ثلاثين، وتسعة وعشرين، وثمان، وسبع، وست، وخمس، وأربع، كل هذه سبع سنوات تعجلها في هذه السنة، هذا رأي الحنفية رحمهم الله، والمالكية: كرهوا التعجيل، والأقرب في ذلك ما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله تعالى.قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يجوز قبل ذلك ].يعني: لا يجوز أن تعجل الزكاة قبل اكتمال النصاب، تقدم أن نصاب الفضة يساوي بالغرامات خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، إنسان لم يكتمل عنده هذا المبلغ، لم يملك هذا النصاب، فإنه لا يعجل، لو كان عنده خمسمائة غرام وأراد التعجيل نقول: لا تعجل، لا يجوز التعجيل حتى يكمل النصاب.

تعجيل الزكاة إلى غير مستحقيها
قال المؤلف رحمه الله: [ فإن عجلها إلى غير مستحقها لم يجزئه، وإن صار عند الوجوب من أهلها ]. اعتباراً بحال الإخراج، هذا رجل عجل الزكاة إلى غني، وهذا الغني عجل الزكاة في ربيع، هذا الغني افتقر، أصبح عند وجوب الزكاة فقيراً، يقول المؤلف رحمه الله: لا يجزئه هذا التعجيل حتى وإن كان فقيراً عند وقت الوجوب، لماذا؟ لأن المعتبر هو حال الإخراج، وفي حال الإخراج هذا الرجل لا يستحق الزكاة.

دفع الزكاة إلى مستحقها فمات أو استغنى
قال المؤلف رحمه الله: [ وإن دفعها إلى مستحقها، فمات، أو استغنى، أو ارتد أجزأت عنه ].إذا دفعها إلى مستحقها، دفعها إلى فقير في ربيع عجلها، ثم مات هذا الفقير، نقول: تجزئ، ما نقول: يجب عليك أن تخرج مرة ثانية إذا حال الحول، دفعها إلى فقير في ربيع، ثم اغتنى هذا الفقير وأصبح غنياً ليس نقول: لا يجب عليك أن تخرج مرة ثانية، دفعها إلى مسلم فقير ثم ارتد، فأصبح وقت الوجوب في رمضان هو كافر، نقول: صحيح لا يجب عليه أن يخرج مرة أخرى؛ لأن المعتبر هو حال الإخراج، وحال الإخراج أدى ما عليه، والقاعدة (أن المأذون غير مضمون)، وهذا الرجل قد أذن له بالإخراج، فعل ما أمر به، فلو أن الآخذ لم يكن من أهلها تغيرت حاله بأن اغتنى أو ارتد، أو مات، أو غير ذلك، فإنه لا شيء عليه تجزئ.

حكم من عجل زكاته ثم تلف ماله قبل وجوب الزكاة فيه
قال المؤلف رحمه الله: [ وإن تلف المال لم يرجع على الآخذ ].رجل عجل زكاته في شهر ربيع، والزكاة لا يحول عليها الحول إلا في رمضان، عنده ألف ريال، فأخرج زكاته، أعطى خمسة وعشرين ريالاً في ربيع، ثم إن هذا الألف تلف، وقت الوجوب لا يجب عليه، تلف هذا الألف في شعبان، جاء رمضان وما عنده شيء ما يجب عليه الزكاة، لو أنه ما عجل ما وجب عليه شيء؛ لأنه لا نصاب عنده، فهل يرجع على من أخذها؟ الآن أعطى الفقير خمسة وعشرين ريالاً، هل يرجع عليه أو لا يرجع عليه؟ يقول المؤلف رحمه الله: لا يرجع على من أخذها لفقر، أو مسكنة، أو غرم، أو نحو ذلك، كما سيأتي في أهل الزكاة.

نقل الزكاة من بلد إلى آخر
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا تنقل الصدقة إلى بلد تقصر إليه الصلاة، إلا أن لا يجد من يأخذها ].نقل الزكاة على المذهب ينقسم إلى قسمين:القسم الأول: أن ينقل الزكاة إلى دون مسافة قصر، مسافة القصر كما تقدم لنا تساوي ثمانية وأربعين ميلاً، وذكرنا كم تساوي بالكيلوات في باب صلاة أهل الأعذار، المهم إنسان نقل الزكاة إلى دون مسافة قصر، مسافة القصر تساوي بالأميال ثمانية وأربعين ميلاً، نقلها إلى عشرين ميل، إلى ثلاثين ميل، إلى أربعين ميل، هذا لا شيء عليه، تجزئ ولا يأثم.القسم الثاني: أن ينقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة، يعني: أن ينقلها إلى مسافة قصر فأكثر، يعني: ثمانية وأربعين فأكثر، قالوا: تجزئ ويأثم، يقولون: بأنها الزكاة تجزئ ويأثم، وعند الشافعية: لا يرون الإجزاء؛ لكن المذهب يقولون كحكم وضعي: تجزئ؛ لكن كحكم تكليفي يقولون: يأثم، ويستدلون على هذا بحديث ابن عباس : ( لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، فقال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب -إلى أن قال:- فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ). والرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أنه يجوز نقل الزكاة للمصلحة، سواء فيما دون مسافة قصر، أو أكثر من مسافة قصر، فإذا كان هناك مجاعة في بلد من بلاد المسلمين، أو شدة حاجة، أو جهاد، أو غير ذلك، فإنه يجوز نقل الزكاة.ويدل لهذا حديث قبيصة في صحيح مسلم ، وفيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( أقم عندنا يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ) فقال: أقم عندنا حتى تأتينا الصدقة، فدل ذلك أن الصدقات كانت تجبى للنبي عليه الصلاة والسلام وتنقل، وأيضاً معاذ قال لأهل اليمن: ائتوني بلبيس أو خميص، فإنه أنفع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن الزكاة تنقل، وهذا القول هو الصواب، أنه يجوز نقلها إذا ترتب على ذلك مصلحة، فإن هذا جائز ولا بأس به.

تفريق الغني زكاته بنفسه
من المسائل المتعلقة بالزكاة: الأفضل للإنسان أن يفرق الزكاة بنفسه، الأفضل أن يفرقها بنفسه، أولاً: اقتداءً بالنبي عليه الصلاة والسلام، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يفرق بنفسه.وثانياً: أن التفريق عبادة، يؤجر عليها الإنسان.وثالثاً: لكي يطمئن الإنسان أن هذه الزكاة وقعت في موقعها وأخذها مستحقها. فالأولى بالإنسان أن يفرقها بنفسه، إلا إذا كان الإنسان لا يعرف المستحقين، ولا يميز، فإنه يعطيها من يثق به.

حكم مانع الزكاة
إذا منع إخراج الزكاة فله حالتان:الحالة الأولى: أن يمنع الإخراج جحداً لوجوبها، فهذا إذا منعها جحداً لوجوبها فإنه يكفر؛ لأنه مكذب لله، ولرسوله، ولإجماع المسلمين، الله عز وجل أوجبها في كتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم أوجبها في سنته، والمسلمون مجمعون على فرضيته.الحالة الثانية: أن يمنع الإخراج ليس جحداً لوجوبها، وإنما بخلاً وتهاوناً، فنقول: بأنه لا يكفر، عند جماهير أهل العلم، جمهور أهل العلم رحمهم الله يرون أنه لا يكفر، ويدل لذلك حديث أبي هريرة في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فيكوى بها جنبه، وجبينه، وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة كلما بردت ردت عليه حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار )، ولو كان كافراً لم يكن له سبيل إلى الجنة. نقول: أولاً: لا يكفر. ثانياً: يعزره الإمام بما يراه، بما يردعه ويزجره.ثالثاً: تؤخذ منه.رابعاً: هل يؤخذ منه شطر ماله أو لا؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم، فقال بعض العلماء: تؤخذ الزكاة، ويؤخذ أيضاً شطر المال الذي منع زكاته. مثلاً: لو أن إنساناً عنده مليون ريال، وأربعون شاة، المليون الريال أدى زكاتها، والأربعون الشاة منع الزكاة، فنأخذ منه شاة؛ لأن في الأربعين شاة، وهل نأخذ شطر المال الذي منع زكاته أو لا؟ قال بعض العلماء: يؤخذ منه الشاة، ونأخذ نصف المال، نصف الأربعين التي منع زكاتها؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: ( فإنا آخذوها، وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ). وقال بعض العلماء: لا يؤخذ إلا الزكاة فقط، وهو المشهور من المذهب، ودليل ذلك قالوا: إن الأصل في مال المسلم الحرمة: ( كل المسلم على المسلم حرام ماله، ودمه، وعرضه )، وهذا الحديث في إسناده نظر. وعلى كل الكلام على ثبوت الحديث، فإن ثبت الحديث، فإنه يؤخذ شطر ماله، وإن لم يثبت فالأصل حرمة مال المسلم.

مصارف الزكاة
قال المؤلف رحمه الله: [ باب: من يجوز دفع الزكاة إليه ].يعني: أهل الزكاة، هكذا عبر المؤلف رحمه الله، وبعض العلماء عبر بقوله: باب أهل الزكاة. قال المؤلف رحمه الله: [وهم ثمانية]. وهذا على سبيل الحصر؛ لأن الله عز وجل حصرهم في هؤلاء الثمانية: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]. وقول المؤلف رحمه الله: (وهم ثمانية) يدل على أن الزكاة لا تصرف إلا في هؤلاء الثمانية فقط، وأنها لا تصرف في ما عدا هؤلاء الثمانية، كبناء المساجد، والمدارس، وتعبيد الطرق، وحفر الآبار، وغير ذلك، وهذا سيأتينا إن شاء الله عند قوله: [وفي سبيل الله]، ما المراد بسبيل الله، هل هو خاص بالجهاد أو أنه شامل؟ سيأتي بيانه إن شاء الله. ‏

الفقراء
قال المؤلف رحمه الله: [ الأول: الفقراء، وهم الذين لا يجدون ما يقع موقعاً من كفايتهم بكسب ولا غيره ].الأول: الفقراء، والفقر في اللغة: الخلو، وأما في الاصطلاح: فهو الذي لا يجد شيئاً، أو يجد دون نصف الكفاية له ولمن يمونه. مثال ذلك: إنسان كفايته في الشهر ألف ريال له ولعائلته، يحتاج في كل شهر ألف ريال، كفايته في السنة تساوي اثني عشر ألف ريال، مرتبه أربعمائة ريال، وأربعمائة ريال في السنة تكون أربعة آلاف وثمانمائة، هذا الآن ما يجد نصف الكفاية، ما دام أنه ما يجد نصف الكفاية يسمى فقيرا.إنسان كفايته هو وعائلته في كل شهر ألف ريال، في السنة يساوي اثني عشر ألف ريال، ما عنده عمل أبداً، هذا يسمى فقيراً، فالذي لا يجد شيئاً أو يجد أقل من النصف نسميه فقيراً. كيف نعطي الفقير؟ نقول: الفقير هذا نعطيه كفايته، وكفاية من يمونه الذي ينفق عليه مدة عام كامل من النفقات الشرعية والحوائج الأصلية، نعطيه ما يشتري الطعام، طعام الصباح، وطعام نصف النهار الغداء، والعشاء، يعطى ما يشتري الملابس له ولمن يمونه، نعطيه أيضاً أجرة البيت، نعطيه أجرة المركوب، نعطيه أيضاً ما يتعلق بالحوائج الأصلية، إذا كان يحتاج آلات، يحتاج ثلاجة، نعطيه ما يشتري ثلاجة، يحتاج غسالة، يحتاج آلة طبخ، مواعين، أواني، فرش، هذه كلها نعطيه، كل ما يتعلق بالحوائج الأصلية، والنفقات الشرعية، هذه كلها نعطيها هذا الفقير، لو كان الفقير طالب علم يحتاج إلى كتب يقرأ ويراجع فيها، نعطيه الكتب، فقير ما عنده شيء يتزوج به، يحتاج مهراً، نعطيه لكي يتزوج، هذا هو الفقير. فأصبح عندنا الفقير الذي لا يجد شيئاً، أو يجد أقل من النصف، فهذا نعطيه كفايته، وكفاية من يمونه من النفقات الشرعية، والحوائج الأصلية، لمدة عام؛ لأن الزكاة تدور في كل عام، فإذا جاء العام الآخر يأخذ أيضاً كفايته، أو كفاية من يمونه، وفي هذا يظهر التكافل الاجتماعي في الإسلام، يعني: لو أن الزكاة تخرج إخراجاً صحيحاً، وتؤدى أداءً صحيحاً لا يبقى فقير في الإسلام.

المساكين
قال المؤلف رحمه الله: [ الثاني: المساكين، وهم الذين يجدون ذلك، ولا يجدون تمام الكفاية ].المسكين: هو الذي يجد النصف أو أكثر من كفايته؛ لكن لا يجد تمام الكفاية. مثال ذلك: رجل كفايته وكفاية من يمونه في السنة يساوي: اثني عشر ألف ريال، مرتبه خمسمائة ريال، المرتب في السنة ستة آلاف، يبقى عليه ستة آلاف، نعطيه ستة آلاف، هذا يسمى مسكيناً؛ لأنه لا يجد الكفاية الكاملة، يجد نصف الكفاية، فهذا مسكين نعطيه. لو كان مرتبه في السنة يساوي ثمانية آلاف، وكفايته تساوي اثني عشر ألف هذا يسمى مسكيناً، فيبقى عليه أربعة آلاف ريال، نعطيه من الزكاة أربعة آلاف ريال، والمسكين كالفقير يأخذ تمام الكفاية من النفقات الشرعية والحوائج الأصلية كما تقدم.

العاملون عليها
قال المؤلف رحمه الله: [ الثالث: العاملون عليها، وهم السعاة عليها، ومن يحتاج إليه فيها ].هذا الثالث: من أهل الزكاة، العاملون على الزكاة، وهم السعاة الذين يبعثهم الإمام لأخذ الزكاة، وقال المؤلف رحمه الله: (ومن يحتاج إليه فيها) مثل: الكتاب الذين يقومون بكتابة الزكاة، والقسام: الذين يقومون بقسمها، ومن يكيلها، ومن يعدها، ومن يزنها، وكذلك أيضاً: كل من يحتاج إليه، فهؤلاء يعطون من الزكاة، وما هو قدر ما يأخذون؟ نقول: يأخذون قدر الأجرة، لا ننظر إلى كفايتهم، هم إذا كانوا فقراء يأخذون من باب الفقر؛ لكن في باب العمالة، يأخذون بقدر الأجرة؛ لأنهم يعطون لا لحاجتهم، وإنما للحاجة إليهم، ولهذا يصح أن يكون العامل عليها غنياً، حتى لو كان عنده ما عنده من أموال، يصح أن يكون غنياً، ويشترط في العامل عليها شروط:الشرط الأول: أن يكون مسلماً؛ لأنها ولاية، والله عز وجل قال: وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، وقال: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]. والثاني: التكليف، أن يكون بالغاً عاقلاً؛ لأن غير المكلف يحتاج من ينظر له فلا ينظر على غيره. الثالث: أن لا يكون من أقارب النبي عليه الصلاة والسلام، وهم بنو هاشم؛ لحديث الفضل بن العباس والمطلب بن ربيعة لما أرادا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلهما عاملين في الزكاة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الصدقة لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد، إنها أوساخ الناس ).الرابع: أن يكون كافياً، يعني: عنده قوة وأمانة، أمانة وعنده أيضاً قوة على جبايتها وأخذها.

المؤلفة قلوبهم
قال المؤلف رحمه الله: [الرابع: المؤلفة قلوبهم، وهم السادة المطاعون في عشائرهم الذين يرجى بعطيتهم دفع شرهم]. سهم المؤلفة هل هو باق أو ليس باقياً؟ هذا فيه رأيان لأهل العلم رحمهم الله:الرأي الأول: مذهب الشافعي وأحمد رحمهم الله أن سهم المؤلفة باق، وأنه لا يزال الآن يخرج للمؤلفة، بدليل قول الله عز وجل: وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ [التوبة:60]، وأيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة، فأعطى أبا سفيان وصفوان بن أمية ، وعيينة بن حصن وكذلك أيضاً الأقرع بن حابس وغيرهم، أعطى النبي عليه الصلاة والسلام هؤلاء الصناديد. والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة ومالك أن سهم المؤلفة ليس باقياً؛ لأن أبا بكر وعمر لم يعطيا المؤلفة. وأجيب عن هذا بأن أبا بكر وعمر لم يعطيا المؤلفة لعدم الحاجة إلى ذلك؛ لأن الإسلام قد انتشر، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.قال المؤلف: (وهم السادة المطاعون في عشائرهم)، اشترط المؤلف رحمه الله في المؤلف قلبه أن يكون سيداً مطاعاً في عشيرته، وعلى هذا إذا لم يكن سيداً ما يصح أن تعطيه على سبيل التأليف، والصواب أن هذا ليس شرطاً مطلقاً، قد نشترط السيادة، وقد لا نشترطها هذا الصواب، ولهذا المؤلفة قلوبهم يشمل عدة صور: الصورة الأولى: يرجى بعطيتهم دفع شرهم عن المسلمين، هذا نشترط أن يكون سيداً؛ لأن غير السيد من أفراد الناس ما يكون له شر، لو أصابك منه شر قمعته؛ لكن السيد الذي وراءه أناس، هذا إذا خفت شره على المسلمين ما تستطيع أن تقمعه؛ لأنه ينتصر عليك بمن معه، فهذا لا بأس أن تعطيه من الزكاة لدفع شره، هنا نشترط أن يكون سيداً.قال المؤلف رحمه الله: [ أو قوة إيمانهم ]. هذه الصورة الثانية: يعني: رجل دخل في الإسلام، وهو حتى الآن ضعيف الإسلام، هل نعطيه من الزكاة حتى يتقوى إيمانه أو نقول: بأننا لا نعطيه؟ يقول المؤلف رحمه الله: يعطى من الزكاة حتى يتقوى إيمانه؛ لكن اشترط المؤلف أن يكون سيداً، وعلى هذا لو كان عندنا شخص الآن أسلم وإيمانه ضعيف، فلا نعطيه من الزكاة حتى يتقوى إيمانه، إلا أن يكون سيداً، والصواب أنه لا يشترط في هذه الصورة أن يكون سيداً مطاعاً في عشيرته.قال المؤلف رحمه الله: [أو دفعهم عن المسلمين]. هذه الصورة الثالثة: دفع عن المسلمين، إذا أعطيناه يحصل بعطيته دفع عن المسلمين، فنقول: نعطيه، وهنا نشترط أيضاً أن يكون سيداً؛ لأن أفراد الناس ما يدفع، الذي يدفع هو السيد الذي خلفه من خلفه.قال المؤلف رحمه الله: [أو إعانتهم على أخذ الزكاة ممن يمتنعوا من دفعها ]. هذه الصورة الرابعة: يعني: يعين على أخذ الزكاة ممن منعها، وهنا أيضاً نشترط أن يكون سيداً.الصورة الخامسة: إسلامه، يعني: هذا رجل كافر، وعرفنا من حاله أنه إذا أعطي من الزكاة أو من المال يسلم، القرائن تدل على أنه له رغبة في الإسلام، فهذا لا بأس أن نعطيه من الزكاة حتى يدخل في الإسلام، وهنا لا نشترط أن يكون سيداً.الصورة السادسة والأخيرة: إسلام نظيره، فإذا أعطينا هذا الرجل أسلم نظيره، أيضاً: هذا لا يشترط أن يكون سيداً. فأصبح عندنا من الصور ستاً، ثلاث يشترط فيها أن يكون سيداً، وهي التي تحتاج إلى قوة، ومنعة، وشوكة، وثلاث صور لا يحتاج أن يكون سيداً.

الرقاب
قال المؤلف رحمه الله: [الخامس: الرقاب، وهم المكاتبون وإعتاق الرقيق].الرقاب دليله قول الله عز وجل: وَفِي الرِّقَابِ [البقرة:177]، والرقاب يشتمل على صور:الصورة الأولى: المكاتب، والمكاتب هو الرقيق الذي اشترى نفسه من سيده على مال منجم، فهذا يعطى من الزكاة.الصورة الثانية: أن نشتري من الزكاة أرقاء ونعتقهم.الصورة الثالثة: فك الأسير المسلم، يعني: نفك المسلم من الزكاة.الصورة الرابعة: موضع خلاف، وهو أن يعتق رقيقه عن الزكاة، يعني: عنده رقيق ويعتقه عن الزكاة، فهل يجزي أو لا يجزي؟ المذهب أنه لا يجزئ. والرأي الثاني: اختيار القاضي من الحنابلة أنه يجزئ.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-20, 04:57 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الزكاة [8]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(40)


من مصارف الزكاة الغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والصواب أن المراد بمصرف: في سبيل الله الجهاد خاصة، ويجوز قصر الزكاة على واحد من الأصناف الثمانية خلافاً للشافعي، ولا تدفع لغني، ولا لقوي مكتسب، ولا للأصول والفروع.
تابع مصارف الزكاة
تقدم لنا من أهل الزكاة الفقير، وذكرنا أن الفقير هو الذي لا يجد كفايته مطلقاً، لا يجد شيئاً، أو يجد أقل من النصف، وأن المسكين: هو الذي يجد النصف فأكثر، وذكرنا أن الفقراء، والمساكين يعطون كفايتهم، وكفاية من يمونونهم من النفقات الشرعية، والحوائج الأصلية. وأيضاً تكلمنا عن العاملين عليها، وأنهم السعاة، ومن يحتاج إليه فيها، وذكرنا أنه يدخل فيهم الكتاب، والقسام، والعداد، والكيال، ومن يقوم بالوزن، وغير ذلك، وذكرنا شروط العامل على الزكاة. وتكلمنا عن المؤلفة قلوبهم، وأن المؤلفة قلوبهم لهم صور، وذكرنا هذه الصور، وهل يشترط في المؤلف قلبه أن يكون سيداً مطاعاً في عشيرته، أو أن هذا ليس شرطاً؟ تكلمنا عن هذه المسألة، وقلنا: الصواب في هذه المسألة أنه يختلف باختلاف المؤلَف. والرقاب لهم صور: الصورة الأولى: المكاتب، والمكاتب: هو الذي اشترى نفسه من سيده، فيعطى من الزكاة ما يسدد به دين كتابته.الصورة الثانية: افتكاك الأسير، فإذا كان هناك أسير لأحد من المسلمين عند الكفار، فإنه يدفع من الزكاة ما يفك به أسر هذا الأسير.الصورة الثالثة: أن يشترى بأموال الزكاة أرقاء، ثم يعتقوا.الصورة الرابعة: أن يعتق قنه أو مكاتبه بدلاً عن الزكاة، وهذا موضع خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من أجاز كـالقاضي من الحنابلة، ومن العلماء من منعه كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

الغارمون
قال المؤلف رحمه الله: [ السادس: الغارمون، وهم المدينون لإصلاح نفوسهم في مباح، أو لإصلاح بين طائفتين من المسلمين ].هذا السادس من أهل الزكاة: الغارم، والغرم في اللغة: اللزوم، ومنه قوله سبحانه وتعالى عن النار: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:65] أي: كان ملازماً لأهلها، وأما في الاصطلاح: فالغارم ينقسم إلى قسمين:القسم الأول: غارم لنفسه، والقسم الثاني: غارم لإصلاح ذات البين.قال المؤلف: (وهم المدينون لإصلاح نفوسهم في مباح)، هذا القسم الأول، وهو الغارم لنفسه، والغارم لنفسه: هو من تدين لواحد من الأمور الآتية:الأمر الأول: تدين من أجل النفقات الشرعية، رجل استدان من أجل أن يشتري طعاماً له ولمن يمونه، فنقول: هذا يعطى من الزكاة.الأمر الثاني: تدين من أجل الحوائج الأصلية التي يحتاجها من الأواني، والفرش، والآلات، ونحو ذلك. ومما يدخل فيما تقدم: من تدين لاشتراء مركب يليق به، فهذا نعطيه من الزكاة. ويدخل في ذلك أيضاً من تدين لأجل الزواج لا يجد أحداً ينفق عليه، فنقول: هذا يعطى من الزكاة. ويدخل في ذلك أيضاً: من تدين لاشتراء مسكن يسكنه يليق به، فهذا نعطيه من الزكاة، وقيدنا بأن يكون المركب، والمسكن ونحو ذلك من النفقات والحوائج الأصلية التي تليق به؛ لأنه إذا كان فقيراً فإنه ينفق على نفسه نفقة الفقراء، وليس له أن ينفق على نفسه نفقة الأغنياء، فإذا اشترى سيارة لا يركبها إلا غني واستدان لا يعطى من الزكاة، أو مثلاً: اشترى بيتاً كبيراً يسكنه الأغنياء، فهذا لا نعطيه من الزكاة، وإنما نأمره أن يبيع هذا البيت ويشتري ما يليق به، ثم نعطيه من الزكاة إذا استدان، كذلك أيضاً: نأمره أن يبيع هذه السيارة، ويشتري ما يليق به، ثم نعطيه من الزكاة، هذان أمران: الأمر الأول: ما يتعلق بالنفقات الشرعية، والأمر الثاني: ما يتعلق بالحوائج الأصلية.الأمر الثالث: إذا أصابت ماله جائحة من الجوائح فلحقته الديون، فهذا نعطيه، مثال ذلك: رجل ذو زراعة فاقترض لأجل مزرعته، أو رجل ذو تجارة، فاستدان من أجل تجارته، أو ذو صناعة، فاستدان من أجل صناعته، ثم لحق زراعته، أو صناعته، أو تجارته الجوائح، المزرعة أصابتها العواصف من الأمطار والرياح فأتلفت الزرع والثمار، وكذلك أيضاً: المصانع احترقت، التجارات كسدت، ونحو ذلك، فلحقته الديون، فهذا نعطيه من الزكاة، ويشترط لهذا الغارم الذي استدان لنفسه أن يكون فقيراً، فإن كان غنياً يجد فهذا لا يجوز له أن يأخذ من الزكاة، لو كان عنده مال، أو عنده عقارات يستطيع أن يبيعها، فنقول: هذا لا يجوز له أن يأخذ من الزكاة، بل عليه أن يوفي من هذه الأموال الزائدة، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إذا كان بيته واسعاً فإنه يبيع هذا البيت الواسع، ويسدد ويشتري ما يليق به، وقالوا: إذا كان عنده نسختان من كتاب، فإنه يبيع إحدى النسختين ويسدد، فيشترط للغارم لنفسه أن يكون فقيراً، حتى لو غرم لنفسه في أمر محرم، اشترى أمراً محرماً، وغرم لنفسه، فإنه إذا تاب يعطى من الزكاة، وأيضاً قال العلماء رحمهم الله: سواء كان غرم للخالق أو للمخلوق. القسم الثاني: الغارم لإصلاح ذات البين، وذلك بأن تحدث بين طائفتين أو قبيلتين منازعات وخلافات، فيحصل سفك للدماء، وإتلاف للأموال، وجروح وكسور، فيأتي شخص ويصلح بين هاتين الطائفتين، ويتحمل في ذمته ما حصل بينهم من الديات، وأيضاً قيم الأموال، وأروش الجنايات، يتحمل هذه الأشياء، فهذا يحل له أن يأخذ من الزكاة، ولو كان غنياً، ويدل لهذا قول الله عز وجل: وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60]، وهذا من الغارمين، وأيضاً حديث قبيصة بن مخارق رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم أنه ( تحمل حمالة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أقم عندنا يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ). وإصلاح ذات البين هذا يدخل تحته صور:الصورة الأولى: أن يتحمل في ذمته الديات، وقيم المتلفات، وأروش الجنايات، يتحملها في ذمته، ويذهب ويجمع من الزكاة لكي يسدد، فهذا نعطيه من الزكاة.الصورة الثانية: أن يستقرض ويسدد، ثم يذهب ويأخذ من الزكاة، يعني: يستقرض من زيد من الناس مثلاً كذا وكذا، ويسدد، ثم بعد ذلك يأخذ من الزكاة، فهذا نقول: نعطيه من الزكاة.الصورة الثالثة: أن يسدد من ماله، ثم يأخذ من الزكاة، هذه الصورة موضع خلاف، والأقرب فيها أنه إن نوى الرجوع على أهل الزكاة رجع، وإن لم ينو الرجوع فإنه لا يرجع. فأصبح عندنا الغرم لإصلاح ذات البين تحته هذه الصور الثلاث.

في سبيل الله
قال المؤلف رحمه الله: [ السابع: في سبيل الله، وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم ].هذا السابع من أهل الزكاة: في سبيل الله، في سبيل الله تحته مسألتان: المسألة الأولى: قال الله عز وجل: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]، هل قوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60] خاص بالجهاد أم أنه يشمل كل سبل الخير؟ هذا موضع خلاف.وأهل العلم رحمهم الله اختلفوا في المراد بالجهاد: الرأي الأول هو خاص بالجهاد في سبيل الله، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم رحمهم الله، واستدلوا على ذلك من الآية:أما الدليل الأول: فإن الله عز وجل قال في الآية: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ [التوبة:60] حصر الصدقات في هؤلاء الأصناف الثمانية، ولو قلنا: بأن قوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60] يشمل كل سبل الخير، من فتح الطرق، وتعبيدها، وحفر الآبار، وغير ذلك، لم يكن لهذا الحصر فائدة، كان قال الله عز وجل: إنما الصدقات في سبيل الله، ولم يكن لهذا الحصر فائدة، وأصبح هذا الحصر ملغى، وكلام الله عز وجل ينزه عن ذلك. الدليل الثاني: أن الله عز وجل قال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]، فالله عز وجل قسم الصدقات للفقراء والمساكين، لو قلنا: بأن قوله: (وَفيِ سَبِيلِ اللهِ) شامل لكل سبل الخير لم يكن لذكر الفقراء والمساكين فائدة؛ لأن المساكين يدخلون في سبيل الله، والفقراء يدخلون في سبيل الله، والغارمون يدخلون في سبيل الله، وفي الرقاب يدخلون في سبيل الله، ولم يكن لهذا التقسيم الذي ذكره الله عز وجل فائدة، وهذا كما ذكرنا ما عليه أكثر أهل العلم.أيضاً دليل ثالث: أننا لو قلنا: بأن هذا شامل لكل طرق الخير؛ لضاع حق الفقراء والمساكين؛ لأن كون الإنسان ينشئ بزكواته مسجداً أحب إليه من كونه يصرفها لفقير يأكلها؛ لأنه يريد الصدقة الجارية، فيضيع حق الفقراء والمساكين.الرأي الثاني: أنه يشمل كل طرق الخيرات؛ لأن قوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ عام. وأيضاً: استدلوا بما فيه أبي داود حديث أم معقل : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحج من سبيل الله )؛ لكن هذا الحديث ضعيف. وكذلك أيضاً قالوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم ودا -دفع الدية- من إبل الصدقة، كما في الصحيح؛ لكن هذا أيضاً يجاب عنه بأنه أيضاً ورد بلفظ: ( وداه من عنده )، وجمع العلماء بين اللفظين بأنه اشترى هذه الإبل من إبل الصدقة. على كل حال الأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه أكثر أهل العلم رحمهم الله، وأن الزكاة لا تصرف إلا لهؤلاء الثمانية الذين بينهم الله عز وجل في كتابه. مسألة أخرى: إذا قلنا: بأن قوله سبحانه وتعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ المراد به: الجهاد في سبيل الله، فكيف يصرف في الجهاد؟ قال المؤلف: (وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم).هذا ما ذهب إليه المؤلف، ومذهب الشافعي أن أموال الزكاة تصرف للجند المتطوعة، الذين ليس لهم رواتب، فإذا كان هناك جند متطوعة ليس لهم رواتب نعطيهم من أموال الزكاة ما يذهبهم إلى أماكن الجهاد، ويستعينون بها على القتال، أما إذا كان لهم رواتب فإننا لا نعطيهم، هذا الرأي الأول.الرأي الثاني: رأي الإمام مالك رحمه الله: أن المراد في سبيل الله: الغزو، وكل ما يلزم المجاهد من آلات الجهاد وعدته، وهذا القول هو الصواب، وعلى هذا نعطي المجاهدين الذين لا رواتب لهم، ونشتري أيضاً بأموال الزكاة آلات للمجاهدين وذخائر، وغير ذلك، يعني: كل ما يستعان به على الجهاد في سبيل الله، فإنه داخل، وهذا رأي الإمام مالك رحمه الله، وهو الصواب، ولا يحصر ذلك بالغزاة، بل يشمل كل ما يتعلق بالجهاد في سبيل الله من إعطاء الجند ومن شراء الأسلحة والذخائر، وعمل أماكن لتدريب المجاهدين وغير ذلك، هذا هو الصواب.

ابن السبيل
قال المؤلف رحمه الله: [ الثامن: ابن السبيل: وهو المسافر المنقطع به، وإن كان ذا يسار في بلده ].السبيل: هو الطريق، وأضيف المسافر إلى الطريق لملازمته له، كما يقال: طير الماء، لملازمته للماء، وقال المؤلف رحمه الله: (وهو المسافر المنقطع به، وإن كان ذا يسار في بلده)، حتى ولو كان غنياً، فإذا سافر شخص لأمر مباح، أو أمرٍ مشروع، ثم انقطع به سفره، سرقت دراهمه، أو مثل ما يحصل الآن صار عليه حادث، أو اختلت سيارته، وليس عنده أموال يستطيع أن يصلح بها سيارته، أو يبلغه إلى مراده، فهذا نعطيه من الزكاة.وهل يعطى من الزكاة ما يرجعه إلى بلده أو نقول: نعطيه من الزكاة ما يوصله إلى مقصوده، ويرجعه إلى بلده؟نقول: الصواب أنه يعطى من الزكاة ما يوصله إلى مقصوده، ويرجعه إلى بلده، فمثلاً: هذا رجل سافر إلى مكة، لكي يعتمر، وفي أثناء الطريق سرقت نفقته أو ضاعت، إن قلنا: يرجع إلى بلده نعطيه مائة ريال ترجعه إلى بلده، وإن قلنا: يذهب إلى مكة يحتاج إلى خمسمائة ريال، فنقول: نعطيه ما يذهبه إلى مكة، ويقضي غرضه ومقصوده ويرجعه إلى بلده.قال المؤلف: (المنقطع به)، يؤخذ منه أنه إذا لم يشرع في السفر، أنه لا يعطى من الزكاة، يعني: هذا رجل أراد السفر، قال: أعطوني من الزكاة، فنقول: هذا لا نعطيه من الزكاة، وهذا هو المشهور من المذهب، ولهذا قال: المنقطع به.والرأي الثاني: رأي الشافعي أنه يعطى من الزكاة. والصواب في هذه المسألة التفصيل، وهو إن كان هذا السفر يحتاج إليه فإننا نعطيه من الزكاة، وإن كان لا يحتاج إليه فإننا لا نعطيه من الزكاة، لو كان سفر نزهة، قال: أنا أريد أتنزه، أعطوني ألف ريال، أو يريد أن يتطوع لله بعمرة أو بحج، قال: أعطوني من الزكاة، هذا لا يعطى من الزكاة؛ لكن إذا كان السفر يحتاج إليه، مثلاً: يحتاج إلى علاج ونحو ذلك، فهذا نعطيه من الزكاة، هذا الصواب.قال: (وإن كان ذا يسار في بلد) حتى ولو كان غنياً، فعندنا إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60]، وهذه سيذكرها المؤلف رحمه الله.

دفع الزكاة لغير الأصناف الثمانية أو لواحد منهم
قال المؤلف رحمه الله: [ فهؤلاء هم أهل الزكاة، لا يجوز دفعها إلى غيرهم ]. قوله رحمه الله: [لا يجوز دفعها إلى غيرهم].يخرج ما تقدم صرفها في بقية سبل الخير، غير هؤلاء الأصناف الثمانية، كتعبيد الطرق، وحفر الآبار، وبناء المساجد، ونحو ذلك، فلا يجوز. قال: [ ولا يجوز دفعها إلى غيرهم، ويجوز دفعه إلى واحد منه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ( أمر بني زريع بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر )، وقال لـقبيصة : ( أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ) ].يقول المؤلف رحمه الله: (يجوز أن تدفع إلى واحد)، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله هو قول أكثر أهل العلم خلافاً للشافعي ، فإن الشافعي رحمه الله يقول: إذا كان عندك زكاة تجزئها ثمانية أجزاء، الجزء الأول للفقراء، للمساكين، للعاملين، للمؤلفة... إلى آخره، ورأي أكثر أهل العلم أنها لا تجزأ، وأنه لا بأس أن تدفعها إلى واحد، ويدل لهذا حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفيه ( قول النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وتدفع إلى فقرائهم )، صنف واحد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـقبيصة : ( أقم عندنا يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها ).

قدر ما يدفع إلى الأصناف الثمانية من الزكاة
قال المؤلف رحمه الله: [ ويدفع إلى الفقير، والمسكين ما تتم به كفايته ].هنا بين المؤلف رحمه الله قدر ما يأخذه كل من الفقير والمسكين، فالذي يأخذه الفقير قدر كفايته من النفقات الشرعية والحوائج الأصلية كما تقدم، فيأخذ الفقير والمسكين قدر كفايته من الحوائج الأصلية والنفقات الشرعية، فمثلاً: إذا كانت كفايته هو ومن يمونه في العام تساوي عشرين ألفاً، وراتبه ألف، بقي عليه ثمانية آلاف، يأخذ من الزكاة ثمانية آلاف، وإذا كان يحتاج إلى أوانٍ، إلى فرش، إلى آلات، إلى طعام، إلى أدوات كتابية له ولمن يمونه، نقول: نعطيه من الزكاة ما يكفيه، ويكفي من يمونه من النفقات الشرعية، والحوائج الأصلية سنة، أو تمام الكفاية إذا كان يجد بعض الكفاية. قال المؤلف رحمه الله: [ وإلى العامل قدر عمالته ].العامل يدفع إليه ولو كان غنياً، فنعطيه قدر الأجرة، فإنه يأخذ لا لحاجته، وإنما يأخذ لعمله، وللحاجة إليه، فهذا نعطيه قدر الأجرة، فإذا كانت كفايته في الشهر ألفان، وأجرته ألف ما نعطيه إلا ألف، لا يأخذ إلا قدر أجرته.قال المؤلف رحمه الله: [ وإلى المؤَلف ما يحصل به تأليفه ].المؤَلف يعطى ما يحصل به التأليف، فإذا كان يحصل التأليف بألف ريال ما نزيد، إذا كان التأليف لا يحصل إلا بألفين، نعطيه ألفين، وهكذا.قال المؤلف رحمه الله: [ وإلى المكاتب والغارم ما يقضي دينه ].هذا ظاهر، الغارم سواء كان غارماً لنفسه، أو غارماً لإصلاح ذات البين، فإننا نعطيه ما يقضي به دينه، أيضاً المكاتب نعطيه ما يقضي به دين الكتابة، والمكاتب كما تقدم لنا هو من اشترى نفسه من سيده بدين منجم.قال المؤلف رحمه الله: [ وإلى الغازي ما يحتاج إليه لغزوه ].تقدم أن (في سبيل الله) الصواب أنه يصرف في كل ما يتعلق بأمر الجهاد، إما للغزاة، وإما لآلات الغزو، وغير ذلك مما يحتاج إليه.قال المؤلف رحمه الله: [وإلى ابن السبيل ما يوصله إلى بلده]. ابن السبيل: المسافر المنقطع به يعطى ما يوصله إلى بلده، وأيضاً كما قلنا: الصواب ما يقضي به حاجته ويوصله إلى بلده. قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يزاد واحد منهم على ذلك ].

من يأخذ من الزكاة مع غناه
قال المؤلف رحمه الله: [ وخمسة منهم لا يأخذون إلا مع الحاجة، وهم الفقير، والمسكين، والمكاتب، والغارم لنفسه، وابن السبيل، وأربعة يجب الدفع إليهم مع الغنى، العامل والمؤلف والغازي والغارم لإصلاح ذات البين].العامل يجوز أن يأخذ من الزكاة وإن كان غنياً؛ لأنه لا يأخذ لحاجته، وإنما يأخذ للحاجة إليه لعمالته. والمؤَلف أيضاً يعطى، حتى ولو كان غنياً، المؤلف قلبه؛ لأنه لا يعطى لأجل حاجته، وإنما يعطى لأجل تأليفه. والغازي يعطى حتى ولو كان غنياً، فإذا ذهب وليس له راتب في بيت مال المسلمين، فإننا نعطيه من الزكاة.قال: ( والغارم لإصلاح ذات البين ).الغارم لإصلاح ذات البين حتى لو كان عنده مال كثير وغرم، استدان لكي يصلح بين هاتين الطائفتين ونحو ذلك، فإنه يعطى من الزكاة، ولو كان غنياً. وابن السبيل ذكره المؤلف رحمه الله أنه لا يأخذ إلا مع الحاجة، فابن السبيل نعطيه حتى ولو كان غنياً في بلده، يعني: ابن السبيل لا يأخذ إلا للحاجة في حال السفر، حتى ولو كان غنياً في بلده، ما نقول له: استقرض، حتى لو قدر أن يستقرض، ما يجب عليه أن يستقرض.
من لا يجوز دفع الزكاة إليه


الغني والقوي المكتسب
قال المؤلف رحمه الله: [ باب: من لا يجوز دفع الزكاة إليه.لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب].من هو الغني في باب أخذ الزكاة؟الغني في باب أخذ الزكاة: هو الذي يجد كفايته, وكفاية من يمونه لمدة عام، فإذا كان هذا الرجل كفايته في سنة تساوي اثني عشر ألفاً، وراتبه في السنة يساوي اثني عشر ألفاً، ما نعطيه من الزكاة، لو كانت كفايته تساوي عشرة آلاف ريال، وراتبه يساوي اثني عشر ألف، هذا لا نعطيه من الزكاة، هذا غني، والله عز وجل إنما فرضها للفقراء والمساكين، فدل ذلك على أن الأغنياء ليس لهم فيها شيء.قال: (ولا لقوي مكتسب).إنسان قوي مكتسب، يستطيع أن يحترف، فهذا لا يجوز أن يجلس ويقول: أعطوني من الزكاة، لا، نقول: اعمل، وحصل المال، فإن قصر عليك شيء خذ من الزكاة، فنقول: الإنسان إذا كان يستطيع أن يعمل، ويحترف، ويكتسب، ويتسبب، ولا يلحقه في ذلك ضرر، نقول: يجب عليك أن تعمل، وإذا قصر عليك شيء، فإنك تأخذ من الزكاة.

بنو هاشم ومواليهم
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا تحل لآل محمد صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم ].آل النبي عليه الصلاة والسلام لا تحل لهم الزكاة، وهم بنو هاشم، والهاشميون يدخل فيهم من ينتسبون إلى هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيهم آل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وآل جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وآل العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، وآل الحارث بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، وآل عقيل بن أبي طالب ، وآل أبي لهب ، خمسة هؤلاء كلهم هاشميون لا تدفع لهم الزكاة، آل علي ، آل جعفر ، آل العباس ، آل عقيل ، آل الحارث ، آل أبي لهب ، هؤلاء لا يأخذون من الزكاة، ودليل ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس )، هذا في الصحيحين، (ولما أخذ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه تمرة من تمر الصدقة، وهو صبي، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:كخ،كخ ، أما علمت أنا لا تحل لنا الصدقة ). وقول المؤلف: (وهم بنو هاشم) يؤخذ منه أن بنو المطلب يأخذون من الزكاة، وهذا القول هو الصواب، أن المطلبيين يأخذون من الزكاة، خلافاً لما ذهب إليه الشافعي رحمه الله أن المطلبيين كالهاشميين لا يأخذون من الزكاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما بنو المطلب، وبنو هاشم شيء واحد )، الصواب ما عليه جمهور أهل العلم أن المطلبيين يأخذون من الزكاة، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما بنو المطلب، وبنو هاشم شيء واحد ) يعني: في النصرة، والمؤازرة، وأما الزكاة فهم يدخلون في قول الله عز وجل: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]... إلى آخره، فيدخلون في الفقراء والمساكين، فيأخذون من الزكاة. واعلم أن عبد مناف جد النبي صلى الله عليه وسلم له أربعة أولاد: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس ، أما الهاشميون فلا يأخذون من الزكاة، ولهم من خمس الغنيمة، خمس خمس الغنيمة التي قال الله عز وجل فيها: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال:41]، الغنيمة تقسم خمسة أقسام، أربعة أقسام للمجاهدين، للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد، وأربعة أخماس للمجاهدين، يبقى خمس واحد، هذا نقسمه خمسة أقسام: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:41]خمس الخمس لله وللرسول، وَلِذِي الْقُرْبَى هم بنو هاشم وبنو المطلب، شرك النبي صلى الله عليه وسلم في خمس خمس الغنيمة بين الهاشميين والمطلبيين؛ لأن المطلبيين ناصروا بني هاشم لما حاصرتهم قريش في شعب أبي طالب ، فشرك النبي صلى الله عليه وسلم في خمس خمس الغنيمة بين المطلبيين والهاشميين؛ لأنهم ناصروهم، وقال عليه الصلاة والسلام: ( إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ). فنقول: الهاشميون لا يأخذون من الزكاة، ويأخذون من خمس خمس الغنيمة، والمطلبيون يأخذون من الزكاة ومن الخمس جميعاً، المطلبيون يجمعون بين الزكاة وبين خمس خمس الغنيمة، والنوفليون يأخذون من الزكاة ولا يأخذون من الخمس، والعبشميون يأخذون من الزكاة ولا يأخذون من الخمس. فأصبح أولاد عبد مناف أربعة: الهاشميون يأخذون من الخمس، ولا يأخذون من الزكاة، والمطلبيون يأخذون من الخمس ومن الزكاة، والنوفليون يأخذون من الزكاة فقط دون الخمس، والعبشميون يأخذون من الزكاة فقط، ولا يأخذون من الخمس. بنو هاشم لا يأخذون من الزكاة؛ لما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس )، وهل يستثنى من ذلك شيء؟ استثنى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا منعوا الخمس، يقول: يأخذون من الزكاة، مثل وقتنا الآن: الهاشميون الآن لا يعطون من خمس الغنيمة، فإذا منعوا من الخمس فإنهم يأخذون الزكاة، وهذا استثناه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأن حالهم الآن موضع ضرورة، وهذا صحيح، تجد الآن بعض الهاشميين فقيراً ما عنده شيء، لو قلنا: لا يعطى من الزكاة لهلك؛ لأنهم إنما منعوا من الزكاة؛ لأنهم يأخذون من الخمس، وأيضاً: قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنما هي أوساخ الناس)؛ لكنهم كانوا يستغنون بالخمس، فإذا منعوا من الخمس فإنهم يأخذون من الزكاة. أيضاً المسألة الثانية: التي أجازها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: يجوز لبعضهم أن يأخذ الزكاة من بعض، يعني: الهاشمي لا بأس أن يعطي زكاته هاشمياً آخر، قال: بأن هذا جائز، والجمهور على أن ذلك ممنوع.قال المؤلف رحمه الله: [ ومواليهم ].موالي بني هاشم هم: الذين أعتقهم بنو هاشم، فلا يأخذون من الزكاة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( مولى القوم منهم ).

الأصول والفروع
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يجوز دفعها إلى الوالدين، وإن علو، وإلى الولد، وإن سفل ].لا يجوز أن تدفع الزكاة إلى أصلك، وإلى فرعك، وقد حكي الإجماع على أن الإنسان لا يجوز له أن يدفع الزكاة لأبيه وأمه، ولا لابنه، ولا بنته، والعلة في ذلك أن الإنسان لا يدفع الزكاة لأبيه، ولا لأمه؛ لأنهم مغتنون بالإنفاق عليهم، فأنت يجب عليك أن تنفق على أبيك، ويجب عليك أن تنفق على أمك، ويجب عليك أن تنفق على ابنك وعلى بنتك، يجب عليك أن تنفق عليهم، وإذا كان كذلك فهم مغتنون بالنفقة، فإذا كانوا مغتنين بالنفقة فإنه لا يجوز دفع الزكاة لهم؛ لكن استثنى العلماء رحمهم الله من ذلك إذا كانوا مؤلفين أو غزاة، أو غارمين لإصلاح ذات البين، أو عمالاً، فإذا كانوا مؤلفين، أو غزاة، أو غارمين لإصلاح ذات البين، أو عمالاً عليها، يجوز أن تدفع لهم الزكاة، كذلك أيضاً شيخ الإسلام أضاف: إذا كان عنده زكاة، ولا يستطيع أن ينفق على أبيه وأمه، فيجوز أن يدفعها لهم، مثال ذلك: رجل عنده دكان، هذا الدكان يكتسب منه في الشهر خمسمائة ريال، الخمسمائة ريال ينفق على نفسه وعلى زوجته وعلى أولاده، بالنسبة لأبيه وأمه ما يستطيع، وحال الحول على هذا الدكان، يجب أن يخرج عنه الزكاة عروض تجارة، فيقول: إذا كان لا يستطيع أن ينفق على هؤلاء الأصول أو الفروع، فإنه لا بأس أن يدفع لهم الزكاة، فنضيف إلى ذلك: إذا كان لا يستطيع أن ينفق على أصله وفرعه، يجوز أن تدفع لهم الزكاة، أنت عندك مال، وحال عليه الحول؛ لكنك ما تستطيع أن تنفق على أصلك كما تقدم، على أبيك وأمك، أو على ابنك وبنتك، فيجوز لك أن تعطيهم من الزكاة، أما إذا كنت تستطيع أن تنفق عليهم، فلا يجوز أن تعطيهم من الزكاة؛ لأنهم حينئذٍ مغتنون بالنفقة عن الزكاة، وتقدم أن الزكاة لا تحل للغني، الغني لا تحل له الزكاة، كذلك أيضاً: إذا كانوا غارمين، فيجوز أن تعطيهم من الزكاة؛ لأنه لا يجب على الإنسان أن يسدد غرم أبيه، أو غرم ابنه.

من تلزم المزكي مئونته
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا من تلزمه مئونته ].بالنسبة للأصول والفروع يجب عليك أن تنفق عليهم، الفروع وإن نزلوا، حتى ولو كانوا من ذوي الأرحام مثل: ابن البنت، يجب أن تنفق عليه، وإذا كان يجب أن تنفق عليه فلا تعطيه من الزكاة إلا ما استثنينا كما تقدم، الأصول وإن علوا من قبل الأب، أو من قبل الأم، يجب أن تنفق عليهم حتى ولو كانوا من ذوي الأرحام، مثل: أب الأم يجب أن تنفق عليه مطلقاً، كل من علا من أصولك، وكل من نزل من فروعك يجب أن تنفق عليه، فلا تقول: هذا متزوج، وذا ما تزوج، هذا ليس لي، وهذا... إلى آخره، نقول: يجب أن تنفق على الجميع، على الأصول والفروع، وإذا كان كذلك فهم مستغنون بالنفقة لا يجوز لك أن تعطيهم من الزكاة شيئاً؛ لكن نستثني من ذلك كما تقدم إذا كان عنده زكاة، ولا يستطيع أن ينفق عليهم، أو كانوا غارمين، أو عمالاً، أو مؤلفة، أو غزاة، كما تقدم مما استثناه العلماء رحمهم الله.أما غير الأصول والفروع: الحواشي، وهم الإخوة، وبنوهم، والأعمام وبنوهم، هل يجوز أن تعطي الزكاة لإخوتك، وأخواتك، ولأعمامك، وعماتك؟ هذا فيه رأيان: الرأي الأول: يجوز أن تعطيهم من الزكاة إذا كانوا فقراء، فيجوز أن تعطي الزكاة لأخيك وأختك، وابن أخيك وابن أختك، وعمك وعمتك... إلى آخره، يجب أن تعطيهم من الزكاة.الرأي الثاني: لا يجوز إذا كان يلزمك أن تنفق عليهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 03:10 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الزكاة [9]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(41)



يجوز دفع الزكاة للأقارب غير الأصول والفروع على الراجح، ولا يجوز دفع الزكاة للكافر، أما صدقة التطوع فبابها واسع، ولهذا يجوز دفعها لمن لا يجوز دفع الزكاة إليه، والأولى بالغني أن يفرق زكاته بنفسه فإن وكّل غيره جاز.
تابع من لا يجوز صرف الزكاة إليه
تقدم لنا في الدرس السابق بقية أهل الزكاة، وذكرنا من أهل الزكاة الغارمين، وأن الغرم ينقسم إلى قسمين:القسم الأول: غارم لنفسه.والقسم الثاني: غارم لإصلاح ذات البين. وذكرنا ما يدخل تحت كل قسم من هذه الأقسام من صور وما يستدل لكل قسم.ثم بعد ذلك تطرقنا إلى قول المؤلف رحمه الله، (السابع: في سبيل الله)، وما المراد في سبيل الله، وأن أهل العلم اختلفوا في ذلك، وذكرنا أن المراد به كل ما يتعلق بأمر الجهاد من رزق الجند الذين لا ديوان لهم، ومما يتعلق بآلات الجهاد، وكل ما يعين عليه. وكذلك أيضاً: ابن السبيل، وأن المراد به: المسافر الذي انقطع به سفره، وهل المنشئ الذي يريد سفراً يعطى من الزكاة أو لا يعطى؟ ذكرنا كلام أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة، ثم بعد ذلك شرعنا في باب من لا يجوز دفع الزكاة له، وذكرنا أن الصدقة لا تحل لغني، ولا لقوي مكتسب. بعد ذلك تكلمنا على قول المؤلف رحمه الله: [ولا تحل لآل محمد صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم، ومواليهم]. ودليل ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الصدقة لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس )، وذكرنا أن عبد مناف جد النبي صلى الله عليه وسلم له أربعة أولاد: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس ، وأن الهاشميين لا يأخذون من الزكاة، ويأخذون من خمس الخمس، وأما بالنسبة للمطلبيين فذكرنا الصواب أنهم يأخذون من الزكاة، وأيضاً يأخذون من خمس الخمس، وأما بالنسبة للنوفليين فهم يأخذون من الزكاة، ولا يأخذون من خمس الخمس، وكذلك أيضاً العبشميون يأخذون من الزكاة ولا يأخذون من خمس الخمس. وأيضاً تكلمنا هل للهاشميين أن يأخذوا من الزكاة إذا منعوا من خمس الغنيمة أو ليس لهم أن يأخذوا منها؟ ذكرنا في ذلك رأيين: الرأي الأول: رأي جمهور أهل العلم، أنهم ليس لهم أن يأخذوا؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما هي أوساخ الناس ). والرأي الثاني: رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن الهاشميين إذا منعوا من خمس الخمس أنهم يأخذون الزكاة؛ لأن هذا موضع حاجة وضرورة.وأيضاً تكلمنا على مسألة وهي هل لهم أن يأخذوا الزكاة بعضهم من بعض أو ليس لهم ذلك؟ذكرنا فيها قولين:الرأي الأول: جمهور أهل العلم أنه ليس للهاشمي أن يأخذ زكاة هاشمي آخر. والرأي الثاني: أن الهاشمي له أن يأخذ زكاة هاشمي آخر، فالرأي الأول: هو قول جمهور أهل العلم، والرأي الثاني: هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وكذلك أيضاً بالنسبة للمطلبيين هل لهم أن يأخذوا الزكاة، أو ليس لهم أن يأخذوا الزكاة؟ كلام المؤلف رحمه الله أن المطلبيين يأخذون من الزكاة، وإنما الذي يمنع من الزكاة هم بنو هاشم، وأما بالنسبة لبني المطلب فإنهم لا يمنعون من الزكاة، وهذا قول جمهور أهل العلم أن بني المطلب أنهم يأخذون من الزكاة، لعموم قول الله عز وجل: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التوبة:60]، فيدخل في ذلك المطلبيون.الرأي الثاني: رأي الشافعي أن المطلبيين ليس لهم أن يأخذوا من الزكاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت ذلك في الصحيح-: ( إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد )، وقلنا: إن العلماء أجابوا عن هذا الحديث بأن المراد أنهم شيء واحد في النصرة، والمعاضدة؛ لأن بني المطلب ناصروا بني هاشم لما تعاقدت قريش على حصار بني هاشم في شعب أبي طالب ، لا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يعاقدوهم... إلى آخره، فدخل بنو المطلب مع بني هاشم في هذه المناصرة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد )، وهذا هو الصواب، أن بني المطلب يأخذون من الزكاة، وعلى هذا بنو المطلب يجمعون بين أمرين، يأخذون من الزكاة، وكذلك أيضاً يأخذون من خمس الخمس. قال المؤلف رحمه الله: [ ومواليهم ].يعني: الذين أعتقهم بنو هاشم، فالذين أعتقهم بنو هاشم لا يأخذون من الزكاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( مولى القوم منهم ).
حكم الزكاة على الأقارب
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يجوز دفعها إلى الوالدين وإن علو، ولا إلى الولد وإن سفل).لا يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين ولا للأولاد، وبالنسبة لدفع الزكاة للحواشي، وهم الإخوة وبنوهم، والأعمام وبنوهم، لأهل العلم في ذلك رأيان:الرأي الأول: إذا كان يجب على الشخص أن ينفق عليهم، فلا يجوز له أن يدفع الزكاة لهم، ومتى يجب عليه أن ينفق عليهم؟ يجب عليه أن ينفق عليهم إذا كان وارثاً لهم، فإذا كان وارثاً لأخيه وهو غني وأخوه فقير، فيجب عليه أن ينفق عليه، وإذا وجب عليه أن ينفق عليه، فإنه لا يجوز له أن يعطيه من الزكاة؛ لأنه حينئذٍ يكون مستغنياً بإنفاقه عليه، هذا هو الرأي الأول، أنه إذا كان الشخص يجب عليه أن ينفق على شخص، فإنه لا يجوز له أن يعطيه من الزكاة، ومتى يجب عليه أن ينفق عليه؟ إذا كان وارثاً له، مثال ذلك: أخوان زيد وعمرو، زيد هذا غني، وعمرو هذا فقير، عمرو هذا ليس له أولاد، وأيضاً ليس له أب، الأب ليس موجوداً والأولاد ليسوا موجودين بحيث يحجبون أخاه عن الميراث، فزيد هذا يرث عمرو، زيد هذا غني، وعمرو فقير، عمرو ليس له أولاد، وأبوه أيضاً ليس موجوداً، فزيد يرث عمراً، فيجب على زيد أن ينفق على عمرو، فإذا وجب عليه أن ينفق عليه، فإنه لا يجب له أن يعطيه الزكاة؛ لأنه حينئذٍ يكون مستغنياً للنفقة عن الزكاة. مثال آخر: زيد غني، وعمرو فقير، وعمرو له ابن، زيد هنا لا يرث عمراً؛ لأنه محجوب بابنه، عمرو له ابن يحجب زيداً عن الميراث، لو مات عمرو حينئذٍ لا يرث عمراً، فإذا كان زيد لا يرث عمراً، فإنه لا يجب عليه أن ينفق عليه، فحينئذٍ يجب أن يعطيه من الزكاة.مثال ثالث: زيد وعمرو، زيد غني وعمرو فقير، عمرو أخ زيد فقير، وأبوهما موجود، زيد الآن هل يرث عمرا أو لا يرثه؟ لا يرثه؛ لأن زيداً محجوب بالأب، وإذا كان كذلك فزيد لا يجب عليه أن ينفق على عمرو؛ لأنه محجوب بالأب؛ لكونه لا يرثه للحجب، وحينئذٍ يجوز أن يعطيه من الزكاة، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى. بالنسبة للحواشي يقولون: إذا كان يرثه، فإنه يجب عليه أن ينفق عليه، وحينئذٍ لا يجوز له أن يعطيه من الزكاة، وإذا كان لا يرثه لا يجب عليه أن ينفق عليه، وحينئذٍ يجوز له أن يعطيه من الزكاة، هذا هو الرأي الأول.الرأي الثاني: أنه يجوز للأخ أن يعطي أخاه. وعموماً يجوز أن تعطي الحواشي من الزكاة بدون تفصيل، يعني: سواء كان وارثاً لهم أو غير وارث، فإذا كان أخوك فقيراً يجوز لك أن تعطيه من الزكاة، كذلك أيضاً إذا كان ابن أخيك، إذا كان عمك... إلى آخره فقيراً، فإنه يجوز لك أن تعطيه من الزكاة، وهذا هو الرأي الثاني في هذه المسألة، والرأي الأول إذا سلكه الإنسان فهو أحوط وأبرأ للذمة، وإذا قلنا: بأن الأخ يعطي أخاه من الزكاة، فإنه يشترط أن لا يكون هناك من ينفق عليه؛ لأنه قد يوجد الأب ينفق على هذا الأخ، ما يجوز أن تعطيه من الزكاة، أو مثلاً: زوجها ينفق عليها، أو أبوها قادر على الإنفاق، حتى ولو كانت متزوجة؛ لأنه يجب على الوالد أن ينفق على ولده، وإذا كان كذلك فإنه يكون مستغنياً بالنفقة عن الزكاة.
دفع الزكاة للزوجة
قال المؤلف رحمه الله: (ولا من تلزمه مئونته).يدخل في ذلك الزوجة، فلا يجوز للزوج أن يدفع زكاته إلى زوجته؛ لأنها مستغنية بنفقته، الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته، وإذا كان كذلك فإنه لا يجوز له أن يعطيها من الزكاة، وهذا باتفاق الأئمة، ولأنه إذا أعطاها الزكاة يكون حمى ماله، وأسقط الواجب عليه الذي هو النفقة؛ لكن نستثني من ذلك صوراً: الصورة الأولى: أن يعطي زوجته ما تقضي به ديناً عليها، فهذا لا بأس؛ لأن الزوج لا يجب عليه أن يقضي الدين عن زوجته؛ لكن لو كان الزوج يمنعها النفقة، الطعام، والشراب، واللباس، ثم تستدين، هل يعطيها من الزكاة لكي يسدد الدين الذي عليه؟ نقول: هذا لا يجوز، يجب على الزوج أن يعطيها النفقة، وإذا اقترضت يجب عليه أن يعطيها ما تسدد به هذه القرض؛ لأن سببه النفقة، فالقرض إذا كان سببه النفقة لا يجوز للزوج أن يوفيه من الزكاة؛ لأنه يجب عليه أن ينفق على زوجته، هذه الصورة الأولى، نقول: الصورة الأولى: أن يقضي ديناً على زوجته ليس سببه النفقة.الصورة الثانية: أن يعطيها الزكاة لكي تنفق على أولادها من غيره، فقد يكون لهذه الزوجة أولاد من غيره، فيعطيها الزكاة لكي تنفق عليهم، فنقول: هذا جائز ولا بأس به؛ لأنه لا يجب عليه أن ينفق عليهم، فإذا كانت الزوجة فقيرة لا تستطيع أن تنفق على هؤلاء الأولاد، فيجوز لزوجها أن يعطيها الزكاة لكي تنفق على أولادها من غيره، استثنينا هاتين الصورتين، وقلنا: بأنه اتفاق الأئمة، بل حكاه ابن المنذر إجماعاً على أن الزوج لا يجوز له أن يعطي زوجته الزكاة؛ لأنها مستغنية بإنفاقه.
دفع الزكاة للزوج
هل للزوجة أن تعطي زوجها الزكاة أو ليس لها ذلك؟ للعلماء في ذلك قولان: الرأي الأول: رأي جمهور أهل العلم، قالوا: الزوجة لا يجوز لها أن تعطي الزكاة لزوجها؛ لأنها إذا أعطت الزكاة لزوجها فإن هذه الزكاة ترجع إليها، فإن الزوج سينفق هذه الزكاة على زوجته، وحينئذٍ قالوا: لا يجوز أن تعطي الزوجة زكاتها لزوجها.الرأي الثاني: رأي الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه يجوز للزوجة أن تعطي زكاتها لزوجها؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم ). والأقرب في هذه المسألة أن يقال بالتفصيل: أنا أقول: يجوز للزوجة أن تعطي زكاتها لزوجها في صور: الصورة الأولى: إذا كان سيقضي ديناً عليه، فنقول: بأن هذا لا بأس به؛ لأن الزوجة لا يجب عليها أن تقضي دين زوجها.الصورة الثانية: إذا كان سينفق هذه الزكاة على أولاده من غيرها، فإن هذا جائز ولا بأس به.الصورة الثالثة: إذا كان سينفق هذه الزكاة في أموره الخاصة، مثلاً: سيشتري له ملابس خاصة به، سيصلح مركوبه، سيشتري له آلات كتابية خاصة به، فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس به.الصورة الرابعة: إذا كان سينفق هذه الزكاة على الزوجة، أو على أولاده منها، فإن هذا لا يجوز؛ لأنه إذا كان سينفقها عليها فقد رجعت إليها الزكاة، وإذا كان سينفقها على أولاده منها فإنها حينئذٍ تكون أسقطت واجباًعنها، فإن الأم إذا لم يستطع الأب أن ينفق على الأولاد، فإن الأم يجب عليها أن تنفق عليهم.
دفع الزكاة إلى الكافر
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا إلى كافر ].لا يجوز دفع الزكاة إلى الكافر، والدليل على هذا حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في بعث معاذ إلى اليمن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ) فدل ذلك على أنه لا يجوز دفعها إلى الكافر، وأيضاً قول الله عز وجل: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60]... إلى آخره، فخص الله عز وجل الزكاة بهؤلاء الأصناف الثمانية؛ لكن يستثنى من ذلك المؤلف قلبه كما تقدم لنا، فإذا كان هناك شخص قريب عهد بالإسلام، وإذا أعطيناه من الزكاة، فإن ذلك يدفعه إلى الإسلام، فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس أن نعطيه من الزكاة، فنقول: نستثني من هذه المسألة إذا كان (مؤلفاً)، فالمؤلف يجوز أن تدفع له الزكاة حتى ولو كان كافراً. أما بالنسبة لصدقة التطوع فإنه يجوز أن تدفع إلى الكافر، ويدل لهذا قول الله عز وجل: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]، وأيضاً حديث أسماء رضي الله تعالى عنها: ( أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي أتت وهي راغبة أفأصلها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صليها )، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلها وهي كافرة، وصفية رضي الله تعالى عنها حبست على أخ لها يهودي، وعمر رضي الله تعالى عنه كسا أخاً له مشركاً، فالصدقة على الكافر لا بأس بها، وبهذا نعلم أن باب صدقة التطوع أوسع من الصدقة المفروضة، فصدقة التطوع يجوز أن تعطيها الكافر، ويجوز أن تعطيها الغني وغير ذلك، هذا كله جائز ولا بأس به، ويجوز أن تعطيها لأبيك، ولأمك، ولإخوانك، فباب صدقة التطوع أوسع من باب الصدقة المفروضة؛ لكن لو أن شخصاً أعطاك صدقة تطوعاً، ودل الدليل اللفظي أو الدليل العرفي على أنها تدفع للفقراء، فإنه لا يجوز أن تعطى الأغنياء، يعني: أعراف الناس اليوم إذا أعطاك صدقة تتصدق بها فإنك تدفعها للفقراء، ما تعطيها للأغنياء، أو قال لك: أعطها للفقراء، فلا تعطه للأغنياء.
مصارف صدقة التطوع
قال المؤلف رحمه الله: [ وأما صدقة التطوع فيجوز دفعها إلى هؤلاء، وإلى غيرهم ].يعني: صدقة التطوع يجوز أن تدفعها إلى بني هاشم، ويجوز أن تدفعها إلى والديك، وإلى أولادك، إذا أردت أن تتصدق، هذا كله جائز ولا بأس به، ويجوز أن تدفعها للكافر وغير ذلك. واعلم أن بني هاشم بالنسبة لصدقة التطوع ينقسمون إلى قسمين، أما الصدقة المفروضة فتقدم أن بني هاشم ليس لهم أن يأخذوا من الصدقة المفروضة مطلقاً، أما صدقة التطوع، فهم ينقسمون إلى قسمين:القسم الأول: النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن يأخذ من الصدقة شيئاً، لا من الصدقة المفروضة، ولا من صدقة التطوع.القسم الثاني: بقية بني هاشم يجوز لهم أن يأخذوا من صدقة التطوع، وأما بالنسبة للصدقة المفروضة، فتقدم حكمهم.
النية في دفع الزكاة
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يجوز دفع الزكاة إلا بنية، إلا أن يأخذها الإمام قهراً ].لا يجوز دفع الزكاة إلا بنية؛ لأن الزكاة عبادة من العبادات، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) فهي عبادة من العبادات، لا بد لها من نية القربة، وأيضاً هذه القربة تختلف، فمن القربة ما يكون فرضاً، ومن القربة ما يكون تطوعاً، فلا بد من النية التي تميز بين الفرض وبين التطوع.قال المؤلف: ( إلا أن يأخذها الإمام قهراً ).يعني: لو أن أحداً منع الزكاة، فإن الإمام يأخذها قهراً، ولا حاجة إلى النية؛ لكن هل تجزئه؟ نقول: أما ظاهراً فتجزئه، بمعنى أنه لا يطالب بها مرة أخرى، فإذا أخذها منه الإمام قهراً، فإنها تجزئه، ولا يطالبه بها الإمام مرة أخرى، وأما باطناً يعني: بينه وبين الله عز وجل، فإنها لا تجزئه، بحيث إن الإنسان لا يثاب عليها، ويأثم على منع هذه الصدقة.
الخطأ في دفع الزكاة لمن لا يستحقها
قال المؤلف رحمه الله: [ وإذا دفع الزكاة إلى غير مستحقها لم يجزه إلا الغني إذا ظنه فقيراً ].فلو دفعها إلى رجل يظنه ابن سبيل منقطع، فتبين أنه ليس ابن سبيل، أو دفعها إلى رجل يظنه مجاهداً، فتبين أنه ليس مجاهداً، أو دفعها إلى رجل يظنه ليس من بني هاشم، فتبين أنه من بني هاشم، يقول المؤلف رحمه الله: (لم يجزه)؛ لأنه لم يدفعها إلى مستحقها، واستثنى المؤلف رحمه الله قال: (إلا الغني إذا ظنه فقيراً) يعني: هذا الرجل ظنه فقيراً فدفع الزكاة إليه، فتبين أن هذا الرجل غني، فيقول المؤلف رحمه الله: هذا يجزه، ودليلهم على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجلين اللذين طلبا الصدقة فرآهما جلدين: ( إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب ).والصواب في هذه المسألة أنه لا فرق، وأن الإنسان إذا تحرى واجتهد في طلب من يستحق الزكاة، ثم وضعها في يد غير مستحقها أنه لا بأس بذلك، وأنها تجزئه عند الله عز وجل، فمثلاً كان يظنه مسلماً فتبين أنه كافر، أو يظنه فقيراً فتبين أنه غني، أو يظنه ابن سبيل، فتبين أنه ليس ابن سبيل... إلى آخره، نقول: بأنه يجزئه ذلك، إذا احتاط واجتهد؛ لكن إذا فرط الإنسان ولم يحتط، ولم يجتهد، ثم بعد ذلك دفعها إلى غير أهل، فنقول: بأنها لا تجزئه، وعليه ضمانها.
تفريق الغني زكاته بنفسه
الأولى بالإنسان أن يفرق الزكاة بنفسه، هذا هو الأولى، وهذا إذا كان يعرف المستحق، ولا تشغله عما هو أهم، وهذا يترتب عليه فوائد:الفائدة الأولى: أنه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يفرق الصدقة بنفسه، وأيضاً النبي عليه الصلاة والسلام أهدى مائة بدنة في حجة الوداع، ونحر بنفسه ثلاثاً وستين بدنة، هذا الأمر الأول.الأمر الثاني: أن هذا التفريق عبادة، تؤجر عليه عند الله عز وجل.الأمر الثالث: أن الإنسان يطمئن إلى إخراجها، ويطمئن أنها وضعت في مواضعها الشرعية؛ لكن إذا كان الإنسان لا يعرف المستحق، أو هو مشغول بما هو أهم، وأعظم من تفريق الصدقات، فنقول: يوكل وينيب من يقوم بإخراج هذه الصدقة.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 03:14 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصيام [1]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(42)


صوم رمضان ركن من أركان الإسلام، وتاركه جحداً بوجوبه كافر، ويجب على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم، ويجب بإكمال شعبان، وبرؤية الهلال، وبشهادة عدل.
الصيام
قال رحمه الله: [كتاب الصيام].يقول المؤلف رحمه الله تعالى: (كتاب الصيام). لما أتم الكلام عن أحكام الزكاة شرع في أحكام الصيام، إذ إن الصيام هو الركن الرابع من أركان الإسلام, كما في حديث ابن عباس وحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان).فالصيام يأتي في المرتبة الرابعة بعد الزكاة، والصيام كان مشروعاً على الأمم السابقة، كما قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
مراحل تشريع الصوم
وقد شُرِع في هذه الأمة على مراحل:المرحلة الأولى: صيام يوم عاشوراء، فإن صيام يوم عاشوراء كان واجباً في أول الأمر، (وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم من ينادي: من أصبح صائماً فليتم صومه، ومن أصبح مفطراً فليصم بقية يومه، فإن اليوم يوم عاشوراء).المرحلة الثانية: نُسخ وجوب صيام يوم عاشوراء، وشُرِع صيام رمضان على التخيير, بمعنى: أن من كان أهلاً للصيام فإنه مخير بين أن يصوم رمضان، وبين أن يُفطر ويُطعم عن كل يوم مسكيناً، كما في قوله سبحانه وتعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184].ثم بعد ذلك المرحلة الثالثة -وعليها استقر تشريع الصيام- أن من كان أهلاً للوجوب فإنه يجب عليه أن يصوم رمضان على التعيين وليس على التأخير؛ لقوله سبحانه وتعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].
تعريف الصوم وحكمه
والصيام في اللغة: الإمساك والكف.وأما في الاصطلاح: فهو التعبد لله عز وجل بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. والأدلة على فرضيته: القرآن والسنة والإجماع، والقرآن كما تقدم في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، والسنة كما تقدم في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، والإجماع قائم على ذلك. ومن ترك الصيام فإنه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتركه جحداً لوجوبه، فهذا كفر مخرج من الملة؛ لأنه مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين.الحالة الثانية: أن يتركه تهاوناً وكسلاً، فجمهور أهل العلم أنه لا يكفر؛ لحديث أبي هريرة في مانع الزكاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يري سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)، وهذا في مانع الزكاة وهي أشد تأكداً من الصيام، فقال: (ثم يري سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)، فلو كان كافراً لم يكن له سبيل إلى الجنة.
من يجب عليه الصيام
يقول المؤلف رحمه الله: [ويجب صيام رمضان على كل مسلم، بالغ، عاقل، قادر على الصوم]. هنا ذكر المؤلف رحمه الله تعالى شروط من يجب عليه الصيام.الصيام كما سلف فرض، لكنه ليس فرضاً على كل أحد, فالشرط الأول لمن يجب عليه الصيام: الإسلام أن يكون مسلماً، الإسلام وعلى هذا فالكافر لا يجب عليه أن يصوم، بمعنى: أنه لا يجب عليه وجوب أداء؛ لأن عندنا وجوبين: وجوب الأداء, ووجوب التكليف، ووجوب الأداء ليس واجباً على الكافر، بمعنى: أنه لو أفطر ثم بعد ذلك أسلم فإننا لا نطالبه بالقضاء؛ لأنه لا يجب عليه أن يؤدي، ويدل لهذا قول الله عز وجل: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54]، فالنفقات مع أن نفعها متعد لم تُقبل من الكافر لكونه كفر بالله ورسوله، فالصيام من باب أولى إذا هو عبادة بدنية محضة.وأما وجوب التكليف فالكافر مكلف, بمعنى: أنه يُعذب على ترك الصيام، ويدل لهذا قول الله عز وجل: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر:42-45], فترك الصلاة وترك الإطعام والخوض، هذه من أسباب دخول النار.قال المؤلف رحمه الله: (بالغ).هذا هو الشرط الثاني من شروط الوجوب، أن يكون بالغاً, وعلى هذا إذا كان غير بالغ فإن الصيام لا يجب عليه، ويدل لهذا حديث علي وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رُفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم عن الصبي حتى يبلغ)، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما وإسناده حسن.قال المؤلف رحمه الله: (عاقل)، هذا الشرط الثالث, وعلى هذا فالمجنون، لا يجب عليه الصيام؛ لأن القلم مرفوع عنه كما في حديث علي وعائشة : (رُفع القلم عن ثلاثة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم منهم المجنون حتى يُفيق).قال المؤلف رحمه الله: (قادر على الصوم).هذا الشرط الرابع: أن يكون قادراً على الصوم، وعلى هذا إذا كان عاجزاً عن الصيام فإن الوجوب يسقط عنه، والعجز إما أن يكون لمرض لا يُرجى برؤه أو لكبر، فإن كان عاجزاً لكبر أو مرض لا يُرجى زواله وذهابه فإنه لا يجب عليه أن يصوم ويسقط عنه الصيام ويُطعم عن كل يوم مسكيناً كما سيأتينا إن شاء الله.هذه أربعة شروط ذكرها المؤلف: أن يكون مسلماً، بالغاً، عاقلاً، قادر على الصوم.وبقي شرط خامس: أن يكون مقيماً, وعلى هذا إذا كان مسافراً فإن وجوب الأداء يسقط عنه, بمعنى: أنه لا يجب عليه أن يصوم، لكن يجب عليه القضاء، ويدل لذلك قول الله عز وجل: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184], يعني: أفطر فيجب عليه عدة من أيام أخر.كذلك أيضاً: لابد من انتفاء المانع من حيض ونفاس، فالمرأة الحائض أو النفساء لا يجب عليهما الصيام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم)، لكن يجب عليهما القضاء بالإجماع. قال المؤلف رحمه الله: [ويؤمر به الصبي إذا أطاقه].يعني: مستحب لولي الصبي إذا أطاق الصيام أن يأمره به، وقد قال العلماء رحمهم الله تعالى: الصيام كالصلاة يؤمر بها الصبي لسبعٍ ويُضرب عليها لعشر, يعني: يؤمر به بالصيام لسبع سنوات ويُضرب على ذلك لعشر إذا كان يطيق الصيام، فإذا كان يُطيق الصيام وهو له سبع فأكثر فإنه يؤمر به، وإذا كان يطيقه وله عشر سنوات فأكثر فإنه يُضرب عليه كالصلاة، كما في حديث عبد الله بن عمرو ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبعٍ واضربوهم على ذلك وهم أبناء عشر), وفي الحديث: (كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يصومون صبيانهم يوم عاشوراء لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيامه، وإذا بكى الصبي منهم أعطوه اللعبة من العِهن يتلهى بها). رواه البخاري.
ثبوت شهر رمضان
قال المؤلف رحمه الله: [ويجب صوم رمضان بأحد ثلاثة أشياء: كمال شعبان]. هنا بين المؤلف رحمه الله تعالى متى يجب الشروع في الصيام: الأمر الأول: كمال شعبان، فإذا لم يُرى الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فإننا نصبح مُفطرين، ويكون الصيام من الغد، ويدل لذلك حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غُبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)، وهذا في الصحيحين.قال المؤلف رحمه الله: [ورؤية هلال رمضان]. هذا الأمر الثاني مما يجب به الصيام: رؤية هلال رمضان، ويدل له قول الله عز وجل: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، وأيضاً ما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِّيَ عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين).قال المؤلف رحمه الله: [ووجود غيم أو قتر ليلة الثلاثين يحول دونه]. ليلة الثلاثين من شعبان لا تخلو من حالتين:الحالة الأولى: أن تكون السماء صحواً ليس هناك غيم ولا قتر، فهنا نصبح مفطرين كما تقدم في حديث أبي هريرة : (أكملوا عدة شعبان ثلاثين), ويكون الصيام من الغد.الحالة الثانية: أن تكون ليلة الثلاثين من شعبان غيماً أو فيها قتر، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه إذا كان في ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر في السماء فإنه يجب الصيام من الغد احتياطاً للعبادة.وهذا المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وألفوا في هذا مؤلفات مستقلة، كما ألف أبو يعلى القاضي وهو من الحنابلة في ذلك رسالة مستقلة اسمها:إيجاب الصيام ليلة الغمام، ومثله أيضاً ابن المبرد ألف في ذلك رسالة مستقلة.. إلى آخره. واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُم عليكم فاقدروا له)، قالوا: بأن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن غُم عليكم فاقدروا له)، يعني ضيقوا عليه، أي: ضيقوا شعبان، مأخوذ من قول الله عز وجل: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7]، يعني: ضُيق عليه رزقه, وذلك بأن نجعل شعبان تسعة وعشرين يوماً، فإذا كان ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر، إذا كانت هذه الليلة فيها غيم أو قتر فإننا نصبح يوم الثلاثين من شعبان صياماً.ودليل ذلك كما أسلفنا حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (فإن غُم عليكم فاقدروا له)، يعني: ضيقوا عليه، ومنه قول الله عز وجل: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7].الرأي الثاني في هذه المسألة: أنه لا يجب الصيام, إذا كان هناك غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم رحمهم الله، ودليل ذلك حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) حديث صريح.وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن غُم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)، وهذا القول هو الصواب.و الخطيب البغدادي رحمه الله له رسالة في هذه المسألة في عدم وجوب الصيام ليلة الغمام رد بها على رسالة أبي يعلى القاضي ، والنووي رحمه الله في كتابه المجموع شرح المهذب جمع الرسالتين رسالة أبي يعلى في إيجاب الصيام ورسالة الخطيب في عدم وجوب الصيام، والراجح في هذه المسألة ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله.
صوم من رأى الهلال وحده
قال المؤلف رحمه الله: [وإذا رأى الهلال وحده صام].إذا رأى الهلال وحده فإنه يصوم؛ لقول الله عز وجل: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185], ولما تقدم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته), وهذا رآه, فإذا رآه وحده يجب أن يصوم.ولو أن رجلاً رأى الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ورُدت شهادته ولم يقبلها القاضي، فما العمل؟ يقول المؤلف رحمه الله: يجب عليه أن يصوم؛ لأن الله عز وجل قال: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185], وأيضا كما سلف في حديث أبي هريرة وابن عمر : (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته).والرأي الثاني في هذه المسألة: أنه لا يجب عليه أن يصوم، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصوم يوم يصوم الناس، والفِطر يوم يفطر الناس)، وهذا الحديث رواه الترمذي والبغوي ، وحسنه جمع من أهل العلم، وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله له رسالة اسمها (رسالة الهلال)، وذكر رحمه الله بأن الهلال ليس ما يظهر في السماء، وأن الهلال ما يستهل به الناس، فإذا رأى هذا الرجل الهلال ورُدت شهادته فإن الناس لم يستهلوا حتى الآن, فالهلال يقول لك: بأن الهلال ما يستهل به الناس.ودليل ذلك ما سلف من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصوم يوم يصوم الناس، والفِطر يوم يُفطر الناس)، وعلى هذا من رأى الهلال ثم رُدت شهادته، فإنه لا يجب عليه أن يصوم وإنما يجب عليه أن يصوم مع سائر الناس، لكن إذا كان منفرداً ليس هناك أحد, يعني: ليس عنده أحد كما لو كان في صحراء أو نحو ذلك، كان مقيماً في صحراء ونحو ذلك, ثم رأى الهلال فهو الآن لا يخالف الناس، فالذي يظهر والله أعلم أنه يصوم كما ذكر المؤلف رحمه الله.
شروط من يصوم برؤيته الهلال
قال المؤلف رحمه الله: [فإن كان عدلاً صام الناس بقوله].في هذه العبارة بيان شرط من يُصام الناس برؤيته. أي: من هو الذي يُصام الناس برؤيته؟فيؤخذ من قول المؤلف رحمه الله تعالى: (عدلاً) أن من يؤخذ برؤيته يُشترط أن يكون عدلاً، وعلى هذا إذا كان فاسقاً كأن يكون مرتكباً لكبيرة ولم يتب، أو كان مصراً على صغيرة ولم يتب، فإن شهادته لا تُقبل، ورؤيته لا تُعتبر؛ لأنه قال لك: (عدلاً) فلابد أن يكون عدلاً في دينه.والصواب في ذلك أن العدالة ليست شرطاً؛ لأن هذا من قبيل الخبر الديني، والذي نشترطه في الأخبار: أن يكون ثقة في خبره بحيث لا يجرب عليه الكذب والتساهل, فإذا كان ثقة في خبره حتى وإن كان فاسقاً بحيث لا يُعرف بالكذب أو يعرف بالتساهل أو احتمال الغلط، كما لو كان ضعيف البصر أو نحو ذلك، فإذا كان كذلك فإننا نقبل رؤيته، والمهم أن يكون ثقة في خبره, فإن كان غير ثقة إما لمعرفته بالكذب أو بالتساهل أو باحتمال الخطأ، لكونه ضعيف البصر ونحو ذلك، فهنا لا نقبل رؤيته، وإذا لم يكن شيئاً من ذلك، وكان ثقة، فإننا نقبل خبره.إذاً: الشرط الأول: أن يكون عدلاً.الشرط الثاني: العدد.يؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله تعالى أنه لا يُشترط العدد، وأننا نكتفي برؤية واحد؛ لقوله: (فإن كان عدلاً). يؤخذ من ذلك أنه يُكتفى برؤية واحد فقط. وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله ومذهب الشافعي ، ودليل ذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (تراءى الناس الهلال، فرأيته وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه), وهذا الحديث رواه أبو داود والحاكم وابن حبان وغيرهم، وإسناده حسن، وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. والحنفية يقولون: يُقبل خبر الواحد أو تُقبل رؤية الواحد إن كان في السماء عِلة, فإن كانت السماء صحواً ليس فيها علة فإننا لا نقبل رؤيته، ولابد من التعدد. والصواب في ذلك أننا نقبل رؤية الواحد كما دل لذلك حديث ابن عمر وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.الشرط الثالث: قوله: (عدلاً) يُفهم منه أنه لا فرق بين الحر والرقيق، فنقبل شهادة الحر ونقبل أيضاً شهادة الرقيق، فلا فرق بين الحر والرقيق، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم؛ لعموم الأدلة السالفة: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، وهذا يشمل رؤية الرقيق كما أنه يشمل رؤية الحر، وهذا خلافاً لما ذهب إليه الشافعية رحمهم الله تعالى، كما أنه لا فرق أيضا بين رؤية الذكر ورؤية الأنثى؛ لأن الأصل تساوي الذكور والإناث في الأحكام الشرعية إلا بدليل.الشرط الرابع: أن يكون بالغاً, وهذا ما عليه جماهير أهل العلم، خلافاً لما ذهب إليه بعض الحنابلة إلى أن إلى أنه إذا كان صبياً مميزاً فإننا نقبل رؤيته، الصواب أنه يشترط أن يكون بالغاً.
اشترط شهادة عدلين لخروج رمضان
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يُفطرون إلا بشهادة عدلين]. يعني: دخول رمضان يُكتفى فيه برؤية واحد، وأما خروج رمضان، وكذلك أيضاً بقية الأشهر لابد من رؤية اثنين.وقول المؤلف: (ولا يُفطرون إلا بشهادة عدلين). هذا حُكي الإجماع عليه، حُكي الإجماع على أن شهر شوال لا يثبت إلا برؤية شاهدين، ودليل ذلك حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا)، فقال: (وأفطروا)، وهذا يدل على اعتبار الشاهدين.وكما ذكرنا أنه حُكي الإجماع على ذلك، وإن كان ابن حزم رحمه الله يرى أنه يُكتفى برؤية واحد في خروج رمضان ودخول شوال.
حكم إفطار من رأى هلال شوال وحده
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يُفطر إذا رآه وحده].يعني: لو أنه رأى هلال شوال وحده فإنه لا يُفطر، ودليل ذلك ما تقدم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصوم يوم يصوم الناس، والفِطر يوم يفطر الناس)، وكذلك أيضا أن الحجة الشرعية التي يثبت بها خروج رمضان ودخول شوال لم تثبت, يعني لابد من رؤية شاهدين فإذا رأى هلال شوال وحده فإنه لا يُفطر لحديث عائشة أولاً، وثانياً: أن الحُجة شرعية التي يثبت بها خروج رمضان ودخول شوال لم تثبت, ولا تثبت إلا برؤية شاهدين, وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (فليُفطر إذا أفطر الناس), وهذا رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عمر رضي الله عنه.
إفطار المسلمين إذا صاموا رمضان ثلاثين يوماً بشهادة عدلين
قال: [وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً أفطروا].إذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً أفطروا؛ لأن رمضان يخرج بإكمال عدته.وقد تقدم أيضاً حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا) وعلى هذا إذا صمنا برؤية شاهدين ثلاثين يوماً فإننا نُفطر أولاً لأننا أكملنا كما سلف, وثانياً لما ذكرنا من حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب.قال المؤلف رحمه الله: [وإن كان بغيم أو قول واحد لم يفطروا إلا أن يروه أو يكملوا العدة].ويقول المؤلف رحمه الله أنه إذا دخل رمضان برؤية شاهدين ثم صمنا، ولم نر الهلال وأكملنا ثلاثين يوماً نفطر لأننا أتممنا العدة.الصورة الثانية: إذا صمنا برؤية واحد ثلاثين يوماً, يعني هل نُفطر بعد أن صمنا ثلاثين يوماً أو لا نُفطر؟ يقول لك المؤلف: لا نفطر.فيقول لك المؤلف رحمه الله: إذا ثبت دخول رمضان برؤية واحد، ثم بعد ذلك صمنا ثلاثين يوماً لا نفطر. لماذا لا نفطر؟ قال لك: لأن الشهر -شهر شوال- لا يثبت دخوله إلا برؤية شاهدين، وإذا أفطرنا يلزم من ذلك أن نكون أدخلنا شوال برؤية واحد. يعني: الآن الصورة: دخل رمضان. برؤية واحد، وما رأينا الهلال، وصمنا ثلاثين يوماً هل نُفطر بعد الثلاثين أو لا نُفطر؟ يقول لك المؤلف رحمه الله: لا نُفطر. لماذا لا نُفطر؟ قال: لو قلنا: بأننا نُفطر لزم من ذلك أننا نُفطر برؤية واحد، والإفطار إنما يكون برؤية اثنين. هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى.الرأي الثاني وهو رأي الشافعية: أننا نُفطر؛ لأننا أفطرنا ليس برؤية واحد، وإنما أفطرنا لكوننا أكملنا العدة، فنحن الآن صمنا ثلاثين يوماً، أتممنا العِدة, وإتمام العِدة مبني على أمر مأذون فيه وهو الصيام برؤية واحد، وما ترتب على المأذون فإنه ليس مضموناً، فنحن لم نعتمد على رؤية الواحد، وإنما اعتمدنا على إكمال العِدة وهي أننا صمنا ثلاثين يوماً.وكذلك أيضا عندنا قاعدة أخرى وهي: أنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، فإذا قلنا: بأننا اعتمدنا على رؤية واحد، نقول: الاعتماد هنا جاء على وجه التبع وليس على وجه الاستقلال، والقاعدة أنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 03:18 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصيام [2]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(43)


من الأحكام المتعلقة برمضان معرفة دخوله وخروجه، وما يتعلق برؤية هلاله، ومن الأحكام معرفة المعذورين الذين لا يجب عليهم صيام رمضان، ومن لا يصح صومهم من أهل الأعذار.
تابع ثبوت شهر رمضان
تقدم لنا شيء من أحكام الصيام، فذكرنا من ذلك تعريف الصيام في اللغة والاصطلاح، وكذلك أيضاً ما يتعلق بشروط وجوبه، وأيضاً متى يجب الصيام، والمراحل التي شُرع عليها الصيام. ‏
ثبوت دخول شهر رمضان برؤية ثقتين
ثم بعد ذلك قال المؤلف: (وإن صاموا بشهادة مثلين ثلاثين يوماً أفطروا، وإن كان بغيم أو قول واحد لم يُفطروا إلا أن يروه أو يُكملوا العِدة).قول المؤلف رحمه الله تعالى: (إن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً أفطروا). وهذا ظاهر، وصورة ذلك: إذا ثبت دخول شهر رمضان برؤية ثقتين فصمنا ثلاثين يوماً برؤية هذين الثقتين ولم نر الهلال، فنقول: نُفطر؛ لأننا أكملنا عِدة رمضان ثلاثين يوماً. الصورة الثانية: أن يثبت دخول شهر رمضان برؤية واحد -وكما سلف أن رمضان يثبت برؤية واحد ثقة- فصمنا ثلاثين يوماً بناء على رؤية هذا الثقة، ولم نر الهلال، فيقول المؤلف رحمه الله: إذا صمنا ثلاثين يوماً برؤية واحد لا نُفطر، بل يجب أن نصوم اليوم الحادي والثلاثين، بمعنى أن اليوم الأول الذي ثبت به دخول الشهر برؤية هذا الواحد ليس معتبراً، فلابد أن نصوم واحداً وثلاثين يوماً، وهذا هو المشهور من المذهب. ودليلهم على ذلك: قالوا: بأننا لو قلنا: بالفِطر بعد صيام ثلاثين يوماً، الذي بُني على رؤية واحد للزم من ذلك أن نُفطر برؤية واحد، وشهر شوال لا يثبت إلا برؤية اثنين.وذكرنا الرأي الثاني في هذه المسألة وهو رأي الشافعية، وأننا إذا صمنا ثلاثين يوماً برؤية واحد أننا نُفطر، والفِطر هنا ليس اعتماداً على رؤية الواحد، وإنما هو اعتماد على الحُجة الشرعية، والحُجة الشرعية أننا أكملنا العِدة ثلاثين يوماً، إذ إن الشهر الهلالي إما ثلاثون يوماً، وإما تسعة وعشرون يوماً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنا أمةٌ أُمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا)، يعني ثلاثون يوماً، أو (هكذا وهكذا وهكذا)، وعقد إبهامه بالثالثة. وأيضاً لما ذكرنا من أن قول الثقة هنا جاء اعتباره تبعاً، والقاعدة الفقهية: أنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً. الصورة الثالثة التي ذكرها المؤلف رحمه الله: إذا صمنا لأجل غيم، وكما سلف أنهم يقولون: إذا كان على ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر فإننا نصوم اليوم الثلاثين من شعبان احتياطاً للعبادة، فإذا صمنا ثلاثين يوماً ولم نر الهلال مع أننا صمنا يوم الثلاثين من شعبان الذي حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر لا نُفطر.ولا نعتبر اليوم الأول الذي هو يوم الثلاثين من شعبان، هذه المسألة مبينة على ما سبق من أنه يجب صيام يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون مطلع الهلال في تلك الليلة غيم أو قتر، وذكرنا أن الصواب في هذه المسألة أنه أصلاً لا يجب الصيام، فعلى الراجح هذه المسألة غير واردة، فنقول: أصلاً لا يجب الصيام، وعلى هذا لا نكون صمنا إلا تسعة وعشرين يوماً، ونضيف يوماً لنُكمل العِدة ثلاثين يوماً، فإما أن نرى الهلال أو نُكمل عِدة رمضان ثلاثين يوماً.
حالات صيام الأسير
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير تحرى وصام، فإن وافق الشهر أو ما بعده أجزأه، وإن وافق قبله لم يجزئه]. الأسير: هو المسلم المحبوس عند الكفار، وهذا المسلم الذي حبسه الكفار قد تخفى عليه الأشهر، وقد يشتبه عليه شهر رمضان ولا يدري متى رمضان، فعلى هذا نقول: بأن هذا الأسير يتحرى ويصوم، ولا يترك الصيام.وعلى هذا إذا صام فله ثلاث حالات:الحالة الأولى: أن يوافق رمضان، فنقول: بأن صيامه صحيح، لأنه أدى العبادة في وقتها. الحالة الثانية: أن يوافق ما بعد رمضان، يعني يصوم في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة.. إلى آخره، المهم صيامه وافق ما بعد رمضان، فنقول أيضاً هنا: صيامه صحيح، لأن رمضان فاته، وهذا الصيام الذي أداه بمنزلة القضاء، فقد قضى الآن الصيام الذي عليه. الحالة الثالثة: أن يوافق ما قبل رمضان، سواء كان لكل الشهر أو لبعض الشهر، المهم أنه صام قبل رمضان، سواء صام جميع الشهر، كما لو صام في رجب أو صام في شعبان ونحو ذلك، فيقول المؤلف رحمه الله: (وإن وافق قبله لم يجزئه)، إذا وافق ما قبل رمضان لم يجزئه. لماذا؟ لأنه أدى العبادة قبل وقتها، فنقول: بأن عمله هذا لا يجزئه، وعلى هذا يكون صيامه تطوعاً، والعلماء يقولون في كتاب الصلاة: إذا أحرم بالفريضة قبل دخول الصلاة قبل دخول الوقت ولو بلحظة واحدة، فإن صلاته تنقلب نفلاً.وقبل أن ننتقل إلى باب أحكام المفطرين هناك مسائل نأخذها على عجل تتعلق بالرؤية، من هذه المسائل: حكم ترائي الهلال: وحكم ترائي الهلال مستحب، ويدل لذلك ما تقدم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تراءى الناس الهلال فرأيته وأخبرت الرسول صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام)، فقوله: (تراءى الناس)، هذا يدل على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يتراءون الهلال.العلماء رحمهم الله يقولون: بأن العلم بوقت العبادة من باب فروض الكفايات. ما هو وقت ترائي الهلال؟وقت ترائي الهلال من بعد غروب الشمس من اليوم التاسع والعشرين من آخر الشهر، فإذا أردنا أن نتراءى هلال رمضان فإنه يكون بعد غروب الشمس من اليوم التاسع والعشرين من شهر شعبان، وإذا أردنا أن نتراءى هلال شوال فإنه يكون من بعد غروب الشمس من اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان.
وقت رؤية الهلال
أيضاً مسألة أخرى وهي رؤية الهلال نهاراً، هل هي معتبرة أو ليست معتبرة؟جماهير العلماء أن رؤية الهلال نهاراً غير معتبرة. فلو رُأي الهلال نهاراً سواء كان في نهار التاسع والعشرين أو كان في نهار الثلاثين فإنها غير معتبرة؛ لأننا لو قلنا: بأنها معتبرة، للزم من ذلك أن يكون الشهر ثمان وعشرين، وأما إذا رُأي في نهار الثلاثين فلا نُفطر. أي: لا يجب أن نُفطر ولا يجب أن نصوم، فمثلاً: لو رأينا هلال رمضان في اليوم الثلاثين من شعبان نقول: لا يجب أن نصوم، وإنما يكون لليلة المقبلة، كذلك أيضاً لو رأينا هلال شوال في الثلاثين من رمضان، لا يجوز أن نُفطر. وقد ورد عن الصحابة أن الرؤية المعتبرة للهلال إنما تكون ليلاً بعد غروب الشمس، وممن ورد هذا عنهم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم: عمر وعثمان وابن مسعود وابن عمر وأنس .. إلى آخره.
لزوم الصيام في سائر البلدان إذا رؤي الهلال في بلد
إذا رُؤي الهلال في بلد هل يجب الصيام على جميع الناس أو نقول: لكل بلد مطلعها الخاص؟هذه مسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله كثيراً، وملخص الأقوال في ذلك: أن المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله -وعليه كثير من العلماء- أن الهلال إذا رُؤي في بلدٍ فإنه يجب على الناس الصيام جميعاً في جميع بلاد الدنيا، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم كما سلف في حديث أبي هريرة : (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، قالوا: وهذا خطاب الجماعة، فإذا رآه شخص وجب الصيام على الجميع.والرأي الثاني وهو رأي الشافعي رحمه الله، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن العِبرة باختلاف المطالع، فإذا رُؤي في بلدٍ فإنه يجب الصيام على البلدان التي توافق بلد الرؤية في مطلع الهلال، ومعرفة البلاد التي تتوافق في مطالع الرؤيا هذا يبحثه أهل الهيئة، فالفلكيون يعرفون ذلك من خلال معرفة خطوط الطول والعرض.. إلى آخره والشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله له رسالة اسمها: (تبيان الأدلة في إثبات الأهلة)، ورجح ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى، وذكر أمثلة كثيرة في كتابه هذا، من أمثلة أهل الهيئة في البلد أن البلد الفلاني يوافق البلد الفلاني في الرؤيا، إذا رُؤي في هذا البلد ممكن أن يُرى في هذا البلد .. إلى آخره.فرأي الشافعي إذا رُؤي في بلد وجب الصيام على كل بلد يوافق بلد الرؤيا في مطلع الهلال، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما, أو ما ورد عن كريب ، أن أم الفضل بعثته إلى الشام، قال: فقدمت الشام، فرؤي الهلال ليلة الجمعة فصام معاوية وأمر الناس بالصيام، فلما قدم إلى المدينة سأله ابن عباس : متى رأيتم الهلال؟ فقال: رأيناه ليلة الجمعة. فقال ابن عباس : لكنا رأيناه ليلة السبت. فقال كريب : ألا تقتدي برؤية معاوية وصيامه؟ قال: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.والرأي الثالث في المسألة: ذهب إليه بعض المالكية، كـابن الماجشون من المالكية، وهو أن أنه يُنظر إلى الإمام الأعظم، فإذا ثبتت رؤيته عند الإمام الأعظم وأمر بالصيام وجب، وهذا هو المعمول به الآن في البلاد الإسلامية، تجد أن الحكومات في البلاد الإسلامية تتراءى الهلال، كل بلدٍ له رؤيته، والمسلمون في هذا البلد يكونون تابعين لإمامهم الأعظم.هناك قول أخير أيضاً للشيخ أحمد شاكر رحمه الله، والشيخ أحمد شاكر رحمه الله يرى أن العِبرة برؤية أهل مكة، فإذا رُؤي في مكة وجب على كل الناس الصيام. والذي يظهر -والله أعلم- أن ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله واختاره شيخ الإسلام هو الصواب في هذه المسألة، لكن الآن كما ذكرنا ما يذهب إليه بعض المالكية أن العِبرة برؤية الإمام الأعظم, وعلى هذا الناس تبع لإمامهم في مثل هذه المسائل، والصوم يوم يصوم الناس، والفِطر يوم يفطر الناس، وكما ذكرنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: بأن الهلال ليس يطلع في السماء وإنما الهلال ما يستهل به الناس.
أحكام المفطرين
قال المؤلف رحمه الله: [باب أحكام المفطرين].
المريض
قال المؤلف رحمه الله: [ويُباح الفِطر في رمضان لأربعة أقسام: أحدها: المريض الذي يتضرر به]. المريض لا يخلو من ثلاث حالات:الحالة الأولى: أن يضره الصوم، فهذا يجب عليه أن يفطر؛ لأن الله عز وجل قال: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195].مثلاً: إنسان مريض بالكلى يحتاج إلى أن يشرب ماء، ولو أنه لو لم يشرب الماء لأضره ذلك، فنقول: هذا يجب عليه يفطر؛ لأن الله عز وجل قال: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ[البقرة:195]، ومن قواعد الشريعة قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) كما في الحديث.الحالة الثانية: أن يشق عليه الصيام لكن لا يضره، فهل الأفضل أن يصوم أو الأفضل أن يفطر؟ نقول: الأفضل أن يُفطر؛ فإن الله سبحانه وتعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى محارمه.الحالة الثالثة: ألا يلحقه ضرر ولا مشقة، كما لو كان فيه صداع يسير، أو كان فيه كسر في رجله، أو كان فيه زكام ونحو ذلك من الأشياء اليسيرة، بحيث إنه إذا صام لا يتضرر ولا يشق عليه الصيام, فهذا نقول: يجب عليه أن يصوم، ولا يجوز له أن يفطر، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم خلافاً لما ذهب إليه بعض السلف رحمهم الله.
المسافر
قال: [والمسافر الذي له القصر فالفطر لهما أفضل].المسافر أيضاً له حالات: الحالة الأولى: أن يشق عليه الصوم مشقة شديدة، فهذا نقول: يجب عليه أن يفطر.ويظهر من الحديث أن الصيام محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر لما رأى رجلاً سقط من شدة الصيام وظُلل عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس من البِر الصيام في الصيام في السفر) ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح في رمضان، وقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وهم ينظرون ما تصنع دعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فشرب بعد العصر، فذُكر له أن أُناساً لم يُفطروا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أولئك العصاة أولئك العصاة)، والمعصية تدل على وقوع ذنب.الحالة الثانية: أن يكون المرض يشق عليه لكنها مشقة محتملة، فهذا نقول: الأفضل له أن يفطر إذا كان فيه مشقة.الحالة الثالثة: أن يستوي الأمران عنده فيقول لك المؤلف رحمه الله: السنة أن يفطر، الأفضل أن يُفطر، وعند جمهور العلماء السنة أن يصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر.والصواب في ذلك: أنه إذا لم يكن هناك مشقة لا شديدة ولا يسيرة محتملة، وإنما استوى عنده الأمران، فنقول: الأفضل أن يصوم؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم, فالنبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر، وعبد الله بن رواحة صام في السفر، ولأنه إذا صام في السفر فقد أبرأ لذمته، وهو أنشط له أن يصوم مع الناس. قال المؤلف رحمه الله: [وعليهما القضاء]. يعني: يجب على المريض إذا أفطر كما سلف أن يقضي، والمسافر إذا أفطر أيضاً يجب عليه أن يقضي؛ لقول الله عز وجل: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]. قال المؤلف رحمه الله: [وإن صاما أجزئهما].وإن صاما أجزئهما، يعني لو أن المريض صام أجزأه الصيام، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم رحمهم الله، والمسافر أيضاً لو صام أجزأه الصيام، خلافاً لـابن حزم حيث يرى أنه لو صام ما يجزؤه الصيام خلافاً لجمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]. لكن الصواب أن التقدير: فأفطر، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، وابن حزم يأخذ بظاهر الآية، لكن الجمهور يقولون: هذه الآية تفسرها السنة، هذا حمزة بن عمرو الأسلمي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر؟ فقال: (إن شئت فصم وإن شئت فأفطر)، والنبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر، وعبد الله بن رواحة صام في السفر، والصحابة أفطروا ... إلى آخره.والصحيح أنه لو صام ولو كان السفر يشق عليه مشقة شديدة، خلاص الصيام صحيح ويجزئه، ولو صام المريض ولو كان الصيام يشق عليه أو يضره، فنقول: بأنه لا شيء عليه، الحديث يعني كحكم وضعي مجزئ، لكن هناك حكم تكليفي نعم هو اللي نقول: بأنه إذا كان يضره يأثم إذا صام وهو مريض، أو إذا كان يشق عليه مشقة شديدة، إذا كان مسافر، نقول يأثم كحكم تكليفي، لكن كحكم وضعي نقول: يجزؤه، فرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي.
الحائض والنفساء
قال المؤلف رحمه الله: [الثاني: الحائض والنفساء تُفطران وتقضيان].وهذا بالإجماع في الحائض والنفساء، فإذا حاضت المرأة فإنها تُفطر وتقضي، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم)، وحديث عائشة : (كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)، فالحائض والنفساء تفطران وتقضيان، فيجب عليهما الفطر ويجب عليهما القضاء.ولو أن المرأة حاضت قبل غروب الشمس بلحظة واحدة بطل صومها.ولو أنها لم تطهر إلا بعد طلوع الفجر بلحظة واحدة لم يصح صومها.ولو أنها طهرت قبل الفجر ونوت الصيام ولم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر فنقول: بأن صيامها صحيح.ولو أنها استيقظت من نومها ووجدت أنها طاهر لكن لا تدري هل طهرت قبل الفجر أو بعد الفجر فنقول: الأصل بقاء الحيض، وأن صومها لا يصح، ولو أن الدم انتقل معها لكن لم يخرج إلا بعد غروب الشمس، فإن صيامها صحيح.قال المؤلف رحمه الله: [وإن صامتا لم يجزئهما]، يعني: لو أن الحائض والنفساء صامتا، نقول: بأنه لا يجزئهما هذا الصيام، وتقدم حديث عائشة قالت: (كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة). بل لا يجوز لهما أن يصوما.
الحامل والمرضع
قال المؤلف رحمه الله: [الثالث, الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً]. الحامل والمرضع لهما ثلاث حالات:الحالة الأولى: أن تخافا على نفسيهما فحكمهما حكم المريض، يرخص لهما في الإفطار ويجب عليهما القضاء إذا خافتا على نفسيهما، والله عز وجل يقول: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].الحالة الثانية: أن تخافا على نفسيهما وولديهما فحكم هذه الحالة كحكم الحالة السابقة.الحالة الثالثة: أن تخافا على ولديهما فقط. هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله.الرأي الأول: كما قال المؤلف: أفطرتا، وقضتا، وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً, وهذا ما عليه جمهور العلماء: أنهما تفطران وتقضيان وتطعمان عن كل يوم مسكيناً، والإطعام يجب على ولي الطفل، وهذا ما عليه جمهور العلماء رحمهم الله تعالى.واستدلوا على ذلك بقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، قال ابن عباس : أُثبتت للحبلى والمرضع. يعني الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما تفطران وتقضيان وتطعمان عن كل يوم مسكيناً.وأيضاً ورد ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بإسناد صحيح. الرأي الثاني: أنه لا يجب عليهما الإطعام، وإنما يجب عليهما القضاء، تُفطر وتقضي كالقسمين السابقين، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع نصف الصلاة والصوم عن المسافر، وعن المرضع والحبلى الصوم)، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الإطعام، وبهذا قال الأوزاعي والزهري.الرأي الثالث: ذهب بعض السلف إلى أنها إذا خافت على ولدها أنها مخيرة بين أن تطعم وبين أن تقضي وهذا الرأي قال به إسحاق. والرأي الرابع: أنها مخيرة بين الإطعام والقضاء. وهذا قال به إسحاق.والأقرب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور العلماء، وأنها إذا خافت على ولدها تفطر.. يرخص لها بالفطر، ويجب عليها القضاء، بدليل القضاء، وتطعم لورود ذلك عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما ذكرنا عن ابن عباس وابن عمر بأسانيد صحيحة.قال: [وإن صامتا أجزأهما]. يعني: لو أن المرضع والحامل صامت أجزأهما كحكم وضعي يجزئهما.
العاجز عن الصيام
قال المؤلف رحمه الله: [الرابع: العاجز عن الصيام لكبر أو مرض لا يُرجى برؤه فإنه يُطعم عن كل يوم مسكيناً].إذا كان عاجزاً عن الصيام لمرض لا يُرجى برؤه، يعني: لا يُرجى زواله. بعض الأمراض عافانا الله وإياكم تكون مستعصية لا يرجى زوالها، مثل مرض السرطان أو نحو ذلك من الأمراض التي لم يتوصل المخلوق إلى علاجها؛ فإذا أفطر من أجل هذا المرض فإنه يُطعم عن كل يوم مسكيناً، ولا قضاء عليه؛ لأنه لا يمكن أن يقضي، لأنه مريض ولا يتمكن من ذلك.قوله: (لكِبر)، الكبر ماذا يعني؟ الهرم وليس له علاج، فإذا كان لا يستطيع أن يصوم لكبر فإنه يُطعم عن كل يوم مسكيناً، ودليل ذلك قول الله عز وجل: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184], قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما فليطعما مكان كل يوم مسكيناً.
ما يجب على من أفطر في رمضان
وما كيفية الإطعام؟ وما زمن الإطعام؟ وما جنس الطعام.. إلى آخره؟هذه مسائل تكلم عليها العلماء رحمهم الله، أما بالنسبة لكيفية الطعام فله كيفيتان على الصحيح: الكيفية الأولى: أن يملكهم حباً من غالب قوت البلد، وكما قال الله عز وجل في كفارة اليمين: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة:89]، يُملكهم حباً، يُملك كل مسكين ما يشبعه من الحب، ولو أعطى كل واحد كيلو مثلاً من الرز إذا كان في بلد يأكلون الرز أو من البُر.. إلى آخره، فإن هذا يجزئ.الكيفية الثانية: أن يصنع طعاماً، وأن يدعو المساكين إليه، كما فعل أنس رضي الله عنه لما كبر أفطر، وكان يصنع طعاماً ويدعو ثلاثين مسكيناً يُطعمهم الخبز واللحم.فهاتان كيفيتان، إما أن يُملكهم حباً، وإما أن يصنع طعاماً ويدعو المساكين إليه.
زمن الإطعام عن العاجز عن الصيام
ما هو زمن الإطعام؟زمن الإطعام هو كل يوم بيومه، أو أنه يؤخر الإطعام إلى آخر الشهر؛ لأنه لو قدمه في أول الشهر يكون قدم العبادة على سببها، فينتظر إما أن يُطعم كل يوم بيومه، أو أنه يؤخر الإطعام إلى آخر الشهر.وما جنس الطعام؟ وما قدره؟هذا كله لم يرد تقديره في الشرع.وجنس الطعام هل هو من التمر، من البُر، من الرز؟ هذه لم تُقدر شرعاً، وإنما هي مقدرة عُرفاً, فنقول: قدره نعطيهم من الحب الذي يشبع المسكين، وجنس الطعام هو ما يقتاته أهل البلد.. إلى آخره، وهذا يختلف باختلاف الزمان، ويختلف أيضا باختلاف المكان.وهل يجب أن يكون المساكين بعدد الأيام؟ أنه إذا أفطر ثلاثين يوماً يجب أن يطعم ثلاثين مسكيناً، إذا فعل ذلك فهذا أحوط، ولو أنه لم يفعل ذلك وردد طعام عشرة أيام على ثلاثة مساكين أو أربعة مساكين فهذا يجزئ إن شاء الله.قال المؤلف رحمه الله: ]وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير[. يعني: إذا أفطر الإنسان فإن عليه أن يقضي؛ لأن الله عز وجل هذا الذي أوجبه، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، يجب عليه أن يقضي ولا يجب عليه سوى ذلك.
ما يجب على من أفطر بجماع
قال المؤلف رحمه الله: [إلا من أفطر بجماع في الفرج فإنه يقضي ويُعتق رقبةً، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت].يعني الجماع أغلظ المفطرات وأشدها وآكدها حرمة، ولهذا وجبت فيه الكفارة المغلظة، فإذا جامع المسلم زوجته وهو ذاكر, عالم, مختار, ذاكر, جامع زوجته أو أمته، نقول: وجبت عليه الكفارة المغلظة مع القضاء.ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الرجل الذي وطء أهله في نهار رمضان، فأوجب عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعتق رقبة، قال: لا أجد، فأوجب عليه أن يصوم شهرين متتابعين، فذكر أنه لا يستطيع، ثم بعد ذلك أوجب عليه أن يُطعم ستين مسكيناً، المهم من جامع فإنه تجب عليه الكفارة المغلظة. لكن يُشترط -كما سيأتينا إن شاء الله في المفطرات- أن يكون ذاكراً, عالماً, مختاراً, فإن كان جاهلاً فلا تجب عليه الكفارة ولا يبطل صيامه، وإن كان مكرهاً كما لو أكره الزوج زوجته أيضاً لا تجب الكفارة ولا يبطل الصيام. ‏
تكرير الجماع قبل التكفير عن السابق
قال: [فإن جامع ولم يُكَفِر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة].صورة المسألة: جامع زوجته في أول النهار ولم يُكَفِر، ثم جامعها مرة أخرى في آخر النهار، فتجب عليه كفارة واحدة. وهذا كما ذكر صاحب الشرح الكبير أنه مما لا خلاف فيه بين أهل العلم، وهذا بناء على تداخل الكفارات، فإذا جامع ولم يُكَفِر حتى جامع مرة أخرى فإنه تجب عليه كفارة واحدة، ولا تتعدد الكفارة بتعدد الجماع. الصورة الثانية قال: [وإن كفر ثم جامع فكفارة ثانية]، جامع ثم كفر، كما لو أعتق رقبة، ثم جامع في نفس اليوم، تجب عليه كفارة ثانية.وذهب بعض أهل العلم أنه لا يجب عليه إلا كفارة واحدة، لكن يظهر والله أعلم أن ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله من أنه تجب كفارة ثانية هو الأقرب؛ لأنه لا يجوز له أن يجامع، وكونه أفطر بالجماع السابق فهذا فطر محرم يجب عليه أن يمسك، ولا يجوز له أن يجامع مرة أخرى.الصورة الثالثة: إذا جامع في يومين أو ثلاثة أيام. يعني: مثلاً جامع في اليوم وجامع في اليوم الخامس وفي اليوم السابع.. إلى آخره, فجمهور العلماء أنه تتعدد عليه الكفارات، فلو جامع في عشرة أيام وجب عليه عشر كفارات وهكذا، وهذا ما عليه جمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن كل يوم عبادة مستقلة بنفسها.والرأي الثاني في هذه المسألة: رأي الحنفية رحمهم الله، أنه تجب عليه كفارة واحدة فقط؛ لأنهم يعتبرون رمضان كعبادة واحدة، ومادام أنه لم يكفر تتداخل الكفارات. والله أعلم.
ضابط من تجب عليه كفارة الجماع
قال المؤلف رحمه الله: [وكل من لزمه الإمساك في رمضان فجامع فعليه كفارة].كل من لزمه الإمساك في نهار رمضان إذا جامع فعليه كفارة.مثال ذلك: رجل أفطر متعمداً في نهار رمضان بالأكل والشرب، يجب عليه إنه يمسك حتى وإن أفطر، لأن هذا الفطر غير مأذون فيه، وعلى هذا لو جامع نقول: بأنه تجب عليه الكفارة؛ لأنه يجب عليه أن يمسك، فلو أنه أفطر متعمداً ثم بعد ذلك جامع، نقول: تجب عليه الكفارة.لكن لو أن المسافر قدم في رمضان وقد أفطر في السفر فهل يجب عليه أن يمسك أو لا يجب عليه أن يمسك؟هذا موضع خلاف، والصواب أنه لا يجب عليه أن يمسك.ومثله أيضاً: لو أن المرأة طهرت في أثناء النهار لا يجب عليها أن تمسك.
تأخير قضاء رمضان حتى إدراك رمضان آخر
قال المؤلف رحمه الله: [ومن أخر القضاء لعذر حتى أدركه رمضان آخر فليس عليه غيره، وإن فرط أطعم مع القضاء لكل يوم مسكيناً].قضاء رمضان يجب على التراخي؛ لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان يكون عليّ الصيام من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لكن يتراخى إلى أن يبقى من رمضان الثاني قدر ما عليه من رمضان الأول، فإذا كان عليه خمسة أيام مثلاً من رمضان الأول فله أن يؤخر إلى أن يبقى خمسة أيام من رمضان التالي، ولا يجوز له أن يتعدى ذلك.طيب! لو أنه أخر القضاء حتى جاء رمضان التالي، فيجب عليه أولاً أنه يتوب إلى الله عز وجل، إذا كان لغير عذر؛ لأنه لا يجوز أن يؤخر العبادة حتى تأتي العبادة الأخرى، فيجب عليه أن يتوب، ويجب عليه أن يقضي إذا خرج رمضان التالي.وهل يجب عليه أن يُطعم عن كل يوم مسكيناً؟قال لك المؤلف: (إن كان لعذر)، كأن يكون مريضاً استمر به المرض حتى جاء رمضان التالي، أو استمر به سفر حتى جاء رمضان التالي، إذا كان لعذر، فإنه لا يجب عليه فدية كفارة، وإن كان لغير عذر وإنما فرط، فجمهور العلماء أنه يجب عليه أن يقضي الصيام وأن يُطعم عن كل يوم مسكيناً.وهذا وارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم منهم: ابن عباس ، وابن عمر ، وأيضا ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه، وغيرهم عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.وعند أبي حنيفة أنه لا يجب عليه أن يطعم، وإنما فقط يقضي؛ لأن الله عز وجل قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فأوجب الله عز وجل عدة ولم يوجب غير هذه العدة.
من مات وعليه صوم
قال المؤلف رحمه الله: [وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه، وإن كان لغير عذر أُطعم عنه لكل يوم مسكين].يعني هذا الرجل الذي عليه صيام من رمضان ولم يقض هذا الصيام لو أنه استمر به العذر، كرجل مرض في رمضان واستمر مريضاً حتى دخل شوال، ثم مات في العاشر من شوال وهو مريض فهذا لا شيء عليه، لأن الله عز وجل أوجب عليه عدة من أيام أخر، وهذا ما أدرك حتى الآن عدة من أيام أخر؛ لأنه لا يزال مريضاً، إلا إذا كان المرض لا يُرجى بُرؤه فإن الواجب الإطعام، يُطعم عنه، فإذا كان المرض يُرجى بُرؤه أو كان مسافراً سافر في آخر رمضان في الخامس والعشرين من رمضان، واستمر مسافراً حتى دخل شوال، ثم مات في الخامس من شوال وهو لا يزال مسافراً فهذا لا شيء عليه، لأن الله سبحانه وتعالى أوجب عليه أن يقضي عدة من أيام أخر، وهو الآن ما أدرك عدة من أيام أخر، فلا يجب عليه.وإن كان لغير عذر، أفطر خمسة أيام في رمضان، وأدرك عدة من أيام أخر لكنه ما قضى، وتوفي في اليوم العاشر، فيقول المؤلف رحمه الله: ] أُطعم عنه لكل يوم مسكين[، يعني: يُطعم عنه لكل يوم مسكين.وهل يُصام عنه أو لا يُصام عنه؟والصواب أن الولي مخير بين الصيام وبين الإطعام؛ لحديث عائشة وحديث ابن عباس : (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، ونقول للولي: أنت مخير إما أن تُطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ترك تركة، وإلا تصوم عن الميت.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 03:29 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصيام [3]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(44)


للصيام مفسدات من ارتكبها فقد بطل صومه، ومنها ما يوجب القضاء مع التوبة، ومنها ما يوجب القضاء مع الكفارة، ومن أكل أو شرب ناسياً أو مخطئاً أو مكرهاً فصومه صحيح، وهذا من يسر الشريعة الإسلامية السمحة.
تابع ما يجب على من أفطر في رمضان
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتاب الصيام: [وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه، وإن كان لغير عذر أطعم عنه لكل يوم مسكيناً إلا أن يكون الصوم منذوراً فإنه يصام عنه، وكذلك كل نذر طاعة].تكلمنا بالأمس عن شيء من أحكام الرؤية، وذكرنا من هذه الأحكام: إذا رؤي الهلال في بلد فهل يجب على جميع الناس الصيام أو أنه لا يجب عليهم كلهم، ويجب على البلد الذي يوافق بلد الرؤية في مطلع الهلال؟ وتكلمنا على هذه المسألة، وذكرنا كلام أهل العلم رحمهم الله، وأيضاً تكلمنا عن حكم رؤية الهلال نهاراً وأنه لا عبرة بها، وكذلك أيضاً ما يتعلق بصيام المريض والمسافر والحامل والمرضع والحائض والنفساء ... إلى آخره.قال المؤلف رحمه الله: (من ترك القضاء...) إلخ.من مات من عليه صيام لا يخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يكون الصيام وجب بالنذر، كما لو نذر أن يصوم يوماً أو يومين وتمكن من الصيام ولم يصم، فإنه يُشرع لوليه أن يقضيه عنه كما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى، وقد روى البخاري (أن امرأةً سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمها وأنها ماتت وعليها صوم نذر، قالت: أفأقضيه عنها؟ قال: نعم, فديْن الله أحق أن يُقضى).الأمر الثاني: أن يكون الصيام الذي وجب على الميت وجب بأصل الشرع كصيام رمضان، وجب عليه صيام رمضان وأفطر لعذر، ثم بعد ذلك تمكن من القضاء ولم يصم حتى مات، هل يقضى عنه أو لا يقضى عنه؟ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يقضى عنه، وهذا ما عليه جمهور العلماء رحمهم الله، وأن ما وجب بأصل الشرع لا يقضى. والرأي الثاني: وهو قول الظاهرية واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم ، أنه يقضى عنه؛ لعموم حديث ابن عباس وعائشة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صامَ عنه وليه).ونبهنا بالأمس إلى أن من أفطر في رمضان لعذر لا يرجى زواله، ثم بعد ذلك مات فهذا لا إشكال بأنه يطعم عنه؛ لأن الواجب عليه هو الإطعام، وإن أحب وليه أن يصوم عنه أيضاً يصوم لعموم الأحاديث، لكن إذا كان الفطر لعذر يرجى زواله، وتمكن من القضاء فمات ولم يقض، وخلَّف تركة، فعند أكثر أهل العلم أنه لا يصام عنه، بل يطعم عنه. والرأي الثاني: أن لوليه أن يصوم عنه؛ لما ذكرنا من عموم حديث ابن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهما.قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وكذلك كل نذر طاعة)، يقول المؤلف: كل نذر طاعة نذرها المسلم ومات ولم يوفها فإنه يستحب لوليه أن يقضيها، فمثلاً لو نذر أن يصلي ركعتين، وقبل أن يصلي هاتين الركعتين مات، وقد تمكن من الصلاة، فنقول: يستحب لوليه أن يقضي عنه هاتين الركعتين.كذلك أيضاً لو نذر أن يحج أو يعتمر أو يقرأ القرآن أو يتصدق ونحو ذلك, فإذا مات قبل أن يفعل هذه الأشياء، وقد تمكن منها، فإنه يستحب لوليه أن يقضيها عنه؛ لأن هذا النذر أصبح دينا في الذمة، والنبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في صحيح البخاري يقول: (فديْن الله أحق بالوفاء).إذا نذر صدقة فإن كان خلف تركة يجب أن تخرج هذه الصدقة من التركة، لكن إذا ما خلف تركة يستحب لوليه أن يقضي هذه الصدقة عنه؛ لأنها أصبحت ديناً ولا يجب عليه.
مفسدات الصوم

الأكل والشرب وما يقوم مقامهما
قال المؤلف رحمه الله: [باب ما يفسد الصوم]. لما تكلم المؤلف رحمه الله عن الصوم, وعلى من يجب عليه الصوم, وعن أقسام الناس في الصوم, وعن شروط صحة الصيام, ومتى يجب الصيام... إلى آخره، شرع المؤلف رحمه الله في بيان مفسدات الصيام، أي: مفطرات الصيام.قال المؤلف رحمه الله: [ومن أكل أو شرب].الأول من المفطرات: الأكل، وقد قال العلماء رحمه الله في ضابطه الأكل هو إيصال جامد إلى الجوف، والأكل مفطر بالإجماع، ويدل لهذا قول الله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:60] . ومن السنة حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي فأكل أو شرب وهو صائم فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه)، فعذره بالنسيان دليل على أنه لا يُعذر بغير النسيان.قال: (أو شرب)، أيضاً الشرب هذا المفطر الثاني، إذا شرب فإنه ينتقض صيامه، وقد دل عليه القرآن والسنة والإجماع كما سلف، والشرب يقول العلماء: هو إيصال مائع إلى الجوف.الثالث من المفطرات: ما يقوم مقام الأكل مما استجد اليوم من الحقن، فنقول: ما يقوم مقام الأكل ويغني عن الأكل والشرب مما استجد من الحقن الغذائية تنقض الصيام، وعلى هذا نفهم أن الإبر والحقن التي يأخذها الصائم أنها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: حقن مغذية يكتفي بها الجسم عن الطعام والشراب، فهذه تفسد الصيام.والقسم الثاني: حقن غير مغذية لا يستغني الصائم فيها عن الطعام والشراب، فنقول: هذه لا تفسد الصيام.
السعوط
قال المؤلف رحمه الله: [أو استعط].السعوط هو صبُّ الدواء في الأنف؛ لأن الأنف طريق إلى المعدة، فإذا صب الدواء في أنفه فيقول لك المؤلف رحمه الله: بأنه مفطر، وهذا هو المفطر الرابع، ويدل لذلك حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم الصائم أن يبالغ في الاستنشاق؛ لأن هذه المبالغة تؤدي إلى أن يدخل شيء من الماء إلى الجوف، مما يدل على أن الأنف طريق إلى المعدة، وعلى هذا نقول: بأن الصائم لا يستعمل قطرة الأنف، لا يستعمل قطرة الأنف.وأما ما يتعلق بقطرة الأذن أو قطرة العين فهذه الأشياء لا تضر؛ لأن العين ليست منفذاً معتاداً إلى الجوف، وكذلك أيضاً الأذن، لكن الأطباء يقولون بالنسبة للأذن: إذا كانت الطبلة قد خرقت فإن الأذن تكون منفذاً إلى الجوف، أما إذا لم يحصل شيء من ذلك فإنها لا تكون منفذاً إلى الجوف، والمقصود بالجوف هنا هو المعدة.
وصول شيء إلى المعدة
قال المؤلف رحمه الله: [أو وصل إلى جوفه شيء من أي موضع كان].هذا المفطر الخامس, وما المقصود بالجوف؟قصدهم بالجوف كل مجوف في البدن، وليس المقصود المعدة:فلو وصل إلى معدته شيء، هذا مجوف يُفطر.إذا وصل إلى دماغه شيء، هذا مجوف يفطر.إذا وصل إلى حلقه شيء يفطر؛ لأنهم يرون أن الجوف أعم من المعدة. والصواب في ذلك أن المناط هو المعدة، وأنه إذا وصلت هذه الأشياء إلى المعدة يفطر؛ لأن المعدة هي التي تطبخ هذه الأشياء وتستحيل إلى دم يتقوى به البدن، فنقول: الصواب في ذلك أن المناط هو المعدة، وعلى هذا إذا وصل إلى مجوف في البدن ولم يصل إلى المعدة فإنه لا يضر.فعندنا المفطر الخامس: إيصال شيء إلى المعدة، إذا ما وصل إلى المعدة فإنه لا عبرة به، وبهذا نفهم حكم ما سيذكر المؤلف رحمه الله تعالى لو قطر في إحليله, لو قطر في إحليله فإن المسالك البولية ليست طريقاً إلى المعدة، وعلى هذا ما يؤخذ من التحاليل ونحو ذلك عن طريق الفرج لا تضر، أو القسطرة التي تكون عن طريق الفرج لا تضر؛ لأن المرأة قد تحتاج إلى قسطرة، وكذلك الرجل عن طريق الذكر قد يحتاج إلى قسطرة, فنقول: مثل هذه الأشياء لا تضر، وكذلك أيضاً ما يتعلق بالقسطرة التي تؤخذ عن طريق الفم، وتصل إلى المعدة، وقد يحتاج الطبيب إلى أن يدخل مثل هذه الآلات إلى المعدة لكي يأخذ منها شيئاً للتحليل، أو لكي يصور المعدة هل فيها شيء من القروح ونحو ذلك؟ فإذا وصلت مثل هذه الآلات إلى المعدة، فإن كان فيها شيء تطبخه المعدة كدهونات ونحو ذلك، ويستحيل دماً، فإنه يفطر، وإن لم يكن شيء من ذلك فإنه لا يفطر.كذلك أيضاً ما يتعلق بالحقن التي تؤخذ عن طريق الدبر لا تضر إن شاء الله، كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأن هذا ليس طريقا معتاداً إلى المعدة.
القيء عمداً
قال المؤلف رحمه الله: [أو استقاء فقاء].يعني: تعمد إخراج ما في بطنه من الطعام، فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: هذا مفطر، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم رحمهم الله، وقد استدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فليقض)، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهم، ولكن قال البخاري رحمه الله: ليس محفوظاً، هذا الحديث منكر، ولكنه ثبت عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن القيء مفطر.الرأي الثاني: أن القيء ليس مفطراً، وقال به بعض السلف مثل عكرمة وربيعة ، وهو رواية عن الإمام مالك رحمه الله تعالى, وقد جاء عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم كـأبي هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم، والأصل هو بقاء الصيام وصحته.لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: بأن استقراء النصوص يدل على أن ما فيه استفراغ مفطر، وعلى هذا نقول: الأحوط إذا تعمد القيء -إخراج ما في البطن- أنه يقضي، هذا الأحوط.
الاستمناء
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أو استمنى].يعني: استدعى خروج المني، فإذا استمنى فإنه يفطر، وهذا هو المفطر السابع، وسواء كان الاستمناء بجسمه، أو باشر زوجته حتى أخرج المني، فنقول: بأنه يفطر، ويدل لذلك الحديث القدسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)، وإخراج المني هو تمام الشهوة، فقال: (وشهوته من أجلي)، وعلى هذا إذا حصل من الصائم الاستمناء فإنه ينتقض عليه صومه.قال المؤلف رحمه الله: [أو قبل أو لمس فأمنى].هذا المفطر السابع, إذا قبل أو لمس، يعني: إذا باشر زوجته، يجوز للزوج أن يباشر زوجته؛ لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملككم لإربه)، يعني لحاجته، وقال بعض العلماء: لعضوه، فنقول: بأن الانسان إذا باشر زوجته حتى خرج منه المني فإنه ينتقض عليه صيامه؛ لما تقدم من حديث أبي هريرة : (وشهوته من أجلى). وعلى هذا نفهم أن مباشرة الزوجة في حال الصيام جائز إلا إذا كان الزوج يظن أنه إذا باشر زوجته سيؤدي به ذلك إلى الجماع، أو إلى خروج المني، فنقول: بأن هذا لا يجوز؛ لأن مثل ذلك محرم؛ لأنه نقض لهذه العبادة الواجبة، وما كان وسيلة إلى محرم فإنه يكون محرماً.
الإمذاء
قال المؤلف رحمه الله: [أو أمذى].هذا المفطر الثامن, يعني: إذا باشر زوجته حتى أمذى، فيقول المؤلف: يفسد عليه صومه، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.والرأي الثاني: أن خروج المذي لا يفطر؛ لأن الأصل صحة الصيام، وهذا القول هو الصواب، وأما قوله: (وشهوته). فإن خروج المذي لا يحصل به تمام الشهوة، وإن كان يحصل به شيء من الشهوة فإن مجرد المباشرة فيها شهوة، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها، فخروج المذي وإن كان يحصل فيه شيء من الشهوة، لكنه لا يحصل به تمام الشهوة، وعلى هذا فلا ينقض الصيام.
خروج المني بسبب تكرير النظر
قال المؤلف رحمه الله: [أو كرر النظر حتى أنزل].إذا كرر النظر حتى أنزل, يعني: نظر إلى زوجته وكرر النظر حتى خرج منه المني، فهذا داخل فيما تقدم من قول الله عز وجل: (وشهوته من أجلى)، ويفهم من كلام المؤلف رحمه الله أنه لو حصل منه إنزال بنظرة واحدة لا يفسد عليه صومه؛ لأن الإنسان له الأولى وليست له الآخرة، فنقول: إذا كرر النظر حتى أنزل انتقض صيامه، لو أنه أنزل بنظرة فإن صيامه لا ينتقض عليه، وهذا هو المفطر التاسع.لو أنه أنزل في حال الاحتلام في حال النوم، نقول: هذا لا يضر؛ لأن النائم قد رفع عنه القلم.كذلك أيضا: لو أنه أنزل بالتفكر في أمور الجماع، يعني: فكر في أمر الجماع حتى أنزل فنقول أيضاً: هذا لا يضره؛ لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل).
الحجامة
قال المؤلف رحمه الله: [أو احتجم عامداً ذاكراً لصومه فسد].هذا العاشر من المفطرات، وهي الحجامة، إذا احتجم أخرج الدم بالحجامة، فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: بأنه يفسد عليه صومه, وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ، ودليل ذلك حديث شداد وحديث ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم).بالنسب ة للمحجوم واضح أنه يفطر من أجل الضعف الذي يلحقه، لكن بالنسبة للحاجم كيف يكون فطره مع أنه ما خرج منه دم؟ شيخ الإسلام قال: بأن الحاجم أفطر لأنهم كانوا في الزمن السابق إذا أراد أن يحجم فإنه يضع المحاجم في مكان الحجامة، ثم يقوم الحاجم بالمص، في أثناء المص قد يتطاير إلى حلقه شيء من الدم فيفطر بهذا الدم.على كل حال المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى أن الحجامة مفطرة, ويفطر الحاجم والمحجوم، أما الحاجم فكما تقدم من كونه يقوم بمص الدم، وأما المحجوم فلكونه أخرج الدم الذي هو خلاصة الطعام والشراب، فيلحقه الضعف، فنقول: كُل واشرب.الحنابلة يقولون: العلة تعبدية، لكن إذا أخذنا بالعلة التي ذكرها شيخ الإسلام وأن إفطار الحاجم لكونه يقوم بمص الدم، فإذا كانت الحجامة -كما في وقتنا الآن- تكون عن طريق الآلات فإن الحاجم لا يفطر، وإنما يكون الفطر للمحجوم.الرأي الثاني في هذه المسألة، وهو ما عليه جماهير أهل العلم: أن الحجامة لا تفطر، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم، واستدلوا على ذلك بأدلة، من هذه الأدلة أن أنساً رضي الله تعالى عنه سئل: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال:لا، إلا من أجل الضعف.وأجاب الذين قالوا: بأن الحجامة مفطرة عن ذلك بأن قوله: لا تكره أي إذا احتاج إليها، يعني من اعتاد هذه الحجامة إذا زاد عنده الدم يحتاج إلى إخراج الدم, ويكون بقاء الدم فيه عليه ضرر، فإذا احتاج إليها فإنه يكون في حكم المريض، ويأخذها، وإذا لحقه الضعف فإنه يفطر.والجمهور الذين قالوا: بأن الحجامة ليست مفطرة، أجابوا عن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) بأنه لا يثبت، حديث ثوبان وشداد وغيرهما وله شواهد كثيرة.على كل حال الخلاصة في هذه المسألة: أن عندنا رأيين:الرأي الأول: ما يتعلق برأي الحنابلة، وهو ما مشى عليه المؤلف، أن الحجامة مفطرة، والرأي الثاني: رأي جمهور أهل العلم، أن الحجامة ليست مفطرة.ويمكن أن يقال: الراجح وسط بين القولين، يقال: يُنظر إلى حال المحجوم، المحجوم إذا لحقه ضعف، بسبب خروج الدم، إذا أحس بشيء من الضعف ونحو ذلك فنقول: أفطر الآن، وإن لم يحس بشيء من ذلك إلى آخره، فيظهر -والله أعلم- أن الأصل صحة الصيام. أما ما يتعلق بخروج الدم كما لو حصل له جرح فخرج دمه أو شيء من الرعاف أو انقلع سنه أو أخذ منه شيء للتحليل ونحو ذلك فمثل هذه الدماء اليسيرة نقول: بأنها لا تضر.
الإفطار نسياناً أو إكراهاً
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن فعله ناسياً أو مكرهاً لم يفسد صومه].هذه قاعدة في سائر المنهيات، ومنها مفسدات الصيام، سائر المنهيات في الشريعة لا يترتب عليها أثرها إلا بثلاثة شروط، لابد من ثلاثة شروط:الشرط الأول: الذكر، وعلى هذا إذا فعل مفطراً من مفطرات الصيام وهو ناسٍ فإنه لا شيء عليه، لو أكل أو شرب أو احتجم وهو ناسٍ، أو جامع وهو ناسٍ ونحو ذلك، فهذا لا شيء عليه، دليله ما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( من نسي فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه).الشرط الثاني: أن يكون عالماً، وعلى هذا إذا كان جاهلاً بالحكم الشرعي أو جاهلاً بالحال، فإنه لا شيء عليه، جاهل بالحكم الشرعي لايدري أن الحجامة مفطرة مثلاً، لا يدري أن الاستمناء مفطر إلى آخره، جاهل بالحكم الشرعي، نقول: بأن صيامه صحيح، أو هو جاهل بالحال، يظن أنه ليل فبان نهاراً، مثلاً احتجم يظن أن الشمس قد غربت أو أن الفجر لم يطلع، هو الآن جاهل بالحال، أو أكل يظن أن الشمس قد غربت، أو أن الفجر لم يطلع، نقول هنا: لا شيء عليه.وأيضاً نفهم أن الجهل بالعقوبة لا أثر لها، فمثلاً لو أن شخصاً جامع أهله في نهار رمضان, وقال: أنا أعلم أن الجماع ما يجوز في رمضان، لكن ما كنت أدري أن فيه عتق رقبة، فإن لم أجد صمت شهرين متتابعين، ما كنت أدري بهذه العقوبة المغلظة، فإن لم أستطع أطعمت ستين مسكين، نقول: الجهل بالعقوبة لا أثر له، يعني العلم بالعقوبة ليس شرطاً، بل تجب عليك الكفارة؛ لأنك تعديت حدود الله عز وجل، أنت مفرط متعدٍ ما دمت تعلم أنه حرام، كان الواجب أن تقف عند حدود الله عز وجل، فكونك متعدياً، هذا لا يعذرك أمام الله عز وجل حتى لو كنت تجهل العقوبة.الشرط الثالث: أن يكون مختاراً، وعلى هذا إذا أُكره على شيء من المفطرات، أو شيء من المنهيات في سائر الشريعة، أكره بضرب أو نحو ذلك، فنقول: بأنه لا شيء عليه، لو أكره على الأكل أو أكره الزوج زوجته على الجماع، نقول: لا شيء عليها، وصيامها صحيح ولا كفارة، أو أكره على الأكل أو أن يأكل في الصلاة أو يتكلم، نقول هنا: لا شيء عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في أعظم المنهيات الكفر: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].وأما العلم فقول الله عز وجل: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] ، ولأن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه أكل بعد طلوع الفجر وهو جاهل بالحال، ومع ذلك عذره النبي صلى الله عليه وسلم.
ما يفسد الصوم
قال المؤلف رحمه الله: [وإن طار إلى حلقه ذبابٌ أو غبارٌ أو تمضمض أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء، أو فكر فأنزل، أو قطر في إحليله، أو احتلم، أو ذرعه القيء لم يفسد صومه].هذه مسائل لا يفسد فيها الصيام، قال: إذا طار إلى حلقه ذباب أو غبار، أو شيء من الدخان مثلاً العامل يعمل ونحو ذلك فطار إلى حلقه شيء من الغبار، نقول: هذا لا يضره؛ لأنه لم يختر ذلك، وكما ذكرنا من الشروط أن يكون مكرهاً، أو مثلاً الطحان طار إلى حلقه شيء من غبار الطحين ونحو ذلك، نقول: بأن هذا لا يضر.قال: (أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء).أيضاً لو استنشق ووصل؛ لأنه مأذون له في ذلك، وما ترتب على المأذون غير مضمون.قال: (أو فكر) كما تقدم الدليل على ذلك.قال: (أو قطر في إحليله).الإحليل هو الذكر، فإذا قطر في إحليله، يعني أدخل الدواء في ذكره عن طريق ثقب الذكر، فنقول: بأنه لا شيء عليه؛ لأن المسالك البولية ليس لها منفذ إلى المعدة.قال: (أو احتلم).كما تقدم في حديث عائشة أن النائم قد رفع عنه القلم.قال: (أو ذرعه القيء). (لا يفسد صوم من ذرعه القيء)، كما سلف في حديث أبي هريرة وإن كان ضعيفاً، لكنه هنا غير مختار، وكما ذكرنا أنه لابد من شروط ثلاثة: الذكر والاختيار والعلم.
الأكل مع ظن بقاء الليل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن أكل يظنه ليلاً فبان نهاراً أفطر، ومن أكل شاكاً في غروب الشمس فسد صومه].هذه المسألة تحتها صورتان: الصورة الأولى: أكل يظن أن الفجر لم يطلع، وأن الليل لا يزال باقياً، ثم بعد ذلك أن أكل تبين له أن الفجر قد طلع، هو يظن أنه ليل، ثم بعد ذلك تبين له أن الفجر قد طلع، فعلى كلام المؤلف رحمه الله يقول: أفطر, وهذا ما ذهب إليه المؤلف. لماذا أفطر؟لأنه أكل بعد طلوع الفجر، وكان الواجب عليه أن يمسك، فيفسد صومه. والرأي الثاني وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه لا فطر عليه وأن صيامه صحيح؛ لأن الأصل بقاء الليل، وفي حديث أسماء أنهم أفطروا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم غيم، ولم يذكر أنهم قضوا، يعني هم ظنوا أن الشمس قد غربت وأفطروا، يظنون أنه ليل، ثم تبين أن الشمس لم تغرب.أفطروا بناء على أنه ليل، وأن الشمس قد غربت، فتبين أن الشمس لم تغرب، فـشيخ الإسلام يقول: ما ذكر أنهم أمروا بالقضاء، ولو أمروا بالقضاء لنقل، ولأن الأصل بقاء الليل. الصورة الثانية: إذا أفطروا ظناً منهم أن الشمس قد غربت، ثم يتبين أن الشمس لم تغرب، أيضاً موضع خلاف، على كلام المؤلف يجب القضاء؛ لأنهم أكلوا في النهار، الواجب عليهم الإمساك إلى غروب الشمس.والرأي الثاني: أنه لا يجب عليهم القضاء؛ لحديث أسماء رضي الله تعالى عنها، وورد عن عمر رضي الله تعالى عنه القضاء وعدم القضاء، اختلفت الرواية عن عمر رضي الله تعالى عنه.والصواب أنه لا يجب عليهم القضاء؛ لأنهم مأذون لهم في الإفطار، إذا ظن غروب الشمس يؤذن له في أن يفطر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم.وعندنا مسألة أخرى إذا شك في طلوع الفجر، أو شك في غروب الشمس، إذا شك في طلوع الفجر لا يدري هل الفجر طلع أو لم يطلع؟ فنقول: له أن يأكل، فلو أكل ثم تبين أن الفجر طلع فإن صيامه صحيح؛ لأن الأصل بقاء الليل، ولأنه مأذون له في الأكل، فإذا شك في طلوع الفجر لا يدري هل الفجر طلع أو لم يطلع؟ نقول: إذا أكل مع الشك ثم تبين أن الفجر قد طلع، وأنه أكل بعد الفجر فنقول: بأن صيامه صحيح، لأنه مأذون له في الأكل، والقاعدة أن ما ترتب على المأذون فهو مضمون؛ ولأن الأصل بقاء الليل، والله سبحانه وتعالى يقول: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] ، لابد من التبين، ومن باب أولى لو أنه تبين أنه أكل قبل الفجر أو لم يتبين شيء فصيامه صحيح.
الأكل مع الشك في غروب الشمس
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن أكل شاكاً من غروب الشمس فسد صومه].إذا شك في غروب الشمس لا يجوز له أن يأكل؛ لأن الأصل بقاء النهار، حتى يظن أن الشمس قد غربت، وعلى هذا إذا شك في غروب الشمس، ثم بعد ذلك تبين له أنه أكل قبل الغروب، أو تبين أو لم يتبين له شيء يجب عليه القضاء؛ لأنه لم يؤذن له في أن يأكل ما دام أن الشك موجود؛ لأن الأصل بقاء النهار، فإذا شك في غروب الشمس له ثلاث حالات:أن يتبين أنه أكل بعد الغروب فصيامه صحيح مع التوبة، تبين أنه أكل قبل الغروب فصيامه فاسد، لم يتبين له شيء صيامه أيضاً فاسد؛ لأنه لا يجوز له أن يأكل مع الشك في غروب الشمس؛ لأن الأصل بقاء النهار.إذاً: الصواب أن صيامه صحيح إذا أكل يظن غروب الشمس؛ لأن له أن يأكل مع الظن كما تقدم في حديث أسماء رضي الله تعالى عنها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم أكلوا يظنون غروب الشمس، ثم بعد ذلك تبين أن الشمس لم تغرب، لأنه لو كانت الشمس غربت ما طلعت الشمس.وبهذا نفهم أن الإنسان إذا ظن غروب الشمس ثم أكل، مثلاً سمع مؤذناً والمؤذن قد أخطأ، وظن أن الشمس قد غربت بناء على أن المؤذن أذَّن وأكل، فنقول: بأن صيامه صحيح، أو أنه رأى إلى الساعة، والساعة فيها خطأ، وظن أن الشمس غربت بناء على الساعة, أو أخطأ في النظر للساعة، وبناء على أن الشمس قد غربت، أو أخطأ في النظر إلى التقويم ونحو ذلك، فنقول: بأن صيامه صحيح؛ لأنه أكل يظن أنه ليل، فما دام أنه يظن أنه ليل، فإن صيامه صحيح.
صيام التطوع

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صوم التطوع
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب صيام التطوع:أفضل الصيام صيامُ داود].التطوع مأخوذ من الطوع، وهو ضد الكره.وأما في الاصطلاح: فهو فعل عبادة غير واجبة.واعلم أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صيام التطوع ينقسم إلى أقسام:القسم الأول: تطوع واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صيام ثلاثة أيام من كل شهر، هذه الثلاثة الأيام واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث عبد الله بن عمرو : (أنها تعدل صيام الدهر), لأن الإنسان إذا صام ثلاثة أيام، الحسنة بعشر أمثالها، فإذا صمت من الشهر ثلاثة أيام كأنك صمت الدهر، وإذا صمت الشهر كأنك صمت السنة.فالقسم الأول: تطوع داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: بأن هذا التطوع الذي داوم عليه صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وهو وصية النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة أوصى بذلك أبا هريرة وأبا الدرادء وأبا ذر وعبد الله بن عمرو وقتادة بن ملحان ، وذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يبالي صامها من أول الشهر أو في وسطه أو في آخره أو فرقها أو تابعها، لو صام يوماً في أول الشهر ويوماً في وسطه ويوماً في آخره فإن هذا مجزئ، نقول: بأن هذا كله مجزئ.القسم الثاني: تطوع رغَّب فيه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ عنه، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فضله وأجره لكن ما حفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مثل: صيام يوم وإفطار يوم، وهو صيام داود، هذا أفضل الصيام، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.كذلك صيام شهر الله المحرم، النبي صلى الله عليه وسلم بين فضله، وأن أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، لكن ما حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صامه.كذلك صيام يوم الإثنين، النبي صلى الله عليه وسلم (سئل عن صيام يوم الإثنين؟ فقال: ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه أو أنزل عليّ فيه)، ومع ذلك ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم على صيامه.فنقول: هذا صيام رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم وبين فضله، لكن ما حفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام، نقول: فيه الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى، لكنه ما حفظ عنه الصوم فيه، الذي حفظ كما ذكرنا في القسم الأول.القسم الثالث: صيام أكثر منه النبي صلى الله عليه وسلم وهو صيام شعبان، النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من صيام شعبان، تقول عائشة : (وما رأيته أكثر منه صياما في شعبان).القسم الرابع والأخير: أن النبي صلى الله عليه وسلم تارة يسرد الصوم، وتارة يسرد الفطر حسب تخفف النبي صلى الله عليه وسلم من الحاجات، ولهذا كما ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في أنواع من الصيام ولم يصمها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تتعلق به مسئوليات كثيرة من الدعوة والجهاد وتعليم الناس والحكم بينهم، وقد لا يتمكن أن يصوم شهر الله المحرم، قد لا يتمكن أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، قد لا يتمكن من صيام ستة أيام من شوال. فنقول: القسم الرابع: سرد الصوم حسب التخفف من المشاغل، ولهذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (وكان يصوم حتى نقول: لا يفطر، وكان يفطر حتى نقول: لا يصوم)، فتارة النبي صلى الله عليه وسلم إذا تخفف من الأعمال سرد الصوم, وإذا لحقته المشاغل سرد الفطر.فتلخص لنا أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صيام التطوع أنه ينقسم إلى هذه الأقسام الأربعة، ومن رحمة الله عز وجل شرعية مثل هذا الصيام؛ لأن صيام رمضان ركن، وهذا الركن قد يلحقه شيء من السهو والغفلة والتقصير والتفريط ونحو ذلك، فصيام التطوع هذا يرقع به ما حصل من خلل في صوم الفرض.
أفضل الصوم
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، هذا أفضل الصيام، عبد الله بن عمرو كان يسرد الصيام، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى صيام داود أن يصوم يوماً ويفطر يوماً.قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صُم يوماً وأفطرْ يوماً، فذاك صيام داود عليه السلام وهو أفضل الصيام، قال عبد الله : إني أطيق أفضل من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك)، كما في الصحيحين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي يدعونه المحرم)، كما ثبت في صحيح مسلم . قال المؤلف رحمه الله: [وما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة].ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما العمل الصالح في أيام أفضل منه في هذه الأيام، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع بشيء).فهذا يدل على فضيلة الصيام في الأيام الأول من شهر ذي الحجة.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 03:34 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصيام [4]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(45)


لقد شرع الصيام فرضاً ونفلاً، وما ذلك إلا لعظيم أجره وكثرة فوائده، ومما ندب إلى صيامه: صيام الست من شوال، وأيام البيض، والإثنين والخميس، ويوم عرفة، وعاشوراء، وشهر المحرم، ومما يستحب للمسلم الاعتكاف وله أحكام وآداب.
تابع صيام التطوع
كنا في الدرس السابق شرعنا في أحكام صيام التطوع، وذكرنا أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التطوع ينقسم إلى أربعة أقسام:القسم الأول: تطوع حافظ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صيام ثلاثة أيام من كل شهر.القسم الثاني: تطوع رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُحفظ عنه، كصيام يوم وإفطار يوم، وكصيام شهر الله المحرم، وكصيام الإثنين ... إلى آخره.والقسم الثالث: تطوع أكثر منه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صيام شهر شعبان.والقسم الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسرد الصوم، إذا وجد الفراغ سرد الصوم كما ذكرت عائشة : (كان يصوم حتى نقول: لا يُفطر، ويُفطر حتى نقول: لا يصوم)، فكان أحياناً يسرد الصوم، وأحياناً يسرد الفطر حسب ما يتعلق به عليه الصلاة والسلام من أعمال.
صوم الست من شوال
قال المؤلف رحمه الله: [ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله].ودليل ذلك ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله)، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، وستة أيام بشهرين، فيكون كأنه صام الدهر كله.وهل الأفضل أن يوالي هذه الست مع رمضان أو أنه يفصلها عن رمضان؟هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله، والذي يظهر -والله أعلم- أن السنة أن يواليها؛ لظاهر الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم أتبعه ستاً من شوال)، فيتمكن المسلم أن يُتبع هذه الأيام الستة برمضان مباشرة، فهذا يظهر أنه أفضل، ولأنه أسرع في الخير، وأحوط لصيام هذه الأيام. وهل إذا كان عليه قضاء يُقدم هذه الأيام الستة على القضاء أم أنه لابد أن يقضي أولاً؟نقول: لابد أن يقضي أولاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال)، وإذا صام هذه الأيام الستة قبل أن يقضي عليه، فإنه يكون قد أتبع هذه الأيام بعضاً من رمضان، ولم يكن مُتبعاً لرمضان، وإنما أتبع بعضاً من رمضان، فهذا هو الأقرب في هذه المسألة، وسواء صام هذه الأيام الستة متتابعة أو متفرقة.
صوم عاشوراء
قال المؤلف رحمه الله: [وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة].يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، يقول المؤلف رحمه الله: صيامه كفارة سنة، ودليل ذلك حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوم عرفة يُكفر سنتين، سنة ماضية ومستقبلة وصوم يوم عاشوراء يُكفر سنة ماضية)، رواه مسلم .فيوم عاشوراء يُكفر سنة، وهو كما ذكرنا اليوم العاشر من شهر الله المحرم، ويُستحب أن يصوم قبله اليوم التاسع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع).هذا أفضل شيء أن يصوم التاسع والعاشر، ولو أنه اقتصر على صيام يوم عاشوراء وأفرده فإن هذا لا يُكره، يعني لا بأس أن يُفرد عاشوراء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفرده في أول الأمر وقال: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)، يعني مع العاشر كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في صحيح مسلم ، لكن الأفضل أن نصوم التاسع مخالفة لأهل الكتاب، والمخالفة هنا ليست واجبة وإنما هي مستحبة، المخالفة هنا مستحبة؛ لأن العمل مشروع عندهم وعندنا، فلا تجب المخالفة في هذه الحالة، فلو أفرد يوم عاشوراء بالصيام فإنه مشروع، ويؤجر ويدرك الفضل، ولا كراهة في عمله وإن خالف الأفضل.
صوم يوم عرفة
قال المؤلف رحمه الله: [وصيام يوم عرفة كفارة سنتين].لما تقدم من حديث أبي قتادة في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيام يوم عرفة يُكفر سنتين ماضية ومستقبلة).قال المؤلف رحمه الله: [ولا يُستحب لمن بعرفة أن يصومه].لا يُستحب لمن بعرفة أن يصومه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصمه كما في حديث أم الفضل في الصحيحين (أنهم تماروا في يوم عرفة هل صامه الرسول صلى الله عليه وسلم أو لا؟ فبعثت إليه بلبن فشرب)، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم يوع عرفة، فمن كان حاجاً مُحرماً في ذلك اليوم فإنه لا يُستحب له أن يصومه، أولاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصمه، وثانياً: لكي يتقوى في ذلك اليوم على الدعاء، ويُكثر من ذكر الله سبحانه وتعالى.
صوم أيام البيض
قال المؤلف رحمه الله: [ويُستحب صيام أيام البيض].أيام البيض هي اليوم الثالث عشر واليوم الرابع عشر واليوم الخامس عشر، وسُميت بأيام البيض لابيضاض القمر فيها، ويدل لذلك حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاثة عشرة وأربعة عشرة وخمس عشرة) رواه الإمام أحمد والترمذي ، وهذا الحديث في سنده اختلاف، فمن العلماء كـأبي زرعة رحمه الله تعالى رجح رفعه، ومن العلماء من لم يُرجح رفعه.وعلى كل حال صيام ثلاثة أيام من كل شهر ثابت في الصحيحين كما في حديث عبد الله بن عمرو ، وأن صيام ثلاثة أيام من كل شهر تعدل صيام الدهر كله.
صوم يوم الإثنين والخميس
قال المؤلف رحمه الله: [والاثنين].يُستحب صيام يوم الاثنين، ويدل لذلك حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (سئل عن صيام يوم الإثنين فقال: ذلك يوم ولدت فيه، وأُنزل عليّ فيه، أو بُعثت فيه).قال المؤلف رحمه الله: [والخميس].لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الإثنين والخميس، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد والنسائي ، وله شواهد وفي إسناده خلاف، لكن له شواهد كحديث أبي ذر في سنده اختلاف لكن له شواهد.
إفطار الصائم المتطوع
قال المؤلف رحمه الله: [والصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر ولا قضاء عليه].المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر، لكن يُكره إبطال العمل الصالح؛ لقول الله سبحانه وتعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] ، فإبطال العمل الصالح مكروه إلا لحاجة، فإن احتاج إلى ذلك فإن هذا جائز ولا بأس به.ويدل على جواز إبطال العمل حديث عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها ذات يوم، قال: هل عندكم من شيء؟ قالت: فقدمت له حيساً، فقال: لقد أصبحت صائماً، فأكل منه)، رواه مسلم في صحيحه، فكون النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه هذا يدل على أنه لا بأس أن يُفطر الصائم إذا كان صيامه تطوعاً.وقول المؤلف: (والصائم المتطوع) يُخرج من صام صوماً واجباً، كصيام نذر أو كصيام قضاء ونحو ذلك، فإنه إذا صام صوماً واجباً فإنه لا يجوز له أن يقطعه؛ لأن الواجب يجب عليه أن يُتمه، ولا يجوز له أن يخرج منه. قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك سائر التطوع].كذلك سائر التطوع من صلاة واعتكاف ونحو ذلك، هذا كله يجوز لمن شرع فيه أن يخرج منه، لكن كما ذكرنا يُكره أن يُبطل العمل لغير حاجة؛ لقول الله سبحانه وتعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] ، فإن كان هناك حاجة فإن الكراهة تزول بالحاجة. قال المؤلف رحمه الله: [إلا الحج والعمرة فإنه يجب إتمامهما وقضاء ما فسد منهما].الحج والعمرة ولو كان تطوعاً فإنه يجب إتمامهما؛ لقول الله سبحانه وتعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] ، فإذا شرع في نسك الحج أو نسك العمرة فإنه يجب عليه أن يتمهما؛ لما تقدم من الآية، ولأن الله سبحانه وتعالى قال: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] ، فشبه الله سبحانه وتعالى الإحرام بالحج بالنذر، والنذر يجب الوفاء به، (من نذر أن يطيع الله فليطعه). قال: (فيجب إتمامهما)، فإذا شرع في نسك الحج أو العمرة ما يخرج منهما إلا بواحد من أمور ثلاثة:الأمر الأول: إتمام النسك.الأمر الثاني: الإحصار، إذا حصل إحصار ومُنع من إتمام نسكه، فإنه يتحلل كما هو معروف عند أهل العلم رحمهم الله، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية لما حُصر ومُنع من الحرم، تحلل النبي صلى الله عليه وسلم.والأمر الثالث: الرِدة نسأل الله السلامة بمنه وكرمه. قال: (وقضاء ما فسد منهما)، متى يفسد الحج؟ نقول: يفسد الحج إذا جامع فيه، إذا جامع في الحج قبل التحلل الأول فإن حجه يفسد، ويجب عليه أن يقضيه، ويمضي في هذا الحج الفاسد، وكذلك أيضا إذا جامع في العمرة قبل نهاية السعي فإن عمرته تفسد عليه، ويجب عليه أن يمضي في هذا الفاسد وأن يقضيه كما ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في قضاء الحج الفاسد.
الأيام المنهي عن الصيام فيها

يوم العيدين
قال المؤلف رحمه الله: [ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يومين: يوم الفِطر ويوم الأضحى].كما جاء ذلك في الصحيحين من حديث أبي سعيد (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يومين يوم الفِطر ويوم الأضحى)، وهذا مجمع عليه عند العلماء رحمهم الله، والحِكمة من النهي عن صيام يوم الفِطر حماية عبادة رمضان، بمعنى أن يوم العيد كالحريم لهذه العبادة؛ لئلا يُدخل فيها ويُزاد فيها ما ليس منها، كما أنه نُهي أن يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ حماية لهذه العبادة لئلا يُزاد فيها ما ليس منها.وأما يوم الضحى فإنه اليوم الذي يُتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بذبح النُسك، سواء كان ذلك للحلال أو كان ذلك للمُحرم، فكانت الحِكمة أن يكون مُفطراً؛ لكي يأكل ويتعبد لله سبحانه وتعالى بهذا الأكل من هذا النُسك.
أيام التشريق
قال المؤلف رحمه الله: [ونهى عن صيام أيام التشريق].أيام التشريق هي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحِجة، وسُميت هذه الأيام بأيام التشريق؛ لأن الناس في هذه الأيام يُشرقون اللحم، يُقطعونه وينشرونه في الفضاء لكي لا يتسارع إليه الفساد. ويدل لذلك حديث نبيشة الهذلي في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذِكر لله سبحانه وتعالى)، وورد عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال في أيام التشريق: (هذه هي الأيام التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإفطارها وينهانا عن صيامها)، رواه الإمام مالك رحمه الله في موطئه وأبو داود وإسناده صحيح.قال المؤلف رحمه الله: [إلا أنه رُخص في صومها للمتمتع الذي لم يجد الهدي].المتمتع يجب عليه الهدي، فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] ، لكن هذا المتمتع إذا لم يجد هدياً فإنه يصوم، فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] ، الثلاثة الأيام التي تكون في الحج يبدأ وقتها من حين الإحرام للعمرة.المتمتع يُحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم يفرغ منها، ثم يُحرم بالحج من عامه، فيبدأ صيام ثلاثة أيام من حين الإحرام بالعمرة، فلو أنه مثلاً أحرم بالعمرة في عشرين من ذي القعدة، فإنه يبدأ الصيام، لو صامها قبل عرفات الحمد لله، لم يصمها حتى جاء عرفات وجاء يوم النحر، فإنه يصومها في أيام التشريق، رُخص له في ذلك. ويدل لذلك حديث ابن عمر وعائشة أنهما قالا: (لم يُرخص في أيام التشريق أن يُصمن إلا للمتمتع الذي لم يجد الهدي)، وهذا ما عليه جماهير العلماء رحمهم الله خلافاً لـأبي حنيفة رحمه الله، فإنه لا يرى أن المتمتع يصوم أيام التشريق، لكن ما ذهب إليه الجمهور رحمهم الله تعالى هو الصواب في هذه المسألة؛ لما ذكرنا من حديث ابن عمر وعائشة رضي الله تعالى عنهم كما في الصحيحين.
ليلة القدر
قال المؤلف رحمه الله: [وليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان].ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان)، وأرجاها الأوتار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (التمسوها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)، وأرجى الأوتار ليلة سبع وعشرين؛ لحديث أبي بن كعب (أنه كان يحلف أن ليلة القدر هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها ليلة سبع وعشرين).وليلة القدر اختلف فيها العلماء رحمهم الله كثيراً، وأصوب الأقوال في ذلك أنها في العشر الأواخر، لكنها تنتقل، ليلة تكون ليلة إحدى وعشرين كما في حديث أبي سعيد، وتارة تكون ليلة ثلاث وعشرين، وتارة تكون ليلة خمس وسبع وتسع.بل ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنها كما تُلتمس في الأوتار أيضا تُلتمس في الأشفاع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (التمسوها في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى...) إلى آخره، وعلى هذا نقول: الأحوط للمسلم أن يلتمسها في العشر كلها، سواء كان ذلك في الأوتار أو كان ذلك في الأشفاع، لكن إن غُلب فإنه يلتمسها في الأوتار، كما ذكرنا أن الأوتار أرجى من الأشفاع، وأرجى الأوتار ليلة سبع وعشرين، وأنها تنتقل على الصحيح من كلام أهل العلم.
الاعتكاف

تعريف الاعتكاف وحكمه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب الاعتكاف].الاعتكاف في اللغة: اللزوم، ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52].وأما في الاصطلاح فهو لزوم مسجد لطاعة الله سبحانه وتعالى، والأصل في الاعتكاف القرآن والسنة والإجماع.أما القرآن فقول الله سبحانه وتعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187].وأما السنة فاعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي اعتكف العشر الأواخر، اعتكف أولاً العشر الأول ثم الأواسط ثم اعتكف العشر الأواخر يلتمس هذه الليلة المباركة ليلة القدر. قال المؤلف رحمه الله: [وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه، وهو سنة].الاعتكاف سنة، وهذا ما عليه جماهير العلماء رحمهم الله خلافاً لما يروى عن الإمام مالك رحمه الله من كراهة الاعتكاف، وأنه لشدته كالوصال، وأنه لم يعتكف أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هذا فيه نظر، والاعتكاف ثابت عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأزواج النبي اعتكفن من بعده. قال: (سنة)، والأدلة على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، وقول الله سبحانه وتعالى: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125]، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم.قال المؤلف رحمه الله: [لا يجب إلا بالنذر].لا يجب إلا بالنذر، ويدل لهذا حديث عائشة في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه)، والنذر يجب الوفاء به.
المسجد الذي يصح في الاعتكاف
قال المؤلف رحمه الله: [ويصح من المرأة في كل مسجد، ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تُقام فيه الجماعة].المرأة يصح منها الاعتكاف في كل مسجد، لكن هل يصح منها في مسجد بيتها؟نقول: لا يصح منها في مسجد بيتها، فلو اتخذت مصلى في بيتها، فإن الاعتكاف في هذا المصلى لا يصح، ولهذا نساء النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفن في مسجده، في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وضربن الأخبية في المسجد. فالاعتكاف في البيت أو في مسجد البيت أو مصلى البيت لا يصح، لابد أن يكون الاعتكاف في مسجد الجماعة، لكن هل لابد من إقامة الجماعة فعلاً أو لا؟يقول المؤلف رحمه الله: إن كانت المعتكفة امرأة لا يُشترط أن تكون الجماعة تُقام في هذا المسجد، فقد يكون الناس في هذا الشهر في شهر رمضان لا يحتاجون هذا المسجد، ولا تُقام فيه الجماعة، لكنه مسجد جماعة، فيصح للمرأة أن تعتكف فيه. أما الرجل فإنه لابد أن يعتكف في مسجد تُقام فيه الجماعة، المرأة تعتكف في مسجد جماعة، لكن ليس بشرط أن تكون الجماعة مما يُقام في هذا المسجد، فلو أن الناس تركوا إقامة الجماعة في هذا المسجد لفترة ونحو ذلك فنقول: يصح للمرأة أن تعتكف فيه، أما الرجل فإنه لا يصح له أن يعتكف فيه؛ لأن الرجل يجب عليه أن يصلي مع الجماعة، صلاة الجماعة واجبة، فإذا اعتكف في مسجد لا تُقام فيه الجماعة، يكون قد أخل بهذا الواجب.ولنفرض أن هناك مسجداً يُبنى للجماعة، لكنه حتى الآن لم يصل فيه الناس، لم يشرع الناس في الصلاة فيه، فالمرأة يجوز لها أن تعتكف فيه؛ لأنها ليست من أصل الجماعة ولا الجُمع، أما الرجل فإنه لا يجوز له أن يعتكف فيه.قال المؤلف رحمه الله: [واعتكافه في مسجد تُقام فيه الجمعة أفضل].الرجل يعتكف في مسجد تُقام فيه الجمعة، يقول المؤلف رحمه الله: بأن هذا أفضل، لئلا يحتاج إلى الخروج إلى صلاة الجمعة.وركن الاعتكاف هو اللبث في المسجد، هذا هو ركن الاعتكاف، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يُشترط أن يكون الاعتكاف في المساجد الثلاثة، وهذا ما عليه جماهير العلماء خلافاً لما ذهب إليه بعض السلف من أنه يُشترط أن يكون الاعتكاف في المساجد الثلاثة. وأما ما يُروى من حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)، فهذا الجواب عنه من وجهين:الوجه الأول: أنه لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، الثقات من الأئمة يقفونه ولا يرفعونه.الوجه الثاني: على ثبوت رفعه فإنه محمول على الكمال، لا اعتكاف كامل إلا في المساجد الثلاثة، وقول الله سبحانه وتعالى:وَأَنْتُ ْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] يشمل كل مسجد. وكما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة هو الوارد عن الصحابة.
الاعتكاف المنذور في مسجد معين
قال المؤلف رحمه الله: [ومن نذر الاعتكاف والصلاة في مسجد فله فعل ذلك في غيره].إذا نذر أن يعتكف في مسجد من المساجد، فإن هذا لا يخلو من حالتين:الحالة الأولى: أن يكون النذر أو الصلاة في المساجد الثلاثة، إذا نذر أن يعتكف أو أن يصلي في مسجد من المساجد الثلاثة، فنقول: إن نذر أن يكون اعتكافه أو تكون صلاته في المسجد الحرام يجب أن يوفي به. نذر في المسجد النبوي يجوز في للمسجد النبوي، ويجوز أن يخالفه إلى ما هو أفضل في المسجد الحرام، نذر في المسجد الأقصى، يجوز أن يخالفه إلى المسجد النبوي وإلى المسجد الحرام، فإذا نذر الأعلى تعين، إذا نذر ما دونه له أن ينتقل إلى الأعلى.ويدل لهذا قصة الرجل -كما في حديث جابر - الذي نذر إن فتح الله على النبي صلى الله عليه وسلم مكة أن يصلي في المسجد الأقصى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صل ها هنا) فأعاد الرجل، فقال النبي: (صل ها هنا)، فأعاد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صل ها هنا)، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (شأنك إذاً)، فنقله النبي صلى الله عليه وسلم من المفضول إلى الأفضل.فنقول: إن نذر أن يعتكف أو يصلي في مسجد من المساجد الثلاثة تتعين هذه المساجد، لكن إذا نذر الأعلى تعين، وإن نذر ما دونه له أن ينتقل إلى الأعلى، ودليل الانتقال ما ذكرنا من قصة الرجل، ودليل تعين هذه المساجد الثلاثة؛ لأن هذه المساجد الثلاثة هي التي يُشرع للمسلم أن يشد الرحل إليها، لا توجد بقعة تُشد الرحال إليها إلا هذه المساجد الثلاثة، ماعدا ذلك من البقاع فإن الرِحال لا تُشد إليها، هذا القسم الأول.الحالة الثانية: أن ينذر الاعتكاف أو الصلاة في غير المساجد الثلاثة، يقول المؤلف رحمه الله تعالى: لا يتعين، فلو مثلاً نذر أن يصلي في هذا المسجد ركعتين، أو أن يعتكف في هذا المسجد، له أن يخالف إلى مسجد آخر ولا يتعين، لماذا؟ لئلا يترتب على ذلك شد الرحال، فقد ينذر -مثلاً- أن يعتكف في مسجد في المدينة غير المسجد النبوي، لو قلنا: بأنه يتعين يترتب على ذلك أن يشد الرحل إلى هذا المسجد، كما ذكرنا لا تُشد الرحال لأي بقعة إلا لهذا الثلاث البقع فقط، فإذا نذر أن يعتكف أو أن يصلي في أي مسجد غير المساجد الثلاثة فإنه لا يتعين وله أن يخالفه. وقال بعض العلماء: بل يتعين إذا لم يترتب على ذلك شد الرحل، وخصوصاً إذا كان له مزية شرعية، إذا كان لا يترتب على ذلك شد الرحل؛ لأن العِلة هي لئلا يترتب على ذلك شد الرِحال، إذا انتفت هذه العِلة انتفى ما يترتب عليها، فيتعين إذا لم يترتب عليه شد الرحل، وهذا القول قوي.
الاعتكاف المنذور في المساجد الثلاثة
قال المؤلف رحمه الله: [إلا المساجد الثلاثة، فإذا نذر في المسجد الحرام لزمه، لأن المسجد الحرام هو أفضل المساجد].ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف فيما سواه)، والحديث حديث جابر رضي الله عنه أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن المنذر وإسناده صحيح. قال المؤلف رحمه الله: [وإن نذر في مسجد المدينة فله فعله في المسجد الحرام]، لأن المسجد الحرام أفضل من مسجد المدينة؛ لما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام).قال المؤلف رحمه الله: [وإن نذر في المسجد الأقصى فله فعله فيهما] يعني إذا نذر أن يعتكف أو أن يصلي في المسجد الأقصى فله أن يفعل نذره في المسجد النبوي أو في المسجد الحرام؛ لأنهما أفضل منه، ولما ذكرنا من حديث جابر رضي الله عنه في قصة الرجل الذي قال: يا رسول الله! إني نذرت إن فتح الله عليك أن أُصلي في بيت المقدس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صل ها هنا)، فسأله فقال: (صل ها هنا)، فسأله فقال: (شأنك إذاً)، رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما وصححه الحاكم وإسناده حسن.
ما يستحب للمعتكف
قال المؤلف رحمه الله: [ويُستحب للمعتكف الاشتغال بفعل القُرب].يُستحب للمعتكف أن يشتغل بفعل القُرب، يعني: الطاعات، وهي كل ما يُقربه إلى الله سبحانه وتعالى، وهل هذا خاص بالعبادات المحضة أو أنه يشمل العبادات المحضة والمتعدية؟العبا دات المحضة مثل: قراءة القرآن، والدعاء، والصلاة .. وغير ذلك، أو أنه يشمل العبادات المحضة والمتعدية.هذا موضع خلاف، فكثير من العلماء يرى أن الاعتكاف خاص بالعبادات المحضة، يعني يشتغل بالقراءة والدعاء والصلاة والذكر ونحو ذلك، وأما العبادات المتعدية من إقراء القرآن، وتعليم العلم، والدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونحو ذلك، يقولون: بأنه لا يفعلها، إذ إن مقصود الاعتكاف هو جمع القلب على الله سبحانه وتعالى، والانقطاع إلى الله والخالق عن المخلوق ونحو ذلك.والصواب في ذلك أن هذا كله جائز، المهم أن المعتكف يُقضي لحظات الاعتكاف فيما يقربه إلى الله سبحانه وتعالى، سواء كانت عبادة محضة أو كانت عبادة متعدية.قال المؤلف رحمه الله: [واجتناب ما لا يعنيه من قول وفعل].المعتكف أيضا يُستحب له أن يجتنب ما لا يعنيه، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف ويضرب له خباء ينفرد فيه بنفسه وبذكر الله ودعائه، ولم يكن يجالس من حيث الجملة صحابته ولم يكن يُحدثهم، وإنما ينفرد بنفسه، فاجتناب ما لا يعنيه هذا هو الذي ينبغي للمعتكف.
خروج المعتكف من المسجد
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يخرج من المسجد إلا لما لابد له منه].اللبث في المسجد ركن الاعتكاف، وعلى هذا نقول: المعتكف لا يخرج من المسجد إلا لما لابد له منه، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يُدني إليّ رأسه فأُرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً).وخروج المعتكف من المسجد يقسمه العلماء رحمهم الله تعالى إلى أقسام:القسم الأول: أن يخرج بعض جسمه من المسجد، فإذا أخرج بعض جسمه من المسجد فإن هذا لا يضره، ويدل له ما سلف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُخرج رأسه إلى عائشة فتُرجله، تُسرحه تدهنه، والنبي صلى الله عليه وسلم معتكف. القسم الثاني: أن يخرج لأمر لابد له منه طبعا أو شرعاً، طبعاً كما لو احتاج إلى قضاء الحاجة أو احتاج إلى أن يأكل أو أن يشرب، وليس هناك من يأتيه له به في المسجد ونحو ذلك، فهذا جائز ولا بأس به، أو شرعاً، كما لو احتاج إلى الوضوء، احتاج إلى أن يخرج لصلاة الجمعة ونحو ذلك. القسم الثالث: أن يخرج لأمر يُنافي الاعتكاف، كما لو خرج للبيع والشراء أو لجماع الزوجة أو مباشرتها ونحو ذلك من أمور الدنيا فنقول: بأنه يبطل عليه اعتكافه.القسم الرابع: أن يخرج للضرورة، إذا اضطر إلى الخروج كما لو حاضت المرأة أو نفست أو حصل خوف في المسجد أو حريق ونحو ذلك، يعني خاف على نفسه من لص أو حريق، حصل حريق في المسجد أو نحو ذلك فالخروج للضرورة هذا لا بأس به، وهذا جائز، ولا يُبطل عليه اعتكافه.القسم الخامس: أن يخرج لقربة من القرب، يعني يخرج لأمر لا يُنافي الاعتكاف، لقربة من القرب، كما لو خرج للصلاة على جنازة أو لعيادة مريض أو لحضور درس علم أو نحو ذلك من القرب، فقال المؤلف رحمه الله: [إلا أن يشترط] يعني هذا الخروج لهذه القرية جائز مع الاشتراط، فإذا اشترط فإن هذا لا بأس، وهذا ما ذهب إليه كثير من العلماء رحمهم الله.واستدلوا على ذلك بقصة ضباعة بنت الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حُجي واشترطي)، لما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت له أنها تريد الحج، وأنها تجدها شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حُجي واشترطي)، فحديث ضباعة يدل على الاشتراط، وهو في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.وأما قوله: (فإن لكِ على ربكِ من استثنيت)، فهذه اللفظة شاذة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذهب بعض العلماء إلى أن الاشتراط غير صحيح؛ لأن العبادات توقيفية ولا يُشترط فيها مثل ذلك، والله أعلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 03:37 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب الصيام [5]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(46)

الاعتكاف سنة مؤكدة، فيه فضائل وقرب وطاعات، وأفضل الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان طلباً لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وللاعتكاف شروط وأحكام وآداب ومفسدات على المعتكف معرفتها حتى تحصل له الفائدة من هذه القربة العظيمة.
تابع الاعتكاف

الاشتراط في الاعتكاف
تقدم لنا قول المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا يخرج من المسجد إلا لما لابد له منه)، وذكرنا أن اللبث في المسجد هو ركن الاعتكاف، ويدل لهذا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً)، تعني النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث في الصحيحين.وذكرنا أن الخروج من المسجد للمعتكف ينقسم إلى أقسام: القسم الأول: أن يُخرج بعض جسده، فهذا لا يُبطل الاعتكاف، ويدل له حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اعتكف كان يُدني رأسه إلى عائشة رضي الله تعالى عنها فترجله).القسم الثاني: أن يخرج لأمر لابد له منه شرعاً، كما لو خرج لصلاة الجمعة أو خرج للوضوء أو خرج للغُسل الواجب ونحو ذلك، فهذا جائز ولا بأس به.القسم الثالث: أن يخرج لأمر لابد له منه طبعاً، كما لو خرج لقضاء حاجة الإنسان، أو خرج لأكل أو شرب لا يتمكن منه في المسجد ونحو ذلك، فهذا جائز ولا بأس به، ويدل له ما سلف من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها. القسم الرابع: أن يخرج لضرورة، فإذا اضطر للخروج كما لو حصل خوف في المسجد، أو حصل حريق ونحو ذلك فخرج، فهذا أيضا لا يُبطل عليه اعتكافه.القسم الخامس: أن يخرج لقربة من القرب، يعني عبادة من العبادات، كما لو خرج لعيادة مريض، أو لتشييع جنازة، أو لحضور درس علم ونحو ذلك، فهل له أن يخرج لهذه القربة بالشرط أو نقول: ليس له أن يخرج ولو بالشرط؟يقول المؤلف رحمه الله: (إلا أن يشترط).فإذا اشترط فإن هذا جائز، يعني اشترط في بداية اعتكافه أن يخرج لهذه القربة، في بداية اعتكافه اشترط أن يخرج لتشييع جنازة فلان إن مات، أو لعيادة هذا المريض، أو لصلة رحمه، أو لبر والده، أو لحضور درس ونحو ذلك، فيقول المؤلف رحمه الله: إذا كان هناك شرط فإن هذا جائز ولا بأس به.ويدل لهذا حديث عائشة في قصة ضباعه بنت الزبير ، فإنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إني أريد الحج وأجدني شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حُجي واشترطي)، فرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم بالاشتراط في الحج، والحج عبادة. ويُلحق الاعتكاف بالحج فله أن يشترط، فيقول: لي أنا أعتكف لكن لي أن أخرج لمثلاً لحضور الدرس الفلاني ونحو ذلك، وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن الاشتراط في الاعتكاف ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: اشتراط عام، فيشترط شرطاً عاماً، يقول: إن بدا لي قربة من القرب فلي أن أخرج. والقسم الثاني: اشتراط خاص، يقول: أخرج للقربة الفلانية للعبادة الفلانية.الرأي الثاني في المسألة: أنه ليس له أن يخرج لفعل قربة من القرب، حتى ولو اشترط، وأن الاشتراط في الاعتكاف غير مشروع، ويستدلون على هذا بأن العبادات توقيفية، ولم يرد الشرط في الاعتكاف، فليس هناك دليل يدل عليه، ومادام أنه ليس هناك دليل يدل عليه فإن الشرط في الاعتكاف غير جائز.والذي يظهر -والله أعلم- أن القول بالاشتراط جائز، مادام أن له أصلاً في العبادة، يعني الاشتراط ورد في الحج كما سبق، وكذلك أيضاً ورد في الدعاء، مادام أن له أصلاً في العبادة، وهذا القياس لا يترتب عليه إثبات عبادة مستقلة، فيظهر -والله أعلم- أن هذا الاشتراط جائز، ولأن الشخص إنما تطوع بهذه العبادة على هذا الوجه، فما دام أن له أصلا في الشريعة فيظهر أن هذا جائز ولا بأس به.
مفسدات الاعتكاف
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يباشر امرأته].هنا شرع المؤلف رحمه الله تعالى في ذكر شيء من مبطلات الاعتكاف، قال: (لا يباشر امرأته)، ويدل لهذا قول الله عز وجل: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، وإذا باشر امرأته فإن هذه المباشرة لا تخلو من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يباشر امرأته دون أن يكون هناك شهوة، بمعنى أن تمس بشرته بشرة امرأته دون أن يكون هناك شهوة كما لو صافحها ونحو ذلك، فهذا لا يبطل الاعتكاف ولا بأس به.ويدل لذلك ما تقدم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُدني إليها رأسه فترجله وهو معتكف)، وهنا نوع من المباشرة بين الزوجين.النوع الثاني: الجماع، لو أنه خرج إلى بيته لحاجة ثم بعد ذلك وطئ زوجته، فإن اعتكافه يبطل باتفاق الأئمة، لما تقدم من قول الله عز وجل: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187].النوع الثالث: أن يباشرها لشهوة دون أن يكون هناك جماع، كما لو مس زوجته لشهوة، فهل يبطل عليه اعتكافه أو لا يبطل عليه اعتكافه؟للعلماء رحمهم الله تعالى في ذلك رأيين: جمهور العلماء لا يبطل عليه اعتكافه إلا إن أنزل، إذا حصل معه إنزال فإن اعتكافه يبطل عليه.والرأي الثاني: رأي المالكية، وأن اعتكافه يبطل عليه مطلقاً، إذا باشر زوجته لشهوة فإن اعتكافه يبطل عليه مطلقاً، سواء كان هناك إنزال أو لم يكن هناك إنزال، وهم أخذوا بظاهر قول الله عز وجل: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187].وأما جمهور العلماء فيقولون: بأن المباشرة -كما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- المراد بها هو الجماع، وعلى هذا إن حصل له إنزال فإنه يبطل عليه اعتكافه، كما يبطل عليه صيامه إذا باشر زوجته وهو صائم، صيامه يبطل عليه إذا حصل إنزال، أما إذا لم يحصل إنزال فإن صيامه صحيح، وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم). فيتلخص لنا من مفسدات الاعتكاف:أولاً: الجماع.وثانياً: مما يفسد الاعتكاف إذا باشر زوجته وحصل إنزال.ثالثاً: من مفسدات الاعتكاف إنزال المني.وإنزال المني أنواع:النوع الأول: أن يُنزل المني بالاستمناء، وكما تقدم أيضاً بالمباشرة، فإذا حصل إنزال بالاستمناء فإن اعتكافه يبطل عليه؛ لما تقدم من أن الصيام يبطل بهذه الأشياء، فكذلك أيضاً يبطل بالاعتكاف، ولأن مثل هذه الأشياء تُنافي الاعتكاف.النوع الثاني: إنزال المني بالاحتلام في النوم، لو أنه نام ثم بعد ذلك احتلم فإن اعتكافه لا يبطل عليه؛ لحديث عائشة : ( رُفع القلم عن ثلاثة، ومنهم النائم حتى يستيقظ). النوع الثالث: إنزاله بالتفكر، لو تفكر في أمر الجماع حتى أنزل المني، فأيضاً لا يبطل عليه اعتكافه؛ لما ثبت في الصحيحين: (إن الله تجاوز عن هذه الأمة ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل).النوع الرابع: إنزال المني بالنظر إذا نظر ثم بعد ذلك حصل نزول للمني، فهل يبطل الاعتكاف أو لا يبطل الاعتكاف؟المشهو ر من مذهب الإمام أحمد أنه إذا كرر النظر حتى أنزل فإنه يبطل عليه اعتكافه.وعند الإمام مالك رحمه الله أنه يبطل الاعتكاف ولو بنظرة واحدة، ولو لم يحصل هناك تكرار للنظر.وعند أبي حنيفة والشافعي أن الاعتكاف لا يبطل إذا حصل إنزال للمني بالنظر.والأقرب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله المشهور من مذهب الحنابلة، وأنه إذا كرر النظر حتى أنزل فإنه يبطل عليه اعتكافه، لأن له الأولى وليست له الآخرة، ولأنه إذا كرر النظر فقد عمل ما يقتضي إنزال المني منه.أيضاً من المفسدات: طروء الحيض: إذا كانت المرأة معتكفة فحاضت أو نفست وهي في المعتكف، هل يبطل اعتكافها أو لا يبطل؟جمهور العلماء أن طروء الحيض والنفاس ليس مبطلاً للاعتكاف؛ لأن الطهارة ليست شرطاً للاعتكاف، وعلى هذا إذا طرأ معها حيض أو نفاس فإنها تخرج، فإذا طهرت فإنها تعود للمسجد، خلافاً لما ذهب إليه الحنفية.كذلك أيضاً: الجنون والإغماء.إذا طرأ جنون على المعتكف، أو حصل له إغماء، هل يبطل اعتكافه أو لا يبطل؟جماهير العلماء أن اعتكافه لا يبطل؛ لأن الجنون بغير اختياره، والمغمى عليه ملحق بالنائم، وعلى هذا إذا فاق من جنونه فإنه يواصل اعتكافه، وإذا فاق من إغمائه فإنه يواصل اعتكافه.كذلك أيضاً إذا فعل كبيرة من الكبائر:كما لو حصل منه غيبة أو نميمة أثناء الاعتكاف، أيضاً جمهور العلماء أن اعتكافه لا يبطل عليه خلافاً للمالكية؛ لأن النهي هنا يعود إلى أمر خارج عن العبادة، فلم يقتض إفساد هذه العبادة.ومن المفسدات: السكر:فلو أن المعتكف شرب ما يسكره، نقول: يبطل عليه اعتكافه؛ لأن السكران ممنوع من المسجد. ومن المبطلات: الرِدة.فإذا ارتد عن الإسلام بقول أو فعل أو اعتقاد أو استهزاء ونحو ذلك فإن اعتكافه يبطل عليه، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].كذلك أيضاً من المبطلات: قطع نية الاعتكاف، فإذا قطع نية الاعتكاف فإن اعتكافه يبطل عليه.لما تكلم المؤلف رحمه الله عن أحكام الصيام ذكر أحكام الاعتكاف؛ لأن الاعتكاف يُشرع في رمضان في العشر الأواخر من رمضان كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان مستحباً في كل وقت كما هو قول جمهور أهل العلم، إلا أنه يُستحب ويتأكد أن يكون رمضان، ويتأكد أن يكون في العشر الأواخر، ولهذا ذكر المؤلف رحمه الله أحكام الاعتكاف بعد أحكام الصيام.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 03:41 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [1]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(47)

الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، وقد تواترت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوبه لمن استطاع إليه سبيلاً. وللحج شروط لازمة كالإسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة، ويقصد بالاستطاعة توفر نفقة الحج بما يزيد على نفقة الأهل، وبالنسبة للمرأة يزيد على ذلك
تعريف الحج والعمرة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كتاب الحج والعمرة].قول المؤلف رحمه الله: (كتاب الحج والعمرة). الحج في اللغة: القصد. وأما في الاصطلاح: فهو قصد مكة لأداء النسك. وأما العمرة في اللغة فهي: الزيارة.وأما في الاصطلاح: فهي زيارة البيت على وجهٍ مخصوص.
حكم الحج والعمرة

حكم الحج
قال المؤلف رحمه الله: [يجب الحج والعمرة مرةً في العمر].الحج واجب، وقد دل على وجوبه الكتاب والسنة وإجماع العلماء:أما القرآن فقول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97].وأما السنة: فأحاديث كثيرة، منها: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً ) وإجماع المسلمين على هذا.
حكم العمرة
قال رحمه الله: (والعمرة). هل العمرة واجبة أو ليست واجبة؟هذه موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله تعالى، فالعلماء رحمهم الله مختلفون في وجوب العمرة، وما ذهب إليه المؤلف رحمه الله أن العمرة واجبة.ومذهب الشافعي أن العمرة واجبة، وقد استدلوا على وجوبها بعدة أدلة:من أدلتهم على وجوب العمرة حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ( أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل على النساء من جهاد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليهن جهادٌ لا قتال فيه: الحج والعمرة )، وهذا أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه ، وصححه جمع من أهل العلم.وكذلك أيضاً استدلوا على ذلك بحديث أبي رزين العقيلي ، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( حج عن أبيك واعتمر )، وهذا الحديث في السنن، وكذلك أيضاً حديث زيد بن ثابت مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحج والعمرة فريضتان ) وهذا أخرجه الدارقطني وهو ضعيف.الرأي الثاني: مذهب الإمام أبي حنيفة ومالك رضي الله تعالى عنهما أن العمرة ليست واجبة، وإنما هي سنة.واستدلوا على ذلك بأدلة:منها: حديث جابر رضي الله تعالى عنه: ( أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العمرة أواجبة هي؟ قال: لا، وأن تعتمر خيرٌ لك )، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد والترمذي ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.وكذلك أيضاً استدلوا بحديث طلحة مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحج جهاد، والعمرة تطوع ) وهذا أيضاً لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. الرأي الثالث في المسألة: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن العمرة واجبة إلا على المكي، يعني: من كان من أهل مكة لا تجب عليه العمرة.واستدلوا بأنه يروى عن ابن عباس أنه قال: يا أهل مكة! لا عليكم ألا تعتمروا.والأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه الحنابلة والشافعية أن العمرة واجبة؛ لأن الحج واجب، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم العمرة حجاً أصغر، فإذا كان الحج واجباً والعمرة حجٌ أصغر، دل ذلك على وجوب العمرة.
عدد الحج والعمرة الواجبين
قال رحمه الله: [مرةً في العمر].يعني: أن الحج لا يجب إلا مرة في العمر، والعمرة أيضاً لا تجب إلا مرةً في العمر، ويدل لهذا قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( الحج مرة، فمن زاد فمتطوع )، وأيضاً حديث أبي هريرة لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الله فرض عليكم الحج فحجوا، فقام الأقرع بن حابس فقال: يا رسول الله! أكل عام؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لو قلت: نعم، لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم ). فالحج لا يجب إلا مرةً واحدة، والعمرة لا تجب إلا مرةً واحدة بإجماع العلماء، وذكرنا الدليل على ذلك.
شروط وجوب الحج والعمرة
قال المؤلف رحمه الله: [على المسلم، العاقل، البالغ، الحر]. يعني: أن هذا الوجوب يشترط له شروط: ‏
الشرط الأول: الإسلام
الشرط الأول: الإسلام، وعلى هذا فالكافر لا يجب عليه حجٌ ولا عمرة، والمراد بالوجوب المنفي عنه هو وجوب الأداء، أما وجوب التكليف فإنه مكلف بذلك -مكلف بالحج ومكلف بالعمرة- لقول الله عز وجل: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر:42-44]. فدل ذلك على أن الكفار مكلفون بفروع الشريعة.وأما بالنسبة لوجوب الأداء فلا يجب عليهم؛ لأن الكافر فقد الأصل وهو التوحيد، والعبادات لا تصح إلا مع التوحيد؛ لقول الله عز وجل: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54]، وأيضاً قول الله عز وجل: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65].
الشرط الثاني: العقل
قوله: (العاقل).هذا الشرط الثاني: أن يكون عاقلاً، وعلى هذا فالمجنون لا يجب عليه الحج ولا يصح منه، والكافر لا يجب عليه ولا يصح منه، فشرطُ الإسلام شرطٌ للوجوب والصحة، والعقل أيضاً شرطٌ للوجوب والصحة، وتقدم أن ذكرنا حديث: ( رفع القلم عن ثلاثة )، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم منهم: ( المجنون حتى يفيق ). فالمجنون لا يصح منه الحج ولا يجب عليه حتى يعقل.
الشرط الثالث: البلوغ
قوله: (البالغ).هذا الشرط الثالث: أن يكون بالغاً، فالصبي لا يجب عليه الحج، والبلوغ شرطٌ للوجوب وليس شرطاً للصحة، بمعنى أن الصبي لو حج فإن حجه صحيح، وأجر الحج له ولوليه، فلا يجب الحج إلا على بالغ، وتقدم الدليل على ذلك من حديث: ( رفع القلم عن ثلاثة... وذكر النبي صلى الله عليه وسلم منهم: الصبي حتى يبلغ ) .والصبي يصح منه الحج حتى ولو كان غير مميز، حتى قال العلماء رحمهم الله: حتى لو كان ابن ساعة، يعني: ولد الآن فالحج منه صحيح، ويدل لهذا حديث ابن عباس في مسلم : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام لقي ركباً في الروحاء، فرفعت إليه امرأة صبياً، فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجرٌ ) فإذا حج الصبي فنقول بأن أجر الحج له، ولا يجزئه ذلك عن حجة الإسلام، ولوليه أجر؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ولك أجرٌ )، أما أجر الحج فله؛ لقول الله عز وجل: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ [فصلت:46].
الشرط الرابع: الحرية
قوله: (الحر).هذا يخرج الرقيق، فالرقيق لا يجب عليه الحج؛ لأن من شروط وجوب الحج الاستطاعة، والرقيق غير مستطيع لكونه لا يملك، ولو ملك فإن ملكه غير مستقر؛ لكونه يئول إلى سيده، فالرقيق لا يجب عليه الحج؛ لقول الله عز وجل: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]. وهذا الرقيق غير مستطيع.وهذا الشرط شرط للوجوب وليس شرطاً للصحة، فالرقيق لو حج فنقول بأن حجه صحيح، لكن لا يجزئه عن حجة الإسلام ولا يجب عليه، وقولنا: لا يجزئه عن حجة الإسلام هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، يعني: يرون أن الحرية شرطٌ للوجوب والإجزاء دون الصحة، كما أن البلوغ شرطٌ للوجوب والإجزاء دون الصحة، فلو أن الصبي حج لم يجزئه ويصح منه، ولا يجب عليه حتى يبلغ.كذلك أيضاً يقولون بأن الحرية شرط للوجوب والإجزاء دون الصحة، فالرقيق لا يجب عليه حتى يعتق، وإذا حج لا يجزئه ذلك عن حجة الإسلام ويصح منه الحج. وقولنا: (لا يجزئه)، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس عند الدارقطني والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما صبيٍ حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبدٍ حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى ). وذهب بعض العلماء إلى أن الرقيق إذا أذن له سيده أن ذلك يجزئه عن حجة الإسلام، وقالوا بأن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو موقوف.
الشرط الخامس: الاستطاعة
قال المؤلف رحمه الله: (إذا استطاع إليه سبيلاً).الاستطاع ة: هذا هو الشرط الخامس من شروط وجوب الحج، وشرط الاستطاعة شرطٌ للوجوب وليس شرطاً للصحة ولا الإجزاء، وعلى هذا لو كان هناك فقير لا يستطيع وكلف نفسه أو سأل الناس وجمع وحج، فنقول: هل حجه صحيح أو ليس صحيحاً؟ نقول بأن حجه صحيح، وهل يجزئه ذلك عن حجة الإسلام أو لا يجزئه؟ نقول بأنه يجزئه عن حجة الإسلام، ودليل هذا الشرط ما تقدم من قول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97] .فالاستطاعة شرطٌ للوجوب، يعني: أنه لا يجب عليه حتى يستطيع، لكنها ليست شرطاً للصحة، وليست شرطاً أيضاً للإجزاء، فلو أنه حج فإن حجه يجزئه، وكذلك أيضاً لو أنه حج فنقول بأن حجه صحيح.قال رحمه الله: (والاستطاعة أن يجد زاداً وراحلةً).الاستطا عة تحتها مسائل: المسألة الأولى: ما المراد بالاستطاعة في قول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97] ؟ اختلف العلماء رحمهم الله في تفسير الاستطاعة على رأيين: الرأي الأول: قالوا: إن المراد بالاستطاعة كما ذكر المؤلف رحمه الله: الزاد والراحلة، وهذا قول أكثر العلماء بأن المراد بالاستطاعة هو الزاد والراحلة، وقد ورد في ذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة، وهذا الحديث رواه الترمذي وحسنه، وهذا التحسين من الترمذي غير صواب؛ لأن الحديث في إسناده إبراهيم الخوزي وهو ضعيف، وهذا الحديث وردت له شواهد من حديث أنس ومن حديث عائشة ومن حديث ابن مسعود ومن حديث علي بن أبي طالب ومن حديث جابر ومن حديث عبد الله بن عمرو ، وهذه الشواهد كلها ضعيفة.الرأي الثاني: أن المراد بالاستطاعة هو أن يستطيع أن يصل إلى مكة، أو نقول: أن يستطيع أن يصل إلى المشاعر بلا مشقة عظيمة زائدة على مشقة السفر العادية، وهذا مذهب الإمام مالك رحمه الله. وعلى هذا عند المالكية: إذا كان يستطيع أنه يمشي إلى المشاعر وهو يحترف أي: صاحب حرفة، نجار أو صناع ونحو ذلك، فإنه يجب عليه أن يحج.ولو كان يستطيع أن يمشي وليس صاحب حرفة لكن يسأل الناس، هل يجب عليه أن يمشي ويسأل الناس أو لا يجب عليه؟عند أكثر المالكية: لا يجب عليه، يعني: كونه يسأل الناس لا يجب عليه.هذا ما ذهب إليه المالكية وهو الأقرب؛ لأنه الآن أصبح مستطيعاً، وحتى لو ثبت حديث تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للاستطاعة بالزاد والراحلة، فنقول بأن هذا محمول على الغالب، والغالب أن الإنسان لا يكون مستطيعاً إلا بالزاد والراحلة.
ضوابط الاستطاعة
قال المؤلف رحمه الله: [بآلتهما مما يصلح لمثله فاضلاً عما يحتاج إليه لقضاء دينه، ومؤونة نفسه وعياله على الدوام].المسألة الثانية المتعلقة بالاستطاعة: اشترط المؤلف رحمه الله على القول بأن الاستطاعة هي الزاد والراحلة، اشترط فقال: (مما يصلح لمثله) وعلى هذا لو أن الإنسان وجد سيارة ولكن هذه السيارة لا تصلح لمثله، فلا يجب عليه، أو وجد زاداً أو وجد طعاماً، ولكن هذا الطعام لا يصلح لمثله فلا يجب عليه.أيضاً قال: (بآلتهما) يعني: بما يحتاج إليه بالنسبة للطعام، فالطعام يحتاج إلى آنية والراحلة تحتاج أيضاً إلى آلات من محمال ونحو ذلك، والسيارة أيضاً تحتاج، فلا بد أن يجد الزاد والراحلة وأن يجد آلتهما، ويشترط في هذا الزاد والراحلة: أن يكونا صالحين لمثله.المسألة الثالثة: قال: (فاضلاً عما يحتاجه لقضاء دينه).يعني: يشترط للاستطاعة أيضاً أن تتوفر فيها ثلاثة أمور: الأمر الأول: قضاء الواجبات الشرعية؛ فإذا كان الإنسان عليه ديون لله عز وجل، أو عليه ديون للمخلوقين، فإنه لا بد أن يسدد هذه الديون، فإن فضل شيء يحج به، مثلاً: هذا إنسان عنده ألف ريال وهو مدين بخمسمائة ريال، نقول: ابدأ بالخمسمائة فسددها، والخمسمائة الباقية إذا كان يستطيع أن يحج بها حج، وإذا كان لا يستطيع فإنه لا يجب عليه أن يحج، وأيضاً لو كان عليه كفارات وعنده ألف ريال، فنقول: ابدأ بالكفارات والواجبات الشرعية التي عليك، فإن فضل شيء فحج وإن لم يفضل شيء فإنه لا يجب عليك الحج.أيضاً: إذا كان عليه ديون للناس وللمخلوقين، نقول: ابدأ بديون المخلوقين فسدد الدين الذي عليك، مثلاً: عنده عشرة آلاف ريال وهو مدين بتسعة آلاف ريال، فيسدد التسعة آلاف، فإن فضل شيء حج به وإن لم يفضل شيء ليس عليه الحج.أيضاً: لو كان الدين مقسطاً كما يوجد عند كثيرٍ من الناس اليوم؛ فهل يجب على المدين بالتقسيط الحج أو لا يجب عليه؟نقول: ينظر.. إذا كان الإنسان عند حلول الأجل للدين يستطيع أن يسدد لراتب عنده أو ربح تجارة أو غلة مزرعة أو نحو ذلك من الموارد فهذا يجب عليه الحج، أما إذا كان لا يستطيع أن يسدد، والراتب الذي عنده لو حج به ما يستطيع أن يسدد القسط الذي يأتي، فنقول في هذا: لا يجب عليك الحج.المهم أننا ننظر عند حلول الأجل هل يستطيع أن يسدد أو لا يستطيع أن يسدد؟ فإذا حل الأجل واستطاع أن يسدد إما من راتب أو غير ذلك، فنقول: يجب عليك أنك تحج، وإذا كان لا يستطيع أن يسدد فنقول بأن الحج غير واجب عليه، فليوفر المال لكي يسدد الدين الذي عليه.أيضاً قال: (ومؤونة نفسه وعياله على الدوام).هذا الأمر الثاني مما يعتبر، قلنا: لا يكون مستطيعاً إلا بعد قضاء الواجبات، أيضاً لا يكون مستطيعاً إلا بعد وجود النفقات له ولمن يعوله، يعني: ينفق عليه، فإذا كان -مثلاً- إنسان عنده خمسة آلاف ريال، لكن هذه الخمسة يحتاجها لكي ينفق على أهله، يعني: هو محتاج إلى أن ينفق على أهله وأقاربه الذين يمونهم من الزوجة والأولاد والوالدين، فإذا أنفق مثلاً ألفين ريال مدة الذهاب للحج وأبقى ثلاثة آلاف ريال تكفي نقول: يجب عليه الحج.لكن لو كان ما عنده إلا ألف ريال، وهذا الألف يحتاجها في أن ينفق على أهله ومن يمونه، فنقول بأنه لا يجب عليك الحج، فلا بد أن يكون المال الذي يحج به بعد النفقة، فإذا كان يقدر أن يحج من هذا المال والباقي الذي يوفره للنفقة يكفي، نقول: يجب عليه الحج، أو مثلاً: يستطيع أنه ينفق على أهله من راتب أو ربح تجارة أو غلة مزرعة ونحو ذلك، وهذا المال يقدر يحج به، نقول: يجب عليه الحج.وقول المؤلف رحمه الله: (على الدوام).ما المراد بالدوام هنا؟ يعني: هل يجب أن يجد النفقة له ولمن يمونه من أهله طول العمر، أو أنه ليس طول العمر وإنما لفترة محددة؟ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه طول العمر، وعلى هذا: له ولمن يمونه طول عمره، مثلاً: إذا كان قد يعمر بعد عمره عشرين سنة، لا بد أن يحصل نفقة عشرين سنة تكون قد وفرها، وهذا بعيد.والرأي الثاني: أن المراد بقوله: (على الدوام) أن المراد بذلك سنة، يعني: مؤونة سنة، يعني: يكون عنده له ولمن يمونه نفقة سنة، فالفاضل على نفقة السنة يحج به.والقول الثالث: أن المراد بذلك مدة الذهاب إلى الحج، فإذا كان سيستغرق في الذهاب إلى الحج مدة أسبوع أو مدة شهر لا بد أن يكون محصلاً لهذه النفقة، وما زاد على ذلك فإنه يحج به.الأمر الثالث: أن يكون ذلك بعد الحوائج الأصلية، يعني: ما يكون الحج واجباً عليه ومستطيعاً له حتى تتوفر الحوائج الأصلية، مثل: الآلات الكهربائية والأواني والأدوات المدرسية والفرش في البيت، فالأشياء التي يحتاجها هذه لا يكون مستطيعاً حتى تتوفر، مثلاً: إذا كان يحتاج إلى شراء ثلاجة أو غسالة، نقول: ابدأ بشراء الثلاجة والغسالة، فإن فضل شيء حج به، وإذا لم يفضل شيء ما يجب عليك الحج، ويحتاج إلى فرش وإلى أواني في البيت وإلى أدوات كتابية، فنفهم أنه لا بد من توفر الحوائج الأصلية، فإذا كان عنده تعارض إما أن يشتري بهذا المال حوائجه الأصلية ولا يبقى شيء للحج، أو أنه يحج به، نقول: ابدأ بالحوائج الأصلية، ثم بعد ذلك إن فضل شيء فإنك تحج.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 03:45 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [2]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(48)


يشترط في الحج على المرأة دون الرجل وجود محرم لها، ومن فرط في الحج حتى مات فيخرج من ماله ويحج عنه، وهناك من لا يصح حجه كالمجنون والكافر، وهناك من يصح حجه مع عدم الإجزاء كالعبد والصبي؛ لكنه يجزئ من غير المستطيع ومن المرأة التي سافرت إلى الحج بدون محرم. واخت
تابع شروط وجوب الحج والعمرة
تقدم لنا في الدرس السابق تعريف الحج والعمرة وما يتعلق بحكمهما، وأن الحج واجبٌ بإجماع المسلمين، وأما العمرة فذكرنا فيها ثلاثة آراء: الوجوب، وعدم الوجوب، والرأي الثالث: أنها واجبةٌ على غير المكي.وتكلمنا أيضاً عن شروط الحج وأنه يشترط له شروط هي: البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، والاستطاعة، أما المراد بالاستطاعة فأهل العلم رحمهم الله اختلفوا في ذلك على رأيين. ‏
الشرط السادس: المحرم للمرأة
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويعتبر للمرأة وجود محرمها]. فقوله: (يعتبر) يعني: يشترط لوجوب الحج والعمرة على المرأة أن يوجد محرم لها؛ ودليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي خرجت حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: انطلق فحج مع امرأتك ).
أنواع محرم الزوجة
ثم بعد ذلك بين المؤلف رحمه الله محرم الزوجة فقال: [وهو زوجها] ومحرم الزوجة يتنوع إلى أنواع:النوع الأول: زوج المرأة، كما دلت على ذلك السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إلا مع زوجها أو مع ذي محرم ). قال: [ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب].النوع الثاني: من تحرم عليه على التأبيد بنسب، ومن تحرم عليه المرأة على التأبيد بنسب سبعة:الأول: أبو المرأة وإن علا: كجدها، وجد جدها.. إلى آخره فهذا محرم لها.والثاني: ابنها وإن نزل: كابن ابنها وابن بنتها.. إلى آخره.والثالث: أخوها من أي جهة، سواءً كان أخاً شقيقاً أو من جهة الأب أو من جهة الأم.والرابع: عمها مطلقاً، سواء كان عماً لأبٍ أو عماً لأمٍ أو عماً شقيقاً.والخامس: خالها أيضاً مطلقاً، سواء كان لأبٍ أو لأمٍ أو شقيقاً.والسادس: ابن أخيها وإن نزل: كابن ابنه وابن بنته.. إلى آخره.والسابع: ابن أختها وإن نزل.فهؤلاء السبعة يحرمون على المرأة على التأبيد بالنسب.ولم يذكر المؤلف رحمه الله المصاهرة، فنقول:النوع الثالث: من يحرمون على المرأة على التأبيد بسبب المصاهرة، وهم:الأول: ابن زوج المرأة فإنه يحرم على زوجة أبيه، فزوجة الأب محرمة على الابن بالإجماع، وهذا التحريم بمجرد العقد، فيكون محرماً لزوجة أبيه.والثاني: أبو زوج المرأة، وهذا أيضاً محرم بالإجماع، فيكون محرماً بمجرد العقد.والثالث: زوج الأم، ويكون محرماً لبناتها، لكن لا يكون محرماً لبناتها إلا بالدخول بالأم.والرابع: زوجة الابن، فأبو الابن محرم لها بمجرد أن يعقد الابن على هذه المرأة، فإنها تحرم على أبيه وإن علا.فأصبح الذين يكونون محارم للمرأة من جهة المصاهرة أربعة.النوع الرابع: قال المؤلف رحمه الله: [أو سببٍ مباح].يعني إذا كان هناك سبب مباح كالرضاع، ففي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فالسبعة الذين سبقوا في النسب يأتون هنا في الرضاع، فنقول: الأب من الرضاع محرم، والابن من الرضاع محرم، والأخ من الرضاع والعم والخال وابن الأخ وابن الأخت، فهؤلاء كلهم محارم من جهة الرضاع.وقوله: (مباح) يخرج السبب المحرم، فإذا كان هناك سبب محرم فإنه لا يكون به الإنسان محرماً، يعني: حرم النكاح لوجود سببٍ محرم، فنقول: لا يكون به الرجل محرماً، ومثل ذلك على المشهور من المذهب أنهم يقولون بأنه يحرم بالسفاح ما يحرم بالنكاح، فإذا زنى بامرأة فإنه يحرم عليه بنتها، ويحرم عليه أمها، كما لو عقد على امرأة عقداً صحيحاً فإن أمها تكون محرمةً عليه، وإذا دخل بهذه المرأة فإن بنتها تكون محرمةً عليه بالدخول، وأيضاً الربيبة تحرم بالدخول، فالمشهور من المذهب أنهم يقولون: السفاح كالنكاح، يعني: إذا زنى بامرأة لا يجوز له أن يتزوج أم هذه المرأة، ولا يجوز له أن يتزوج بنتها، مع أنهم يقولون: يجوز له أن يتزوج زانية إذا تابت، وهذا فيه نظر، لكن على كل حال إذا زنى بهذه المرأة وقلنا بأنه لا يجوز له أن يتزوج أمها فإنه لا يكون محرماً لأمها، وإذا قلنا بأنه لا يجوز له أن يتزوج بنتها فإنه لا يكون محرماً لبنتها.
الحج والعمرة عمن مات مفرطاً في ذلك مع الاستطاعة
قال رحمه الله: [فمن فرط حتى مات أخرج عنه من ماله حجة وعمرة].لو أنه فرط حتى مات، هل يخرج من تركته ما يحج به عنه ويعتمر أو لا يخرج؟هذه المسألة فيها ثلاثة آراء للعلماء رحمهم الله:الرأي الأول: وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه إذا كان مستطيعاً للحج ثم بعد ذلك ترك الحج تهاوناً وكسلاً حتى مات فإنه يخرج من تركته ما يحج به عنه، وكذلك أيضاً ما يعتمر به عنه؛ لأنهم يرون أن العمرة واجبة، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اقضوا، فالله أحق بالوفاء ) .والرأي الثاني: التفصيل في هذه المسألة، وهذا قال به مالك والشافعي رحمهم الله، فقالوا: إن أوصى فإنه يخرج من تركته ما يحج به عنه، وإن لم يوص فإنه لا يخرج، وإذا أوصى قالوا: يخرج لوجوب تنفيذ الوصية كما قال الله عز وجل: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181]، وأيضاً قول الله عز وجل: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11] .والرأي الثالث: وهو ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله أنه إذا فرط فلا يخرج من تركته، يعني: أنه إذا فرط في الحج فلم يحج حتى مات فإنه لا يخرج من تركته.والأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله أن الإنسان إذا فرط فلم يحج حتى مات فإنه يخرج من تركته.
حج الكافر والمجنون
قال رحمه الله: [ولا يصح من كافرٍ].تقدم الكلام عليه في الدرس السابق، فالكافر لا يجب عليه الحج وجوب أداء ولا يصح منه؛ ويدل لذلك قول الله عز وجل: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] وأيضاً قول الله عز وجل: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54]. فالكافر فاقد للأصل، وإذا كان كذلك فإنه لا يصح منه.وقوله: (ولا مجنون).أيضاً المجنون لا يصح منه وهذا بالاتفاق؛ ويدل لهذا حديث: ( رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم النبي صلى الله عليه وسلم-: المجنون حتى يفيق ). ولأن المجنون هذا ليس له قصد معتبر فلا يصح منه.
حج الصبي والعبد
قال رحمه الله: [ويصح من الصبي والعبد ولا يجزئهما].لو أن الصبي حج فإن حجه صحيح؛ ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن امرأة رفعت صبياً للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر ).ولا يجزئه ذلك عن حجة الإسلام، فإذا بلغ فعليه أن يحج حجة أخرى، وأجر الحج يكون للصبي ولوليه أجر؛ لقول الله عز وجل: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ [فصلت:46]. وهذا عمل صالحاً فيكون للصبي، وأما وليه فله أجر لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ولك أجر ).أيضاً العبد يصح منه ولا يجزئه عن حجة الإسلام، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله؛ لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما عبدٍ حج ثم عتق فعليه حجة أخرى، وأيما صبيٍ حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى ). وهذا الحديث مختلف بين رفعه ووقفه، والأقرب أنه موقوف، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا أذن له سيده فإنه يجزئه ذلك عن حجة الإسلام.
حج غير المستطيع والمرأة بغير محرم
قال رحمه الله: [ويصح من غير المستطيع والمرأة بغير محرم].إذا كان إنسان غير مستطيع فلا يجب عليه الحج، وتقدم أن ذكرنا تفسير الاستطاعة أنه إذا كان غير مستطيع فإن حجه غير واجب، لكن لو أن هذا الشخص ذهب وتكلف وحج فنقول بأن حجه صحيح ويبرؤه ذلك، يعني: يجزئه ذلك عن حجة الإسلام وتبرأ ذمته؛ لأنه أتى بالحج بشروطه وأركانه وواجباته.وقوله: (والمرأة بغير محرم) أيضاً المرأة كما سلف لا يجب عليها الحج إلا مع وجود محرم، فلو أنها ذهبت وسافرت بلا محرم فنقول بأن حجها صحيح ويجزئها ذلك عن حجة الإسلام، لكنها تأثم لكونها تركت السفر بلا محرم.
الحج عن الغير
قال رحمه الله: [ومن حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه أو عن نذره أو عن نفله وفعله قبل حجة الإسلام وقع حجه عن فرض نفسه دون غيره]. هنا مسألتان:المسألة الأولى: حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه، فهل يجزئه ذلك أو لا يجزئه؟ هذا شخص حج عن أبيه -مثلاً- أو حج عن أمه ولم يكن حج عن نفسه، فهل نقول: الحج يكون له أو لمن ناب عنه؟ هذا فيه رأيان للعلماء رحمهم الله:الرأي الأول: وهو المذهب كما ذهب إليه المؤلف رحمه الله وهو قول أبي حنيفة : أن هذه الحجة تكون عن نفسه، فإذا لبى عن أبيه وهو لم يحج عن نفسه تنقلب هذه الحجة لنفسه، فإذا قال: لبيك عن أبي وحج عنه، قالوا: بأنها تكون عن نفس الحاج ولا تكون عمن حج عنه.واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يلبي عن شبرمة : لبيك عن شبرمة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من شبرمة ؟ قال: أخ أو قريب لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة ). فدل ذلك على أن الإنسان إذا لبى عن غيره وهو لم يحج عن نفسه فإن الحجة تكون عن الملبي.الرأي الثاني: رأي مالك والشافعي أن هذه الحجة تكون للشخص الذي استنيب عنه، أي: الذي حج عنه، فمثلاً: لو حج عن أبيه وهو لم يحج عن نفسه فإنه يقع عن أبيه.واستدلوا على ذلك بقصة الخثعمية -كما في الصحيحين- التي جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حجها عن أبيها وذكرت: (أن أباها أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي عنه ) ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل حجت عن نفسها أو لم تحج عن نفسها؟وأيضاً يدل لذلك ما في الصحيحين من حديث عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات ). وهذا الشخص إنما نوى عن ذلك الشخص ولم ينو عن نفسه، وهذا القول هو الأقرب، إلا إذا ثبت حديث ابن عباس في قصة شبرمة ؛ لأن حديث ابن عباس في قصة شبرمة بعض أهل العلم يرفعه وبعضهم يقف فيه ولا يصححه مرفوعاً، فإن ثبت الحديث قيل به، وإن لم يثبت مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم فما ذهب إليه مالك والشافعي يكون أقرب.
حج النذر
المسألة الثانية: هذا رجل حج نذراً، يعني: عليه حجة الإسلام الفريضة وعليه حجة منذورة فحج عن هذا النذر، فهل يجزئه ذلك عن حجة النذر أو نقول بأن هذه الحجة تكون عن حجة الإسلام ثم بعد ذلك يحج عن النذر؟ هذه المسألة فيها رأيان للعلماء رحمهم الله، وصورتها كما تقدم: رجلٌ لم يحج حجة الإسلام وعليه حجة منذورة، ثم شرع في الحج المنذور، هل نقول بأنه ينقلب إلى حجة الإسلام؟ أو نقول بأنه يكون عن حج هذه الحجة المنذورة ثم يحج حجة الإسلام؟ فهذه المسألة فيها رأيان للعلماء رحمهم الله:الرأي الأول: مذهب أحمد وأبي حنيفة أن هذه الحجة تنقلب عن حجة الإسلام كما تقدم.والرأي الثاني: رأي مالك والشافعي أن هذه الحجة تكون عن حجة النذر ثم بعد ذلك يحج عن حجة الإسلام، والدليل كما تقدم في المسألة السابقة.
باب المواقيت
قال رحمه الله: [باب المواقيت]. ‏
تعريف المواقيت في اللغة والاصطلاح
المواقيت: جمع ميقات، وهو في اللغة: الحد.وأما في الاصطلاح: فهو زمان العبادة ومكانها، وعلى هذا يكون المراد من قول المؤلف رحمه الله: (باب المواقيت) أزمنة العبادة وأمكنتها، فأراد المؤلف رحمه الله في هذا أن يبين زمان الإحرام في الحج ومكان الإحرام بالحج، وزمان الإحرام بالعمرة ومكان الإحرام بالعمرة كما سيأتي.
مواقيت الحج المكانية
والمواقيت تنقسم إلى قسمين:القسم الأول: مواقيت مكانية.والقسم الثاني: مواقيت زمانية.وبدأ المؤلف رحمه الله بمواقيت الحج، وهي المواقيت المكانية، وسيأتي إن شاء الله ما يتعلق بالمواقيت الزمانية. قال رحمه الله: [وميقات أهل المدينة ذو الحليفة].ابتدأ المؤلف رحمه الله بميقات أهل المدينة -وهو ذو الحليفة- اتباعاً للنص الوارد، فإن في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ).وميقات ذي الحليفة هو أبعد المواقيت عن مكة، والحليفة: تصغير الحلفة، وهو شجر في ذلك المكان، فسمي هذا المكان باسم ذلك الشجر.قال رحمه الله: [وأهل الشام والمغرب ومصر الجحفة].أهل الشام والمغرب ومصر يحرمون من الجحفة، والجحفة هذه قرية خربة، وسبب تسميتها بهذا الاسم قيل: لأن السيل اجتحفها وهجرت، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كانت محمومة، فأصاب الصحابة رضي الله تعالى عنهم شيء من حماها، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحبب إليه وإلى الصحابة المدينة وأن ينقل حماها إلى الجحفة، وكانت الجحفة في ذلك الزمن يسكنها اليهود، فاستجاب الله عز وجل دعوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فنقل حماها إلى الجحفة، ثم بعد ذلك زال عنها الحمى بزوال اليهود.والعلماء يقولون: لما اندثرت هذه القرية وخربت واجتحفها السيل، أصبح الناس يحرمون من رابغ، فرابغ هذه مدينة معروفة كبيرة وهي قبل الجحفة بشيءٍ يسير، والآن الجحفة بني فيها ميقات ومسجد، فأصبح الناس الآن يحرمون من الجحفة.قال رحمه الله: [واليمن يلملم].ويقال: ألملم ويرمرم، وهو اسم جبل هناك. قال رحمه الله: [ولنجدٍ قرن].يعني: قرن المنازل، والقرن: الجبل، وهو جبل أحمر هناك، وسمي الوادي الذي فيه ذلك الجبل باسم ذلك الجبل، فقيل: قرن المنازل، ويسمى بالسيل الكبير، ويحرم منه أهل نجد، وعلى محاذاته وادي محرم من جهة الطائف.وقال رحمه الله: [وللمشرق ذات عرق].والعرق هو: الجبل الصغير، فأهل المشرق يحرمون من ذات عرق، وذات عرق اختلف فيه أهل العلم رحمهم الله من الذي وقتها؟ هل الذي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم أو عمر ؟ في ذلك رأيان للعلماء رحمهم الله: ففي حديث جابر وحديث عائشة أن الذي وقت ذات عرق هو النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أثر ابن عمر كما في البخاري أن الذي وقتها هو عمر رضي الله تعالى عنه.وعلى كل حال، سواء قلنا بأن الذي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم، أو قلنا بأن الذي وقتها عمر رضي الله تعالى عنه، فالخلاف في هذه المسألة لا يترتب عليه ثمرة؛ لأن الإجماع منعقد على أن ذات عرق ميقات أهل المشرق، فنقول: الإجماع منعقد على أن ذات عرق هي ميقات أهل المشرق.هذه المواقيت التي عددها المؤلف رحمه الله كما ورد ذلك في حديث ابن عباس وأيضاً عن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عباس : ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن، وأهل اليمن من يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة ).
مرور من له ميقات معين بميقات غيره
قوله رحمه الله: [فهذه المواقيت لأهلها ولكل من يمر عليها].فالنجدي إذا مر من ذي الحليفة فإنه يحرم من ذي الحليفة، والشامي إذا مر من ذي الحليفة فإنه يحرم من عند ذي الحليفة، لكن اختلف أهل العلم رحمهم الله: هل له أن يؤخر إلى ميقاته؟ يعني لو أن الشامي جاء المدينة ومر بميقات ذي الحليفة، فهل له أن يؤخر الإحرام إلى أن يجيء إلى ميقاته -وميقاته هو الجحفة- أو ليس له أن يؤخر؟ في هذا رأيان للعلماء رحمهم الله:فالرأي الأول: وهو قول أكثر أهل العلم أنه ليس له أن يؤخر، بل إذا مر بذي الحليفة وجب عليه أن يحرم من ذي الحليفة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة ). فقالوا بأنه ليس له أن يؤخر.والرأي الثاني: قال به الإمام مالك وأيضاً اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأنه له أن يؤخر، يعني: الشامي لو ترك الإحرام من ذي الحليفة وأخر ذلك إلى الجحفة فإن هذا جائز؛ لأنه رجع إلى ميقاته الأصلي.
ميقات من هم دون المواقيت
قال رحمه الله: [ومن منزله دون الميقات فميقاته من منزله].إذا كان إنسان منزله دون الميقات، مثل: أهل الشرائع وأهل بحرة وخليص ووادي فاطمة وعسفان، ممن يكون منزله بين مكة وهذه المواقيت، فمن كان دون هذه المواقيت فإنه يحرم من مكانه ولا يلزمه أن يخرج إلى تلك المواقيت؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ومن كان دون ذلك فمهله من أهله ).
إحرام أهل مكة في الحج والعمرة
قال رحمه الله: [حتى أهل مكة يهلون منها لحجهم].لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وأهل مكة يهلون من مكة ) وهذا موضع اتفاق، لكن اختلف أهل العلم رحمهم الله لو أن المكي خرج من مكة وأحرم، مثلاً: أحرم بعرفات أو أحرم في منى، فهل يجزئه ذلك أو لا يجزئه؟هذا موضع خلاف بين أهل العلم والصواب أنه يجزئه، وسيأتينا إن شاء الله أن من أحرم قبل الميقات فإن إحرامه صحيح، وقال بعض العلماء: يكره كراهة تنزيه، وبعضهم قال: يكره كراهة تحريم.قال رحمه الله: [ويهلون للعمرة من أدنى الحل].يعني: أهل مكة يهلون للعمرة من الحل، يعني: المكي إذا أراد أن يعتمر فإنه يخرج إلى الحل، كذلك أيضاً من ورد مكة لغرض ثم نوى العمرة أو اعتمر ثم أراد أن يكرر العمرة على خلاف في تكرار العمرة، لكن لو فرض أنه أراد أن يكرر العمرة، فإنه يخرج إلى الحل، وهذا قول الأئمة الأربعة أن المكي ميقاته للعمرة هو الحل، وعلى هذا لا بد أن يخرج إلى الحل.والرأي الثاني: وهو قول الصنعاني وظاهر صنيع البخاري رحمه الله أنه يحرم من مكة حتى للعمرة. والذين قالوا بأنه يحرم من الحل استدلوا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها كما في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بأخته عائشة إلى التنعيم وأن تحرم من هناك ) وهذا دليل على أن المكي يحرم من الحل.والذين قالوا بأنه يحرم للعمرة من مكة استدلوا على ذلك بحديث ابن عباس : ( أهل مكة يهلون من مكة ).والصواب هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم أن المكي لا بد أن يخرج لحديث عائشة ، فإن قيل بأن عائشة ليست من أهل مكة وإنما من أهل المدينة، أي أنها آفاقية ليست من أهل مكة، فكونها خرجت لا يستدل به، فكيف الجواب عن ذلك؟ نقول: الجواب عن ذلك أن الآفاقيين لما وردوا مكة أخذوا حكم أهل مكة بدليل أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أحرموا للحج من البطحاء، فدل ذلك على أن الآفاقي إذا ورد مكة فإنه يأخذ حكم أهل مكة، بدليل أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما حلوا من عمرتهم لم يخرجوا إلى المواقيت، وإنما أحرموا للحج من أماكنهم فأصبحوا كالمكيين، فدل ذلك على أن أهل مكة بالنسبة للعمرة حكمهم أنهم يخرجون إلى الحل.وأيضاً الاستقراء كما ذكر الشيخ ابن تيمية رحمه الله: من يستقرئ المناسك يجد أن الناسك يجمع في نسكه بين الحل والحرم، فالحاج يجمع بين الحل والحرم وكذلك أيضاً المعتمر، وحتى المكي يجمع بين الحل والحرم، فيخرج إلى عرفات ثم يرجع إلى مكة، كذلك أيضاً المكي إذا اعتمر فإنه أيضاً يجمع بين الحل والحرم، فيخرج إلى الحل ثم بعد ذلك يرجع.وقال رحمه الله: (من أدنى الحل) ولم يقل: من التنعيم؛ لأن التنعيم ليس متعيناً، بل الإنسان ينظر ما هو الأسهل له، فقد يكون الأسهل من التنعيم لكونه قريباً منه، وقد يكون الأسهل عرفات لكونه قريباً من عرفات، فالمهم أن الإنسان ينظر إلى الأسهل له، ولهذا لم يقل المؤلف رحمه الله: من التنعيم، وإنما قال: من الحل، فينظر أسهل الحل فيأخذ به.
ميقات من ليس طريقهم على ميقات
قال رحمه الله: [ومن لم يكن طريقه على ميقات فميقاته حذو أقربها إليه].إذا كان الإنسان ليس طريقه على ميقات فإنه ينظر إلى حذوها إليه، يعني: أقربها إليه، ويدل لهذا أثر ابن عمر في البخاري أنه لما فتحت الكوفة والبصرة أتوا عمر رضي الله تعالى عنه، فقال: انظروا حذوها من طريقكم. فنقول بأن الذي لا يمر على ميقات فإنه يحرم إذا حاذى أقربها إليه.فإن لم يحاذ ميقاتاً وهذا مثله العلماء رحمهم الله بمن يجيء من مدينة سواكن في السودان إلى جدة، فيقولون: إنها لا تحاذي ميقاتاً، فهنا قالوا: يحرم قبل مكة بمرحلتين، ومثله أيضاً الآن الذي يكون على الطائرة فهذا يحرم إذا حاذى الميقات.
دخول مكة بغير نية إحرام
قال رحمه الله: [ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات غير محرم إلا لقتال مباح، أو حاجة تتكرر كالحطاب ونحوه].يعني: هل يجوز أن يدخل مكة بغير إحرام أو لا؟ يقول المؤلف رحمه الله: لا يجوز أن يدخل مكة إلا بإحرام مطلقاً، سواء أراد الحج أو لم يرد الحج، أراد العمرة أو لم يرد العمرة، فلا يجوز له أن يتجاوز الميقات إلا بإحرام، لكن استثنى وقال: إذا كان صاحب حاجة تتكرر كالحطاب ونحوه فيدخل ويخرج فإن هذا فيه مشقة عليه، وهذا أولاً.ثانياً: إذا كان هناك قتال مباح فإنه يعفى عن ذلك، ولهذا قال المؤلف: (إلا لقتالٍ مباح). ثالثاً: في حال الخوف.هذه ثلاثة مسائل مستثناة، وما عدا ذلك فإنه لا يجوز له أن يدخل إلا بإحرام، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله وهو أيضاً مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى، وهو الرأي الأول.والرأي الثاني: رأي الشافعي رحمه الله أنه يجوز أن يدخل مكة بلا إحرام إلا إذا كان مريداً للحج أو العمرة، وهذا القول هو الصواب؛ لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة ).
من دخل مكة غير محرم ثم أراد النسك
قال رحمه الله: [ثم إذا أراد النسك أحرم من موضعه].يعني: لو أن الإنسان دخل بلا إحرام إما لقتالٍ مباح أو كحطاب أو لخوف، ثم بعد ذلك إذا أراد النسك فإنه يحرم من موضعه، وسبق أن ذكرنا أن الراجح هو قول الشافعي أنه يجوز للإنسان أن يدخل مكة بغير إحرام ما لم يكن مريداً للحج أو العمرة، فإذا كان مريداً للحج أو العمرة فإنه يجب عليه أن يحرم من الميقات، وإن كان غير مريدٍ للحج والعمرة ثم طرأت عليه نية الإرادة فإنه يحرم من مكانه، يعني إذا كان أصلاً غير مريد ثم بعد ذلك لما قدم مكة أراد، فنقول بأنه يحرم من مكانه.
تجاوز الميقات دون إحرام
قال: (وإن جاوزه غير محرم رجع فأحرم من الميقات ولا دم عليه؛ لأنه أحرم من ميقاته). إذا جاوز الإنسان الميقات غير محرم يجب عليه أن يرجع ويحرم من الميقات، ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس أنه إذا جاوز الميقات يقال له: أنت بالخيار؛ إما أن ترجع وليس عليك دم، أو عليك دم، وهذا خطأ؛ فلا يجوز التخيير فيه، فنقول: يجب عليك أن ترجع إلى الميقات وتحرم منه. فلو أنه أحرم من موضعه هنا يقال بأنه عليه دم كما ذكر جمهور أهل العلم رحمهم الله، أما أن يقال: أنت بالخيار؛ إما أن ترجع وتحرم من الميقات، أو عليك دم إذا أحرمت من هنا فإن هذا خطأ، بل يقال: يجب عليك أن ترجع؛ لأن الإحرام من الميقات حكمه واجب، ففي حديث ابن عباس : ( يهل أهل المدينة... ) هذا خبر بمعنى الأمر، أي: ليهل أهل المدينة، وأيضاً حديث ابن عمر الصريح: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجد قرن ) فهذا يدل على الوجوب، وأن الإنسان يجب عليه أن يحرم من الميقات.وقال رحمه الله: (فإن أحرم من دونه فعليه دم، سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع). إذا أحرم من دون المواقيت فهذا عليه دم؛ لأنه ترك واجباً من واجبات الحج، لكن الأصل يجب عليه أن يرجع، لكن لو لم يرجع فنقول بأن عليه دم كحكم وضعي، وأيضاً عليه التوبة كحكم تكليفي لأنه آثم؛ فهذا الذي أحرم دون الميقات ترك واجباً، فعليه أن يتوب إلى الله عز وجل.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 03:50 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [3]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(49)


المواقيت قسمان: مكانية وزمانية، فمن أحرم قبل المواقيت المكانية فإحرامه صحيح، ومن أحرم قبل المواقيت الزمانية انعقد إحرامه عمرة لا حجاً على الصحيح. وأشهر الحج هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة. ومن أراد الإحرام استحب له: الغسل والتنظف والتطيب على الجسد دون المل
الإحرام قبل الميقات
قد تقدم لنا شيء من أحكام المواقيت، فذكرنا تعريف الميقات في اللغة والاصطلاح، وذكرنا أن المواقيت تنقسم إلى قسمين: مواقيت مكانية ومواقيت زمانية، وبينا المواقيت المكانية، وذكرنا دليل هذه المواقيت، والإحرام منها، أي: كيف الإحرام منها.ثم قال المؤلف رحمه الله في أحكام الإحرام من المواقيت: [والأفضل ألا يحرم قبل الميقات] وهذا ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الإحرام قبل الميقات المكاني، والقسم الثاني: الإحرام قبل الميقات الزماني.
الإحرام قبل الميقات المكاني
فالقسم الأول: أن يحرم قبل الميقات المكاني، ففيه حكمان: الحكم الأول: الحكم التكليفي، والحكم الثاني: الحكم الوضعي.أما ما يتعلق بالحكم التكليفي، يعني: هل يأثم أو لا يأثم؟ فهذا موضع خلاف، فذهب بعض العلماء إلى أنه محرم ولا يجوز أن يحرم قبل الميقات المكاني. والرأي الثاني: أنه مكروه، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، والأقرب في هذا أنه محرم ولا يجوز؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحرم إلا من الميقات، وقال: ( خذوا عني مناسككم ). وأيضاً أن عمران بن حصين رضي الله عنه أحرم من البصرة فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فغضب، وقال: لا يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من البصرة، وأنكر عثمان رضي الله تعالى عنه على رجلٍ أحرم من خراسان.وأما ما يتعلق بالحكم الوضعي: فهل ينعقد إحرامه أو لا ينعقد؟ نقول: إن إحرامه ينعقد؛ لأن الله عز وجل قال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]. فهذا رجلٌ فرض الحج في زمنه فينعقد. فأصبح عندنا الحكم التكليفي أنه محرم ولا يجوز -وهذا هو الصواب- والحكم الوضعي أنه ينعقد إحرامه.
الإحرام قبل الميقات الزماني
أما الإحرام قبل الميقات الزماني: فالميقات الزماني للحج يبدأ بدخول شهر شوال كما سيبينه المؤلف رحمه الله، فلو أنه أحرم قبل شوال بالحج.. كمن أحرم في رمضان -مثلاً- للحج، فنقول: من حيث الحكم التكليفي أن هذا محرم ولا يجوز؛ لأن هذا عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن هل ينعقد إحرامه أو لا ينعقد إحرامه؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله.فالرأي الأول: أن إحرامه لا ينعقد، وهذا قول الظاهرية؛ لأن هذا العمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم. والرأي الثاني: أنه ينعقد حجاً، وهذا رأي أكثر أهل العلم رحمهم الله. والرأي الثالث: أنه ينعقد عمرة، وهذا قول الشافعية، وهذا القول هو أصوب الأقوال؛ فنقول: إذا أحرم قبل أشهر الحج فإن إحرامه ينعقد عمرةً، ويدل على أنه لا ينعقد حجاً أن الله عز وجل قال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة:197] فدل ذلك على أن فرض الحج إنما يكون في أشهره، وأيضاً ما ورد عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ( من السنة ألا يحرم بالحج إلا في أشهره )، وأيضاً ورد عن ابن عباس أنه قال: ( لا يصلح أن يحرم بالحج إلا في أشهره ) فدل ذلك على أنه لا ينعقد حجاً لكن ينعقد عمرةً؛ لأن العمرة حج أصغر، فإذا لم ينعقد الحج الأكبر لعدم زمنه فإنه ينعقد الحج الأصغر وهو العمرة لوجود زمنه.وكذلك أيضاً من قال بأنه ينعقد حجاً -وقلنا بأنه قال به أكثر أهل العلم- استدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] فقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ) دل على أن كل الأهلة مواقيت للناس، والأهلة طوال العام، والله عز وجل قال: (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ). وأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذا فقال: لو قلنا بأن الأهلة كلها مواقيت للناس لم يكن للتوقيت بها فائدة؛ لأنه إنما يكون للتوقيت بها فائدة إذا كانت هذه الأهلة تختلف، فتارةً تكون ميقاتاً، وتارةً لا تكون ميقاتاً، أما إذا كانت كل الأهلة طوال العام وقتاً للإحرام فما أصبح للهلال فائدة، فخروجه وعدم خروجه سواء.لكن تكون الأهلة مواقيت للناس إذا كان يترتب على هذا الهلال حكم شرعي، أي أنه يحرم أو لا يحرم، أما إذا كان خروج كل هلال يحرم معه لم يكن هناك فائدة.فتلخص لنا أن الإحرام قبل الميقات الزماني فيه آراء للعلماء: الرأي الأول: أنه لا ينعقد. والرأي الثاني: أنه ينعقد عمرة، وهذا مذهب الشافعية، وقلنا بأن هذا هو أرجح الأقوال. والرأي الثالث: أنه ينعقد حجاً أكبر، وهذا قول أكثر أهل العلم رحمهم الله، وذكرنا دليل كل قول.
أشهر الحج
ثم قال المؤلف رحمه الله: [وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة].بداية أشهر الحج تبدأ من شوال وهذا باتفاق العلماء رحمهم الله، لكن بالنسبة لنهايتها هذا موضع خلاف:الرأي الأول: الإمام مالك رحمه الله يرى أن أشهر الحج ثلاثة: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة كاملاً.والرأي الثاني: وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.والرأي الثالث: وهو قول الشافعي رحمه الله أن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وتسعة أيام من ذي الحجة، أي: يحسب يوم عرفة من أشهر الحج، وتستمر أشهر الحج عنده إلى طلوع الفجر من يوم النحر، أي: عشر ليال من ذي الحجة وتسعة أيام من ذي الحجة.ولكلٍ منهم دليل: أما رأي مالك رحمه الله فهو ظاهر الآية: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] وأقل الجمع ثلاثة: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، وكذلك أيضاً ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه: أن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، وكذلك أيضاً ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وورد أيضاً عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فهو وارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.وأما بالنسبة للحنابلة الذين قالوا بأنه شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.. عشرة أيام أي: تنتهي بغروب الشمس من يوم النحر أي من اليوم العاشر، واستدلوا على ذلك بأنه وارد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما معلقاً بصيغة الجزم في صحيح البخاري .ورأي الشافعي رحمه الله أن أشهر الحج تنتهي بطلوع الفجر من يوم النحر، واستدل بحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحج عرفة ) وعرفة ينتهي وقت الوقوف به بطلوع الفجر من اليوم العاشر.وأرجح الأقوال وأصوبها في هذه المسألة: ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله تعالى، وأن أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وذو الحجة كاملاً، وهذا أصوب الأقوال لظاهر القرآن، وأما آثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم فهي مختلفة.
الإحرام وآدابه
قال المؤلف رحمه الله: [باب الإحرام]. ‏
تعريف الإحرام لغة واصطلاحاً
الإحرام في اللغة: هو نية الدخول في التحريم؛ لأن الناسك بإحرامه يحرم على نفسه ما كان مباحاً له قبل الإحرام من الطيب ولبس المخيط وتغطية الرأس ونحو ذلك.وأما في الاصطلاح: فهو نية الدخول في النسك، لا نية أن يحج ويعتمر؛ لأن نية الحج والعمرة -أي: الإنساك- هذه موجودة من حين الخروج من بلده، لكن المراد بالإحرام هو نية الدخول في النسك، أي: إذا أتى الميقات نوى أنه دخل في التحريم.
الاغتسال والتنظف والتطيب
والإحرام هذا له آداب وسنن ينبغي لمن أراد النسك أن يتحلى بها، من هذه الآداب قوله: [من أراد الإحرام استحب له أن يغتسل]. ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس لما ولدت في ميقات ذي الحليفة أن تستذفر بثوب وأن تغتسل وأن تحرم.. وهذا في صحيح مسلم ، وكذلك أيضاً أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر عائشة رضي الله تعالى عنها لما أرادت الإحرام بالحج وهي حائض أن تغتسل، وهذا أيضاً أخرجه مسلم ، وكذلك ورد في حديث زيد بن ثابت : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل ).وصفة الاغتسال كالاغتسال من الجنابة، وهناك غسل كامل وغسل مجزئ؛ فالغسل الكامل: أن يبدأ أولاً بالوضوء، وبعد أن ينتهي من الوضوء يغسل رأسه ثلاث مرات، ثم شقه الأيمن مرةً واحدة، ثم شقه الأيسر مرة واحدة، وهذا هو الغسل الكامل، وأما الغسل المجزئ: فهو أن يعم جميع بدنه بالماء مع المضمضة والاستنشاق.قال رحمه الله: [ويتنظف].هذا الأدب الثاني من آداب الإحرام: التنظف، فإذا قالوا: غسل وتنظف، فالمراد بالتنظف ما يتعلق بسنن الفطرة؛ بأن يقلم أظافره ويحلق عانته وينتف إبطه، ويقص شاربه، هذا هو المراد بالتنظف، والصحيح أن هذا ليس من سنن الإحرام؛ لأن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك، وعلى هذا نقول بأن ما يتعلق بسنن الفطرة ليس من سنن الإحرام الخاصة، لكن هذه الأشياء يستحب للمسلم أن يتعاهدها إذا طالت، أي: إذا كانت هذه الأشياء طويلة.. فقد تكون أظافره طويلة، أو يكون شاربه طويلاً، أو عانته، فيستحب للإنسان أن يأخذها، ويكره أن يتركها فوق أربعين يوماً، ويحرم أن يتركها حتى تتفاحش فيكون فيه شبه من أهل الشرك ونحو ذلك.فعلى هذا نقول: هذه الأشياء إن كانت طويلة فإنه يستحب للإنسان أن يأخذها، وإن لم تكن طويلة فإنها ليست من سنن الإحرام، حتى ولو أخذها إن كانت طويلة لا على أنها سنة من سنن الإحرام، لكن لأنها طويلة فينبغي للإنسان أن يأخذها.قال رحمه الله: [ويتطيب]. هذا الأدب الثالث: يستحب أن يتطيب إذا أراد الإحرام، والتطيب الذي وردت به السنة يكون في الرأس وفي اللحية.. ففي الرأس كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ( كنت أرى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم )، والوبيص هو البريق واللمعان، وكذلك أيضاً اللحية كما ورد ذلك في صحيح مسلم .فنقول: إذا أراد أن يحرم فيستحب له أن يتطيب في رأسه وفي لحيته.وأما بالنسبة لثياب الإحرام فإنه لا يطيبها، وفي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام لما سئل: ما يلبس المحرم؟ ذكر ما لا يلبس فقال: ( ولا ثوباً مسه زعفران أو ورس ) ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله بأنه يحرم أن يلبس ثوباً مسه الطيب.فإذا طيب ثياب الإحرام ثم أحرم، فالمشهور عند الحنابلة رحمهم الله: أنه يستديم هذه الثياب حتى يخلعها، فإذا خلعها فليس له أن يلبسها مرةً أخرى حتى يغسل عنها الطيب، فلو فرضنا أن رجلاً قبل أن يحرم طيب ثياب الإحرام ثم أحرم وهي عليه، قالوا بأنه لا بأس أن يستديم لبس هذه الثياب بعد إحرامه حتى يخلع الثوب، فإذا خلع الثوب فإنه لا يلبسه حتى يغسل عنه الطيب.
التجرد من المخيط ولبس إزار ورداء أبيضين
قال رحمه الله: [ويتجرد عن المخيط].هذا الأدب الرابع: إذا أراد أن يحرم يستحب له أن يتجرد عن المخيط، وعلى هذا لو أنه أحرم وعليه ثيابه، فنقول: بأن إحرامه صحيح لكنه خالف السنة؛ لأن السنة أن يكون متجرداً عن المخيط، لكن لو أحرم وعليه الثياب نقول بأن إحرامه صحيح ويلزمه أن يبادر بنزع الثياب عنه، فإن تركها ولم ينزعها مع التمكن ومضى فترة يمكنه أن ينزعها ولم ينزع وجبت عليه فدية، والسنة -كما ذكر المؤلف رحمه الله- أن يتجرد من المخيط ثم بعد ذلك يحرم؛ لما تقدم ذكره أن زيد بن ثابت روى: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام تجرد لإهلاله واغتسل ).قال رحمه الله: [ويلبس إزاراً ورداء أبيضين نظيفين].أي: يحرم في إزار ورداء، ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحرم أحدكم في إزارٍ ورداءٍ ونعلين ) وهذا أخرجه الإمام أحمد وابن الجارود وإسناده صحيح، وأيضاً ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل ) كما ورد في الصحيحين، فدل ذلك على أن الإنسان يحرم بالإزار.وأما قوله: (أبيضين) فهذا دليله قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( البسوا من ثيابكم البياض وكفنوا فيها موتاكم ) وعلى هذا لو أن إنساناً أحرم بإزار ورداء أخضرين أو أدهمين أو أصفرين هذا كله جائز، لكن يقول المؤلف رحمه الله: الأفضل أن يحرم في إزارٍ ورداءٍ أبيضين نظيفين؛ لقول الله عز وجل: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31].
صلاة ركعتين بعد لبس الإحرام
قال المؤلف رحمه الله: [ثم يصلي ركعتين ويحرم عقيبهما].هذا الأدب الخامس: أن يصلي ركعتين ويحرم عقيب هاتين الركعتين. فلو قيل: ما هو الدليل على أنه يحرم عقب الركعتين؟ نقول: ( بأن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ دبر صلاة الظهر )، كما في حديث أنس رضي الله تعالى عنه. وأيضاً في حديث عمر قال صلى الله عليه وسلم: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرةً في حجة ) وهذا في الصحيح، فهذا دليل على أنه يحرم عقب صلاة الركعتين.لكن هل للإحرام صلاة خاصة أو ليس له صلاة خاصة؟ أكثر أهل العلم على أن الإحرام له صلاة خاصة، أي: سنة خاصة تسمى بسنة الإحرام، وعلى هذا إذا أراد الإنسان أن يحرم فإنه يستحب له أن يصلي ركعتين على أنهما سنة الإحرام، ثم بعد ذلك يهل دبر هاتين الركعتين، هذا ما عليه أكثر أهل العلم، واستدلوا: ( بأن النبي عليه الصلاة والسلام أهل دبر صلاة الظهر )، وأيضاً تقدم حديث عمر رضي الله تعالى عنه. وهذا الرأي الأول.والرأي الثاني: بأن الإحرام ليس له صلاة خاصة؛ لأن الصلاة التي أهل النبي صلى الله عليه وسلم دبرها هي صلاة فريضة، وهي صلاة الظهر، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم ، وهذا القول هو الصواب: أن الإحرام ليس له صلاة خاصة، وإنما يهل دبر صلاةٍ مشروعة، سواء كانت فريضةً أو نافلة، فإذا كان الوقت وقت فريضة أحرم بعد أن يصلي الفريضة أو نافلة مشروعة، مثلاً: إذا كان من عادته أن يصلي ركعتي الوضوء، أو إذا اغتسل يصلي ركعتي الوضوء ثم يهل دبرهما، أو ركعتي الضحى إذا كانت من عادته، أو الوتر أو غير ذلك، المهم أنه إذا كانت هناك صلاة مشروعة سواءً كانت فريضة أو نافلة.
نية الإحرام والتلفظ بها
قال المؤلف رحمه الله: [وهو أن ينوي الإحرام].ويفهم من كلام المؤلف رحمه الله إلى أنه تكفي مجرد النية، أي: إذا نوى الدخول في النسك فإن هذا كافٍ، ولا حاجة إلى فعلٍ أو قول، وأن الإنسان ينعقد إحرامه بمجرد النية دون أن يكون هناك قولٌ أو فعل.والرأي الثاني: وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا بد من قولٍ أو فعل مع النية؛ القول، مثل: التلبية، والفعل، مثل: سوق الهدي. والصحيح في ذلك أنه لا حاجة لذلك، وأن الإحرام ينعقد بمجرد النية لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى ).قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب أن ينطق بما أحرم به].هذا الأدب السادس من آداب الإحرام، يقول المؤلف رحمه الله: (يستحب أن ينطق بما أحرم به)، أي: يستحب أن ينطق بما أحرم به، فإذا أراد أن يحرم بالتمتع نطق وقال: اللهم إني أريد العمرة متمتعاً بها إلى الحج، وإن أراد الإفراد قال: اللهم إني أريد الحج.. وإن أراد القران قال: اللهم إني أريد الحج والعمرة. والصحيح في ذلك أنه لا يستحب أن ينطق بما أحرم به؛ لأن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بحج، ومنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجٍ وعمرة)، وهذا في الصحيحين. وأيضاً تقدم حديث عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة ) .وعلى هذا فالصحيح أنه لا حاجة أن يبين أنه يريد التمتع أو القران أو الإفراد.ولكن كيف يهل؟ نقول: إن أراد التمتع فإنه يهل بالعمرة، فيقول: لبيك عمرةً لبيك.. لبيك اللهم لبيك، وإن أراد الإفراد فإنه يهل بالحج، ويقول: لبيك حجاً لبيك.. لبيك اللهم لبيك فقط، وإن أراد القران أهل بالعمرة والحج، أي: يقدم العمرة على الحج، فيقول: لبيك عمرةً وحجاً لبيك.. لبيك اللهم لبيك.. وهذا هو الصواب.
الاشتراط عند الإحرام
قال المؤلف رحمه الله: [ويشترط ويقول: اللهم إني أريد النسك الفلاني، فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني]. هذا الأدب السابع، ويفيد كلام المؤلف رحمه الله أن الاشتراط جائز؛ بل إنه مستحب، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، واستدلوا على ذلك بدليلين: الدليل الأول: حديث ضباعة بنت الزبير أنها ( أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج فكيف أقول؟ قال: لبيك اللهم لبيك ومحلي حيث حبستني ). الدليل الثاني: حديث عائشة : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل على ضباعة وهي شاكية، فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج وأجدني شاكية، فقال: حجي واشترطي ). والدليل الثاني: أنه ورد عن جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم الاشتراط. وهذا الرأي الأول.والرأي الثاني: أن الاشتراط لا يشرع إلا لمن كان خائفاً، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واستدل بقصة ضباعة بنت الزبير، فـضباعة رضي الله تعالى عنها رخص لها النبي صلى الله عليه وسلم بالاشتراط لأنها خائفة، أما غير الخائف فإنه لا يشترط ولا ينفعه الاشتراط؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يشترط؛ فقد اعتمر أربع عمر، وحج حجة الوداع ومع ذلك لم يشترط.والرأي الثالث: عدم مشروعية الاشتراط مطلقاً، وهذا قال به أبو حنيفة ، ودليله ما ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان ينكر الاشتراط، ويقول: حسبكم سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يشترط. فالآراء في هذه المسألة ثلاثة: الأول: المشروعية مطلقاً، والثاني: عدم المشروعية مطلقاً، والثالث: المشروعية لمن كان خائفاً وهذا القول هو الصواب، والدليل له حديث ضباعة رضي الله تعالى عنها.
أنساك الحج
قال المؤلف رحمه الله: [وهو مخير بين التمتع والإفراد والقران].أي: مخير بين هذه الأنساك الثلاثة، وأنساك الحج ثلاثة باتفاق الأئمة، والأئمة يتفقون على أن هذه الأنساك كلها جائزة، فمن أراد أن يتمتع فله ذلك، ومن أراد أن يقرن فله ذلك، ومن أراد أن يفرد فله ذلك، هذا ما عليه الأئمة الأربعة، ودليلهم كما تقدم حديث عائشة في الصحيحين قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بحج، ومنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجٍ وعمرة. أهل بحج هذا هو الإفراد.. أو بعمرة هذا هو التمتع.. وبحج وعمرة هذا هو القران.
أفضل أنواع النسك
لكن اختلف العلماء رحمهم الله في الأفضل: أي الأنساك أفضل؟ قال المؤلف رحمه الله: [وأفضلها التمتع ثم الإفراد ثم القران].وهذا المشهور من مذهب الحنابلة رحمهم الله؛ أن التمتع هو أفضل الأنساك، وعند أبي حنيفة الأفضل القران، وعند الإمام مالك والشافعي الأفضل هو الإفراد، ولكلٍ منهم دليل:فأما من قال بأن الأفضل التمتع فاستدلوا بأن التمتع ذكره الله عز وجل في القرآن فقال: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، وأيضاً النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم ) .والذين قالوا بأن الأفضل القران استدلوا بأدلة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً، وقد روى قران النبي صلى الله عليه وسلم ما يقرب من ستة عشر نفساً من الصحابة، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: لا أشك في أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قارناً.وأما من قالوا بأن الأفضل الإفراد فقد استدلوا بأن هذا هو الوارد عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان أربعة وعشرون عاماً يفردون الحج، وأيضاً لكي يعمر البيت، فالإنسان إذا خصص الحج بسفرة والعمرة بسفرة أدى ذلك إلى عمارة البيت.والصواب أن يقال: الأفضل أن الإنسان يكون متمتعاً إلا في حالتين: الحالة الأولى: إذا ساق الهدي، فإن ساق الهدي فالأفضل القران.الحالة الثانية: إذا اعتمر قبل أشهر الحج وبقي في مكة حتى حج، مثلاً اعتمر في رمضان أو في شعبان، وبقي في مكة حتى حج، فإن الأفضل الإفراد.فأصبح عندنا الأفضل التمتع إلا في حالتين: الحالة الأولى: يكون القران فيها أفضل وهو ما إذا ساق الهدي. والحالة الثانية: يكون الإفراد أفضل وهو ما إذا اعتمر قبل أشهر الحج ومكث في مكة حتى حج، فإن الأفضل الإفراد.
صورة التمتع والإفراد
قال المؤلف رحمه الله: [والتمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج في عامه].هذه صورة التمتع: أن تحرم بالعمرة في أشهر الحج -وقد تقدم لنا أشهر الحج أنها تدخل بشوال- ويفرغ من العمرة، ثم يحرم بالحج في عامه.. وهذا هو التمتع، فإذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج ولم يسافر إلى أهله؛ لأنه إذا سافر إلى أهله فإنه يبطل تمتعه، أي: لا يسافر بين العمرة وبين الحج إلى أهله، كما ورد ذلك عن عمر وابنه رضي الله تعالى عنهما.وقوله: (أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها) فلا يدخل عليها الحج، فإن أدخل عليها الحج قبل أن يفرغ منها، فإنه لا يكون متمتعاً كما سيأتي.وقوله: (ثم يحرم بالحج في عامه) هذه هي صورة التمتع.قال رحمه الله: [والإفراد: أن يحرم بالحج وحده].الإفراد أن يحرم بالحج وحده، وليس بشرط أن يحرم بالعمرة بعد الحج.. فلو أحرم بالعمرة بعد الحج فهذا ليس قيداً وليس شرطاً للإفراد.
القران وصوره
قال المؤلف رحمه الله: [والقران: أن يحرم بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج، ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم ينعقد إحرامه بالعمرة].القران له ثلاث صور:الصورة الأولى: قوله: (أن يحرم بهما) أي يحرم بالعمرة والحج جميعاً، والسنة أن يبدأ بذكر العمرة قبل الحج، فيقول: لبيك عمرة وحجةً.. لبيك اللهم لبيك، كما تقدم في حديث عمر رضي الله تعالى عنه.الصورة الثانية: قوله: (أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج) كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أحرمت بالعمرة ثم حاضت، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحرم بالحج فتكون قارنة. وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا بأس للإنسان أن يحرم بالعمرة ثم يحرم بالحج مطلقاً، سواء كان لحاجة أو لغير حاجة، أي: سواء كان هناك حاجة تدعوه إلى ذلك أو لم يكن هناك حاجة. وهذا الرأي الأول.وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يدخل الحج على العمرة إلا إذا كان يحتاج، مثل حال عائشة ؛ فـعائشة أحرمت بالعمرة وحاضت، فلو قلنا: تنتظر ولا تحرم بالحج حتى تنتهي من العمرة فاتها الحج؛ لأن عائشة الآن لما أحرمت بالعمرة تريد أن تجلس مدة الحيض تقريباً ستة أيام أو سبعة.. وهنا يفوتها الحج، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل الحج على العمرة.. هنا حاجة، فإذا كان الإنسان يحتاج إلى ذلك: امرأة حاضت، أو إنسان أحرم بالعمرة بعد ذلك حصل له عائق أو حادث أو غير ذلك، فلو قلنا بأنه لا يحرم بالحج حتى ينتهي من العمرة، فقد يطول عليه الحادث والتخلص منه ثم ينتهي من العمرة وقد فاته الحج، فهنا لا بأس أن يحرم بالحج ويدخل الحج على العمرة لكي يكون قارناً.فالرأي الثاني: أنه لا يدخل الحج على العمرة إلا عند الحاجة، كما في حال عائشة ونحوها .الصورة الثالثة: قوله: (ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة) أي لو أحرم بالحج ثم لبى بالعمرة؛ لأن عندنا مسألتان:المسألة الأولى: إنسان أحرم بالحج ثم بعد ذلك فسخ الحج إلى عمرة لكي يكون متمتعاً، فهو أحرم بالحج مفرداً، أو أحرم بالعمرة والحج قارناً، ثم فسخ إحرامه إلى التمتع، فنقول: هذا حكمه سنة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة بذلك، فالقارن إذا لم يسق الهدي وكذا المفرد يستحب لهما أن يفسخا إحرامهما إلى عمرة ليكونا متمتعين.المسألة الثانية: ليست فسخاً، وإنما هي إدخال نسك على نسك.. فأحرم بالحج أو لبى بالحج: لبيك حجاً لبيك.. لبيك اللهم لبيك، ثم بعد ذلك أدخل عليه العمرة.. لبى بالعمرة، فقال: لبيك عمرةً لبيك.. لبيك اللهم لبيك، هل يصح هذا الإدخال ويكون قارناً أو لا يصح؟ هذا فيه رأيان:الرأي الأول: أنه لا يصح، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة، لم ينعقد إحرامه بالعمرة) وهذا هو المشهور من المذهب.والرأي الثاني رأي الحنفية: أن هذا الإدخال صحيح، لوروده عن علي رضي الله تعالى عنه، وعلى هذا تكون هذه هي الصورة الثالثة من صور القران: أن يحرم بالحج ثم يدخل عليه العمرة.. يلبي بالعمرة.
التلبية
قال المؤلف رحمه الله: [فإذا استوى على راحلته لبى فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك].هذا الأدب الثامن: أن يلبي إذا استوى على راحلته، وهذا قال به الإمام مالك رحمه الله؛ ودليل ذلك حديث جابر أنه قال: إن إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته. وهو في البخاري . وهذا الرأي الأول.والرأي الثاني رأي الشافعي : أنه يشرع في التلبية إذا سار، سواء كان راكباً أو كان ماشياً على رجليه، فإذا بدأ بالمشي فإنه يبدأ بالتلبية، ودليل ذلك أيضاً حديث جابر أنه قال: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحرم إذا توجهنا إلى منى )، وهذا أخرجه مسلم .والرأي الثالث: رأي أحمد وأبي حنيفة أنه يبدأ الإحرام من بعد الفراغ من الصلاة، أي: بعد أن ينتهي الإنسان من صلاته يبدأ بالتلبية مباشرةً، وهذا دليله حديث ابن عباس أن النبي عليه السلام أهل دبر صلاة الظهر، وأيضاً تقدم حديث عمر في البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرةً في حجة ) فقال: صل وقل، فهذا يدل على أن الإهلال إنما هو دبر الصلاة.وهكذا جمع ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، كما في مسند أحمد أن سعيد بن جبير سأل ابن عباس عن اختلاف الناس في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، فجمع ابن عباس بأن الناس كانوا يأتون أوزاعاً متفرقين، فسمعه أناس يهل دبر صلاة فأخذوا ذلك عنه، وسمعه أناس يهل لما استوت به راحلته فأخذوا ذلك عنه، وسمعه أناس يهل لما سار وعلا على البيداء فأخذوا ذلك عنه.وقول المؤلف رحمه الله: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) هذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في الصحيحين، وقد ورد أيضاً من حديث أبي هريرة في مسند الإمام أحمد : ( لبيك إله الحق لبيك ) وهذا أخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه ، وأيضاً ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه: (لبيك مربوباً ومرهوباً إليك، ذا النعماء والفضل الحسن)، وورد أيضاً عن أنس : (لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً)، فإذا أتى الإنسان بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم أو بما ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإن هذا جائز.

ابو وليد البحيرى
2019-04-01, 03:55 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [4]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(50)


إذا دخل الحاج في النسك بالتلبية فإنه عند ذلك يمنع من أمور يسميها الفقهاء محظورات الإحرام، ومن هذه المحظورات إزالة شيء من شعر الرأس أو الجسم بحلق أو غيره، ومن ذلك لبس المخيط، ويباح عمن لم يجد الإزار لبس السراويل، ومن المحظورات لبس الخفين وتغطية الرأس، ويشر
تابع التلبية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويستحب الإكثار منها ورفع الصوت بها لغير النساء، وهي آكد فيما إذا علا نشزاً أو هبط وادياً، أو سمع ملبياً أو فعل محظوراً ناسياً أو لقي ركباً، وفي أدبار الصلاة المكتوبة وبالأسحار وإقبال الليل والنهار].تقدم لنا في الدرس السابق شيءٌ من سنن الإحرام وآدابه، وذكر المؤلف رحمه الله من هذه السنن الاغتسال وما يتعلق به من حيث الكيفية والحكم، وكذلك أيضاً التنظف بأخذ سنن الفطرة، وهل هو من سنن الإحرام؟ وهل يشرع للإحرام صلاة خاصة؟وتكلمنا في آخر ما تكلمنا عليه ما يتعلق بالتلبية ومتى تشرع، وأن العلماء رحمهم الله اختلفوا في ذلك على أقوال: القول الأول: أنه يبدأ بالإهلال دبر الصلاة. والقول الثاني: أنه يبدأ إذا استوت به راحلته. والقول الثالث: أنه يبدأ إذا بدأ بالمسير.ثم ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الدرس شيئاً من الأحكام المتعلقة بالتلبية؛ فذكر ما يتعلق برفع الصوت، وأيضاً متى تتأكد التلبية.
الإكثار من التلبية ورفع الصوت بها
فنقول: يشرع الإكثار من التلبية ورفع الصوت بها، ويدل لهذا حديث السائب بن خلاد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال ) وهذا أخرجه الترمذي وصححه، وبقول أنس رضي الله عنه في صحيح البخاري : سمعتهم يصرخون بها صراخاً، وكذلك أيضاً ذكر جابر رضي الله تعالى عنه: أن حلوقهم كانت تبح من رفع أصواتهم بالإهلال.ورفع الصوت بالتلبية هذا باتفاق الأئمة.
أوقات تتأكد فيها التلبية
وذكر المؤلف رحمه الله تعالى بأن التلبية تتأكد إذا علا نشزاً أو هبط وادياً، أو صلى مكتوبةً، أو أقبل ليل أو نهار، أو التقت الرفاق أو سمع ملبياً. وما ذكره المؤلف رحمه الله دليله ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يلبي راكباً ونازلاً ومضطجعاً، وهذا أخرجه البيهقي ، وكذلك أيضاً روى سعيد بن منصور كما روى خيثمة بن أبي سبرة ، يقول: كان أصحاب عبد الله -يعني: عبد الله بن مسعود - يلبون إذا هبطوا وادياً، أو أشرفوا على أكمةٍ، أو لقوا ركباً، وبالأسحار ودبر الصلاة.
تلبية النساء
كذلك أيضاً الرجل يصوت بها، وأما المرأة فإنها تخفيها، ولا تجهر بها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها، لأن أمر المرأة مبني على الحشمة والحياء والستر.
محظورات الإحرام
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب محظورات الإحرام]. بعد أن ذكر المؤلف ما يتعلق بالإحرام وآدابه شرع رحمه الله فيما يتعلق محظورات الإحرام.المحظور ت، أي: المحرمات، وقوله: (الإحرام) هذا سبق بيانه، فالمراد بهذا الباب: المحرمات بسبب الإحرام، وتقدم أن ذكرنا أن المحرم إذا دخل في النسك، فإنه يحرم على نفسه شيئاً من المباحات التي كانت مباحة له قبل دخوله في النسك، فقولنا: المحظورات، أي: المحرمات بسبب الإحرام.والحكمة من تحريم هذه الأشياء على المحرم هي: البعد عن الترفه، وتربية النفس على التقشف والاتصاف بصفة الخاشع، ولكي يتذكر بتجرده عن المخيط القدوم على ربه عز وجل فيكون أقرب إلى مراقبته. وكذلك أيضاً من الحكم: استكمال العبادة في جميع البدن. ومن الحكم أيضاً: أن الإنسان إذا أحرم فإنه ينبه نفسه أنه في عبادة لا ينبغي له أن يشتغل إلا بها.ثم قال المؤلف رحمه الله: [وهي تسعة].يعني: أن محظورات الإحرام تسعة أشياء، وهذا الحصر بناءً على استقراء العلماء رحمهم الله؛ فإن العلماء رحمهم الله استقرؤوا الأدلة، فتلخص لهم من الأدلة أنها تسعة محظورات، وسيأتي إن شاء الله بيانها.وهل فعل شيءٍ من هذه المحظورات محرم؟ يعني: هل يأثم الإنسان إذا فعل شيئاً من هذه المحظورات؟ نقول بأن فعل هذه المحظورات ينقسم إلى قسمين:القسم الأول: أن يفعلها لحاجة، فهذا لا إثم عليه، وإنما تجب عليه الفدية كما سيأتي إن شاء الله بيانها.القسم الثاني: أن يفعلها لغير حاجة، فهذا يأثم.
المحظور الأول: إزالة شيء من الشعر بحلق أو غيره
قال المؤلف رحمه الله: [ الأول والثاني: حلق الشعر].هذا المحظور الأول من محظورات الإحرام وهو حلق الشعر، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أن حلق الشعر من جميع البدن من محظورات الإحرام، سواء حلقه من الرأس، أو حلقه من الأماكن التي يشرع أخذ الشعر منها، كسنن الفطرة: قص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، أو حلقه من بقية البدن. واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] فقالوا: إن الله عز وجل نص على حلق الرأس، وأُلحق بقية الشعر بالرأس، وجمهور أهل العلم رحمهم الله يتفقون على أن حلق الشعر من جميع البدن -سواء كان من الرأس أو من بقية البدن- أنه من محظورات الإحرام.وإن كانوا يختلفون في تحديد المحظور إلا أنهم يتفقون من حيث الجملة أن حلق الشعر يشمل كل البدن، ولا يختص ذلك بالرأس. وهذا الرأي الأول.والرأي الثاني: وهو رأي ابن حزم رحمه الله أن حلق الشعر الذي هو محظور من محظورات الإحرام إنما هو حلق شعر الرأس فقط، أما أخذ الشعر من بقية البدن فإنه ليس من محظورات الإحرام؛ لأن النص إنما ورد في شعر الرأس فقط.والقول بأن النص إنما ورد في شعر الرأس فقط هذا غير مسلم؛ فإن الله عز وجل قال: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] وقضاء التفث هذا إنما يكون يوم النحر عند التحلل، وقد فسره جمع من العلماء كـمحمد بن كعب وغيره: أن قضاء التفث المراد به حلق العانة ونتف الإبط والأخذ من الشارب وقص الأظفار.. هكذا فسره طوائف من أئمة اللغة وجمع من المفسرين، فدل ذلك -أعني تفسير قوله سبحانه وتعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ)- أنه كان ممنوعاً من هذه الأشياء قبل تحلله.وعلى هذا نقول: الشَّعر ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: شعر الرأس، وهذا لا إشكال في أنه من محظورات الإحرام، والاتفاق واقع على ذلك.القسم الثاني: الشعر الذي يشرع أخذه وندب الشارع إلى أخذه، كشعر الإبط والشارب والعانة، فهذه أيضاً دل قول الله عز وجل: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج:29] على أنه أيضاً من محظورات الإحرام.القسم الثالث: الشعر من بقية البدن، فهذا لا دليل على أنه محظور من محظورات الإحرام، ولكن الأولى والأحسن بالمسلم أن يترك ذلك؛ لأنه كما سبق أن الأئمة الأربعة رحمهم الله كلهم يتفقون على أنه من محظورات الإحرام، وإن كان يختلفون في شيءٍ من التفاصيل.وقول المؤلف رحمه الله: (حلق الشعر) يشمل ما إذا نتفه، يعني: سواء كان حلقاً، أو كان ذلك عن طريق النتف، أو كان ذلك عن طريق القص، فهذا كله لا يجوز لعموم قول الله عز وجل: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] وسيأتينا إن شاء الله ما هو الشعر الذي إذا حلق ترتبت الفدية في حلقه، ولكن هنا بينا: هل حلق الشعر أو قص الشعر من محظورات الإحرام أو لا؟ وتلخص لنا أن الشعر ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة.
المحظور الثاني: تقليم الأظفار
قال المؤلف رحمه الله: [وقلم الظفر].أيضاً اتفق الأئمة الأربعة على أن تقليم الأظفار من محظورات الإحرام، واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، فإن قضاء التفث فسره جمع من المفسرين وأهل اللغة أن المراد به قص الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وتقليم الأظفار. وورد أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله سبحانه وتعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ): هو وضع إحرامهم؛ من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار.فتفسير ابن عباس على أنه مما يدخل في التفث قص الأظفار، والله عز وجل قال: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) وهذا إنما يكون عند إيفاء النذر. وإيفاء النذر يكون يوم العيد، فإن الإنسان إذا أحرم يكون كأنه نذر إتمام هذا النسك؛ ولهذا سبق أن أشرنا إلى أن الإحرام بالحج والعمرة من ميزته: أنه لا يمكن أن تبطل الإحرام بالحج والعمرة، يعني: لو أن الإنسان دخل في الحج أو دخل في العمرة وأراد أن يبطل الإحرام بهما فإنه لا يتمكن من ذلك، ولا يمكن أن يخرج من إحرام الحج والعمرة إلا بواحدٍ من أمورٍ ثلاثة: الأول: إتمام النسك، كما قال الله عز وجل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]. والثاني: الردة عن دين الإسلام. والثالث: الإحصار.وما عدا ذلك لا يمكن، وللأسف تجد بعض الناس يذهب للإحرام ثم يجد مشقةً أو زحاماً، ثم يقول: أبطلت الإحرام ورجعت، ويلبس ثيابه، وهذا لا يبطل إحرامه؛ بل لا يزال محرماً، وكونه لبس الثياب أو رفض الإحرام فإن الإحرام لا يبطل ولا يمكن أن يخرج من الإحرام إلا بواحدٍ من هذه الأمور الثلاثة، ولهذا سماه الله عز وجل نذراً، والله عز وجل يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].المهم: هذا الذي دخل في نسك الحج إيفاؤه بالنذر إنما يكون يوم النحر؛ لأن يوم النحر به يحصل التحلل الأول، وقد يتحلل الإنسان التحلل الثاني، فإذا حصل التحلل الأول فإنه يقضي تفثه ويحلق عانته ويقص شاربه وينتف إبطه ويقص أظفاره، فدل على أنه كان ممنوعاً من هذه الأشياء. وهذا الرأي الأول.والرأي الثاني: رأي الظاهرية، فقالوا بأن قص الأظفار هذا ليس من محظورات الإحرام، فلا بأس أن يقص الإنسان أظفار يده أو أظفار رجله، وأنَّ هذا ليس من محظورات الإحرام، ولكن ما ذهب إليه جماهير أهل العلم رحمهم الله، وقلنا بأن الأئمة يتفقون على ذلك هو الأقرب. فالأقرب أن الإنسان يترك قص أظفاره لما ذكرنا من دليلهم.
مقدار الفدية عند حلق الشعر وقلم الأظفار
قال المؤلف رحمه الله: (ففي ثلاثة منها دم، وفي كل واحد مما دونه مد طعام وهو ربع صاع).يقول المؤلف رحمه الله: (في ثلاثة أظفار دم). يعني: إذا قلم ظفراً أو بعض ظفرٍ، فهذا يجب عليه أن يطعم مسكيناً، فإذا قلم ظفرين فإنه يجب عليه أن يطعم مسكينين، فإذا قلم ثلاثة أظفار فإنه يجب عليه الدم، والمراد بالدم هنا: فدية الأذى، وما هي فدية الأذى؟ كما سيأتينا إن شاء الله فدية الأذى: أنه مخير بين أن يصوم ثلاثة أيام، أو أن يطعم ستة مساكين، أو أن يذبح شاةً، والشاة أيضاً مخير في ذلك بين أمورٍ أربعة: إما سبع بدنة، أو سبع بقرة، أو ثني معز، أو جذع ضأن.فقوله رحمه الله: إذا قلم ثلاثة أظفار يجب عليه دم. هذا كما أشرنا إلى أن المراد بالدم هنا فدية الأذى، وفدية الأذى يكون فيها مخيراً بين أن يذبح شاة أو أن يطعم ستة مساكين، أو يصوم ثلاثة أيام، وكونه يصوم فبعض الناس قد يكون الصيام عليه سهلاً، وأيضاً إطعام ستة مساكين قد يكون أسهل، وذبح الشاة مخير في ذلك بين واحدٍ من أمورٍ أربعة سبق أن بيناها.أيضاً بالنسبة للشعر، يقولون: إذا حلق شعرةً فعليه أن يطعم مسكيناً، فإذا حلق شعرتين فعليه أن يطعم مسكينين، فإذا حلق ثلاث شعرات فعليه دم، والمراد بالدم هو فدية أذى، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد وذكره المؤلف رحمه الله، وهو أيضاً مذهب الشافعي رحمه الله تعالى. وهو الرأي الأول.والرأي الثاني: أنه لا تلزم الفدية إلا إذا حلق من رأسه ما يحصل به إماطة الأذى فإنه تلزمه الفدية، ودليل ذلك قصة كعب رضي الله عنه كما في قول الله عز وجل: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، وهذه الآية نزلت في كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه لما حمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهه، فأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يحلق رأسه وأن يخرج الفدية، أي: فدية من صيام أو صدقة أو نسك؛ إما صيام ثلاثة أيام، أو صدقة: يطعم كل مسكينٍ نصف صاع، أو نسك: أن يذبح شاةً، فهو مخير بين هذه الأمور الثلاثة.فإذا حلق ما يحصل به إماطة الأذى فإنه تجب عليه الفدية، أما إذا حلق دون ذلك فإن الفدية لا تجب عليه، ولهذا ثبت في صحيح البخاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم )، ولا شك أن الإنسان إذا احتجم فإنه سيأخذ شيئاً من شعره، ولم يرد أن النبي عليه الصلاة والسلام أخرج في ذلك فديةً.وعلى هذا نقول: عندنا فرق بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي؛ ففي الحكم التكليفي التحريم، أي: نقول بأنه يحرم على الإنسان أن يأخذ ولو شعرة واحدة من رأسه؛ لأن الله عز وجل قال: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] والنهي يتعلق بجميع أفراد المنهي عنه، لكن بالنسبة للحكم الوضعي متى تجب الفدية؟ نقول: لا تترتب الفدية إلا إذا حلق من شعره ما تحصل به إماطة الأذى؛ كما قال الإمام مالك رحمه الله: ما يحصل به إماطة الأذى أو الترفه، فإذا حصل ذلك لزمت الفدية، كما في قصة كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه.أما لو حلق شعرة أو شعرتين أو عشر شعرات مما لا يحصل به إماطة الأذى فنقول: لا دليل على الفدية، والمؤلف يقول: إذا حلق شعرة فعليه إطعام مسكين وإذا حلق شعرتين فعليه أن يطعم مسكينين وإذا حلق ثلاثاً هنا ترتبت عليه الفدية، ولكن الصحيح أن نقول بأنه يفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي؛ ففي الحكم التكليفي: نقول بأن النهي يتعلق بجميع أفراد المنهي عنه، ولا يكون الإنسان ممتثلاً النهي حتى يترك جميع أفراد المنهي عنه، وهذا بالنسبة للتحريم، وأما بالنسبة للحكم الوضعي وما يتعلق بالفدية، فنقول: الذي دل عليه الدليل أنه إذا حلق من رأسه ما تحصل به إماطة الأذى فإن الفدية تترتب عليه.وكذلك أيضاً بالنسبة لتقليم الأظفار، فهناك فرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي؛ لأن تقليم الأظفار من محظورات الإحرام كما قال جماهير أهل العلم وكما ذكرنا الدليل على ذلك، فهذا حكم تكليفي؛ فيحرم على الإنسان أن يأخذ هذه الأشياء إذا كان لغير حاجة، ولكن هل وجب في ذلك فدية وهل دل دليل على وجود فدية في تقليم الأظفار؟ نقول بأنه لم يرد في ذلك دليل، فلا بد أن نفرق بين ما يتعلق بالحكم التكليفي وبين ما يتعلق بالحكم الوضعي وهو الفدية.
ما يلزم من نزول الشعر على العين وكسر الظفر
قال المؤلف رحمه الله: [وإن خرج في عينه شعر فقلعه، أو نزل شعره فغطى عينه، أو انكسر ظفره فقصه فلا شيء عليه].إذا خرجت شعرةٌ في عينه فقلعها فإنه لا شيء عليه في ذلك، مع أنه قال المؤلف رحمه الله فيما تقدم: أنه إذا حلق شعرةً أو قصها فعليه إطعام مسكين، وهنا يقول: إذا خرج في عينه شيء فقلعه فإنه لا شيء عليه، والعلة في ذلك، قيل: لأن هذا من حكم دفع الصائل، والمحرم له أن يدفع الصائل، فإذا خرج في عينه شيء فإنه لا فدية عليه لأذى كالصائل، كما لو صال عليه شيء فدفعه حتى قتله فإنه لا شيء عليه.وقوله رحمه الله: (أو نزل شعره فغطى عينه) أيضاً لو نزل الشعر من رأسه فغطى عينيه فقصه، هذا أيضاً نقول: دفعه لأذى هذا الشعر كدفع الصائل، فلا يجب عليه شيء.وقوله رحمه الله: (أو انكسر ظفره فقصه فلا شيء عليه) إذا انكسر الظفر فقصه فإنه لا شيء عليه لما تقدم أن ذكرنا أنّ هذا كالصائل.
المحظور الثالث لبس المخيط
يقول المؤلف رحمه الله: [الثالث: لبس المخيط إلا أن لا يجد إزاراً فيلبس سراويل، أو لا يجد نعلين فيلبس خفين ولا فدية عليه].هذا المحظور الثالث من محظورات الإحرام، وهو: لبس المخيط، وتقدم أن ذكر المؤلف رحمه الله المحظور الأول: وهو حلق الشعر، وبينا ما المراد بالشعر الذي يمنع من حلقه، والشعر الذي يباح حلقه، ثم ذكر المؤلف رحمه الله المحظور الثاني: وهو تقليم الأظفار، ثم بعد ذلك شرع في المحظور الثالث: وهو لبس المخيط. ودليل ذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: ما يلبس المحرم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا يلبس القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما من أسفل الكعبين، ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه زعفران أو ورس ) وهذا الحديث في الصحيحين، وأيضاً في سنن البيهقي : ( ولا القبا ) .وقول المؤلف رحمه الله: (لبس المخيط) هذه اللفظة لم ترد في السنة، أي: لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: لا يلبس المحرم المخيط، وإنما عبر بها بعض العلماء فتلقاها العلماء عالماً عن عالم، وهذه اللفظة أوقعت بعض الناس في شيءٍ من الإشكال، فتجد أن كثيراً من عامة الناس يسأل: عن ثوب الإحرام إذا كان فيه شيء من الخياطة، هل يجوز أن يلبسه أو لا يجوز أن يلبسه؟ ويسأل أيضاً عن النعل إذا كان فيها شيء من الخياطة، يظن أن المراد بالمخيط هو تلك الخيوط الموجودة المغروزة، وليس كذلك، لكن ذكر العلماء رحمهم الله ضابط المخيط: أنه ما صنع على قدر العضو، يعني: كل ما صنع على قدر العضو أو على قدر البدن بحيث يحيط به؛ إما بخياطة أو بنسج أو غير ذلك، فالمراد بالمخيط هو: ما صنع على قدر العضو أو على قدر البدن بحيث يحيط به، فهذا هو المراد، وليس المراد هو وجود خيوط في اللباس الذي يلبسه المحرم.وحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات، ولا البرانس ولا الخفاف ).نقول: ما يمنع المحرم من لبسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:القسم الأول: ما كان منصوصاً عليه، يعني: جاء النص عليه في السنة، فنقول: هذا لا إشكال في أن المحرم ليس له أن يلبسه، والنبي عليه الصلاة والسلام نص على القمص ونص على السراويلات والعمائم والبرانس والخفاف، وكما قلنا: أيضاً وفي سنن البيهقي : ( ولا القباء )، في حديث يعلى بن أمية : ( الجبة )، فما كان منصوصاً عليه هذا يمنع منه.القسم الثاني: ما كان في معنى المنصوص عليه؛ إذ إن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات، فهناك أشياء في معنى هذه الأشياء، فما كان في معنى هذه الأشياء أيضاً يكون ممنوعاً، مثل: الكوت، فهذا يمنع منه المحرم، ومثل: الفانيلة، هذا أيضاً يمنع منه المحرم؛ لأنها في معنى المنصوص عليه، ومثل: الجوارب للذكر، فهذا أيضاً يمنع منه المحرم؛ لأنها في معنى المنصوص عليه.القسم الثالث: ما كان ليس في معنى المنصوص عليه أو متردداً بينه وبين غير المنصوص عليه، فنقول: الأصل في ذلك الحل، فما ليس في معنى ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم أو كان متردداً بين أن يكون منصوصاً عليه أو يكون غير منصوص عليه -يعني: لا يظهر في أحدهما- فهذا نقول فيه: الأصل في ذلك الحل، وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، مثل: نظارة العين والساعة والخاتم، فهذه ليست بمعنى المنصوص عليه، فليست في معنى الثياب والسراويل والبرانس والخفاف.ومثل ذلك أيضاً: ما يوجد عند بعض الناس يصل إزاره، يعني: يكون الإزار موصولاً مخيطاً، فهذا داخل في ذلك ولا يظهر أنه في معنى المنصوص عليه، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام نص على الإزار، قال عليه الصلاة والسلام: ( فإن لم يجد إزاراً فإنه يلبس السراويل ) وهذا يشمل ما إذا كان موصولاً أو كان غير موصول، المهم يظهر هنا عدم دخوله، ولو قلنا بأنه في معنى المنصوص عليه فإنه مستثنى؛ لدخوله في عموم لبس الإزار.ومثل ذلك أيضاً: أن بعض الناس يلبس شيئاً على ركبته أو خرقةً على فخذه ونحو ذلك من الأشياء، فنقول: بأن هذه الأشياء ليست في معنى المنصوص عليه، ومثل ذلك أيضاً: المحفظة والمنطقة التي يلبسها الحاج يحفظ فيها النقود، فهذه ليست في معنى المنصوص عليه.
لبس المحرم للسراويل وفتقه
وقوله رحمه الله: (لبس المخيط إلا أن لا يجد إزاراً فيلبس سراويل) ذكرنا الدليل على ذلك، فإذا لم يجد إزاراً فإنه يلبس السراويل؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل ) ولحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وكذلك أيضاً إذا لم يجد نعلين فإنه يلبس الخفين.وهل يجب عليه أن يفتق السراويل وأن يقطع الخفين، أو نقول بأنه لا يجب عليه؟ يعني: هذا محرم لم يجد إزاراً، نقول: البس السراويل، أو أحرم وأنت عليك سراويل.. ما يضر هذا، أو لم يجد نعلين نقول: البس الخفين وأحرم بهما، هل يجب عليه أن يقطع الخفين من الأسفل حيث يظهر العقب، وهل يجب عليه أن يفتق السراويل بحيث أنها تكون كالإزار، أو نقول بأنه لا يجب عليه شيء من ذلك؟هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، والصواب: أنه لا يجب عليه شيء من ذلك؛ لأن الأمر بالقطع في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان في أول الأمر.. كان في المدينة، ثم بعد ذلك خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في عرفة ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم القطع، فدل ذلك على أنه قد نسخ. وعلى هذا نقول بأنه كما قال المؤلف رحمه الله: فليلبس السراويل ولا يجب عليه أن يفتقها، وكذلك أيضاً يلبس الخفين ولا يجب عليه أن يقطعهما.
عقد المحرم لإزاره وردائه
أيضاً قبل أن ننتقل عن هذا المحظور نذكر مسألتين من المسائل المتعلقة بلبس المخيط، وهما ما يتعلق بعقد الرداء وعقد الإزار، فعندنا مسألتان: هل للإنسان أن يعقد رداءه أو ليس له ذلك؟ وهل له أن يعقد إزاره أو ليس له ذلك؟أما بالنسبة للإزار فالإنسان له أن يعقد إزاره، وجمهور أهل العلم رحمهم الله على ذلك؛ لأنه محتاج إلى ستر عورته، والإزار هو الذي يستر النصف الأسفل من البدن، فإذا احتاج إلى أن يشبكه بمشبك ونحو ذلك فإن هذا جائز ولا بأس به، وهذا عند جمهور أهل العلم خلافاً للمالكية فإنهم لم يجوزوا ذلك.وبالنسبة للرداء الذي يستر أعلى البدن، هل للمحرم أن يشبكه أو ليس له أن يشبكه؟ جمهور أهل العلم رحمهم الله على أنه ليس له أن يشبكه، وعند الحنفية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن له ذلك، يعني: له أن يشبك الرداء وهذا هو الصحيح، فنقول: الإزار له أن يشبكه لحاجته إلى ستر العورة، فإذا احتاج أن يشبكه بمشبك أو مشبكين أو ثلاثة، نقول: هذا لا بأس به، وبالنسبة للرداء لا بأس أن يشبكه، لكن لا يكثر من ذلك، لأنك تجد أن بعض الناس يكثر من شبك الرداء ويضع مشابك كثيرة، فنقول: الأولى والأحسن ترك ذلك ويقتصر على مشبك واحد؛ لأنه كما أسلفنا أن جمهور أهل العلم رحمهم الله يمنعون من شبك الرداء.
لبس النعلين والخفين عند عدمهما للمحرم
كذلك أيضاً المسألة الأخيرة: لا بأس أن المحرم يلبس النعلين سواء كان رجلاً أو امرأةً، فالمرأة لها أن تلبس الجوارب ولها أن تلبس الخفاف، فهناك فرق بين إحرام المرأة وإحرام الرجل كما سيأتينا إن شاء الله؛ فبالنسبة للرجل له أن يلبس النعلين ولكن ليس له أن يلبس الجوارب في الرجلين أو الجوارب في اليدين، وهل له أن يلبس الخفين المقطوعين من أسفل، أو نقول: لا يلبس الخفين المقطوعين من أسفل إلا إذا لم يجد نعلين؟ يعني: توجد الآن بعض النعال تستر القدم، يعني: العقب يكون ظاهراً، هل هذه جائزة أو ليست جائزة؟ يعني: عندنا نعال يدخل فيها اللابس رجله بحيث أنها تستر قدمه ويبقى العقب ظاهراً، فهل هذه النعال جائزة أو ليست جائزة؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، والمشهور عند الحنفية رحمهم الله أن هذا جائز ولا بأس به، وعند المالكية والشافعية أن هذا غير جائز، والأقرب في هذا الجواز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذا الخف المقطوع بدلاً عن النعل، فدل ذلك على أن النعل المشبه لهذا الخف بحيث أنه يستر القدم جائز ولا بأس به.
المحظور الرابع: تغطية الرأس والأذنين
ثم قال المؤلف رحمه الله: [الرابع: تغطية الرأس، والأذنان منه].هذا المحظور الرابع من محظورات الإحرام، ودليله ما تقدم في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: ما يلبس المحرم؟ قال: لا يلبس القمص ولا العمائم ) والعمائم هذه من لباس الرأس. وأيضاً في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الرجل الذي وقصته راحلته، قال عليه الصلاة والسلام: ( اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ) فتغطية الرأس من محظورات الإحرام، وهي من محظورات الإحرام الخاصة بالذكر، أما الأنثى فسيأتينا إن شاء الله أن لها أن تغطي رأسها.
أقسام تغطية الرأس وأحكامها
وتغطية الرأس ذكر العلماء رحمهم الله له أقساماً:القسم الأول: أن يغطي رأسه بلباسٍ معتاد، مثل: العمامة وما يقوم مقام العمامة اليوم، مثل: الطاقية والغترة والشماغ وغير ذلك من هذه الأشياء التي تختلف باختلاف الأعراف والبلدان والأزمنة والأمكنة فنقول بأن هذا من محظورات الإحرام.القسم الثاني: أن يغطي رأسه بشيءٍ غير معتاد، مثل: لو أنه غطى رأسه بقرطاس، أو بشيء من الورق مثلاً، فهل هذا من المحظورات أو ليس من المحظورات؟ نقول: هذا من محظورات الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا تخمروا رأسه ) يعني: تغطوا، وهذا داخل في التغطية.القسم الثالث: أن يحمل على رأسه شيئاً، يعني: يحمل متاعاً ونحو ذلك، فهل هذا داخل في النهي أو ليس داخلاً في النهي؟ هذا فيه تفصيل؛ فإن قصد بالحمل أن يغطي رأسه فهذا من محظورات الإحرام، وإن لم يقصد ذلك وإنما قصد أن يحمل متاعه على رأسه فإن هذا جائز ولا بأس به.القسم الرابع: أن يستظل بشيءٍ غير تابع له، فهذا ليس من محظورات الإحرام، كما لو استظل ببيت أو خيمة ونحو ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام ضربت له القبة بنمرة.القسم الخامس: أن يستظل بشيءٍ تابع، يعني: يتحرك بحركته، مثل: السيارة ومثل الشمسية التي يحملها في يده، فهل هذا من المحظورات أو ليس من المحظورات؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فعند المالكية والحنابلة يرون أنه من محظورات الإحرام، وعند الشافعية والحنفية أن هذا ليس من محظورات الإحرام، والصحيح أن هذا ليس من محظورات الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التغطية ولم ينه عن الاستظلال، وورد في حديث أم الحصين رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: ( حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة )، وهذا أخرجه مسلم في صحيحه، فالصحيح أن الاستظلال بشيءٍ تابع للإنسان لا بأس به.القسم السادس: أن يلبد رأسه كما لبد النبي عليه الصلاة والسلام رأسه، يعني: لو لبد رأسه بشيءٍ من الصمغ أو العسل أو نحو ذلك لكي يجتمع ولا يتشعث، فإن هذا لا بأس به.القسم السابع: أن يعصبه بسيرٍ ونحو ذلك، أو خرقة أو ثوب، فإن العلماء رحمهم الله يقولون بأنه داخل في تغطية الرأس؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن تغطية الرأس، والنهي يتعلق بجميع أفراد المنهي عنه كما تقدم.
تغطية الوجه في الإحرام
بقيت مسألة أخيرة وهي ما يتعلق بتغطية الوجه: هل تغطية الوجه من المحظورات، يعني: هل يجوز للمحرم أن يغطي وجهه أو لا يجوز له ذلك؟ ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن المحرم يجوز له أن يغطي وجهه، ودليل ذلك قوله رحمه الله: (الرابع: تغطية الرأس) ولم يذكر الوجه، وهذا أيضاً قول الشافعية، يعني: أن المحظور هو تغطية الرأس، أما بالنسبة للوجه فإنه لا بأس أن يُغطى. واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الذي وقصته راحلته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تخمروا رأسه ) هكذا في الصحيحين، فيفهم منه أن الوجه لا بأس للإنسان أن يغطيه، فلو احتاج أن ينام لا بأس، أو احتاج أن يضع على وجهه كماماً عن الغبار أو عن الدخان فإن هذا لا بأس به.وقد ورد عن الصحابة عثمان وزيد بن ثابت أنهم كانوا يخمرون وجوههم وهم حرم، وكذلك أيضاً ورد ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأيضاً ورد عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: يغطي المحرم أنفه من الغبار، ويغطي وجهه وهو نائم.

مصباح حسن يوسف
2019-04-01, 07:03 AM
شكر الله لك

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 04:55 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [5]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(51)


من محظورات الإحرام الطيب، سواء كان في بدن أو ثوب أو طعام أو فراش، وكذلك يخطر على المحرم قتل الصيد الوحشي المباح، ومن المحظورات أيضاً عقد النكاح، والمباشرة بشهوة فيما دون الفرج، أو الوطء في الفرج.
المحظور الخامس: استعمال الطيب وصوره
قال المؤلف رحمه الله تعالى في باب محظورات الإحرام: [ الخامس: الطيب في بدنه وثيابه ].تقدم لنا شيءٌ من محظورات الإحرام، وتكلمنا على حلق الشعر وهل هو خاص بالرأس أو أنه شامل لسائر أجزاء البدن؟ وتكلمنا أيضاً متى تجب الفدية، وكذلك أيضاً تكلمنا عن تقليم الأظفار، وهل هو من المحظورات أو ليس من المحظورات، وتكلمنا أيضاً عن لبس المخيط وما هو ضابطه والصور الداخلة تحته، وكذلك أيضاً تكلمنا عن تغطية الرأس.ثم شرع المؤلف رحمه الله في المحظور الخامس قال: (الطيب في بدنه وثيابه).الطيب هذا من محظورات الإحرام، وقد دل لذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يلبس المحرم ثوباً مصبوغاً بزعفرانٍ أو ورس )، وأيضاً حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته راحلته: ( اغسلوه بماءٍ وسدر ولا تقربوه طيباً ) وهذا رواه مسلم في صحيحه.والأئمة الأربعة كلهم متفقون على أن الطيب من محظورات الإحرام وإن كانوا يختلفون في بعض تفاصيله.وضابط الطيب -الذي هو من محظورات الإحرام- عند جمهور أهل العلم رحمهم الله قالوا: كل ما يتخذ منه الطيب إذا ظهر منه قصد الريح. واعلم أن التطيب للمحرم تحته صور:الصورة الأولى: قال المؤلف رحمه الله: (في بدنه وثيابه).هذه الصورة الأولى، فهذا من محظورات الإحرام وتقدم لنا حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يلبس المحرم ثوباً مصبوغاً بزعفران أو ورس )، وكذلك أيضاً تقدم لنا حديث ابن عباس في الذي وقصته راحلته فقال عليه الصلاة والسلام: ( اغسلوه ولا تقربوه طيباً ولا تغطوا وجهه ) .ولا شك أن قوله: (ولا تقربوه طيباً) أن هذا يشمل حتى البدن، يعني: ثياب الميت وبدنه كله داخل تحت قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ولا تقربوه طيباً ). فهذه الصورة الأولى: استعمال الطيب في البدن وفي الثياب.الصورة الثانية: استعمال الطيب في الطعام، فهذا أيضاً من محظورات الإحرام إلا إذا طبخ بحيث ذهب ريحه وطعمه فإنه لا شيء فيه؛ لأنه لا يعد طيباً، فنقول: الصورة الثانية كما لو وضع زعفراناً في مشروبه أو مأكوله ونحو ذلك، فنقول بأن هذا من محظورات الإحرام إلا إذا طبخ فلم يبق شيء من طعمه ولا من ريحه فإن هذا لا بأس به.الصورة الثالثة: إذا استعمله في فراشه الذي يجلس عليه أو ينام عليه فهذا أيضاً داخل عند أهل العلم رحمهم الله، وقد نص عليه طوائف من أهل العلم على أنه داخل في محظورات الإحرام.الصورة الرابعة: أن يتقصد شم الطيب، فهذا أيضاً من محظورات الإحرام؛ لأن المقصود من الطيب رائحته لا عينه، فإذا شمه فقد حصل المقصود وهذا المذهب، وعند أكثر أهل العلم رحمهم الله أنه لا يحرم بل يُكره، لكن الشافعية قالوا: إن تبخر فعليه الفدية.الصورة الخامسة: أن يشمه لا لقصد التلذذ برائحته وإنما شمه لقصد آخر، كما لو أراد استعلام جودته يعني: يريد أن يشتريه فأراد أن يستعلم جودته هل هو جيد أو ليس جيداً، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، وابن القيم رحمه الله يذهب إلى أنه ليس فيه شيء؛ لأنه ما قصد الرائحة والتلذذ بالرائحة وإنما قصد أن يستعمله.الصورة الأخيرة: إذا شمه بغير قصد، مثلاً مر مع دكان عطار ونحو ذلك فشم الطيب بغير قصد منه فهذا لا شيء عليه.
المحظور السادس: قتل الصيد
ثم قال المؤلف رحمه الله: [السادس: قتل الصيد، وهو ما كان وحشياً مباحاً].قتل الصيد دل عليه القرآن والسنة والإجماع: أما القرآن فقول الله عز وجل: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:1] وأيضاً قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95] .وأما من السنة فحديث جابر رضي الله تعالى عنه، وكذلك أيضاً حديث أبي قتادة وحديث الصعب بن جثامة لما أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً فرده النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ( إنا لا نرده عليك إلا أنا حرم ) وأيضاً حديث أبي قتادة لما صاد الحمار الوحشي وهو غير محرم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وكانوا محرمين: ( هل منكم أحد أمر أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها ) وهذا رواه البخاري ومسلم .والإجماع منعقد على ذلك.
شروط الصيد المحرَّم قتله
واشترط المؤلف رحمه الله فقال: (وهو ما كان وحشياً مباحاً): الشرط الأول: أن يكون وحشياً، يعني: أن يكون برياً أصلاً، يعني: أصله وحشي حتى ولو تأهل، فإنه لا يجوز للمحرم أن يقتله، وذلك، مثل: الغزال والظباء وحمار الوحش ونحو ذلك، فهذه الأشياء أصلها وحشية، فإذا قتلها المحرم فعليه الفدية ولا يجوز ذلك حتى ولو تأهلت، يعني: حتى ولو كان عندنا غزال وأصبحت أهلية واستأنست فإنه لا يجوز أن يقتلها.وقوله رحمه الله: (وحشياً) هذا يخرج الأهلي كما سيأتي، مثل: الإبل والبقر والغنم ونحو ذلك، فمثل هذه الأشياء لا تحرم على المحرم -كما سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله- أما المحرم فكما تقدم فلا يجوز له قتل الوحشي حتى ولو تأهل، وضربنا مثالاً فقلنا: كالغزال وكحمار الوحش وكالحمام أيضاً وكالبط؛ لأن هذه الأشياء أصلها وحشي، فهي متوحشة حتى ولو تأهلت، فإن التحريم لا يزال باقياً. وهذا الشرط الأول.الشرط الثاني: قوله رحمه الله: (مباحاً)، وعلى هذا إذا قتل حيواناً غير مباح فإنه لا شيء في ذلك، فلو قتل المحرم أسداً أو قتل نمراً أو قتل ذئباً ونحو ذلك فإن هذا لا شيء فيه.
أقسام الحيوانات بالنسبة لإباحة القتل وعدم إباحته
واعلم أن الحيوانات بالنسبة للقتل وغير القتل يعني: ما يباح قتله وما لا يباح قتله، نقول بأنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:القسم الأول: ما يشرع قتله -أي: ما أمر الشارع بقتله- وهو كل مؤذٍ، فهذا يستحب لك أن تقتله، ومن ذلك ما جاء في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( خمس فواسقٍ يقتلن في الحل والحرم: الفأرة، والحدأة، والحية، والكلب العقور، والغراب الأبقع ) وفي بعض الروايات: العقرب. فهذه أمر الشارع بقتلها فيشرع أن تقتلها؛ بل هو سنة، ومثل ذلك أيضاً: الوزغ، أمر الشارع بقتله، ومثل ذلك أيضاً: الكلب الأسود -الذي سواده خالص- فهذا أمر الشارع بقتله، فالكلاب ثلاثة: كلب عقور هذا سن قتله، والكلب الأسود أيضاً رخص الشارع في قتله، وما عدا هذين الكلبين يدخل في القسم الثالث -الذي سيأتينا- وهو ما سكت عنه.إذاً القسم الأول: ما أمر الشارع بقتله وهو ما كان مؤذياً، فهذا نقول: السنة أن يقتل وذكرنا لذلك أمثلة.القسم الثاني: ما نهى الشارع عن قتله، وهذا كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد ) أخرجه أبو داود . فنقول بأنه لا يجوز قتل هذه الأشياء اللهم إلا إذا كانت مؤذية، يعني: إذا أصبحت تؤذي فإنها تنتقل إلى القسم الأول.القسم الثالث: ما سكت الشارع عنه، مثل: البعوض، فإن كان البعوض مؤذياً دخل في القسم الأول، لكن مثل الخنفساء أو الجعل أو الفراشة، والقسم الثالث من أقسام الكلاب وهو ما ليس أسود وليس عقوراً، فهذه الأشياء التي لا تؤذي سكت عنها الشارع، فهي ليست مؤذية، أما إذا كانت مؤذية فتنتقل إلى القسم الأول ولم ينه الشارع عن قتلها، فالتي سكت الشارع عنها هل تقتل أو لا تقتل؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله: فمن العلماء من رخص في قتلها، ومنهم من نهى عن قتلها، والأحوط ترك قتلها؛ لأنها لم تخلق إلا لحكمة إلا إذا آذت فإنها تنتقل إلى القسم الأول.
حكم الصيد الذي قتله المحرم
بالنسبة لقتل الصيد ذكرنا الدليل عليه، وقتل الصيد تحته مسائل: المسألة الأولى: حكم الصيد الذي قتله المحرم، نقول: حكم الصيد الذي قتله المحرم أنه ميتة لا يجوز أن يؤكل، ودليل ذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95] فسماه الله عز وجل قتلاً ولم يسمه تذكيةً، فدل ذلك على أنه يكون ميتة، والقتل لا تحل به البهيمة، فالبهيمة المأكولة لا تحل إلا بتذكيتها.
أكل المحرم من صيد قتله غيره
المسألة الثانية: هل يباح للمحرم أكل الصيد أو لا يباح له أكل الصيد؟ يعني المسألة الثانية: حكم أكل الصيد للمحرم فنقول: إن كان هذا الصيد قتله محرم فحكم هذا أنه ميتة للمحرم وغير المحرم، لكن إن كان قتله حلال، فهل للمحرم أن يأكل منه أو ليس له أن يأكل منه؟ نقول: إن كان المحرم له أثرٌ في صيده، يعني: أشار أو أعان أو ناول سلاحاً ونحو ذلك فإنه لا يجوز له أن يأكل منه.إذاً: الصيد الذي قتله حلال مباح؛ لكن هل للمحرم أن يأكل منه؟ نقول: إن كان للمحرم أثر في صيده بحيث أعان بدلالة أو بمناولة سلاح أو بإشارة ونحو ذلك فلا يجوز له أن يأكل منه، ودليل ذلك ما تقدم من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( هل منكم أحد أمر أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمه ) متفق عليه.فإن لم يكن للمحرم أثر في صيده فهل له أن يأكل منه أو ليس له أن يأكل منه؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، والصواب في هذه المسألة ما تجتمع فيها الأدلة: أنه إن صيد من أجل المحرم فليس له أن يأكل منه، وإن لم يصد من أجله فله أن يأكل منه.والدليل على ذلك حديث الصعب بن جثامة أنه أهدى للنبي عليه الصلاة والسلام حماراً وحشياً فرده النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رأى ما في وجهه قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنا لم نرده عليك إلا أنَّا حرم ) هذا حمله العلماء رحمهم الله على أن الصعب صاده للنبي عليه الصلاة والسلام، وإن كان لم يصد من أجله فكما تقدم في حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كلوا ما بقي من لحمها ) .وفي حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصد لكم ) وهذا أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وفيه ضعف، لكن له شاهد من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وبهذا تجتمع الأدلة.وهذا القول الذي عليه أكثر أهل العلم التفصيل، وهذا هو أحسن الأقوال خلافاً لمن منع من ذلك ومن أجاز؛ فمنع من ذلك بعض السلف مثل الثوري رحمه الله، فقال: لا يجوز أن يأكل المحرم من الصيد مطلقاً، ومن أجاز ذلك كالحنفية قالوا: يجوز أن يأكل من الصيد مطلقاً، والصحيح في ذلك الذي عليه أكثر أهل العلم التفصيل في هذه المسألة.
ضمان المحرم للصيد الذي أعان على قتله
المسألة الثالثة: إذا دل المحرم غيره على الصيد، وتقدم لنا أنه إذا دل المحرم هل له أن يأكل منه أو ليس له أن يأكل؟ ليس له أن يأكل، وإن كان دل محرماً فهذا ميتة -حرام على المحرم وغيره- وإن كان دل حلالاً فهو حلال لكن ليس له أن يأكل، لكن هنا المسألة بالنسبة للضمان إذا دل المحرم عليه.المحرم عليه إذا باشر قتله فعليه الضمان هذه مسألة، والثانية: إذا لم يباشر قتله، وإنما دل غيره كأن أعان على قتله بدلالة ونحو ذلك، فهل عليه ضمان أو ليس عليه ضمان؟ نقول: إذا دل غيره لا يخلو من أمرين:الأمر الأول: أن يدل محرماً أو يعين محرماً بدلالة أو مناولة سلاح أو غير ذلك، فالمحرم هو الذي قتل، فعلى من الضمان: هل الضمان على المباشر، أو الضمان على المباشر والمتسبب؟ عندنا الآن محرم دل محرماً على القتل فقام المحرم بالقتل، فعندنا إنسان تسبب وإنسان باشر، فهذه موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، والصحيح في هذه المسألة: أن الضمان على المباشر، وأما المتسبب فإنه يأثم، وهذا قول الإمام مالك رحمه الله والشافعي، والمذهب: أن الضمان عليهما جميعاً، وعند أبي حنيفة على كل منهم جزاء كامل.والصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي ؛ لأن القاعدة في التضمين: أن الضمان يكون على المباشر إذا أمكن تضمينه، فإن لم يمكن تضمينه فنرجع إلى المتسبب.الأمر الثاني: أن يدل المحرم حلالاً على قتله، فالمحرم يأثم وهذا الصيد حلال؛ لأن الذي قتله حلال، وليس له أن يأكل منه، والضمان على من؟ هذا موضع خلاف، والصحيح في هذه المسألة أن الضمان على المحرم الذي دل الحلال. والحلال هل يمكن تضمينه أو لا يمكن تضمينه؟ نقول: لا يمكن تضمينه؛ لأنه يباح له الصيد، فنقول: الضمان هنا على المحرم؛ لأن الحلال لا يمكن تضمينه، والقاعدة أنه يضمن المباشر، فإذا لم نتمكن من تضمين المباشر فإننا نرجع إلى تضمين المتسبب، وهنا لا يمكن تضمين المباشر. وهذا قال به الحنفية والحنابلة رحمهم الله.وعند مالك والشافعي أنه لا شيء على المحرم لأنه لم يقتله، والصحيح ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة أنه يلزم المتسبب؛ لأن المباشر لا يمكن تضمينه في هذه الحال.
أكل المحرم من الأهلي وصيد البحر
قال رحمه الله: [وأما الأهلي فلا يحرم].نحن اشترطنا للصيد أن يكون برياً، وعلى هذا فالأهلي، مثل: الدجاج والإبل والبقر والغنم، ليست محرمة؛ لأنها ليست بصيد، والنبي عليه الصلاة والسلام كان ينحر البدن في إحرامه، فهذه الأشياء ليست صيداً، والله عز وجل إنما نهى عن الصيد، فنقول بأنها حلال، وعلى هذا لو ذكى المحرم دجاجةً نقول بأنها حلال، ولو ذكى شاةً نقول بأنها حلال، لكن لو ذكى غزالةً أو لو أمسك غزالة وكبر عليها وذكاها، فنقول بأنها ميتة.قال رحمه الله: [وأما صيد البحر فمباح] فلو أن إنساناً أحرم ثم ذهب إلى جدة وأتى سيف البحر وجعل يصيد السمك، فنقول بأن هذا جائز ولا بأس به؛ لقول الله عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96]. فالمحرم هو صيد البر، أما صيد البحر فإن هذا جائز ولا بأس به.وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن صيد البحر مباح حتى ولو كان بمكة، يعني: لو كان هناك بركة فيها سمك في مكة وصاد فإن ذلك مباح، وهذا خلاف المذهب، فالمذهب أن صيد البحر فيه تفصيل؛ بالنسبة للمحرم مباح، وبالنسبة إذا كان داخل مكة -داخل الحرم- فإنه لا يجوز.
المحظور السابع: عقد النكاح ومقدماته
قال رحمه الله: [ السابع: عقد النكاح حرام ولا فدية فيه ].هذا المحظور السابع من المحظورات وهو عقد النكاح، فعقد النكاح هذا محرم ولا يجوز، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله، واستدلوا على ذلك بحديث عثمان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا ينكح المحرم ولا ينكح ) وهذا أخرجه مسلم في صحيحه، وأيضاً ورد أن أبا غطفان المري أن أباه طريفاً تزوج امرأةً وهو محرم فرد عمر رضي الله تعالى عنه نكاحه، وهذا أخرجه الدارقطني والبيهقي.المهم عند جمهور أهل العلم أن المحرم لا يصح نكاحه ويحرم. وهذا الرأي الأول.والرأي الثاني: رأي الحنفية رحمهم الله قالوا بأنه يجوز عقد النكاح للمحرم، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس في الصحيحين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم ).وهذا أجاب عنه العلماء رحمهم الله بأجوبة: الجواب الأول: أن ميمونة ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهما حلالان بسرف كما في سنن أبي داود والترمذي .الجواب الثاني: أن أبا رافع السفير بين ميمونة والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر بأن النبي عليه الصلاة والسلام تزوجها وهو حلال.الجواب الثالث: أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ذكر أنه لم يعلم بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة إلا بعد أن أحرم عليه الصلاة والسلام، فظن أن النبي عليه الصلاة والسلام تزوجها وهو محرم.والصحيح ما عليه جماهير أهل العلم رحمهم الله.وعندنا ثلاثة: الزوج والزوجة والولي، فإذا كان واحد منهما محرماً فإن العقد لا يصح، فلو كان الزوج محرماً والزوجة والولي حلالان فلا يصح، ولو كانت الزوجة محرمة والآخران حلالان نقول بأنه لا يصح.المهم سواء كان الزوج أو الزوجة أو الولي أحدهما محرماً فإن العقد لا يصح حتى لو وكل، يعني: لو كان الزوج محرماً ووكل شخص يقبل عنه -وهو حلال- نقول: لا يصح؛ لأن النائب يقوم مقام من أنابه، والفرع له حكم الأصل، ولو وكلت المرأة أو وكل الولي نقول بأنه لا يصح.وقوله رحمه الله: (ولا فدية فيه) هذا سيأتينا إن شاء الله. أيضاً لم يتكلم المؤلف رحمه الله عن خطبة النكاح، يعني: كون الإنسان يخطب وهو محرم، نقول بأن هذا محرم ولا يجوز وهو الصحيح، وقال بعض أهل العلم بكراهتها، لكن الصحيح أن ذلك محرم؛ لأن الخطبة وسيلة إلى المحرم وما كان وسيلةً إلى محرم فإنه محرم.
المحظور الثامن: المباشرة بشهوة فيما دون الفرج
قال رحمه الله: [الثامن: المباشرة بشهوة فيما دون الفرج].يعني: كون الإنسان يباشر أهله لشهوة، يعني: يمس زوجته لشهوة ونحو ذلك، فنقول: هذا من محظورات الإحرام، ودليل ذلك قول الله عز وجل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، والرفث كما ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله أنه يشمل الجماع ومقدماته، وعلى هذا لا يجوز للمحرم أن يباشر أهله؛ لأن المباشرة وسيلة إلى الجماع والجماع محرم، وما كان وسيلةً إلى المحرم فهو محرم.قال المؤلف رحمه الله: [فإن أنزل بها فعليه بدنة، وإلا ففيها شاة].يعني: لو باشر زوجته حتى أنزل -خرج منه المني- فيقول المؤلف رحمه الله: عليه بدنة، وإن لم ينزل فعليه شاة، والمراد بالشاة إذا قالوا: شاة، أي: كما في فدية الأذى، يعني: أنه مخير بين أن يطعم ستة مساكين، أو يصوم ثلاثة أيام، أو يذبح شاة، والشاة المراد بها كما سبق لنا: جذع ضأن، أو ثني معز، أو سبع بدنة أو بقرة.فنقول: إذا باشر وأنزل فعليه بدنة، وإن لم ينزل فعليه شاة، والصحيح أن البدنة لا تلزم، فنقول: الصحيح أن فيه فدية أذى أنزل أو لم ينزل، وهذا سيأتينا إن شاء الله في باب الفدية.
المحظور التاسع: الوطء في الفرج
قال رحمه الله: [التاسع: الوطء في الفرج]. الجماع في الفرج محرم على المحرم ولا يجوز، وهو من محظورات الإحرام، ودليله -كما تقدم- قول الله عز وجل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ [البقرة:197]، فهذا نهي، والنهي يقتضي التحريم: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، والرفث كما أسلفنا أنه يشمل الجماع ومقدماته، وما المراد بالجماع؟ المراد بالجماع هو تغييب الحشفة، أي: رأس الذكر.قال المؤلف رحمه الله: [فإن كان قبل التحلل الأول فسد الحج، ووجب المضي في فاسده، والحج من قابل وعليه بدنة].اعلم أنه إذا جامع فهذا لا يخلو من ثلاثة أقسام:
الوطء قبل الوقوف بعرفة
القسم الأول: أن يجامع قبل الوقوف بعرفة، فهذا باتفاق الأئمة أنه يفسد حجه مع التحريم، وسيأتي أيضاً الأحكام الباقية، لكن المهم أنه إذا كان قبل الوقوف بعرفة فحجه فاسد مع التحريم، ويمضي في هذا النسك الفاسد وعليه بدنة ويقضي الحج من قابل وعليه التوبة، فهذه ستة أمور: التحريم، والفساد، ويمضي فيه، وعليه بدنة، ويحج من قابل، والتوبة.
الوطء بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول
القسم الثاني: أن يكون قبل التحلل الأول وبعد الوقوف بعرفة، فهذا أيضاً عند الجمهور أنه يفسد حجه، وعند الحنفية لا يرون فساد الحج، والصحيح في ذلك ما عليه جماهير أهل العلم رحمهم الله لورود الآثار عن الصحابة، والصحابة لم يستفصلوا هل كان قبل الوقوف بعرفة أو بعد الوقوف بعرفة، وذلك يوجب عموم الحكم. وهذا الرأي الأول.والرأي الثاني: رأي الحنفية فقالوا بأنه إذا كان بعد الوقوف بعرفة لا يفسد حجه لحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحج عرفة ). والصحيح ما ذهب إليه الجمهور كما تقدم. وعلى هذا تلزمه خمسة أمور:الأمر الأول: أنه يفسد حجه. والأمر الثاني: يمضي في هذا الحج الفاسد أي: لا يخرج منه. الأمر الثالث: تجب عليه البدنة.الأمر الرابع: يقضي هذا الحج الفاسد.الأمر الخامس: التوبة. ونقول بأن هذا وارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: ابن عباس وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، ويدل لذلك ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى أن رجلاً جاء ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فسأله عن محرم واقع امرأته؟ فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: بطل حجك، فقال الرجل: ما أصنع؟ قال: اخرج مع الناس واصنع ما يصنعون - يعني: تمضي في هذا الحج الفاسد - فإن أدركت قابلاً فحج -هذا القضاء- وأهد الهدي والتوبة، وذهب هذا الرجل وسأل عبد الله بن عمرو فأفتاه بمثل ما أفتى ابن عمر ، وسأل ابن عباس فأفتاه مثل ما أفتاه عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عن الجميع.فنقول: إذا جامع وجبت عليه هذه الأمور الخمسة.
الوطء بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني
قال رحمه الله: (وإن كان بعد التحلل الأول ففيه شاة ويحرم من التنعيم ليطوف محرماً).هذا القسم الثالث، نحن قلنا: الجماع ينقسم إلى ثلاثة: قبل الوقوف بعرفة.. بعد الوقوف وقبل التحلل الأول.. بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني، يعني: حتى الآن ما تحلل التحلل الثاني، لكن تحلل التحلل الأول فأصبح كل شيء يباح له إلا النساء، وبقي عليه التحلل الثاني -لو تحلل التحلل الثاني أبيح له كل شيء- فماذا عليه؟ فقال رحمه الله: (وإن كان بعد التحلل الأول ففيه شاة).فنقول: لا يفسد حجه، ويمضي مع الناس ولا يجب عليه القضاء، فما يلزمه إلا شيئان:الشيء الأول: فيه شاة، وما المراد بالشاة؟ نقول: فدية الأذى، يعني: إذا كان بعد التحلل الأول فهو مخير بين أن يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، أو يذبح شاة -جذع ضأن، أو ثني معز، أو سبع بدنة أو بقرة- وهذا الشيء الأول.الشيء الثاني: قال رحمه الله: (ويحرم من التنعيم ليطوف محرماً) أي: يطوف طواف الإفاضة، ثم نقول له: اذهب واخرج للحل، فقوله: (التنعيم)، المقصود بذلك الحل، وليس أن يأتي عين التنعيم، فنقول: اخرج إلى التنعيم وأحرم لكي تطوف طواف الإفاضة، تجدد الإحرام لطواف الإفاضة، والتوبة.والصحيح في هذا أن كونه يخرج إلى الحل ويحرم لكي يطوف للإفاضة أنه لا دليل عليه وأنه لا يلزمه ولا يجب عليه، يعني: لا يجب عليه أن يخرج إلى الحل -التنعيم أو غيره- ويحرم منه، وعلى هذا نقول: الصحيح أنه يلزمه شيئان: الشيء الأول فدية الأذى، والشيء الثاني: التوبة.
الوطء في العمرة وما يجب فيه
قال رحمه الله: (وإن وطئ في العمرة أفسدها ولا يفسد نسكه بغيره).إذا وطئ في العمرة يقول المؤلف رحمه الله: أفسدها، وإذا جامع في العمرة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:القسم الأول: أن يجامع قبل الطواف، يعني: بعد أن أحرم وقبل أن يشرع في العمرة جامع، فنقول: أولاً: تفسد عمرته. ثانياً: يمضي في هذه العمرة الفاسدة. ثالثاً: يقضي هذه العمرة.رابعاً: التوبة. خامساً: فدية الأذى. فإذا جامع قبل الطواف تلزمه خمسة أمور: فساد العمرة، والمضي في هذه العمرة الفاسدة، وقضاؤها، وفدية الأذى، والتوبة.القسم الثاني: أن يجامع بعد الطواف وقبل السعي، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم، والصحيح في ذلك أنه تجب عليه الخمسة الماضية.القسم الثالث: أن يجامع بعد السعي وقبل الحلق فهذا نقول: لا يجب عليه إلا ثلاثة أشياء: الشيء الأول: التوبة، والشيء الثاني: يفعل الواجب -الحلق- والشيء الثالث: فدية الأذى، فالصحيح أنه يجب عليه التوبة، وفدية الأذى، ويكمل الحلق.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 05:00 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [6]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(52)


الفدية التي تلزم من أتى شيئاً من محظورات الإحرام على نوعين: الأول: ما يكون على التخيير بين الصيام والصدقة والنسك وهذا في الحلق والتطيب ولبس المخيط، أما قتل الصيد فإن كان له مثل يذبح المثل أو يُقوَّم، أو الإطعام، أو الصوم، وإن لم يكن له مثل فليس له إلا الإ
أوجه الشبه والاختلاف بين إحرام الرجل وإحرام المرأة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمرأة كالرجل إلا أن إحرامها في وجهها ولها لبس المخيط].تقدم لنا سابقاً بقية محظورات الإحرام، وذكرنا من ذلك عقد النكاح، وأنه محظور من محظورات الإحرام عند جمهور أهل العلم رحمهم الله؛ لحديث عثمان رضي الله تعالى عنه الذي أخرجه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا ينكح المحرم ولا ينكح )، وذكرنا خلاف أبي حنيفة رحمه الله، وأنه يرى أن المحرم يصح نكاحه لحديث: ( تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بـميمونة وهو محرم )، كما رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.وأجبنا عن هذا الحديث بأجوبة ثلاثة، وقد ذكر العلماء رحمهم الله أجوبةً كثيرة، وذكرنا من أهم هذه الأجوبة: أن ميمونة صاحبة القصة روت أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي حلال، وكذلك أبو رافع السفير بينهما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي حلال.وذكرنا أن الحكم متعلق بالولي أو الزوج أو الزوجة، فإذا كان واحد منهم محرماً فإنه لا يصح النكاح، وتكلمنا أيضاً عن المباشرة للمحرم وأيضاً الجماع، وذكرنا أن الجماع للمحرم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يجامع قبل الوقوف بعرفة، والقسم الثاني: أن يجامع بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول، والقسم الثالث: أن يجامع بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني، وذكرنا الأحكام المترتبة على كل قسمٍ من هذه الأقسام. ‏
ما تشترك فيه المرأة مع الرجل من أحكام الإحرام
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والمرأة كالرجل). أي: في كل ما تقدم من المحظورات، فتقدم لنا من المحظورات على سبيل المثال: حلق الشعر، فحلق الشعر من محظورات الإحرام للرجل وللمرأة، وتقدم أن ذكرنا ما المراد بالشعر الذي هو من المحظورات، وأيضاً عند جمهور أهل العلم أن تقليم الأظفار من المحظورات للرجل وللمرأة، والطيب من المحظورات للرجل وللمرأة.. وقتل الصيد من المحظورات للرجل وللمرأة.. والمباشرة.. والجماع.. وعقد النكاح.والقاعدة في ذلك: أن ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء، والعكس بالعكس، إلا لدليلٍ يدل على التفريق، وأيضاً الأدلة عامة، فقول الله عز وجل: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ [البقرة:196] هذا يشمل الرجل والمرأة، فنقول: المرأة كالرجل في كل ما تقدم من محظورات الإحرام.
ستر الوجه للمحرمة
قال رحمه الله: (إلا أن إحرامها في وجهها).ذكر المؤلف رحمه الله أمرين، أو استثنى مسألتين تخالف فيهما المرأة الرجل: المسألة الأولى: قال: (إلا أن إحرامها في وجهها).ودليل ذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين ). وكذلك أيضاً ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها. وهذا الأثر أخرجه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.والأقرب في ذلك أن يقال بأن المرأة ممنوعة من لباسٍ خاصٍ بالوجه، ولا تمنع من ستر الوجه، وقول المؤلف رحمه الله: (إحرام المرأة في وجهها) هذا التعبير فيه نظر، بل الصحيح أن يقال: المرأة ممنوعة من لباسٍ خاصٍ بالوجه، كما ذهب إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إحرام المرأة في وجهها، وإنما قال: ( لا تنتقب المرأة ) يعني: لا تلبس النقاب، وألحق العلماء رحمهم الله بالنقاب ما كان في معناه مما هو لباس خاص بالوجه كالبرقع مثلاً.وعلى ذلك نقول: المرأة لا تلبس لباساً خاصاً بالوجه، أما ستر الوجه فإن هذا جائز ولا بأس به، ولم يرد دليل ينهى المرأة عن تغطية وجهها؛ بل الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم هو تغطية المرأة لوجهها، فقد روت فاطمة بنت المنذر رحمها الله تعالى قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق . وهذا الأثر أخرجه الحاكم في المستدرك وذكر صحته.لكن اشترط بعض العلماء ألا يمس الساتر وجه المرأة، كما ذهب إلى ذلك الحنفية والشافعية، أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيقول بأن هذا لا دليل عليه.فالخلاصة في ذلك: أن المرأة ممنوعة من لباس خاصٍ بالوجه، أما ستر الوجه فإن هذا جائز، وذكرنا دليلين: الدليل الأول أنه لم يرد منع من ذلك، والدليل الثاني: أن هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما ذكرنا ذلك عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها.
تغطية اليدين للمحرمة
وقوله رحمه الله: (إلا أن إحرامها في وجهها) ظاهر كلامه أن المرأة لها أن تستر يديها وهذا صواب، فالمرأة وهي محرمة لها أن تستر يديها إلا أنها ممنوعة من لباسٍ خاصٍ باليدين لحديث ابن عمر السابق، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين ) وهذا أخرجه البخاري في صحيحه.فنقول بأن المرأة ممنوعة من لباس خاص باليدين كالقفازين، ومن لباس خاص بالوجه، أما كونها تستر يديها بعباءتها ونحو ذلك فهذا لا بأس به، بل إذا كانت بحضرة الرجال الأجانب فيجب عليها أن تستر وجهها وأن تستر يديها.فتلخص لنا أن الفرق بين المرأة والرجل كالتالي: الأول: اللباس الخاص بوجه المرأة.. فهي ممنوعة منه. الفرق الثاني: اللباس الخاص بيدي المرأة أيضاً ممنوعة منه، أما ستر الوجه وستر اليدين فإن هذا جائز ولا بأس به، بل قلنا: إذا كانت المرأة بحضرة الرجال الأجانب فيجب عليها أن تسترهما.
لبس المخيط للمحرمة
قوله رحمه الله: (ولها لبس المخيط). أي: للمرأة أن تلبس ما شاءت من المخيط بخلاف الرجل؛ فإن الرجل ليس له أن يلبس المخيط، وهذا هو الفرق الثالث: لها أن تلبس المخيط وما شاءت من الثياب ومن السراويل وسائر أنواع المخيط، أما بالنسبة للرجل فإنه يمنع من ذلك كما تقدم لنا، وسبق أن بينا ما الذي يمنع منه الرجل.والدليل على أن المرأة تلبس المخيط: أن الأصل في ذلك الحل، وكذلك أيضاً هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقد ورد عن عائشة كما في صحيح البخاري : أنها لم تر بأساً أن تلبس المرأة الحلي، والثوب الأسود، والمورد، والخف.فالمرأة لها أن تلبس جوارب الرجلين، ولها أن تلبس الخفاف، ولها أن تلبس الثياب وتغطي رأسها. والخلاصة: أن الفرق بين الرجل والمرأة في ثلاث مسائل: المسألة الأولى: لباس خاص بالوجه، المسألة الثانية: لباس خاص باليدين، المسألة الثالثة: لبس المخيط، أي اللباس الخاص بالبدن لها أن تستعمله، وما عدا ذلك فإنه جائز.ويباح لها أن تتحلى بالخلخال والسوار ونحو ذلك، لكن لا تظهر بهذه الزينة أمام الرجال الأجانب، وسبق أن أوردنا أثر عائشة رضي الله تعالى عنها أنها لم تر بأساً بالحلي للمرأة.
الفدية
قال رحمه الله: [باب الفدية: وهي على ضربين].لما تكلم المؤلف رحمه الله على محظورات الإحرام شرع في بيان الفدية لهذه المحظورات، وقد سبق لنا أن بينا شيئاً من هذه الفدية فيما تقدم، لكن عقد لها المؤلف رحمه الله هذا الباب المستقل.فقوله رحمه الله: (الفدية) الفدى: ما يعطى في افتكاك الأسير أو الإنقاذ من الهلكة، وتسمية ما يجب على من فعل محظوراً من محظورات الإحرام بالفدية هذا يدل على أنه وقع في هلكة، وأنه يحتاج إلى شيءٍ يفديه لكي يخرجه من هذه الهلكة، وفي هذا دليل على ما تقدم وأشرنا إليه أن من فعل محظوراً من المحظورات هل يأثم أو لا يأثم؟ وذكرنا التفصيل في هذه المسألة.قوله رحمه الله: (وهي على ضربين).يعني: أن الفدية على ضربين، أي: على قسمين.قال رحمه الله: [أحدهما: على التخيير، وهي فدية الأذى واللبس والطيب، فله الخيار بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ثلاثة آصع من تمرٍ لستة مساكين، أو ذبح شاة].الفدية قسمها المؤلف رحمه الله إلى قسمين، وسنقسمها نحن تقسيماً آخر، فقسمها المؤلف رحمه الله تعالى إلى قسمين:القسم الأول على التخيير، والقسم الثاني على الترتيب، فما هو الذي على التخيير؟
الفدية التي تقع على التخيير

فدية الأذى والطيب ولبس المخيط
قال رحمه الله: الذي على التخيير: (فدية الأذى)، يعني: فدية حلق الرأس، وفدية اللبس، وفدية الطيب مخير فيها: فمن حلق رأسه نقول: أنت مخير، ولا يقال كما يقول بعض الناس: عليك دم، فهذا خطأ، يعني: أنه لا يجب عليه الدم مباشرة، بل هو مخير؛ لأن كونه يطعم ستة مساكين أهون عليه من الدم أو أن يصوم ثلاثة أيام، والبعض أيضاً قد يكون الصيام أيسر عليه من كونه يطعم ستة مساكين، فإذا حلق رأسه أو لبس المخيط بأن لبس ثوباً أو تطيب، فهذا يقول المؤلف رحمه الله تعالى بأنه مخير بين ثلاثة أمور: الأمر الأول أن يصوم: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ [البقرة:196] وهي أن يصوم ثلاثة أيام، أَوْ صَدَقَةٍ [البقرة:196] وهي أن يطعم ستة مساكين وسيأتينا، نُسُكٍ [البقرة:196] وهو أن يذبح شاة، والمراد إذا قال العلماء رحمهم الله: شاة، فإنه لا يتعين الضأن، نقول: أنت مخير بين واحدٍ من أمور أربعة: إما جذع ضأن، أو ثني معز، أو سبع بدنة، أو سبع بقرة؛ لأنه قد يكون سبع البقرة أرخص.. أو قد يكون سبع البدنة أرخص.فأصبح عندنا فدية الأذى هي هذه الأمور الثلاثة، وهي للحلق، والحلق قام عليه الدليل، وتكلمنا عليه فيما سبق، يعني: متى تجب الفدية ومتى لا تجب، وأن اللبس على رأي جمهور أهل العلم فيه الفدية، والطيب على رأي جمهور أهل العلم فيه الفدية، فإذا أخذنا برأي جمهور أهل العلم، نقول: إنه مخير بين هذه الأمور الثلاثة.ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، وكذلك أيضاً حديث كعب بن عجرة لما حمل للنبي صلى الله عليه وسلم وقد آذاه هوام رأسه، فأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يحلق رأسه وأن يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، أو يذبح شاةً.وقول المؤلف رحمه الله: (بين صيام ثلاثة أيام).ظاهر كلام المؤلف رحمه الله، أن هذه الثلاثة الأيام لا بأس أن تكون متفرقة أو تكون متتابعة؛ لأن النص ورد مطلقاً، وعلى هذا إذا صامها متفرقةً فإن هذا لا بأس به، وإن تابع بينها أيضاً لا بأس به.وقوله رحمه الله: (أو إطعام ثلاثة آصع).وهنا تكون الفدية مقدرة لكل مسكينٍ نصف صاع، فنقول: يطعم ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع؛ لأن الفدية في هذا الموضع ورد تقديرها، والكفارة في الشرع منها ما ورد تقدير المعطى والآخذ، ومنها ما ورد تقدير الآخذ دون المعطى، ومنها ما ورد تقدير المعطى دون الآخذ، وهذا حسب استقراء الأدلة الشرعية بالنسبة للفدية: إذاً: الأقسام ثلاثة:القسم الأول: ما ورد فيه تقدير المعطى والآخذ كما هنا، قدر المعطى بثلاثة آصع، والآخذ بستة.القسم الثاني: ما قدر فيه الآخذ دون المعطى، ومثاله: كفارة اليمين، وكفارة الظهار، والوطء في نهار رمضان، فهنا قدر الآخذ دون المعطى، فقال الله عز وجل: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89] ولم يحدد هؤلاء العشرة كم يأخذون، بل يرجع ذلك إلى العرف.القسم الثالث: ما قدر فيه المعطى دون الآخذ، وهذا عكس القسم الثاني الذي هو ما قدر فيه الآخذ دون المعطى، وهذا مثل: زكاة الفطر، فزكاة الفطر قدر فيها المعطى دون الآخذ، تخرج صاعاً تعطيه واحداً، أي: مسكيناً أو مسكينين أو ثلاثة.. كله جائز، فالأقسام في ذلك ثلاثة.والشاهد هنا أنه في هذا الباب قدر المعطى من الفدية ومن يأخذ هذه الفدية فقال: (لستة مساكين). وقوله رحمه الله: (أو ذبح شاة).قوله: (شاة) هنا لا يتعين، وقلنا بأن المراد بقولهم رحمهم الله: شاة، أنه يجب عليه جذع ضأن، أو ثني معز، أو سبع بدنة، أو سبع بقرة.
جزاء قتل الصيد الذي له مثل
قال رحمه الله: [وجزاء الصيد مثل ما قتل من النعم إلا الطائر فإن فيه قيمته إلا الحمامة ففيها شاة، والنعامة فيها بدنة، ويتخير بين إخراج المثل وتقويمه بطعام، فيطعم كل مسكين مداً، أو يصوم عن كل مد يوماً].المهم: جزاء الصيد على التخيير، وجزاء الصيد ينقسم إلى قسمين:القسم الأول: ما له مثل، والقسم الثاني: ما ليس له مثل؛ فإن كان الصيد الذي قتله المحرم له مثل، فنقول للمحرم: أنت مخير بين أن تخرج هذا المثل أي تذبحه، أو نقوم المثل هذا كم يساوي وتشتري بهذا المثل طعاماً، أو تخرج بقدره من بيتك، أو تصوم عن كل مدٍ يوماً، فأنت مخير بين هذه الأمور الثلاثة.إذا كان له مثل، نقول: أنت مخير فإما أن تذبح المثل، أو نقوم المثل كم يساوي فتشتري بقيمته طعاماً، أو تخرج طعاماً من بيتك بقدر قيمة هذه الدراهم وتعطيه للمساكين، أو تصوم عن كل مدٍ يوماً، مثال ذلك: محرم قتل نعامةً، النعامة هل لها مثل أو ليس لها مثل؟ نعم لها مثل، والصحابة رضي الله تعالى عنهم حكموا بأن النعامة فيها بدنة، فنقول لهذا الذي قتل النعامة: أنت مخير إما أن تخرج بدنة أي بعير، أو نقوم هذا البعير.. فننظر كم يساوي؟ فإن قالوا: يساوي ألف ريال، فتشتري بهذه الألف طعاماً وتعطيه للمساكين، فالألف كم تشتري بها طعاماً بالمد؟ قالوا: مثلاً من البر تشتري ألف مد، نقول: اشتر الطعام، أو أخرج من بيتك إذا كان عندك وتطعم ألف مد من البر، فإن قال: أنا لن أطعم ولن أذبح المثل، نقول له أيضاً: تصوم، وكم يجب عليه أن يصوم من الأيام؟ يجب عليه أن يصوم ألف يوم.فنقول: أنت مخير بين هذه الأمور الثلاثة: إما أن تذبح المثل، أو أن المثل يقوم وتشتري بقيمته طعاماً وتعطيه المساكين، أو تصوم عن كل مدٍ يوماً، ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً [المائدة:95] فقال: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) ثم قال: (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً) فأنت مخير بين هذه الأمور الثلاثة.فنقول: إما أنك تذبح المثل لهذا الصيد، أو نقوم المثل وتشتري به طعاماً ويعطى للمساكين، أو تصوم عن كل مدٍ يوماً، وقد قلنا بأنه يشتري طعاماً.. فما هو الطعام؟ الطعام إما أن يكون براً أو أن يكون غير بر؛ فإن كان براً فإنه يصوم عن كل مدٍ يوماً، وإن كان غير بر مثل تمر أو شعير يصوم عن كل مدين يوماً، فإذا قدرنا المثل بألف ريال، والجمل أو البعير بألف ريال، نقول: اشتر براً أو غير بر، كم تشتري بالألف أمداداً؟ فإن قالوا: تشتري ألف مد، قلنا: اعطه المساكين، أو صم عن كل مدٍ يوماً.فلو اشترى بالألف أيضاً ألف مد من الشعير، كم يجب عليه أن يصوم أياماً؟ عليه صيام خمسمائة يوم؛ لأن الشعير كل مسكين يأخذ مدين، أما البر فكل مسكين يأخذ مداً واحداً، فهنا يصوم خمسمائة يوم، لكن في البر يصوم ألفاً، فلو أن الألف الريال تأتي بألف مد من البر، أو ألفي صاع من الشعير، كم يجب عليه أن يصوم أياماً؟ عليه ألف يوم؛ لأنهم يقولون: يصوم عن كل مدٍ إذا كان من البر يوماً، وإن كان من غير البر كالتمر مثلاً أو الرز يصوم عن كل مدين يوماً.والأظهر -والله أعلم- في هذا أن يقال: أن الله عز وجل قال: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً [المائدة:95]. نقوم المثل فإن كان المثل يأتي بخمسمائة ريال، نشتري بها طعاماً، وننظر كم يأخذ المسكين عرفاً مداً أو مدين، وما هو طعامه في العرف؟ فإذا كان طعامه في العرف مداً نعطيه مداً، وإذا كان مدين نعطيه مدين، وعلى هذا أيضاً يصوم عن كل مسكين يوماً، المهم أنه ينظر في ذلك إلى العرف، والله أعلم.وهذا هو القسم الأول: إن كان للصيد مثل.
جزاء قتل الصيد الذي ليس له مثل
القسم الثاني: ألا يكون له مثل، مثل: العصافير، فالعلماء يقولون بأنه لا مثل لها، فلو أن محرماً صاد عصفوراً.. أي: قتل عصفوراً، فنقول: أنت مخير بين أمرين؛ لأن المثل لا يوجد:الأمر الأول: نقوم المثل وتشتري به طعاماً؛ لأنك مخير بين الإطعام والصيام، وذبح المثل هنا غير موجود، فيبقى الأمران الأخيران: الإطعام والصيام.فهذا العصفور كم قيمته؟ فإن قالوا: هذا العصفور قيمته ريالان، هنا العصفور ليس له مثل حتى نقول: اذبح المثل، فيبقى عندنا الأمران الأخيران، فنقول: اشتر بهذين الريالين طعاماً وأعطه المساكين، أو عليك أن تصوم كما تقدم إن كان براً تصوم عن كل مد يوماً، وإن كان غير بر فصم عن مدين يوماً، فيكون مخيراً بين الإطعام وبين الصيام على ما سبق.هذا بالنسبة لمعنى كلام المؤلف، ولهذا قال رحمه الله: (وجزاء الصيد مثل ما قتل من النعم، إلا الطائر فإن فيه قيمته إلا الحمامة ففيها شاة، والنعامة ففيها بدنة).فيتلخص من كلام المؤلف رحمه الله أن الطائر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:القسم الأول: الحمامة، وهذه لها مثل، ومثل الحمامة شاة، هكذا ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وعلى هذا من قتل حمامة فهو بالخيار: إما أن يذبح شاة، أو نقوم الشاة وعليه أن يشتري بهذه القيمة طعاماً ويخرجه للمساكين، أو يصوم كما تقدم.. هذا القسم الأول.القسم الثاني: النعامة، وهذه فيها بدنة؛ لأن لها مثلاً، وعلى هذا نقول: أنت مخير بين الأمور الثلاثة.القسم الثالث: ما عدا الشاة والحمامة، وهذا ليس له مثل، وإنما تجب فيه القيمة، كما مثلنا في العصافير، وطيور البر.. وطيور الماء.. إلى آخره، فهذه ليس لها مثل فتجب فيها القيمة، وعلى كلام المؤلف أنه يكون مخيراً بين أمرين: بين الإطعام والصيام، أما النعامة والحمامة فهو مخير بين الأمور الثلاثة.قال رحمه الله: (يخير بين إخراج المثل أو تقويمه بطعام، ويطعم في كل مسكين مداً من بر، أو يصوم عن كل مدٍ يوماً).فتلخص أن الذي على التخيير أربعة من محظورات الإحرام: حلق الرأس، أو نقول: فدية الأذى، أي: إزالة الأذى، وكذلك الطيب واللبس وجزاء الصيد.. فهذه على التخيير.
الفدية التي تقع على الترتيب
قال رحمه الله: [الضرب الثاني: على الترتيب، وهو هدي المتمتع، يلزمه شاة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيامٍ في الحج، وسبعةٍ إذا رجع].
هدي التمتع
المتمتع يجب عليه شاة، ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]. ولو أن المؤلف رحمه الله راعى لفظ القرآن لكان أحسن، فلو قال: المتمتع يلزمه هدي لكان أحسن؛ لأنه كما تقدم لنا: أن الشاة هذه ليست متعينة، بل يجب عليه: جذع ضأن، أو ثني معز، أو سبع بدنة، أو سبع بقرة، وكون الإنسان أيضاً يراعي الألفاظ الواردة في القرآن والسنة هذا أحسن وأبعد عن الإيهام.فنقول: المتمتع يلزمه شاة، وهذا بالإجماع، والقرآن نص على ذلك.والقارن هل يلزمه هدي أو لا يلزمه هدي؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فجمهور أهل العلم أن القارن يلزمه هدي، ويدل لذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قارناً وأهدى، وأيضاً نساء النبي عليه الصلاة والسلام كـعائشة وغيرها كن قارنات ومع ذلك ذبح النبي صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر كما في صحيح مسلم وغيره، فهذا دليل، ولأن القران فيه نوع من التمتع.والقران كان الصحابة يسمونه تمتعاً؛ لأن الإنسان تمتع بأداء نسكين في سفرة واحدة، وهو وإن لم يفصل بينهما إلا أنه تمتع في أداء نسكين في سفرةٍ واحدة.وعند الظاهرية أنه لا يلزمه أخذاً بظاهر القرآن، لكن الصواب في ذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله وأن القارن يلزمه الهدي.قوله رحمه الله: (فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع).يعني: إذا لم يجد هدياً فإنه يجب عليه أن يصوم، فإذا لم يجد هدياً إما لكونه فقيراً ولا يجد المال، أو لكونه غنياً لكن لم يجد هدياً يباع، فيلزمه أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
وقت صيام الثلاثة الأيام لمن عدم الهدي
لكن متى يبدأ صيام الثلاثة الأيام؟ المشهور من المذهب وكذلك أيضاً مذهب الحنفية: أنه يبدأ من حين الإحرام بالعمرة، فقد يحرم بالعمرة في ذي القعدة أو في شوال، مثلاً: إنسان يأتي مكة يريد الحج، ويحرم بالعمرة في شوال متمتعاً، ثم يحل منها، وهو فقير ما عنده شيء، فنقول: ابدأ الصيام من حين الإحرام بالعمرة، يعني: تصوم ثلاثة أيام، والدليل على ذلك أن الله عز وجل قال: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:196].وإذا بدأ بالتمتع وجد السبب، والقاعدة: أن العبادة يجوز تقديمها بعد وجود سببها، فالإحرام بالعمرة سبب التمتع ووجد السبب، فإذا وجد السبب فإنه يجوز تقديم العبادة بعد وجود سببها، وهذه القاعدة نص عليها ابن رجب رحمه الله في كتابه: القواعد، ونظير ذلك كفارة اليمين، فيجوز أن تخرجها بعد السبب وقبل الحنث، مثلاً: إنسان حلف وقال: والله لا أسافر إلى الرياض، هنا وجد السبب وهو اليمين، أي: سبب الكفارة، فيجوز أنه يكفر أي قبل أن يحنث، يعني: هو حلف أنه لن يسافر، فإذا سافر حنث أو وجبت عليه الكفارة، فيجوز له أن يخرج الكفارة قبل أن يحنث، يعني: قبل أن يسافر.وأيضاً مثل ذلك: لو أنه قتل الصيد أو جرح الصيد، فيجوز له أن يخرج الجزاء قبل أن يموت الصيد؛ لأنه أداء للعبادة بعد وجود سببها، المهم.. هذه قاعدة ذكرها ابن رجب رحمه الله في كتاب القواعد، وذكر لها أمثلة، ويدل لهذا ما ذهب إليه الشافعية والمالكية حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة وشبك بين أصابعه ) فالشافعية والمالكية أخذوا بظاهر النص، وأن الإنسان لا يبدأ بصيام الثلاثة الأيام حتى يحرم بالحج؛ لأن الله عز وجل قال: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]. فقالوا بأنه لا يشرع في صيام الثلاثة الأيام إلا بعد أن يشرع في إحرام الحج، والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة والحنفية؛ لأنه إذا أحرم بالعمرة فقد أحرم بالحج؛ لأن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه.ومتى ينتهي وقت الصيام بالنسبة للثلاثة الأيام؟نقول: وقت الصيام بالنسبة للثلاثة الأيام ينتهي بغروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق، يعني: لو أن الإنسان ما صام حتى جاء يوم عرفة، وجاء يوم النحر، فنقول: يرخص له أن يصوم اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر حتى لو أن أيام التشريق يحرم صيامها لحديث نبيشة الهذلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيام التشريق أيام أكلٍ وشرب وذكرٍ لله عز وجل ) لكن يرخص كما في حديث عائشة وابن عمر رضي الله تعالى عنهم أنه رخص للمتمتع العادم الهدي أن يصوم هذه الأيام، فالوقت واسع من حين أن يحرم بالحج إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق.وما هو الأفضل في صيام هذه الأيام؟ هذا موضع خلاف، قال بعض العلماء: الأفضل أن يصوم هذه الأيام بحيث يكون آخرها يوم التروية، ويكون يوم عرفة مفطراً، وهذا قال به الشافعي .والرأي الثاني: أن الأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة وهذا هو المذهب، يعني: على المذهب يصوم السابع والثامن والتاسع، وعلى رأي الشافعي يصوم السادس والسابع والثامن.والرأي الثالث: أن الأفضل أن يصوم أيام التشريق؛ لأن هذا ظاهر فعل الصحابة، ولهذا كما تقدم في حديث عائشة وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قالوا: ( لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا للمتمتع عادم الهدي )، والأقرب في ذلك هو ما ذهب إليه الشافعي وأنه يصوم السادس والسابع والثامن، وأما يوم عرفة فإنه يبقى مفطراً، وأما الآثار الواردة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في هذه المسألة فهي مختلفة.وعلى هذا يظهر -والله أعلم- أن السنة أو الأفضل أن يصوم السادس والسابع والثامن.قال: (فصيام ثلاثة أيام في الحج).فتلخص لنا في الأيام الثلاثة: متى يبدأ صيامها.. ومتى ينتهي.. وما هو الوقت الأفضل؟ كل هذا كما تقدم.
وقت صيام السبعة الأيام لمن عدم الهدي
قوله رحمه الله: (وسبعة إذا رجع).السبعة متى يبدأ صيامها، ومتى ينتهي، وما هو الأفضل؟ وهذا كما قلنا في صيام الأيام الثلاثة، وهو موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فجمهور العلماء رحمهم الله أنه إذا انتهى من أعمال الحج دخل وقت صيام السبعة، حتى ولو كان في مكة، وعلى هذا يكون معنى قوله: (وسبعة إذا رجع) يعني: رجع من أي شيء؟ رجع من أعمال الحج، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى وهو الرأي الأول.الرأي الثاني: رأي الشافعي رحمه الله تعالى، قال: يبدأ صيامها إذا رجع إلى وطنه، وعلى رأي الشافعي لو أنه صامها قبل أن يسافر في مكة، هل يصح هذا أو لا يصح؟ على رأي الشافعي أنه لا يصح، فالجمهور قالوا: إن المراد بقوله: (إذا رجع) يعني: رجع من أعمال الحج، والشافعي أخذ بظاهر القرآن، وأيضاً ظاهر السنة حديث ابن عمر : ( وسبعةٍ إذا رجع إلى أهله ) في الصحيحين.والصحي في ذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وأن المراد بذلك: سبعة إذا رجع من أعمال الحج، ويدل لهذا أن استقراء الشرع لم يرد في الشريعة تخصيص الصيام بمكانٍ دون مكان.. هذا ما ورد في الشريعة؛ لأننا لو قلنا بأنه سبعة إذا رجع، يعني: معناه رجع إلى وطنه، فنكون خصصنا الصيام في مكان دون مكان، وهذا لم يعهد في الشريعة؛ ولأن الإنسان أيضاً إذا انتهى من أعمال الحج فإنه يعتبر رجع، ويسمى: راجعاً.. فإذا صدر من منى فإنه يعتبر راجعاً.وأيضاً أن الله عز وجل قال في الآية: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] وقوله: (إِذَا رَجَعْتُمْ) كونه يعود إلى الحج الذي سلف ذكره، وهذا أولى من عوده إلى الوطن، هذا بالنسبة لوقتها. وعلى هذا تلخص لنا أنه يبدأ وقت صيام السبعة الأيام إذا انتهى من أعمال الحج.وما هو المستحب لصيامها؟نقول: المستحب أن يصومها إذا رجع إلى أهله، ويدل لذلك حديث ابن عمر : ( وسبعةٍ إذا رجع إلى أهله )، وهل لها وقت تنتهي فيه أو ليس لها وقت تنتهي فيه؟ نقول: ليس لها وقت تنتهي فيه، وهل يجب التتابع في صيام هذه السبعة وكذلك أيضاً في صيام الثلاثة الأيام التي في الحج.. هل يجب التتابع أو لا يجب التتابع؟ نقول بأنه لا يجب التتابع، فسواء صام هذه الأيام الثلاثة متتابعة أو متفرقة، والسبعة سواء صامها متتابعة أو متفرقة فكل هذا جائز.
فدية الجماع
قال رحمه الله: [وفدية الجماع بدنة فإن لم يجد فصيام كصيام المتمتع].تقدم لنا متى تجب البدنة وأنه إذا جامع قبل التحلل الأول فإنه يجب عليه بدنة، فإذا لم يجد البدنة لكونه فقيراً أو ما وجدها لكونها لا تباع، فيقول المؤلف رحمه الله: (كصيام المتمتع)، وما هو صيام المتمتع؟ يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.والصحيح في ذلك أنه لا يلزمه الصيام، يعني: إذا كان فقيراً لا يجد شيئاً فالصحيح أنه لا يلزمه الصيام؛ لأن الصيام يحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك، وقد ورد عن الصحابة أنه يلزمه هدي، لكن كونه يجب عليه ذلك نقول: هذا لا دليل عليه.
فدية فوات الحج
قال رحمه الله: [وكذلك الحكم في دم الفوات].ما هو الفوات؟ الفوات كما سيأتينا إن شاء الله: هو طلوع فجر يوم النحر قبل أن يقف الحاج بعرفة، فمن طلع عليه فجر يوم النحر قبل أن يقف بعرفة فاته الحج، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، هذا الذي فاته الحج وهو محرم نقول: يلزمه أمور:الأمر الأول: أن يتحلل بعمرة، فيذهب ويتحلل بعمرة.الأمر الثاني: الهدي.. هل يلزمه الهدي أو لا يلزمه الهدي؟ هذا موضع خلاف، فالمؤلف رحمه الله يرى أنه يجب عليه الهدي. وهو الرأي الأول.والرأي الثاني: أنه لا يجب عليه الهدي وهذا هو الأقرب؛ لأن الأصل براءة الذمة.وهل يجب عليه القضاء؟ هذه المسألة الثالثة؛ فإن كان الحج فرضاً يجب عليه أن يقضيه، وإن كان غير فرض فإنه لا يجب عليه أن يقضيه، المهم أن المؤلف رحمه الله يذهب إلى أن دم الفوات كالمتمتع.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 05:04 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [7]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(53)


من كرر محظوراً من جنسٍ غير قتل الصيد فعليه كفارة واحدة، ومن كرَّر محظوراً من أجناس مختلفة فلكل واحد كفارة، والحلق والتقليم والوطء وقتل الصيد يستوي عمده وسهوه، وسائر المحظورات لا شيء في سهوه، وكل هدي أو إطعام يتعلق بالحرم أو الإحرام فهو لمساكين الحرم إلا ف
تابع الفدية التي تقع على الترتيب
تقدم لنا شيء من أحكام الفدية، وأن المؤلف رحمه الله ذكر أن الفدية على ضربين: أحدهما على التخيير، وهي فدية الأذى، يعني: حلق الرأس واللبس والطيب، وأنه مخير بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة، وبينا أيضاً ما المراد بالشاة، وأيضاً جزاء الصيد مخير بين أن يذبح الجزاء إن كان له جزاء، أو يقوّم الجزاء ويشترى بقيمته، أو يخرج من عنده طعاماً يطعمه المساكين، أو يصوم عن كل مدٍ إن أطعم براً يوماً، وعن كل مدين إن أطعم من غير البر كما تقدم بيانه.وأن الضرب الثاني: على الترتيب، وذكر من ذلك فدية المتمتع، وأن المتمتع يلزمه شاة، فإن لم يجد شاةً فإنه ينتقل إلى الصيام، فيجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وتكلمنا متى يبدأ وقت صيام الأيام الثلاثة ومتى ينتهي، وكذلك أيضاً متى يبدأ وقت صيام الأيام السبعة.ثم قال المؤلف رحمه الله: (وفدية الجماع بدنة).أيضاً هذه من الفدية التي تجب على الترتيب وعلى المشهور من المذهب، وهي فدية الجماع.والجماع -كما تقدم لنا أنه- لا يخلو من ثلاث حالات:إما أن يجامع قبل الوقوف بعرفة، فهذا تقدم حكمه، ومن أحكامه: أنه تلزمه البدنة.والحالة الثانية: أن يجامع بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول، وهذا أيضاً ذكرنا أحكامه ما يلزم عليه، وأنه يجب عليه بدنة.والحالة الثالثة: أن يجامع بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني، وهذا لا تجب عليه البدنة، وإنما يجب عليه فدية أذى.المهم أنه إذا جامع قبل التحلل الأول فإنه يجب عليه بدنة.فإذا لم يجد البدنة -إما لكونه فقيراً معدماً، وإما لكونه لم يجد بدنةً تباع- فهل يجب عليه أن يصوم أو لا يجب عليه أن يصوم؟ قال المؤلف رحمه الله: (فإن لم يجد فصيام كصيام المتمتع) أي: إذا لم يجد بدنةً فإنه يجب عليه أن يصوم كصيام المتمتع الذي عُدم الهدي، أي: أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعةً إذا رجع إلى أهله، فيجب عليه أن يصوم عشرة أيام؛ لأن المتمتع كما تقدم إذا لم يجد شاةً فإنه يصوم ثلاثة أيامٍ في الحج وسبعةً إذا رجع إلى أهله.والدليل على أن المجامع يجب عليه الصيام إذا لم يجد البدنة: القياس على المتمتع، وذهب بعض أهل العلم إلى أن المجامع إذا لم يجد بدنةً -إما لفقره، أو لكونه لم يجدها تباع- أنه لا يجب عليه الصيام؛ لأن الذي ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن عليه الهدي ولم يذكروا صياماً، وهذا القول هو الصواب؛ أنه تجب عليه بدنة، فإذا لم يجد بدنةً فإنه لا يجب عليه أن يصوم، وهذا هو الصواب في هذه المسألة.
فدية من فاته الحج والمحصر
قال رحمه الله: (وكذلك الحكم في دم الفوات).ما هو الفوات؟ الفوات: هو أن يطلع فجر يوم النحر قبل أن يقف الحاج بعرفة، فإذا طلع فجر يوم النحر قبل أن يقف بعرفة فاته الحج بإجماع العلماء، وما الذي يلزمه إذا فاته الحج؟ سيأتينا إن شاء الله ما يتعلق بأحكام الفوات والإحصار.من الأحكام المترتبة على فوات الحج: أنه يجب عليه أن يذبح هدياً، أي: هذا الذي طلع عليه فجر يوم النحر -اليوم العاشر- ولم يقف بعرفة فإنه يجب عليه أن يذبح هدياً، وسيأتينا أيضاً أن بعض العلماء لم يوجب عليه الهدي، وأن الأصل في ذلك براءة الذمة.ويرد على الذين أوجبوا الهدي كما ذهب إليه المؤلف رحمه الله سؤال: إذا لم يجد الهدي فما الحكم؟ يقول المؤلف رحمه الله: فإنه يصوم عشرة أيام كالمتمتع، والصحيح في ذلك أن إيجاب الهدي هذا فيه نظر -كما سيأتينا إن شاء الله- أي: أصلاً إيجاب الهدي على من فاته الحج هذا فيه نظر، فمن باب أولى بدله وهو الصيام كما سيأتي بإذن الله.قال رحمه الله: [والمحصر يلزمه دم، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام].أيضاً المحصر، والإحصار كما سيأتي: هو منع الناسك من إتمام نسكه، فإذا أحصر ولم يتمكن من إتمام النسك فإن له أن يتحلل؛ فيذبح شاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما أحصره المشركون في غزوة الحديبية، فذبح النبي عليه الصلاة والسلام الهدي الذي معه وحلق ثم حل.فنقول: بالنسبة للمحصر يذبح الهدي، فإذا لم يجد المحصر هدياً -إما لفقره أو لم يجده يباع- فما الحكم؟يقول المؤلف رحمه الله: يصوم عشرة أيام ثم يحل قياساً على المتمتع، كما أن المتمتع يجب عليه أن يصوم عشرة أيام؛ ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، أيضاً المحصر يجب عليه أن يصوم عشرة أيام ثم بعد ذلك يحل.والصحيح أيضاً في هذه المسألة: أن المحصر إذا لم يجد هدياً فإنه لا صيام عليه؛ لأن الله عز وجل ذكر المتمتع والمحصر في آية واحدة، وذكر للمتمتع بدلاً وهو الصيام، ولم يذكر للمحصر بدلاً؛ فدل على أن الصيام غير مشروع، فالصواب في هذه المسألة: أن المحصر إذا لم يجد هدياً فإنه لا صيام عليه، والله عز وجل قال: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] ولم يقل: فإن لم يجد صام عشرة أيام!في المتمتع قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] هذا ما ذكره الله عز وجل في الإحصار، مع أن حكم المحصر والمتمتع جاء في آية واحدة.وهذا بالنسبة لما ذكره المؤلف رحمه الله.
أقسام محظورات الإحرام من حيث الفدية
تلخص لنا أن المؤلف رحمه الله يرى أن الفدية تنقسم إلى قسمين: قسم على التخيير، وقسم على الترتيب، والأقرب أن يقال بالنسبة للفدية في محظورات الإحرام أنها تنقسم من حيث الفدية إلى أقسام:القسم الأول: ما لا فدية فيه، وهو عقد النكاح؛ فعقد النكاح هذا لا فدية فيه.القسم الثاني: ما فديته فدية مغلظة، وهو الجماع في الحج قبل التحلل الأول، ففديته بدنة.القسم الثالث: ما فديته جزاؤه، وهو قتل الصيد.القسم الرابع والأخير: ما فديته على التخيير؛ إما أن يذبح شاةً، وإما أن يصوم ثلاثة أيام، وإما أن يطعم ستة مساكين، وهو بقية المحظورات، كحلق الرأس، وتقليم الأظفار إذا قلنا فيه فدية، واللبس، والطيب، وتغطية الرأس، هذه الأشياء على القول بأن فيها الفدية، نقول بأن الفدية فيها على التخيير بين أمورٍ ثلاثة: إما أن يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، أو يذبح شاةً.فأصبحت محظورات الإحرام من حيث الفدية تنقسم إلى هذه الأقسام الأربعة.
مدى تكرار الفدية عند تكرار المحظور

تكرار المحظور من جنس واحد
ثم قال رحمه الله: [فصلٌ: ومن كرر محظوراً من جنسٍ غير قتل الصيد فكفارة واحدة].أي: جنس المحظور واحد، مثال ذلك: قلم أظافره اليوم، ثم قلم غداً، ثم قلم بعد غدٍ، فالمحظور واحد. قوله رحمه الله: (غير قتل الصيد) قتل الصيد يجب فيه بعدده ولو برمية واحدة، فلو فرض أن شخصاً رمى وضرب ثلاث حمامات، فإنه يجب عليه ثلاث شياه؛ لأن الحمامة قضى فيها الصحابة بشاة، ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، ولا تتحقق المثلية إلا إذا أخرج لكل صيدٍ جزاءً مستقلاً.فقتل الصيد هذا فيه بعدده، أما غير قتل الصيد من المحظورات إذا كررها فإنه يجب عليه كفارة واحدة، فمثلاً: هذا الرجل تطيب اليوم، ثم تطيب غداً، ثم بعد غدٍ، خلال أربعة أيام أو خمسة تطيب كل يوم، أو قلم أظافره اليوم، ثم غداً، ثم بعد غدٍ، أو لبس المخيط، ثم غطى رأسه عدة مرات، فهذا تجب عليه كفارة واحدة.قال رحمه الله: [فإن كفر عن الأول قبل فعل الثاني سقط حكم ما كفر عنه].أي: لو أنه قلم أظافره ثم أخرج الفدية؛ فأطعم مثلاً ستة مساكين، ثم بعد ذلك قلم أظافره مرةً أخرى بعد أن فدى، نقول: تجب عليك فدية أخرى، فإذا فدى ثم قلم مرةً ثالثة، نقول: تجب عليك أيضاً فدية ثالثة.. وهكذا.فأصبح إذا كرر محظوراً من جنسٍ واحد؛ إن فدى يجب عليه أن يخرج لكل مرة فدية، أما إذا لم يفدِ فإنه تكفي فدية واحدة، إلا أن المؤلف استثنى الصيد، فالصيد فدى أو لم يفد يجب عليه بعدده، ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]. هذا حكم ما إذا فعل محظوراً من جنسٍ واحد.فالخلاصة فيه: إن فدى يجب للثاني فدية أخرى، إذا لم يفد تكفي الفدية الأولى، إلا إن كان صيداً فإنه يجب عليه بعدد ما قتل.
تكرار المحظور من أجناس مختلفة
ثم قال رحمه الله: [ومن فعل محظوراً من أجناس فلكل واحد كفارة].القسم الأول: أن يكون المحظور من جنس واحد كما تقدم، قلم أظافره عدة مرات، أو حلق عدة مرات، أو لبس عدة مرات. القسم الثاني: أن يكون من أجناس، فهذا يجب لكل محظور فدية مستقلة، فمثلاً: هذا رجل حلق شعر رأسه وجامع، نقول: يجب عليه فديتان؛ فدية الجماع وفدية حلق الرأس لأنه من أجناس، وعلى هذا فقس.
أثر الجهل والنسيان في لزوم الفدية
قال رحمه الله: [والحلق والتقليم والوطء وقتل الصيد يستوي عمده وسهوه، وسائر المحظورات لا شيء في سهوه].لما تكلم المؤلف رحمه الله عن فدية المحظورات أراد أن يبين ما هو المحظور الذي يعذر فيه بالجهل والنسيان، وما هو المحظور الذي لا يعذر فيه بالجهل والنسيان.
محظورات لا يعذر فيها بالجهل والنسيان
قوله: (الحلق والتقليم والوطء وقتل الصيد يستوي عمده وسهوه). هذه الأصناف الأربعة عمده وسهوه كله سواء، فتجب فيه الفدية، فلو أن الإنسان نسي وقلم أظافره وجبت عليه الفدية، ولو أنه حلق ناسياً وجبت عليه الفدية، ولو أنه قتل الصيد ناسياً أو وطء ناسياً وجبت عليه الفدية، لماذا تجب الفدية هنا؟ قالوا: لأن هذا من قبيل الإتلاف، فلما كان فيه من قبيل الإتلاف لا يمكن تداركه إلا بأن يخرج الفدية.فهذه الأصناف الأربعة من قبيل الإتلاف ولا يمكن تداركها.
محظورات يعذر فيها بالسهو
أما بقية الأصناف فيقول فيها: [وسائر المحظورات لا شيء فيه].فقوله: (سائر المحظورات) يشمل: الطيب، هذا لو فعله سهواً لا شيء عليه، أيضاً لبس المخيط للذكر لو فعله سهواً لا شيء عليه، أيضاً تغطية الرأس للذكر لو فعله سهواً لا شيء عليه، وعقد النكاح أصلاً يرون أنه ليس فيه فدية، والمباشرة لو فعلها سهواً لا شيء عليه أي: المباشرة دون الجماع.فأصبح عندنا أربعة يستوي عمدها وسهوها في وجوب الفدية، وهي: التقليم والحلق والوطء وقتل الصيد.أربعة يعذر فيها بالسهو وتجب الفدية في حال العمد، وهي: لبس المخيط بالنسبة للذكر، وتغطية الرأس للذكر، والطيب، والمباشرة، والمرأة كما تقدم لنا أنها لا تلبس لباساً خاصاً بأي شيء -باليدين ولا بالوجه- فهذه الأربعة يعذر فيها بالسهو فلا تجب فيها فدية، فلو فعلها سهواً لا تجب عليه فيها فدية.وقسم لا فدية فيه أصلاً: وهو عقد النكاح، وإنما يعذر في هذه الأربعة بالسهو؛ لقول الله عز وجل: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ).
أقسام فاعل المحظورات من حيث الفدية
والأقرب أن يقال بأن فاعل المحظورات لا يخلو من أقسام ثلاثة:القسم الأول: أن يفعل المحظور عالماً ذاكراً مختاراً غير معذور، فهذا يأثم وتجب عليه الفدية؛ لقول الله عز وجل: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، فهذا رجل -مثلاً- حلق رأسه وهو عالم مختار ذاكر فهو غير معذور؛ عالم غير جاهل، ومختار غير مكره، وذاكر غير ناسي، فهذا نقول: إن الفدية تجب عليه، وذكرنا دليل ذلك قول الله عز وجل: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196].القسم الثاني: أن يفعل المحظور عالماً ذاكراً مختاراً لكنه معذور، ليس مكرهاً ولا ناسياً ولا جاهلاً لكنه معذور، فما هو الحكم هنا؟ نقول: لا يأثم، لكن تجب عليه الفدية، وهذا مثل كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه، عالم وذاكر ومختار لكنه معذور؛ لأن هوام رأسه آذته، فنقول: هنا لا يأثم، لكن تجب عليه الفدية؛ لقول الله عز وجل: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196].القسم الثالث: أن يفعل المحظور إما جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً؛ فالمذهب على التفصيل؛ فقالوا: إن كان من قبيل الإتلاف فهذا لا يعذر، والذي من قبيل الإتلاف كما ذكرنا أربعة أشياء: الحلق والتقليم والوطء وقتل الصيد، وإن كان من غير قبيل الإتلاف فيعذر، مثلاً: لو تطيب وهو ناسٍ أو جاهل أو مكره، أو لبس الرجل المخيط أو غطى رأسه أو باشر، فإذا كان مكرهاً أو ناسياً أو جاهلاً؛ فهذا يعذر.ويلحق بهذا: إذا لبست المرأة لباساً خاصاً بالوجه والكفين فقالوا: هذه تعذر؛ لأن هذا ليس من قبيل الإتلاف، وهذا كما ذكرنا هو المذهب، وأيضاً هو مذهب الشافعية وهو الرأي الأول.والرأي الثاني: رأي الحنفية والمالكية أنه لا يعذر مطلقاً، سواء كان من قبيل الإتلاف أو كان من غير قبيل الإتلاف.والرأي الثالث: أنه يعذر مطلقاً، أي: سواء كان من قبيل الإتلاف أو كان من غير قبيل الإتلاف، وعلى هذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكذلك أيضاً ابن القيم ، وهو رواية عن الإمام أحمد : لو قلم أظافره وهو ناسٍ فلا شيء عليه، ولو حلق وهو ناسٍ لا شيء عليه، ولو وطء وهو ناسٍ لا شيء عليه، ولو تطيب أو لبس أو غطى رأسه وهو ناسٍ أو جاهل أو مكره هذا كله لا شيء عليه، وهذا القول هو الصواب، ودليل ذلك: أن الله عز وجل قال في الصيد وهو أعظم الإتلافات: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، فقال الله عز وجل: (مُتَعَمِّداً) فدل ذلك على أنه إذا كان غير متعمد أنه لا يجب عليه شيء، فالله عز وجل أوجب الجزاء متى؟ في حال العمد، فدل على أنه في حال عدم العمد ناسٍ أو مكره أو جاهل أنه لا شيء عليه.وأيضاً يدل لهذا حديث يعلى بن أمية : ( أن رجلاً جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو بالجعرانة، وقد أهلَّ بالعمرة وهو مصفر لحيته ورأسه وعليه جبة، فقال: يا رسول الله! إني أحرمت وأنا كما ترى. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: انزع الجبة، واغسل عنك الصفرة )؛ لأن الصفرة هذه طيب -زعفران- ( واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك )، وهذا في الصحيحين، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالفدية.فهذا الرجل لما كان جاهلاً لبس الجبة فأحرم وعليه الجبة، وصفر لحيته ورأسه، ومع ذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( انزع الجبة، واغسل عنك الصفرة، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك ) وهذا القول هو الصواب.نقول: الصواب في هذه المسألة أنه لا يلزمه شيء إذا كان جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً، سواء كان ذلك من قبيل الإتلاف، أو كان من غير قبيل الإتلاف، أي: كل المحظورات.
مكان ذبح الهدي وإخراج الفدية
قال رحمه الله: [وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم].هنا أراد المؤلف رحمه الله أن يبين مكان ذبح الهدي، ومكان إطعام الطعام؛ لأن الفدية -كما تقدم- إما أن تكون ذبحاً، وإما أن تكون طعاماً، وإما أن تكون صياماً، فمثلاً: المتمتع فيه إما أن يذبح شاة أو أن يصوم، وفي جزاء الصيد إما أن يذبح المثل إن كان له مثل، أو يطعم أو يصوم كما تقدم تفصيله.أيضاً في فدية الأذى: حلق الرأس، فهو مخير بين الصيام والصدقة والنسك، فأراد المؤلف رحمه الله أن يبين أين يكون الهدي، وأين يكون الذبح، وأين يكون الصيام، فقال: (كل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم)، هذا ضابط: كل هدي أو إطعام يتعلق بالحرم أو الإحرام فهو لمساكين الحرم، وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، مثل: هدي المتمتع هذا يتعلق بالإحرام، وهدي القارن يتعلق بالإحرام، وفدية الأذى تتعلق بالإحرام، وفدية المحظورات كلها تتعلق بالإحرام، وقاتل صيد الحرم يتعلق بالحرم، وقتل الصيد للمحرم يتعلق بالإحرام، الضابط أن نقول: كل هديٍ أو إطعامٍ يتعلق بالحرم أو الإحرام فإنه يكون لمساكين الحرم، لكن استثنى المؤلف رحمه الله أمرين كما سيأتي.لكن من هم مساكين الحرم؟ نقول: مساكين الحرم من كان فقيراً داخل الحرم، سواء كان من أهله أو كان من غير أهله، أي: كل مسكين داخل الحرم يجوز أن تعطيه، سواء كان من أهله أو من غير أهله، مثلاً: إنسان جاء من المغرب أو من المشرق وهو فقير، والمحرم فعل محظوراً داخل الحرم، فأخرج الفدية داخل الحرم، وأعطاها للذي جاء من المشرق أو من المغرب، هل يصح أو لا يصح؟ نقول: يصح، فهو لمساكين الحرم من كان أصلياً مقيماً فيه، ومن كان وارداً عليه، فهؤلاء كلهم يجوز أن يعطوا من الفدية.ودليل ذلك قول الله عز وجل: هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]، وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم ) وقال عليه الصلاة والسلام: ( كل فجاج مكة طريق ومنحر ).
مكان إخراج فدية الأذى
قال المؤلف رحمه الله: [إلا فدية الأذى فإنه يفرقها في الموضع الذي حلق به، وهدي المحصر ينحره في موضعه].استثنى المؤلف رحمه الله مسألتين:المسألة الأولى: قال: (فدية الأذى) لو حلق خارج الحرم، هناك إنسان أحرم مثلاً في السيل الكبير في قرن المنازل، أحرم وانتهى، وفي السيل فعل محظوراً من محظورات الإحرام -حلق رأسه مثلاً- ما هي الفدية الواجبة عليه؟ (فدية من صيام أو صدقة أو نسك)، قال: أريد أن أطعم، نقول: أطعم ستة مساكين؛ أطعم في الحل لا بأس في ذلك، ويجوز أن تطعمها في الحرم، نقول: لا بأس أنك تطعم في مكانك مع أنه من الحل، ويجوز أيضاً أن تطعمها داخل الحرم.قال: أريد أن أذبح، نقول: لا بأس، اذبح وأطعم هذه للمساكين في الموضع الذي فعلت فيه المحظور ولو كان خارج الحرم، ويجوز أيضاً أن يؤخر الذبح إلى أن يأتي الحرم ويذبح في الحرم ويعطي مساكين الحرم.إذاً: الأمر الأول الذي يستثنى هو فدية الأذى، وقصده المؤلف بقوله: (فدية الأذى)، أي: كل المحظورات، أي: المحظور إذا فعلته في الحل فلك أن تخرج فديته في مكان فعله، ولك أن تخرجها في الحرم.مثلاً: إنسان أحرم في السيل الكبير، وجامع أهله متعمداً ذاكراً عالماً مختاراً غير معذورٍ فما الحكم هنا؟ نقول: يجب عليه بدنة، فيذبح البدنة، ونقول: لا بأس أن تذبحها هناك وتطعمها الفقراء، أو أن تذبحها في الحرم، هذا الأمر الأول.وهذا دليله حديث كعب بن عجرة في الحديبية حلق رأسه، والحديبية من أي شيء؟ من الحل، ومع ذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يذبح في مكانه: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]. فنقول: لا بأس أنك تعمله في الحل أو في الحرم.
مكان ذبح هدي المحصر
المسألة الثانية: قال رحمه الله: (وهدي المحصر ينحره في موضعه).لو أنه أحصر في الحل، فنقول: لا بأس أنك تنحره في موضعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحصره المشركون في الحديبية فنحر هديه في الحديبية، ويجوز أن ينحره داخل الحرم، فهذا لا بأس، لكن نفهم أن المحصر إذا أحصر في الحل أنه مخير؛ إما أن ينحره في مكانه، وإما في الحرم.
مكان أداء كفارة الصيام
قال رحمه الله: [وأما الصيام فيجزئه بكل مكان].ودليل ذلك قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( والصوم حيث شاء )، وأيضاً استقراء الأدلة الشرعية؛ فإنه لم يرد في الأدلة الشرعية أن الصيام يتقيد بمكان، فلو -مثلاً- حلق رأسه وقال: أريد أن أصوم؛ فنقول: لا بأس أن تصوم في الحل أو أن تصوم في الحرم، فهذا كله جائز، يجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام، أو أن يطعم ستة مساكين، أو يذبح شاة، هذا غير مقيد، ولهذا قال: (بكل مكان).أيضاً المتمتع يجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام في الحج، سواء صامها في مكة أو صامها خارج مكة، المهم أن هذا غير مقيد.
آداب دخول المحرم مكة
ثم قال رحمه الله: [باب دخول مكة].لما تكلم المؤلف رحمه الله عن الفدية وأقسامها، ومتى يعذر ومتى لا يعذر، شرع الآن في بيان دخول مكة وآداب دخول مكة.
دخول مكة من أعلاها والخروج من أسفلها
قال رحمه الله: [يستحب دخول مكة من أعلاها].أي: من ثنية كداء، والدليل على هذا حديث ابن عمر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل من الثنية العليا التي بالبطحاء، ويخرج من الثنية السفلى )، وحديث ابن عمر في الصحيحين.إذاً: يستحب أن يدخل من أعلاها.قال بعض العلماء -وهو ظاهر كلام المؤلف رحمه الله-: يستحب أن يدخل مكة من أعلاها من ثنية كداء، سواء كانت على طريقه أو غير طريقه، فإن كانت على طريقه فالأمر ظاهر، وإذا كانت على غير طريقه فإنه يعرج عليها؛ يميل إليها ويدخل منها.الرأي الثاني: لا يستحب أن يتعمد ذلك بحيث أنه إذا كانت على غير طريقه يذهب ويميل إليها، بل إذا كانت على طريقه فإنه يدخلها من الثنية العليا، وأما إذا لم تكن على طريقه فإنه حسب ما تيسر له، وهذا قال به بعض الشافعية رحمهم الله.وهذا بناءً على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دخلها من الثنية العليا اتفاقاً، أي: لم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وإنما حصل ذلك اتفاقاً.كذلك أيضاً من الآداب: أن يخرج من أسفلها كما تقدم، وهذا أيضاً فعله النبي عليه الصلاة والسلام اتفاقاً لا قصداً.
دخول المسجد الحرام من باب بني شيبة
قال رحمه الله: [ويدخل المسجد من باب بني شيبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل فيه].أيضاً يدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة، وهذا دليله حديث جابر رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ارتفاع الضحى، وأناخ راحلته عند باب بني شيبة ثم دخل )، وهذا رواه مسلم .وباب بني شيبة هذا كان موجوداً أما الآن فغير موجود، أي: الباب الذي دخل منه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في الزمن السالف موجوداً وقريباً من البيت -الكعبة- أما الآن فمع التوسعة ذهب هذا الباب، فهو الآن غير موجود.
دخول المحرم نهاراً
كذلك أيضاً من الآداب: أن يدخل نهاراً كما في حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ارتفاع الضحى )، وهذا هو ما ذهب إليه بعض العلماء: أن السنة أن يدخل نهاراً، وقال بعض العلماء: يدخل ليلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أحرم من الجعرانة دخل مكة ليلاً كما في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وحسنه بعض العلماء، قال بعض العلماء بأن الدخول ليلاً ونهاراً سواء للأدلة؛ لأن كلاً منهما ورد به الدليل.والأقرب في هذا أن يقال: الأولى أن يدخل نهاراً ما لم يكن هناك مشقة؛ لأن هذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع.
أول ما يبدأ به المحرم
أيضاً من الآداب أن الإنسان لا يعرج على شيء قبل البيت، فإذا دخل مكة أول ما يبدأ به أن يذهب إلى البيت وأن يتوضأ؛ لما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ( أول شيءٍ بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم أن توضأ ثم طاف ) فنقول: يستحب للإنسان إذا دخل مكة ألا يعرج على شيء حتى يأتي البيت ويتوضأ؛ كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.أيضاً من الآداب قال: [فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر الله وحمده ودعا].أي: إذا دخلت المسجد ترفع يديك وتقول ما ورد، ما هو الوارد؟ نقول: الوارد: ( اللهم أنت السلام ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تعظيماً وتشريفاً وتكريماً ومهابة وبراً، وزد من عظمه وشرفه ممن حجه واعتمر تعظيماً وتشريفاً... ) إلى آخره. هذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً كما روى ابن جريج ، وابن جريج مراسيله غير مقبولة عند أهل العلم، وعلى هذا لا يشرع ذلك، فالصحيح أنه إذا دخل المسجد الحرام يقدم رجله اليمنى ويقول كما يقول إذا دخل سائر المساجد؛ يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: ( اللهم إني أسالك رحمتك ) وإذا خرج يقول: ( اللهم إني أسألك فضلك ) هذا الذي ورد، أما هذا الذكر فلم يرد.. وهو كما قلنا ضعيف.قال رحمه الله: (فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر الله وحمده ودعا).كما تقدم الذكر الوارد: ( اللهم أنت السلام ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تعظيماً وتشريفاً وتكريماً ومهابةً وبراً.. ) إلى آخره، قلنا بأن هذا غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الابتداء بطواف العمرة للمعتمر والقدوم للمفرد والقارن
قال رحمه الله: [ثم يبتدئ بطواف العمرة إن كان معتمراً، أو بطواف القدوم إن كان مفرداً أو قارناً].من أتى البيت لا يخلو من حالتين:الحالة الأولى: أن يكون معتمراً فهذا أمره ظاهر؛ يبدأ بطواف العمرة ويغنيه عن طواف القدوم.الحالة الثانية: أن يكون حاجاً، وهذا الحاج لا يخلو إما أن يكون متمتعاً أو قارناً أو مفرداً، فإن كان متمتعاً أيضاً يطوف طواف العمرة، وإن كان قارناً أو مفرداً فهذا الطواف يسمى: طواف القدوم.وطواف العمرة حكمه ركن، أي: سواء كان الإنسان يعتمر عمرة مفردة أو يعتمر عمرة التمتع فهذا الطواف ركن، وأما بالنسبة للمفرد والقارن فطواف القدوم حكمه سنة، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم خلافاً للإمام مالك رحمه الله فإنه يرى أنه واجب.قال رحمه الله: [فيضطبع بردائه فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر].طواف القدوم هذا فيه سُنتان: السنة الأولى: الاضطباع، والاضطباع هذا يكون في جميع الطواف من أوله إلى آخره، ويدل لذلك حديث يعلى بن أمية : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً وعليه برد )، وهذا رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن ماجه ، وكذلك أيضاً حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود .السنة الثانية: الرمل، وسيأتي إن شاء الله بيانها.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 05:08 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [8]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(54)


السنة أن يبدأ المعتمر أو الحاج بالحجر الأسود، ولو حاذاه ببعض بدنه صح، ويستلم الحجر الأسود في كل موضع بحسبه، ويقبله ويقول: الله أكبر، ويشرع في طواف القدوم سنتان: الاضطباع، والرمل، وليس هناك أدعية مخصوصة لكل شرط فيشرع التقيد بما ورد عنه النبي صلى الله عليه
ما يشرع فعله عند الحجر الأسود قبل الشروع في الطواف
تقدم لنا شيء من الآداب التي تشرع عند دخول مكة، وذكرنا من ذلك الدخول من أعلاها من ثنية كداء، والخروج من أسفلها، وذكرنا من ذلك: أنه يدخل نهاراً، وأنه إذا دخل مكة فإن السنة أن يبدأ أول ما يبدأ بالبيت، وإذا أراد أن يدخل البيت فإنه يبدأ من باب بني شيبة، وتكلمنا على هذه المسألة، وهل يشرع ذكر خاص لدخول المسجد الحرام، أو لا يشرع ذكر خاص؟ وتقدم أن دخول المسجد الحرام كدخول سائر المساجد، وأنه لا يشرع ذكر خاص، وأيضاً: إذا دخل المسجد الحرام فإن تحية البيت هو الطواف، وذكرنا أيضاً ما يتعلق بطواف القدوم، وما يشرع فيه وما يسن.وتكلم المؤلف رحمه الله على الاضطباع وسيتكلم أيضاً على الرمل.وسبق أن أشرنا إلى أن السنة للإنسان إذا قدم مكة أن يبدأ بالبيت، وألا يعرج على شيءٍ حتى يأتي البيت، هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذكرت عائشة كما في الصحيحين، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما قدم أن توضأ ثم بدأ بالبيت فطاف )، هذا هو السنة.وإذا دخل المسجد فلا يخلو من أمرين:الأمر الأول: أن يريد الطواف، فتحية البيت الطواف.الأمر الثاني: ألا يريد الطواف، وإنما يريد حضور مجلس علم، أو يريد الصلاة أو يريد القراءة أو غير ذلك، فإن تحية المسجد هي الصلاة كسائر المساجد، فإذا أراد الطواف فالتحية هي الطواف، وإن أراد غير الطواف من قراءةٍ أو صلاةٍ أو حضور درسٍ ونحو ذلك، فإن تحية المسجد هي الصلاة كسائر المساجد.من أراد الحج والعمرة فإنه يشرع له أن يبدأ بالطواف؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا عن عائشة رضي الله تعالى عنها.وهذا الطواف يسمى: طواف القدوم، وهو بالنسبة للمعتمر والمتمتع أحد أركان العمرة، وبالنسبة للمفرد والقارن عند جمهور أهل العلم أنه سنة، وعند الإمام مالك رحمه الله: يرى أن طواف القدوم واجب، والصحيح في ذلك أن طواف القدوم سنة وليس واجباً، وهذا هو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.ويدل لذلك حديث عروة بن مضرس رضي الله تعالى عنه، فإن عروة بن مضرس رضي الله تعالى عنه قدم حاجاً، ومع ذلك لم يطف طواف القدوم، وإنما أول ما أتى هو عرفات، ولم يأت منى في اليوم الثامن، ولم يبت بمنى ليلة التاسع، ومع ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( من شهد صلاتنا هذه -يعني: صلاة الفجر في مزدلفة- ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه ) وعلى هذا نقول: الصحيح بالنسبة للمفرد والقارن أن طواف القدوم في حقهما سنة وليس واجباً؛ لما ذكرنا من حديث عروة بن مضرس رضي الله تعالى عنه.وإذا جاء إلى البيت وشرع في الطواف، فإن طواف القدوم يشرع فيه سنتان:السنة الأولى: الاضطباع، وتقدم الكلام عليها.والسنة الثانية: الرمل، وسيأتي إن شاء الله بيانها، وأن المؤلف رحمه الله ذكر أنه يرمل في الثلاثة الأول من الحجر إلى الحجر.
الابتداء بالحجر الأسود واستلامه وتقبيله
قال رحمه الله: [ويبدأ بالحجر الأسود].وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا لا يشرع أن يبدأ قبل الحجر الأسود، بل هذا بدعة وخلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، لهذا نعرف أن بعض الناس الذين يقولون: نحتاط ونبدأ قبل الحجر الأسود فإن هذا بدعة، والصحيح أن الإنسان يبدأ بالحجر الأسود، وسيأتي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وفيه سعة.
محاذاة الحجر الأسود
هل يشترط إذا أراد أن يبدأ بالحجر الأسود أن يحاذيه بكل بدنه، أو أن هذا ليس شرطاً؟هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فالرأي الأول -وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله-: أنه لا بد أن يحاذي الحجر الأسود بكل بدنه، وعلى هذا، لو خرج شيء من بدنه عن محاذاة الحجر الأسود لا يجزئ، فعلى المذهب لو أن بعض البدن حاذى الحجر والبعض الثاني خرج عن محاذاة الحجر، يقولون: إنه لا يجزئ، بل لا بد أن يكون جميع بدنك محاذياً للحجر الأسود.وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا ليس شرطاً، فسواء حاذى الحجر بكل بدنه أو حاذاه ببعض بدنه، وعلى هذا، لو أنه حاذى الحجر الأسود ببعض بدنه فإن هذا لا بأس به.كما قلنا: الحنابلة يقولون: لا بد أن يحاذي الحجر بكل بدنه، كيف ذلك؟ يقولون: إنه يكون بين ضلعي البيت، بحيث إنه يرى هذا الضلع وهذا الضلع، فحينئذٍ يكون محاذياً للحجر بكل بدنه، وقلنا: الصحيح في ذلك أن هذا ليس شرطاً، وأنه لو حاذى ببعض بدنه يعني: لو رأى أحد أضلاع البيت، كالضلع الأيمن على جهته اليمنى، ولم ير الذي على جهته اليسرى فإن هذا مجزئ عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وبهذا نعرف أن الأمر في ذلك واسع ولله الحمد.
استلام الحجر الأسود وتقبيله
قوله: [فيستلمه] أي: الحجر الأسود، ويشرع له سنن.السنة الأولى: أن يستلمه، وكيفية الاستلام في كل موضعٍ بحسبه، فاستلام الحجر الأسود هو مسحه، ومعنى أن يستلمه، يعني: أن يمسحه بيده اليمنى وهذا هو استلامه، ودليل ذلك هو فعل النبي عليه الصلاة والسلام من حديث جابر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ) وهذا أخرجه مسلم في صحيحه.قال رحمه الله: [ويقبله].يعني: بعد أن يستلمه يقبله، أي: بعد أن يمسحه بيده اليمنى يقبله، ودليل ذلك: ( أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قبل الحجر، وقال: أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك )، وقال العلماء في صفة التقبيل: هو أن يضع شفتيه عليه دون صوت ثم يرفعهما، وهذا خلاف ما عليه كثير من الناس اليوم، تجد أنه يقبل بصوت، أو أنه يقبل عدة مرات، وهذا لم يفعله النبي عليه الصلاة والسلام.والتقبي هو قول جمهور أهل العلم، وعند الإمام مالك رحمه الله أنه لا يقبله، لكن ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله هذا فيه نظر؛ لأن هذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم من حديث عمر رضي الله تعالى عنه في الصحيحين.وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يسجد عليه، وهذا خلاف ما عليه الأصحاب رحمهم الله، فالحنابلة رحمهم الله يرون أنه يسجد على الحجر الأسود بعد أن يقبله، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، وقد ورد ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وكيفية السجود عليه: أن يضع جبهته وأنفه عليه.هذه هي المرتبة الأولى في استلام الحجر: أن يستلمه ويقبله ويسجد عليه.المرتبة الثانية: إذا لم يتمكن من أن يستلمه ويقبله فإنه يستلمه بيده ويقبل يده، فإذا لم يتمكن من المرتبة الأولى فإنه يصير إلى المرتبة الثانية، ودليله حديث ابن عباس في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الحجر بيده وقبل يده ) .المرتبة الثالثة: إذا لم يتمكن من أن يستلمه بيده ويقبل يده، فإنه يستلمه بشيء ويقبل هذا الشيء.ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الطفيل قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الحجر بمحجن معه ويقبل المحجن ) وهذا أخرجه مسلم في صحيحه.المرتبة الرابعة: إذا لم يتمكن من أن يستلمه بشيء ويقبل هذا الشيء فإنه يشير إليه ولا يقبل يده إذا أشار بيده.ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ( طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير، فلما أتى الحجر أشار إليه بشيءٍ في يده وكبر )، وما هي كيفية الإشارة؟ كيفية الإشارة أن يشير إليه مرة واحدة فقط؛ لأن الإشارة نائبة مناب الاستلام، والاستلام يكون باليد اليمنى، وعلى هذا يشير باليد اليمنى إشارة واحدة، وأما كون بعض الناس يشير عدة إشارات، أو يشير بيديه جميعاً كأنه يكبر للصلاة، فهذا كله غير صحيح.أيضاً ذكر العلماء رحمهم الله أنه يشير إليه وهو مستقبل الحجر؛ لأن الإشارة تقوم مقام الاستلام، والاستلام يكون وهو مستقبل الحجر، فكذلك أيضاً قال بعض أهل العلم: بأنه يستقبل الحجر ويشير إليه، وقال بعضهم: بأنه يشير وهو ماشي، والأمر في هذا واسع.
ما يشرع من ذكر عند استلام الحجر الأسود
قال رحمه الله: [ويقول: بسم الله، والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم].ما هو الذكر المشروع؟ نقول: أما التكبير فهذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم لنا في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في البخاري .بقينا في قوله: (باسم الله)، هل ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقول: (اللهم إيماناً بك)؟ فالمؤلف ذكر ثلاثة أذكار عند استلام الحجر: (باسم الله، والله أكبر، اللهم إيماناً بك).أما التكبير فهذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما سلف.وأما قول: (باسم الله)، فهذا ثابت عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.وأما قول: (اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك)، فهذا لم يثبت مرفوعاً، يعني: ليس ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ورد ذلك عن علي بن أبي طالب وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.فأصبح عندنا أن الذي ثبت في السنة قول: الله أكبر، أما التسمية، وقول: اللهم إيماناً بك، فهذا ليس ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ورد ذلك عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
شروط الطواف

محاذاة الحجر الأسود وجعل البيت عن يساره
قال رحمه الله: [ثم يأخذ عن يمينه، ويجعل البيت عن يساره].الطواف يشترط له شروط:الشرط الأول كما تقدم عند الحنابلة رحمهم الله: أنه يشترط أن يحاذي الحجر بكل بدنه، وذكرنا أن هذا ليس شرطاً عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.الشرط الثاني: ما ذكره المؤلف رحمه الله هنا، فقال: (ثم يأخذ عن يمينه ويجعل البيت عن يساره).هذا هو الشرط الثاني: أن يجعل البيت عن يساره، وعلى هذا لو طاف منكساً وجعل البيت عن يمينه فإن هذا غير مجزئ، وقد ذكر العلماء رحمهم الله بأن جعل البيت عن يسار الطائف، كجعل البيت في وجه المصلي، فيجعلون كلاً منهما شرطاً، كما أن المصلي يجب عليه أن يجعل البيت قبل وجهه، فكذلك أيضاً الطائف يجب عليه أن يجعله عن يساره، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم رحمهم الله تعالى.وعلى هذا فلو طاف منكساً فإن طوافه لا يصح، لكن لو أن الإنسان في أثناء الزحام تقدم بعض الخطوات وظهره إلى البيت، أو وجهه إلى البيت، فمثل هذه الأشياء اليسيرة يعفى عنها.
إتمام سبعة أشواط
قال رحمه الله: [فيطوف سبعاً].أي: يطوف سبعة أشواط، وهذا الشرط الثالث، وعلى هذا فلو نقص خطوة واحدة من هذه السبعة فإن طوافه لا يصح ولا يكتمل إلا بأن يطوف سبعةً كاملةً من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، خلافاً للحنفية، فالحنفية يقولون: أنه إذا أتى بالأكثر فإنه يكفي، فإذا أتى بأربعة أشواط كفى ذلك، فإن كان في مكة فإنه يعيد، وإن خرج عن مكة فإنه يلزمه دم، ويقولون: بأن الأكثر له حكم الكل، والصحيح في ذلك: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وأنه لا بد أن يطوف سبعة أشواط، والله عز وجل قال: وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] وهذا أمر.وكيفية هذا الطواف: بينه النبي صلى الله عليه وسلم وفسره بفعله، وأيضاً: أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالطواف بالبيت.
نية الطواف
الشرط الرابع: النية؛ لأن الإنسان قد يدور بالبيت وهو يريد الطواف، وقد يدور بالبيت وهو لا يريد الطواف، وإنما يريد ملاحقة غريم أو رفقة مريض أو صاحب أو امرأة ونحو ذلك، فلا بد من النية.لكن هل يشترط نية خاصة للطواف أو لا يشترط؟ يعني: هل يشترط أن يعين الطواف، أو نقول: هذا ليس شرطاً؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، والصحيح في ذلك أنه لا يشترط أن يعين.وإذا أراد أن يطوف هل يشترط أن ينوي أنه طواف الإفاضة أو يكفي نية الطواف؟ بحيث إنه إذا أطلق ولم ينو شيئاً آخر، أي: نوى الطواف فقط، ولم ينو أنه طواف الإفاضة أو طواف الحج أو طواف الركن، وإنما أطلق لم يعين، فهل هذا كاف أو ليس كافياً؟هذا موضع خلاف، والصحيح في ذلك أنه كافٍ؛ لأن الطواف هذا جزء من أجزاء هذه العبادة، أي: عبادة الحج، وكما أن الإنسان في الصلاة لا يجعل للركوع نية خاصة وللسجود نية خاصة، فكذلك أيضاً قالوا: الطواف لا يشترط أن ينويه نيةً خاصة.
الطهارة من الحدث
الشرط الخامس: الطهارة من الحدث، وهذه المسألة موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى، هل يشترط لصحة الطواف الطهارة، أو أن هذا ليس شرطاً؟هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى، فجمهور أهل العلم أن الطهارة شرط لصحة الطواف، والرأي الثاني: رأي الحنفية، قالوا: بأنه ليس شرطاً، وإنما إن كان في مكة فإنه يعيد، وإن خرج من مكة فإن طاف محدثاً حدثاً أصغر فعليه شاة، وإن كان محدثاً حدثاً أكبر -يعني: جنب- فعليه بدنة.واعلم أن الحنفية هم أوسع المذاهب فيما يتعلق بالطواف، يعني: هم يخففون في الطواف كثيراً، بخلاف الجمهور فإنهم يشددون في الطواف؛ لأنهم يلحقون الطواف بالصلاة، بخلاف الحنفية لا يلحقونه بالصلاة، فيخففون فيه كثيراً، وكما تقدم أنهم لا يشترطون عدد الأشواط، ولا يشترطون رفع الحدث، ولا يشترطون بالنسبة لإزالة الخبث -كما سيأتي إن شاء الله- المهم أنهم يقولون: إن طاف وهو محدث، فإن كان في مكة يعيد، وإن خرج من مكة فإن كان حدثه أصغر فعليه شاة، وإن كان حدثه أكبر فعليه بدنة.وفي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الطهارة ليست شرطاً وإنما هي سنة في الطواف، ولكلٍ منهم دليل، وهذا المسألة أطال فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المجلد الحادي والعشرين من مجموع الفتاوى.ومن أدلة الجمهور حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: ( أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم أن توضأ ثم طاف ).وأيضاً حديث عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( افعلي ما يفعل الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري ) وفي لفظٍ عند مسلم : ( حتى تغتسلي ) وهذا تمسك به جمهور أهل العلم رحمهم الله.والرأي الثاني: الذين قالوا بأنه سنة، قالوا: بأنه لم يرد أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أراد الطواف قال: لا طواف إلا بوضوء، كما قال ذلك في الصلاة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم حج معه الجمع الغفير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولو كان هذا شرطاً لتوافرت الهمم على نقله؛ لأن هذا مما تعم به البلوى.وأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن حديث عائشة : ( أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم أن توضأ ثم طاف )، قال: إن هدي النبي عليه الصلاة والسلام أنه يستحب أن يتوضأ عند الذكر، ولهذا تيمم النبي عليه الصلاة والسلام لرد السلام، وقال: ( كرهت أن أذكر الله إلا على طهر ) فالنبي عليه الصلاة والسلام يتوضأ لكل صلاة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام تيمم لرد السلام.وأما حديث منع عائشة رضي الله تعالى عنها من الطواف، فقال: بأن عائشة منعت من الطواف بالبيت، ليس لأجل الحدث، وإنما لأجل أن الحائض ممنوعة من دخول البيت، فقال: ( حتى تطهري ) يعني: ينقطع الدم، فقوله: ( حتى تغتسلي ) أيضاً تتطهري من دم الحيض، فقال: بأن الحائض ممنوعة من دخول المسجد وليس لأجل الحدث، وإنما لكونها حائضاً فمنعت من ذلك.
الطهارة من الخبث
الشرط السادس: الطهارة من الخبث، هل هذا شرط أو ليس شرطاً؟هذا عند جمهور أهل العلم رحمهم الله أنه شرط، وعند الحنفية أنه ليس شرطاً، وهذا هو الصواب: أن الطهارة من الخبث ليست شرطاً، وعلى هذا لو أن الإنسان طاف وعلى ثيابه نجاسة أو في سرواله نجاسة ونحو ذلك فإن طوافه صحيح؛ لأننا إذا قلنا بأن الحدث رفعه ليس شرطاً فالخبث من بابٍ أولى؛ لأن الخبث من باب التروك، فيعفى فيها ما لا يعفى في الحدث الذي هو من باب الأوامر.
ستر العورة
الشرط السابع: ستر العورة، أيضاً هل هو شرط أو ليس بشرط؟الجمهور على أنه شرط، وعند الحنفية ليس شرطاً، ودليل الجمهور: أن الله عز وجل قال: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] ومن ذلك: ستر العورة.وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ألا لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان ) وهذا حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في الصحيحين، فهذا مما يدل على ستر العورة.وما هو ستر العورة الواجب؟ هم يقولون: ستر العورة كالعورة في الصلاة، فالمرأة كما تستتر في الصلاة تستتر في الطواف، والرجل كما يستتر في الصلاة يستتر في الطواف، والصحيح أن يقال: ينظر إلى العورة التي نهى عنها النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة : ( ألا لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان ) ما المراد بقوله: عريان؟ نقول: المراد بقوله: عريان هو ما كان عليه المشركون، أنهم يطوفون عراة تماماً، وأنهم يقولون: ثياب عصينا الله بها فلا نتقرب إليه بها، فيطوفون عراة إلا من أعطاه أحد من قريش ثوباً يستتر به.وعلى هذا العري الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم هو العري الكامل، أما ما عدا ذلك فالأصل في ذلك أنه لا يخل بالطواف، وعلى هذا لو طاف الإنسان وفي ثوبه شق، أو في إزاره شق، أو نزل إزاره وبدا شيء من عورته، فنقول: طوافه صحيح ولا بأس به.
الطواف بجميع البيت
الشرط الثامن: أن يطوف بجميع البيت، وعلى هذا لو طاف على الشاذروان، أو على جدار الحجر، أو دخل من الحجر فإن هذا لا يصح، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه إذا طاف على الشاذروان فإنه لا بأس به، وأن الشاذروان هذا ليس من البيت، وإنما هو جعل عماداً على البيت.والحنابلة يقولون: الشاذروان هو الجدار الصغير الفاضل تحت جدار الكعبة، هذا كان في الزمن السابق مربعاً وليس مسنناً، بحيث إن الإنسان يستطيع أنه يمشي عليه، أما الآن فهو مسنن قد يصعب على الإنسان أن يمشي عليه.فهذا إذا مشى عليه، أو أنه فرض أنه مشى عليه أو اتكأ على شخص ومشى عليه، فهل طوافه صحيح؟ الحنابلة يقولون: ليس بصحيح؛ لأنه من البيت، وشيخ الإسلام يقول: ليس من البيت فالطواف عليه صحيح.كذلك أيضاً لو دخل من الحجر وخرج، فإنه لا يصح طوافه؛ لأن الحجر هذا من البيت، وحد الحجر الذي من البيت كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: ما دام أن الحجر مستقيم إلى أن يبدأ الانحناء، فإذا بدأ الانحناء فهذا ليس من البيت، لكن ما دام أن جدار الحجر مستقيم فهذا من البيت إلى أن يبدأ الانحناء.المهم أنه إذا طاف على جدار الحجر، نقول: الحجر هذا من البيت، إن كان قبل الانحناء فهذا لا يصح؛ لأن الحجر -كما تقدم- من البيت، أما ما بعد الانحناء فهذا ليس من البيت، فلو طاف عليه فإن طوافه صحيح.
الطواف داخل المسجد
الشرط التاسع: أن يكون الطواف داخل المسجد، وعلى هذا فلو طاف خارج المسجد فإنه طوافه غير صحيح؛ لأن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الموالاة بين أشواط الطواف
الشرط العاشر: أن يوالي بين أشواط الطواف، وعلى هذا لو طاف شوطاً في الساعة العاشرة، وشوطاً في الحادية عشرة، وشوطاً بعد الظهر، نقول: بأن طوافه غير صحيح.وعندنا قاعدة: وهي أن العبادة المركبة من أجزاء، فإنه لا بد فيها من أمرين: الأمر الأول: الترتيب بين أجزائها، والأمر الثاني: التوالي، وإلا لم تكن على وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
الطواف مشياً
الشرط الحادي عشر: أن يمشي ولا يركب، وعلى هذا فالمذهب أنه لا يصح الطواف راكباً إلا لعذر، وعند الشافعية أن المشي سنة وليس واجباً، وعلى هذا لو ركب فطوافه هذا لا بأس به، وعند الحنفية يقولون: لو أنه ركب فطوافه صحيح، لكن يعيده ما دام في مكة، فإن ذهب إلى أهله فعليه دم، والأحوط في ذلك أن يمشي؛ لأن هذا هدي النبي عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يركب إلا لعذر، وهو لما غشاه الناس، وأصبحوا ينظرون إليه ويقتدوا بفعله ركب النبي عليه الصلاة والسلام.
الرمل في الثلاثة أشواط الأولى من الطواف والمشي فيما عداها
قال رحمه الله: [يرمل في الثلاثة الأول من الحجر إلى الحجر].هذه السنة الثانية، تقدم أن ذكرنا أن طواف القدوم فيه سنتان: السنة الأولى: الاضطباع، والسنة الثانية: الرمل.والرمل: هو الإسراع في المشي مع مقاربة الخطا، ودليل ذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: ( رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثاً، ومشى أربعاً ) وهذا أخرجه مسلم في صحيحه، وكذلك أيضاً له شاهد من حديث جابر رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم .وقوله: (من الحجر إلى الحجر) هذه هي السنة التي فعلها النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، وإلا ففي عمرة القضية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يرملوا ثلاثة أشواط، وأن يمشوا ما بين الركنين؛ لأنهم إذا مشوا بين الركنين لا يراهم المشركون، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إبقاءً على الصحابة أن يمشوا بين الركنين، وهذا نسخ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع كما في حديث ابن عمر وحديث جابر وغيرهما: رمل من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، وعلى هذا نقول: السنة أن يرمل من الحجر إلى الحجر، وأما المشي بين الركنين فكان في عمرة القضية ونسخ ذلك.والحكمة من الرمل هو: إغاظة المشركين، فإن المشركين قالوا: يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب -يعني: أضعفتهم حمى يثرب- فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يرملوا، أي: أن يسرعوا في الخطا وأن يقاربوا بينها، وأن يمشوا بين الركنين؛ لأنهم إذا كانوا بين الركنين فإنهم يستترون عن كفار قريش فلا يرونهم، ثم بعد ذلك نسخ ذلك، ورمل النبي عليه الصلاة والسلام من الحجر إلى الحجر، يعني: في جميع الشوط.وكما قلنا: سبب الرمل هو قول المشركين، وهذا ثابت من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الصحيحين.قال رحمه الله: [ويمشي في الأربعة].أي: الأخرى، وهذا دل له ما تقدم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل في الأشواط الثلاثة الأول من الحجر إلى الحجر، ومشى في الأشواط الأربعة ) وعلى هذا نقول: السنة أن يرمل في موضع الرمل، ويمشي في موضع المشي، فلو أن الإنسان نسي أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأول، فنقول: لا يرمل في الأشواط الأربعة الباقية؛ لأن السنة في الأشواط الأربعة الباقية المشي، ولو أنه نسي ولم يرمل إلا في شوط واحد فقط، فنقول: لا يقضي هذا في الأشواط الأربعة الباقية، يعني: لا يقول: أرمل في شوطين؛ لأن السنة في الأشواط الأربعة الباقية هو أن يمشي.ولو أن الإنسان لم يتمكن من الرمل؛ لكثرة الناس، لكن إذا ابتعد عن البيت خف الزحام وتمكن من الرمل، فهل نقول: يقرب من البيت ويترك الرمل، أو نقول: بأنه يبتعد ويرمل؟ نقول: بأنه يبتعد ويرمل، وذكر العلماء رحمهم الله لذلك ضابطاً، والضابط هو: أن الفضل المتعلق بذات العبادة أولى بالمراعاة من الفضل المتعلق بزمان العبادة أو مكانها.مثال زمان العبادة: السنة أن يصلي الإنسان الصلاة في أول وقتها فهذا هو الأفضل، لكن إذا كان حاقناً وتخفف، فإن هذا يؤدي به إلى الخشوع وسيفوت فضيلة أول الوقت وسيكتسب الخشوع في الصلاة، فالخشوع فضل متعلق بذات العبادة، والصلاة في أول وقتها فضل متعلق بزمان العبادة، نقول: الفضل المتعلق بذات العبادة أولى بالمراعاة من الفضل المتعلق بزمانها.مثال المكان: كما مثلنا هنا، مثال آخر: إنسان إذا صلى في الصف الأول لا يخشع في صلاته، مثلاً يكون عنده شخص قد أكل ثوماً أو بصلاً، أو أحد يشوش عليه، لكن إذا تأخر في الصف الثاني، فإنه يكون أحرى أن يخشع، فنقول: هنا يتأخر؛ لأن الفضل المتعلق بذات العبادة أولى من مراعاة الفضل المتعلق بمكانها.
ما يشرع عند محاذاة الحجر الأسود والركن اليماني
قال رحمه الله: [وكلما حاذى الركن اليماني والحجر استلمهما وكبر].أما الحجر الأسود فالسنة أنه كلما حاذاه فإنه يستلمه، ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في طوافه )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود وإسناده حسن.وأيضاً حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في صحيح مسلم أنه قال: ( ما تركت استلام هذين الركنين منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما ) .فنقول: بالنسبة للحجر الأسود هذا يستلمه، وهل يقبله، أو نقول فقط: يكتفي باستلامه للحجر الأسود؟ الأقرب في ذلك أنه يفعل المراتب الأربعة السابقة، إن تمكن أنه يستلم ويقبل ويسجد فعل ذلك، فإن لم يتمكن فإنه يستلم بيده ويقبل يده، فإن لم يتمكن فإنه يستلم بشيء ويقبل هذا الشيء، فإن لم يتمكن فإنه يشير إليه، هذا بالنسبة للحجر الأسود.وهل يسم أو لا يسم؟ وهل يقول: اللهم إيماناً بك أو لا يقول؟ لا يفعل ذلك، ونقول: يقتصر على التكبير فقط، فيقول: الله أكبر.أما بالنسبة للركن اليماني، نقول: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يستلمه، لكن قال المؤلف رحمه الله: [وكبر وهلل] الذي ورد هو التكبير فقط، أما التهليل فهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم.كذلك أيضاً بالنسبة للركن اليماني لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر عند استلامه، وعلى هذا نقول: بأنه يستلمه فقط دون أن يكبر، وهل يقبله أو لا يقبله؟ نقول: لا يقبله، وهل إذا تعذر عليه أن يستلمه هل يشير إليه؟ نقول: هذا لم يرد.وعلى هذا نقول: الركن اليماني السنة فيه فقط الاستلام، يعني: أن يمسحه بيده اليمنى، أما التقبيل والإشارة والتكبير فهذا كله لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقلنا: بالنسبة للحجر الأسود ذكرنا: هل يستلمه فقط أو يستلمه ويقبله ويسجد؟ فهذا موضع خلاف بين أهل العلم، بعض أهل العلم يقولون: هذه المراتب إنما تكون في أول شيء، لكن الصحيح في ذلك أنه يفعل المراتب الأربعة كما تقدم لنا: أنه يستلم ويقبل ويسجد، فإذا لم يتمكن فليستلمه بيده اليمنى ويقبل يده اليمنى، فإذا لم يتمكن فليستلمه بشيءٍ ويقبل هذا الشيء، فإذا لم يتمكن فليشر إليه كما سلف.
ما يشرع قوله بين الحجر الأسود والركن اليماني
قال رحمه الله: [ويقول بين الركنين: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]].يقول بين الركنين هذا الذكر، ويفهم من كلام المؤلف رحمه الله أنه ليس هناك ذكر وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما عدا ما ذكر؛ لأنه ذكر ما يقال عند استلام الحجر الأسود، وذكر أيضاً: ما يقال بين الركنين، ولم يذكر شيئاً آخر، وبهذا نعرف أنه في بقية الطواف ليس هناك ذكر وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.بل الإنسان يذكر ويهلل ويسبح ويحمد ويقرأ القرآن، وأما بالنسبة لكونه يأتي بذكر مخصوص، فهذا لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام، وبهذا نعرف أن ما يوضع من دعاء للشوط الأول أو دعاء للشوط الثاني، أن هذا بدعة؛ لأنها تخصيص لهذا الدعاء في هذا المكان، وهو لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا بدعة؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف.وقوله: (ويقول بين الركنين: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]) هذا دليله حديث عبد الله بن السائب أنه قال: ( سمعت رسول الله يقول بين الركن والحجر: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) ) وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وصححه الحاكم.قول المؤلف رحمه الله: يستلم الحجر والركن، يفهم من كلامه أنه لا يستلم الركنين الباقيين، يعني: الركنين الشاميين، وهذا هو الصواب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يستلمهما، ولهذا معاوية رضي الله تعالى عنه لما أتى وطاف واستلم الأركان كلها أنكر عليه، بأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يستلم إلا هذين الركنين.والحكمة في استلام الحجر الأسود والركن اليماني: أنهما على قواعد إبراهيم، أما بالنسبة للركنين الشاميين فهما ليسا على قواعد إبراهيم وإنما هما داخل البيت.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 05:14 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [9]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(55)


يدعو الحاج أو المعتمر بما شاء في طوافه حول البيت، ثم يصلي ركعتين خلف المقام إن استطاع، ثم يخرج إلى الصفا والمروة فيسعى سبعة أشواط يبدأ بالصفا وينتهي بالمروة، ثم يحلق رأسه، والمرأة كالرجل في السعي إلا أنها لا ترمل.وفي اليوم الثامن -يوم التروية- من كان حلا
الدعاء أثناء الطواف
تقدم لنا شيء من أحكام الطواف، وذكرنا من ذلك ما يشرع في طواف القدوم من الرمل والاضطباع، وكذلك أيضاً ذكرنا شيئاً من أحكام استلام الحجر الأسود، وذكرنا أن لذلك أربع مراتب: المرتبة الأولى أن يستلمه وأن يقبله وأن يسجد عليه، المرتبة الثانية: أن يستلمه بيده ويقبل يده، المرتبة الثالثة: أن يستلمه بشيء ويقبل ذلك الشيء، المرتبة الرابعة: أن يشير إليه.وأيضاً ذكرنا ما يتعلق باستلام الركن اليماني، وكذلك أيضاً ما يتعلق باستلام الركنين الآخرين الشاميين، وأنه لا يشرع استلامهما.ثم تطرقنا أيضاً إلى ما يتعلق بشروط الطواف، وذكرنا: هل تشترط الطهارة من الحدث، وهل تشترط الطهارة من الخبث؟ وما يتعلق بستر العورة وما يتعلق بإكمال السبعة الأشواط، فهذه تقدم الكلام عليها مبيناً.قال المؤلف رحمه الله: [ويدعو في سائره بما أحب].تقدم أن ذكرنا أنه يقول بين الركنين: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] وأيضاً ذكرنا ما يقوله عند استلام الحجر الأسود وما عدا ذلك فلم يرد، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (يدعو في سائره بما أحب) أي: بما أحب من خير الدنيا والآخرة، فيؤخذ من هذا: أنه ليس لأشواط الطواف ذكر مخصوص، وأن ما يوجد في بعض الكتيبات من دعاء للشوط الأول ودعاء للشوط الثاني، إنما هو بدعة؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف، والأصل فيها المنع، وإذا كان كذلك فإنه إن لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام تخصيص دعاء في عبادة فإن فعله بعده بدعة.
ركعتا الطواف
ثم قال المؤلف رحمه الله: [ثم يصلي ركعتين خلف المقام].بعد أن ينتهي من الطواف يشرع له أن يصلي هاتين الركعتين، وإذا انتهى من الطواف هل يشرع أن يشير إلى الحجر ويكبر أو نقول: هذا غير مشروع؟ في هذا قولان لأهل العلم رحمهم الله:الرأي الأول: ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يشرع استدلالاً بأن النبي عليه الصلاة والسلام كلما حاذى الحجر الأسود استلمه وكبر، فكذلك أيضاً عند نهاية الشوط السابع يستلمه -كما تقدم- ويكبر.والرأي الثاني: أنه لا يشرع؛ لأنه إذا أتم الأشواط السبعة فقد انتهت العبادة، وهذا الاستلام إنما يكون في جوف العبادة، والعبادة قد انتهت، ويدل لهذا أيضاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام في أيام التشريق -كما سيأتينا إن شاء الله- رمى الجمرة الصغرى ثم استقبل القبلة يدعو، ثم رمى الجمرة الوسطى ثم استقبل القبلة ورفع يديه يدعو، ثم رمى الجمرة الكبرى -جمرة العقبة- ولم يقف عندها ولم يدع.واختلف أهل العلم رحمهم الله في الحكمة من ذلك، وأقرب الأقوال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع لأن العبادة قد انتهت، وعلى هذا نقول: إذا أتم الأشواط السبعة فإنه لا يشرع أن يكبر أو أن يستلم الحجر أو أن يشير إليه وإنما يمضي.
حكم ركعتي الطواف وموضعهما
وقوله رحمه الله: (ثم يصلي ركعتين) هاتان الركعتان -ركعتا الطواف- تحتهما مسائل:المسألة الأولى: حكم هاتين الركعتين، للعلماء في ذلك رأيان:الرأي الأول: وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك أيضاً الشافعي : أن هاتين الركعتين سنتان وليستا واجبتين.والرأي الثاني: مذهب أبي حنيفة ومالك : أنهما واجبتان.والذين قالوا بأنهما سنة استدلوا بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما بعث النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن، قال: ( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ) قالوا: هذا الواجب أي: أن الواجب، خمس صلوات في اليوم والليلة ولا يجب غير هذه الصلوات الخمس.ومن قال بوجوبهما استدلوا بظاهر الأمر، فإن الله عز وجل قال: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] قالوا: هذا يقتضي وجوب هاتين الركعتين.وأقرب الأقوال في ذلك أن هاتين الركعتين ليستا واجبتين وإنما هما سنة، وأما هذا الدليل الذي استدل به من قال بالوجوب، وهو قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] فإنه وجد الصارف لذلك، وهو أن الإجماع منعقد على أن هاتين الركعتين تجزئان في كل مكان مع أن الآية جاءت في الأمر خلف مقام إبراهيم: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] فالآية جاءت بالأمر بالصلاة خلف مقام إبراهيم، والإجماع منعقد على أنه لا يجب أن تكون هاتان الركعتان خلف مقام إبراهيم، فلو فعلهما في أي مكان فإن ذلك مجزئ، فدل ذلك على أن هاتين الركعتين ليستا واجبتين؛ لأنه إذا كانت هاتان الركعتان أمر بهما خلف مقام إبراهيم ثم بذلك انعقد الإجماع على أنه يجزئ فعلهما ولو في غير هذا المكان دل ذلك على عدم وجوبهما.وعلى هذا نقول: الصحيح في ذلك أن هاتين الركعتين لا تجبان، وأنهما تجزئان في كل مكان، وعمر رضي الله تعالى عنه صلاهما بذي طوى.المسألة الثانية: السنة أن تكون هاتان الركعتان خلف مقام إبراهيم، فإن لم يتيسر للإنسان ذلك فإنه يصليهما في أي مكان، وإن تيسر له أن يجعل المقام خلفه -أي: بينه وبين البيت- فهذا أحسن، يعني: إذا لم يتمكن أن يجعلهما خلف مقام إبراهيم فإنه يجتهد أن يكون المقام بينه وبين البيت أثناء تأديتهما.
مدى إجزاء المكتوبة أو السنة عن ركعتي الطواف
المسألة الثالثة: هل تجزئ عنهما صلاة مكتوبة أو سنة راتبة لو كان الوقت وقت سنة راتبة أو نقول: لا يجزئ ذلك؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم، والصواب في ذلك: أن المكتوبة لا تجزئ عنهما، وأيضاً لا تجزئ عنهما السنة الراتبة؛ لأن هاتين الركعتين صلاة مستقلة بنفسها ومقصودة لذاتها، فلا تقوم غيرها مقامها.
ما يسن في ركعتي الطواف
المسألة الرابعة: ما يسن في هاتين الركعتين.نقول: هاتان الركعتان يسن فيها سنن:السنة الأولى: التخفيف أي: أن يخفف هاتين الركعتين.والسنة الثانية: أن يقرأ فيمها بسورتي الإخلاص: (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )) و: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) كما في حديث جابر الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه.والسنة الثالثة: ألا يطيل المقام بعدهما بل يقوم مباشرة كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ركعتا الطواف في أوقات النهي
المسألة الخامسة: هل تشرع هاتان الركعتان في أوقات النهي أو لا؟ بمعنى: لو أن الإنسان طاف بعد العصر أو طاف بعد الفجر فهل إذا انتهى من طوافه يصلي هاتين الركعتين أو نقول: بأنه لا يصليهما؟نقول: الصواب في ذلك ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله: أن هاتين الركعتين تشرعان في أوقات النهي؛ لأنهما من ذوات الأسباب، وذوات الأسباب تشرع في كل وقت؛ لأنها لو أخرت عن سببها لفاتت، إذ إنها شرعت لهذا السبب وهي دائرة معه.
استلام الركن بعد ركعتي الطواف
قال رحمه الله: [ويعود إلى الركن فيستلمه].إذا انتهى من صلاة هاتين الركعتين فإنه يشرع أن يعود إلى الركن ويستلمه، يعني: يعود إلى الحجر الأسود ويستلمه ويمسحه قبل أن يشرع في السعي، وهذا الاستلام قال العلماء رحمهم الله: يشرع بعد كل طوافٍ يعقبه سعي، فيشرع أن يستلمه فقط ولا يقبله؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبله، وإنما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقبله داخل الطواف أما خارج الطواف فهذا لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، فنقول: إذا انتهى الإنسان من الطواف فإن تيسر له أن يذهب إلى الحجر وأن يستلمه ويمسحه ثم بعد ذلك يخرج إلى المسعى فقد قام بالسنة.
السعي بين الصفا والمروة وما يتعلق به
قال رحمه الله: [ثم يخرج إلى الصفا من بابه].الصفا: هي الحجارة الصلبة، والمراد به هنا: المكان المعروف في طرف المسعى الجنوبي، طرف جبل أبي قبيس؛ لأن المسعى بين جبلين من جهة الصفا جبل أبي قبيس، ومن جهة المروة جبل قعيقعان.
الابتداء بصعود الصفا
قال المؤلف رحمه الله: [فيرقى عليه].أي: يرقى على الصفا، وهذا الرقي ليس واجباً لكنه مستحب، وإذا أقبل على الصفا قرأ قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] هكذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر ، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الآية وإنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجزء: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) ثم قال: ( أبدأ بما بدأ الله به ) ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذا الجزء من هذه الآية في غير هذا الموضع.وبهذا نعرف أن ما يفعله بعض الناس إذا أتى المروة قرأ قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) ثم إذا رجع إلى الصفا قرأها أيضاً أن هذا ليس عليه دليل، فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما قرأها مرة واحدة لما أقبل على الصفا.
التكبير والدعاء على الصفا
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويكبر الله ويهلله ويدعوه].أي: يرفع يديه، فإذا صعد على الصفا فليستقبل القبلة وليرفع يديه ويقول: الله أكبر ثلاث مرات.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر. ثم بعد ذلك يقول ما ورد، والوارد كما في حديث جابر يقول: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ) ثم يدعو ثم يقول هذا الذكر ثم يدعو، ثم يقول هذا الذكر ثم ينزل.أعيد ما سبق: أن يرفع يديه مستقبل القبلة ويكبر ثلاث مرات: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر، ثم يقول الوارد: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، ثم يدعو، ثم يقول هذا الذكر ثم يدعو، ثم يقول هذا الذكر ثم ينزل، فيدعو مرتين ويقول هذا الذكر ثلاث مرات فهذا هو السنة.وبهذا نعرف أن ما يفعله بعض الناس إذا صعدوا على الصفا يشيرون بأيديهم كأنهم يكبرون للإحرام ونحو ذلك، أو أنهم إذا أتوا إلى المروة يرفعون ويشيرون بأيديهم، فهذا كله غير وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الرمل بين العلمين
قال رحمه الله: [ثم ينزل فيمشي في مواضع مشيه، ويسعى في مواضع سعيه حتى يكمل سبعة أشواط].هذا يدل على أن المسعى يشرع فيه المشي ويشرع فيه السعي، فإذا أتى إلى العلم الأخضر -وهو بطن الوادي- فإنه يستحب أن يسعى سعياً شديداً اقتداءً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأصل مشروعية السعي كما في حديث البخاري الذي رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن إبراهيم لما ترك هاجر وابنها إسماعيل فعطشت وعطش الصبي فصعدت على الصفا هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، وهبطت في بطن الوادي، فكانت إذا هبطت في بطن الوادي لا ترى الصبي، فتسعى سعياً شديداً حتى تصل إلى المروة؛ لكي تنظر هل ترى أحداً؟ أو لا ترى أحداً، فكانت تسعى إذا كانت في بطن الوادي؛ لأن الطفل يغيب عنها، وبهذا حصلت مشروعية السعي.
شروط صحة السعي
وقوله: (فيمشي في مواضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه).السعي يشترط لصحته شروط أشار المؤلف رحمه الله إلى الشرط الأول في قوله: (فيمشي في مواضع مشيه) هذا الشرط الأول: أن يمشي، وعلى هذا لو أنه ركب من غير عذرٍ فإن سعيه غير صحيح، فلا بد أن يمشي ولا يركب إلا إذا كان لعذر فإن هذا لا بأس به، فإن النبي عليه الصلاة والسلام سعى ماشياً فلما احتاج إلى أن يركب؛ لكي يراه الناس ولكي يشرف عليهم ولكي يأخذوا عنه نسكهم ركب عليه الصلاة والسلام ركب، فنقول: الأصل أنه يمشي إلا إذا احتاج إلى الركوب فإنه لا بأس أن يركب.هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وكذلك أيضاً مذهب مالك : أنه لا بد أن يمشي إلا لعذر، وعلى هذا إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يمشي إما لكبر أو لمرض أو لغير ذلك فإنه لا بأس أن يركب، أما إذا كان قادراً على المشي فإنه لا يصح أن يركب، وهذا المشهور من مذهب أحمد رحمه الله، ومذهب مالك وهذا الرأي الأول.والرأي الثاني: رأي الشافعي رحمه الله تعالى، وهو أن المشي سنة وليس واجباً، وأنه لا بأس أن يركب الإنسان، قالوا: لأن النبي عليه الصلاة والسلام ركب.والأحوط في هذا أن يمشي الإنسان إلا لعذر، ولنعلم أن السعي يخفف فيه ما لا يخفف في الطواف، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لـعائشة لما حاضت: ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ) فتفعل حتى السعي فتسعى وهي حائض، فدل ذلك على أن السعي أمره أيسر من الطواف، ومع ذلك نقول: الأحوط أن الإنسان يمشي إلا لعذر، فإن كان هناك عذر فلا بأس.وقوله رحمه الله: (حتى يكمل سبعة أشواط).هذا الشرط الثاني: أنه لا بد أن يكمل سبعة أشواط، وعلى هذا لو أنه لم يسع إلا ستة أو ستة ونصفاً أو سبعة إلا شيئاً، لم يستوعب ما بين الصفا والمروة فإن هذا غير صحيح؛ لأنه لم يكمله، والنبي عليه الصلاة والسلام طاف سبعة أشواط كاملة.ثم قال رحمه الله: [يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية، يفتتح بالصفا ويختتم بالمروة].هذا الشرط الثالث: أن يفتتح بالصفا وأن يختم بالمروة، وعلى هذا لو افتتح بالمروة فإن هذا الشوط غير معتبر فلا بد أن يأتي بشوطٍ آخر، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وهناك رواية عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لو بدأ بالمروة فإنه لا شيء عليه كما لو ترك الترتيب بين أعضاء الوضوء، والصواب في هذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.الشرط الرابع: الموالاة بين أشواط السعي كالطواف، وقد سبق أن ذكرنا قاعدة، وهي: أن كل عبادة مركبة من أجزاء فإنه يشترط فيها شرطان: الشرط الأول: الترتيب، والشرط الثاني: الموالاة بين أجزائها، وإلا لم تكن كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله: أن التوالي بين أشواط السعي ليس شرطاً؛ لأن سودة بنت عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما سعت بين الصفا والمروة في ثلاثة أيام، والأقرب في هذا هو الرأي الأول وأنه لا بد من التوالي؛ لأنه لو طاف شوطاً في أول النهار وشوطاً في منتصف النهار وشوطاً في آخره وأربعة من الغد لم يكن هذا السعي الذي سعاه النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن هذه هي العبادة التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم وشرعها.الشرط الخامس: أن يكون هذا السعي بعد طواف نسك ولو مسنوناً، وهذا قول الأئمة الأربعة، وحكي الإجماع على ذلك: أنه لا بد أن يكون السعي بعد طواف نسك، ومعنى قولنا: (نسك)، يعني: طواف مشروع في حج أو عمرة، ولا يشترط أن يكون هذا الطواف واجباً حتى ولو كان مسنوناً مثل طواف القدوم للمفرد والقارن، فإن المفرد إذا طاف طواف القدوم فطواف القدوم هذا سنة، والقارن إذا طاف طواف القدوم فهذا الطواف سنة، فإذا سعى بعد ذلك فإن سعيه صحيح.وعلى هذا لو قدم السعي على الطواف فإنه لا يصح إلا ما ورد استثناؤه، كما يأتينا إن شاء الله: أنه لا بأس أن يقدم السعي على الطواف يوم النحر، وورد عن عطاء رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أنه لا يشترط ذلك، وحكي عن عطاء وداود أنه لا يشترط ذلك، يعني: لا يشترط أن يكون السعي بعد طواف، وورد عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه يسقط الترتيب بالجهل.والأقرب في ذلك أن يقال: إن الإنسان إذا قدم السعي على الطواف وكان جاهلاً فإن أمكنه أن يتدارك فإنه يتدارك، مثلاً: إنسان جاهل ذهب للعمرة وسعى قبل الطواف ويمكنه أن يتدارك لأنه في مكة، نقول: يعيد السعي مرةً أخرى، أما إذا كان الإنسان جاهلاً ولا يمكنه أن يتدارك وذهب الوقت ومضى ورجع، فنقول: بأن هذا يعفى عنه إن شاء الله.أيضاً من شروط صحة السعي: النية؛ لأن الإنسان قد يسعى بين الصفا والمروة قاصداً العبادة، وقد يسعى بين الصفا والمروة إما لمرافقة شخص يسعى أو للبحث عن شخص ونحو ذلك فلا بد من النية، وسبق لنا أن ذكرنا خلاف أهل العلم رحمهم: هل تكفي النية المطلقة أو لا بد من التعيين؟ وذكرنا الصواب في هذه المسألة: أنه تكفي النية المطلقة.وأما بالنسبة للطهارة وستر العورة والموالاة بين السعي والطواف فهذه كلها سنن، يعني: يستحب للإنسان أن يسعى وهو متطهر، ولو أنه سعى وهو محدث فإن سعيه صحيح، كذلك أيضاً كونه يتنزه من الخبث في بدنه وثيابه، نقول: بأن هذا مستحب، ولو سعى وعلى ثيابه خبث أو نجاسة فنقول: بأن سعيه صحيح.وكذلك أيضاً سترة العورة نقول: هذا مستحب، ولو أنه سعى وفي إزاره ثقب يخرج منه شيء من عورته نقول: إن سعيه صحيح.
التحلل من العمرة
قال رحمه الله: [ثم يقصر من شعره إن كان معتمراً وقد حل].قول المؤلف رحمه الله: (ثم يقصر من شعره) السنة والأفضل هدي النبي عليه الصلاة والسلام أن يحلق، ولهذا دعا النبي عليه الصلاة والسلام للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة واحدة، لكن في موضعٍ واحد يكون التقصير أفضل من الحلق، وهو المعتمر إذا كان متمتعاً وقرب وقت الإحرام بالحج، فإنه لا يحلق وإنما يقصر ويترك الحلق للحج يوم النحر.أعيد الكلام فأقول: السنة أن يحلق الإنسان، وهذا هو الأفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرةً واحدة، ونستثني من هذا حالة واحدة فقط، وهي: المعتمر إذا كان متمتعاً وقرب وقت الحج فإن الأفضل أن يقصر، ولهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام كل من ليس معه هدي من الصحابة أن يطوف بالبيت والصفا والمروة وبالتقصير، ثم بعد ذلك يحل وهذا في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.قال المؤلف رحمه الله: [إلا المتمتع إن كان معه هدي].المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن أفضل الأنساك التمتع، قالوا: حتى ولو ساق الهدي فالأفضل التمتع، ولهذا قال المؤلف: (إلا المتمتع إذا كان معه هدي) فقالوا: يمكن للإنسان أن يتمتع وهو معه هدي، فيطوف ويسعى ولا يقصر؛ لأنه لا يمكن أن يحل وهو لم يذبح الهدي، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أنحر ) فقالوا: بأنه يكون متمتعاً، فيطوف ويسعى ولكن لا يقصر؛ لكون الهدي معه، وهذا فيه نظر، والصحيح: أن التمتع لا يمكن مع وجود الهدي؛ لأنه كيف يقال: بأنه متمتع وهو لم يحل؟! لا يمكن أن يكون الإنسان متمتعاً مع وجود الهدي؛ لأن المتمتع لا بد أن يحل من العمرة ثم بعد ذلك يحرم بالحج، فالصحيح في ذلك: أنه لا يتمتع مع وجود الهدي.قال رحمه الله: [والقارن والمفرد لأنه لا يحل] إذا كان الإنسان قارناً أو مفرداً فإنه إذا طاف فالطواف يسمى: طواف القدوم، والسعي هذا يجزيه عن سعي الحج.
سعي المرأة وطوافها
قال رحمه الله: [والمرأة كالرجل إلا أنها لا ترمل في الطوافٍ ولا السعي].المرأة كالرجل فيما تقدم من الأحكام، مثل: ما يتعلق بأحكام الطواف وأحكام السعي، إلا أن المؤلف رحمه الله استثنى من ذلك: بأن المرأة ليس عليها رمل، وكذلك أيضاً لا تسعى سعياً شديداً بين العلمين؛ لأن أمر المرأة مبني على الستر والحشمة والصيانة، وهذا يخالف هذه الأشياء، فالمرأة لا ترمل في طواف القدوم في الأشواط الثلاثة الأول، وكذلك أيضاً لا تسعى سعياً شديداً بين العلمين.
صفة الحج
قال رحمه الله: [باب صفة الحج].تبدأ أفعال الحج في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة. وأيام الحج هي:اليوم الثامن: ويسمى بيوم التروية؛ لأن الناس يتروون فيه من الماء.واليوم التاسع: ويسمى بيوم عرفة؛ لأن الناس يخرجون فيه إلى عرفات.واليوم العاشر: ويسمى بيوم النحر؛ لما فيه من نحر الهدايا.واليوم الحادي عشر: ويسمى بيوم القر؛ لأن الناس يقرون فيه بمنى.واليوم الثاني عشر: ويسمى بيوم النفر الأول؛ لأن الناس لهم أن يتعجلوا في ذلك اليوم.واليوم الثالث عشر: ويسمى بيوم النفر الثاني.هذه أيام الحج، فأيام الحج ستة أيام تبدأ في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة ويسمى بيوم التروية. وتنتهي باليوم الثالث عشر ويسمى بيوت النفر الثاني. ‏
أعمال يوم التروية

الإحرام من مكة للتمتع وغيره من المحلين
قال المؤلف رحمه الله: [وإذا كان يوم التروية فمن كان حلالاً].يعني: كالمتمتعين الذين حلوا من عمرتهم، فإنه يشرع لهم أن يحرموا بالحج في اليوم الثامن. قال رحمه الله: [أحرم من مكة].لم يذكر المؤلف رحمه الله متى يحرم، هل يحرم قبل الزوال أو يحرم بعد الزوال؟نقول: ظاهر السنة أنه يحرم قبل الزوال؛ لأن الصحابة الذين تمتعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالإحرام في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، وخرجوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم من مكة إلى منى، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم ظهر يوم الثامن بمنى، فدل ذلك على أن إحرامهم كان قبل الزوال؛ لأن إحرامهم كان قبل الخروج من مكة فهم أحرموا من أماكنهم.. أحرموا من الأبطح، فدل ذلك على أنهم أحرموا قبل الزوال؛ لأنهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام خرج إلى منى قبل الزوال، وصلى الظهر في منى، وهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم محرمين، فدل ذلك على أن إحرامهم كان قبل الزوال.وقول المؤلف رحمه الله: (من مكة)؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة الذين تمتعوا أن يحرموا من البطحاء من مكان إقامتهم، فقوله رحمه الله: (أحرم من مكة) فيجزئ من مكة، وكذلك أيضاً يجزئ من بقية الحرم ومن خارج الحرم.
الخروج من منى
السنة أن يخرج في اليوم الثامن إلى منى، هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر الطويل، نقول: السنة أن يخرج إلى منى في اليوم الثامن ويصلي فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت ليلة التاسع بمنى ويصلي الفجر، فإذا صلى الفجر بمنى فإنه يذهب في اليوم التاسع إلى عرفات بعد طلوع الشمس.وسبق أن بينا أن الخروج إلى منى في اليوم الثامن، وفعل هذه الصلوات، والمبيت بمنى ليلة التاسع: أن هذا من سنن الحج وليس واجباً بدليل حديث عروة بن مضرس رضي الله تعالى عنه، فإن عروة بن مضرس أتى النبي عليه الصلاة والسلام وقد خرج من صلاة الفجر في مزدلفة فقال له النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر حاله: (من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه).
أعمال يوم عرفة
قال رحمه الله: [وخرج إلى عرفات].فنقول: السنة إذا طلعت الشمس في اليوم التاسع أن يسير إلى عرفات.قال رحمه الله: [فإذا زالت الشمس يوم عرفة صلى الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين، ثم يروح إلى الموقف].إذا طلعت الشمس فإنه يسير إلى عرفات، والنبي عليه الصلاة والسلام سار إلى عرفات، فوجد قبةً قد ضربت له بنمرة، يعني: خيمة صغيرة، فمكث النبي عليه الصلاة والسلام بهذه القبة حتى زالت الشمس، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يدخل عرفات إلا بعد الزوال وبعد الصلاتين.ونمرة هذه ليست من عرفة، قال العلماء: إنها غرب وادي عرنة من جهة الحرم، فإذا كان وادي عرنة ليس من عرفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ارفعوا عن بطن عرنة ) والوادي ليس من عرفات، فكذلك أيضاً نمرة.. فنمرة هذه غرب الوادي من جهة الحرم أي: وادي عرنة، فنمرة هذه ليست من عرفات خلافاً لما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله، ووادي عرنة أيضاً ليس من عرفات.والنبي عليه الصلاة والسلام لم يدخل عرفات إلا بعد الزوال والصلاتين، فلما زالت الشمس دخل النبي عليه الصلاة والسلام وادي عرنة فصلى الظهر والعصر، كما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى: (يجمع بينهما بأذان وإقامتين)، ثم بعد ذلك دخل الموقف عليه الصلاة والسلام.
وقت الوقوف بعرفة
واختلف أهل العلم رحمهم الله: متى يبدأ وقت الوقوف بعرفة؟الرأي الأول: المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن وقت الوقوف بعرفة يبدأ من بعد طلوع الفجر، وعلى هذا لو أن الإنسان وقف بعرفة بعد طلوع الفجر ولو لحظة واحدة فإن وقوفه صحيح وتم حجه، يعني: أتى بركن الحج الأعظم، حتى لو خرج ولم يرجع.واستدلوا على ذلك بحديث عروة بن مضرس ، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً ) فقالوا: بأن قوله: (أو نهاراً) هذا يشمل النهار من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس وهذا الرأي الأول.والرأي الثاني: ما عليه جمهور أهل العلم، وهو رأي الحنفية والشافعية حيث قالوا: وقت الوقوف بعرفة يبدأ من بعد الزوال؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقف إلا بعد الزوال.والرأي الثالث: رأي الإمام مالك رحمه الله.. فـمالك يقول: بأن وقت الوقوف يكون بعد غروب الشمس، يعني: لا بد أن يقف لحظة بعد غروب الشمس، وعلى رأي مالك فلو وقف بعد الزوال وجلس وخرج قبل غروب الشمس ولم يرجع فاته الحج؛ لأنه لم يأت بركن الحج، يقول: ركن الحج هو أن تقف بعد غروب الشمس ولو للحظة واحدة.والإمام مالك والمالكية يتمسكون بحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من جاء ليلة جمعٍ قبل طلوع الفجر فقد أدرك ) وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه جمع من أهل العلم منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني وغيرهم، فقالوا: علق النبي صلى الله عليه وسلم الإدراك على إدراك ليلة جمع.لكن هذا الحديث الجواب عنه سهل، فنقول: هذا الحديث يدل على أن من جاء في الليل أدرك الحج، ومن وقف في النهار أيضاً أدرك الحج.فالصحيح في ذلك: أن وقت الوقوف يبدأ من بعد زوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من اليوم العاشر، والإجماع منعقد على أن وقت الوقوف بعرفة يستمر إلى طلوع الفجر الثاني من اليوم العاشر أي: من يوم النحر، وعلى هذا لو جاء في الليل فقط هل يدرك الحج أو لا يدرك الحج؟ نقول: يدرك الحج.
موضع الوقوف بعرفة
قال رحمه الله: [وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة].هذا نص حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل عرفة موقف، وارفعوا عن بطن عرنة ) وهو حديث جبير بن مطعم ، أخرجه ابن ماجه وغيره كـالطحاوي وابن حزم وابن خزيمة وإسناده حسن، فدل ذلك أن بطن عرنة ليس من الموقف.قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب أن يقف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم أو قريباً من الصخرات، ويجعل حبل المشاة بين يديه].يعني: يستحب للإنسان أن يقف في ذيل الجبل عند الصخرات، فالنبي صلى الله عليه وسلم وقف عند الصخرات في ذيل الجبل واستقبل القبلة وجعل حبل المشاة بين يديه، أما صعود الجبل فهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه صعد الجبل ولا تقصد صعوده، بل النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( وقفت هاهنا وعرفات كلها موقف ) . إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام وقف في ذيل الجبل عند الصخرات واستقبل القبلة وجعل حبل المشاة بين يديه، كما ورد ذلك في حديث جابر ، أما صعود الجبل فهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً تقصد الصعود هذا غير وارد عن النبي عليه الصلاة والسلام، فالصحيح أن الإنسان يقف في أي مكان، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( وقفت هاهنا وعرفات كلها موقف ).قال رحمه الله: (ويجعل حبل المشاة بين يديه).معنى حبل المشاة: طريقهم الذي يسلكونه. قال رحمه الله: [ويستقبل القبلة].وهذا دليله حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة )، وهذا أخرجه مسلم في صحيحه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 05:19 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [10]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(56)


يسن الوقوف بعرفة راكباً إذا وجدت مصلحة، ويسن الإكثار من الذكر والدعاء إلى أن تغرب الشمس، ويجزئ الوقوف بعرفة ولو لحظة واحدة، وينتهي وقته بطلوع الفجر الثاني من يوم النحر، ويسن عند الدفع من عرفة سلوك طريق المأزمين بسكينة ووقار، ملبياً ذاكراً لله عز وجل حتى ي
تابع أعمال يوم عرفة
تقدم لنا أن المحلين من المتمتعين وغيرهم ممن لم يحرموا في الحج أنه يستحب لهم أن يحرموا في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، وأن يكون إحرامهم من أماكنهم كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم أحرموا من البطحاء، ويكون إحرامهم أيضاً قبل الزوال، ودليل ذلك: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى، وخروجهم حال الإحرام، وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى قبل الزوال؛ لأنه صلى الظهر بمنى من اليوم الثامن، فدل ذلك على أن إحرامهم كان قبل الزوال.وذكرنا فيما تقدم أنه يستحب له أن يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر من اليوم التاسع في منى، وأن يبيت ليلة التاسع بمنى، ويصلي قصراً بلا جمع، وذكر المؤلف رحمه الله أنه أيضاً يخرج إلى عرفات، وذكرنا متى يخرج من منى إلى عرفات، وإن تيسر له أن يقيم بنمرة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا أن نمرة ليست من عرفة.وذكر المؤلف رحمه الله أنه يصلي الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين.قال رحمه الله: (فإذا زالت الشمس يوم عرفة صلى الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين ثم يروح إلى الموقف وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة) تقدم لنا متى يبدأ وقت الوقوف بعرفة، وذكرنا أن أهل العلم رحمهم الله اختلفوا في ذلك على ثلاثة آراء:الرأي الأول: المشهور من مذهب الإمام أحمد : أنه يبدأ من بعد طلوع الفجر الثاني من يوم عرفة.والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة والشافعي : أنه يبدأ من بعد الزوال.والرأي الثالث: أنه يبدأ من بعد غروب الشمس، يعني: الوقوف الركن، وهذا رأي الإمام مالك رحمه الله.
الجمع بين الظهر والعصر يوم عرفة
وقول المؤلف رحمه الله: [صلى الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين].ظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أن الحاج يجمع بين العصر والظهر في يوم عرفة، حتى وإن كان من أهل مكة، فغير أهل مكة من الآفاقيين لا إشكال في أنهم يجمعون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الآفاقيين جمعوا كما في حديث جابر الطويل، لكن هل يجمع أهل مكة أو لا يجمعون؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله:الرأي الأول: رأي مالك واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن أهل مكة يجمعون ويقصرون كسائر الحجاج.والرأي الثاني: رأي الحنابلة والشافعية: أن أهل مكة لا يجمعون ولا يقصرون.والرأي الثالث: رأي أبي حنيفة رحمه الله: أنهم يجمعون ولا يقصرون.فالمسألة طرفان ووسط؛ مالك رحمه الله يقول: بأنهم يجمعون ويقصرون، والشافعي وأحمد يقولان: بأنهم لا يجمعون ولا يقصرون، وعند أبي حنيفة : أنهم يجمعون ولا يقصرون.والصواب في هذه المسألة: أنهم يجمعون ويقصرون كسائر الحجاج، أما كونهم يجمعون فأصح الأقوال في ذلك أن علة الجمع هي النسك؛ لأن الحاج يحتاج إلى أن يجمع بين الظهر والعصر لكي يتصل الوقوف ويتفرغ للدعاء والذكر والابتهال، فعلّة الجمع هي النسك، وأما بالنسبة لعلة القصر فهي السفر.وأهل مكة إذا خرجوا من مكة إلى عرفات فإنهم يكونون مسافرين؛ لأنه تقدم لنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى أن المدة الطويلة في المسافة القصيرة سفر، وأهل مكة يخرجون من مكة إلى عرفات، فالمسافة قصيرة، لكن المدة طويلة؛ لأنهم لن يرجعوا في نفس اليوم إلى أماكنهم، بل سيذهبون إلى مزدلفة، ثم بعد ذلك لا يرجعون إلى أماكنهم إلا يوم العيد، فهذه مدة طويلة في مسافة قصيرة، فحكمها حكم السفر.
ما يستثنى من الوقوف بعرفات
قال رحمه الله: (ثم يروح إلى الموقف، وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة).عرفات كلها موقف إلا بطن عرنة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وقفت هاهنا وعرفات كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة ) فالوادي ليس محل الوقوف شرعاً، لأن الوادي قد يكون عرضةً لأن يتأذى الإنسان في نفسه أو في ماله، فقد تكون هناك أمطار، فيتأذى الإنسان في نفسه أو ماله، وأيضاً الأودية قد تكون مأوىً لبعض المؤذيات من الحشرات ونحوها، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ارفعوا عن بطن عرنة ) وإنما صلى النبي عليه الصلاة والسلام الظهر والعصر في بطن الوادي للاحتياج إلى ذلك، لأن بطن الوادي أرضه سهلة، فأرفق بالناس أن تكون الصلاة في ذلك المكان.
الوقوف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم
قال رحمه الله: (ويستحب أن يقف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم أو قريباً من الصخرات).النبي عليه الصلاة والسلام لم يصعد الجبل، وإنما قال: ( وقفت هاهنا وعرفات كلها موقف ) وفي حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة )، فنقول: الإنسان يقف في أي مكان يستقبل القبلة، وأما قصد الجبل وصعود الجبل فهذا لم يفعله النبي عليه الصلاة والسلام.قال رحمه الله: (ويجعل حبل المشاة بين يديه) لما تقدم في حديث جابر قال: ( وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة ) وقوله: (حبل المشاة)، أي: طريقهم الذي يسلكونه.قال رحمه الله: (ويستقبل القبلة) هذا هو السنة: أن يستقبل القبلة، وأن يرفع يديه للدعاء، فإن النبي عليه الصلاة والسلام رفع يديه، وفي حديث أسامة : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان رافعاً يديه وكان ماسكاً خطام الناقة بإحدى يديه، فلما سقط خطام الناقة من يده أهوى النبي عليه الصلاة والسلام بيده لكي يأخذ خطام الناقة ولم يزل رافعاً اليد الأخرى ) وهذا مما يدل على أنه يستحب للإنسان أن يرفع يديه في ذلك الموقف.
الوقوف بعرفة راكباً
قال رحمه الله: [ويكون راكباً].أي: يقف راكباً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام وقف على ناقته، فيقول المؤلف رحمه الله: يقف راكباً، وهل يقف راكباً، أو يقوم قائماً؟ بعض السلف قال: بأنه يقوم قائماً حال الدعاء، والمؤلف رحمه الله يقول: يقف على راحلته، يعني: يركب سيارته إن كان معه سيارة أو نحو ذلك ويستقبل القبلة ويدعو، والصحيح في ذلك أن هذا يرجع إلى المصلحة، فإذا كانت مصلحة الشخص أو مصلحة غيره أن يقف راكباً وقف راكباً، فإن النبي عليه الصلاة والسلام إنما وقف راكباً على راحلته؛ لأن الناس يحتاجون إليه ليأخذوا عنه نسكهم وينظروا كيف يفعل.ونظير ذلك ما تقدم لنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره وسعى على بعيره؛ لأن الناس ازدحموا عليه، ولكي يشرف عليهم وينظروا إليه، فهذه مصلحة، فنقول: يرجع إلى المصلحة، فإذا كان الإنسان ممن ينظر إليه ويقتدى به فإنه يقف وقوفاً يستفيد الناس منه، وإذا كان الإنسان ينظر لما هو الأخشع لقلبه: هل يقف بعرفة راكباً أو يقف به وهو جالس ويدعو الله عز وجل، المهم: أن الإنسان ينظر ما هو الأخشع لقلبه.
الذكر والدعاء بعرفة
قال رحمه الله: [ويكثر من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير].وهذا دليله قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير ). قال رحمه الله: [ويجتهد في الدعاء والرغبة إلى الله عز وجل].يجتهد في الدعاء، ويكثر من الدعاء والذكر والقراءة ونحو ذلك؛ لما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير ) وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد رحمه الله والترمذي .
وقت الإفاضة من عرفة
قال رحمه الله: (إلى غروب الشمس).يعني: يقف إلى غروب الشمس؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر : ( وقف إلى أن غربت الشمس واستحكم غروبها وذهبت الصفرة ).والوقوف إلى غروب الشمس واجب من واجبات الحج، ويدل له أدلة، منها:الدليل الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما تقدم- وقف إلى أن غربت الشمس، وقال: ( خذوا عني مناسككم ).والدليل الثاني: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً )، ولا شك أن الدفع في ضوء النهار أيسر من الدفع في ظلمة الليل، ومع ذلك لم يدفع النبي عليه الصلاة والسلام إلا بعد أن غربت الشمس.والدليل الثالث: أن النبي لم يرخص لأحدٍ من الضعفة أن يدفع قبل غروب الشمس، ولو كان جائزاً لرخص، وسيأتينا إن شاء الله أن الضعفة يرخص لهم في الدفع من مزدلفة في آخر الليل، ومع ذلك في عرفات لم يرخص النبي عليه الصلاة والسلام لأحدٍ في الدفع قبل غروب الشمس.
قدر الوقوف بعرفة وآخر وقت له
قدر الوقوف بعرفة لحظة واحدة، يعني: إذا وقف في وقت الوقوف لحظة واحدة وهو أهل للوقوف فإنه قد تم حجه، ومن هو أهل للوقوف؟ نقول: أهل الوقوف هو المسلم المحرم بالحج العاقل، بحيث لا يكون مغمى عليه ولا مجنوناً ولا سكراناً.ووقت الوقوف ينتهي بطلوع الفجر من يوم النحر من اليوم العاشر، وهذا باتفاق الأئمة رحمهم الله، ويدل له كما تقدم حديث عروة بن مضرس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه )، وأيضاً حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من جاء عرفة ليلة جمعٍ قبل الطلوع فقد أدرك ) وهذا أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
الدفع إلى مزدلفة والمبيت بها
قال رحمه الله: [ثم يدفع مع الإمام إلى مزدلفة على طريق المأزمين].طريق المأزمين: تثنية مأزم وهو كل طريقٍ ضيقٍ بين جبلين.
لزوم السكينة والوقار أثناء الدفع إلى مزدلفة
قال رحمه الله: [وعليه السكينة والوقار].وهذا دليله حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أثناء الدفع: ( أيها الناس! السكينة السكينة ) فيدفع الإنسان بسكينة ووقار، لكن إذا وجد فجوةً فإنه يسرع، ويدل لهذا حديث أسامة قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق، فإذا وجد فجوةً نص ) والعنق: هو انبساط السير، والنص: هو فوق العنق.
الذكر والتلبية أثناء الدفع إلى مزدلفة
قال رحمه الله: [ويكون ملبياً ذاكراً لله عز وجل].التلبية يبدأ وقتها من حين الإحرام بالحج، وتقدم لنا أن المحلين من تمتعهم يحرمون بالحج في اليوم الثامن قبل الزوال، وكذلك أيضاً من لم يحرم فإنه يستحب له أن يحرم في اليوم الثامن، وتبدأ التلبية من اليوم الثامن، أما بالنسبة للمتمتع والقارن الذين أحرموا قبل اليوم الثامن، فإنهم على تلبيتهم؛ لأن التلبية تبدأ من حين الإحرام بالحج.وتقدم لنا أنها تبتدئ عند دبر الصلاة، وتستمر هذه التلبية إلى أن يبدأ برمي جمرة العقبة يوم النحر، فإذا رمى جمرة العقبة بأول حصاة فإنه يقطع التلبية كما سيأتي إن شاء الله، وإذا بدأ التلبية في اليوم الثامن فإنه سيظل اليوم الثامن يلبي، وكذلك أيضاً في اليوم التاسع يلبي، وكذلك أيضاً في العاشر إلى أن يرمي جمرة العقبة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ويكون ملبياً) يعني: حال سيره من عرفات إلى مزدلفة يلبي، وحال سيره من مزدلفة إلى منى فإنه يلبي، إلى أن يبدأ برمي جمرة العقبة كما سلف.قال رحمه الله: (ويكون ملبياً ذاكراً لله عز وجل) لأنه كما ورد ذلك في حديث أنس رضي الله تعالى عنه: أنه ( كان يهل المهل فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر فلا ينكر عليه )، فهذه الأيام أيام تكبير وأيام تلبية، فإذا كان الإنسان مكبراً ملبياً فهذا كله مشروع.
الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة
قال رحمه الله: [فإذا وصل مزدلفة صلى بها المغرب والعشاء قبل حط الرحال، يجمع بينهما].إذا وصل مزدلفة فالسنة أن يؤخر صلاتي المغرب والعشاء إلى أن يصل إلى مزدلفة؛ لأن هذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام، ففي حديث أسامة رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توقف في الطريق بين عرفة ومزدلفة وبال وتوضأ وضوءاً خفيفاً، فقال له أسامة : يا رسول الله! الصلاة، فقال: الصلاة أمامك ) ولو صلى في الطريق لأجزأته صلاته خلافاً لـابن حزم رحمه الله تعالى، والصحيح أنه إذا صلى أجزأته صلاته؛ لكن هذا خلاف السنة.لكن إذا كان هناك زحام ويعرف الإنسان أنه لن يصل مزدلفة إلا بعد انتصاف الليل، فإننا نقول: يجب عليه أن يصلي في الطريق ولا يجوز له أن يؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها، بل يصلي في الطريق على حسب حاله، إن تمكن من النزول فإنه ينزل، وإذا لم يتمكن من النزول فإنه يصلي على مركوبه.. حسب حاله، ويأتي بما يستطيع من الأركان والواجبات، فإذا استطاع أن يسجد سجد وإلا أومأ، وإذا استطاع أن يقف وقف، وإذا استطاع أن يركع ركع، وإذا لم يستطع فإنه يصلي جالساً بالإيماء، ولا يؤخر الصلاة عن وقتها.وقول المؤلف رحمه الله: (فإذا وصل مزدلفة صلى بها المغرب والعشاء قبل حط الرحال) إذا وصل إلى مزدلفة فإنه لا يخلو من أمرين:الأمر الأول: أن يصل إلى مزدلفة في وقت العشاء، فهذا الأمر في ذلك ظاهر: أنه يصلي المغرب ثم يصلي العشاء الآخرة.الأمر الثاني: أن يصل إلى مزدلفة في وقت المغرب، فنقول: يبدأ بصلاة المغرب، وهل الأفضل أن يقدم العشاء أو الأفضل أن يؤخرها؟ هذا موضع خلاف، فبعض أهل العلم قال: إذا وصل مزدلفة في وقت المغرب فإنه يبدأ بالمغرب، ثم يؤخر العشاء إلى أن يدخل وقتها، فإذا دخل وقتها صلى العشاء، وقال بعض أهل العلم: بل يجمع، والأمر في هذا واسع إن شاء الله.والسنة للإنسان إذا وصل مزدلفة أن يبادر بصلاة المغرب، والنبي عليه الصلاة والسلام بادر بصلاة المغرب قبل تبريك الجمال وقبل حط الرحال، وقال عليه الصلاة والسلام: ( خذوا عني مناسككم ) ثم بعد أن صلى المغرب بركت الجمال وحطت الرحال فصلى العشاء، فنقول: السنة أول ما يصل مزدلفة أن يبادر بصلاة المغرب هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.وقوله: (قبل حط الرحال) نقول: قبل حط الرحال هذا بالنسبة لصلاة المغرب، ففي حديث أسامة رضي الله تعالى عنه: ( فأذن ثم أقام فصلى المغرب قبل حط الرحال وتبريك الجمال، فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة ثم صلى العشاء الآخرة بإقامة بلا أذان ) فصلاة العشاء بعد حط الرحال، وأما بالنسبة لصلاة المغرب فإنها قبل حط الرحال وتبريك الجمال كما في حديث أسامة رضي الله تعالى عنه في الصحيحين.
المبيت بمزدلفة
قال المؤلف رحمه الله: [ثم يبيت بها].يعني: يبيت بمزدلفة وجوباً، واختلف أهل العلم رحمهم الله في حكم البيتوتة بمزدلفة.فالرأي الأول: أن البيتوتة بمزدلفة واجب من واجبات الحج، وهذا عند جمهور أهل العلم، لكن الحنفية رحمهم الله قالوا: لا يجب على الضعفة أن يبيتوا بمزدلفة.والرأي الثاني: ذهب إليه بعض السلف مثل الحسن البصري والنخعي وغيرهم، قالوا: بأن البيتوتة بمزدلفة ركن من أركان الحج.والرأي الثالث: بعض الشافعية قالوا بأنه سنة، والصحيح في هذا أن البيتوتة بمزدلفة واجب من واجبات الحج، وأنه ليس سنةً ولا ركناً، يعني: هذا قول وسط، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من شهد صلاتنا هذه ) أي: صلاة الفجر بمزدلفة، ( ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه ) فعلق التمام على شهود الصلاة والوقوف حتى الدفع.وأيضاً حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي الذي سبق لنا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من جاء ليلة جمعٍ قبل الطلوع فقد أدرك ) هذا يدل على أن المبيت بمزدلفة ليس ركناً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن جاء عرفات ليلة جمع قبل طلوع الفجر: ( قد أدرك الحج ) ولنفرض أنه جاء عرفات قبل طلوع الفجر بلحظة واحدة، هل أدرك الحج أو لم يدرك الحج؟ أدرك الحج، ويلزم من ذلك أن المبيت بمزدلفة قد فاته؛ لأنه إذا جاء قبل طلوع الفجر إلى عرفات بلحظة واحدة فقد أدرك عرفات، لكن يلزم منه أن المبيت بمزدلفة قد فات عليه، فحينئذٍ يدل هذا الحديث على أن المبيت بمزدلفة ليس ركناً، ولو كان ركناً لما أدرك الحج.
قدر المبيت بمزدلفة
تقدم أن ذكرنا أن مدة الوقوف بعرفات قدرها لحظة واحدة، أيضاً قدر البيتوتة بمزدلفة عند الحنابلة والشافعية، فإذا أتى بعد نصف الليل يكفي لحظة واحدة ثم ينصرف، أما إذا أتى قبل نصف الليل فيقولون: لا بد أن يمكث إلى ما بعد نصف الليل لحظة واحدة، ثم بعد ذلك له أن ينصرف، فالمشهور من المذهب ومذهب الشافعية أنه إن جاء بعد نصف الليل فيكفي لحظة، وإن جاء قبل نصف الليل لا بد أن يبيت إلى أن ينتصف الليل، فإذا انتصف الليل بلحظة واحدة فله أن ينصرف.وعند الحنفية رحمهم الله: أنه لا بد أن يقف لحظة واحدة؛ لكن بعد طلوع الفجر.وعند الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه قدر حط الرحال، سواء كان في أول الليل أو في وسطه أو في آخره، قدر ما يحط الإنسان رحله، يعني: إذا جاء مزدلفة ومضى قدر ما يحط رحله، سواء كان في أول الليل أو في وسطه أو في آخره فإن ذلك كاف.
وقت الدفع من مزدلفة
متى يجوز للحاج أن ينصرف من مزدلفة؟نقول: لا يخلو الحاج من أمرين:الأمر الأول: أن يكون من الأقوياء.والأمر الثاني: أن يكون من الضعفة.فإن كان من الأقوياء فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله ومذهب الشافعي أنه يجوز له أن ينصرف بعد نصف الليل.وعند مالك : إذا مضى قدر حط الرحل، سواء في أول الليل أو في آخره أو في وسطه فله أن ينصرف.وعند أبي حنيفة : ينصرف بعد طلوع الفجر.والأحوط بالنسبة للأقوياء أن يبقوا، يعني: السنة التي وردت فيهم أن يبقوا كما بقي النبي صلى الله عليه وسلم ويصلوا الفجر في مزدلفة ويمكثوا للدعاء إلى أن يسفر جداً، هذا بالنسبة للأقوياء، ولو انصرفوا قبل ذلك -يعني: خصوصاً في مثل زمننا هذا الذي يكون فيه الزحام، يعني: يكاد يكون الناس كلهم ضعفة اليوم؛ لوجود الزحام والمشقة ونحو ذلك- فيظهر أنه لا بأس لو انصرفوا قبل طلوع الفجر، لكن الأحوط في حق الأقوياء أن يمكثوا إلى طلوع الفجر ويصلوا الفجر بمزدلفة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ويقفوا فيها إلى الإسفار.القسم الثاني: الضعفة، فأيضاً عند الحنابلة والشافعية لهم أن ينصرفوا بعد نصف الليل، والحنفية يقولون: إن الضعفة أصلاً لا يجب عليهم المبيت بمزدلفة، والمالكية يقولون: بقدر حط الرحل حتى من أول الليل، والذي دلت السنة له أن الضعفة يستحب لهم أن ينصرفوا في آخر الليل، كما في حديث ابن عباس قال: ( كنت فيمن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله )، وابن عمر رضي الله تعالى عنه كان يقدم ضعفة أهله، فمنهم من يقدم لطلوع الفجر، ومنهم من يقدم قبل ذلك.والنبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة وميمونة ، فالضعفة السنة أن يقدموا آخر الليل؛ لكي لا ينالهم حطمة الناس، وفي حديث أسماء رضي الله تعالى عنها: ( أنها مكثت تصلي في المزدلفة وتسأل عن القمر، فلما ذكر لها أنه قد غرب تعجلت، فقال لها مولاها: يا هنتاه! يعني: يا هذه، ما أرانا إلا قد غلسنا، فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن للظعن )، فإذا الضعفة تعجلوا بعد غروب القمر فهذا هو المشروع في حقهم؛ لكي لا ينالهم حطمة الناس.قال رحمه الله: [ثم يصلي الفجر بغلس].كما هو فعل النبي عليه الصلاة والسلام في حديث جابر رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر بغلس ).
الوقوف بالمشعر الحرام
قوله: (ويأتي المشعر الحرام).فمزدلفة كلها مشعر، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: اعلم أن المشعر الحرام في الأصل اسم للمزدلفة كلها، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما بين الجبلين مشعر، لكن هناك مشعر أخص من هذا المشعر العام، وهو جبل صغير في مزدلفة يقال له: قزح، يعني: هذا مشعر أخص، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر قال: ( حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعا وكبر، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس ) .فقوله: ( حتى أتى المشعر الحرام ) يدل على أن هناك مشعراً آخر أخص من المشعر العام، فأصبح عندنا مشعران: مشعر عام، وهذا كل مزدلفة، وأخص منه وهذا الجبل الذي يقال له: قزح، والآن المسجد المبني في مزدلفة مبني على المشعر الحرام، يعني: المسجد الآن الموجود في مزدلفة هذا مبني على نفس المشعر الخاص.وعلى كل حال: فالإنسان إذا صلى الفجر بغلس فإنه يستقبل القبلة -سواء كان في مكانه أو ذهب إلى المشعر الخاص- ويكبر الله ويهلله ويدعوه حتى يسفر جداً، لما تقدم أن أوردنا من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، ثم يدفع قبل طلوع الشمس.
الإسراع عند بلوغ وادي محسر
قال رحمه الله: [فإذا بلغ محسراً أسرع قدر رمية بحجر حتى يأتي منى].يعني: وادي محسر، يقول المؤلف رحمه الله: أسرع رمية حجر، ودليل ذلك: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى بطن محسر حرك قليلاً )، وهذا رواه جابر كما في صحيح مسلم ، وما الحكمة من كونه يحرك، يعني: إذا أتى بطن الوادي فإنه يسرع.. ما الحكمة من ذلك؟ هذا اختلف فيه أهل العلم رحمهم الله:فقال بعض العلماء: يحرك إذا أتى بطن محسر؛ لأن النصارى كانت تقف هناك، فيسرع لكي يخالفهم.وقيل: لأن هذا المحل هو محل إهلاك أصحاب الفيل الذين أتوا لهدم الكعبة، لكن هذا القول ضعيف؛ لأن أصحاب الفيل لم يبلغوا الحرم.والقول الثالث: أن هذا المحل كانت تقفه الجاهلية ويذكرون فيه مناقبهم وأمجادهم وأحسابهم ومفاخرهم، ويدل لهذا قول الله عز وجل: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة:200] فقال: كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ [البقرة:200] وهذا القول هو أقرب الأقوال، أن هذا مكان كانت تقفه الجاهلية تذكر فيه مناقبها وأحسابها وأنسابها ونحو ذلك.
رمي جمرة العقبة
قال رحمه الله: [فيبتدئ بجمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات كحصى الخذف].ولم يذكر المؤلف رحمه الله من أي مكان يأخذ حصى الجمار، فنقول: بأن حصى الجمار يأخذها من أي مكان، وليس شرطاً أن يأخذها من مزدلفة، ولهذا من الخطأ أن بعض الحجاج إذا قدم مزدلفة يبدأ بلقط حصى الجمار، والسنة إذا قدم مزدلفة أن يبدأ بصلاة المغرب، ولهذا باتفاق الأئمة على أنه لا بأس أن يأخذها من أي مكان، لكن ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يأخذونها من مزدلفة، فورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وكذلك أيضاً عن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه، لكن نقول: يأخذها من أي مكان.وفي حديث ابن عباس : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام أتى الناس وهم يرمون الجمرة، فأمر ابن عباس أن يلقط له سبع حصيات، فأخذهن وجعل يقلبهن بكفه ويقول: بأمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو )، فهذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من عند الجمرة، ولكن هذا الحديث في إسناده ضعف.وقول المؤلف رحمه الله: (حتى يأتي منى فيبتدئ بجمرة العقبة) هذا هو السنة: فإذا جاء إلى منى أن يبتدئ برمي جمرة العقبة، فرمي جمرة العقبة هي تحية منى، ويدل لهذا أمور:الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على جمرة العقبة.والأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة وهو على راحلته، لم ينزل النبي عليه الصلاة والسلام عن راحلته حتى رمى جمرة العقبة.والأمر الثالث: أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعرج على شيءٍ من رحله حتى رمى جمرة العقبة، فهذه ثلاثة أدلة تدل على أن السنة أن يبتدئ برمي جمرة العقبة إذا وصل منى.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 05:23 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [11]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(57)


يستحب للحاج بعد الدفع من مزدلفة أن يسرع في وداي محسر حتى يأتي جمرة العقبة فيرميها، ولا يكون الرمي إلا بالشروط والضوابط المعتبرة في كيفية الرمي والحصى التي يرمى بها، ويجعل الحاج الجمرة بين يديه مستقبل القبلة، وتقع التلبية عند بلوغ الحاج جمرة العقبة، ويكون
تابع رمي الجمار
تقدم لنا في الدرس السابق أن الحاج لا يدفع من عرفة حتى تغرب الشمس، وذكرنا دليل ذلك، وذكرنا حكم ما إذا دفع قبل غروب الشمس، وذكرنا أيضاً ما الذي يستحب أثناء الدفع، وهو أن يدفع وعليه السكينة والوقار، وألا يصلي حتى يرد مزدلفة، وذكرنا أيضاً ما يتعلق بالجمع والقصر في عرفات وفي مزدلفة، وما هي العلة في ذلك.وذكرنا أيضاً البيتوتة بمزدلفة، وأن أهل العلم رحمهم الله اختلفوا فيها، وأن الصواب من أقوال أهل العلم أنه واجب من واجبات الحج، وتكلمنا أيضاً فيما سبق عن قدر البيتوتة، وعن وقت الدفع من مزدلفة إلى منى بالنسبة للضعفة وبالنسبة للأقوياء، وأن المستحب للأقوياء أن يناموا كما نام النبي صلى الله عليه وسلم، وألا يدفعوا حتى يسفر جداً.وذكرنا ما المراد بالمشعر الحرام، وأن المشعر الحرام يراد به أمران سبق أن بيناهما، فهناك مشعر عام وهو مزدلفة، وهناك مشعر خاص وهو جبل قزح، وأيضاً لا يشرع إحياء تلك الليلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحي تلك الليلة، لكن المسلم يؤدي الوتر في تلك الليلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على الوتر سفراً وحضراً.ثم بعد ذلك قال المؤلف رحمه الله: (فإذا بلغ محسراً).يعني: وادي محسر، ووادي محسر هذا وادٍ بين مزدلفة ومنى، وسمي بذلك لأنه يحسر سالكه. يقول المؤلف رحمه الله: (أسرع قدر رمية بحجر).وقد حده العلماء رحمهم الله بقدر خمسمائة وخمسة وأربعين ذراعاً، ويدل لذلك ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى وادي محسر حرك قليلاً )، كما رواه جابر رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم .وذكرنا ما هي الحكمة من الإسراع، وأن أهل العلم رحمهم اختلفوا في ذلك على أقوال: القول الأول: أن الحكمة من ذلك أن أصحاب الفيل أهلكوا في ذلك الوادي، لكن ذكرنا أن هذا غير صواب، وأن أصحاب الفيل لم يبلغوا الحرم.والرأي الثاني: أنه موقف كانت تقفه النصارى، فسارع النبي صلى الله عليه وسلم لأجل مخالفتهم.والقول الثالث: أنه موقف تقفه العرب، فتذكر فيه أمجادها وأحسابها، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول هو أقرب الأقوال، ويدل له قول الله عز وجل: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة:200].
الابتداء برمي جمرة العقبة
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: (حتى يأتي منى فيبتدئ بجمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات كحصى الخذف).إذا أسفر جداً فإنه يدفع قبل طلوع الشمس، فإذا أتى منى فإن السنة أن يبدأ برمي جمرة العقبة، فرمي جمرة العقبة هو تحية منى، ويدل لهذا عدة أمور: الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على جمرة العقبة.الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرج على شيءٍ من رحله حتى رمى هذه الجمرة.الأمر الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رماها راكباً، وأما في غير يوم النحر فإن النبي صلى الله عليه وسلم رماها راجلاً، فهذه ثلاثة أمور تدل على أن السنة للإنسان إذا دفع من مزدلفة إلى منى أن يبدأ برمي جمرة العقبة، وعلى هذا فالضعفة إذا تعجلوا من مزدلفة إلى منى في آخر الليل، فنقول: السنة لهم أن يبدءوا برمي جمرة العقبة؛ لأن من حكمة تعجيل الضعفة آخر ليلة النحر هي أن يرموا قبل أن تدركهم حطمة الناس.
شروط الرمي
وقول المؤلف رحمه الله تعالى: (فيبتدئ بجمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات كحصى الخذف).هذا الرمي واجب من واجبات الحج.. رمي الجمار في يوم النحر وفي أيام التشريق -كما سيأتينا إن شاء الله- هو أحد واجبات الحج، وهذا الواجب له شروط، أي: الرمي له شروط:الشرط الأول: قال المؤلف رحمه الله: (فيرميها) فيشترط أن يرميها رمياً، وعلى هذا لو أنه وضع الحصى وضعاً ولم يرمه رمياً فإن هذا لا يجزئ، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رماها رمياً، كما في حديث ابن عمر وحديث جابر رضي الله تعالى عنهما، قال جابر : ( فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ).الشرط الثاني: قال رحمه الله تعالى: (بسبع حصيات) فلا بد أن يكون الرمي بسبع حصيات؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال جابر رضي الله تعالى عنه: ( فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة )، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.والرأي الثاني: رواية عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه إن نقص حصاةً أو حصاتين فإن هذا لا بأس به، واستدلوا على ذلك بما رواه سعد قال: ( رجعنا من الحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعضنا يقول: رميت بستٍ، وبعضنا يقول: رميت بسبعٍ، فلم يعب ذلك بعضنا على بعض )، وهذا الأثر أخرجه النسائي والبيهقي وصححه جمع من أهل العلم، فهذا دليل على أنه يغتفر إذا أنقص الإنسان حصاةً أو حصاتين، كما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى.والأقرب في ذلك أن يقال: إن الإنسان ما دام في وقت الرمي فإنه يحتاط، ويرمي كما رمى النبي صلى الله عليه وسلم سبع حصيات؛ لأن جمهور أهل العلم يقولون: إن نقص فإن ذلك لا يجزئه، وأما إن فات وقت الرمي وقد نقص حصاةً أو حصاتين فإن ذلك يغتفر له.الشرط الثالث: قال المؤلف رحمه الله: (حصيات) أن يكون بحصى، وعلى هذا فلو أنه رمى بغير الحصى فإن ذلك لا يجزئ؛ لأن هذا عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقدم أن أوردنا حديث جابر قال: ( فرماها بسبع حصياتٍ يكبر مع كل حصاة )، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما رمى بالحصى، وعلى هذا: لو رمى بالخشب أو رمى بالحديد أو رمى بالنعال أو غير ذلك، فإن هذا لا يجزئه.الشرط الرابع: قال المؤلف رحمه الله: (كحصى الخذف) يعني: لا بد أن يرمي هذه الحصيات بحصىً كحصى الخذف، فلا تجزئ الحصاة الكبيرة جداً، ولا تجزئ الحصاة الصغيرة جداً، وقد قال العلماء: بأن حصى الخذف تكون بين الحمص والبندق، والشافعية رحمهم الله حددوا حجم هذه الحصى، وقالوا: بأنها كالأنملة من الإصبع إلا أنها أقل من الأنملة من الإصبع طولاً وعرضاً.قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يكبر مع كل حصاة ويرفع يده اليمنى) وعلى هذا كما تقدم أنه لو وضعها وضعاً فإن هذا لا يجزئ.الشرط الخامس: أن يرميها واحدةً بعد الأخرى؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فلو رماها دفعةً واحدة فإن هذا لا يجزئ، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله، وقال الحسن البصري : يجزئ مع الجهل، والصحيح في ذلك أنه لا يجزئ.الشرط السادس: أن تقع في المرمى؛ لأن هذا المكان هو الذي رمى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن تقع في المرمى.والرأي الثاني: رأي الحنفية قالوا: تجزئ إذا وقعت في المرمى أو وقعت قريباً من المرمى، أما إن وقعت بعيداً من المرمى فإنها غير مجزئة.ولا يشترط أن يراها الإنسان إذا قعت في المرمى، فنقول: إذا حصل العلم أو غلبة الظن فإن ذلك مجزئ، فإذا حصل العلم، يعني: رماها فوقعت في المرمى ورآها وقعت، هنا حصل العلم بذلك، كذلك أيضاً لو غلب على ظنه أنها وقعت في المرمى، يعني: كان هناك زحام ورمى هذه الحصاة، وهو يظن أنها وقعت في المرمى فإن ذلك مجزئ، ولا يشترط أن يراها بعينه.الشرط السابع: ألا تكون هذه الحصاة قد رمي بها، فإن كان قد رمي بها فإنه لا يجزئ الرمي بها، وهذا هو المشهور عند الحنابلة رحمهم الله، قالوا: بأن هذه حصاة استعملت في عبادة، فلا تستعمل فيها مرةً أخرى.والرأي الثاني: رأي الشافعية: أن هذا جائز ولا بأس به، يعني: لا بأس أن ترمي بحصاةٍ قد رمي بها، وهذا القول هو الصواب؛ لأن الحديث ليس فيه تخصيص، وهو حديث جابر رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة )، وهذا يشمل الحصى التي رمي بها، والحصى التي لم يرم بها.الشرط الثامن: أن يكون الرمي في وقته المعتبر شرعاً، ووقت رمي جمرة العقبة يبدأ من حين دخول وقت الدفع من مزدلفة، فإذا دخل وقت الدفع من مزدلفة دخل وقت رمي جمرة العقبة، وقد سبق أن بينا متى يدفع من مزدلفة إلى منى؟ وذكرنا ما هو وقت الدفع بالنسبة للأقوياء، وما هو وقت الدفع بالنسبة للضعفة.وذكرنا أن الأحوط بالنسبة للأقوياء ألا يدفعوا إلا بعد الإسفار، وحينئذٍ نقول: بأن وقت الرمي لهم يكون بعد طلوع الشمس؛ لأنه إذا دفع بعد الإسفار لن يصل إلا بعد طلوع الشمس، وأما بالنسبة للضعفة فإنهم يدفعون آخر الليل بعد غروب القمر، وحينئذٍ يكون وقت الرمي لهم دخل بعد غروب القمر، ويستمر الرمي في يوم النحر إلى غروب الشمس هذا كله وقت للرمي.لكن هل يجزئ الرمي ليلاً، أو لا يجزئ؟هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى، فالمشهور من مذهب الحنابلة: أن الرمي يستمر إلى غروب الشمس من يوم النحر، ولا يجزئ الرمي بعد غروب الشمس.. هذا المشهور من المذهب، والرأي الثاني وهو مذهب الشافعية والحنفية: أن الرمي يصح ليلاً، وعلى هذا إذا غربت الشمس من يوم النحر فلا بأس أن ترمي بعد غروب الشمس، ويستمر وقت الرمي إلى طلوع الفجر من اليوم الحادي عشر.وقد دل لهذا أدلة، من هذه الأدلة حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: رميت بعدما أمسيت، فقال: لا حرج ) وهذا رواه البخاري ، وقوله: (بعدما أمسيت)، المساء يطلق على ما بعد غروب الشمس وعلى ما قبل غروب الشمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حرج. وأيضاً يدل لذلك أن زوجة ابن عمر صفية احتبست على ابنة أخٍ لها نفست في المزدلفة فاحتبست، فجاءت بعد غروب الشمس فرمت، فأقرها ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، بل ابن عمر رضي الله تعالى عنه أمرها أن ترمي بعد غروب الشمس هي وابنة أخيها، وهذا رواه الإمام مالك رحمه الله بإسنادٍ صحيح.وكذلك أيضاً في مصنف ابن أبي شيبة : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقدمون حجاجاً فيدعون ظهورهم فيجيئون فيرمون بالليل.فهذه الأدلة تدل على أن الرمي ليلاً جائز ولا بأس به.الشرط التاسع من شروط صحة الرمي: أن يقصد الرمي، وعلى هذا فلو رمى حصاةً وهو لم يقصد الرمي، وإنما رماها هكذا فوقعت في الحوض، فإنها لا تجزئ.والشرط العاشر: أن يكون وقوعها في المرمى بفعله، وعلى هذا لو رمى حصاةً فوقعت في ثوب إنسان، فقذفها هذا الإنسان حتى وقعت في المرمى، فإنها لا تجزئ، وأيضاً لا يشترط أن تستقر في المرمى، فلو أنه رمى الحصاة ووقعت في المرمى، ثم بعد ذلك تدحرجت من المرمى، فنقول بأنها مجزئة.
التكبير ورفع اليدين عند الرمي
قال المؤلف رحمه الله: [يكبر مع كل حصاة].هذا هو السنة، وسبق أن أوردنا حديث جابر رضي الله تعالى عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويرفع يديه في الرمي].قال بعض العلماء: يرفع يده حتى يرى بياض إبطه، قالوا: لأن هذا أعون في الرمي، ويدل لذلك حديث جابر قال: ( فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة )، قوله: (فرماها)، هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يده، لو أنه قال: وضعها، لقلنا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع يده، وإنما قال: رماها، ولا يكون رمياً إلا مع رفع اليد.
قطع التلبية
قال المؤلف رحمه الله: [ويقطع التلبية بابتداء الرمي].التلبية تستمر من حين الإحرام من اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، فاليوم الثامن يلبي واليوم التاسع يلبي واليوم العاشر وهو يوم النحر فإذا شرع في رمي جمرة العقبة، فإنه يقطع التلبية، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله تعالى في قوله: (ويقطع التلبية بابتداء الرمي) أنه يقطع التلبية بأول حصاة يكبر ويقطع التلبية، ويدل لهذا حديث الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمة العقبة ) وهذا الحديث في الصحيحين، وفي لفظ من حديث الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة ) فقوله: (حتى بلغ الجمرة)، يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى الجمرة قطع التلبية.والرأي الثاني: هو رأي ابن حزم رحمه الله، يقول: بأنه يلبي ويستمر بالتلبية حتى ينتهي من الرمي، ويأخذ بحديث الفضل بن العباس السابق، فإن فيه: ( لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة )، يعني: انتهى من رمي جمرة العقبة، لكن الصواب في هذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، لما ذكرنا من الرواية الأخرى، قال: ( حتى بلغ الجمرة )، وهذا صريح في أن التلبية تنتهي ببلوغ جمرة العقبة.وأيضاً كما تقدم لنا في حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم يكبر مع كل حصاة )، فكونه يكبر مع كل حصاة فهذا يدل على أن ذكر التلبية قد انتهى؛ لأن جابر ما ذكر أنه يكبر ويلبي، وإنما ذكر أنه يكبر فقط.الرأي الثالث: رأي المالكية: قالوا بأنه يلبي إلى زوال الشمس من يوم عرفة، إلا إن زالت قبل وصوله إلى المصلى فيلبي إلى أن يصل المصلى، قالوا: لوروده عن علي رضي الله تعالى عنه.إذاً: المالكية يقولون: يلبي إلى اليوم التاسع إلى زوال الشمس من يوم عرفة، إلا إن زالت الشمس قبل أن يصل إلى المصلى فإنه يلبي إلى أن يصل إلى المصلى، والراجح في هذا: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله.
وضع الرامي أثناء الرمي
قال المؤلف رحمه الله: [ويستبطن الوادي، ويستقبل القبلة ولا يقف عندها].قوله: (يستبطن الوادي) يعني: يرمي من بطن الوادي؛ لأن جمرة العقبة كانت في الزمن السابق في ظهر جبل، وكان تحتها وادي، فيقول المؤلف رحمه الله: يرمي من بطن الوادي.وقوله: (ويستقبل القبلة)، وعلى هذا إذا كان سيستقبل القبلة تكون جمرة العقبة على جانبه الأيمن ويرميها، هذا هو المذهب، يعني: أنك لا تجعل الجمرة بين يديك، وإنما تجعل الجمرة على يمينك.. وترميها وأنت مستقبل القبلة، وهذه الصفة فيها نظر، فالصحيح أن الصفة الصحيحة هي ما رواها ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه واستقبل الجمرة -جعل الجمرة بين يديه- وقال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة، ورماها بسبع حصيات ).والحنابلة رحمهم الله أخذوا هذه الصفة، فقالوا: لا يجعل القبلة عن يساره، وإنما يستقبل القبلة، وقالوا: لأن هذا وارد في سنن الترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، والترمذي صحح هذا الحديث، لكن مع أن الترمذي صحح هذا الحديث، فإنا نقول: الصواب في ذلك ما ثبت في الصحيحين ولا يعارض ما جاء في سنن الترمذي ، فالصواب في ذلك أنه يجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه، وهو الذي رواه البخاري .وأما حديث الترمذي وإن كان الترمذي صححه فإن العلماء حكموا عليه بالشذوذ، وأيضاً قالوا: في إسناده المسعودي والمسعودي هذا قد اختلط.
الحكمة من عدم وقوف النبي صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يقف عندها].نقول: بأنه يرمي جمرة العقبة بسبع حصياتٍ متعاقبات ولا يقف عندها، واختلف العلماء رحمهم الله في العلة في كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عند جمرة العقبة، فقال بعض العلماء: لأن المكان ضيق فلا يقف، وقال بعض العلماء: لا يقف عندها لأن العبادة قد انتهت، وهذا رأي ابن القيم رحمه الله. فالعبادة قد انتهت والذكر يكون في جوف العبادة، وهذا القول هو الصواب.
ما يشرع للحاج بعد الانتهاء من الرمي

استحباب نحر الحاج هديه بيده
قال المؤلف رحمه الله: [ثم ينحر هديه].هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث جابر رضي الله تعالى عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رمى جمرة العقبة ذهب إلى المنحر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدى مائة بدنة، فنحر بيده ثلاثاً وستين، وأمر علياً رضي الله تعالى عنه أن ينحر الباقي، والهدي هذا إن كان هدي متعة أو قران فهذا واجب كما سيأتينا إن شاء الله، وإن لم يكن الإنسان متمتعاً أو قارناً فقد قال العلماء رحمهم الله: يستحب له أن يتطوع إذا كان مفرداً.
تعميم الحاج رأسه بالحلق أو بالتقصير
قال المؤلف رحمه الله: [ثم يحلق رأسه أو يقصره].أيضاً هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن نحر حلق رأسه معمر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، والحلق أفضل من التقصير؛ لأن الله عز وجل ابتدأ به، فقال: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثاً، وأما المقصرين فإنه دعا لهم مرةً واحدة، وهذا في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.وقوله: (ثم يحلق رأسه أو يقصره) يفهم من كلام المؤلف: أنه لا بد أن يحلق كل رأسه، أو يقصر كل رأسه، يعني: لا بد أن يعمم رأسه بالحلق أو بالتقصير، والتقصير لا يشترط أن يأخذ من كل شعرة بعينها، المهم: أن يعمم رأسه بالتقصير، من الناصية ومن الجوانب ومن الوسط ومن القفا.. يعمم كل رأسه بالتقصير، أما أن يأخذ من جانب دون جانب فإن هذا لا يجزئ، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه، وهو مذهب أحمد وبه قال مالك ؛ لأن الله عز وجل قال: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27] وهذا يشمل كل الرأس؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق كل رأسه ولم يترك جانباً لم يحلقه عليه الصلاة والسلام.والرأي الثاني: رأي الحنفية، قالوا: بأنه يكفي بعض الرأس، وأضعف من ذلك رأي الشافعية، قالوا: يكفي ثلاث شعرات، وهذا كله فيه نظر، والصواب في ذلك ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى.أما المرأة فلا تحلق لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير ) وهذا الحديث رواه أبو داود وحسنه الحافظ ابن حجر وقوى إسناده البخاري .والمرأة -كما قلنا- لا تحلق وإنما تقصر من كل ظفيرة قدر أنملة، وإن كان الشعر مفلولاً فتجمع أطرافه، وتأخذ منها قدر أنملة، ويعني: طول الأنمل، وبعض النساء تأخذ الظفيرة وتلفها على الأصبع وهذا خطأ، المقصود: قدر أنملة أي: طول الأنملة، أما لف الظفيرة على الأصبع ثم تأخذ قدرها هذا خطأ، إذا كان مدرج درجات فكل خصلة تجمعها وتقص منها قدر أنملة.
التحلل الأول
قال المؤلف رحمه الله: [ثم قد حل له كل شيء إلا النساء].بم يحصل التحلل الأول؟ظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أن التحلل الأول يحصل باثنين، وهما: الرمي والحلق؛ لأنه بعد الحلق قال: ثم حل له كل شيء، فظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه يحصل التحلل الأول باثنين لا بد منهما: الرمي والحلق، وهذا القول هو الظاهر من السنة، يعني: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ( كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت )، قالت: (لحله) سمته متحللاً قبل الطواف بالبيت. ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم قبل الطواف؟ رمى وحلق.. فالنحر هذا ليس داخلاً في التحلل، قالت: (لحله قبل أن يطوف بالبيت)، فسمته متحللاً قبل أن يذهب يطوف وطيبته عليه الصلاة والسلام، فدل ذلك على أنه تحلل بهذين الاثنين، وأيضاً ليس من الحكمة أن النبي صلى الله عليه وسلم يتحلل بالرمي ثم يتطيب ثم يحلق، فالصواب في ذلك: ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، وأنه يحصل التحلل باثنين معينين.والمذهب على أنه يحصل التحلل باثنين من ثلاثة، يعني: غير معينين، قد يذهب الإنسان ويرمي ولا يحلق ثم يذهب ليطوف، فالمذهب ومذهب الشافعية: أنه إذا فعل اثنين من ثلاثة: الرمي والحلق والطواف مع السعي، إذا فعل اثنين من هذه الثلاثة فإنه يتحلل التحلل الأول، وهذا هو المشهور من المذهب، وكذلك أيضاً مذهب الشافعية.والرأي الثالث: رأي المالكية: أن التحلل يحصل برمي جمرة العقبة، والحنفية يقولون: لا يحصل التحلل الأول إلا بالحلق، والصحيح في ذلك هو الرأي الأول الذي ذكرنا، وأما حديث عائشة وحديث ابن عباس : ( إذا رميتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء )، فالأحاديث الواردة في التحلل:أولاً: حديث عائشة: (إذا رميتم وحلقتم...).ثانياً: حديث ابن عباس : (إذا رميتم الجمرة...)، هذه الأحاديث كلها ضعيفة، ولا يبقى عندنا إلا حديث عائشة رضي الله تعالى عنهما الثابت في الصحيحين، وعلى هذا نقول: الأقرب في هذه المسألة أنه يحصل التحلل الأول باثنين معينين.وأما حديث ابن عباس : ( إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيءٍ إلا النساء ) فهذا منقطع، وأيضاً حديث عائشة : ( إذا رمى أحدكم جمرة العقبة حل له كل شيء إلا النساء ) أيضاً هذا رواه أبو داود وهو ضعيف، في إسناده الحجاج بن أرطأة وهو مدلس وقد عنعن ولم يسمع من الزهري .بعد أن حلق استحبوا له أن يتطيب كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام، ويذهب يطوف وهو متطيب كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام.
طواف الإفاضة
قال المؤلف رحمه الله: [ثم يفيض إلى مكة فيطوف للزيارة].يعني: يذهب إلى مكة ويطوف الزيارة، وطواف الزيارة ركن من أركان الحج، والعلماء مجمعون على ذلك، ودليله:قول الله عز وجل: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] فقضاء التفث وإيفاء النذر يكون يوم النحر، ثم قال الله عز وجل: وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29].وأيضاً حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ( حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية فأراد منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يريد الرجل من أهله، فقلت: إنها حائض، فقال: أحابستنا هي؟ ) هذا الحديث في الصحيحين، هذا يدل على أن طواف الإفاضة ركن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أحابستنا هي؟ ) لو كان واجباً ما حبس، وإنما حبس لكونه ركناً لا بد أن يؤتى به.ولهذا طواف الوداع لما كان واجباً هل يحبس أو لا يحبس؟ لا يحبس، خفف عنها، فإذا حاضت المرأة قبل أن تطوف طواف الوداع فإنها تنفر ولا شيء عليها، لكن طواف الإفاضة لما كان واجباً، وقيل: ( يا رسول الله! إنها حائض، قال: أحابستنا هي؟ ) فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ( إنها أفاضت، قال: فلتنفر إذاً ).
أول وقت طواف الإفاضة
بالنسبة لطواف الإفاضة ذكرنا أنه ركن، لكن متى يبدأ وقته؟ وما هو آخر وقته؟ وما هو الوقت الأفضل أن يفعل فيه؟نقول: وقته يبدأ من حين دخول وقت الدفع من مزدلفة، يعني: أن عندنا أنساك يدخل وقتها، طواف الإفاضة والسعي ورمي جمرة العقبة والحلق والتقصير، إذا دخل وقت الدفع من مزدلفة إلى منى فهذه أربعة أنساك كلها دخل وقتها. أما النحر فلا بد من دخول وقته؛ لأن وقت النحر المشهور من المذهب أنه من بعد صلاة العيد أو قدرها ممن لا يصلي، والرأي الثاني رأي الحنفية: أنه من بعد طلوع الفجر.المهم إذا دخل وقت الدفع من مزدلفة إلى منى فهذه الأنساك الأربعة دخل وقتها: طواف الإفاضة، والسعي، والحلق أو التقصير، ورمي جمرة العقبة.
آخر وقت لطواف الإفاضة
وطواف الإفاضة المشهور من مذهب الشافعية أنه لا حد لآخره، والعلماء يقولون: وقته العمر، يعني: لو أن الإنسان لم يطف إلا بعد يوم أو يومين أو أسبوع أو أسبوعين فكله جائز، حتى لو خرج من مكة ورجع فهو جائز، لكن يبقى أنه لم يتحلل التحلل الثاني، والأئمة متفقون على ذلك، لكن الحنفية يقولون: إن أخره عن أيام التشريق لزمه دم، والمالكية يقولون: إن أخره عن شهر ذي الحجة لزمه دم، والصحيح أنه لا دم عليه، وأن آخره غير محدود.وما هو وقته الأفضل؟ نقول: وقته الأفضل أن يفعله يوم النحر؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
السعي بين الصفا والمروة للمتمتع
قوله رحمه الله: [ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً].يفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن المتمتع يلزمه سعيان: سعي لعمرته، وسعي لحجه، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم رحمهم الله تعالى، والرأي الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أن المتمتع يكفيه سعي واحد، ولكل منهم دليل.أما الجمهور فاستدلوا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: ( فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى ) وهذا في الصحيحين.وأيضاً حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: ( أهل المهاجرون والأنصار ) إلى أن قال: ( فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة ) .ويتكلم عن المتمتعين ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (أهل المهاجرون والأنصار) إلى أن قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة، إلا من قلد الهدي، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة ) ثم قال: ( فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة ) هذا يدل على أن المتمتع كم عليه؟ عليه سعيان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة ) قال: ( فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة ) ثم قال: ( فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة ) وهذا أخرجه البخاري معلقاً.ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رد على هذه الأدلة وحكم عليها بالضعف، واستدل على ذلك بحديث جابر ، وحديث جابر قال: ( لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً ) وهذا رواه مسلم ، لكن أجاب عنه الجمهور بأن المراد هنا من هم؟ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه القارنين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 05:29 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [12]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(58)


يتحلل الحاج التحلل الثاني بعد طواف الإفاضة والسعي فيحل له كل شيء حتى النساء، ويستحب له الشرب والتضلع من ماء زمزم، ثم يرجع إلى منى ويبيت فيها أيام التشريق ويرمي الجمرات مرتبات يبتدئ بالأولى، ويجوز جمع الرمي إلى اليوم الأخير لأصحاب الأعذار، وله أن يتعجل في
كم يلزم الناسك من سعي
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو ممن لم يسع مع طواف القدوم].تقدم لنا فيما سبق قول المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم قد حل له كل شيءٍ إلا النساء) وذكرنا بم يحصل به التحلل، وأن ظاهر السنة أن التحلل الأول يكون باثنين معينين هما: الرمي والحلق، ثم بعد ذلك يحصل التحلل الثاني بما بقي من الطواف مع السعي، وتكلمنا أيضاً فيما تقدم عن طواف الإفاضة، وأن المؤلف رحمه الله ذكر أنه هو الطواف الواجب الذي به تمام الحج، وأن الإجماع منعقد على ذلك، وأن طواف الإفاضة ركن بإجماع العلماء رحمهم الله تعالى.وتكلمنا أيضاً عن المتمتع، هل يلزمه سعي واحد أو يلزمه سعيان؟ وأن جمهور أهل العلم رحمهم الله يرون أن المتمتع يلزمه سعيان: سعي لعمرته وسعي لحجه، وأن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أن المتمتع يلزمه سعي واحد، وذكرنا دليل كل قول.وأما بالنسبة للقارن فهل يجب عليه سعي واحد أو سعيان؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فجمهور العلماء: أن القارن يلزمه سعي واحد، والرأي الثاني رأي الحنفية: أن القارن يلزمه سعيان، ولكل دليل.أما الذين قالوا بأن القارن لا يلزمه إلا سعي واحد استدلوا على ذلك بحديث جابر رضي الله تعالى عنه، وفيه قال: ( لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً ). وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وهو صريح في أن القارن لا يجب عليه إلا سعي واحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً.وأما بالنسبة للحنفية فقالوا: بأن القارن يلزمه سعيان، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه ( جمع بين حجٍ وعمرة فطاف لهما طوافين وسعى سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت )، وهذا الحديث رواه الدارقطني وإسناده ضعيف، ففي إسناده الحسن بن عمارة وهو ضعيف.وعلى هذا نقول: الراجح بالنسبة للقارن ألا يلزمه إلا سعي واحد.أما بالنسبة للمفرد فلا يلزمه إلا سعي واحد؛ لأنه أفرد الحج وهذا بالاتفاق، فأصبح عندنا الناسك ينقسم إلى ثلاثة أقسام:القسم الأول: المفرد يلزمه سعي واحد.القسم الثاني: القارن يلزمه أيضاً سعي واحد على الصحيح، فجمهور أهل العلم يرون أنه يلزمه سعي واحد، وعند الحنفية قالوا: يلزمه سعيان.القسم الثالث: المتمتع، فالجمهور يقولون: يجب عليه سعيان: سعي لعمرته وسعي لحجه، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سعي واحد، بل عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن المفرد والقارن والمتمتع كلهم لا يلزمهم إلا سعي واحد، وأما الجمهور: فالمفرد والقارن لا يلزمهما إلا سعي واحد، وأما المتمتع فيلزمه سعيان، والحنفية: القارن والمتمتع كل منهما يلزمه سعيان، وأما المفرد فسعي واحد.قال رحمه الله: (ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو ممن لم يسع مع طواف القدوم).يعني: المتمتع إذا سعى بعد طواف القدوم فإن هذا يكفيه، وكذلك أيضاً القارن إذا سعى بعد طواف القدوم فإن هذا يكفيه، ويدل لذلك ما تقدم من حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال: ( لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً ). فالنبي عليه الصلاة والسلام طاف القدوم ثم سعى، ولم يسع مرةً أخرى.وبالنسبة للمتمتع فالأقرب هو رأي جمهور أهل العلم، فإن هذا أقرب وأحوط، ويؤيد ذلك أن هناك فرقاً بين القارن والمتمتع، فعند المتمتع حصل حل بين العمرة وبين الحج، فكل منهما نسك مستقل، هذا له أركانه وهذا له أركانه، بخلاف القارن فإن أعمال العمرة دخلت في أعمال الحج فيلزمه فقط سعي واحد؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ) وعلى هذا نقول: الأقرب في هذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم وهو الأحوط أن المتمتع يلزمه سعيان.
التحلل الثاني
قال رحمه الله: [ثم قد حل من كل شيء].يعني: إذا طاف وسعى حل من كل شيء حتى من النساء، إذ بالتحلل الأول يتحلل من كل شيء إلا النساء، يعني: إذا رمى جمرة العقبة وحلق أو قصر حل له كل شيء إلا ما يتعلق بالنساء جماعاً ومباشرةً وعقداً، فإذا طاف وسعى حل له كل شيء حتى النساء.
الشرب من ماء زمزم
قال رحمه الله: [ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما أحب ويتضلع منه].ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه يشرب من ماء زمزم بعد طواف الإفاضة، يعني: إذا طاف طواف الإفاضة وسعى فإنه يشرب من ماء زمزم ويستحب له ذلك؛ لفعل النبي عليه الصلاة والسلام: ( فإن النبي عليه الصلاة والسلام أتى بني عبد المطلب وهم يسقون فناولوه فشرب )، وهذا رواه مسلم في صحيحه.وماء زمزم هذه ماء مباركة، ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي ذر : ( إنها طعام طعم ) وفي غير مسلم : ( وشفاء سقمٍ ).فيتلخص لنا أن الإنسان إذا طاف طواف الإفاضة وسعى فإنه يستحب له أن يأتي زمزم ويشرب منها؛ لما ذكرنا من فعل النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر ، كذلك أيضاً في العمرة إذا طاف وسعى فإنه يستحب له أن يأتي زمزم ويشرب منه.ثم بعد ذلك ذكر المؤلف شيئاً من آداب ماء زمزم فقال: (لما أحب) يعني: يشرب ماء زمزم لما أحب، ويدل لهذا حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ماء زمزم لما شرب له )، أي: إن شربته لتستشفي به شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله، وإن شربته لقطع ضمئك قطعه الله، وإن شربته مستعيذاً أعاذك الله، وهذا الحديث أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه الحاكم في مستدركه.كذلك أيضاً من آداب ماء زمزم أنه يستحب للإنسان أن يتضلع منه، يعني: أن يملأ ضلوعه من ماء زمزم، ويدل لهذا حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن آية ما بيننا وبين المنافقين، أنهم لا يتضلعون من ماء زمزم ). وهذا رواه ابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه جمع من أهل العلم.أيضاً من الآداب العامة أن يسمي الله عز وجل في بدء الشرب، وأن يشرب جالساً، وأن يحمد الله عز وجل إذا انتهى من الشرب، وأن يشرب ثلاثاً، وألا يتنفس في الإناء.أيضاً من الآداب قال رحمه الله: [ثم يقول: اللهم اجعله لنا علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، ورياً وشبعاً، وشفاءً من كل داء، واغسل به قلبي، واملأه من خشيتك وحكمتك].هذا الدعاء لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه كان إذا شرب من زمزم قال: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء، وهذا أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه.فإذا أتى الإنسان بهذا الذكر الوارد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فإن هذا لا بأس به.أيضاً ذكر بعض العلماء من الآداب: أنه يستقبل القبلة عند شرب ماء زمزم، وأنه يرش على بدنه وثوبه، ولكن مثل هذه الأشياء لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام -كما تقدم- أنه يشرب، والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر أنها ( طعام طعم وشفاء سقمٍ ).
الرجوع إلى منى والمبيت بها

مكان صلاة الظهر يوم النحر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما يفعله بعد الحل: ثم يرجع إلى منى ولا يبيت إلا بها].بعد أن يطوف للإفاضة يوم النحر ويسعى، يرجع إلى منى ليبيت بها ليلة الحادي عشر والثاني عشر إن تعجل، وليلة الثالث عشر إن لم يتعجل، والنبي عليه الصلاة والسلام طاف بالبيت ضحى يوم النحر، وبعد الطواف وبعد أن شرب من ماء زمزم اختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم أين صلى الظهر ذلك اليوم؟ هل صلى بمكة أو صلى بمنى؟ فالرواية الأولى: أنه صلى بمكة، والرواية الثانية: أنه صلى بمنى، وابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما في الصحيحين ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بمنى، وجابر رضي الله تعالى عنه كما في صحيح مسلم ذكر أنه صلى بمكة، وكذلك أيضاً عائشة رضي الله تعالى عنها ذكرت أنه صلى بمكة.فاختلف العلماء رحمهم الله في الجمع بين روايتي ابن عمر وجابر مع عائشة على أقوال: فقال بعض العلماء: يرجح قول عائشة وجابر ، قالوا: بأن قول عائشة وجابر أرجح؛ لأن ابن عمر واحد، وجابر وعائشة اثنان، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى ظهر يوم النحر بمكة وهو القول الأول.والقول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاتين؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام صلى بمكة الظهر، ثم خرج إلى منى فوجد أصحابه لم يصلوا فصلى بهم مرةً أخرى، وهذا القول هو الصواب، وقد رجحه الشنقيطي رحمه الله تعالى.
حكم المبيت بمنى ليالي أيام التشريق
وقوله: (ثم يرجع إلى منى ولا يبيت إلا بها).البيتوتة بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر من أيام التشريق للمتعجل، والثالث عشر أيضاً لغير المتعجل، وهذه البيتوتة اختلف العلماء رحمهم الله في حكمها على قولين:القول الأول: وهو رأي جمهور أهل العلم أن البيتوتة بمنى واجبة.والرأي الثاني: رأي الحنفية رحمهم الله قالوا: بأنها مستحبة.أما الذين قالوا بالوجوب -وهم الجمهور- فاستدلوا بأدلة، ومن هذه الأدلة: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس في ترك البيتوتة بمنى من أجل السقاية )، والرخصة يقابلها عزيمة، فدل على أن غير العباس البيتوتة في حقه عزيمة، يعني: هذا شيء واجب؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بات بها وقال: ( خذوا عني مناسككم ). وأيضاً النبي عليه الصلاة والسلام رخص للرعاة في ترك البيتوتة، فالرخصة يقابلها عزيمة.وأيضاً ورود ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا يبيتن أحد من الحجاج ليالي منى من وراء العقبة؛ لأن ما بعد العقبة خارج منى، فحد منى من جهة مكة هي جمرة العقبة، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يبعث رجالاً يدخلون كل من كان وراء العقبة إلى منى، فدل ذلك على أن البيتوتة بمنى واجبة.والرأي الثاني: رأي الحنفية قالوا: بأن البيتوتة بمنى ليست واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها من أجل تسهيل الرمي، يعني يقولون: بأن هذا ليس مقصوداً لذات البيتوتة، وإنما بات النبي عليه الصلاة والسلام لكي يسهل الرمي؛ لأنه سيرمي من الغد بعد الزوال، وهذا فيه نظر، والأصل في ذلك أن العبادات مقصودة لذاتها، وعلى هذا نقول: الأقرب في ذلك هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله.
قدر المبيت الواجب بمنى
وما قدر البيتوتة الواجبة؟ قال العلماء رحمهم الله: قدر البيتوتة الواجبة معظم الليل، وتقدم أن ذكرنا قدر البيتوتة الواجبة في مزدلفة، لكن بالنسبة للبيتوتة الواجبة بمنى فإن قدرها هو معظم الليل، وعلى هذا يمكث بمنى معظم الليل، سواء من آخره أو من وسطه أو من أوله، المهم أن يمكث النصف فأكثر، فإذا مكث النصف فأكثر ولو بلحظة واحدة بمنى فقد أدى الواجب، وعلى هذا لو أنه جاء من غروب الشمس إلى ما بعد نصف الليل بلحظة فقد أدى الواجب، أو جاء قبل نصف الليل إلى طلوع الفجر فنقول: بأنه قد أدى الواجب.
من يسقط عنهم المبيت بمنى لعذر
أيضاً من الأحكام المتعلقة بالبيتوتة: أن البيتوتة بمنى تسقط عند المصلحة كما رخص النبي عليه الصلاة والسلام للعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه في ترك البيتوتة من أجل السقاية، ورخص للرعاة أيضاً في ترك البيتوتة من أجل الرعاية، فالذين يشتغلون بمصالح الحجاج هؤلاء تسقط عنهم البيتوتة إذا تعذر عليهم ذلك، يعني: لا يتمكنون من الجمع بين البيتوتة وبين مصالحهم، فنقول: البيتوتة تسقط عنهم، مثل الأطباء الذين يشتغلون في المستشفيات، وقد يشتغلون في المستشفيات خارج منى، نقول: بأن البيتوتة تسقط عنهم، ومثل: رجال الأمن الذين يشتغلون في تنظيم السيارات أو تنظيم الحجاج... إلى آخره، فهؤلاء إذا لم يتمكنوا من البيتوتة بمنى أو من التواجد في منى فنقول: بأن البيتوتة تسقط عنهم.وعلى هذا فقس، يعني: كل من كان يشتغل بأمور الحجاج وبمصالح الحجاج فإن البيتوتة تسقط عنهم، ومثل ذلك أيضاً: الموظفين؛ فإذا كان هناك موظفون يعنون بشؤون الحجاج، فنقول: بأن البيتوتة تسقط عنهم إذا كان هناك مصلحة عامة.وأما ما يتعلق بأصحاب الأعذار الخاصة، فهل تسقط البيتوتة عنهم أو لا تسقط البيتوتة؟ ذكر ابن القيم رحمه الله أن مثل هؤلاء أيضاً تسقط البيتوتة عنهم، فلو كان الإنسان له مريض واحتاج إلى الذهاب لهذا المريض إلى خارج منى؛ لكي يعالجه، أو له ضال واحتاج أن يبحث عن هذا الضال، فيرى أن مثل هذه الأشياء تسقط عنه البيتوتة.
وقت رمي الجمرات أيام التشريق
قال رحمه الله: [فيرمي بها الجمرات بعد الزوال من أيامها، كل جمرة بسبع حصيات].الرمي تقدم لنا شروط صحته، وذكرنا ما يقرب من عشرة شروط: العدد، وحجم الحصى الذي يرمي به... إلى آخره، فهذا تقدم ولا حاجة إلى أن نعيده، لكن ذكر المؤلف رحمه الله أن الرمي يبدأ من بعد زوال الشمس، فالرمي في أيام التشريق له مبدأ وله نهاية، فمتى يبدأ الرمي أيام التشريق؟نقول: الرمي أيام التشريق يبدأ من بعد الزوال كما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى وهذا قول جمهور أهل العلم؛ والدليل على ذلك:حديث جابر في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس ).وأيضاً حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ( كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا ) رواه البخاري .وأيضاً أخرج البيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا ترم الجمرة حتى تميل الشمس. فهذه أدلة ظاهرة للجمهور أن الرمي إنما يكون بعد الزوال.وأيضاً النبي عليه الصلاة والسلام ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، ولا شك أن الأيسر أن يرمي في أول النهار؛ لأن كونه ينتظر حتى تزول الشمس فهذا وقت شدة الحر فيرمي في ذلك الوقت، ولا شك أن كونه يرمي قبل ذلك أن هذا أيسر من كونه يرمي بعد الزوال مباشرةً، وهذا الرأي الأول وهو رأي الجمهور.والرأي الثاني: رأي الحنفية؛ فالحنفية يفصلون ويقولون: اليوم الأول من بعد الزوال، واليوم الثالث قبل الزوال وبعد الزوال، واليوم الثاني هذا فيه تفصيل: إن أراد الإنسان أن يتعجل فلا بأس أن يرمي قبل الزوال، وإن لم يرد أن يتعجل فإنه يرمي بعد الزوال، ويستدلون على هذا بما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ( إذا انتفخ النهار من يوم النفر، فقد حل الرمي والصدر ). وهذا الحديث أخرجه البيهقي وإسناده ضعيف، فيه طلحة بن عمرو المكي وهو ضعيف.وأيضاً يقولون: بأنه ورد عن ابن الزبير رضي الله تعالى عنه أنه رمى قبل الزوال، لكن هذا أيضاً لا يثبت وإن كان يصححه بعض أهل العلم.واليوم الثالث يجوز قبل الزوال وبعد الزوال؛ لأن اليوم الثالث يجوز للإنسان أن يتعجل وأن يتركه، فيجوز قبل الزوال وبعد الزوال.الرأي الثالث في المسألة: ذهب إليه بعض السلف كـعطاء وطاوس أنه يجوز الرمي قبل الزوال في سائر الأيام، يعني: في اليوم الأول والثاني والثالث، واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] ومن ذكر الله عز وجل في هذه الأيام المعدودات ذكره عند رمي الجمار، لكن الذكر هذا مقيد بالسنة وهو أن يكون بعد الزوال، وعلى هذا نقول: الأقرب في هذه المسألة أن يحتاط المسلم وألا يرمي إلا بعد الزوال.هذا بالنسبة لبدء الرمي. لكن متى ينتهي وقت الرمي؟نقول: بأن وقت الرمي الصحيح أنه يستمر إلى طلوع الفجر، فرمي اليوم الحادي عشر يستمر إلى طلوع فجر اليوم الثاني عشر، ورمي اليوم الثاني عشر يستمر إلى طلوع فجر اليوم الثالث عشر، ورمي الثالث عشر يستمر إلى غروب الشمس؛ لأنه إذا غربت الشمس فقد انتهت أيام التشريق.وتقدم لنا أن ذكرنا مذاهب أهل العلم رحمهم الله في حكم الرمي ليلاً، وذكرنا الأدلة على ذلك، أنه وارد عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كـابن عمر وغيره، وحديث ابن عباس أنه قال: ( رميت بعدما أمسيت، قال: افعل ولا حرج ).أيضاً مما يتعلق بوقت الرمي: أن الإنسان إذا ترك الرمي لعذر فإنه لا بأس أن يرميه قبل الزوال؛ لأنه لا يكون أداءً في هذه الحال وإنما يكون قضاءً، فمثلاً: إنسان لم يرم في اليوم الحادي عشر حتى طلع عليه فجر اليوم الثاني عشر، فنقول: لا بأس بأنك ترمي يوم الحادي عشر قبل الزوال من اليوم الثاني عشر؛ لأن هذا أصبح قضاءً، وهذا نص عليه الشافعية، أي: أن الشافعية والمالكية يقولون: إذا لم يرم -مثلاً- اليوم الحادي عشر لعذر، فله أن يرمي رمي اليوم الحادي عشر في اليوم الثاني عشر قبل الزوال.
جمع الرمي إلى اليوم الأخير من أيام التشريق
أيضاً من المسائل المتعلقة بالرمي: جمع الرمي، هل يجوز أن يجمع الرمي في اليوم الأخير أو لا يجوز؟المشهور من المذهب ومذهب الشافعية أنه يجوز أن يجمع الرمي، يعني: لو أن الإنسان لم يرم يوم النحر، ولم يرم اليوم الحادي عشر، ولم يرم اليوم الثاني عشر، فيجوز له على المذهب أن يجمع الرمي كله في آخر يوم، أي: في اليوم الثالث عشر، فيبدأ رمي يوم النحر فيرمي جمرة العقبة، ثم بعد ذلك يعود وينوي اليوم الحادي عشر ويبدأ بالجمرة الصغرى ثم الوسطى ثم العقبة، ثم يعود مرة ثالثة وينوي عن اليوم الثاني عشر ويرمي الصغرى ثم الوسطى ثم العقبة، ثم يعود وينوي اليوم الأخير -اليوم الثالث عشر- فيرمي الصغرى ثم الوسطى ثم العقبة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله ومذهب الشافعي.واستدلو على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة أن يرموا يوم النحر، ثم يجمعوا رمي يومين فيرموه في أحدهما، ثم يرموا يوم النفر، فرخص النبي عليه الصلاة والسلام للرعاة أن يأتوا يوم النحر ويرموا؛ لأن الناس بحاجة إلى رواحلهم؛ لأنهم يأتون يوم النحر برواحلهم من مزدلفة إلى منى، فهم بحاجة إلى الرواحل، فرخص لهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يرموا يوم النفر، ثم يجمعوا رمي يومين اليوم الحادي عشر والثاني عشر يرمونه في الثاني عشر، ثم يأتوا يوم النفر ويرموا مع الناس؛ لأن الناس بحاجة إلى الرواحل ليذهبوا، فاستدلوا بهذا على أنه لا بأس أن الإنسان يجمع. وهذا الرأي الأول.الرأي الثاني: رأي مالك وأبي حنيفة أنه لا يجوز الجمع، يعني: يجب أن ترمي كل يومٍ بيومه، واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى كل يومٍ بيومه وقال: ( لتأخذوا عني مناسككم )؛ ولأن كل يوم عبادة مستقلة، والصحيح في هذا أن يقال: في حال العذر والمصلحة هذا جائز ولا بأس به، كما قلنا في البيتوتة بمنى: إذا كانت هناك مصلحة، يعني: إنسان يشتغل بمصالح الحجاج ويصعب عليه أنه يأتي كل يوم ليرمي -مثل الأطباء ومثل رجال الأمن وغيرهم والموظفين الذين يشتغلون بمصالح الحجاج- فنقول: هنا لا بأس أن يجمعوا.كذلك أيضاً لو كان الإنسان معذوراً كإنسان مريض أو كبير في السن أو امرأة حامل ونحو ذلك، ويشق عليه أن يأتي كل يوم إلى المرمى ويرمي، فنقول: هنا لا بأس أن يجمع الرمي.فتلخص لنا أنه إذا كان هناك مصلحة أو كان هناك عذر فإنه لا بأس أن يجمع، وأما مع عدم ذلك فالأصل أن الإنسان يرمي كل يومٍ بيومه، وبهذا تجتمع الأدلة.
الترتيب بين الجمرات وكيفية الرمي
قال رحمه الله: [يبتدئ بالجمرة الأولى].جمهور أهل العلم رحمهم الله يرون أن الترتيب بين الجمرات شرط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب، وعلى هذا يبدأ بالجمرة الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، فلو أخل بالترتيب لم يصح.وعند الحنفية أن الترتيب سنة، فلو بدأ بالعقبة أو بدأ بالوسطى أو بدأ الصغرى قالوا: بأن هذا جائز ولا بأس به، والأحوط في ذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، إلا إذا أخل الإنسان بالترتيب ولا يمكنه أن يتدارك لأن زمن الرمي قد مضى.ثم قال رحمه الله: [فيستقبل القبلة ويرميها].يعني: في المذهب: يستقبل القبلة فيجعل الجمرة الأولى عن يساره، ولا يجعل الجمرة بين يديه، وهذا فيه نظر، فالصحيح في هذا أن الإنسان يجعل الجمرة بين يديه، وأما تقصد استقبال القبلة فهذا لم يرد، بل نقول: الصحيح في ذلك أن الإنسان يجعل الجمرة بين يديه كما هو عمل الناس اليوم، وأما كون الإنسان يتقصد أن يرمي الجمرة الأولى ويكون مستقبلاً القبلة والجمرة عن يساره فنقول: هذا ليس عليه دليل.ثم يقول المؤلف: [بسبع حصيات كما رمى جمرة العقبة، ثم يتقدم فيقف فيدعو الله].هذا هو السنة، فإذا انتهى الإنسان من الجمرة الأولى فإنه يتقدم ويرفع يديه ويستقبل القبلة ويدعو دعاءً طويلاً، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم أنه بقدر سورة البقرة، وقد دل على الدعاء حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيقوم مستقبلاً القبلة طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ). أخرجه البخاري في صحيحه.قال رحمه الله: [ثم يأتي الوسطى فيرميها كذلك].الوسطى يقولون بأنه يجعلها عن يمينه ويستقبل القبلة، لكن هذا -كما تقدم- فيه نظر، والصحيح في ذلك أنه يجعل الجمرة بين يديه، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة.وبعد أن ينتهي من رمي الجمرة الوسطى يستقبل القبلة ويرفع يديه يدعو دعاءً طويلاً كما ورد ذلك في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.قال رحمه الله: [ثم يرمي جمرة العقبة].أي: بعد أن ينتهي من رمي الجمرة الوسطى فإنه يرمي جمرة العقبة ويجعلها عن يمينه -كما تقدم- ويستقبل القبلة، وهذا فيه نظر، والصواب في ذلك: أنه كما ورد في حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه يجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه، وتكون الجمرة بين يديه.. هذا هو الصواب، وتقدم ذلك.قال رحمه الله: [ولا يقف عندها].يعني: يقف للدعاء عند الجمرة الأولى، ويقف للدعاء أيضاً عند الجمرة الوسطى، وأما بالنسبة لجمرة العقبة فإنه لا يقف عندها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف؛ ولهذا في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف. ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ).وذكرنا فيما تقدم الحكمة من عدم الوقوف عند جمرة العقبة، فقال بعض العلماء: لا يقف عند جمرة العقبة لضيق المكان، وقال بعض العلماء: لا يقف عند جمرة العقبة؛ لأن العبادة قد انتهت، والدعاء إنما يكون في جوف العبادة، وهذا هو الأقرب في هذه المسألة أنه لا يقف لأن العبادة قد انتهت، وسبقت الإشارة إلى هذا.قال رحمه الله: [ثم يرمي في اليوم الثاني كذلك].يعني: يرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال الجمرة الأولى ثم الجمرة الوسطى ثم بعد ذلك جمرة العقبة.
التعجل في الخروج من منى
قال: [فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل الغروب].التعجل هذا تحته مسائل:
حكم التعجل
المسألة الأولى: حكم التعجل، نقول: التعجل هذا جائز، وقد دل على ذلك القرآن والسنة وإجماع العلماء رحمهم الله:أما القرآن فقول الله عز وجل: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203].وأما السنة فحديث عبد الرحمن الديلي أنه قال: ( شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أيام منى يتلوا: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ثم أردف رجلاً وجعل ينادي بها في الناس ). وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن خزيمة وابن حبان وصححه ابن خزيمة وكذلك أيضاً ابن حبان .لكن المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن الإمام الذي يقيم النسك للناس ليس له أن يتعجل، فالحنابلة يستثنون الإمام، والإمام مالك رحمه الله يقول: المكي ليس له أن يتعجل.والصواب في ذلك أن التعجل عام، للمكي ولغير المكي وكذلك للإمام ولغير الإمام.
وقت التعجل
المسألة الثانية: قال المؤلف رحمه الله: (خرج قبل الغروب).يعني: وقت التعجل إلى غروب الشمس، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، أما عند الحنفية فيقولون: بأن وقت التعجل يمتد إلى ما بعد الغروب، فالحنفية يتوسعون في ذلك، فيمتد إلى قبيل طلوع الفجر الثاني، يعني: إذا غربت عليك الشمس وأنت لم تتعجل فلا بأس، فبعد غروب الشمس تعجل إلى قبيل طلوع الفجر الثاني، فإذا طلع الفجر الثاني من اليوم الثالث عشر ليس لك أن تتعجل، فيقولون: لا بأس أن الإنسان يتعجل إلى قبيل طلوع الفجر الثاني من اليوم الثالث عشر، فإذا طلع الفجر الثاني ليس له أن يتعجل.والصحيح في ذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم؛ لأن الله عز وجل قال: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ [البقرة:203] قال: (فِي يَوْمَيْنِ) و(فِي) هذه للظرفية، يعني: في ظرف هذين اليومين، وهذا إنما يكون قبل غروب الشمس، وعلى هذا أيضاً فهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقد ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: من أدركه المساء في اليوم الثاني فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس، وهذا أخرجه الإمام مالك في الموطأ والبيهقي في السنن الكبرى وإسناده صحيح.فالصواب في ذلك: أن التعجل يمتد إلى غروب الشمس، أما بعد غروب الشمس فليس له أن يتعجل.المسألة الثالثة: إذا أدركه غروب الشمس في حال المسير من منى أو وهو يشد رحله، فهل له أن يتعجل أو ليس له أن يتعجل؟ نقول: نعم، له أن يتعجل، كذلك أيضاً لو أدركه غروب الشمس وقد رمى وهو في طريقه إلى التعجل لكي يأخذ رحله، نقول: أيضاً له أن يتعجل.بل إن بعض أهل العلم رخص فقال: إذا شرع في الرمي ثم أدركه غروب الشمس فله أن يتعجل.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 05:46 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [13]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(59)


من غربت عليه الشمس وهو لا يزال بمنى فله أن يرمي اليوم التالي، والعمرة بعد الانتهاء من الحج تكون للمفرد الذي ليس من أهل مكة، وعمل القارن والمفرد سواء إلا في الهدي، وطواف الوداع يكون إذا انتهى من مناسك الحج وأراد الرجوع إلى بلده.
تابع التعجل في الخروج من منى
تقدم معنا أنه يستحب الشرب من ماء زمزم وذكرنا دليل ذلك، وذكرنا بعض الآداب المتعلقة بالشرب من ماء زمزم، ثم تعرضنا للمبيت بمنى ليالي أيام التشريق وما حكمه، وأن جمهور أهل العلم على أنه واجب وذكرنا دليل ذلك، وذكرنا رأي الحنفية.ثم بعد ذلك تعرضنا للرمي أيام التشريق -أي: رمي الجمرات الثلاث: الجمرة الصغرى ثم الوسطى ثم العقبة، وما يتعلق بذلك من أحكام- ثم تطرقنا لمن تعجل في يومين، ومتى يكون خروج المتعجل؟ ومتى يتعجل ومتى لا يتعجل؟ وذكرنا شيئاً من الأحكام المتعلقة بذلك، فذكرنا من الأحكام: أنه يتعجل قبل غروب الشمس، وحكم ما إذا تعجل وهو في مسيره من منى أن له ذلك، وأيضاً إذا غربت عليه الشمس وهو يشد رحله أن له أن يتعجل، وكذلك أيضاً عن حكم ما إذا غربت عليه الشمس وهو يرمي الجمرة.ثم بعد قال المؤلف رحمه الله: [فإن غربت الشمس وهو بمنى لزمه المبيت بمنى والرمي من غدٍ].وإذا غربت عليه الشمس وهو بمنى لم يرم، فإنه يجب عليه أن يبيت بمنى ليلة الثالث عشر وأن يرمي من الغد، ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] وهذا الرجل لم يتعجل في يومين، وأيضاً ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: من أدركه المساء في اليوم الثاني فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس.وهذا الأثر عن عمر أخرجه الإمام مالك رحمه الله في الموطأ والبيهقي في السنن الكبرى وإسناده صحيح ثابت، وعمر رضي الله تعالى عنه له سنة متبعة.
عمرة المفرد بعد الانتهاء من الحج
ثم قال المؤلف: [فإن كان متمتعاً أو قارناً فقد انقضى حجه وعمرته].يعني: إذا لم يتعجل، ورمى في اليوم الثالث عشر فقد انقضى حجه، ولكن بقي عليه ما يتعلق بطواف الوداع -وهذا سيأتي إن شاء الله بيانه- وقول المؤلف رحمه الله: (فإن كان متمتعاً أو قارناً فقد انقضى حجه وعمرته) وكذلك أيضاً المفرد إذا رمى آخر أيام التشريق فقد انقضى حجه، ولكن المفرد بقي عليه العمرة إذا لم يكن اعتمر قبل الحج فإنه بقي عليه العمرة؛ لأن العمرة واجبة على الصواب من أقوال أهل العلم.ولهذا قال المؤلف: [وإن كان مفرداً خرج إلى التنعيم فأحرم بعمرة منه].كون المفرد يأتي بعمرة بعد انتهاء حجه، هذا ليس شرطاً في الحج؛ فإن الحج قد انتهى، وإنما يذكر العلماء رحمهم الله هذا؛ لأن الناس في الزمن السابق كانوا يأتون من أماكن بعيدة إلى مكة، وقد لا يتيسر للإنسان أن يرجع إلى مكة مرةً أخرى، فقال المؤلف رحمه الله: المفرد بعد أن ينتهي من حجه يخرج إلى التنعيم، ويحرم منه لكي يأتي بالعمرة الواجبة؛ لأنه إذا خرج إلى بلده قبل أن يأتي بالعمرة الواجبة فقد يتعذر عليه أن يأتي مرةً أخرى، فيترك هذا الواجب.إذاً: مسألة عمرة المفرد ليست قيداً وشرطاً في الحج، بل إن حجه قد انتهى وبرئت ذمته، وإنما يذكر العلماء رحمهم الله أن الناس في الزمن السابق كانوا يأتون من أماكن بعيدة، وقد يتعذر عليهم أن يرجعوا مرةً أخرى، فذكر العلماء رحمهم الله أنه يأخذ عمرته قبل أن ينصرف إلى بلده لكي يؤدي هذين الواجبين.وقول المؤلف رحمه الله: يخرج إلى التنعيم، أيضاً هذا ليس شرطاً، وإنما المعتمر يحرم من الحل، وعلى هذا نقول: يخرج إلى الأيسر له، فقد يكون قريباً من عرفات فيخرج إلى عرفات ويحرم من عرفات، وقد يكون قريباً من الجعرانة فيخرج إلى الجعرانة ويحرم من الجعرانة، وقد يكون قريباً من التنعيم فيحرم من التنعيم، المهم أن قوله: (إلى التنعيم)، هذا ليس شرطاً، وإنما المراد أنه يحرم من الحل، سواء كان من التنعيم أو من عرفات أو من الجعرانة أو غير ذلك، وعلى هذا يفعل ما هو الأسهل له.قال رحمه الله: [ثم يأتي مكة فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر].أي: يعمل أعمال العمرة كما سيأتي إن شاء الله.قال رحمه الله: [فإن لم يكن له شعر استحب أن يمر الموسى على رأسه وقد تم حجه وعمرته].إن لم يكن له شعر إما لكونه أصلعاً، وإما لكونه قد حلق قريباً في الحج ولم يخرج شعر رأسه، فيقول المؤلف رحمه الله: يستحب له أن يمر الموسى على رأسه وهذا الرأي الأول.والرأي الثاني: أن هذا لا يستحب، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعلى هذا إذا كان الإنسان أصلعاً ليس عليه شيء من الشعر، فإنه إذا اعتمر أو حج فلا يستحب أن يمر الموسى على رأسه، ويكون الحلق أو التقصير قد سقط عنه، وهذا القول هو الصواب.ونظير ذلك: لو أن الإنسان قطعت يده، فإنه يسقط عنه غسل اليد، وكوننا نأمره بأن يمر الموسى على رأسه وهو أصلع، فهذا قريب من العبث، وعلى هذا فنقول: الصحيح في ذلك أنه يسقط عنه ولا يلزمه أن يمر الموسى على رأسه.
الفرق بين حج القارن وحج المفرد
قال المؤلف رحمه الله: [وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد].أي: أن عمل القارن كعمل المفرد تماماً، إلا أن الفرق بينهما: أن القارن أحرم بعمرةٍ وحج، والمفرد أحرم بحج فقط، والقارن عليه هدي عند جمهور أهل العلم، والمفرد ليس عليه هدي، فهذا الفرق بينهما.وقال المؤلف رحمه الله: [لكن عليه وعلى المتمتع دم؛ لقوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196] ].المتمتع يجب عليه دم، وهذا بنص القرآن، لقول الله عز وجل: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يتمتعوا بالهدي، فمن لم يجد هدياً فإنه يصوم عشرة أيام: ثلاثة أيام في الحج، وسبعةً إذا رجع إلى أهله، هذا بالنسبة للمتمتع فهو موضع اتفاق بين أهل العلم رحمهم الله.وأما بالنسبة للقارن فهل يجب عليه هدي أو لا يجب عليه هدي؟جمهور أهل العلم: أنه يجب عليه هدي، واستدلوا على ذلك، بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً وقد أهدى، وأيضاً: زوجات النبي كن قارنات وقد ذبح النبي صلى الله عليه وسلم عن أزواجه البقر، وأيضاً الدليل الثالث: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم يجعلون القارن متمتعاً؛ لأنه تمتع بأن أدى نسكين في سفرةٍ واحدة. وهذا الرأي الأول.والرأي الثاني: قال به الظاهرية: أن القارن لا يجب عليه دم؛ لأن الله عز وجل قال: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] ولم يذكر القارن، والوجوب إنما ورد في المتمتع.والجواب عن هذا سهل، فنقول: بأنه ورد في القارن الدم، وكما قلنا: إنه داخل في قول الله عز وجل: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ)؛ لأن القارن تمتع بأن أدى نسكين في سفرة واحدة، وأيضاً الصحابة رضي الله تعالى عنهم فهموا ذلك، وأيضاً ما ذكرناه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر ) وغيرها من الأدلة على ذلك.
طواف الوداع
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا أراد القفول لم يخرج حتى يودع البيت، بطوف عند فراغه من جميع أموره، حتى يكون آخر عهده بالبيت].إذا انتهى من أعمال الحج بقي عليه طواف الوداع، وطواف الوداع تحته مسائل:
حكم طواف الوداع
المسألة الأولى: حكم طواف الوداع. المشهور من المذهب وأيضاً مذهب الشافعية أن طواف الوداع واجب، ودليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض ) وهذا الحديث في الصحيحين. وهذا الرأي الأول.والرأي الثاني: مذهب الحنفية والمالكية، قالوا: طواف الوداع سنة وليس واجباً، واستدلوا على ذلك بأنه خفف عن الحائض، ولو كان واجباً لم يخفف عن الحائض، وهذا فيه نظر.نقول: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به لحديث ابن عباس : ( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض ) فكونه أمر الناس، فهذا يدل على الوجوب، وكونه يخفف عن الحائض فإنه يدل على عدم وجوبه على الحائض فلا تلازم.يعني: كونه غير واجب على الحائض لا يلزم من ذلك أن يكون غير واجبٍ على غير الحائض، نظير ذلك الصلاة: الصلاة لا تجب على الحائض، ولا يجب عليها أن تقضيها، ومع ذلك لا نقول بأن غير الحائض لا تجب عليها الصلاة، هذا لم يقل به أحد من أهل العلم، فالصواب في ذلك: أن طواف الوداع واجب على الحاج، كما هو مذهب أحمد والشافعي رحمهما الله.
وقت طواف الوداع
والمسالة الثانية: قال المؤلف رحمه الله: (عند فراغه من جميع أموره).هنا بين المؤلف رحمه الله أن طواف الوداع يكون عند الخروج من مكة، وعلى هذا لو أنه أقام بمكة بعد انتهاء الحج فإنه لا يوادع حتى يكون عند خروجه، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله: أنه عند الخروج من مكة، وعلى هذا لو وادع ثم أقام فإن وداعه غير صحيح.واستدلوا على ذلك بما تقدم من حديث ابن عباس : ( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ) فالإنسان مأمور أن يكون آخر عهده بالبيت وهذا يكون عند الخروج.وأيضاً حديث عائشة في حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم آذن أصحابه بالرحيل، فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح، ثم أدركته صلاة الصبح فصلى، ثم خرج إلى المدينة ) وهذا أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم وصححه الحاكم . وهذا الرأي الأول.والرأي الثاني: رأي الحنفية، يقولون: بأن طواف الوداع يدخل وقته بعد طواف الإفاضة، وعلى هذا لو أن الإنسان طاف للوداع بعد طواف الإفاضة ثم مكث في مكة يوماً أو يومين أو خمسة أيام فقد وادع، وهذا فيه نظر، فالصحيح في ذلك هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وأن طواف الوداع إنما يكون عند الخروج من مكة، وأما قول الحنفية رحمهم الله: فهذا فيه نظر؛ لأنهم يستدلون بحديث ابن عباس : ( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ) يقولون: آخر عهدهم بالبيت نسكاً وليس إقامةً، والصحيح أن يكون آخر عهدهم بالبيت إقامة، كما دل عليه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام وادع ثم خرج إلى المدينة مباشرة.
من يجب عليهم طواف الوداع
المسألة الثالثة: على من يجب طواف الوداع؟نقول: طواف الوداع يجب على غير أهل مكة وأهل الحرم، فأهل مكة وأهل الحرم هؤلاء لا يجب عليهم طواف الوداع؛ لأنهم مقيمون عند البيت، وهم أهل البيت فلا وداع عليهم، لكن غير أهل مكة وغير أهل الحرم يجب عليهم طواف الوداع، وعلى هذا لو أن البنيان كما هو الآن موجود في مكة امتد حتى صار في الحل بنيان مكة، فهل يجب على من في الحل طواف الوداع أو لا يجب عليهم؟ نقول: لا يجب عليهم؛ لأنهم من أهل مكة، كذلك أيضاً أهل الحرم لا يجب عليهم؛ لأنهم من أهل الحرم، فهم أهل البيت.
اشتغال الحاج بعد طواف الوداع
المسألة الرابعة: قال المؤلف رحمه الله: [فإن اشتغل بعده بتجارة أعاده].يعني: إذا اشتغل بعده بتجارة بيع وشراء أعاد طواف الوداع؛ لأنه لم يكن آخر عهده بالبيت، وكذلك أيضاً لو أقام يعيد؛ لأنه لم يكن آخر عهده بالبيت، فلو أقام لزيارة أو عيادة مريض أو نام ونحو ذلك، فهذا كله يجب عليه أن يعيد الطواف؛ لأنه لم يكن آخر عهده بالبيت، والنبي عليه الصلاة والسلام -كما تقدم- لما وادع خرج مباشرة إلى المدينة.واستثنى العلماء رحمهم الله ثلاث مسائل، لو أطال فيها الإقامة فإنه معفو عنه:المسألة الأولى: إذا كان في انتظار رفقة، فهذا إذا وادع وجلس ينتظر الرفقة فلا شيء عليه، فلو جلس ينتظر الرفقة ساعة أو ساعتين أو نصف يوم أو يوماً أو يومين أو ثلاثة أيام، فقد يكون له رفيق ضاع أو تاه أو مرض أو نحو ذلك وهو ينتظر متى ينتهي فهذا لا شيء عليه، ولا يبطل وداعه حتى لو طالت إقامته، والدليل على ذلك: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة أن تخرج إلى التنعيم وأن تحرم بعمرة بعد أن انتهى من الحج )، وانتظرها النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا دليل على أنه في الانتظار يعفى عن ذلك.المسألة الثانية: إذا كان متعلقاً بإصلاح الرحل وشده، فهذا أيضاً لا يضر، ومثل ذلك أيضاً: لو أنه وادع ثم تعطلت السيارة، وجلس يصلح السيارة يوماً أو يومين، أو جرى عليها ما يمنعها من السير، أو أصابها حادث أو غير ذلك، فالمهم: أنه يتعلق بالرحل، فنقول: هذا لا شيء عليه، ودليله ما تقدم.المسألة الثالثة: استثنى العلماء رحمهم الله: ما يتعلق بالأمور اليسيرة، لو أنه اشترى حاجة في طريقه وهو خارج، أو أنه تناول عشاءً أو غداءً، يعني: هذه الأمور اليسيرة في طريقه فإنه لا شيء عليه في ذلك.
طواف الوداع ودخوله في مناسك الحج
المسألة الخامسة: اختلف أهل العلم رحمهم الله في طواف الوداع، هل هو من مناسك الحج أو ليس من مناسك الحج؟ على رأيين:الرأي الأول: رأي الشافعي، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن طواف الوداع ليس من مناسك الحج، وإنما يودع الإنسان عند خروجه، يعني: يطوف عند خروجه، بدليل أن الإنسان لو مكث شهراً في مكة بعد انتهاء الحج، فإنه لا يجب عليه أن يطوف حتى يكون عند خروجه من مكة، فقالوا بأن طواف الوداع ليس من مناسك الحج.وأيضاً استدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً ) فقال: (بعد قضاء نسكه) يعني: الذي هاجر من مكة إلى المدينة لا يجلس بعد انتهاء الحج، ويجب عليه أنه يرجع إلى المدينة، لماذا؟ لأن هذا شيء أخرجه لله عز وجل، وكل شيءٍ يخرجه الإنسان لله عز وجل فإنه لا يجوز له أن يرجع فيه: ( العائد في صدقته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه ) .فالذي هاجر وترك وطنه إلى المدينة رخص له النبي صلى الله عليه وسلم بعد قضاء النسك أن يقيم ثلاثة أيام فقط، ثم يرجع إلى المدينة التي ترك مكة من أجلها.وقوله: ( يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً ) المهاجر سيطوف للوداع عند خروجه إلى المدينة ورخص له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقيم بعد قضاء نسكه، فدل على أن النسك انتهى، وأنه ما بقي عليه إلا طواف الوداع، فهذا يطوفه عند الخروج، فبهذا استدلوا على أن طواف الوداع ليس من المناسك.والرأي الثاني: المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن طواف الوداع من أعمال الحج، ومناسك الحج؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام طاف وقال: ( خذوا عني مناسككم ).
طواف الوداع للحائض والنفساء
المسألة السادسة: المتعلقة بطواف الوداع: يخفف طواف الوداع عن الحائض والنفساء، ودليل ذلك ما تقدم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، إلا أنه إذا طهرت الحائض قبل مفارقة بنيان مكة، فإنه يجب عليها أن تغتسل وأن تطوف للوداع.ومثلها أيضاً: النفساء إذا طهرت قبل مفارقة بنيان مكة فإنه يجب عليها أن تغتسل وأن تطوف للوداع.
المبيت خارج مكة بعد طواف الوداع
المسألة السابعة: لو أن الإنسان طاف للوداع، ثم خرج خارج بنيان مكة جاز له أن يبيت، أما داخل بينان مكة فإنه إذا بات -كما تقدم لنا- فإنه يبطل عليه طوافه.
إجزاء طواف الإفاضة عن طواف الوداع
المسألة الثامنة المتعلقة بطواف الوداع: يجزئ طواف الإفاضة عن طواف الوداع، فلو أنه أخر طواف الإفاضة ولم يطفه إلا عند خروجه، فنقول: بأن هذا مجزئ، وعلى هذا، فهذه المسألة لها ثلاث حالات:الحالة الأولى: أن ينوي طواف الإفاضة فقط، فنقول: بأنه يجزئه عن طواف الوداع.الحالة الثانية: أن ينوي طواف الإفاضة والوداع جميعاً، فهذا الصحيح من قولي العلماء أنه يجزئه.الحالة الثالثة: أن ينوي طواف الوداع فقط، فهذا لا يجزئه عن طواف الإفاضة ولا عن طواف الوداع؛ لأن طواف الإفاضة ركن وهو لم ينو، ولا يجزئه عن طواف الوداع؛ لأنه حتى الآن طواف الوداع لا يكون إلا بعد الفراغ من أعمال الحج عند الخروج.
خروج الحاج قبل طواف الوداع
وهي المسألة التاسعة: إذا خرج قبل طواف الوداع، فالمشهور من المذهب أن هذا لا يخل من أمرين:الأمر الأول: أن يبلغ مسافة القصر، فقالوا: بأنه يجب عليه الدم.والأمر الثاني: ألا يبلغ مسافة قصر، فقالوا: بأنه يجب عليه أن يرجع ولا يجب عليه دم، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وهذا الرأي الأول.والرأي الثاني: أنه لا يقيد ذلك بمسافة القصر، وإنما يقيد ذلك بالحرم، فقالوا: إذا تجاوز حدود الحرم فهذا بعيد، ويجب عليه الدم، وإذا كان في الحرم فإنه لا يجب عليه دم، وهذا قال به الثوري .والأقرب في ذلك أن يقال: أن هذه المسألة ترجع إلى العرف، فنقول: إن تباعد عرفاً عن مكة سقط عنه طواف الوداع ووجب عليه دم، وإن لم يتباعد عرفاً فإنه يجب عليه أن يرجع ويأتي به، فإن لم يأت به فعليه دم.
الوقوف في الملتزم
ثم قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب له إذا طاف أن يقف في الملتزم].(الملتزم) قال العلماء: قدره أربعة أذرع بين الحجر الأسود والباب، فيأتي الملتزم ويلصق صدره ووجهه وذراعيه وكفيه مبسوطتين، ويقول هذا الذكر الذي ذكره المؤلف رحمه الله تعالى.وهذا الالتزام لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن هذا الالتزام يكون بعد طواف الوداع؛ لأنه قال: (ويستحب له إذا طاف) فظاهر كلامه: أنه يكون بعد طواف الوداع، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: له أن يفعل ذلك قبل طواف الوداع، فإن هذا لا فرق فيه بين الوداع وغيره، والصحابة كانوا يفعلون ذلك قبل دخول مكة، فله أن يفعل ذلك عند طواف الوداع وبعده وقبله، فالصحابة لم يرد عنهم وقت محدد.وذكر المؤلف رحمه الله الدعاء، فقال: [اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك..] إلى آخر ما ذكره المؤلف رحمه الله، وهذا الذكر لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام، والعبادات توقيفية، وعلى هذا نقول: بأن الإنسان يلتزم قبل الوداع وبعد الوداع ويدعو بما أحب، وليس هناك ذكر وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.ثم بعد ذلك قال: [ويدعو بما أحب، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم].وقوله: [فمن خرج قبل الوداع رجع إليه إن كان قريباً، وإن بعد بعث بدم]، فهذه تكلمنا عليها، وقلنا: بأن المذهب يقول: إذا بلغ مسافة القصر فإنه يجب عليه الدم، وإن كان قبل مسافة القصر فيجب عليه أن يرجع، فإن لم يرجع فعليه دم، وهذا الرأي الأول. والرأي الثاني: أنه يحدد بالحرم: فإذا لم يتجاوز الحرم وجب أن يرجع، وأما إن كان في الحرم فإنه لا يجب عليه أن يرجع، والرأي الثالث: أنه يرجع في ذلك إلى العرف.
طواف الوداع للحائض والنفساء
قال المؤلف رحمه الله: [إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما، ويستحب لهما الوقوف عند باب المسجد والدعاء].يقول المؤلف رحمه الله بأن الحائض والنفساء ليس عليهما طواف وداع، ويسقط عنهما طواف الوداع -كما تقدم في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- لكن ذكر المؤلف رحمه الله أنه يستحب لهما أن يقفا بباب المسجد وأن يدعوا، وهذا فيه نظر؛ لأن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة لما ذكر له أن صفية قد حاضت، قال: ( أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله! إنها قد أفاضت )، يعني: طافت طواف الإفاضة، ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذلك؟ قال: ( فلتنفر ) .يعني: ما دام أنها طافت طواف الإفاضة فما بقي عليها إلا طواف الوداع، ويسقط عنها طواف الوداع، فتنفر ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تقف بباب المسجد وأن تدعو، فنقول: هذا لم يحصل، بل السنة على أنها لا تقف، وهذا هو الصواب.
أركان الحج
قال رحمه الله: [باب أركان الحج والعمرة].الأركان: جمع ركن، وهو جانب الشيء الأقوى، وأما في الاصطلاح: فهو جزء الشيء وماهيته.قال رحمه الله: [أركان الحج: الوقوف بعرفة].هذا الركن الأول، ودليل ذلك حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي -وتقدم لنا كثيراً- وفيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( الحج عرفة ).وأيضاً الإجماع منعقد على أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج، وأنه لا بد منه، وتقدم ما يتعلق بأحكام الوقوف بعرفة.قال: [وطواف الزيارة].هذا الركن الثاني من أركان الحج: طواف الزيارة، ودليله قول الله عز وجل: وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] وأيضاً السنة، فقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالطواف بالبيت، فإن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أبا موسى فقال: ( طف بالبيت وبالصفا والمروة ) هذا في الصحيحين، والإجماع قائم على ذلك.هنا ذكر المؤلف رحمه الله ركنين وبقي ركنان لم يذكرهما المؤلف:الركن الثالث: الإحرام، والمراد بالإحرام هنا: نية الدخول في النسك، فهذا لا بد منه؛ لأن كل إنسان يتجرد ويلبس الإزار والرداء، لكن لا بد من نية الدخول في النسك، وهذا دليله قول الله عز وجل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة:197] وهذا إنما يكون في الإحرام، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة:197] فسمى الله عز وجل الدخول في النسك فرضاً، دل ذلك على أنه لا بد منه، وأيضاً حديث عمر رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات ).الركن الرابع: السعي، والمؤلف رحمه الله جعل السعي مع واجبات الحج، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله -كما سنشير إلى ذلك إن شاء الله- وهذا خلاف المشهور من المذهب، والمشهور من مذهب الحنابلة: أن السعي ركن من أركان الحج، كما سيأتي إن شاء الله.
واجبات الحج
قال رحمه الله: [وواجباته: الإحرام من الميقات].هذا الواجب الأول من واجبات الحج: الإحرام من الميقات، ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ) فقوله: (يهل)، هذا خبر بمعنى الأمر، يعني: ليهل، وفي حديث ابن عمر في البخاري : ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ) فقوله: (فرض)، هذا يدل على أنه واجب وأنه لا بد منه.قال رحمه الله: [والوقوف بعرفة إلى الليل].هذا الواجب الثاني: يجب أن يقف بعرفة إلى الليل، ويدل لهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام وقف إلى الليل وغابت الصفرة واستحكم غروبها، وقال: ( خذوا عني مناسككم ) والدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص لأحدٍ من الضعفة في النفر قبل غروب الشمس، فدل ذلك على الوجوب، وأيضاً الدليل الثالث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً )، ولو كان الدفع قبل غروب الشمس جائزاً لاختاره النبي عليه الصلاة والسلام.قال رحمه الله: [والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل].هذا الواجب الثالث: المبيت بمزدلفة، وتقدم حديث عروة بن مضرس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه ) فعلق تمام الحج على شهود الصلاة والوقوف حتى يدفع النبي صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة، وقوله: (إلى نصف الليل) فقد تقدم أن تكلمنا على ذلك.قال رحمه الله: [والسعي].وهذا غريب من المؤلف رحمه الله؛ لأن المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن السعي ركن من أركان الحج، وليس واجباً من واجبات الحج، والعلماء رحمهم الله اختلفوا في السعي على ثلاثة آراء:الرأي الأول: أنه ركن، وأنه لا بد أن يأتي به الحاج، وهذا قول جمهور أهل العلم، واستدلوا على ذلك بأدلة، من هذه الأدلة ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث حبيبة بنت أبي تجراة العبدرية : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي ) وهذا أخرجه الإمام أحمد والشافعي وابن سعد في الطبقات وغيرهم، والحديث ضعيف.وأيضاً الدليل الثاني: فعل النبي عليه الصلاة والسلام، فإن النبي عليه الصلاة والسلام طاف وسعى وقال: ( خذوا عني مناسككم ) .وأيضاً الدليل الثالث: قول عائشة رضي الله تعالى عنها: ( فلعمري! ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة ) رواه مسلم .وأيضاً الدليل الرابع: حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فقال: ( طف بالبيت وبالصفا والمروة ) فهذا يدل على الوجوب.وأيضاً حديث عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك ) فهذا يدل على الوجوب.وهذه الأدلة وما يعضدها كلها تتظافر. ولقد قرن السعي بالطواف، والشارع عندما يقرن بين السعي والطواف، فإن هذا يدل على أنهما بمنزلة واحدة من حيث الحكم، وهذا أقرب.والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة رحمه الله: أنه واجب من واجبات الحج، وعلى هذا يقولون: إن ترك أربعة أشواط فأكثر عليه دم، وإن ترك أقل من أربعة أشواط عليه نصف صاع لكل شوط.والرأي الثالث: أنه سنة، وهذا ورد عن ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وابن سيرين ، قالوا: بأنه سنة، واستدلوا على ذلك بأن الله عز وجل قال: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) قالوا: أنه سنة.

ابو وليد البحيرى
2019-04-06, 05:51 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [14]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(60)


من ترك ركناً من أركان الحج والعمرة لم يتم نسكه إلا به، ومن ترك واجباً من الواجبات جبره بدم، ومن ترك سنة فلا شيء عليه، ومن فاته الوقوف بعرفة فيترتب عليه فساد الحج؛ والتحلل بعمرة والقضاء من قابل، وإن أخطأ الناس في غير يوم عرفة أجزأهم ذلك.
تابع واجبات الحج
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمبيت بمنى، والرمي، والحلق، وطواف الوداع].تقدم لنا شيء من مباحث طواف الوداع، وذكرنا من هذه المباحث حكم طواف الوداع؟ وعلى من يجب؟ وإذا خرج ولم يطف للوداع، ومتى يبطل طواف الوداع ومتى لا يبطل؟ وأيضاً تخفيفه عن الحائض والنفساء، وما يتعلق أيضاً بالوقوف بالملتزم وما المراد به؟ ومتى يكون الوقوف بالملتزم؟وبدأنا بأركان الحج أولاً، وذكر المؤلف رحمه الله: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة، والإحرام: وهو نية الدخول بالنسك، والسعي، وأما الواجبات فتكلمنا أيضاً: عن الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الليل، والمبيت بمزدلفة، والسعي وذكرنا خلاف أهل العلم فيه إلى ثلاثة آراء وذكرنا أدلتهم:الرأي الأول: أنه ركن، وهذا قول جمهور أهل العلم.والرأي الثاني: أنه واجب، وهذا مذهب الحنفية على تفصيلٍ عندهم.والرأي الثالث: أنه سنة، وقلنا: بأنه قال به بعض السلف، وذكرنا دليل كل قول والحمد لله.ثم قال المؤلف رحمه الله: (والمبيت بمنى).أيضاً من واجبات الحج المبيت بمنى، والدليل على ذلك ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه أن يترك المبيت بمنى من أجل سقايته )، والرخصة يقابلها عزيمة.وأيضاً ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة في ترك البيتوتة بمنى من أجل الرعاية )، والرخصة تقابلها عزيمة فدل ذلك على الوجوب.وأيضاً ما ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا يبيتن أحد من الحجاج وراء العقبة، يعني: وراء جمرة العقبة؛ لأن ما وراء جمرة العقبة ليس من منى، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يبعث أناساً يدخلون كل من كان وراء العقبة إلى منى، فدل ذلك على وجوب البيتوتة بمنى.وتقدم أن ذكرنا خلاف أهل العلم رحمهم الله في ذلك، وأن العلماء رحمهم الله اختلفوا في البيتوتة على رأيين:الرأي الأول: أنها واجبة وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله.والرأي الثانية رأي الحنفية: يرون أن البيتوتة ليالي أيام التشريق مستحبة وليست واجبة، وذكرنا فيما تقدم أن الصواب ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.قال رحمه الله: [والرمي].أيضاً من واجبات الحج: الرمي، وهذا باتفاق الأئمة، فالأئمة متفقون على أن الرمي واجب، بل إن من العلماء من يجعل رمي جمرة العقبة ركناً من أركان الحج، لكن الصواب أن الرمي كله واجب من واجبات الحج، وتقدم أن ذكرنا ما يتعلق بترك الرمي.قال رحمه الله: [الحلق].أيضاً: الحلق أو التقصير: وهذا واجب من واجبات الحج، ويدل لذلك أن الله عز وجل قال: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27] فوصفهم بذلك، مما يدل على أهميته وأن له شأناً، وأيضاً مما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة بذلك، فأمر الصحابة كل من لم يسق الهدي أن يطوف ويسعى وأن يقصر -وإذا قصر فقد حل- والأمر يقتضي الوجوب.قال رحمه الله: [وطواف الوداع].أيضاً: طواف الوداع، وهو واجب من واجبات الحج، وذكرنا الخلاف فيما تقدم، وأوردنا حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض ).
العمرة وأحكامها

أركان العمرة
قال رحمه الله: [وأركان العمرة: الطواف].لم يذكر المؤلف رحمه الله من أركان العمرة إلا ركناً واحداً وهو الطواف، والصواب في ذلك: أن أركان العمرة ثلاثة:الأول: الإحرام: وهو نية الدخول في النسك، فإذا لم ينو فإنه لم يدخل في النسك، وذكرنا الدليل فيما تقدم عندما تكلمنا عن أركان الحج.والثاني: الطواف، وهذا أيضاً تقدم دليله عندما تكلمنا عن أركان الحج.والثالث: السعي، وهذا أيضاً ذكرنا دليله، والخلاف فيه عندما تكلمنا عن أركان الحج.
واجبات العمرة
قال رحمه الله: [وواجباتها: الإحرام، والسعي، والحلق].واجبات العمرة: (الإحرام)، والمراد به الإحرام من الميقات، وتقدم الدليل على ذلك عندما تكلمنا على واجبات الحج.وقوله: (والسعي) ذكرنا أن المؤلف رحمه الله خالف المذهب، فإن المؤلف رحمه الله يرى أن السعي واجب في العمرة وواجب في الحج وليس ركناً، والصواب في هذه المسألة: أن السعي ركن في الحج وفي العمرة.. هذا هو الأقرب، وذكرنا شيئاً من الأدلة الدالة على ذلك.وقوله: (والحلق) هذا من واجبات العمرة سواء الحلق أو التقصير، وذكرنا الدليل على ذلك عندما تكلمنا عن واجبات الحج.وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن طواف الوداع ليس من واجبات العمرة؛ لأنه ذكر من واجبات العمرة ثلاثة أشياء فقط: الإحرام والسعي والحلق، فظاهر كلامه: أن طواف الوداع للعمرة سنة وليس واجباً؛ لأنه لم يذكره في الأركان ولم يذكره أيضاً في الواجبات، وهذه المسألة موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فللعلماء في حكم طواف الوداع قولان:القول الأول: أنه سنة، وهذا عليه أكثر أهل العلم رحمهم الله تعالى.القول الثاني: أنه واجب، وهذا مذهب الشافعية وبه قال ابن حزم .أما الذين قالوا بأنه سنة فاستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة الجعرانة واعتمر عمرة القضاء ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف للوداع، كذلك أيضاً أمر عائشة رضي الله تعالى عنها أن تعتمر بعد الحج، ومع ذلك لم يرد أنها طافت للوداع، لكن الجواب عن هذا سهل: فنقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مباشرة، وعائشة رضي الله تعالى عنها خرجت مباشرة، فنأخذ من هذا: أن المعتمر إذا ذهب وطاف وسعى وخرج مباشرة فلا يجب عليه طواف الوداع، وهذا لا إشكال فيه، فلو مكث يوماً أو يومين أو ثلاثة أيام، هل يجب عليه طواف الوداع أو لا يجب؟الذين قالوا: بأنه سنة مطلقاً، استدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف الوداع في عمرة القضاء ولا في عمرة الجعرانة، وعائشة أيضاً أخذت عمرة بعد حجها ولم تطف، وقالوا أيضاً: الأصل في ذلك براءة الذمة حتى يقوم دليل على الوجوب، ولم يقم دليل على الوجوب، وهذا الرأي الأول.الرأي الثاني: قالوا بأن طواف الوداع واجب على المعتمر، واستدلوا بحديث ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ) وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.وقوله: (أحد) هذا يشمل الحاج والمعتمر، وأجيب عن هذا: بأن قوله: (لا ينفرن أحد) المقصود بذلك الحاج؛ لأن الحاج ينفر من كل وجه، فقد يكون في منى وينفر من منى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت الآن في منى ارجع إلى مكة حتى يكون آخر عهدك بالبيت، أما المعتمر فهو أصلاً عند البيت ولم يخرج عن البيت فلا يشمله قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ) إنما هذا خاص بالحاج؛ لأن الحاج هو الذي في منى؛ لأنه يبيت ليالي أيام التشريق بمنى ويرمي، فهو الآن في منى أمره النبي صلى الله عليه وسلم ألا يخرج إلى بلده من منى، وإنما يرجع إلى مكة ويطوف بالبيت حتى يكون آخر عهده، أما المعتمر فهو لا يزال باقياً عند البيت لم يفارقه.وأيضاً استدلوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى العمرة حجاً أصغر، والحج يجب فيه طواف الوداع، فكذلك أيضاً العمرة، وأجيب عن ذلك: بأنها وإن كانت العمرة حجاً أصغر فإنه ليس كل أحكام الحج تكون في العمرة، فمثلاً الوقوف بعرفة والمبيت بمنى والمبيت مزدلفة والرمي، هذه الأحكام لا تجب ولا تشرع في العمرة.وأيضاً استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث يعلى في الصحيحين: ( اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك ) قالوا: إنه يصنع في الحج طواف الوداع، فكذلك أيضاً يصنعه في العمرة، وأجيب عن ذلك أيضاً: بأنه لا يلزم أن يصنع طواف الوداع؛ لأنه في الحج يصنع الوقوف بعرفة والمبيت مزدلفة والمبيت بمنى، ومع ذلك هذه الأشياء لا يصنعها في العمرة بالاتفاق.فالأقر في هذه المسألة: أن طواف الوداع سنة وليس واجباً؛ لأن الذي يتمسك به قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت )، وهذا إنما هو في الحاج؛ لأن الحاج هو الذي يكون في منى، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينفر من منى إلى بلده وإنما يرجع إلى البيت، وأما تسمية العمرة بالحج الأصغر وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك ) نقول: هذا لا يشمل كل شيء، ومن ذلك طواف الوداع.فكما أن الوقوف بعرفات غير داخل، والمبيت مزدلفة غير داخل، والمبيت بمنى غير داخل، فكل هذه الأشياء لا تجب في العمرة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك ) نقول: أيضاً طواف الوداع يلحق بهذه الأشياء.وعلى هذا نقول: الصحيح أن طواف الوداع سنة في حق المعتمر، وإن احتاط الإنسان وأتى به كان هذا أحسن، وإن لم يأت به فالذي يظهر أنه لا يجب عليه شيء بإذن الله.
ما يلزم من ترك ركناً أو واجباً أو سنة من الحج والعمرة

من ترك ركناً من أركان الحج والعمرة
قال رحمه الله: [فمن ترك ركناً لم يتم نسكه إلا به].من ترك ركناً يقول المؤلف رحمه الله: (لم يتم نسكه إلا به).الأركان أربعة كما تقدم لنا نأخذها واحداً واحداً: أولاً: إذا ترك الإحرام -وهو نية الدخول في النسك- نقول: أصلاً لم ينعقد حجه ولا عمرته، فإذا ترك الإحرام يعني: لم ينو الدخول في النسك، نقول: بأنه لم يتم حجه ولا عمرته.ثانياً: إذا ترك الوقوف بعرفة، نقول: فاته الحج ويأخذ أحكام الفوات كما سيأتينا إن شاء الله.ثالثاً: إذا ترك الطواف بالبيت -طواف الإفاضة- نقول: لم يزل محرماً حتى يطوف بالبيت لأن طواف البيت -كما تقدم لنا- ليس له آخر، والعلماء ينصون على أن وقته العمر، فيقولون: بأنه ليس له آخر، فإذا كان كذلك نقول: لا يزال محرماً، فإن كان في الحج لم يتحلل التحلل الثاني، وإن كان في العمرة لا يزال محرماً حتى يطوف.رابعاً: إذا ترك السعي: فالسعي وقته العمر كله، فإذا ترك السعي، نقول: بأنه لا يزال محرماً لم يتحلل التحلل الثاني في الحج، وفي العمرة لا يزال محرماً.
من ترك واجباً من واجبات الحج والعمرة
قال رحمه الله: [ومن ترك واجباً جبره بدم].إذا ترك الإحرام من الميقات مثلاً، أو ترك الرمي أو ترك المبيت مزدلفة أو ترك المبيت بمنى، يقول المؤلف رحمه الله: (جبره بدم). وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وإن كانوا يختلفون في شيءٍ من التفاريع إلا أنهم في الجملة يقولون: من ترك واجباً من واجبات الحج أو العمرة فإنه يجبره بدم، واستدلوا على ذلك بأدلة -يعني: على إيجاب الدم- ومن أدلتهم على ذلك: قول الله عز وجل: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] وهذا يشمل ما إذا أحصر عن واجب، يعني: لو منع عن الرمي أو عن المبيت.. إلى آخره.وأيضاً: استدلوا على ذلك بما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ( من ترك شيئاً من نسكه أو نسيه فليهرق لذلك دماً ) وقوله: (دماً)، إنما يكون في الواجب؛ لأن المستحب لم يرد في الشرع أنه بجب جبره، وإنما الذي يجب جبره هو الواجب. وهذا الرأي الأول.الرأي الثاني: أن الواجبات إذا تركت فإن الإنسان يأثم ولا يجب عليه فيها شيء؛ لأن الأصل براءة الذمة، وهذا قول الظاهرية.وأثر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( من ترك شيئاً من نسكه أو نسيه فليهرق لذلك دماً ) هذا الأثر رواه الإمام مالك والشافعي والبيهقي وإسناده صحيح.
من ترك سنة من سنن الحج والعمرة
قال رحمه الله: [ومن ترك سنةً فلا شيء عليه].من ترك سنةً من سنن الحج أو العمرة فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: ليس عليه شيء، مثلاً: ترك الدعاء بعد رمي الجمرة الصغرى، أو بعد رمي الجمرة الوسطى، أو ترك التكبير عند الرمي، أو ترك الدعاء يوم عرفة، المهم ترك سنةً من السنن فهذا لا شيء عليه، لكن نقص عليه الأجر وتمام الامتثال.
أحكام الفوات
قال رحمه الله: [ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج].الآن شرع المؤلف رحمه الله بما يسمى بأحكام الفوات والإحصار، وتكلم عن أحكام الفوات ولم يتكلم عن أحكام الإحصار، لكن المصنفين يتكلمون عن أحكام الفوات والإحصار جميعاً؛ ولهذا سنتطرق بإجمال لأحكام الإحصار.
تعريف الفوات
الفوات في اللغة: مصدر: فات، إذا سبق فلم يدرك.وأما في الاصطلاح: فهو طلوع فجر يوم النحر قبل الوقوف بعرفة، أي: إذا طلع فجر يوم النحر قبل الوقوف بعرفة فقد فات الحج، ويدل لهذا الإجماع، فالمسلمون مجمعون على أن وقت الوقوف بعرفة يمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر، وأن الإنسان إذا طلع عليه فجر يوم النحر ولم يقف بعرفة فقد فاته الحج.ويدل لهذا أيضاً مع الإجماع حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحج عرفه، من جاء ليلة جمعٍ قبل طلوع الفجر فقد أدرك ) وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه جمع من أهل العلم، صححه ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم .
ما يترتب على فوات الحج
إذا فات الإنسان الحج، مثلاً: هذا رجل محرم تعطلت به سيارته، ولم يصل إلى عرفة حتى طلع فجر يوم النحر، ماذا نقول له؟ نقول: يترتب عليك مسائل:المسألة الأولى: فاته الحج، فلا ينفعه حتى لو ذهب ورمى وبات بمزدلفة ومنى، نقول: الحج قد فاتك.. وهذا بالإجماع، وذكرنا الدليل وهو حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي .المسألة الثانية: قال: [فيتحلل بطوافٍ وسعيٍ] ولم يقل: يتحلل بعمرة، فهذه المسألة موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، هل يتحلل بعمرة أو يتحلل بأعمال العمرة؟على رأيين: الرأي الأول: المذهب ومذهب المالكية: أنه يتحلل بأعمال العمرة -يطوف ويسعى ويقصر- ولا تكون عمرة له، واستدلوا على ذلك بقول عمر رضي الله تعالى عنه لـأبي أيوب لما فاته الحج: اصنع كما يصنع المعتمر، وهذا الحديث رواه مالك والشافعي والبيهقي وإسناده صحيح.والرأي الثاني: أنه يتحلل بعمرة، واستدلوا على ذلك أيضاً: بأن عمر رضي الله تعالى عنه أمر رجلاً فاته الحج أن يتحلل بعمرة، وهذا أيضاً رواه البيهقي وإسناده صحيح.فعندنا رأيان: الرأي الأول أنه يعمل أعمال العمرة، وهذا كما قال عمر : اصنع كما يصنع المعتمر، قاله لـأبي أيوب لما فاته الحج.الرأي الثاني: أنه يتحلل بعمرة، واستدلوا أيضاً بما روي عن عمر فإن عمر قال لمن فاته الحج أن يعتمر، وهذا رواه البيهقي وإسناده صحيح.والصواب في هذه المسألة: أنه يتحلل بعمرة، وليس هناك ما يسمى بأعمال العمرة فقط.ويترتب على هذا الخلاف: إذا قلنا بأنه يتحلل بعمرة هل تجزئه ذلك عن عمرة الإسلام أو لا تجزئه عن عمرة الإسلام؟ نقول: نعم، تجزئه عن عمرة الإسلام، ويؤجر عليها كما يؤجر على نسك العمرة.. وهذا الصواب.قال المؤلف رحمه الله: [وينحر هدياً إن كان معه].هذه المسألة الثالثة، فهذا الذي فاته الحج نقول: ينحر هدياً، وأيضاً إيجاب الهدي عليه هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، وفيه رأيان:الرأي الأول: أنه يجب عليه أن يهدي، كما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وقول جمهور أهل العلم.الرأي الثاني: عند الحنفية أنه لا يجب عليه الهدي.فأما الذين قالوا بأنه يجب عليه الهدي، فقالوا: بأنه وارد عن عمر رضي الله تعالى عنه؛ لأن عمر أمر أبا أيوب بالهدي.والحنفية قالوا: لا يجب عليه الهدي، قالوا: لأن عمر أمر الرجل الذي فاته الحج بالعمرة ولم يأمره بالهدي.. فلم يرد أنه أمره بالهدي.وأيضاً ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إنما الهدي على من أفسد حجه بالتلذذ، أما من حصره عدو فإنه يرجع ولا شيء عليه.وعلى هذا: فالأقرب هو ما ذهب إليه الحنفية رحمهم الله، وأنه لا يجب الهدي، نحن قلنا: الصحيح مذهب الحنفية أنه لا يجب عليه الهدي إلا أن يكون ساق الهدي.. فإن ساق الهدي فيتعين الهدي بالسوق، فيجب عليه أن يذبحه.قال: [وعليه القضاء].القضاء لا يخلو من أمرين:الأمر الأول: أن يكون الحج واجباً، فهذا يجب عليه القضاء؛ لأن ذمته لم تبرأ بذلك.الأمر الثاني: أن يكون الحج تطوعاً ليس واجباً، فهل يجب عليه إذا فاته الحج أن يقضي أو لا يجب عليه؟ المؤلف يقول: يجب عليه القضاء، وهو قول جمهور أهل العلم. وهذا الرأي الأول.والرأي الثاني رواية عن الإمام أحمد رحمه الله وبه قال عطاء : أنه لا يجب عليه القضاء إذا كان تطوعاً.والجمهور الذين قالوا: بأنه يجب عليه القضاء استدلوا بقول الله عز وجل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] وهذا لم يتم الحج، فيجب عليه أن يقضيه.وأما رأي الذين قالوا: لا يجب عليه القضاء، فاستدلوا على ذلك بأن الله عز وجل قال: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] فلم يوجب الله في الإحصار إلا الهدي ولم يوجب القضاء، وأيضاً استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحج مرة، فمن زاد فمتطوع ) فكونه يجب عليه الحج إذا فاته، فيكون الحج واجباً عليه أكثر من مرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الحج مرة، فمن زاد فمتطوع).والصواب في هذه المسألة: أنه لا يجب عليه القضاء أيضاً، وأما قوله سبحانه وتعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] فنقول: هذا الحج الذي فاته قد أتمه؛ لأنه تحلل بعمرة، وهو الآن أتم حجه.وحينئذٍ يتلخص لنا في الفوات: أن من فاته الحج فإنه يترتب عليه مسألتان فقط، المسألة الأولى: أنه يتحلل بعمرة، وتجزئه عن عمرة الإسلام، والمسألة الثانية: أن الحج قد فاته، أما إيجاب الهدي والقضاء إذا لم يكن الحج فرضاً فهذا فيه نظر. فالخلاصة نقول: من طلع عليه فجر يوم النحر ولم يقف بعرفة فنقول يترتب عليه مسألتان:المسألة الأولى: فاته الحج.. المسالة الثانية: يتحلل بعمرة ولا شيء عليه.هذا ما يتعلق بالفوات.
الإحصار وأحكامه
الإحصار لم يتعرض له المؤلف رحمه الله لكن نتعرض له نحن فنقول: ‏
تعريف الإحصار
الإحصار في اللغة: المنع.وأما في الاصطلاح: فهو منع الناسك من إتمام نسكه.ونقول: الإحصار يكون عن أربعة أشياء:
الإحصار عن الوقوف بعرفة
الشيء الأول: أن يحصر عن الوقوف بعرفة، يعني: هذا رجل خرج إلى الحج ثم أصابه حادث في الطريق، كأن تعطلت السيارة أو ضل الطريق، أو أصابه حادث، فالآن أحصر عن الوقوف بعرفة، أو وجد زحام ولم يتمكن من الدخول إلى عرفة، فما الحكم هنا إذا أحصر عن الوقوف بعرفة؟ نقول: هذا لا يخلو من أمرين:الأمر الأول: أن يطلع عليه فجر يوم النحر قبل أن يقف بعرفة فهذا نقول: حكمه حكم الفوات.الأمر الثاني: أن يقلب حجه إلى عمرة ويتحلل بعمرة، حتى الآن لم يفت الحج؛ لأنه باقي وقت للوقوف لكن لا يتمكن، فنقول: يقلب حجه إلى عمرة؛ لأن قلب الحج إلى عمرة هذا جائز مع عدم الإحصار، فمع الإحصار من باب أولى.. فيقلب حجه إلى عمرة ويذهب ويتحلل بعمرة ولا شيء عليه.هذا الشيء الأول وهو: إذا أحصر عن الوقوف بعرفة.
الإحصار عن البيت
الشيء الثاني: أن يحصر عن البيت أي: لا يتمكن من البيت فنقول: الله عز وجل يقول: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] أي: يذبح هدياً، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، فإن النبي عليه الصلاة والسلام حصره المشركون عن البيت، فنحر وحلق عليه الصلاة والسلام، فنقول: ينحر الهدي في موضعه الذي أحصر فيه ويحلق رأسه، وهل الحلق واجب أو ليس واجباً؟ الصواب أنه واجب خلافاً للمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فينحر ويحلق كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ يحل.وإذا لم يجد هدياً؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه يجب عليه أن يصوم عشرة أيام ثم يحل. وهذا الرأي الأول. والرأي الثاني: أنه لا يجب الصيام، وهذا هو الصواب.نقول: إذا لم يجد هدياً فلا يجب عليه الصيام وإنما يتحلل كسائر الواجبات فإذا عجز عنها، أي: إذا عجز عن الواجب فإنه يسقط عنه ولا يجب عليه شيء.هذا الشيء الثاني: وهو ما إذا أحصر عن البيت.
الإحصار عن واجب من الواجبات
الشيء الثالث: إذا أحصر عن واجبٍ من واجبات الحج.العلماء يقولون: لا يتحلل، يعني: يستمر على إحرامه ويكمل حجه وعليه دم، فمثلاً: أحصر عن المبيت بمزدلفة بسبب الزحام، فلم يتمكن من المبيت بمزدلفة حتى طلع الفجر، فنقول: لا يتحلل وعليه دم، أو أحصر عن المبيت بمنى، أو أحصر عن الوقوف في الرمي، نقول: لا يتحلل وعليه دم.ويستدلون بقول الله عز وجل: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] وإيجاب الدم كما تقدم فيه الخلاف، ولعله يخفف عن المعذور ما دام أنه لم ينتهض دليل صريح في إيجاب الدم في الواجبات، نقول: يخفف عن المعذور.
الإحصار عن طواف الإفاضة والسعي
الشيء الرابع: الإحصار عن طواف الإفاضة والسعي، فهذا العلماء يقولون: إذا أحصر عن طواف الإفاضة فقط دون البيت، يقولون: لا يتحلل.. هذا المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: إذا أحصر عن طواف الإفاضة لا يتحلل حتى يطوف ويبقى محرماً؛ لأن وقته العمر كله ومثلها السعي أيضاً. وهذا الرأي الأول.والرأي الثاني رأي الشافعية: أنه إذا أحصر عن طواف الإفاضة فإنه يتحلل لكن يفوته الحج، وهذا يتصور، يعني: إنسان مثلاً خرج قبل طواف الإفاضة ولم يطف للإفاضة وتعذر عليه أن يرجع، فعلى مذهب الشافعية يقولون: بأنه يذبح هدياً ويكون محصراً ويكون فاته الحج؛ لأن الركن لم يأت به، لكن على رأي الحنابلة لا يزال محرماً، وهذا فيه مشقة، فقد يكون رجع إلى بلاده في إندونيسيا وهو لم يطف للإفاضة، ويصعب عليه أنه يرجع مرة ثانية فالقول: بأنه يكون محرماً هذا صعب! فالشافعية رحمهم الله قولهم أرجح، لكن نقول: بأن الحج قد فاته؛ لأنه لم يأت بركن من أركان الحج.
الإحصار من غير العدو
المسألة الأخيرة في الإحصار: هل الإحصار خاص بالعدو أو ليس خاصاً بالعدو؟الجمهور أن الإحصار خاص بالعدو، يعني: لو أنه أحصره حادث عن البيت، هل يكون محصراً أو لا يكون محصراً؟ على رأي الجمهور لا يكون محصراً، أو أحصره مرض لا يكون محصراً.. يبقى على إحرامه حتى يقدر على البيت، فإذا أحصره حادث أو مرض أو ضياع نفقة أو ضياع رفقة، يقولون بأنه لا يكون إحصاراً إلا بإحصار العدو.والعلماء يتفقون على ثلاثة أشياء: العدو، والفتنة، والحبس بظلم، فهذه الأشياء الثلاثة يكون فيه الإحصار، وغير هذه الأشياء الثلاثة هل يكون فيها إحصار أو لا يكون؟ الجمهور يقولون: لا يكون فيها إحصار، مثل حادث سيارة أو ضياع نفقة أو المرض فلا يكون محصراً.والحنفية يقولون: يكون محصراً، فلا يخصونه بهذه الأشياء، فإذا أحصره مرض، أو حادث، أو ضياع نفقة، أو ضل الطريق، فيقولون: يكون محصراً، وهذا القول هو الصواب في هذه المسألة. وكون النبي صلى الله عليه وسلم أحصره المشركون هذا لا يمنع أن يكون الإحصار بغير العدو؛ لأن الله عز وجل قال: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] وهذا يشمل العدو وغيره.
الوقوف في غير يوم عرفة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم ذلك، وإن فعل نفر منهم فقد فاتهم الحج].إذا أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير يوم عرفة هذا لا يخلو من أمرين:الأمر الأول: أن يقفوا في اليوم الثامن ويعلموا قبل فوات الوقوف، فإن تمكن الإمام أن يقف بهم في اليوم التاسع وقف بهم، وإن لم يتمكن أجزأهم ذلك، وإن علموا بعد فوات اليوم التاسع أجزأهم، وهذا لا إشكال فيه، لكن إن علموا قبل فوات اليوم التاسع نقول: إن تمكن الإمام أن يذهب وأن يقف بهم وجب، وإن لم يتمكن فإنه يجزئهم.القسم الثاني: إن وقفوا في اليوم العاشر فنقول: وقوفهم صحيح إذا وقع هذا من الحجاج كلهم أو أكثرهم.
زيارة الحاج لقبر النبي صلى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب لمن حج زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه رضي الله عنهما].هذا الكلام فيه نظر؛ لأن هذا الكلام يتضمن شد الرحل إلى القبور، وشد الرحل إلى القبور هذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ) والأحسن في العبارة أن يقول المؤلف رحمه الله: ويستحب لمن حج زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بدلاً من أن يقول: قبر النبي عليه الصلاة والسلام، ويستحب لمن زار المسجد أن يزور النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الكلام الصواب، أما القول هكذا: يستحب من حج زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم هذا فيه نظر؛ لأننا ذكرنا: أن هذا يتضمن شد الرحال لقبر النبي صلى الله عليه وسلم.واعلم أيضاً أن زيارة المسجد النبوي هذه ليست من مناسك الحج، لكن بعض العلماء يذكرونها؛ لأن الناس يأتون من أماكن بعيدة وقد يصعب عليهم الرجوع مرة أخرى، وخصوصاً في الزمن السابق، فهم يأتون من المغرب ومن المشرق ومن أماكن بعيدة، وحتى في يومنا هذا فقد يظل الإنسان سنوات لم يأت إلى مكة، فإذا جاء خرج ولا يعود إلى أن يموت، فقالوا: يستحب لمن جاء إلى هذه البلاد أن يغتنم الفرصة وأن يذهب ويزور المسجد النبوي، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم تشد له الرحال.لكن نعلم أن زيارة المسجد النبوي هذه ليست من مناسك الحج لكنها سنة، فشد الرحل له سنة وقربة يثاب عليها الإنسان مستقلة، لكن قلنا: مناسبة إدخالها في كتاب الحج: أن الناس يأتون من أماكن بعيدة.

مصباح حسن يوسف
2019-04-06, 09:33 AM
بارك الله فيك

ابو وليد البحيرى
2019-04-11, 04:13 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [15]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(61)


الأضحية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، وهي سنة مؤكدةٌ، وتجب بالنذر، ويشترط لصحتها أن تكون من بهيمة الأنعام، وأن يكون لها سن معين، وأن تكون سالمة من العيوب، فلا تجزئ العوراء البين عورها، ولا العجفاء التي لا تنقي، ولا العرجاء البين ضلعها، ولا المريضة البين
باب الهدي والأضحية

تعريف الهدي والأضحية ودليل المشروعية
قال المؤلف رحمه الله: [باب الهدي والأضحية].الهدي: هو ما يهدى للحرم من نعمٍ وغيرها، وسمي بذلك لأنه يهدى إلى الله سبحانه وتعالى.والأضحية: واحدة الأضاحي، ويقال أيضاً: ضحية، وهو ما يذبح من بهيمة الأنعام يوم عيد النحر وأيام التشريق تقرباً إلى الله عز وجل. والهدي والأضحية كل منهما مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.أما الكتاب من ذلك قول الله عز وجل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] وأيضاً قول الله عز وجل: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] فسر بعض العلماء الصلاة هنا بصلاة عيد الأضحى، والنحر بنحر الأضحية.والسنة كثيرة كما سيأتينا إن شاء الله، فالنبي صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة، وشرك علياً رضي الله تعالى عنه، وضحى النبي عليه الصلاة والسلام بكبشين أقرنين أملحين كما سيأتي إن شاء الله.والإجماع قائم على مشروعيتهما في الجملة، وإن اختلف العلماء رحمهم الله في بعض التفاصيل.
حكم الهدي
قال المؤلف رحمه الله: [والهدي والأضحية سنة].قوله: الهدي سنة.. هذا فيه نظر، فالهدي منه ما هو سنة، ومنه ما هو واجب، فهدي التمتع واجب، ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] وهدي القران أيضاً واجب، أما هدي التطوع فهو مستحب، والهدي لفعل محظور من المحظورات واجب، والهدي لترك واجبٍ من الواجبات واجب، وهدي الفوات إذا قلنا به فهو واجب، وهدي الإحصار واجب.فتبين أن الهدي يتنوع إلى أنواع، منه ما هو واجب كهدي المتعة والقران، والهدي لفعل محظور -كما سبق لنا في محظورات الحج- وهدي الفوات إذا قلنا به، وهدي الإحصار والهدي لترك واجب من الواجبات، هذا واجب، وهدي التطوع سنة يستحب أن يهدى إلى بيت الله الحرام من النعم ومن غيرها أيضاً، كأن تهدى الأطعمة وتهدى الأقمشة لفقراء الحرم.
أقوال أهل العلم في درجة مشروعية الأضحية
والأضحية ذكر المؤلف رحمه الله بأنها سنة، فقال: (والهدي والأضحية سنة) الأضحية يتفق العلماء رحمهم الله على أنها مشروعة، ولكن اختلفوا في درجة هذه المشروعية: هل هذه المشروعية على سبيل الوجوب، أو على سبيل الاستحباب؟ للعلماء في ذلك رأيان:الرأي الأول، وهو قول جمهور أهل العلم: أن الأضحية سنة، واستدلوا على أنها سنة بأدلة، منها حديث: ( ثلاث هن علي فرائض ولكم تطوع: النحر والوتر وركعة الضحى ) وهذا الحديث أخرجه البزار والحاكم وابن عدي وهو ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.واستدلوا على ذلك بما ثبت في صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره ) فعلق النبي صلى الله عليه وسلم التضحية على الإرادة، ولو كان واجباً لم يعلق على الإرادة.والجواب عن هذا سهل: فلا يمتنع أن يعلق الواجب على الإرادة، فالصلاة ركن ومع ذلك يصح أن تقول: إذا أراد أحدكم أن يصلي فليتوضأ، فإذا قام الدليل على الوجوب لم يمنع من التعليق على الإرادة.وكذلك أيضاً استدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قام بالواجب عن أمته، فالنبي عليه الصلاة والسلام ضحى عن أمته، فقال: ( اللهم هذا عن أمتي جميعاً من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ ) .وأحسن ما يتمسك به على عدم الوجوب: أن هذا وارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فصح عن أبي بكر وعمر أنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يقول الناس: إنها واجبة، وكذلك أيضاً عن ابن مسعود بسندٍ صحيح أخرجه سعيد بن منصور أنه قال: إني لأدع الأضحية وأنا من أيسركم؛ كراهية أن يعتقد الناس أنها حتم.وكذلك أيضاً ذكره البيهقي عن ابن عباس وابن عمر وبلال ، فهذا الجمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في كونهم يتركون الأضحية، يدل على أنها غير واجبة. وأيضاً: الأصل عدم الوجوب.الرأي الثاني: أنها واجبة على القادر، وهذا ذهب إليه أبو حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال به الليث بن سعد والأوزاعي . واستدلوا على ذلك بأدلة منها:الأمر، كما في قول الله عز وجل: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] فالمراد بالنحر هنا التضحية، والأصل في الأمر الوجوب.وأيضاً استدلوا بما في السنن ورواه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة ، وصححه الحاكم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من وجد سعةً فلم يضح فلا يقربن مصلانا ) لكن الصحيح أنه لا يثبت مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو موقوف.وكذلك أيضاً استدلوا بحديث أبي هريرة في مسند أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن على أهل كل بيتٍ أضحية كل عام وعتيرة ) وهذا أيضاً لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالراجح في هذه المسألة: أن الأضحية سنة مؤكدة وأنها ليست واجبة، وأنه يكره للقادر أن يتركها، فإذا كان الإنسان قادراً فإنه يكره له أن يتركها.
الأضحية الواجبة
قال المؤلف رحمه الله: [لا تجب إلا بالنذر].الأضحية -كما تقدم تقريره- سنة، لكنها تجب بالنذر لحديث عائشة في صحيح البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) فلو قال: لله علي أن أضحي هذا العام، أو قال: نذر علي أن أضحي أو: هذه الشاة نذرتها أضحية، فتجب الأضحية في هذه الحالة.
أفضلية التضحية بالنعم على الصدقة بها
قال رحمه الله: [والتضحية أفضل من الصدقة بثمنها].وإنما كانت التضحية أفضل من الصدقة بثمنها؛ لأن هذا هو اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا لو اشترى أضحية بثلاثمائة ريال أو أربعمائة ريال وتصدق بثمانمائة ريال، فنقول: كونه يشتري أضحية بأربعمائة ريال ويذبحها أفضل من كونه يتصدق بثمانمائة ريال؛ لأمور:أولاً: لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو التضحية.ثانياً: العمل بالسنة وإحياء السنة.ثالثاً: لأن إراقة الدم عبادة مقصودة لله عز وجل في الأضحية والهدي، يتعبد بهما الله عز وجل.رابعاً: لأن الأضحية في كل ملة، كما قال ابن القيم رحمه الله: في كل ملةٍ صلاة ونسيكة، لا يقوم غيرها مقامها.خامساً: لأن الإنسان إذا ضحى فإنه يأتي بعبادة الوقت، بخلاف الصدقة فإن الصدقة مشروعة على الدوام، فمن هذه الوجوه الخمسة تكون التضحية أفضل من الصدقة بثمن الأضحية.
مراتب الأضحية في الأفضلية
قال المؤلف رحمه الله: [والأفضل فيهما: الإبل، ثم البقر، ثم الغنم].هذا إذا أخرج كاملاً، فجنس الإبل إذا أخرج كاملاً أفضل من جنس البقر، وجنس البقر أفضل من جنس الغنم؛ لكثرة الثمن ونفع الفقراء، أما إذا أراد أن يضحي بسبع بدنة أو سبع بقرة فالأفضل الغنم، فكونه يخرج شاة -جذع ضأن أو ثني معز- أفضل من كونه يذبح أو يضحي أو يهدي بسبع بدنة أو سبع بقرة.ولكن ما الأفضل من هذه الإبل والبقر والغنم؟ أما من حيث الجنس إذا أراد أن يخرج كاملاً فالإبل ثم البقر ثم الغنم، ولكن إذا أراد أن يخرج شاةً أو بقرةً أو بعيراً، فما هو الأفضل من ذلك؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله : أن الأفضل الأسمن، ثم بعد ذلك الأغلى ثمناً، ثم بعد ذلك الأملح، فالترتيب عندهم: الأسمن، ثم بعد ذلك الأغلى ثمناً، ثم بعد ذلك الأشهب وهو الأملح، وبعد الأملح الأصفر.والرأي الثاني: أن الفضيلة على قدر الثمن مطلقاً، سواء أكان أصفر أم أملح أم غير ذلك، المهم على قدر الثمن، فكلما كان الشيء أغلى كان أفضل، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهو الأقرب.وأيهما أفضل: الضأن أم المعز؟ العلماء رحمهم الله يقولون: جذع الضأن أفضل من ثني المعز.
من مستحبات الأضحية
قال رحمه الله: [ويستحب استحسانها واستسمانها].يستحب للإنسان إذا أراد أن يخرج الأضحية أن يتحرى الأضحية الحسنة.. الأضحية السمينة؛ لما في ذلك من تعظيم شعائر الله، والله عز وجل يقول: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] ولحديث أنس في صحيح البخاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أقرنين أملحين )، فقوله: (أملحين)، هذا يدل على أنه يستحب استحسان الأضحية وأيضاً استسمانها، لما تقدم من الآية.
شروط إجزاء الأضحية
قال رحمه الله: [ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن والثني مما سواه].الأضحية يشترط لصحتها شروط: الشرط الأول: أن تكون من بهيمة الأنعام، أي: من الإبل أو البقر أو الغنم، والغنم يشمل المعز والضأن، وعلى هذا فلو ضحى بغير بهيمة الأنعام فإنه لا يجزئ، لو ضحى بغزال مثلاً، ولو أنها قد تكون أغلى من النعم، فإن هذا غير مجزئ، أو ضحى بحمار وحشي فإن هذا نقول: بأنه غير مجزئ اقتصاراً على النص.الشرط الثاني: السن، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن والثني مما سواه) والسن بالنسبة للضأن: الجذعة، وهو ما له ستة أشهر، وبالنسبة لما عداه الثني، فالمعز ما يكون له سنة، والبقر ما يكون له سنتان، والإبل ما يكون له خمس سنوات، ويدل لذلك حديث جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تذبحوا إلا مسنة ) والمسنة: هي الثنية، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن تعسر عليكم، فتذبحوا جذعةً من الضأن ) وهذا أخرجه مسلم في صحيحه.وأيضاً حديث عقبة بن عامر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم بين أصحابه ضحايا فصار لـعقبة جذعة، فقال: يا رسول الله! صارت لي جذعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ضح بها ) وهذا في الصحيحين.قال رحمه الله: [وثني المعز ما له سنة، وثني الإبل ما كمل له خمس سنين، ومن البقر ما له سنتان].ثني المعز: ما له سنة ودخل في الثانية، وثني الإبل: ما له خمس سنوات ودخل في السادسة، والبقر: ما له سنتان ودخل في الثالثة، والدليل على أنه تذبح الثنية كما تقدم من الأحاديث: حديث جابر وحديث عقبة رضي الله تعالى عنهم، والأسنان هذه هي مقتضى اللغة العربية.
التشريك في الأضحية
قال رحمه الله: [وتجزئ الشاة عن واحدٍ، والبدنة والبقرة عن سبعة].يعني: الشاة الواحدة تجزئ عن الواحد وعن أهل بيته وعياله، ودليل هذا حديث أبي أيوب ، قال: ( كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون ) وهذا الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه ، والإمام مالك ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.فهذا يدل على أن الشاة الواحدة تكفي عن الرجل وعن أهل بيته وعياله، وإذا كان للشخص أكثر من بيت، كأن يكون له زوجتان أو ثلاث زوجات، تكفي شاة واحدة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته ومع ذلك كان له تسعة أبيات.وقوله: (وتجزئ الشاة عن واحدٍ)، نقول: التشريك في الأضحية ينقسم إلى قسمين:القسم الأول: التشريك في الثواب، فالإنسان له أن يشرك في الثواب من شاء، يعني: يضحي ويشرك من شاء، يشرك أقاربه الأحياء والأموات، فالجميع له أن يشركهم في الثواب، فنقول: هذا جائز ولا بأس به، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم شرك، فقال: ( عن أمتي جميعاً من شهد لك بالتوحيد ولي بالبلاغ ) فكون الإنسان يذبح الأضحية ويشرك أقاربه الأحياء والأموات في ثوابها، نقول: هذا جائز ولا بأس به، وهو على خير.القسم الثاني: التشريك في الملك، وذلك بأن يشترك بيتان في أضحية، فهذا لا يجزئ. مثلاً: هذا الرجل عنده بيت، وجاره عنده بيت، فيشتركان، هذا يدفع نصف القيمة وهذا يدفع نصف القيمة، نقول: بأن هذا غير مجزئ؛ لأن الأصل أن يضحي الإنسان بشاة كاملة ولا يضحي ببعض شاة، فهذا لم يرد، ولكن لو اشترك أهل بيت في أضحية فكل واحد دفع واشتروا أضحية. مثلاً: المرأة وزوجها.. الزوج دفع نصف الأضحية والمرأة دفعت نصف الأضحية، أو أخوان في بيت واحد يسكنانه، هذا دفع النصف وهذا دفع النصف، فهذه المسألة موضع خلاف، والأظهر أن هذا جائز ولا بأس به؛ لحديث أبي الأسد في مسند الإمام أحمد رحمه الله، أنهم كانوا سبعة، واشتركوا في الأضحية، فنقول: إذا كان في بيت واحد يظهر أن هذا مجزئ ولا بأس به إن شاء الله.وقوله: (والبدنة والبقرة عن سبعة) التشريك في الملك كما تقدم لا يجزئ إلا عن أهل بيت إذا كانت شاةً واحدة، أما إذا كانت بدنةً أو بقرةً، فإن البقرة تجزئ عن سبعة أبيات، والبقرة أيضاً تجزئ عن سبعة أبيات؛ لحديث جابر رضي الله تعالى عنه في مسلم ، قال: ( أمر صلى الله عليه وسلم أن يشتركوا في الإبل والبقر كل سبعة في واحدٍ منهما ) وهذا أخرجه مسلم في صحيحه، فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس به إن شاء الله، فالاشتراك في البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، سواء أراد كل منهم الأضحية أو لا. فلو أن سبعة أشخاص هذا الأول أراد الأضحية، والثاني أراد هدي المتعة، والثالث أراد هدي القران، والرابع أراده هدياً عن ترك واجب، والخامس أراده هدياً عن فعل محظور، والسادس أراده تطوعاً، والسابع أراد أن يأكله لحماً، واشتركوا في إبل أو في بقر، نقول: بأن هذا جائز ولا بأس به.
عيوب الأضحية
قال رحمه الله: [ولا تجزئ العوراء البين عورها].هذا الشرط الثالث من شروط صحة التضحية، ذكرنا الشرط الأول: أن تكون من بهيمة الأنعام، والشرط الثاني: السن، والشرط الثالث: السلامة من العيوب المانعة من الإجزاء، والعيوب تنقسم إلى قسمين: عيوب مانعة من الإجزاء، وعيوب مانعة من الكمال.
العوراء
ذكر المؤلف رحمه الله العيوب المانعة من الإجزاء، فقال: (ولا تجزئ العوراء البين عورها).العوراء البين عورها هذه تحتها صور: الصورة الأولى: التي انخسفت عينها، فهذه غير مجزئة، لأنها عوراء بين عورها.الصورة الثانية: التي نتأت عينها.. خرجت عينها، أيضاً نقول: بأن هذه لا تجزئ.الصورة الثالثة: التي على عينها بياض، أي: أن العين لم تنخسف ولم تخرج، ولكن عليها شيء من البياض، فهذه تجزئ؛ لأنها عوراء وعورها ليس بيناً.الصورة الرابعة: العمياء التي لا تبصر، فهذه أيضاً لا تجزئ، لأنها أشد من العوراء.الصورة الخامسة: أن تكون عينها قائمة ولكنها لا تبصر بها، فنقول: بأن هذه تجزئ، فهي ليست عمياء.. تبصر بإحدى العينين، وإحدى العينين قائمة لكنها لا تبصر بها، فهذه نقول: بأنها تجزئ.الصورة السادسة: العشواء، وهي التي تبصر في النهار ولا تبصر في الليل، فهذه نص الشافعية على أنها مجزئة؛ لأن عورها ليس بيناً.فتلخص لنا: أن العوراء تحتها ست صور، من هذه الصور ما هو مجزئ ومنه ما ليس بمجزئ.
العجفاء
قال رحمه الله: [ولا العجفاء التي لا تنقي].العجفاء: هي التي ذهب مخ عظمها وشحم عينها، فالعجفاء الهزيلة التي لا مخ فيها، وعلى هذا نقول: العجفاء تحتها ثلاث صور:الصورة الأولى: أن تكون هزيلةً ليس في عظامها مخ، يعني: إذا كسرت العظم لا تجد فيه ودكاً.. تجد العظم أحمر، فهذه هزيلة عجفاء لا تنقي، فلو ذبحها ثم كسرنا العظم لم نجد فيه شيء.. لم نجد فيه ودك، فهذه نقول: بأنها لا تجزئ، فنقول: الصورة الأولى: هزيلة ليس في عظامها مخ، هذه غير مجزئة.الصورة الثانية: سمينة وليس في عظامها مخ، وذلك بأن يأتي الربيع، وتأكل وتشبع ويحصل لها السمن، لكن حتى الآن لم يحصل مخ في عظامها، فهذه تجزئ.الصورة الثالثة: عكس الثانية، وهي هزيلة لكن في عظامها مخ، وهذه أيضاً نقول: بأنها مجزئة.فأصبح عندنا العجفاء: هزيلة ليس في عظامها مخ، لا تجزئ، وسمينة ليس في عظامها مخ، مجزئة، وهزيلة في عظامها مخ، وهذه مجزئة.
العرجاء
قال رحمه الله: [ولا العرجاء البين ظلعها].هذه الثالثة: العرجاء البين ظلعها، وهذه تحتها صور:الصورة الأولى: العرجاء التي لا تطيق مشياً مع الصحيحة، يعني: فيها عرج وعرجها هذا يجعلها تتأخر عن الغنم، فهذه نقول: بأنها غير مجزئة.الصورة الثانية: العرجاء التي لا يمنعها عرجها من معانقة السليمة، فيها عرج لكن مع ذلك العرج يسير، وتستطيع أن تجاري الغنم، وتمشي مع الغنم ولا تتأخر عن الغنم، وهذه نقول: بأنها تجزئ؛ لأنها عرجاء وعرجها ليس بيناً.الصورة الثالثة: أن تكون مكسورة اليد أو الرجل، وهذه نقول بأنها لا تجزئ، فهي أشد من العرجاء؛ لأنها لا تمشي.الصورة الرابعة: أن تكون مقطوعة اليد أو الرجل، هذه أيضاً نقول: بأنها لا تجزئ.الصورة الخامسة: التي لا تستطيع المشي لسمنها، ليست عرجاء وليست مكسورة اليد ولا مكسورة الرجل، لكن لسمنها ولكثرة شحمها لا تستطيع أن تمشي وأن تعانق الغنم، فهذه نص المالكية على أنها مجزئة لعدم العاهة؛ لأن الذي منعها من المشي هو كثرة السمن، وهذا مطلوب، وكما تقدم لنا أن المؤلف رحمه الله يقول: (يستحب استسمانها واستحسانها)، فهذه كلها داخلة تحت قول المؤلف رحمه الله: (ولا العرجاء البين ظلعها).
المريضة
قال رحمه الله: [ولا المريضة البين مرضها].المريضة البين مرضها هذه تحتها صور:الصورة الأولى: المريضة التي مرضها بين، بأن يظهر عليها آثار المرض كالحمى التي تقعدها عن المرعى، وكالجرب الظاهر المفسد للحمها، وغير ذلك مما يعده الناس مرضاً، فنقول: بأن هذه غير مجزئة، ومثل ذلك الآن ما يوجد من الطلوع التي توجد في البهائم، أعني: الطلوع الحية، فإذا كانت يابسة، فهذه مجزئة إن شاء الله، لكن الطلع الذي يوجد في البهائم إذا كان حياً ليس يابساً فهذا مرض ظاهر فتكون هذه مريضة بين مرضها، ونقول: بأنها لا تجزئ. الصورة الثانية: المريضة التي مرضها ليس بيناً، كأن يكون فيها حمى يسيرة لا تقعدها عن المرعى، ونحو ذلك من الأشياء التي لا تكون بينةً، فهذه نقول: بأنها مجزئة.الصورة الثالثة: ما أخذها سبب الموت، وهذه نقول: لا تجزئ، كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، حتى تنجو، فالتي سقطت من علو، ثم أخذها سبب الموت، كما لو أنها متردية -سقطت من علو- أو نطيحة أو صدمت، ثم أخذها صاحبها وذبحها بنية الأضحية، هذه لا تجزئ؛ لأن هذه مريضة بين مرضها، حتى تنجو وتشفى.الصورة الرابعة: المبشومة حتى تثلط، وما هي المبشومة؟ المبشومة: هي التي أكلت حتى انتفخ بطنها، فهذه لا تجزئ حتى تثلط، أي: حتى تخرج الذي في بطنها.الصورة الخامسة: ما أخذها سبب الولادة حتى تنجو، يعني: إذا بدأ بها سبب الولادة ثم أخذها صاحبها وضحى بها، فنقول: لا تجزئ حتى تنجو وتسلم؛ لأن الولادة من أسباب الهلاك.وهذا الأربعة التي ذكرها المؤلف رحمه الله دل لها حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، قال: ( قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والعجفاء التي لا تنقي ) وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي والإمام أحمد وابن الجارود والحاكم والبيهقي وغيرهم، وهذا الحديث صحيح ثابت، وصححه جمع من أهل العلم، منهم الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والذهبي وغيرهم.هذه الأربع وما تحتها من الصور هي العيوب التي تمنع من الإجزاء، وما عدا ذلك فالأصل فيه أنه مجزئ ولا بأس به.
العضباء
قال المؤلف رحمه الله: [ولا العضباء التي ذهب أكثر قرنها أو أذنها].ما هي العضباء؟ فسرها؛ فقال: التي ذهب أكثر قرنها أو أذنها، فيقول المؤلف رحمه الله بأنه لا تجزئ العضباء، ودليل ذلك حديث علي رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضحى بأعضب الأذن والقرن ) أي: الذي قطع منه أكثر القرن أو كله، أو أكثر الأذن أو كلها، وهذا أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن ماجه.والصحيح في ذلك: أن أعضب الأذن والقرن يجزئ، والجواب عن الحديث من وجهين:الوجه الأول: أن هذا الحديث في ثبوته نظر.الوجه الثاني: على فرض ثبوت الحديث، فنقول: النهي هنا للتنزيه؛ لأن حديث البراء النبي صلى الله عليه وسلم ذكره على وجه البيان؛ لأنه قام خطيباً في الناس، وقال: (أربع لا تجوز في الأضاحي)، وما عداها دليل على أنه جائز.والرأي الثاني أعني الإجزاء هو مذهب الشافعية، وأما الحنابلة يقولون: لا تجزئ فالشافعية يقولون: بأنه يجزئ، وهذا القول هو الصواب.وقول المؤلف رحمه الله: (التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها) يفهم منه: أنه لو كان الذاهب بعض القرن أو بعض الأذن مثلاً: قطع بعض أذنها أو بعض قرنها، ما هو الحكم: أيجزئ أم لا يجزئ؟ نقول: هذا مجزئ ولا بأس به، بل يفهم منه: أنه لو قطعت نصف الأذن ونصف القرن فإنها تجزئ.إذاً الأقسام ثلاثة: القسم الأول: ذهب أكثر الأذن أو أكثر القرن، يقول المؤلف: لا تجزئ، وذكرنا أن مذهب الشافعية أن هذا مجزئ ولا بأس به، حتى المالكية كلامهم قريب من مذهب الشافعية، أنه يقولون بالإجزاء، وإن كانوا يشترطون.القسم الثاني: أن يذهب نصف القرن أو الأذن.القسم الثالث: أن يذهب دون النصف، أي: أقل من النصف، فهذه مجزئة عند الحنابلة وعند الشافعية.
الجماء والبتراء
قال رحمه الله: [وتجزئ البتراء والجماء].الجماء: هي التي لم يخلق لها قرن، فيقول المؤلف رحمه الله بأنها تجزئ، وهذا باتفاق الأئمة.وقوله: (البتراء) البتراء: هي التي لا ذنب لها، سواء كان ذلك خلقةً أو مقطوعاً. واعلم أن عندنا أمرين: ذنب وإلية، الذنب يكون بأي شيء؟ يكون في المعز، وأيضاً غيره من البقر والإبل، فالبقر ليس لها إلية والإبل ليس لها إلية، وإنما لها ذنب، فقطع الذنب هذا لا يمنع من الإجزاء؛ لأنه ليس مقصوداً، يعني: وإن كان فيه جمال وأيضاً ينتفع به الحيوان، إلا أنه ليس عضواً مقصوداً كاليد وكالرجل ونحو ذلك.فنقول: بأن الذنب قطعه هل يمنع من الإجزاء؟ الجواب: بأنه لا يمنع من الإجزاء.الثاني: ما له إلية، مثل الضأن، فالإلية هذه فيها تفصيل: إذا قطعت الإلية فلا يجزئ، وإذا قطع أكثر الإلية فإنه لا يجزئ وإذا قطع النصف أو أقل من النصف فإنه مجزئ، وإنما لا يجزئ إذا قطعت كل الإلية أو أكثرها؛ لأن الإلية عضو مقصود، فالشحم ينتفع به الناس، فالإلية عضو مقصود للحيوان ينتفع به، فنقول بأنه لا يجزئ.

ابو وليد البحيرى
2019-04-11, 04:17 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [16]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(62)


ما كان مخصياً أو مجبوباً جاز الأضحية به، والسنة في الإبل النحر معقولة اليد اليسرى، والذبح بالنسبة للبقر والغنم، والسنة في الدعاء أن يقتصر بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووقت الذبح يبدأ من بعد صلاة العيد إلى آخر أيام التشريق، وتتعين الأضحية أو الهدي
الخصي في الأضحية
قال المؤلف رحمه الله: [وتجزئ الجماء والبتراء والخصي، وما شقت أذنها أو خرقت أو قطع أقل من نصفها].وهذا تقدم أن تكلمنا عليها فيما يتعلق بالجماء، وذكرنا أن الجماء: هي التي لم يخلق لها قرن، فهذه تجزئ باتفاق الأئمة. قوله: (والبتراء) أيضاً البتراء: هي التي لا ذنب لها خلقةً أو مقطوعاً، وذكرنا أن البتراء تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون المبتور ذنباً، كما في الإبل والبقر والغنم فهذه تجزئ. والقسم الثاني: أن يكون المبتور إليةً، فهذه ذكرنا فيها التفصيل.قوله: (والخصي).الخصي: هو ما قطعت خصيتاه، فهذا يجزئ.ويدل لذلك حديث أبي رافع رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوءين ) يعني: مخصيين، وهذا رواه الإمام أحمد رحمه الله؛ ولأن الإخصاء يزيد في سمن البهيمة وطيب لحمها.والخصي ينقسم إلى قسمين:القسم الأول: ما قطعت خصيتاه فقط، فهذا يجزئ.القسم الثاني: أن يكون خصياً مجبوباً، يعني: قطعت خصيتاه وقطع أيضاً ذكره، فجمع بين قطع الخصيتين وبين قطع الذكر، فهل يجزئ أو لا يجزئ؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه إذا كان خصياً مجبوباً أنه لا يجزئ، والأقرب في ذلك الإجزاء؛ لأننا سبق أن ذكرنا أن الذي لا يجزئ هو ما دل عليه حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، وما كان في معنى تلك العيوب التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم.قوله: (وما شقت أذنها أو خرقت أو قطع أقل من نصفها).تقدم الكلام على العضباء، وأن العضباء: هي التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها، وهل يجزئ أو لا يجزئ؟ تقدم الكلام على هذه المسألة، وذكرنا أن الصواب في هذه المسألة أنه مجزئ ولا بأس به.
ذبح الأضحية

كيفية ذبح الأضحية
قال المؤلف رحمه الله: [والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى].يدل لذلك القرآن والسنة:أما القرآن فقول الله عز وجل: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [الحج:36] أي: قياماً على ثلاث قوائم.وأيضاً قول الله عز وجل: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36] وهذا يدل على أنها قائمة، فقوله: (وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) يعني: سقطت على جنبها، فهذا مما يدل على أنها قائمة.ومن السنة حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( أنه أتى على رجلٍ قد أناخ راحلته فنحرها، فقال: ابعثها قياماً مقيدةً سنة محمد صلى الله عليه وسلم ).قوله: [وذبح البقر والغنم على صفاحها].يعني: البقرة تذبح ذبحاً، ويدل لذلك قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] وأيضاً حديث أنس رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين ) وفي رواية: ( أقرنين ) قال: ( فرأيته واضعاً قدمه على صفاحهما، يسمي ويكبر فذبحهما بيده )، وهذا أخرجه البخاري في صحيحه.
ما يقال عند الذبح
قال المؤلف رحمه الله: [ويقول عند ذلك: بسم الله، والله أكبر، اللهم هذا منك ولك].قوله: (يقول: باسم الله، والله أكبر).هذا كما تقدم في حديث أنس رضي الله تعالى عنه، قال: ( فرأيته واضعاً قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر ) والتسمية شرط من شروط صحة التذكية، لحديث رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ) فاشترط النبي صلى الله عليه وسلم للحل شرطين: الشرط الأول إنهار الدم، والشرط الثاني ذكر اسم الله عز وجل، وأما التكبير فسنة.قوله: (اللهم هذا منك ولك).أيضاً يقول المؤلف رحمه الله: يستحب أن يقول عند الذبح: اللهم هذا منك ولك، ومعنى قوله: (هذا منك ولك) أي: هذا من فضلك ونعمتك لا من حولي ولا قوتي، ولك التقرب لا إلى من سواك، ويدل لذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبح، قال: باسم بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ) رواه مسلم.فالأحسن للمسلم أن يقتصر على السنة، وأن يقول: باسم الله، كما ورد، ويقول: الله أكبر، ويقول: اللهم تقبل من فلان ومن آل فلان، هذا هو الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأما قول: (اللهم هذا منك ولك) فهذا لا أعرف فيه سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الثابت كما أسلفنا، هو قول: ( اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ).
صفات ذابح الأضحية
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم، وإن ذبحها صاحبها فهو أفضل].بالنسبة للذابح الأفضل أن يتولى صاحبها ذبحها، ويدل لهذا كما تقدم في حديث أنس قال: ( فرأيته واضعاً قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر )، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي تولى ذبح الأضاحي وتولى ذبح الهدايا، فذبح بيده ثلاثاً وستين بدنة، فالأفضل للإنسان أن يتولى الذبح بنفسه إن كان يحسنه، لعدة أمور:الأمر الأول: أن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أنس السابق، وحديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح بيده ثلاثاً وستين بدنة ).الأمر الثاني: أن هذا الذبح عبادة يؤجر عليها الإنسان، فكون الإنسان يتولى الذبح بنفسه فهذه عبادة يؤجر عليها.الأمر الثالث: أن الإنسان إذا تولى الأمر بنفسه فإنه يكون أكثر طمأنينة إلى تحقق الشروط الشرعية في هذه العبادة مما لو وكل غيره، فهو يتحقق من التسمية ويتحقق من إنهار الدم.فإن تولاها بنفسه قلنا: هذا هو الأفضل، أما إذا كان لا يحسن ذلك، أو كان معذوراً ونحو ذلك فإنه يوكل.
التوكيل في الأضحية
قوله: [ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم].إذا وكل فإن هذا لا يخلو من أمرين:الأمر الأول: أن يوكل مسلماً، فهذا التوكيل صحيح بالاتفاق، وإذا وكل مسلماً فإنه يستحب أن يشهدها ويحضرها إذا لم يتولاها بنفسه.الأمر الثاني: أن يوكل كتابياً، يعني: ممن تحل ذبيحته كاليهودي والنصراني، وهذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، هل تصح تذكية الكتابي للأضحية أو لا تصح؟ هذا فيه ثلاثة آراء للعلماء:الرأي الأول: أنها تصح؛ لأن الكتابي من أهل التذكية، فإذا ذبح الأضحية فإن هذا جائز ولا بأس به، ولأن الكافر يتولى ما يكون قربةً كبناء المسجد، فهذا لا بأس.الرأي الثاني: أنه لا تجزئ تذكية الكتابي، وهذه رواية عن الإمام أحمد رحمه الله.الرأي الثالث: وهو رواية للإمام أحمد أنه لا يجزئ تذكية الكتابي للإبل خاصة، وما عدا ذلك فإنه مجزئ.
وقت ذبح الأضحية
قال المؤلف رحمه الله: [ووقت الذبح يوم العيد بعد صلاة العيد].هذا هو الشرط الرابع من شروط صحة التذكية، ذكرنا شروطاً:الشرط الأول: أن يكون ذلك من بهيمة الأنعام.والشرط الثاني: السن المعتبر شرعاً.والشرط الثالث: السلامة من العيوب المانعة من الإجزاء. وهذا هو الشرط الرابع من شروط صحة التذكية: وهو أن يكون الذبح في وقته المعتبر شرعاً، إذا ورد له حد من الشارع فيشترط أن يكون في وقته المعتبر شرعاً، فما هو وقت ذبح الأضحية؟
آراء العلماء في وقت الذبح
قوله: (ووقت الذبح يوم العيد بعد صلاة العيد).هذا المشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة : أن ذبح الأضاحي يبدأ يوم العيد من بعد صلاة العيد.والرأي الثاني: مذهب الشافعي رحمه الله: أنه من بعد مضي قدر الصلاة، سواء صلى الإمام أو لم يصل.الرأي الثالث: مذهب مالك رحمه الله: أنه من بعد ذبح الإمام، فأشدها مذهب مالك ، ويقابله مذهب الشافعية، والمذهب الوسط مذهب الحنابلة والحنفية، فالحنابلة والحنفية يقولون: من بعد الصلاة، وهذا ظاهر، فإذا صليت فابدأ الذبح.والرأي الثاني لا يقيد بالصلاة وإنما إذا مضى قدر الصلاة، سواء صلوا أو لم يصلوا، فمثلاً: صلاة العيد يدخل وقتها بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، فإذا مضى قدر الصلاة كأن طلعت الشمس وارتفعت قيد رمح ومضى قدر الصلاة، وقدر الصلاة مثلاً: ثلث ساعة، فإذا مضى ثلث ساعة بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح فما الحكم هنا؟ يقولون: بأن الوقت قد دخل، حتى ولو كان الناس يصلون، المهم إذا مضى قدر الصلاة بعد دخول وقتها فالشافعية رحمهم الله يرون أن الذبح قد حل.ولكل منهم دليل، أما الذين قالوا: بأن الذبح يبدأ من بعد الصلاة، فاستدلوا بحديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعل فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء )، هذا في الصحيحين.وحديث البراء ظاهر، ومثله أيضاً حديث جندب البجلي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى ) وهذا في الصحيحين. أما الشافعية فيستدلون على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الذبح على فعل الصلاة، والمراد الزمن، بدليل أهل البوادي الذين لا يصلون مع أن عندهم صلاة عيد، فماذا يعتبرون؟ قالوا: هذا دليل على أن المعتبر هو مضي الزمن.أما رأي مالك رحمه الله فإنه يستدل على هذا بحديث جابر رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم يوم النحر بالمدينة، فسبقهم رجال فنحروا، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم كل من نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحر حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم )، وحديث جابر في مسلم .والصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه الحنابلة والحنفية: وأن الأمر معلق بفعل الصلاة، وأما حديث جابر هذا فأجاب عنه النووي رحمه الله وغيره: أن المراد بذلك الزجر عن التسرع إلى الذبح الذي قد يؤدي إلى الذبح قبل الوقت.وأما دليل الشافعية وأنه المعتبر الزمن بدليل من لا يصلي، فهذا ضعيف، ونقول: هذا اجتهاد في مقابلة النص، ولا اجتهاد مع النص، فتبين لنا أن وقت ذبح الأضحية يبدأ من بعد فعل الصلاة.هذا بالنسبة لمن يصلي، أما بالنسبة لمن لا يصلي كأهل البوادي أو القرى الذين ليس عندهم عيد فهؤلاء يقدرون، فإذا مضى قدر الصلاة فإنهم يذبحون، فإذا قلنا: بأن الصلاة تستغرق ثلاثين دقيقة، أو عشرين دقيقة، فإذا مضى قدر الصلاة فإنهم يذبحون.وقال بعض العلماء -كما قال الإمام مالك رحمه الله-: بأنهم يذبحون من بعد ذبح أقرب الأئمة إليهم، فينظرون من أقرب الأئمة إليهم ويذبحون بذبحه.والصواب في ذلك: ما ذهب إليه أهل الرأي الأول وهو قول الحنابلة: أن المعتبر بذلك مضي قدر الصلاة، وأيضاً هو قول الشافعية، لكن الشافعية يضيفون على ذلك يقولون: إن المعتبر مضي قدر الصلاة والخطبة، والحنفية يقولون: بعد طلوع الفجر الثاني، والرأي الأخير رأي مالك : أنه بعد ذبح أقرب الأئمة إليه، والأقرب في ذلك ما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله.
مدة ذبح الأضحية
قال المؤلف رحمه الله: [إلى آخر يومين من أيام التشريق].فتكون مدة الذبح ثلاثة أيام: يوم العيد ويومان بعده، فأيام الذبح ثلاثة، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، وهو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله، واستدلوا على ذلك بأن الله عز وجل قال: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28] والأيام المعلومات جمع، وأقل الجمع ثلاثة: يوم العيد ويومان بعده، فدل ذلك على أن أيام الذبح تكون ثلاثة أيام.والرأي الثاني: مذهب الشافعي واختاره شيخ الإسلام وابن القيم : أن أيام الذبح أربعة وليست ثلاثة، يوم العيد وثلاثة أيامٍ بعد يوم العيد، واستدلوا على ذلك بحديث نبيشة الهذلي رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيام التشريق أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله عز وجل ) فقال: (وذكرٍ لله عز وجل) ومن ذكره ذكره عند الذبح: التسمية والتكبير، وقول: اللهم تقبل، وأيام التشريق ثلاثة، بالإضافة إلى يوم العيد فتكون أربعة، وقال ابن القيم رحمه الله: بأن أيام التشريق تتحد أحكامها، فيحرم فيها الصيام ويشرع فيها الرمي بعد الزوال، ويشرع فيها البيتوتة بمنى في تلك الليالي، فلا يبقى إلا الذبح.والذبح كما قلنا: أكثر أهل العلم يقولون بأن الذبح في اليوم الأول والثاني، واليوم الثالث من أيام التشريق لا يوجد ذبح، فيقول ابن القيم رحمه الله: الذبح أيضاً كسائر الأحكام، كما أن هذه الأيام لا صيام فيها، وهذه الأيام فيها الرمي وفيها التكبير وفيها البيتوتة بمنى ليالي أيام التشريق، فكذلك أيضاً يكون فيها الذبح.وورد أيضاً في حديث جبير بن مطعم أنه قال: ( كل أيام التشريق ذبح )، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد رحمه الله، لكنه مرسل.وعلى كل حال: فالصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية : أن أيام التشريق كلها يذبح فيها، وعلى هذا تكون الأيام للذبح أربعة: يوم العيد وثلاثة أيام بعدها.
الذبح في ليالي أيام التشريق
الذبح في ليالي أيام التشريق هل يكره أو لا يكره؟ أما الإجزاء فإنه مجزئ، لكن هل يكره أو لا يكره؟أكثر أهل العلم على الكراهة، يعني: الذين يقولون يكره أن يذبح في الليل، ويستدلون على ذلك بحديث عطاء بن يسار : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الذبح بالليل ) وهذا رواه ابن حزم وهو ضعيف ولا يثبت.وعلى هذا نقول: الصواب في هذه المسألة أنه لا كراهة، كما ذهب إليه ابن حزم وقال به بعض الحنابلة، لكن الأفضل أن يذبح نهاراً، فالذبح نهاراً هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والأفضل أن يذبح يوم العيد؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ما تتعين به الأضحية والهدي
قال المؤلف رحمه الله: [وتتعين الأضحية بقوله: هذه أضحية، والهدي بقوله: هذا هدي، وإشعاره وتقليده مع النية].بم يتعين الهدي والأضحية؟ نقول: بأن الأضحية والهدي كل منهما يتعين بأمور: الأمر الأول: القول، بأن يقول: هذا هدي، أو يقول: هذه أضحية، أو يقول: هذا لله عز وجل، فإنه يتعين بذلك.الأمر الثاني: الفعل، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وإشعاره وتقليده) الإشعار: هو أن يشق جانب السنام الأيمن من الإبل أو البقر، والتقليد: أن يعلق في عنق البهيمة شيء ليدل على أنها هدي، فالتقليد والإشعار سنة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم لهما، لكن التقليد ليس خاصاً، فالتقليد يكون في الإبل وفي البقر وفي الغنم، وأما الإشعار فإنه خاص بالإبل والبقر، أما الغنم والضأن فلا إشعار فيها؛ لأن الشق هذا يستتر بالصوف والشعر، بخلاف البقر وخلاف الإبل، هذان أمران.الأمر الثالث: النية حال الشراء أو السوق، فإذا نوى حال شرائه أنه أضحية، أو نوى حال الشراء أنه هدي، فهل يكون أضحيةً وهدياً، أو نقول: لا يكون أضحيةً وهدياً؟ يعني: اشترى الشاة هذه وهو ينوي أنها أضحية، ولم يقل: هذه لله، أو هذه أضحية، أو اشتراها على أنها هدي، أو ساقها على أنها هدي ونوى بذلك، فهل تتعين بذلك أو لا تتعين؟ هذا موضع خلاف.الرأي الأول: وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنها لا تتعين بهذا، بل لا بد من القول أو الفعل كما تقدم، ولا تكفي النية.والرأي الثاني: أنها تتعين بذلك وهذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وبه قال أبو حنيفة .والصواب في هذه المسألة: أنه إذا اشتراها بنية الأضحية أنها لا تتعين، كما لو أخرج دراهم ونوى التصدق بها ثم رجع، نقول: بأن هذا جائز ولا بأس بذلك.
الأحكام المترتبة على تعيين الهدي والأضحية
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يعطي الجزار بأجرته شيئاً منها].لما تكلم المؤلف رحمه الله عم يتعين به الهدي أو الأضحية، ذكر بعض الأحكام المترتبة على هذا التعين، يعني: إذا حصل تعيين الهدي والأضحية فهناك أحكام مترتبة على ذلك، من هذه الأحكام قوله: (ولا يعطي الجزار بأجرته شيئاً منها) وهذا باتفاق الأئمة، لا يعطيه من اللحم مقابل أجرته، أو يعطيه الجلد مقابل الأجرة، مثلاً: أجرة الذبح تساوي عشرين ريالاً، فيعطيه من اللحم بقدر عشرين ريالاً، نقول: هذا لا يجوز، أو يعطيه الجلد، مثلاً: كان الذبح بعشرين ريالاً والجلد بعشرة ويعطيه عشرة ريالات، نقول: هذا لا يجوز.ويدل لذلك حديث علي رضي الله تعالى عنه، قال: ( وألا أعطي الجازر منها شيئاً، وقال: نحن نعطيه من عندنا )، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقوم على بدنه، قال: (وألا أعطي الجازر منها شيئاً، وقال -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- نحن نعطيه من عندنا ) يعني: أجرة، وهذا في الصحيحين.وقوله: (بأجرته).يخرج ما لو أعطاه شيئاً لا يكون أجرةً فإن هذا لا بأس، مثلاً: لو أعطاه من اللحم صدقة، أو هدية، فيقول: بأن هذا جائز ولا بأس بذلك.الحقيقة أن المؤلف رحمه الله ذكر حكماً واحداً فقط مما يتعلق بتعيين الأضحية والهدي، وهناك أحكام كثيرة، نذكر أهم هذه الأحكام باختصار على سبيل الإجمال فنقول:مما يترتب على تعيين الأضحية، يعني: إذا تعينت هذه الشاة أنها أضحية أو أنها هدي فإنه يترتب على ذلك أحكام:الحكم الأول: أنه لا يجوز نقل الملك فيها، لا ببيع ولا هبة ولا غيره، إلا أن العلماء رحمهم الله استثنوا إذا أبدلها بخيرٍ منها، فقالوا: بأن هذا جائز ولا بأس به.الحكم الثاني: ما سبق الإشارة إليه: أنه لا يعطي الجازر بأجرته شيئاً منها.الحكم الثالث: أنه لا يتصرف فيها تصرفاً مطلقاً، فلا يستعملها في حرث إذا كانت بقرة، أو يستعملها في الركوب إذا كانت بعيراً إلا لحاجة أو ضرورة، لكن إذا كان يتضرر في الركوب فإنه لا يجوز أن يركبه.أيضاً: ليس له أن يحلب منها ما يحتاجه ولدها المتعين معها، أو فيه نقص عليها.أيضاً: ليس له أن يجز من صوفها شيئاً إلا أن يكون أنفع لها، وإذا جز الصوف وكان الجز أنفع فهو بالخيار: إما أن ينتفع به وإما أن يتصدق به، وإن تصدق به فهذا أفضل.الحكم الرابع: إذا تعيبت هذه الأضحية عيباً يمنع الإجزاء، يعني: قال: هذه أضحية لله وأدخلها في البيت ثم انكسرت رجلها -وتقدم لنا أن التي انكسرت رجلها لا تجزئ- أو انفقعت عينها فلا تجزئ، وهذا يحصل كثيراً، مثلاً: يشتري الشاة ويجعلها في السيارة ثم تقفز، يعني: يقول: أضحية أو لله ويعينها، ثم تقفز الأضحية من السيارة ثم تنكسر، هل يجب عليه أن يبدلها أو لا يجب عليه أن يبدلها؟ أو مثلاً: تضيع الأضحية، هل يجب عليه البدل أو لا يجب عليه البدل؟ نقول: هذا لا يخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يكون ذلك بتعدٍ وتفريطٍ منه، وما هو التعدي؟ التعدي: فعل ما لا يجوز، والتفريط: ترك ما يجب، مثلاً: شد عليها الحبل فأدى ذلك إلى كسر الرجل، أو تركها فوق السيارة ولم يربطها فقفزت وانكسرت، المهم أن هناك تعد منه أو تفريط، أو ترك الإطعام لها حتى ماتت، أو ترك الباب مفتوحاً حتى هربت، فالمهم: ما دام هناك تعدٍ وتفريط فتعيبت أو ضلت، فإنه يضمنها.الأمر الثاني: أن يكون ذلك بغير تعدٍ منه ولا تفريط، لم يترك واجباً ولم يفعل محرماً فانكسرت أو ضلت أو تعيبت، فنقول: بأنها تجزئ، فيذبحها وهي مجزئة، إلا أن تكون منذورة، يعني: بأن يكون نذر أن يضحي، فهذه لا تجزئ إلا سليمة، حتى وإن كان بغير تعدٍ ولا تفريطٍ منه.
توزيع الأضحية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والسنة أن يأكل ثلث أضحيته، ويهدي ثلثها، ويتصدق بثلثها].هذا هو السنة، ويدل لذلك قول الإمام أحمد: أذهب إلى فعل عبد الله ، يعني: الدليل على ذلك فعل عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: يأكل ثلثاً ويهدي ثلثاً ويتصدق بثلث.الرأي الثاني: أنه يأكل النصف ويتصدق بالنصف، لقول الله عز وجل: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28].

ابو وليد البحيرى
2019-04-11, 04:21 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب المناسك [17]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(63)


يجوز للناسك أن ينتفع بجلد الأضحية، ولا يجوز له أن يبيع شيئاً من أعضائها وجلدها، ويستحب له أن يأكل من هديه إذا كان تطوعاً، ومن نذره إن كان لوجه الله، وإذا كان الهدي واجباً فلا يجوز الأكل إلا في هدي المتعة والقران.
الأكل من الأضحية والانتفاع بجلدها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإن أكل أكثرها جاز. وله أن ينتفع بجلدها ولا يبيعه ولا شيئاً منها، فأما الهدي فإن كان تطوعاً استحب له الأكل منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جزور ببضعة فطبخت، فأكل من لحمها وحسا من مرقها، ولا يأكل من واجبٍ إلا من هدي المتعة والقران. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا من بشرته حتى يضحي ).باب العقيقة:وهي سنة عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة تذبح يوم سابعه، ويحلق رأسه ويتصدق بوزنه ورقاً، فإن فات يوم سابعه ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين، وينزعها أعضاءً ولا يكسر لها عظماً، وحكمها حكم الأضحية فيما سوى ذلك ].فقد تقدم لنا بم يتعين كل من الهدي والأضحية؟ وذكرنا أنهما يتعينان بالقول وبالفعل، وهل يتعينان بالنية أم لا؟ وذكرنا أيضاً جملةً من الأحكام المترتبة على تعين الهدي والأضحية، ثم بعد ذلك تقدم أن ذكرنا أن السنة أن يأكل من الأضحية ثلثاً وأن يهدي ثلثاً، وأن يتصدق بثلثٍ، وهذا ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله، وقال: أذهب إلى فعل عبد الله ، أي: عبد الله بن مسعود ، فإنه أمر أن يأكل الثلث وأن يهدي إلى أخيه عتبة بالثلث، وأن يتصدق بالثلث.والرأي الثاني -قال به الشافعي في القديم- أنه يأكل نصفاً ويتصدق بالنصف الآخر؛ لقول الله عز وجل: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28] .قال المؤلف رحمه الله: [وإن أكل أكثرها جاز].يعني: الأضحية لو أنه أكلها كلها، أو أكل أكثر الأضحية، يقول المؤلف رحمه الله بأن هذا جائز ولا بأس به، لكن قال العلماء رحمهم الله: يجب عليه أن يتصدق بأوقية أو قدر أوقية، والأوقية: تساوي من الدراهم الفضة وزنها أربعين درهماً، وكل عشرة دراهم تساوي سبعة دنانير.. فأربعون درهماً كم يساوي بالدنانير؟ يساوي ثمانية وعشرين ديناراً، والدينار مثقال، والمثقال وزنه بالغرامات أربعة وربع، فتضرب ثمانية وعشرين بأربعة وربع.. كم الناتج؟ مائة وتسعة عشر غراماً، يعني: عشر كيلو وخمس العشر، أي: إذا أكلها كلها أو أكثرها يجب عليه أن يتصدق بعشر كيلو من اللحم وخمس العشر، أي: بمقدار مائة وتسعة عشر غراماً؛ فيشتري لحماً بمائة وتسعة عشر غراماً ويتصدق به.قال المؤلف رحمه الله: [وله أن ينتفع بجلدها، ولا يبيعه ولا شيئاً منها].هذا تقدم الكلام عليه، عندما تكلمنا على ما تتعين به الأضحية، وذكرنا ما يتعلق بالجلد، وأنه ليس له أن يبيعه ولا أن يعطيه الجزار مقابل أجرته، ولا أن يعطي الجزار شيئاً من اللحم مقابل أجرته.
الأكل من الهدي
قال المؤلف رحمه الله: [فأما الهدي إن كان تطوعاً استحب له الأكل منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جزور ببضعة فطبخت، فأكل من لحمها وحسا من مرقها]. ‏
مشروعة الأكل من الهدي
يستحب للحاج أن يأكل من الهدي، سواء كان تطوعاً أو واجباً، فالواجب كهدي المتعة أو القران، والتطوع: كأن اعتمر ثم أهدى للحرم، أو حج مفرداً وأهدى للحرم، فيستحب له أن يأكل، أو أنه ذبح فوق الواجب.. أي: كان متمتعاً فذبح شاتين، أو كان قارناً فذبح شاتين ونحو ذلك، نقول: يستحب له أن يأكل من هذا الهدي.ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة، وأمر من كل بدنة بقطعة من اللحم، فوضعت في قدر فأكل من هذا اللحم وشرب من المرق؛ لأن المرق يختلط، فإذا شرب من هذا المرق فكأنه شرب من كل مرق لحم هذه الجزور، وأكل من اللحم.. فهو لا يتمكن أن يأكل مائة قطعة، لكن أكل من بعض القطع وشرب من المرق، فشربه من المرق هذا بمنزلة أكله من كل الجزور، فيستحب للإنسان إذا أهدى أن يأكل من الهدي.. إن كان هدي متعة أو قران أو تطوع، بأن زاد على هدي المتعة والقران، أو كان مفرداً أو كان معتمراً وأهدى، فيستحب له أن يأكل منه.قال المؤلف رحمه الله: [ولا يأكل من واجبٍ إلا من هدي المتعة والقران].هذه مسألة مهمة: ما هو الذي يأكل منه، وما هو الذي لا يأكل منه؟نقول: هذا ينقسم إلى أقسام:القسم الأول: الأضحية، فالأضحية يستحب الأكل منها ولو كانت منذورةً، أي: لو نذر أن يضحي.. فالأضحية هنا تكون واجبة بالنذر، فيستحب له أن يأكل من الأضحية، وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم.. وهدي الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقد تقدم قول المؤلف رحمه الله: (يأكل ثلثاً ويتصدق بثلث ويهدي ثلثاً).القسم الثاني: هدي المتعة يأكل منه، ولهذا قال المؤلف: (ولا يأكل من واجبٍ إلا من هدي متعة وقران).القسم الثالث: هدي القران، وهذا يأكل منه، ويدل لهذين القسمين فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان قارناً، ومع ذلك أهدى وأكل من هديه، فكذلك أيضاً المتمتع.القسم الرابع: ما ذبح نذراً.. والمنذور غير الأضحية.. والأضحية تقدم الكلام عليها، لكن ما ذبح نذراً، نقول: هذا فيه تفصيل وهو نوعان:النوع الأول: إن كان هذا النذر لله عز وجل، مثلاً قال: لله عز وجل أن أذبح شاةً، أو: إن شفى الله مريضي ذبحت لله شاةً ونحو ذلك، فنقول: هذا لا يجوز له أن يأكل منه؛ لأنه أخرجه لله عز وجل، وكل شيءٍ أخرجه الإنسان لله عز وجل فإنه ليس له أن يأكل منه.النوع الثاني من أنواع المنذور: ألا يقصد بالنذر وجه الله عز وجل، وإنما يقصد به الفرح والسرور، فيقول: إن نجحت ذبحت شاةً، ويقصد بذلك فرحاً وسروراً أن يأكلها هو وأهله ونحو ذلك، فهذا له أن يأكل، وحكمه حكم النذر المباح: له أن يوفي به وله أن يترك التوفية به، ويكفر عن ذلك كفارة يمين.القسم الخامس: هدي التطوع، فهدي التطوع له أن يأكل منه؛ لما تقدم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.القسم السادس: الهدي الذي ذبحه لفعل محظور أو ترك واجب، أو بسبب الإحصار.. فالهدي الذي ذبحه لفعل محظور من المحظورات، مثلاً: إذا حلق رأسه فهو مخير بين أن يذبح شاةً أو أن يصوم ثلاثة أيام، أو أن يطعم ستة مساكين، فإذا ذبح شاةً نقول: هذه الشاة التي ذبحتها لفعل محظور من محظورات الإحرام ليس لك أن تأكل منها.أما الذبح لترك واجب.. فإن ترك واجباً من واجبات الحج، مثل رمى الجمار، فنقول: بأنه ليس له أن يأكل من ذلك.أما الذبح للإحصار فإن أحصر، أي: منع من إتمام النسك -والمحصر كما سبق لنا: يجب عليه أن يذبح هدياً- نقول: ليس له أن يأكل من ذلك.القسم السابع: الهدي إذا ساقه ثم عطب، أي: مرض الهدي ونحو ذلك.. ولم يتمكن من السير، فإنه ليس له أن يأكل منه ولا رفقته، فرفقته ليس لهم أن يأكلوا منه.القسم الثامن والأخير: العقيقة، وهذه حكمها حكم الأضحية، وقد تقدم لنا في الأضحية: أنه يأكل ثلثاً، ويهدي ثلثاً، ويتصدق بثلث.
العقيقة
قال المؤلف رحمه الله: [باب العقيقة].
تعريف العقيقة ومشروعيتها
العقيقة في اللغة: الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين الولادة، هكذا قال الأصمعي رحمه الله، وأنكر الإمام أحمد رحمه الله تفسير الأصمعي وقال: العقيقة الذبح نفسه.وأما في الاصطلاح: فهي ما يذبح من الغنم شكراً لله عز وجل على نعمة الولد.والأصل في العقيقة: السنة، كما سيأتينا إن شاء الله في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، وحديث سمرة رضي الله تعالى عنه، وحديث أم كرز وغير ذلك من الأحاديث التي سيأتي بيانها إن شاء الله.
تسمية العقيقة
قول المؤلف رحمه الله تعالى: (العقيقة).هل هذه التسمية صحيحة أو ليست صحيحة؟ أي: تسمية هذه البهيمة التي تذبح عن الغلام، أو تذبح شكراً لله عز وجل على نعمة الولد، هل هذه التسمية صحيحة، أو نقول: بأنها ليست صحيحة؟ للعلماء في ذلك قولان:قال بعض العلماء: يكره تسمية هذه الذبيحة بالعقيقة، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة فقال: لا أحب العقوق ) وهذا أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وإسناده حسن.وقالوا: بأنها تسمى: نسيكة، ولا تسمى عقيقة.وقال بعض العلماء: لا بأس أن تسمى بالعقيقة؛ لحديث سمرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل غلامٍ مرتهن بعقيقته ). وقال ابن القيم رحمه الله: التحقيق أنه يكره هجر الاسم المشروع واستبداله باسم العقيقة، وأما لو استعمل الاسم المشروع، وأحياناً تسمى بالعقيقة فلا بأس، يعني: ابن القيم رحمه الله يقول: الغالب أنها تسمى بالنسيكة، وفي بعض الأحيان لا بأس أن تسمى بالعقيقة، ويقول: بهذا تتفق الأحاديث.
حكم العقيقة
قوله: [وهي سنة]:أفاد المؤلف رحمه الله عن حكم العقيقة، وأن حكمها سنة، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وهذا القول وسط بين قولين: فالظاهرية يقولون بالوجوب، والحنفية يقولون بعدم المشروعية.. أي أنها لا تشرع، والجمهور يقولون بأنها سنة، والقول بأنها سنة هو أصح وهو وسط.أما الذين قالوا بأنها غير مشروعة، فاستدلوا كما تقدم بحديث عبد الله بن عمرو : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن العقيقة، قال: لا أحب العقوق ) وهذا الحديث -كما تقدم- إسناده حسن.وأما الذين قالوا بأنها واجبة فاستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، والأصل في الأمر الوجوب، كما في حديث سلمان بن عامر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى ) وهذا رواه البخاري ، فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى) هذا أمر، وأيضاً حديث سمرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل غلامٍ مرتهن بعقيقته ) والمرتهن يحتاج إلى فكاك.والأقرب في ذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وهو وسط بين القولين.
فوائد العقيقة
والعقيقة لها فوائد، وقد أطال ابن القيم رحمه الله في كتابه: (تحفة المودود بأحكام المولود) في فوائد العقيقة، فذكر رحمه الله بعضاً من فوائد العقيقة: الفائدة الأولى: أنها قربان عن المولود في أول خروجه إلى الدنيا، والمولود ينتفع بهذا القربان كما ينتفع بالدعاء.الفائدة الثانية: أنها تفك رهان المولود؛ لأن المولود مرتهن.الفائدة الثالثة: أنها فدية يفدى بها المولود، كما فدى الله سبحانه وتعالى إسماعيل بالكبش، وكان أهل الجاهلية يفعلونها قبل الإسلام ويسمونها: عقيقة، ويلطخون رأس الصبي بدمها، فأبطل الله عز وجل ذلك، إلى آخر ما ذكره ابن القيم رحمه الله.وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( كل مولودٍ مرتهن بعقيقته ) ما معنى الارتهان هنا؟الرأي الأول: ما قاله الإمام أحمد رحمه الله: أنه مرتهن عن الشفاعة لوالديه.. أي: محبوس عن الشفاعة لوالديه حتى يعق عنه، وكذا قال عطاء رحمه الله تعالى.الرأي الثاني: أن معنى (مرتهن بعقيقته): أن العقيقة سبب من أسباب حسن خلق الصبي، أي: إذا ذبحت عنه العقيقة فإن هذا سبب من أسباب حسن خلقه، فكأنه محبوس عن محاسن الأخلاق حتى يعق عنه، فإذا عق عنه كان ذلك سبباً من أسباب حسن خلقه.
العقيقة عن الغلام والجارية
قوله: [عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة].أفاد المؤلف رحمه الله أنها عن الغلام شاتان، وأما الجارية فشاة، ودليل ذلك حديث أم كرز الكعبية : أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة ) وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم وإسناده صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقت ذبح العقيقة
قال المؤلف رحمه الله: [تذبح يوم سابعه].السنة أن تذبح يوم سابعه، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله.والرأي الثاني: مذهب الحسن البصري ، وكذلك أيضاً الإمام مالك رحمه الله: أنه لا يحسب يوم الولادة، فالجمهور يقولون: تذبح في اليوم السابع، وهو مذهب الإمام أحمد والشافعي أنه يحسب يوم الولادة، فمثلاً إذا ولد صباح يوم السبت أو الظهر أو العصر قبل غروب الشمس، فإننا نحسب يوم الولادة، فنقول: السبت والأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة.. فتذبح يوم الجمعة، وإذا ولد بعد غروب الشمس فإننا نحسب من يوم الأحد.. فإذا ولد قبل الغروب فإننا نحسب ذلك اليوم، وإذا ولد بعد الغروب فإننا نحسب من اليوم الذي بعده، هذا ما عليه الشافعية والحنابلة.أما المالكية، وكذلك أيضاً ذهب إليه الحسن البصري قالوا: بأن يوم الولادة غير محسوب، وعلى هذا إذا ولد في يوم السبت، فمتى تذبح على رأي المالكية والحسن البصري ؟ فلو ولد يوم السبت فإنها تذبح يوم السبت ولا نحسب يوم السبت الأول.والصواب في ذلك: ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة، وأن يوم الولادة يحتسب، خلافاً لما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله.ثم هل ذبحها يوم السابع على سبيل الوجوب، أم ليس على سبيل الوجوب؟ أي: لو أخرت عن اليوم السابع فهل تجزئ أو لا تجزئ؟ فالشافعية والحنابلة قالوا: بأنها تجزئ، مثلاً: لو ذبحها في اليوم العاشر أو في اليوم الحادي عشر أو العشرين أو بعد شهرٍ أو شهرين، أما ابن حزم والحسن البصري فقالا: بأنها لا تجزئ. فالذين قالوا بأنها تجزئ حتى لو ذبحت بعد اليوم السابع، استدلوا: بأن سبب الذبح -وهو الولادة- موجود، والذين قالوا بأنها لا تجزئ، استدلوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تذبح عنه يوم سابعه ). فالذين قالوا بأنها تجزئ قالوا: بأن السبب لا يزال موجوداً، فهو مخاطب بها الآن، والذين قالوا بأنها لا تجزئ، قالوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تذبح عنه يوم سابعه ).والصواب في هذه المسألة: أنها مجزئة حتى بعد اليوم السابع؛ لأن السبب لا يزال موجوداً.. ما هو سبب الذبح؟ هو الولادة، أي: نعمة الله عز وجل على العبد بالولد، وهذا السبب لا يزال موجوداً، والنعمة هذه لا تزال موجودة، فالسبب لا يزال قائماً، فنقول: ما دام أن السبب لا يزال قائماً فإنه لا يزال مخاطباً.لكن لو ذبحت قبل اليوم السابع، فهل تجزئ أو لا تجزئ؟ نقول: نعم تجزئ؛ لأن السبب لا يزال موجوداً، فالسبب الذي هو نعمة الله على العبد بالولد موجود الآن، لكن السنة للإنسان أن يذبح في اليوم السابع.والحكمة أنه إذا مرت عليه سبعة أيام فقد مرت عليه أيام الدنيا، فهذا فيه تفاؤل بسلامة المولود وأنه يعيش بإذن الله عز وجل.
من سنن العقيقة
قال المؤلف رحمه الله: [ويحلق رأسه ويتصدق بوزنه ورقاً].الورق: هو الفضة، وقوله: (يحلق رأسه) هذا دليله حديث سمرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل غلامٍ مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق رأسه ويسمى ) وهذا أخرجه أهل السنن وهو صحيح.وأيضاً حديث سلمان بن عامر في البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مع كل غلامٍ عقيقة، فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى ) فقال: (أميطوا عنه الأذى) فنقول: يستحب حلق رأس الذكر، ويتصدق بوزنه ورقاً، قال الإمام أحمد رحمه الله: إن فاطمة رضي الله تعالى عنها حلقت رأس الحسن والحسين وتصدقت بوزن شعرهما ورقاً.هل هذا الحلق خاص بالذكر، أو نقول: بأنه يشمل الذكر والأنثى؟ العلماء رحمهم الله يقولون: بأنه خاص بالذكر، أما الأنثى فإنه لا يحلق شعر رأسها؛ لأنه مثلة؛ ولأن استقراء الأدلة الشرعية: أن المرأة لا تحلق، ولهذا في الحج ورد حديث ابن عمر : ( ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير ) فالمرأة ليس لها الحلق، وعلى هذا نقول: بأن الذكر هو الذي يحلق رأسه، أما الأنثى فلا يحلق رأسها.
فوات يوم السابع دون ذبح
قال المؤلف رحمه الله: [فإن فات يوم سابعه ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين].يقول المؤلف رحمه الله: إذا لم يذبح في اليوم السابع فإنه يذبح في اليوم الرابع عشر.. فإذا لم يذبح في اليوم الرابع عشر فإنه يذبح في اليوم الحادي والعشرين، أما إذا لم يذبح في اليوم الحادي والعشرين، قالوا: لا تعتبر الأسابيع بعد ذلك، فيعق في أي يومٍ أراد.أي: أن تذبح في اليوم السابع، فإن لم يكن ففي اليوم الرابع عشر، فإن لم يكن ففي اليوم الحادي والعشرين، وهذا ورد فيه حديث بريدة في البيهقي : ( تذبح لسبعٍ، ولأربع عشرة، ولإحدى وعشرين ) وهذا الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.وقالوا أيضاً: أنه ورد عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وهذا أخرجه الحاكم وصححه .وعلى كل حال: لم يثبت في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ورد أثر عن عائشة رضي الله تعالى عنها: في اليوم السابع، فإن لم يكن ففي أربعة عشرة، فإن لم يكن ففي إحدى وعشرين. وقلنا: هذا أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه، فينظر في هذا الأثر، إن كان هذا الأثر ثابتاً عن عائشة فإنه يصار إليه، ويقال: بأنه يستحب؛ لوروده عن عائشة رضي الله تعالى عنها، فإن لم يثبت فالأصل أنه لا يعتبر بعد السابع؛ لظاهر السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تذبح عنه يوم سابعه ) فإن ذبحت اليوم السابع وإلا ذبحت في أي وقت.
كراهية كسر عظم العقيقة
قال المؤلف رحمه الله: [وينزعها أعضاءً ولا يكسر لها عظماً].تنزع جدولاً، أي: أعضاءً، ولا يكسر لها عظماً، وهذا أيضاً ورد عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: (تقطع جدولاً ولا يكسر لها عظماً، فيأكل ويطعم ويتصدق في اليوم السابع، فإن لم يكن ففي أربعة عشرة، فإن لم يكن ففي إحدى وعشرين)، أي: قالوا بأنه تقطع ولا تكسر العظام تفاؤلاً له بالسلامة، ورد ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها كما تقدم.وهذا الأثر عن عائشة -كما قلنا-: أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، فإن كان ثابتاً فالأمر لا بأس أنه يقال بما ذكرت عائشة ، وإن لم يكن ثابتاً فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه ذلك.وذكر شيخ الإسلام : أن كل شيءٍ وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فتركه هو السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم تركه سنة كما أن فعله سنة.
الفرق بين الأضحية والعقيقة
قال المؤلف رحمه الله: [وحكمها حكم الأضحية فيما سوى ذلك].أي: حكم العقيقة حكم الأضحية، فيما يجزئ ويستحب ويكره، والأكل والهدية والصدقة، لكن فرقوا بين الأضحية والعقيقة بفروق:الفرق الأول: أن العقيقة يباع جلدها ورأسها وسواقطها ويتصدق بثمن هذه الأشياء.الفرق الثاني: أن العقيقة لا يجزئ فيها التشريك، فلو ذبح بدنةً فإنه لا يذبح إلا بدنةً كاملة، ولو ذبح بقرةً فإنه لا يذبح ولا يجزئ إلا بقرة كاملة، أما الأضحية يصح لو ذبح بدنة، فهذا له سبع بدنة، وهذا له سبع هدي، وهذا له سبع أضحية، وهذا يريد اللحم، نقول: بأن هذا يجزئ، لكن العقيقة لا بد أن يكون ذلك كاملاً، لماذا العقيقة لا بد أن يكون كاملاً؟ لأنها فداء عن نفس، والفداء إنما يكون فداء نفس بنفس، فجزء النفس لا يكون فداء لنفس، أي: لا يكون فداء لنفس إلا نفس كاملة.الفرق الثالث: أنها تنزع جدولاً، ولا يكسر لها عظم.الفرق الرابع: أنها تذبح في اليوم السابع.
العقيقة من غير الغنم
هل تجزئ العقيقة من غير الغنم كالإبل والبقر، أو لا تجزئ؟ هذا موضع خلاف، فأكثر أهل العلم أن هذا مجزئ، أي: لا بأس أن يذبح بعيراً عقيقة، أو يذبح بقرةً عقيقة.وذهب بعض العلماء بأن هذا غير مجزئ؛ لأنه إنما ورد في السنة الغنم فقط: الضأن أو المعز، وما عدا ذلك فإنه لا يجزئ.
عقيقة الإنسان عن نفسه
هل يعق الإنسان عن نفسه أو لا؟نقول: الأصل في العقيقة أنها سنة في حق الأب، وأن المخاطب بها الأب، لكن نص العلماء رحمهم الله على أنه إذا لم يعق الأب وعقت الأم أو عق الجد أو هو عق عن نفسه فإن هذا مجزئ إن شاء الله، وإلا الأصل أنها سنة في حق الأب، وأن الأب هو المخاطب بها، وقد ورد في البيهقي لكنه لا يثبت: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد البعثة ).
العقيقة عمن مات قبل يوم السابع
لو مات المولود قبل اليوم السابع؟ فنقول: بأن العقيقة تشرع إذا نفخت فيه الروح، حتى ولو كان حملاً ولم يولد، فإذا نفخت الروح في الجنين في بطن أمه، ثم سقط بعد نفخ الروح فيه، فهذا يغسل ويكفن ويصلى عليه ويقبر في مقابر المسلمين ويسمى وتذبح عنه العقيقة، فالعبرة بنفخ الروح، أي: إذا تم له أربعة أشهر فإن الروح تنفخ فيه.. ويرسل إليه الملك، ولو سقط بعد نفخ الروح فيه، نقول: نغسله ونكفنه ونصلي عليه ويسمى، ويقبر في مقابر المسلمين ويعق عنه، وتجب ديته وهي غرة.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-11, 04:24 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب البيع [1]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(64)


حاجة الناس إلى البيوع شديدة، والأصل في البيوع الإباحة، وقد أباحت الشريعة البيوع بشروط، منها أن يكون المبيع منتفعاً به نفعاً مباحاً، وأن يكون ملكاً للبائع أو مأذوناً له في التصرف فيه، وأن يكون موجوداً، ومعلوماً.
مقدمات في البيوع
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كتاب البيع: قال الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].والبيع معاوضة المال بالمال، ويجوز بيع كل مملوك فيه نفع مباح إلا الكلب، فإنه لا يجوز بيعه، ولا غرم على متلفه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب, وقال: (من اقتنى كلباً إلا كلب ماشية أو صيد نقص من عمله كل يوم قيراطان).ولا يجوز بيع ما ليس بمملوك لبائعه إلا بإذن مالكه أو ولاية عليه، ولا بيع ما لا نفع فيه كالحشرات، ولا ما نفعه محرم كالخمر والميتة، ولا بيع معدوم كالذي تحمل أمته أو شجرته، أو مجهول كالحمل، والغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته].قال المؤلف رحمه الله: (كتاب البيع). لما تكلم رحمه الله عن أحكام العبادات شرع في أحكام المعاملات، وإنما يبدأ العلماء رحمهم الله بأحكام العبادات؛ لأن حاجة الناس إليها أشد، بل إنها مبنية على الدليل, والأصل فيها الحظر والمنع، والمسلم يحتاج إليها أكثر وأشد من حاجته إلى المعاملة.ثم بعد أحكام العبادات يتكلم العلماء رحمهم الله عن أحكام المعاملات، فيشرعون في أحكام البيوع، وما يراد به الكسب والتجارة والربح؛ لأن الحاجة إلى مثل هذه الأشياء أشد من الحاجة إلى أحكام التبرعات، فهي تأتي في المرتبة الثانية بعد أحكام العبادات.ثم بعد أحكام البيوع وما يتعلق بها ويلحق بها يتكلم العلماء رحمهم الله عن أحكام التبرعات من أحكام الوقف، والهبة، والوصية، والعتق، وغير ذلك، وهذه تأتي في المرتبة الثالثة؛ لأن أحكام البيوع وما يراد به الكسب والتجارة مبني على المشاحة، ويطلب فيه من التحرير ما لا يطلب في أحكام التبرعات، بخلاف التبرعات فإنها مبنية على الإرفاق والإحسان، ولا يطلب فيها من التحرير ما يطلب في أحكام المعاملات.ثم بعد ذلك أحكام الأنكحة وتأتي في المرتبة الرابعة؛ لأن أحكام الأنكحة لا يحتاج إليها إلا في سن معين. ثم بعد ذلك أحكام الحدود والقصاص، وهذه تأتي في المرتبة الخامسة؛ لأن الأصل في المسلم أنه لا يتعدى ولا يظلم، وأيضاً الإنسان إذا باع واشترى وأكل ونكح فإنه يحصل له شهوة البطن وشهوة الفرج، فربما يدفعه ذلك إلى التعدي والأشر والظلم، فذكر العلماء رحمهم الله ما يتعلق بأحكام الحدود والقصاص.ثم بعد ذلك في المرتبة الأخيرة ما يتعلق بأحكام القاضي وشروط القضاء وما يتعلق به، وهذه تأتي في المرتبة الأخيرة؛ لأن الذي يحتاج إلى مثل هذه الأحكام إنما هم طائفة خاصة وليس كل أحد.
تعريف البيع
البيع في اللغة: مطلق المبادلة، وسمي بيعاً؛ لأن كل واحد من المتبايعين يمد باعه، فالبائع يمد باعه لإعطاء السلعة وأخذ الثمن، والمشتري يمد باعه لإعطاء الثمن وأخذ السلعة. وفي الاصطلاح عرفه المؤلف رحمه الله بقوله: (والبيع معاوضة المال بالمال) يعني: البيع هو مبادلة مال بمال، وما المراد بالمال؟نقول: المال هو كل عين يباح الانتفاع بها، إلا ما استثناه الشارع، ويدخل في هذا أشياء كثيرة، فالذهب مال لأنه عين يباح الانتفاع بها، والفضة مال، والدراهم مال، والملابس مال، والأطعمة مال، والسيارات مال، وغير ذلك، هذه كلها أموال يباح الانتفاع بها إلا ما استثناه الشارع. هناك أعيان يباح الانتفاع بها لكنها ليست مالاً، فمثلاً: كلب الصيد، وكلب الحرث، وكلب الماشية، هذه يباح الانتفاع بها، لكنها ليست مالاً، استثناها الشارع، فلم يجز الشارع أن تبيع مثل هذه الأشياء، فدل على أنها ليست مالاً وإنما هي من المختصات.وعلى هذا نقول: البيع هو مبادلة مال بمال، فإذا أعطيتك هذا الكتاب وأخذت منك عشرة ريالات فهذا بيع، أعطيتك هذا الكتاب وأعطيتني بدلاً منه كتاباً، هذا بيع، يثبت له أحكام البيع، يثبت له خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار العيب، وتشترط فيه شروط صحة البيع.. إلى آخره.أعطيتك هذا القلم وأعطيتني هذا الكتاب، هذا بيع، المهم أن البيع هو مبادلة مال بمال، فإذا بادلنا مالاً بمال فهذا هو البيع.
الأصل في البيع
والأصل في البيع الحل والصحة, فلا يحرم من البيوع إلا بيعاً دل الدليل على تحريمه، والدليل على أن الأصل في البيع الحل قول الله عز وجل: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، ومن السنة قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر وحكيم بن حزام وغيرهما: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) ، وهذا يشمل كل بيع. والإجماع انعقد على حل البيع في الجملة، وإن كان العلماء يختلفون في شيء من تفاصيله. وكذلك أيضاً النظر الصحيح يدل على صحة البيع وحله، فإن الإنسان محتاج لما بيد غيره، وغيره محتاج لما بيده، فأنت محتاج إلى الطعام أو اللباس، أو الآلة التي عند غيرك، وغيرك محتاج إلى الدراهم التي بيدك.
شروط صحة البيع

الشرط الأول: النفع المباح
قال المؤلف رحمه الله: [ويجوز بيع كل مملوك فيه نفع مباح إلا الكلب فإنه لا يجوز بيعه].هذه قاعدة ما هو الشيء الذي يجوز بيعه والشيء الذي لا يجوز بيعه؟نقول: القاعدة في ذلك أن ما أبيح نفعه أبيح بيعه إلا ما استثناه الشارع.وقولنا في القاعدة: (ما أبيح نفعه) خرج بذلك ما حرم نفعه، فإنه لا يصح بيعه، فمثلاً: الخمر منفعته الإسكار وهذه المنفعة محرمة، الدخان منفعته التفتير، وهذه المنفعة محرمة، آلات اللهو والغناء منفعتها الطرب، وهذه المنفعة محرمة.. إلى آخره. فنقول: ما أبيح نفعه أبيح بيعه، إلا ما استثناه الشارع، هناك أشياء يباح الانتفاع بها، لكن البيع لا يجوز، وضربنا لذلك مثلاً فيما تقدم: كلب الصيد، وكلب الحرث، وكلب الماشية، هذه الأشياء أباح لك الشارع أن تنتفع بها لكن حرم عليك أن تبيعها.ومثل ذلك أيضاً: شحوم الميتة أباح لك الشارع أن تنتفع بها، لكن حرم عليك أن تبيعها، ولهذا في حديث جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم :(إن الله حرم بيع الميتة والأصنام والخمر, فقالوا: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويستصبح بها الناس, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا هو حرام).فقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا. هو حرام ) يعني: بيع هذه الأشياء.قال المؤلف رحمه الله: (إلا الكلب). الكلب لا يجوز بيعه؛ لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثمن الكلب خبيث) وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله خلافاً لـأبي حنيفة ، فإن أبا حنيفة يفصل في الكلاب, ويقول: الكلب العقور لا يجوز بيعه وغير العقور يجوز بيعه.والصواب في ذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم للحديث المتقدم. قال: [ولا يجب غرمه على متلفه].يعني: من أتلف هذا الكلب فإنه لا يجب أن يغرمه؛ لأن هذا الكلب ليس مالاً وحينئذ لا يجب على من أتلف هذا الكلب أن يغرمه.
الشرط الثاني: الملك
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يجوز بيع ما ليس بمملوك لبائعه إلا بإذن مالكه أو ولاية عليه].هذا الشرط الثاني من شروط صحة البيع.الشرط الأول: تقدم في قول المؤلف رحمه الله تعالى: (ويجوز بيع كل مملوك فيه نفع مباح) إلا ما استثناه الشارع.الشرط الثاني: أن يكون المبيع ملكاً للبائع أو مأذوناً له في البيع, ودليل ذلك حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبع ما ليس عندك) أخرجه الترمذي وابن ماجه وغيرهما وصححه الترمذي .فيشترط على ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله أن يكون البائع مالكاً للعين المباعة أو مأذوناً له في البيع، فمن هو المأذون له في البيع الذي ينوب مناب المالك؟ والذي ينوب مناب المالك أربعة: الأول: الوكيل، فالوكيل هو الذي استفاد التصرف حال الحياة، فإذا وكل شخصاً في بيع هذه السلعة صح تصرفه. الثاني: الوصي، وهو الذي استفاد التصرف بعد الممات، فهذا أيضاً يصح، فلو أوصى شخص قبل أن يموت بأن فلاناً يبيع كذا وكذا إلخ، نقول: هذا الوصي استفاد التصرف بعد الممات. الثالث: الناظر: وهو الذي استفاد التصرف على الأوقاف، فناظر الوقف له أن يبيع الوقف في حالات خاصة ستأتينا إن شاء الله. الرابع: الولي: وهو الذي استفاد التصرف على القصر من الصغار والمجانين ونحوهم, فهذا له التصرف في بيع أموالهم على الوجه الشرعي, فالمالك ومن ينوب منابه يصح تصرفه. والأجنبي الذي ليس مالكاً ولا ينوب مناب المالك ما حكم تصرفه؟مثال ذلك: رجل باع سيارة أبيه، وأبوه لم يأذن له في ذلك، لم يوكله أو باع سيارة صديقه, وصديقه لم يوكله, فما حكم هذا البيع, هل هذا بيع صحيح أم نقول: إنه ليس بيعاً صحيحاً؟فيه رأيان:المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله وقال به الشافعي : إن هذا التصرف غير صحيح ما دام أنه ليس مالكاً ولا مأذوناً له في ذلك, وهذا القول قال به الحنابلة والشافعية, ودليلهم ما تقدم من حديث حكيم بن حزام ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تبع ما ليس عندك) . الرأي الثاني: رأي أبي حنيفة ومالك أن هذا التصرف صحيح بالإجازة يعني: أن ما يسمى بتصرف الفضولي فهو صحيح بالإجازة. ودليلهم على ذلك حديث عروة البارقي رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً لكي يشتري له شاة، فمضى عروة واشترى بالدينار شاة وفي الطريق باع هذه الشاة بدينارين, واشترى بأحد الدينارين شاة أخرى، فرجع للنبي صلى الله عليه وسلم بشاة ودينار فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ) . فدل ذلك على أن الإنسان إذا تصرف تصرفاً فضولياً وأجازه المالك فإنه ينفذ بالإجازة، أما إذا لم يجزه فإنه لا ينفذ. فمثلاً: لو أنه باع سيارة غيره وقال مالك السيارة ما دام أنه لم يأذن له: أنا لا أجيز, نقول: إنه لا ينفذ البيع، لو أجازه نقول: بأنه ينفذ, فإذا كان لا يجيز نقول: لا ينفذ، ولو أجازه نقول: بأنه نافذ, وهذا القول هو الصواب، وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك .وتصرف الفضولي نافذ حتى في غير المعاملات, فالقاعدة في ذلك أن تصرف الفضولي نافذ في العبادات وفي المعاملات وفي الأنكحة, سواء كانت المعاملات تبرعات أو معاوضات. فمثلاً في العبادات: لو أنه أخرج زكاة عن غيره ولم يأذن له ولم يوكله وجد فقيراً فأعطاه مائة ريال ونوى أن هذه المائة عن صديقه, فأجازه صديقه هل ينفذ أو لا ينفذ؟ نقول: ينفذ بالإجازة في المعاملات كما مثلنا. لو باع سيارة زميله فإن هذا البيع ينفذ بالإجازة؛ لأنه لم يوكله. في التبرعات لو أنه وقف أو وهب بيت زميله فأجاز هذا الوقف أو هذه الهبة نقول: هذا حكمه جائز.ونافذ في الأنكحة لو أنه طلق زوجة صديقه فأجاز صديقه الطلاق فإنه ينفذ.لو أنه زوج ابنة صديقه فأجاز صديقه هذا الزواج فنقول: بأن هذا نافذ, هذه قاعدة تصرف الفضولي.
بيع ما لا نفع فيه
قال المؤلف رحمه الله: [ولا بيع ما لا نفع فيه كالحشرات].قدم المؤلف الكلام على ما يصح بيعه على ما لا يصح بيعه, وقد ذكرنا أن ما أبيح نفعه أبيح بيعه إلا ما استثناه الشارع.يقول المؤلف رحمه الله: الحشرات ليس فيها نفع فلا يصح بيعها، فلا يصح بيع الذباب والبق والبعوض والنمل والجعل والخنفسة والعنكبوت، هذه الأشياء لا يصح بيعها؛ لأنه لا نفع فيها, وإذا لم يكن فيها نفع فلا يصح بيعها, وإذا كان الحكم معلقاً على النفع فنقول: إن ثبت فيها نفع صح، وإن لم يثبت فيها نفع لا يصح؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً, فبعض الحشرات فيها نفع مثل: الجراد فيه نفع, فنقول: بيعه صحيح.النحل فيه نفع فنقول: بيعه صحيح.العقرب فيها نفع، الآن يؤخذ منها مادة السم، بحيث تستخدم في بعض العلاجات والعقاقير والأدوية، فنقول: ما دام أن فيها نفعاً يصح البيع على كل حال, والقاعدة في ذلك ظاهرة: الحشرات هذه إن كان فيها نفع صح، وإن لم يكن فيها نفع لا يصح, وهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان, في الزمن السابق العقرب كان لا ينتفع بها لكن الآن بسبب ترقي الطب وجدوا فيه هذه المادة السمية التي فيها شيء من المنافع.وأيضاً البعوض فيه نفع أو ليس فيه نفع؟المهم أنه إذا ترقى الطب وحكم أن هذه الحشرة فيها نفع يصح بيعها وإلا فلا.
بيع ما نفعه محرم
قال المؤلف رحمه الله: [ولا ما نفعه محرم كالخمر والميسر]. ما كانت منفعته محرمة لا يصح بيعه لما تقدم من حديث جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) . فهذه الأشياء منافعها محرمة فلا يصح بيعها، فالخمر منفعته محرمة وهي الإسكار فلا يصح, ومثل ذلك آلات اللهو لا يصح بيعها؛ لأن منفعتها محرمة, وأشرطة الغناء لا يصح بيعها؛ لأن منفعتها محرمة, وكتب البدع والضلال والمجلات الهابطة هذه الأشياء لا يصح بيعها؛ لأن منافعها محرمة لا تجوز.
بيع الميتة
قال المؤلف رحمه الله: [والميتة].هذا ليس على إطلاقه، فإنه يستثنى في أعيان الميتات ويستثنى أيضاً في أجزاء الميتات, ففي أعيان الميتات ليس كل ميتة لا يحل بيعها ولا يصح.إذاً: ما هي الميتة؟ نقول: الميتة: هي ما مات حتف أنفه أو ذكي ذكاة غير شرعية. ويستثنى استثناءان: استثناء يتعلق بأعيان الميتات، واستثناء آخر يتعلق بأجزاء الميتات. أما الاستثناء الأول: وهو ما يتعلق بأعيان الميتات، فنقول: يستثنى من ذلك ميتة ما ليس له نفس سائلة، هذا ميتة مستثناة؛ لأنه لا يحتاج إلى تذكية, الذي إذا قتل لا يخرج منه دم يسيل, فمثلاً: الجراد ليس له نفس سائلة فإذا مات الجراد فإنه يصح بيعه .الاستثناء الثاني: ميتة البحر، وهذه يصح بيعها؛ لقول الله عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ [المائدة:96] . قال ابن عباس رضي الله عنهما: صيده ما أخذ حياً، وطعامه ما أخذ ميتاً, هذا ما يتعلق بأعيان الميتات, فميتة البحر: السمك والحوت.. حيوان البحر أنواعه كثيرة جداً, فإذا مات فإنه يصح بيعه.الاستثناء الثاني: ما يتعلق بأجزاء الميتة، ويستثنى من ذلك أولاً ما لا تحله الحياة، فهذا يصح بيعه من الميتة، يعني: لا يكون فيه دم يسيل مثل: الصوف والشعر والوبر والريش والأظلاف والقرون, هذه الستة الأشياء, فلو مات عندنا شاة أو بقر أو عنز يصح أن نأخذ الصوف الشعر.. إلخ، أو دجاجة يصح أن نأخذ ريشها وأن نبيعه هذا الأمر الأول.الأمر الثاني: عظام الميتة, وهذا قال به شيخ الإسلام وأبو حنيفة أنها مستثناة؛ لأن عظام الميتة لا تحلها الحياة.الأمر الثالث: لبن الميتة، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن المائع لا ينجس إلا بالتغير، فلبن الميتة ينظر إذا حلب من الشاة أو من البقرة أو من الناقة إن كان قد تغير بالنجاسة، لأن هذه الحيوانات التي ماتت تنجست ينظر إن كانت تغيرت هذه الأشياء بالنجاسة فإنه لا يصح بيعها وإلا صح بيعها. والأقرب رأي جمهور أهل العلم رحمهم الله, وأن اللبن لا يصح بيعه؛ لأن النجاسة محيطة به من كل جانب؛ لأن هذا الحيوان لما مات فإنه يكون نجساً.الأمر الرابع: البيض، فلو مات الطائر الذي يباح أكله وفي جوفه بيض فإنه يصح بيعه وهو طاهر.الأمر الخامس: الجلد إذا دبغ، وقد تقدم لنا أن الجلد يطهر بالدبغ، في باب الآنية.
الشرط الثالث: الوجود
قال المؤلف رحمه الله: [ولا بيع معدوم كالذي تحمل أمته أو شجرته].الشرط الثالث: أن يكون موجوداً, وهذا في الجملة دليلهم على ذلك (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المعاومة) يعني: بيع ثمرة لسنتين أو ثلاث سنوات مثلاً, وهذا النهي عن بيع المعاومة ليس على الإطلاق, ولهذا بين ابن القيم رحمه الله بأن الشارع لم يحرم بيع المعدوم مطلقاً, ولهذا جاز السلم والسلم بيع معدوم، فمثلاً: تعطيه ألف ريال على أن يعطيك في العام القادم رطب، حتى الآن ما حملت النخيل, فنقول: بيع المعدوم ليس منهياً على إطلاقه كما سيأتي إن شاء الله.
الشرط الرابع: العلم
قال المؤلف رحمه الله: [ولا مجهول].هذا الشرط الرابع: أن تكون العين المباعة معلومة, ويدل لهذا الشرط قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] . فإذا كانت السلعة مجهولة فإن هذا من الميسر؛ لأن الإنسان يدخل وهو إما غانم أو غارم.فمثلاً: تشتري الساعة وهي مجهولة يقول: بعتك هذه الساعة وهي في جيبه لا ندري هل هي كبيرة؟ هل هي صغيرة؟ ما صناعتها؟ هل هي قديمة؟ هل هي جديدة؟ لم يذكر لها رؤية صفة، ولم تر، فالمشتري الآن يدخل وهو مخاطر، يشتري وهو إما غانم أو غارم، مثلاً: يشتري هذه الساعة بخمسين ريالاً أو بمائة ريال, إن كانت تساوي ما دفعه من الثمن فهو سالم, وإن كانت تساوي أكثر فهو غانم, إن كانت تساوي أقل فهو غارم، فهو دخل الآن في هذه المعاملة وهو إما غانم أو غارم.فنقول: هذا لا يجوز، لا بد أن يكون معلوماً، ما هو طريق العلم؟قال المؤلف رحمه الله: [الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته].وطريق العلم أحد طريقين:إما الوصف يعني: سأبيعك السيارة الفلانية التي صفتها كذا وكذا.. إلخ، أو الرؤية. والصواب: أن طريق العلم ليس منحصراً في هذين الشيئين, فقد يكون بالرؤية وقد يكون بالوصف, قد يكون باللمس، قد يكون بالشم، قد يكون بالذوق.. إلخ. المهم أن تنتفي الجهالة, فإذا انتفت الجهالة جاز, والعلم يكون بأي طريقة ليس محصوراً في الرؤية. كذلك نقول: العلم يكون بكل طريق, وذهب أبو حنيفة رحمه الله بأنه يجوز أن يشتري شيئاً لم يره ولم يوصف له وهو بالخيار بعد ذلك. يعني: يقول: عندي سيارة، بكم تبيعها؟ قال: أبيعها بعشرة آلاف، لم توصف له السيارة ولم يرها, يقال: يجوز وله خيار رؤية، وهذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.وفرق بين هذا ومسألة بيع المجهول, بيع المجهول قدر حال الثمن على حال هذه المجهولة وليس هناك خيار، أما هنا فليس كذلك بل يشتريها, ثم بعد ذلك يثبت له خيار الرؤية, إما أن يجوز البيع وإما أن يبرأ منه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-11, 04:28 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب البيع [2]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(65)


من حكمة الشريعة أن منعت بيع المعدوم والمجهول والمعجوز عن تسليمه، لما في هذه البيوع من مخاطرة، كما تؤدي إلى الندم والمخاصمة، ويجب أن يكون البيع عن تراض من البائع والمشتري، لذا فقد اشترطت الشريعة شروطاً يجب توافرها فيهما حتى يصح هذا العقد.
تابع شروط صحة البيع

حكم بيع المعدوم
تقدم لنا شيء من أحكام البيع، وذكرنا من ذلك تعريفه في اللغة والاصطلاح، وذكرنا حكمه، وما الأصل في المعاملات، وما الدليل على ذلك، وأيضاً تطرقنا لشيء من شروط صحته، وما الذي يصح بيعه، وما الذي لا يصح بيعه.. آخره.ثم قال المؤلف رحمه الله: (ولا بيع معدوم كالذي تحمل أمته أو شجرته). يقول المؤلف رحمه الله: لا يصح بيع المعدوم، كما لو باعه ما تحمل أمته من الولد، عنده أمة يملكها، وولد هذه الأمة إذا لم يكن من السيد فإنه يكون رقيقاً، وعلى هذا يصح بيع الرقيق، لكن لو قال: بعتك ما تحمل أمتي. فيقول المؤلف رحمه الله: هذا غير صحيح؛ لأن ما تحمله أمته هذا مجهول لا ندري هل تحمل بذكر أو أنثى؟ وهل تحمل بواحد أو اثنين؟ وهل يكون سليماً أو معيباً؟ وهل يكون حياً أو ميتاً؟ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (لا يصح). وكذلك أيضاً لو باعه ما تحمل شجرته، قال: بعتك ما تحمل الشجرة أو النخل هذا العام من الثمار، فيقول المؤلف رحمه الله: لا يصح، والعلة في ذلك أنه بيع مجهول، فنحن لا ندري ما تحمل الشجرة، هل تحمل قليلاً أو كثيراً؟ وهل يكون سليماً أو معيباً.. إلى آخره؟ويستدل لهذا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع المعاومة)، وبيع المعاومة هو أن يبيعه ثمرة سنتين يعني: أن يبيعه ثمرة عامين.. إلى آخره، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المعاومة. وذكر ابن القيم رحمه الله أن بيع المعدوم لم يرد في الشريعة النهي عنه على سبيل الإطلاق، يعني: ليس كل معدوم ينهى عن بيعه؛ ولهذا يصح السلم، والسلم بيع معدوم، النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال عليه الصلاة والسلام: من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم ) تقول للفلاح: أعطيتك ألف ريال، على أن تعطيني بعد سنة مائة صاع من التمر، حتى الآن النخيل لم تحمل تمراً، فهذا نوع من بيع المعدوم، فنقول: بيع المعدوم لم يرد النهي عنه على سبيل الإطلاق، بل فيه تفصيل، تضمن جهالة وغرراً فإنه يمنع منه، كما مثل المؤلف: لو قال: بعتك ما تحمل شاتي، ما ندري هل تحمل شاته بواحد أو اثنين؟ وهل تحمل بذكر أو أنثى؟ وهل تحمل بمعيب أو سليم إلى آخره؟ نقول: لا يصح، وإن لم يتضمن جهالة وغرراً فنقول: بأنه صحيح كما في بيوع السلم، فيصح أن تقول لشخص: أسلفتك ألف ريال وتعطيني بعد سنة من البُر، حتى الآن ما زرعت الأرض، تقول مثلاً: من نتاج العام القادم، ألف ريال تعطيني تمراً من نتاج العام القادم، عام ألف وأربعمائة وست وعشرين، حتى الآن ما حملت الثمار ما حملت الأشجار، فيصح هذا، فنقول: بأن بيع المعدوم -كما أشار إلى ذلك ابن القيم رحمه الله- لم يرد في الشرع النهي عنه مطلقاً، فنقول: بيع المعدوم هذا فيه تفصيل كما تقدم.تقدم لنا شيء من شروط صحة البيع، القدرة على التسليم، أن يكون المبيع موجوداً، والثمن معلوم، ملك للبائع، وتكلمنا عن تصرف الفضولي، وأن يكون مباحاً، ومن شروط صحة البيع: أن يكون المبيع معلوماً.قال المؤلف رحمه الله: (أو مجهول كالحمل والغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته).تكلمنا على ذلك وقلنا: بأنه يشترط أن يكون المبيع معلوماً، وذكرنا الدليل على ذلك، وذكرنا كلام أهل العلم في ذلك، وخلاف الحنفية في هذه المسألة، فلا حاجة إلى إعادة التكرار، فالحمل لا يصح بيعه؛ لأنه مال مجهول لا ندري هل هو ذكر أو أنثى؟ واحد أو متعدد؟ سليم أو معيب؟ حي أو ميت.. إلى آخره؟والغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته، أيضاً إذا كانت السلعة غائبة، ولم يوصف لك، ولم ترها، كسيارة مثلاً، اشتريت سيارة زيد من الناس، لم يذكرها بالوصف، ولم تر هذه السيارة، فيقول المؤلف رحمه الله: بأنه لا يصح هذا البيع، وسبق أن ذكرنا كلام أبي حنيفة أنه يصح أن يشتري شيئاً لم يره ولم يوصف له، وله خيار الرؤية، وهذا القول صواب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أنه يصح أن يشتري شيئاً لم يره ولم يوصف له، مثلاً اشترى سيارة، قال زيد: بعتك سيارتي بعشرة آلاف ريال، قال: قبلت، فيصح أن يشتري هذه السيارة التي لم يرها ولم توصف له، ونقول: بأن له خيار الرؤية.
الشرط الخامس: القدرة على تسليمه
قال المؤلف رحمه الله: [ولا معجوز عن تسليمه كالآبق والشارد والطير في الهواء والسمك في الماء].هذا الشرط الخامس من شروط صحة البيع، وهو أن يكون المبيع مقدوراً على تسليمه، وعلى هذا لا يصح أن تبيع شيئاً وأنت لا تقدر عليه، ومثّل المؤلف رحمه الله فقال: كالآبق، يعني كالرقيق الآبق، إنسان عنده رقيق آبق، لا يصح أن يبيعه.والشارد يعني كالجمل الشارد، إنسان عنده جمل أو له جمل شارد لا يصح أن يبيعه. والطير في الهواء والسمك في الماء؛ لأن الطير في الهواء والسمك في الماء هذان غير مقدور على تسليمهما، والدليل على أنه لا يصح بيع الذي لا يُقدر على تسليمه أن الله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] . وإذا كان لا يقدر على تسليم المبيع فهذا داخل في الميسر؛ لأن الإنسان يقدم على هذه المعاملة وهو إما غانم أو غارم، فمثلاً هذا رجل عنده جمل شارد، هذا الجمل قبل أن يشرد كم قيمته؟ نفرض أن قيمته تساوي ألف ريال، الآن شرد الجمل كم يساوي وهو شارد؟ يعني عندك الآن جملان، جمل الآن موجود عندك وجمل شارد تبغي تبيعه، الجمل الموجود عندك هذا بألف ريال، طيب الشارد هذا الذي أراد الناس أن يشترو، كم يدفعون فيه؟ لا إشكال أقل، فرق بين جمل عندك وجمل شارد، فإذا كانت قيمته وهو موجود يساوي ألف ريال، فإن قيمته وهو شارد يمكن يساوي مائة أو مائتين فقط، فالمشتري الآن يدخل وهو مخاطر، إن وجده ربح ثمانمائة، ما وجده خسر مائتين، فالمشتري الآن يدخل وهو مخاطر مقامر، هذا الميسر في المعاملات، إن تمكن منه فإنه رابح غانم، وكسب ثمانمائة، ما تمكن منه فإنه يخسر مائتين، على هذا نقول: لا يجوز بيع الشارد والآبق.
بيع المسروق والمغصوب
ومثل ما سبق أيضاً المسروق، إنسان له سيارة سرقت، السيارة قبل أن تسرق تساوي عشرة آلاف ريال، لكن الآن سرقت يمكن يبيعها بألفين، يقول: أنا كسبان، والمشتري الآن مغامر، إن بحث عنها ووجدها سيربح ثمانية آلاف ريال، فإن لم يجدها سيخسر ألفين.مثله أيضا المغصوب، المغصوب إنسان له أرض، جاء ظالم وغصبها، أخذ الأرض هذه، أو له مزرعة وجاء ظالم وأخذ المزرعة غصباً، المغصوب هذا يبيعها، هذه المزرعة أو هذه الأرض قبل الغصب قد تساوي مائة ألف، لكن الآن غُصبت هذه الأرض، هذه الأرض الآن غصبت، بكم تساوي وهي مغصوبة؟ بدل ما هي بمائة ألف الآن تساوي بعشرة آلاف ريال، فنقول: ما يصح؛ لأن المشتري الآن يدخل وهو مخاطر، إما غانم أو غارم، فنقول: لا يصح، هذا هو الميسر، وذكرنا الدليل على ذلك. وأيضاً من الأدلة على ذلك حديث أبي هريرة في صحيح مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر)، وهذا من بيع الغرر، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله. والرأي الثاني في المسألة: أنه يصح أن تبيع المسروق والمغصوب والجمل الشارد والرقيق الآبق، يصح أن تبيعهم في حالة واحدة: إذا ظن المشتري أنه يستطيع أن يخلص هذا الشيء ممن غصبه أو سرقه، أو ظن أنه يستطيع أن يجد هذه السلعة المباعة، فقالوا: بأنه يصح؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، العلة هي الغرر، والغرر الآن منتفٍ هذا المشتري يستطيع أنه يذهب ويحصل هذا الرقيق الآبق، يستطيع أنه يأتي به، يستطيع بقدرته بعد قدرة الله عز وجل أنه يبحث عن هذا الجمل، عنده آلات عنده أعوان، يستطيع أنه يبحث عن هذا الجمل ويحضره، وهذا القول هو الصواب. نقول: الصحيح أنه إذا كان المشتري يستطيع أن يحصل هذا الآبق أو الشارد، فنقول: بأن البيع حكمه صحيح، ويدل لهذا قول المؤلف رحمه الله: [ولا بيع المغصوب إلا لغاصبه، أو من يقدر على أخذه منه]. هذا مما يدل لما ذكرنا من الرأي الثاني، إنسان عنده أرض، وجاء ظالم وغصب هذه الأرض، فيقول المؤلف رحمه الله: يصح إنك تبيع الأرض هذه على الغاصب، ما فيه غرر الآن، الغاصب هي تحت يده، أو من يقدر على تحصيل هذه الأرض من الغاصب، إنسان أقوى من الغاصب، يستطيع أن يأخذ هذه الأرض من الغاصب، فيصح أن تبيعها عليه. وعلى هذا الأشياء التي لا تكون تحت قدرة المالك نقول: يصح للمالك أن يبيعها في حالتين: الحالة الأولى: إذا كان المشتري عنده القدرة على تحصيلها أو تخليصها. الحالة الثانية: إذا باعها على نفس الغاصب أو السارق ونحو ذلك. إذا ظن الإنسان أنه يقدر على تحصيلها واشتراها، ثم لم يتمكن، وما الحكم؟ إنسان ظن أن هذا الذي هرب يستطيع أنه يأتي به، قال: بِعْهُ علي، أنا أستطيع أن آتي به، ثم لم يتمكن، ما الحكم هنا؟ نقول: يثبت له الخيار، نقول: لك الخيار بين الإمضاء أو الفسخ، وحينئذ لا يكون هناك ضرر أو غرر على المشتري، وفي هذا فرصة أو فرج. بعض الناس قد يكون عنده أرض ثمينة، ثم يأتي شخص ويتسلط عليها ويسرقها، أو يغصبها، إذا قلنا: ما يجوز تبيعها مشكلة؛ لأنها الآن خرجت ولا يقدر عليها. لكن إذا قلنا: يجوز تبيعها لإنسان يستطيع يخلصها، إنسان أقوى منه يستطيع أن يخلصها لك، الحمد لله، أو تبيع على السارق نفسه. هذا الظالم الذي قام بالغصب أو بالسرقة أو بالنهب تبيعها عليه، نقول: الحمد لله. هذا فيه فرج.فأصبح كما تقدم بيع الذي لا يدخل تحت قدرة المالك يصح في حالتين: الحالة الأولى: إذا باع على شخص يقدر على تحصيلها أو تخليصها. والحالة الثانية: إذا باعها على نفس الغاصب أو السارق أو نحو ذلك.
بيع الطير في الهواء والسمك في الماء
قال المؤلف رحمه الله: (والطير في الهواء والسمك في الماء).يقول: لا يصح بيع الطير في الهواء؛ لأن فيه غرراً قد لا يرجع، والصواب في ذلك التفصيل في المسألة، إذا كان هذا الطير يألف الرجوع فلا بأس أن تبيعه، مثلاً إنسان عنده حمام، هذا الحمام يخرج من أوكاره في الصباح ويعود في المساء، فنقول: لا بأس أن تبيعه ما دام أنه يخرج في الصباح، وألِفَ الرجوع، لا بأس أن تبيعه وهو في السماء قد خرج، تبيع ثنتين ثلاث.. إلى آخره قد خرجت؛ لأنها تألف الرجوع، فنقول: بيع الطير في الهواء إذا كان يألف الرجوع حكمه جائز ولا بأس به. السمك في الماء، أيضاً هذا فيه تفصيل، إن كان بمكان محوز بحيث نتمكن من أخذه فلا بأس، يعني عندنا بِركة فيها أسماك نتمكن من أخذها، نقول: لا بأس، أما إذا كان بمكان غير محوز ما نتمكن من أخذها، كالنهر والبحر فهذا نقول: لا يجوز.
حكم بيع غير المعين
قال المؤلف رحمه الله: [ولا بيع غير معين كعبد من عبيده أو شاة من قطيعه إلا فيما تتساوى أجزاؤه، كقفيز من صبرة].هذه المسألة بمعنى الاستثناء في البيع، ما حكم الاستثناء في البيع؟ نقول: الاستثناء في البيع ينقسم إلى أقسام:القسم الأول: أن يكون مُشاعاً، كيف مشاع؟ يقول: بعتك الأرض إلا نصفها، جزء معلوم مشاع، بعتك السيارة إلا ربعها، بعتك المزرعة إلا ثلثها، وما الحكم هنا؟ نقول: هذا بيع صحيح؛ لأنه ما فيه غرر، تشتري أنت نصف الأرض كما لو تشتري عليه نصف الأرض، ما فيه غرر، تكون شريك له في البيت.. في السيارة.. في الكتاب.. إلى آخره، فنقول: القسم الأول: أن يكون المستثنى مشاعاً معلوماً، والمشاع هو الجزء الشائع.القسم الثاني: أن يكون المستثنى معيناً، يقول مثلاً: بعتك هذه السيارات إلا هذه السيارة، أو بعتك هذه الكتب إلا هذا الكتاب، أو هذه الأقلام إلا هذا القلم، ما الحكم هنا؟ صحيح أو ليس صحيحاً؟ نقول: صحيح، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ولا بيع غير معين)، يفهم منه أنه إذا كان معيناً إنه جائز، قال: بعتك هذه الكتب إلا هذا الكتاب، أو بعتك هذه الأقلام إلا هذا القلم، أو هذه السيارات إلا هذه السيارة، نقول: بأن هذا جائز ولا بأس به. القسم الثالث: أن يكون المستثنى غير معين، مثل لو قال: بعتك السيارات إلا سيارة، ما ندري ما هي السيارة التي استثنى، بعتك السيارات إلا سيارة، بعتك الكتب إلا كتاباً، ما ندري ما هذا الكتاب، بعتك الأثواب إلا ثوباً، بعتك الأقلام إلا قلماً، ما الحكم هنا؟ هل يصح أو لا يصح؟ كلام المؤلف أنه لا يصح، قال: (ولا بيع غير معين، كعبد من عبيده أو شاة من قطيعه إلا فيما تتساوى أجزاؤه كقفيز من صبرة)، نقول: لا يصح بيع غير المعين إلا إذا كان المبيع متساوي في القيمة، أو متقارب القيمة، هذا لا بأس، إذا كان المبيع متساوي القيمة أو متقارب، فنقول: لا بأس، مثلاً عنده خمس سيارات كلها تاريخ الإنتاج واحد، والجنسية واحدة.. إلى آخره، وقال: إلا سيارة، نقول: لا بأس، ما دام أن القيم متساوية أو متقاربة، مثلاً عنده أقلام، هذه الأقلام كلها على جنس واحد، مثل هذا القلم، فقال: بعتك إلا قلماً واحداً، يصح أو لا يصح؟ يصح؛ لأنه لا غرر هنا.أو مثلاً عنده كتب طباعتها واحدة، وما تبحث فيه واحد، فقال: إلا هذا الكتاب، نقول: بأن هذا صحيح. المهم إذا كان المستثنى غير معين نقول هذا فيه تفصيل، إن كان المبيع متساوي القيم أو متقارب فهذا لا بأس، أما إذا كان غير متساوي القيم ما يصح.باعه عشر سيارات هذه بمائة ألف، وهذه بخمسين ألف، وهذه بعشرة آلاف ريال، وقال: إلا سيارة، ما ندري هل المستثنى التي بمائة أو التي بخمسين أو التي بعشرين أو التي بثلاثين أو التي بعشرة.. إلى آخره؟ لا ندري، نقول: هذا لا يصح. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (إلا فيما تتساوى أجزاؤه كقفيز من صبرة)، القفيز معيار من معايير الكيل، والصبرة يعني الكوم من الطعام، فلو مثلاً قال: بعتك هذا الطعام البر والرز إلا صاعاً، يصح أو لا يصح؟ صحيح، ما فيه غرر، أو إلا مُداً أو قفيزاً من المد أو قفيزاً من هذا الطعام، نقول: هذا صحيح ولا بأس به.
الشرط السادس: أن يكون العاقد جائز التصرف
الشرط السادس: أن يكون العاقد جائز التصرف، وجائز التصرف مَن جمع أربع صفات:الصفة الأولى: الحرية، والثانية: العقل، والثالثة: البلوغ، والرابعة: الرشد، الحرية والعقل والبلوغ والرشد، نأخذ هذه الصفات واحدة واحدة.الصفة الأولى: البلوغ، غير البالغ ما يصح بيعه ولا شراؤه، غير البالغ الصبي، هذا لا يصح بيعه ولا شراؤه، إلا أنه استثنى العلماء رحمهم الله مسألتين يصح تصرف الصبي المميز فيها:المسألة الأولى: إذا كان تصرفه في الأمور اليسيرة عرفاً، يعني بيعه وشراؤه في الأمور اليسيرة عرفاً، فهذا لا بأس، فالصبي الذي له سبع سنوات أو عشر سنوات في البقالة أو في المكتبة يبيع ويشتري، هذا بريال وهذا بريالين وهذا بثلاثة، هذه أمور يسيرة عرفاً، هذا جائز.ورد أن أبا الدرداء اشترى من صبي عصفوراً فأطلقه، فنقول: الأمور اليسيرة عرفاً جائز أن يتصرف فيها.المسألة الثانية التي يصح تصرف الصبي فيها: إذا راهق، يعني قارب البلوغ، فإنه لا بأس أن يؤذن له في بعض المعاملات التي لها خطر، إذا راهق يعني قارب البلوغ، لا بأس أن وليه يأذن له في بعض المعاملات التي لها خطر؛ للمصلحة، لكي ننظر هل رشد أو لم يرشد؟ فإن كان رشد دفعنا إليه ماله بعد رشده بعد بلوغه، وإن لم يرشد حبسنا المال، ويدل لهذه الحالة قول الله عز وجل: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، ابتلوا. اختبروا، اليتامى، من هو اليتيم؟ الذي مات أبوه ولم يبلغ، فدلّ ذلك على أنه يُختبر ويدفع له، وهو حتى الآن لم يبلغ، فنقول: لا بأس هنا، إذا لم يبلغ نختبره بأن ندفع إليه معاملة أو معاملتين يبيع حتى لو كان له خطر، يبيع ويشتري ننظر هل رشد أو لم يرشد؟ الإذن له هنا للمصلحة، فإذا تبين أنه رشيد يحسن التصرف في ماله دفعنا إليه ماله بعد البلوغ، كما قال الله عز وجل: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6].الصفة الثانية: الحرية، الرقيق لا يصح تصرفه؛ لأنه مال، الرقيق المملوك هذا لا يصح تصرفه؛ لأنه مال، فلا يصح تصرفه إلا بالإذن، لا يصح أن يتصرف في قليل ولا كثير إلا إذا أذن له سيده، فإن أذن له سيده بالتصرف صح في القليل وفي الكثير؛ لأنه بالغ عاقل وهو مكلف، ما يبقى إلا الإذن، فإذا أذن له سيده صح.الصفة الثالثة: العقل، يخرج المجنون، المجنون فاقد العقل، أيضاً المجنون ما يصح تصرفه، المعتوه ناقص العقل، الفرق بين المجنون والمعتوه: المعتوه ناقص عقله فيه نقص، المجنون فاقد العقل، المجنون هذا العلماء رحمهم الله يقولون: إذا كان معه إدراك فحكمه حكم الصبي المميز. الصفة الرابعة: الرشد، الرشيد هو الذي يحسن التصرف في ماله، غير الرشيد هو الذي لا يحسن التصرف في ماله، وهذا سيأتينا في باب الحجر وبيان ضابطه.المهم الذي لا يحسن التصرف في ماله هذا يسمى عند العلماء سفيه يحجر عليه، لا يحسن التصرف في ماله، هذا سفيه يحجر عليه، هذا لا يصح تصرفه، لا بيعه ولا شراؤه، اللهم إلا الأمور اليسيرة، الأمور اليسيرة هذه لا بأس، ما عداه فإنه لا يصح.
الشرط السابع: التراضي
الشرط السابع: التراضي، الرضا شرط في كل العقود ليس خاصاً في عقد البيع، بل نقول: بأنه شرط في كل العقود، ودليل ذلك قول الله عز وجل: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] ، وأيضا قول الله عز وجل: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراض)، وأيضا قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يحلبن أحد شاة أحد إلا بإذنه)، وأيضاً: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)، إلا إذا كان الإكراه بحق، إذا كان الإكراه بحق فإنه لا يشترط الرضا، فمثلاً هذا الرجل عليه دين فأكرهه القاضي على أن يبيع ماله لكي يوفي الدين الذي عليه، مثلاً عنده سيارتان، يجب أن يبيع إحدى السيارتين لكي يوفي الدين الذي عليه، أو أكرهه القاضي لكي ينفق على زوجته وأولاده، ما الحكم هنا؟ جائز، ونقول: هذا إكراه بحق.
البيوع المنهي عنها

بيع الملامسة والمنابذة وبيع الحصاة
قال المؤلف رحمه الله: [فصل: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة وعن المنابذة وعن بيع الحصاة وعن بيع الرجل على بيع أخيه].الملامسة والمنابذة من بيوع الجاهلية، كانت موجودة في الجاهلية قبل البعثة، فجاء الإسلام وأبطلها، ويدل لهذا ما في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة).وما هي الملامسة؟ وما هي المنابذة؟ الملامسة ذكر العلماء رحمهم الله لها تفاسير، من هذه التفاسير أن يقول: أي ثوب لمسته فهو عليك بكذا، يعني بمائة ريال مثلاً، هذا لا يصح، لماذا؟ لأن فيه غرراً، قد يلمس ثوباً كبيراً، قد يلمس ثوباً صغيراً، قد يلمس ثوباً معيباً، المهم نحن لا يعنينا المثال، يعنينا الضابط، ما هو الضابط؟ النهي عن الغرر، هذا الضابط، البعد عن الغرر، فليس المقصود النهي عن الملامسة لذات الملامسة، لا، المقصود كما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر).أيضاً المنابذة، ما هي المنابذة؟ يقول: أي ثوب نبذته إليك فهو عليك بكذا وكذا، قد ينبذ ثوباً كبيراً، قد ينبذ ثوباً صغيراً.. إلى آخره، أيضاً هذا ليس المقصود هنا المثال، المقصود الضابط، وأن المقصود بذلك الغرر، فإذا تضمن غرراً فنقول: لا يجوز، وأيضاً هذا من الميسر؛ لأن الإنسان يدخل وهو إما غانم أو غارم في مثل هذه المعاملات.قال: (وعن بيع الحصاة) أيضاً بيع الحصاة هذا من بيوع الجاهلية، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة)، واختلف العلماء رحمهم الله في تفسير ذلك، ما هو بيع الحصاة؟ قال بعض العلماء: أن يقول: أي ثوب ضربته بهذه الحصاة فهو عليك بكذا، يرمي الحصاة، وأي ثوب وقعت عليه هذه الحصاة فهو عليك بكذا، قد تقع على هذا الذي يساوي مائة، وقد تقع على هذا الذي يساوي عشرة، هذا أيضاً غرر وميسر.أو يقول: بعت عليك من الأرض بمقدار ما تصل إليه هذه الحصاة التي رميت بها، مثلاً يقول: لك من هذه الأرض بمقدار ما تصل إليه هذه الحصاة التي ضربت بها بألف ريال، أو بألفين.. إلى آخره، هذا أيضاً فيه غرر، قد تكون الرمية قوية، قد تكون ضعيفة، قد يقصر في الرمية، قد يصير فيها غش تدليس، المهم فيه غرر هنا، ما ندري هل تصل إلى مائة متر إلى مائة وخمسين متراً إلى أقل إلى أكثر فنقول: بأن هذا حكمه غير صحيح، فلابد من انتفاء الغرر، أما مع وجود الغرر فنقول: بأن هذا غير صحيح.
بيع الرجل على بيع أخيه
قال المؤلف رحمه الله: [وعن بيع الرجل على بيع أخيه]. وهذا دليله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض)، وهذا في الصحيحين، وبيع الرجل على بيع أخيه له صورتان: الصورة الأولى: في الكمية، كأن يقول شخص لشخص آخر: بعتك السيارة بعشرة فيأتي شخص ويقول: أبيعك مثلها بثمانية، هذا في الكمية، هذا ما يجوز. في الكيفية يقول: أبيعك سيارة قيمتها عشرة تاريخ الإنتاج عام ألف وأربعمائة وخمس وعشرين، يأتي شخص ويقول: أبيعك سيارة مثلها بعشرة تاريخ إنتاجها ألف وأربعمائة وست وعشرون، هذه جديدة، وهذه أقل منها جودة، أو مثلاً يقول: بعتك هذا البر هذا الصاع من البر بعشرة ريالات، وهو متوسط، فيأتي شخص ويقول: أبيعك صاعاً من البر بعشرة وهو جيد، هذا في الكيفية، المهم إذا كان في الكمية أو في الكيفية لا يجوز.متى يكون التحريم؟ المشهور من المذهب أن التحريم يكون في زمن الخيارين، وهما: خيار المجلس وخيار الشرط؛ لأنه في زمن الخيارين يتمكن من الفسخ، أما بعد زمن الخيارين ما يتمكن من الفسخ.نقول: التحريم في زمن الخيارين، لماذا؟ لأنه في زمن الخيارين: خيار المجلس وخيار الشرط، يتمكن من الفسخ، ماعدا ذلك ما يتمكن من الفسخ. ففي خيار المجلس هم الآن في المجلس قال: بعتك السيارة بعشرة، قال واحد للمشتري: أبيعك مثلها بتسعة، تم البيع الآن، قال: بعتك السيارة بعشرة، قال: قبلت، وانتهوا، ثم جاء شخص باع على بيعه بعد أن تم العقد، قال: أبيعك مثل السيارة بتسعة، يمكن يفسخ مع الأول وإلا ما يفسخ مع الأول؟ ما دام أنه في خيار المجلس يتمكن من الفسخ مع الأول ويعقد مع الثاني الذي باعه بتسعة. ولا بد أن نفرق بين البيع على البيع، والسوم على سومه، هنا تم البيع، قال: بعتك السيارة بعشرة، قال: قبلت وانتهوا، ثم جاء شخص وهم في المجلس قال: أبيعك مثلها بتسعة، فيذهب ويفسخ مع الأول ويعقد مع الثاني.

ابو وليد البحيرى
2019-04-11, 04:32 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب البيع [3]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(66)


إن من الضرورات التي حرصت الشريعة على حفظها مال المسلم، فلا يؤخذ منه شيء بغير وجه حق أو طيب نفس منه، وعليه فقد نهت عن بعض البيوع القائمة على الغرر والظلم والغش، ومن ذلك تلقي الركبان لشراء سلع أهل البادية بغية رفع أسعارها على أهل البلد، ومن ذلك بيع النجش وا
تابع البيوع المنهي عنها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وعن بيع حاضر لباد؛ وهو أن يكون له سمساراً، وعن النجش وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، وعن بيعتين في بيعة وهو أن يقول: بعتك هذا بعشرة صحاح أو عشرين مكسرة، أو يقول: بعتك هذا على أن تبيعني هذا أو تشتري مني هذا، وقال: ( لا تلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق )، وقال: ( من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه ) ]. ‏
مجمل ما ذكر من البيوع المنهي عنها
تقدم لنا في الدرس السابق جملة من شروط صحة البيع، وذكرنا من هذه الشروط: أن يكون الثمن معلوماً، وأن يكون المثمن معلوماً، وأن يكون المثمن مقدوراً على تسليمه، وأن يكون العاقد جائز التصرف، وأن يكون هناك رضا، وأن يكون المبيع مما يحل الانتفاع به، إلى آخر ما تقدم أن ذكرناه.ثم بعد ذلك تكلم المؤلف رحمه الله عن بيع الملامسة والمنابذة إلى آخره، وذكرنا الدليل على تحريم هذين البيعين، وما المراد بهما.ثم تكلم المؤلف رحمه الله عن بيع الحصاة، وذكر أنه من البيوع المنهي عنها، ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن بيع الحصاة )، وهذا أخرجه مسلم في صحيحه. وقد ذكر العلماء رحمهم الله تفسيرين لبيع الحصاة: التفسير الأول: أن يقول: ارم بهذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت فهو عليك بكذا وكذا.والتفسير الثاني: أن يقول: بعتك من الأرض بقدر ما تبلغ هذه الحصاة بكذا وكذا، ثم يرمي.فهذان تفسيران على سبيل المثال، وإلا المراد بذلك النهي عن بيع الغرر، وإلا فإن هاتين الصورتين على سبيل المثال.فبيوع الملامسة والمنابذة والحصاة هذه كلها يجمعها حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر ).
النهي عن بيع حاضر لباد
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن بيع حاضر لباد ].الحاضر: هو الحضري الذي يقيم في المدن، والباد: هو البدوي الذي يقيم في البراري والصحاري ونحو ذلك، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد.قال: [ وهو أن يكون له سمساراً ].ودليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تتلقى الركبان، وأن يبيع حاضر لباد )، قيل لـابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما قوله: حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمساراً، وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم .والنبي صلى الله عليه وسلم بين العلة كما في صحيح مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض )، فالعلة في ذلك أنه لا يكون الحضري سمساراً للبدوي، يعني: يتولى عنه بيع البضاعة، وإنما البدوي هو الذي يتولى الأمر بنفسه، والعلة كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض )، فإذا ترك البدوي يبيع سلعته فإن الناس يشترونها برخص، وإذا باعها له الحضري فإن الحضري يبيعها بأغلى، لا يبيعها إلا بسعر البلد، فيضيق على أهل البلد.واشترط العلماء رحمهم الله للنهي عن بيع الحاضر للباد شروطاً: الشرط الأول: أن يقصد الحاضر البادي، يعني البادي يقصده الحاضر، ولا يقصد البادي الحاضر، فيكون الحاضر يقصد البادي، فهذا هو موضع النهي، أما إذا كان العكس وأن البادي هو الذي قصد الحاضر وطلب منه أن يبيع سلعته، فإن هذا جائز لا بأس به.الشرط الثاني: أن يحضر البادي لبيع سلعته، أما إن جاء ليهبها أو ليأكلها أو ليخزنها ونحو ذلك فإنه لا نهي، فالأقرب في ذلك عموم الحديث، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الحاضر للبادي، ولو قصد البادي بالسلعة عدم البيع عندما أتى بها، لكن أتى بها لكي يأكلها أو لكي يهديها أو لكي يخزنها، ولم يقصد بيعها ابتداء، فالصواب في ذلك العموم، وأنه وإن لم يقصد بيعها عندما أتى بها، فنقول الصواب في ذلك: أنه ينهى لعموم الحديث.الشرط الثالث: أن يكون البادي جاهلاً بالسعر، أما إذا كان عالماً بالسعر فإنه لا فائدة من تركه يتولى بيعها بنفسه، لأنه عارف بالسعر، ولم يحصل للناس توسعة، فكونه يبيعها بنفسه أو يبيعها الحاضر لا فرق؛ لأن الرخصة والتوسعة إنما تحصل فيما إذا كان جاهلاً بسعرها، أما إذا كان يعلم السعر فإن التوسعة لا تحصل للناس، ولهذا اشترط العلماء رحمهم الله أن يكون جاهلاً بالسعر.الشرط الرابع: أن يكون بالناس حاجة إلى هذه السلعة، كالأقوات ونحو ذلك، يعني الأشياء التي يحتاجها الناس، والصواب في ذلك: العموم، يعني نقول: الصحيح في هذه المسألة أن الحاضر منهي عن بيع سلع البادي وإن كانت هذه السلع لا تتعلق بها حاجة الناس، هذا هو الصواب، والدليل على ذلك عموم الحديث. الشرط الخامس: أن يحضر لكي يبيعها بسعر يومها، أما إن حضر البادي وفي نفسه ألا يبيعها رخيصة، وإنما يبيعها غالية، فكون الحاضر هنا يتولى بيعها له ليس فيه تضييق، فنقول: الشرط الأخير أن يحضر لكي يبيعها بسعر يومها، أما إن حضر وفي نفسه ألا يبيعها رخيصة وإنما يبيعها غالية، فهذا كون الحاضر يبيعها له ليس فيه تضييق. طيب، هل هذا خاص بالبادي الذي يأتي بالسلع من البادية، أو حتى لو أتى بها من القرية إلى المدينة؟ يعني قد تكون هناك قرى يأتي بها أصحاب القرى وأصحاب المزارع التي تكون خارج المدن، هل كون الحاضر يتولى البيع لهم داخل في النهي أو ليس داخلاً في النهي؟ نقول: نعم، هذا داخل في النهي. فسواء أتى بها من البادية، أو أتى بها من قرية غير البادية، أو أتى بها من مدينة إلى مدينة لأن العلة واحدة، فيكون كله داخل في النهي عن أن يتولى الحاضر البيع.
النهي عن بيع النجش
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن النجش وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ].النجش في اللغة: الإثارة، ومنه قولهم: نجشت الصيد إذا أثرته.وأما في الاصطلاح فهو: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، ونقول: هذا نجش؛ لأنه أثار السعر وهو لا يريد الشراء.والنجش حكمه محرم ولا يجوز، سواء كان ذلك باتفاق بين البائع والناجش، أو كان ذلك بلا اتفاق وإنما أراد الناجش أن يضر المشتري، أو أن ينفع البائع، أو أراد ذلك كله، المهم النجش محرم ولا يجوز لما فيه من الظلم والغش.والدليل على ذلك: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش )، كما في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو في الصحيحين، وأيضاً في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد )، وهذا في الصحيحين.
صور النجش في البيع
والنجش له صور: الصورة الأولى من صور النجش: أن يزيد في السلعة من لا يريد الشراء، وهذا مطلقاً كما تقدم، سواء كان ذلك باتفاق بين البائع والناجش أو لم يكن هناك اتفاق، وسواء قصد منفعة هذا أو مضرة ذاك إلى آخره، المهم نقول: بأن هذا محرم ولا يجوز.الصورة الثانية من صور النجش: أن يقول البائع: سيمت مني بكذا وكذا، أو أعطيت بها كذا وكذا، وهو كاذب، يأتي شخص ويقول: السيارة هذه سيمت مني بعشرة آلاف ريال وهو كاذب؛ لأنه رفع السعر الآن، أو يقول: أعطيت بها كذا وكذا وهو كاذب، فنقول: بأن هذا داخل في النجش المحرم غير الجائز. الصورة الثالثة: أن يبذل كثيراً ليعطيه قريباً منه، يعني يأتيه ويسأله: كم سعر الكتاب؟ فيقول: الكتاب بخمسة عشر، فيقول المشتري: ثلاثة عشر، ثم يبيع عليه، يعني يرفع عليه السعر لكي يبذل المشتري قريباً من ذلك، فإذا رفع عليه السعر لكي يبذل المشتري قريباً من ذلك قالوا بأن هذا من تغرير البائع كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فيقول مثلاً: الثوب بثمانين ريالاً، فيقول لك: الثوب بمائة ريال، ثم يقول المشتري أعطني إياه بثمانين، فهو سعره ثمانون، فيظن المشتري أنه اكتسب وأنه رخص له في ذلك وإذا هو بالسعر، ما استفاد شيئاً، فهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه محرم؛ لأنه من تغرير البائع، اللهم إلا إذا كانت الزيادة يسيرة، يعني: شيخ الإسلام يقول: ويحرم أن يسومه كثيراً لكي يبذل قريباً منه، فيزيد لكي يبذل المشتري قريباً من هذه الزيادة إلى آخره، فهذا من تغرير البائع كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. لكن لو أنه زاده شيئاً يسيراً لأن الناس يماكسون، مثلاً الكتاب بعشرة فيقول: بأحد عشر لكي يكون بعشرة، أو بتسعة أو نحو ذلك، فهذا يظهر أنه لا بأس به، لكن أن يسومه كثيراً لكي يبذل قريباً منه هذا من تغرير البائع.
النهي عن بيعتين في بيعة
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن بيعتين في بيعة ].ودليل ذلك حديث أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيعتين في بيعة )، وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا ).وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تفسير البيعتين في بيعة التي نهى عنها النبي على أقوال: الرأي الأول: ما ذكره المؤلف رحمه الله قال: أن يقول: بعتك هذه بعشرة صحاح أو عشرين مكسرة، الصحاح غير المكسرة، يعني مثلاً يقول لك: بعتك هذا الكتاب بعشرة دنانير صحاح، أو بعشرين مكسرة، والمكسرة هذه أجزاء. وكانوا في الزمن السابق يقولون: نقود، ويقصدون بها الدراهم والدنانير، الدرهم يكون من الفضة، والدينار يكون من الذهب، هذه تسمى نقوداً. وعندهم أيضاً مكسرة وهي أجزاء مقطعة من الدينار والدرهم، قطعة من الدينار، قطعة من الذهب، قطعة من الفضة إلى آخره، هذه تسمى مكسرة.والأمر الثالث: فلوس، والفلوس هذه التي تستخدم ثمن للأشياء من الحديد أو من المعدن، وكذلك أيضاً من الورق، فعندنا نقود، وعندنا مكسرة، وعندنا فلوس، وهو هنا قال: بعتك هذه السلعة بعشرة صحاح -عشرة دنانير صحيحة، أو عشرة دراهم صحيحة من الذهب والفضة- أو عشرين مكسرة (قطع). يقول المؤلف رحمه الله: هذه بيعتان في بيعة لا تصح، فلابد أن نفهم مسألة أنه لابد من الجزم بالسعر، إذا تفرقا ولم يجزم بالسعر فلا يصح أصلاً.الرأي الثاني: أن بيعتين في بيعة هو اشتراط عقد في عقد، بأن يقول: بعتك هذا الكتاب على أن تبيعني كتابك، أو بعتك هذا الكتاب على أن تؤجرني سيارتك، أو على أن تعقد معي عقد شركة ونحو ذلك، فقالوا: هذه بيعتان في بيعة وهي التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، هكذا يفسرون البيعتين في بيعة، وعلى هذا؛ ما ذهب إليه المؤلف رحمه من هذا التفسير هو خلاف المذهب، المذهب يقولون بأن بيعتين في بيعة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: بعتك هذا الكتاب على أن تبيعني، أو على أن تؤجرني، يعني يشترط عقداً آخر.والرأي الثاني: رأي مالك وغيره، وهو أن اشتراط عقد في عقد ليس داخلاً في بيعتين في بيعة، يعني كون الإنسان يقول: بعتك بشرط أن تبيعني.. بشرط أن تؤجرني.. بشرط أن تعقد معي عقد مساقات.. عقد مزارعة، قالوا: إن هذا جائز ولا بأس به؛ لأن الأصل في المعاملات الحل.وهذا القول هو الصواب: أن اشتراط عقد في عقد آخر لا بأس به، إلا إذا تضمن ذلك محظوراً شرعياً، بأن يقول مثلاً: أقرضتك على أن تبيعني، يقول مثلاً: أقرضتك كذا وكذا على أن تبيعني، نقول: هذا لا يجوز؛ لأن القرض يراد به الإرفاق والإحسان، فإذا اشترط فيه شرطاً جر منفعةً، والقرض إذا جر منفعة فهو من الربا، كما ورد عن الصحابة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يحل سلف وبيع ).أو مثلاً يقول: بعتك على أن تزوجني ابنتك، نقول: هذا لا يجوز، هذا نظير الشغار الذي صفته أن يزوجه موليته على أن يزوجه الآخر موليته، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار.لأننا إذا جوزنا مثل هذا ما ينظر الولي إلى مصلحة موليته وإنما ينظر إلى مصلحته هو، فالذي يعطيه أكثر أو الذي يبيعه يزوجه، والذي ما يبيعه لا يزوجه.المهم نأخذ من هذا الخلاصة: أن اشتراط عقد في عقد حكمه جائز؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، إلا إذا تضمن ذلك محذوراً شرعياً، كما مثلنا.التفسير الثالث لبيعتين في بيعة الذي ذهب إليه ابن القيم رحمه الله، قال: بأن المراد به بيع العينة، قال: فبيع العينة هو بيعتان في بيعة الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه اشتمل على بيعتين؛ بيعة نسيئة، وبيعة حاضرة والمبيع واحد.ضابط بيع العينة: أن يشتري منه سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيعها عليه بأقل من ثمنها نقداً، يشتري منه السيارة بثمانين ألفاً مؤجلة لمدة سنة، ثم يذهب نفس المشتري ويبيعها على البائع بستين ألفاً نقداً، فالسيارة الآن رجعت للبائع، والمشتري تحصل على ستين، والبائع يطالبه بثمانين، فهذا الربا، ستون بثمانين دخلت بينهما السيارة، الآن عندنا بيعتان في بيعة؛ بيعة نسيئة وبيعة حاضرة، والمبيع واحد وهو السيارة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو : ( من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا )، يعني: إذا حل الأجل نقول البائع بذل ستين، ويطالب الآن بثمانين، فنقول له: إذا حل الأجل إن أخذت ستين أخذت بالناقص -فله أوكسهما- وإن أخذت ثمانين وقعت في الربا، فله الناقص أو الربا، وهذا تفسير ابن القيم رحمه الله وهو الأقرب: أن المراد ببيعتين في بيعة بيع العينة.قال: [ أو يقول: بعتك هذا على أن تبيعني هذا وتشتري مني هذا... ] إلى آخره.نحن قلنا هذا اشتراط عقد في عقد، وذكرنا الخلاف في هذه المسألة، وقلنا: الصواب أن اشتراط عقد في عقد جائز ولا بأس به، إلا إذا تضمن ذلك محذوراً شرعياً فإن هذا غير جائز.قال: [ وقال: ( لا تلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق ) ].وهذا من تلقي الركبان وقد تقدم، وذكرنا الدليل على ذلك وهو حديث أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد )، وهذا الحديث في الصحيحين، فتلقي الركبان محرم.
صور تلقي الركبان
وتلقي الركبان هذا له صور:الصورة الأولى: أن يخرج ويتلقاها خارج البلد، فهذا داخل في النهي عن تلقي الركبان؛ لأنه يتضمن الغرر والخديعة لهذا الراكب؛ لأنه يكون جاهلاً بالسعر، فنقول: بأن هذا محرم ولا يجوز.الصورة الثانية: أن يخرج خارج البلد لا لقصد التلقي وإنما لنزهة أو لغرض وغير ذلك، ثم يلقى أهل السلع، فهذا موضع خلاف، والأحوط أنه لا يشتري منهم.الصورة الثالثة: أن يلقاهم خارج البلد لكنهم لا يقصدون بلده وإنما يقصدون بلداً آخر، يعني هو وجدهم خارج البلد ومعهم الحمولة ولا يقصدون بلده وإنما يقصدون بلداً آخر فتلقاهم، فنقول: بأن هذا شراء من مسافر، والشراء من المسافر جائز.الصورة الرابعة: أن يتلقاهم داخل البلد لكن قبل أن يصلوا إلى السوق، فنقول أيضاً: هذا داخل في النهي.والصورة الخامسة: ألا يتلقاهم وإنما يقصدونه هم بأنفسهم كي يبيعوا له، فهذا جائز ولا بأس به.الصورة السادسة: أن يعرضوا سلعهم خارج البلد، ولا يقصدون الدخول إلى أسواق المدينة، فتجد بعضهم يعرض سلعه خارج البلد، أو حتى في الصحراء، فنقول بأن هذا جائز ولا بأس به.وقوله: [ الركبان ].الركبان: جمع راكب، وهو في الأصل راكب البعير، والمراد به: كل من أتى بسلع إلى البلد، سواء كان راكباً أو راجلاً.
النهي عن بيع السلعة حتى يقبضها
قال: [ وقال: ( من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه ) ].(يستوفيه) أي: يقبضه، في هذا الحديث النهي عن بيع السلع حتى يقبضها المشتري، فليس لك أن تبيعها حتى تقبضها إذا كنت مشترياً، وهل هذا خاص بأشياء معينة، أو أنه عام؟ هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله.فالرأي الأول: أن هذا عام يشمل كل السلع، ويدل لهذا حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ( رأيت الذين يشترون الطعام مجازفةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضربون حتى يؤووه إلى رحالهم )، وهذا في الصحيحين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في الصحيحين: ( من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه )، وأيضاً حديث ابن عمر قال: ( كنا نشتري من الركبان جزافاً، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه )، فهل هذا عام أو ليس عاماً؟الرأي الأول: أن هذا عام، ولهذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وأحسب أن كل شيءٍ مثله، أي: مثل الطعام، أي: إذا اشترى الإنسان سيارة ليس له أن يبيعها حتى يقبضها، اشترى كتاباً ليس له أن يبيعه حتى يقبضه، اشترى طعاماً.. رزاً.. براً.. ثياباً.. إلى آخره ليس له أن يبيعه حتى يقبضه، هذا هو الرأي الأول.الرأي الثاني: أن هذا خاص بالطعام، لقوله في الحديث: ( رأيت الذين يشترون الطعام )، ( من اشترى طعاماً )، إلى آخره: أن هذا خاص في الطعام، وهذا قال به الإمام مالك رحمه الله، أما ما عدا الطعام فله أن يبيعه قبل أن يقبضه، فمثلاً: إذا اشترى كتاباً وهو لم يقبضه فله أن يبيعه، أو إذا اشترى سيارة فله أن يبيعها قبل أن يقبضها.. إلى آخره.الرأي الثالث: فيه تفصيل، فقالوا: إن بيع بتقدير فله أربع صور: الموزون -يعني: ما بيع بالوزن- أن يبيعك هذا اللحم كل كيلو بكذا، أو السكر كل كيلو بكذا، ما بيع بوزن أو كيل، يبيعك هذا الرز كل صاع أو كل مد بكذا، أو عدّ؛ فيبيعك هذه السلعة كل حبة بكذا، أو ذرع؛ فيبيعك هذا القماش كل متر أو كل ذراع بكذا، قالوا: ما بيع بتقدير، وما بيع برؤية سابقة، أو بوصف، لا يجوز بيعه قبل قبضه.وما بيع جزافاً بدون تقدير، مثلاً: اشتريت منك هذه السلعة، أو هذا البطيخ، أو هذه الخضار.. هكذا، أو برؤية حاضرة، مثل: اشتريت منك هذه السيارة الموجودة الآن... إلى آخره، قالوا في هذا: يجوز أن تبيعه قبل أن تقبضه، وهذا هو المذهب.والراجح في هذه المسألة ما ذهب إليه أهل القول الأول، وأن كل مبيع لا يجوز بيعه قبل قبضه، لعموم الأحاديث، لهذا قال ابن عباس : وأحسب أن كل شيء مثله.وورد في بعض الأحاديث لفظ السلع، وهذا يشمل الطعام وغير الطعام، فالصواب أنه ليس خاصاً بالطعام، أو أنه خاص بصور معينة كما هو مذهب الحنابلة رحمهم الله.
ما استثناه ابن تيمية مما ينهى عنه من بيع السلعة قبل قبضها
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله استثنى مسألتين: المسألة الأولى: قال: إذا باعه على بائعه فلا بأس أن يبيعه قبل أن يقبضه، مثلاً: اشتريت منك السيارة بعشرة آلاف ريال ثم بعتها عليك بأحد عشر ألفاً أو بتسعة آلاف قبل أن أقبضها منك، فيقول شيخ الإسلام : إذا باعه على بائعه فإن هذا جائز ولا بأس به، هذه الصورة الأولى التي استثناها.الصورة الثانية: إذا باعه تولية هذا سيأتينا إن شاء الله في أقسام الخيارات، إذا باعه تولية، بمعنى أنه باعه برأس ماله، يعني: السيارة هذه اشتراها بعشرة آلاف ريال ثم ذهب وباعها بعشرة ما كسب فيها، باعها برأس مالها، يقول: يجوز أن يبيعها قبل قبضها من البائع، والصواب في ذلك العموم، وأنه حتى ولو باعها برأس المال فإن هذا لا يجوز.وهل النهي خاص بالبيع قبل القبض، أو أنه ليس خاصاً بالبيع؟ يعني أنت مثلاً اشتريت السيارة والشارع منعك من البيع، لكن لو جعلتها صداق لزوجة تزوجتها.. جعلتها هبة.. جعلتها وقفاً... إلى آخره، أو نقول: بأن هذا خاص بالبيع؟هذا موضع خلاف، والصحيح أن هذا خاص بالبيع، أما ما عدا البيع ومعناه، ما عدا ذلك فإنه جائز، مثلاً: الإنسان اشترى سيارة وقبل أن يقبضها ذهب ووهبها.. اشترى سيارة وقبل أن يقبضها وقفها لله عز وجل.. ذهب وأجرها.. أجر البيت قبل أن يقبضها.. رهنها.. الأرض عقد عليها عقد مساقات.. عقد مزارعة قبل أن يقبضها، نقول: هذه التصرفات جائزة. الذي ينهى عنه هو البيع، وما عدا ذلك فإنه لا ينهى عنه، وهذا هو الصواب في هذه المسألة.قبل أن ننتهي بقي عندنا مسألة، وهي: ما هي الحكمة في النهي عن بيع السلعة قبل قبضها؟ هذه اختلف فيها العلماء رحمهم الله، وأقرب شيء هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الحكمة هو أنه قد يعجز المشتري من تخليص السلعة من البائع؛ لأنه إذا ربح فيها البائع قد يعجز المشتري من تخليصها منه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-11, 04:36 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب البيع [4]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(67)


ينقسم الربا في البيع إلى قسمين: ربا فضل وربا نسيئة، وقد اختلف الفقهاء في تحديد علة الربويات المنصوص عليها في السنة، بعد اتفاق الجمهور على كون التحريم هنا معقول المعنى.
الربا
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب الربا: عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى), ولا يجوز بيع مطعوم مكيل أو موزون بجنسه إلا مثلاً بمثل.ولا يجوز بيع مكيل من ذلك بشيء من جنسه وزناً ولا موزون كيلاً، وإن اختلف الجنسان جاز بيعه كيف شاء يداً بيد، ولم يجز النَّساء فيه, ولا التفرق قبل القبض، إلا في الثمن بالمثمن].تقدم لنا في الدرس السابق جملة من البيوع المنهي عنها, منها: بيع الملامسة والمنابذة والحصاة، وما يتعلق بالبيع على بيع أخيه، وبالشراء على شرائه.. إلى آخر ما تكلمنا عليه.ثم بعد ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: (باب الربا عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل, سواءً بسواء, فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
تعريف الربا وحكمه
الربا في اللغة: يطلق على معانٍ منها البركة والزيادة.وأما في الاصطلاح: فهو تفاضل في أشياء ونساء في أشياء, مختص بأشياء، وهذا التعريف فيه إجمال، لكن سيتضح إن شاء الله. والربا محرم ولا يجوز, وكان في الجاهلية قبل الإسلام ثم جاء الإسلام وأبطله وحرمه لما فيه من الظلم وأكل أموال الناس بالباطل. والأدلة على تحريمه ظاهرة من القرآن والسنة والإجماع في صور, واختلف العلماء رحمهم الله في صور أخرى. أما القرآن فقول الله عز وجل: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275] وأيضاً قول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] .وأما السنة فحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات) وذكر منها أكل الربا. وأيضاً حديث جابر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه) أخرجه مسلم في صحيحه. والمسلمون مجمعون على تحريم الربا.
أقسام الربا
الربا ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ربا الفضل، والقسم الثاني: ربا النسيئة.
ربا الفضل
الفضل في اللغة: الزيادة.وأما في الاصطلاح: فهو الزيادة في أحد الربويين الحالين المتحدي الجنس.وسيأتينا إن شاء الله ما هي الأموال الربوية، إذا فهمنا ما هو المال الربوي استطعنا أن نفهم الربا؛ لأنه ليس كل الأموال ربوية، ليس كل الأموال إذا بادلت بعضها ببعض بالزيادة أو مع التأخير وقعت في الربا، الربا خاص ببعض الأموال دون بعض كما سيأتي. فنقول في تعريف ربا الفضل: الزيادة في أحد الربويين المتحدي الجنس الحالين. مثال ذلك: عشرون غراماً من الذهب بعشر غرامات, الذهب من الأموال الربوية، الآن بادلت ذهباً بذهب مع الزيادة فوقعت في ربا الفضل. ومثل ذلك أيضاً: مبادلة عشرين غراماً من الفضة بعشر غرامات. مثال ثالث: مبادلة صاعين من التمر بصاع من التمر, وقعت في الربا، التمر من الأموال الربوية فبادلت ربوياً بجنسه مع الزيادة, وكل منهما حال يداً بيد: تمر بتمر يداً بيد، ذهب بذهب يداً بيد لكن زدت في أحد العوضين فوقعت في الربا.مثال رابع: خمسة ريالات بستة ريالات، صرفت مثلاً خمسمائة ريال بأربعمائة وتسعين أو بأربعمائة وتسعة وتسعين، وقعت الآن في ربا الفضل, الريالات هذه أموال ربوية, فبادلت ربوياً بجنسه مع الزيادة.أيضاً: دينارات بدينارات، جنيهات بجنيهات، حالة يداً بيد لكن مع الزيادة في أحدها نقول بأنك وقعت في ربا الفضل.ربا الفضل هل هو محرم أو ليس بمحرم؟ جماهير أهل العلم على أنه محرم, وإن كان ورد عن بعض السلف عدم التحريم، لكن جمهور أهل العلم على أنه محرم, ويدل على هذا ما أورده المصنف حديث عبادة : (الذهب بالذهب, والفضة بالفضة, والبر بالبر, والشعير بالشعير, والتمر بالتمر, يداً بيد, فمن زاد أو استزاد فقد أربى) هذا ربا الفضل، زاد أو استزاد فقد أربى, وقع في الربا، فإذا أخذ في ذلك زيادة وقع في الربا.وذهب بعض العلماء إلى أن الربا خاص بربا النسيئة فقط لحديث أسامة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الربا في النسيئة). وهذا أجاب عنه العلماء رحمهم الله بأجوبة من هذه الأجوبة: أن المراد بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الربا في النسيئة) يعني: الربا الأشد والأغلظ إنما هو في النسيئة, ولا يمنع هذا من ثبوت ربا الفضل, وهناك أجوبة أخرى لا حاجة إلى سردها, لكن يكفينا هذا؛ لأن الأحاديث صريحة ثابتة صحيحة في إثبات ربا الفضل, هذا القسم الأول وهو ربا الفضل.
ربا النسيئة
القسم الثاني: ربا النسيئة. النسيئة في اللغة: التأخير.وأما في الاصطلاح: فهو تأخير القبض في أحد الربويين اللذين اتفقا في علة ربا الفضل, وهذا الكلام يحتاج إلى شرح يتضح فيما بعد, لكن نضرب على ذلك أمثلة.من الأمثلة: عندما تبادل بُرًا بشعير, البر مال ربوي، والشعير مال ربوي، يتحدان في علة ربا الفضل كما سيأتي إن شاء الله، وعلة ربا الفضل في البر والشعير، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الطعم مع الكيل, والطعم مع الوزن, فالبر مطعوم مكيل، والشعير مطعوم مكيل, فاتفقا في علة ربا الفضل, واختلفا في الجنس, عندما نبادل أحدهما بالآخر نشترط شرطاً واحداً وهو أن يكون يداً بيد, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) فعندما تبادل بُرًا بشعير يجوز التفاضل لكن لابد أن يكون يداً بيد, فإن حصل التأخير (عدم القبض) فإنك تكون وقعت في ربا النسيئة, إذا بادلت ذهباً بذهب مع تأخير القبض عشر غرامات ذهب بعشر غرامات ذهب مع تأخير القبض هنا يتحدان في العلة, علتهما واحدة كما سيأتي، فإذا تأخر القبض في أحد العوضين فإنك تكون وقعت في ربا النسيئة، فتبادل عشر غرامات بعشر غرامات بعد يوم أو يومين تبادل ريالات بريالات تصرف ريالات بريالات, تقول بعد يومين: أعطيك بدلاً يعني تأخذ منه مائة ريال, تقول: أعطيك الصرف بعد يوم يومين وقعت في ربا النسيئة, وربا النسيئة محرم بالإجماع, ويدل له ما تقدم من الآيات. وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة في الصحيحين: (إنما الربا في النسيئة).
الأموال الربوية
لكي نفهم باب الربا لابد أن نفهم ما هي الأموال الربوية؟ النبي صلى الله عليه وسلم عدد ستة أصناف: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح) هذه أموال ربوية بالاتفاق، بالإجماع على أنها أموال ربوية, العلماء مجمعون عليها, والأدلة صريحة فيها, لكن هل يُقتصر على هذه الأموال الستة فقط, أو أن هذه الأموال يُلحق بها غيرها؟ أو نقول: بأن هذا مقصور على هذه الأموال الستة؟ جمهور أهل العلم ومنهم الأئمة : أن الربا ليس مقصوراً على هذه الأموال الستة بل يُلحق بها غيرها, يُلحق بهذه الأموال الستة غيرها مما يقارنها ويماثلها في العلة. والدليل على أنه لا يُقتصر على هذه الأموال الستة أن الربا جاء في غيرها, فثبت في صحيح مسلم من حديث معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل)، وثبت أيضاً الربا في العنب والزبيب, وعدم بيع العنب بالزبيب؛ كما في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما, فهذا يدل على أن الأمر ليس محصوراً في هذه الأصناف الستة؛ ولأن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات. والرأي الثاني: رأي الظاهرية وابن عقيل من الحنابلة وغيرهم قالوا: بأن الربا محصور في هذه الأصناف الستة فقط لا يتعداها إلى ما سواها. واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم عدد، والنبي عليه الصلاة والسلام أوتي جوامع الكلم فلو كان يتعداها لقال عبارة أشمل لقال: المكيلات بالمكيلات أو الموزونات بالموزونات مثلاً بمثل, سواءً بسواء.. إلى آخره، لكن النبي عليه الصلاة والسلام عدد, والنبي عليه الصلاة والسلام أوتي جوامع الكلم, فكونه عدد يدل على أن الربا محصور في هذه الأصناف. الراجح قول جمهور أهل العلم رحمهم الله أن الربا ليس خاصاً, الربا يشمل هذه الأصناف الستة وغيرها.
علة الأموال الربوية
الذين قالوا بأن الربا يشمل الأصناف الستة وغيرها اختلفوا ما هي العلة في هذه الأصناف الستة التي إذا وجدت ألحقنا غيرها بها؟ ما هي العلة؟فعندنا الذهب والفضة اختلف العلماء رحمهم الله فيها وعندنا أيضاً الأصناف الأربعة الباقية المطعومة: التمر والبر والشعير والملح، اختلف العلماء رحمهم الله في علتها.
علة الذهب والفضة
من الأصناف عندنا: الذهب والفضة.اختلف العلماء في علتهما على آراء هي:الرأي الأول: وهو مذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة أن العلة في الذهب والفضة الوزن، وعلى هذا قالوا: يجري الربا في كل موزون, كل موزون يجري فيه الربا, الحديد يجري فيه الربا, النحاس الصفر الشعر الحرير القطن الكتان الصوف السكر اللحم، المهم العلة عندهم الوزن، وعلى هذا يجري الربا في كل موزون سواء كان مطعوماً أو كان غير مطعوم, هذا كما قلنا: مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد .الرأي الثاني: أن العلة هي غلبة الثمنية, وهذا مذهب مالك والشافعي ، العلة غلبة الثمنية بمعنى أن الربا لا يتعدى الذهب والفضة فقط, وعلى هذا لا يجري الربا عندهم في الحديد ولا الصفر ولا النحاس .. إلى آخره.العلة عندهم هي غلبة الثمنية, وعلى هذا لا يجري الربا عندهم في أي شيء في الموزونات: الحديد والرصاص والنحاس, هذه الموزونات لا يجري الربا عندهم فيها, أما المطعومات وإن كانت موزونة فلهم كلام فيها. والرأي الثالث: أن العلة هي الثمنية, وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، وعلى هذا يجري الربا في كل شيء اتخذه الناس ثمنا للأشياء، كل شيء اتخذه الناس ثمنا للأشياء فإن الربا يجري فيه, مثل الريالات الجنيهات الدينارات الدولارات إلى آخره يجري فيها الربا، هذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, وعلى هذا نضرب أمثلة. فعندما نبادل كيلو حديد بكيلوين حديد هل هو ربا أو ليس ربا على رأي شيخ الإسلام ؟ ليس من الربا، على رأي مالك والشافعي ليس من الربا، على رأي أحمد وأبي حنيفة يقولون: بأنه ربا.عندما نبادل ريالات بريالات مع الزيادة عند شيخ الإسلام ربا؛ لأنه يقول العلة هي الثمنية, فكل ما جعله الناس ثمناً يجري فيه الربا، فعند شيخ الإسلام يري أنه ربا، عند أبي حنيفة وأحمد ليس ربا؛ لأنها ليست موزونة، عند مالك والشافعي ليست ربا؛ لأنهم يقصرون الربا على الذهب والفضة.عندما تبادل نحاساً بنحاس مع الزيادة أو مع تأخير القبض على رأي أحمد وأبي حنيفة ربا، وعلى رأي مالك والشافعي ليس ربا، وعلى رأي شيخ الإسلام ليس ربا.عندما تبادل حديداً بنحاس مع تأخير القبض على القول الأول: ربا، وعلى القول الثاني: ليس ربا، والثالث: ليس ربا.عندما تبادل حديداً بنحاس مع القبض لكن فيه تفاضل مثلاً خمسة كيلو حديد بكيلوين نحاس يداً بيد مع التقابض على رأي أحمد وأبي حنيفة ليس ربا، جائز؛ لأنه ( إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد ) كما سيأتينا. إذا اتفقا في العلة واختلفا في الجنس يشترط شرطاً واحداً فقط وهو: التقابض، وإذا اتفقا في الجنس يشترط شرطين، حديد بحديد يشترط شرطين: التماثل والتقابض، إذا اختلفا نشترط شرطاً واحداً فقط وهو الحلول والتقابض، هذا بالنسبة لما يتعلق بالذهب والفضة.
علة الربا في بقية الأصناف
أما الأصناف الأربعة الباقية وهي: البر, الشعير, التمر, الملح, ما هي العلة فيها؟اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك:الرأي الأول: لـأبي حنيفة وأحمد أن العلة هي الكيل، وعلى هذا يجري الربا في كل المكيلات سواء كانت مطعومة أو غير مطعومة, مطعومة مثل: البر, الشعير, التمر, الملح, سائر الحبوب: الرز العدس كل شيء يُكال الذرة الدهن الرشاد الحلبة، كل شيء يُكال يجري فيه الربا. أو غير مطعومة مما يُكال مثل: الأشنان، الأشنان هذا لا يُطعم فيقولون: يجري الربا في كل المكيلات سواء كانت مطعومة أو غير مطعومة. الرأي الثاني: رأي الشافعي ، أن العلة في الأصناف الأربعة كونها مطعومة, الرأي الأول يقولون: كونها مكيلة، أما الرأي الثاني يقول: العلة هي الطعم, وهذا أوسع يعني كل شيء يطعم يجري فيه الربا, رأي الشافعي واسع جداً, العلة عنده الطعم فيجري الربا في المطعومات سواء كانت تقتات أو لا تقتات، وهذا كما ذكرت من أوسع المذاهب. الرأي الثالث: رأي مالك ، الاقتيات والادخار, العلة كونها تقتات يعني قوت وتدخر. الرأي الرابع والأخير: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن العلة هي: الطعم مع الكيل أو الوزن, وهو رأي الشافعية إلا أنه قيده بكونه مطعوماً مكيلاً أو موزوناً.نعيد الأقوال مرة ثانية: الرأي الأول: العلة الكيل قول أبي حنيفة وأحمد .الثاني: الطعم الشافعي .الثالث: الاقتيات والادخار مالك . الرابع: الطعم مع الكيل أو الوزن، اختيار شيخ الإسلام .
أمثلة تطبيقية
نضرب أمثلة نستعرض المذاهب: مبادلة بيضة ببيضتين، جاء واحد يسألك يقول لك: بادلت أعطيته بيضة وأعطاك بيضتين هل وقع في الربا أو لم يقع في الربا؟ لم يقع؛ لأن البيض ما يُكال، ما تكيله بالصاع أو بالمُد، مبادلة بيضة ببيضتين على رأي أحمد وأبي حنيفة ما فيه ربا.على رأي الشافعي وقع في الربا. على رأي مالك لم يقع في الربا، لا تقتات ولا تدخر.على رأي شيخ الإسلام ما وقع، ليس مكيلاً ولا موزوناً, وإن كان مطعوماً لكن ليس مكيلاً ولا موزوناً، فأصبح عند الشافعي فقط يجري ربا في بيضة ببيضتين.موزة بموزتين عند أحمد وأبي حنيفة لا يقع لأنه ما يكال، عند الشافعي يقع الربا, عند المالكية لا يقع الربا، عند شيخ الإسلام لا يقع الربا، فأصبح عندنا الشافعي فقط.صاع من الذرة بصاعين, عند أحمد وأبي حنيفة يقع لأنه مكيل، الشافعي يقع، مالك يقع، شيخ الإسلام يقع فيه الربا؛ لأنه مطعوم مكيل، فيتفقون على الذرة بالذرة. كيلو لحم بكيلوين, عند أحمد وأبي حنيفة ما يقع؛ لأنه لا يُكال بل يوزن, الكيلو معيار للوزن, ما هو بمعيار للكيل, المعيار للكيل المُد والصاع.. إلى آخره، عندما تبادل كيلو لحم بكيلوين عند أحمد وأبي حنيفة لا يقع لكنهم يوقعونه من جهة العلة السابقة؛ لأنهم يرون الوزن يعني من جهة علة الكيل ما يرونه, لكن من جهة الوزن هم يقولون: العلة في الذهب والفضة الوزن، فيرون أنه يقع في أي شيء في الموزونات المطعومات والمكيلات كما أنه يقع عندهم الربا في المكيلات المطعومة وغير المطعومة, فالعلة عندهم الوزن والكيل مطعوم وغير مطعوم.فتبين أنه على رأي أحمد وأبي حنيفة يقع من جهة أنه موزون، وهم يرون أنه يقع في الموزونات.على رأي الشافعي يقع لأنه مطعوم، على رأي مالك لا إشكال إنه قوت, لكن إذا قلنا: بأنه يُدخر فيظهر أنه يقع، كان يُدخر اللحم ييبس ويُدخر.على رأي شيخ الإسلام يقع.مبادلة ساعة بساعتين، عند أحمد وأبي حنيفة ما يقع؛ لأن الساعات ليست مكيلة ولا موزونة، فمبادلة ساعة بساعتين لا يقع فيها الربا، عند الشافعي لا يقع؛ ليست مطعومة، وأيضاً ليست ذهباً أو فضة، على رأي مالك أيضاً لا يقع؛ ليست قوتا يُدخر وليست ذهباً أو فضة، على رأي شيخ الإسلام لا يقع، وعلى هذا فقس. نلخص المسألة: لما فهمنا الآن كلام العلماء رحمهم الله ما هو المال الربوي على الراجح؟ نقول: المال الربوي على الراجح يشمل أمرين: الأمر الأول: ما كان ثمن الأشياء، كل ثمن للأشياء، كل ثمن أو كل شيء اتخذه الناس ثمناً. الأمر الثاني: ما كان مطعوماً مكيلا أو مطعوماً موزوناً، هذه الأموال الربوية. وعلى هذا إذا قرأت في كتب الحنابلة إذا قالوا: ربوي يقصدون المكيلة والموزونة, وعلى هذا نفهم الأموال الربوية, نحن نسير على ضابط شيخ الإسلام , وقد نتعرض للمذهب؛ لأن الكتاب على المذهب، على ضابط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الأموال الربوية تشمل أمرين: الأمر الأول: ما كان ثمناً للأشياء, وكل ما اتخذه الناس ثمناً للأشياء.الأمر الثاني: المطعوم المكيل والمطعوم الموزون. نستعرض بعض الأشياء: الريالات ربوية؛ لأنها ثمن، الذهب ربوي؛ لأنه ثمن يتخذ للبس كما تشتري به كانوا في الزمن السابق ما يشترون إلا بالذهب والفضة.الكتاب ليس من الأموال الربوية، تبادل كتاب بكتابين مع القبض, مع تأخير القبض كله جائز ليس من الأموال الربوية ما نشترط شيئاً، السيارات ليست ربوية, تبادل سيارة بسيارتين.. ثلاث سيارات مع القبض مع تأخير القبض هذه ليست من الأموال الربوية. الثلاجات ليست من الأموال الربوية, الأقلام ليست ربوية, السكر مطعوم موزون ربوي، الحليب ربوي مطعوم مكيل، العلماء يقولون: كل المائعات مكيلات الحليب مطعوم مكيل، العسل ربوي لأنه مطعوم مكيل، الدهن السمن ربوي؛ لأنه مطعوم مكيل. العلماء يقولون: كل المائعات مكيلات، كل الحبوب عندهم أيضاً يعتبرونها مكيلات، الحبوب كلها مكيلات.الرز ربوي لأنه مطعوم مكيل. الأثواب ليست ربوية، ليست مطعومة ولا مكيلة ولا موزونة, القطن ليس ربوياً، الصوف ليس ربوياً، الشعر ليس ربوياً, وعلى هذا فقس، يعني: الأموال التي ليست ربوية كثيرة جداً, لكن الربوية الذي يتوفر فيها هذان الضابطان كما ذكرنا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله.
ضوابط الربويات
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يجوز بيع مطعوم بمكيل أو موزون بجنسه إلا مثلاً بمثل، ولا يجوز بيع مكيل من ذلك بشيء من جنسه وزناً ولا موزون كيلاً، وإن اختلف الجنسان جاز بيعه كيف شاء يداً بيد، ولم يجز النَّساء فيه، ولا التفرق قبل القبض، إلا الثمن بالثمن).نأخذ ضوابط: الضابط الأول: تعريف ربا الفضل وربا النسيئة وقد تقدم. الضابط الثاني: المراد بالمال الربوي، وأن المراد به على الراجح ما اجتمع فيه أحد أمرين: الأمر الأول: الثمنية. والأمر الثاني: الطعم مع الكيل أو الطعم مع الوزن. يُشترط شرطان عند مبادلة ربوي بجنسه: الشرط الأول: التماثل. والشرط الثاني: الحلول والتقابض، ربوي بجنسه, الربوي عرفناه كما تقدم بالضابط الثاني، مثال ربوي بجنسه: شعير بشعير، بر ببر، بادلنا الآن ربوي بجنسه شعير بشعير بر ببر تمر بتمر ذهب بذهب رز برز لحم بلحم, نشترط شرطين: الشرط الأول: التماثل لابد صاع بصاع, يداً بيد, ذهب بذهب عشر غرامات بعشر غرامات, يداً بيد, لابد من توافر شرطين, فعند تخلف أحد هذين الشرطين تكون وقعت في الربا.ثم قال: (ولا يجوز بيع مكيل من ذلك بشيء من جنسه وزناً، ولا موزون كيلاً، وإن اختلف الجنسان جاز بيعه كيف شاء يداً بيد). الضابط الرابع: إذا اختلف الجنس الربوي واتحدا في العلة نشترط شرطاً واحداً فقط وهو الحلول والتقابض. مثال: اختلفا في الجنس واتحدا في العلة: شعير ببر، الجنس هنا مختلف, والعلة التي اتحدا فيها الكيل، خذ قاعدة: كل الحبوب مكيلات، وكل المعادن موزونات، وكل المائعات مكيلات، فالمائعات: الحليب واللبن والعسل والسمن كلها مكيلات، الحبوب كلها مكيلات, المعادن كلها موزونات.قلنا: بر بشعير نشترط التقابض فقط. مثال ثاني: الذهب بالفضة اختلفا في الجنس واتحدا في العلة. الضابط الخامس: إذا اختلفا في الجنس والعلة لا نشترط شيئاً، مثل الذهب والبر، اختلفا في الجنس, واختلفا في العلة, كل منهما ربوي لكن الذهب علته الثمنية والبر علته الطعم مع الكيل.

ابو وليد البحيرى
2019-04-11, 04:38 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب البيع [5]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(68)


من أحكام بيع الربويات أنها إذا اتحدت في الجنس يشترط فيها التساوي والتقابض، ولابد في تحقيق التساوي من الأخذ بالمعيار الشرعي، بالكيل في المكيلات، وبالوزن في الموزونات، ولا يصح بيع ما يكال بالوزن، أو بيع ما يوزن بالكيل، وقد ذكر العلماء ضوابط لمعرفة المعيار ا
من أحكام بيع الربويات
تقدم لنا تعريف الربا في اللغة والاصطلاح، وذكرنا كلام أهل العلم رحمهم الله في علة ربا الفضل، وما هي الأموال الربوية؟ وما هي الأموال غير الربوية؟فالمشهو ر من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن المال الربوي كل مكيل وكل موزون، سواء كان مطعوماً أو غير مطعوم، هذا المال الربوي.والرأي الثاني -اختيار شيخ الإسلام -: ما هو المال الربوي؟ المكيلات المطعومة والموزونات المطعومة، أيضاً ما كان ثمناً للأشياء، هذا المال الربوي، وذكرنا رأي أبي حنيفة ومالك والشافعي .. إلى آخره، ولا حاجة لإعادة هذه الأقوال. ثم قال المؤلف رحمه الله: (ولا يجوز بيع مكيل من ذلك بشيء من جنسه وزناً، ولا موزون كيلاً). ذكرنا فيما سبق بعض الضوابط، ومنها: التعريف، وما المراد بالمال الربوي وإذا بادلنا ربوياً بجنسه، فإنه يشترط شرطان، وإذا اختلف الجنس واتحدت العلة، يشترط شرط واحد التقابض، وإذا اختلف الجنس والعلة، لا نشترط شيئاً، مثال ذلك عند مبادلة الذهب بالبر، الجنس مختلف، الذهب يختلف عن البر، لا نشترط شيئاً، لا نشترط التساوي، وكذلك أيضاً لا نشترط الحلول والتقابض، لا نشترط شيئاً.وإذا انتفت العلة من كلٍ من العوضين أو من أحدهما فإننا لا نشترط شيئاً، مثال ما انتفت العلة فيه من أحد العوضين، بيع ذهب بقماش، الذهب العلة فيه الثمنية، القماش ليس ربوباً؛ لأن علة ربا الفضل ليست موجودة فيه، ليس ثمناً للأشياء، وليس مطعوماً مكيلاً، أو مطعوماً موزوناً. مثال آخر انتفت العلة من أحد العوضين: الفضة بالطماطم، الطماطم ليس مالاً ربوياً، وإن كان مطعوماً إلا أنه ليس مكيلاً ولا موزوناً.مثال ثالث: الريالات بالسيارات، الريالات ربوية، السيارات ليست ربوية، لا يشترط التساوي، وأيضاً لا يشترط التقابض. قلنا: إذا انتفت العلة من أحد العوضين، أو انتفت من كل منهما، فإننا لا نشترط شيئاً، مثاله سيارات وأقمشة، السيارات ليست مالاً ربوياً، الأقمشة ليست مالاً ربوياً، ما نشترط شيئاً، تبيع بالتقابض، بعدم التقابض، بالتساوي، بعدم التساوي. مثال آخر انتفت فيه العلة من كل من العوضين، يعني كلاً من العوضين ليس مالاً ربوياً، بيع الخشب بالحديد، والخشب ليس مالاً ربوياً، والحديد على الصحيح ليس مالاً ربوياً، لا نشترط شيئاً، فعندما تبادل خشباً بحديد فبع كيف شئت.مثال أيضاً، أحذية بأقمشة، الأحذية ليست أموالاً ربوية، المال الربوي على كلام شيخ الإسلام ما جمع وصفين: إما أن يكون ثمناً للأشياء، ويستخدم في البيع والشراء، مثل الريالات، الجنيهات، الليرات، الدراهم، وإما أن يكون مطعوماً مكيلاً، مطعوماً موزوناً، فالأحذية والأقمشة هذه بع كيف شئت. ثلاجة بثلاجتين، الثلاجات ليست أموالاً ربوية، بع كيف شئت، ثلاجة بثلاجتين، لا يشترط التساوي، ولا التقابض، غسالة بغسالتين، قلم بقلمين، ثوب بثوبين بعشرة أثواب، كل هذا نقول: بأنه جائز، ولا بأس به، لا نشترط شيئاً مادام أنه ليس مالاً ربوياً، لا نشترط شيئاً.
المعيار الشرعي في بيع الربويات
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يجوز بيع مكيل من ذلك بشيء من جنسه وزناً ولا موزوناً كيلاً). إذا اتحد الجنس الربوي فلا بد أن تكون المساواة بالمعيار الشرعي، كيلاً في المكيلات، ووزناً في الموزونات.مثال اتحاد الجنس الربوي: بر ببر، هنا اتحد الجنس الربوي، بر ببر، ذهب بذهب، فضة بفضة، إذا اتحد الجنس الربوي يشترط التساوي والتقابض أن يكون يداً بيد، هذا التساوي لابد أن يكون بمعياره الشرعي، كيلاً في المكيلات، ووزناً في الموزونات، فالبر ما هو معياره الشرعي؟ الكيل، نقول: صاع بر بصاع بر، مد بر بمد بر. لكن عشرة كيلو بر بعشرة كيلو بر هذا لا يجوز؛ لأنك ما ضبطته بمعياره الشرعي، عندما تبادل البر من جنسه لابد أن يكون بمعياره الشرعي، البر معياره الشرعي الكيل، ما تضبطه بالوزن، فعندما تقول: عشرة كيلو بر بعشرة كيلو بر نقول: ما يصح هذا، لابد أن يكون بمعياره الشرعي وهو الكيل، صاع بصاع، صاعان بصاعين إلى آخره. مثل هذا الذهب، معياره الشرعي الوزن، فعندما تبادل الذهب بذهب تقول: عشرون جراماً من الذهب بعشرين جرام، كيلو ذهب بكيلو ذهب.. إلى آخره، لكن صاع ذهب بصاع ذهب نقول: لا يجوز؛ لأنك ما ضبطت الذهب بالمعيار الشرعي. عند مبادلة الجنس الربوي بمثله يشترط التساوي، والتساوي هذا شدد فيه الشارع، قال: ( مثلاً بمثل، سواء بسواء )، ولا تحصل هذه المثلية والمساواة إلا بالمعيار الشرعي، فلابد في المكيلات أن نضبطها بمعيارها الشرعي، والموزونات لابد أن نضبطها بمعيارها الشرعي، وهذا عندما نبادل الربوي بجنسه، عندما تبادل براً ببر، شعيراً بشعير، ذهباً بذهب، فضة بفضة.. إلى آخره. أما إذا بادلت بغير جنسه ما يشترط المعيار الشرعي، بادل ذهباً بفضة لا يشترط، تضبطه بالكيل، تضبطه بالوزن، كله جائز؛ لأن التساوي لا يشترط، فالتساوي هنا ليس شرطاً، فإذا كان التساوي ليس شرطاً فالمعيار الشرعي ليس شرطاً، نحن لا نشترط المعيار الشرعي إلا عند اشتراط التساوي، كيلاً في المكيلات، ووزناً في الموزونات. نحن الآن ذكرنا أن المكيل يضبط بالكيل، عندما تبادل مكيلاً بجنسه، المكيل تضبطه بالكيل، والموزون تضبطه بالوزن، كيف نعرف المكيل؟ وكيف نعرف الموزون؟ نقول: عندنا حديث ابن عمر رضي الله عنه، وضوابط ذكرها العلماء رحمهم الله. أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة)، هذا حكم من النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا ما كان مكيلاً عند أهل المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يبقى مكيلاً إلى يوم القيامة. ننظر إلى المكيلات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل المدينة، فتبقى مكيلة، وننظر إلى الموزونات عند أهل مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فتبقى موزونة. فالبر مكيل عند أهل المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والتمر مكيل، والملح مكيل، والشعير مكيل.والذهب موزون عند أهل مكة، والفضة موزونة عند أهل مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فتبقى هذه الأشياء موزونة، وتلك تبقى مكيلة، فما كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام عند أهل المدينة مكيلة فإنها تبقى مكيلة، وما كان عند أهل مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم موزونة فإنها تبقى موزونة.الأشياء التي لم توجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل مكة ولا أهل المدينة، فما الحكم فيها؟ إذا كان عندنا أشياء لم توجد عند أهل مكة، أو عند أهل المدينة، فما الحكم فيها؟ هذا موضع خلاف: بعض العلماء يقول بالقياس مثل ما ذكرت، يعني أنها تلحق بما يشابهها عند أهل مكة أو أهل المدينة.والقول الثاني: أنه يرجع إلى عرف البلد، فننظر أعراف الناس، هل هذا مكيل عندهم أو هذا موزون؟ وقد ذكر العلماء رحمهم الله ضوابط للمكيلات والموزونات، من هذه الضوابط: الضابط الأول: قالوا: كل الحبوب مكيلات، هذا ضابط يشمل كثيراً من الحبوب، هذا يدخل فيها الرز، يدخل فيها الذرة، يدخل فيها الدخن، يدخل فيها السمسم، وأشياء كثيرة، هذه كلها مكيلات، فعندما تبادل رزاً برز يشترط الكيل، عندما تبادل سمسماً بسمسم يشترط الكيل، ذرة بذرة يشترط الكيل، معياره الشرعي هو الكيل. الضابط الثاني: قالوا: كل المائعات مكيلات، يشمل هذا الدهن، يشمل العسل، يشمل الحليب، يشمل اللبن، فعندما تبادل حليباً بحليب، حليب بقرة بحليب بقرة، يشترط أن يكون بالكيل، بادل عسلاً بعسل يشترط الكيل، عندما تبادل دهناً بدهن يشترط الكيل، لبناً بلبن يشترط الكيل.. إلى آخره، كل المائعات مكيلات. الضابط الثالث: قالوا: كل المعادن موزونات، فعندك الذهب موزون، الفضة موزونة، الحديد إذا قلنا: يجري فيه الربا موزون، الرصاص موزون، النحاس موزون.. إلى آخره. فعندما تبادل حديداً بحديد تضبطه بالوزن، ما تضبطه بالكيل، لكن الصواب أن الحديد ليس ربوياً، تبيع حديداً بحديد مع القبض أو دون قبض، هذا كله جائز ولا بأس به. الضابط الرابع: قالوا: بأن الشعر والقطن والحرير والصوف والوبر، هذه كله موزونة، فالصوف بالصوف تضبطه بالوزن، القطن بالقطن تضبطه بالوزن، هذا إذا قلنا: بأنها ربوية على قول الحنابلة والحنفية، لكن إذا قلنا بما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فالقطن ليس ربوياً.. إلى آخره.أيضاً الثمار مكيلات، مثل: الزبيب، العنب، التمر.. إلى آخره، هذه مكيلات، عندما تبادل زبيباً بزبيب، تمراً بتمر تضبطه بالكيل، وليس بالوزن، عنب بعنب تضبطه بالكيل، وليس بالوزن.
حكم اختلاف النوع والجودة في بيع الربويات بجنسها
الضابط الأخير: عند مبادلة ربوي بجنسه يشترط التساوي مع التقابض، ولو اختلف في النوع أو الجودة أو الرداءة أو الحداثة أو القدم، لا ننظر إلى هذا الاختلاف، لا ينظر لخلاف النوع، أو القدم، أو الحداثة، أو الجودة، أو الرداءة.وعلى هذا إذا بادلت ذهباً عياره أربعة وعشرين بذهب عياره ثمانية عشر، ماذا يشترط؟ التساوي، أن يكون مثلاً بمثل، لا نجعل الرديء زائداً على الجيد، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل، سواء بسواء). تمر جيد بتمر رديء لابد صاع بصاع، واختلاف الجودة والرداءة لا ينظر له. اختلاف النوع أيضاً لا ينظر، التمر أنواع كثيرة، السكري والبرحي.. إلى آخره، فعندما تبادل صاع تمر بصاع تمر، ولو اختلفا في النوع، لابد أن يكون يداً بيد، مثلاً بمثل، وهكذا قلت: الذهب بالذهب، الفضة بالفضة، لا ننظر للجودة لا ننظر للرداءة، لابد أن يكون متساوياً.

ابو وليد البحيرى
2019-04-11, 04:42 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب البيع [6]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(69)


إذا بيع الربوي بمثله واتحدا جنساً اشترط التماثل والتقابض، وإذا اختلفا جنساً اشترط التقابض فقط، وكل شيئين جمعهما اسم خاص فهما جنس، ولا يجوز بيع رطب بيابس إلا العرايا.
تابع ضوابط الربويات
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن اختلف الجنسان جاز بيعه كيف شاء يداً بيد، ولم يجز النَّساء فيه، ولا التفرق قبل القبض إلا الثمن بالثمن. وكل شيئين جمعهما اسم خاص فهما جنس واحد، إلا أن يكونا من أصلين مختلفين، فإن فروع الأجناس أجناس وإن اتفقت أسماؤها كالأدقة والأدهان، ولا يجوز بيع رطب منها بيابس من جنسه, ولا خالصه بمشوبه، ولا نيئه بمطبوخه.وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، وهو شراء التمر في رءوس النخل، ورخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق، أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطباً].تقدم لنا شيء من الضوابط في باب الربا، وذكرنا من الضوابط تعريف الربا، وذكرنا أيضاً ما هو المال الربوي.. إلى آخره، وتعرضنا لكلام أهل العلم رحمهم الله، وذكرنا الراجح في هذه المسألة، وذكرنا أيضاً من الضوابط أنه عند مبادلة مال ربوي بجنسه فإنه يشترط شرطان: الشرط الأول: التساوي، والشرط الثاني: الحلول والتقابض.وأنه إذا اتفق عند مبادلة مال ربوي بمال ربوي آخر يوافقه في العلة فيشترط التقابض فقط. وذكرنا أيضاً من الضوابط أنهما إذا اختلفا في العلة فإنه لا يشترط شيء، وتكلمنا عن المعيار الشرعي متى يشترط المعيار الشرعي ومتى لا يشترط، أيضاً تكلمنا أنه عند مبادلة المال الربوي بجنسه لا ينظر إلى اختلاف النوع ولا الرداءة أو الجودة.
بيع الربويات عند اختلاف أجناسها
قال المؤلف رحمه الله: (وإن اختلف الجنسان جاز بيعه كيف شاء يداً بيد ولم يجز النساء فيه).إذا اختلف الجنسان الربويان جاز بيعه كيف شاء يداً بيد.مثال ذلك: البر بالشعير، فبع كيف شئت، لا يشترط التساوي، فلا بأس أن تبيع مائة صاع من الشعير بخمسين صاعاً من البر، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (إذا اختلف الجنسان جاز بيعه كيف شاء يداً بيد ولم يجز النساء). فإذا اتفق المالان الربويان في العلة واختلفا في الجنس فإنه يجب أن يكونا يداً بيد، إن اتفقا في الجنس والعلة فإنه يشترط مع التقابض التساوي, لكن إن اتفقا في العلة فقط فإنه يجب أن يكونا يداً بيد، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (يداً بيد ولم يجز النساء). ما هي العلة؟ سلف عند شيخ الإسلام أن العلة الثمنية أو الطعم مع الكيل أو الطعم مع الوزن. لابد أن يكون يداً بيد ولم يجز النساء: دينارات كويتية بريالات سعودية هنا العلة واحدة: الثمنية، كل منهما ثمن للأشياء والجنس مختلف, الدينارات الكويتية جنس, والريالات السعودية جنس، فعندما تبادل هذه الريالات بالدينارات نشترط شرطاً واحداً وهو التقابض، أن يكون يداً بيد، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ولم يجز النساء فيه) أما التماثل فهذا ليس شرطا، يجوز كيف شئت، تبيع عشرة دنانير بمائة ريال هذا لا بأس به. أيضاً: بر بشعير، العلة في البر الطعم مع الكيل والشعير الطعم مع الكيل، اتفقا في العلة واختلفا في الجنس نقول: يشترط شرط واحد فقط أن يكونا يداً بيد، وأما التماثل فإنه لا يشترط فبع كيف شئت.حليب بقر وحليب إبل: العلة في حليب البقر الطعم مع الكيل، حليب الإبل الطعم مع الكيل، نشترط هنا شرطاً واحداً فقط وهو التقابض, أما التساوي ليس شرطاً لأن الجنس مختلف, هذا حليب بقر وهذا حليب إبل فلا يشترط التساوي، فبع كيف شئت. أيضاً: لحم مع سكر, اللحم العلة فيه الطعم مع الوزن, السكر الطعم مع الوزن, بع كيف شئت لكن يشترط أن يكونا يداً بيد. أيضاً: الشحم مع اللحم شحم البقر مع لحم الإبل، العلة في الشحم الطعم والوزن، والعلة في اللحم الطعم والوزن، فبع كيف شئت لكن يشترط أن يكونا يداً بيد؛ لأن العلة واحدة وهي الطعم مع الوزن في كل منهما. فتلخص: أنه إذا اتفق الجنسان لابد من شرطين، إذا اختلف الجنس واتحدا في العلة لابد من شرط واحد، إذا اختلفا في الجنس والعلة لا يشترط شيء أو انتفت العلة من أحدهما فإننا لا نشترط شيئاً .قال: (ولم يجز النساء فيه ولا التفرق قبل القبض إلا في الثمن بالمثمن). هذا ظاهر لأن العلة هنا منتفية، فأنت تشتري بالريالات السعودية بر, البر ربوي, والعلة فيه الطعم مع الكيل, والريالات ربوية, والعلة فيها الثمنية, هنا الجنس مختلف, والعلة مختلفة, لا نشترط شيئاً.أيضاً: نشتري بالذهب شعيراً فالذهب العلة فيه الثمنية, والشعير العلة فيه الطعم مع الكيل، لا نشترط لا التساوي ولا التقابض، لا يشترط شيء؛ لأنه انتفت العلة واختلف الجنس.
ضابط الجنس الربوي
قال: (وكل شيئين جمعهما اسم خاص فهما جنس واحد إلا أن يكونا من أصلين مختلفين, فإن فروع الأجناس أجناس وإن اتفقت أسماؤها كالأدقة والأدهان). هذا الضابط العاشر وهو: الجنس والنوع. عندنا جنس، وعندنا نوع, الجنس هو اسم خاص شامل لأشياء مختلفة بأنواعها، والنوع اسم خاص شامل لأشياء مختلفة بأشخاصها. فمثلاً: البر جنس شامل لأشياء مختلفة بأنواعها, فالبر تحته أنواع تحته الحنطة تحته الجيمي تحته أمعيه.. إلى آخره, البر هذا يسمى جنساً, التمر نسميه جنساً؛ لأن تحته أنواعاً, والأنواع السكري البرحي الشقر.. إلى آخره، هذا جنس. المهم الجنس هو الشامل لأشياء مختلفة بأنواعها، النوع هو الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها. كما قلنا: التمر جنس تحته أنواع: السكري نسميه نوعاً، عندنا كيس من السكري وكيس ثان من السكري، وكيس ثالث من السكري، هذه الأكياس نسميها أنواعاً ما نسميها أجناساً؛ لأنها مختلفة بأشخاصها؛ لأن النوع واحد فلا نقول بأنها أجناس نقول بأنها أنواع، السكري نوع من التمر، فالنوع هو الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها, ذات هذا مخالفة لذات هذا مخالفة لذات هذا، ونوعها واحد أيضاً. البر كما قلنا تحته أنواع: الحنطة، الجيمي.. إلى آخره، فمثلاً عندي كيس من الحنطة، وكيس آخر من الحنطة، وكيس آخر من الحنطة، نقول: هذه أشياء مختلفة بأشخاصها, فهذا ضابط النوع وضابط الجنس، وكما تقدم لنا عند مبادلة جنس بنقود لا ننظر للنوع، ننظر للجودة والرداءة، عندما تبادل جنساً ربوياً بآخر لا ننظر للنوع, تمر بتمر لابد أن يكونا مثلاً بمثل يداً بيد، سكري مثلاً بمثل، يداً بيد لا ننظر لاختلاف النوع. قال المؤلف: (وكل شيئين جمعهما اسم خاص فهما جنس). كما قلنا: السكري والبرحي جمعهما اسم خاص وهو التمر فهما جنس واحد إلا أن يكونا من أصلين مختلفين, فإن فروع الأجناس أجناس. يقول المؤلف رحمه الله: (فروع الأجناس أجناس وإن اتفقت أسماؤها كالأدقة والأدهان). فروع الأجناس أجناس، البر كما تقدم لنا جنس، طحين البر جنس، الشعير جنس, طحين الشعير جنس، وعلى هذا إذا بادلت طحين بر بطحين شعير يشترط التقابض فقط، البر جنس طحناه فأصبح دقيقاً, جنس الشعير جنس طحناه أصبح دقيقاً فدقيقه أصبح جنساً, فعندما تبادل طحين بر بطحين شعير يشترط التقابض فقط، أما التساوي فبع كيف شئت.عندما تبادل طحين بر بطحين بر يشترط التقابض والتساوي، طحين شعير بطحين شعير يشترط التقابض والتساوي. قال: (والأدهان). أيضاً دهن الإبل جنس ودهن البقر جنس، فعندما تبادل دهن البقر بدهن الإبل يشترط التقابض, وأما التساوي فليس شرطاً؛ لأن الجنس هنا مختلف، كل منهما جنس مستقل.
بيع الرطب باليابس من جنسه
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يجوز بيع رطب منها بيابس من جنسه، ولا خالصه بمشوبه، ولا نيئه بمطبوخه]. عند مبادلة الجنس الربوي بمثله يشترط التقابض والتساوي، التساوي كما ذكرنا لابد أن يكون بالمعيار الشرعي، ولابد أن يحصل التساوي بالرطوبة واليبوسة، ما يصح أن تبادل صاعاً من التمر رطب بصاع من التمر يابس؛ لأن الرطب إذا جف ينقص. وفي حديث سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ( سئل عن بيع الرطب باليابس فقال: أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم، قال: لا ) لأنك عندما تبادل ربوياً بجنسه. قال الشارع: مثلاً بمثل سواء بسواء، فلابد من المساواة، ولا تحصل المساواة إلا إذا اتفقا في الرطوبة, بع صاعاً من التمر رطب بصاع من التمر رطب, صاعاً من التمر يابس بصاع من التمر يابس, صاعاً من الزبيب يابس بصاع من الزبيب يابس, صاع من الزبيب بصاع من العنب ما يجوز؛ لأنهما اختلفا في الرطوبة واليبوسة.قال: (ولا خالصه بمشوبه) يعني عندنا بر مخلوط بشعير وعندنا بر خالص هل يجوز أن تبيع صاعاً من هذا بصاع من هذا؟ نقول: لا يجوز؛ لأنه ما يتحقق التساوي؛ لأنك لو أبعدت الشعير عنه نقص، كما لو بعت رطباً بيابس فنقول: لا يجوز. قال: (ولا نيئه بمطبوخه)؛ لأن النار تذهب برطوبته وتعقد أجزاءه فيمتنع التساوي, النيئ بالمطبوخ هذا لا يصح، مثلاً: عندك عنب طبخ مع عنب لم يطبخ نقول: لا يجوز، عندك بر طبخناه وبر لم يطبخ هنا لا يجوز لابد من التساوي.
المزابنة والعرايا

تعريف المزابنة وحكمها
قال المؤلف رحمه الله: [ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المزابنه, وهو اشتراء التمر بالتمر في رءوس النخل].النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر في الصحيحين ( نهى عن المزابنة ). والمزابنة مأخوذة من الزبن وهو الدفع، وسمي بذلك؛ لأن هذه المعاملة يحصل فيها شيء من اللغط فيحصل التدافع بين البائع والمشتري. وأما في الاصطلاح: فهي بيع التمر اليابس بالرطب على رءوس النخل. هذه المزابنة محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها. وأيضاً: كما تقدم لنا عندما تبادل ربويا بجنسه يشترط التقابض والتساوي، التساوي هنا غير متحقق؛ لأنك الآن تبيع رطباً بيابس، هذا لا يجوز, فالمزابنة هذه صورتها.
تعريف العرايا وشروط جوازها
يستثنى من المزابنة العرايا, فالنبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا. والعرايا مأخوذة من العري.وأما في الاصطلاح: فهي بيع التمر اليابس بالتمر الرطب على رءوس النخل لكن بشروط خاصة, فالعرايا صورة من المزابنة إلا أن العرايا تجوز بشروط، نقول: العرايا صورة من المزابنة؛ لأن المزابنة هي بيع التمر اليابس بالرطب على رءوس النخل, يستثنى من ذلك العرايا, العرايا هي نفسها بيع التمر اليابس بالرطب على رءوس النخل، لكن العرايا رخص فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ويشترط لها شروط: الشرط الأول: أن تكون في أقل من خمسة أوسق. الشرط الثاني: أن يكون المشتري ليس معه دراهم يشتري بها رطباً, وإنما عنده تمر يابس يريد أن يشتري بالتمر اليابس ما عنده دراهم، رخص فيها لحالة الفقراء. الشرط الثالث: أن يكون بحاجة إلى أكلها رطباً، بحاجة إلى أن يتفكه مع الناس, وأن يأكل رطباً، أما إذا كان لا يهمه يأكل رطباً أو تمراً يابساً ما يسلك هذه الطريقة. الشرط الرابع: التساوي، وذلك بأن يكال التمر اليابس ثم يعطى مثله من التمر الرطب إذا جف يعني هذا التمر الرطب إذا جف كم يساوي وسقاً؟ قالوا مثلاً: يساوي وسقين, الوسق ستون صاعاً يعني مائة وعشرين صاعاً يأخذ من التمر اليابس مائة وعشرين صاعاً، هذا التساوي، يكيل له مائة وعشرين صاعاً ويأخذ من الرطب مائة وعشرين صاعاً، الآن قد يساوي مائة وخمسين صاعاً لكن إذا جف يساوي مائة وعشرين صاعاً، يعطيه مائة وعشرين صاعاً. الشرط الخامس: التقابض، فقبض التمر اليابس بكيله، يكيل له التمر اليابس، وقبض الرطب يكون بأن يخلى بين المشتري وبين النخل يأخذ منه الرطب. الشرط السادس: أن يكون الرطب على رءوس النخل. السابع: أن يأكلها رطباً.
حكم العرايا في غير النخل
إذا توفرت الشروط السابقة جازت هذه المعاملة.وهل هذه المعاملة خاصة في ثمر النخيل أو أنها تشمل بقية الثمار؟ هذا موضع خلاف، فالمشهور من المذهب أنها خاصة في ثمر النخل. والرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنها تشمل بقية الثمار فمثلاً: العنب مع الزبيب، إنسان عنده زبيب ما عنده دراهم يشتري عنباً، لا بأس أن يشتري بالزبيب اليابس عنباً، وهكذا بقية الثمار، مثلاً عنده تين يابس يشتري به تيناً رطباً؛ لأن هذا جائز بالشروط، هذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. قال المؤلف رحمه الله: (وأرخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق). في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رخص في العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق أن تباع بخرصها يأكلها أهلها).
مسألة مد عجوة ودرهم
هناك بعض المسائل متعلقة بالربا، من هذه المسائل: مسألة مد عجوة ودرهم، العجوة نوع من أنواع التمر معروف في المدينة، مسألة مد عجوة ودرهم هي مبادلة ربوي بجنسه ومع أحدهما أو مع كل منهما من غير جنسهما، لابد أن يكون ربوياً، ولابد أن يكون بجنسه، لو كان بغير جنسه كان الأمر سهلاً، ولكن لابد أن يكون بجنسه ومع أحدهما أو مع كل منهما من غير جنسهما. وعلى هذا مد عجوة هذه لها صورتان: الصورة الأولى: مع أحدهما من غير جنسهما مثالها: مد عجوة ودرهم مقابل مدين من العجوة، فلأن تبادل تمراً بتمر مع أحدهما من غير جنسهما هذه موضع خلاف هل هي جائزة أو ليست جائزة؟ أكثر أهل العلم أنها غير جائزة. والرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام أنها جائزة؛ لأنه يقول: المد مقابل المد، والمد الثاني مقابل درهم، هذه الصورة الأولى.الصورة الثانية: مد عجوة ودرهم مع مد عجوة ودرهم, المد الأول يقابل المد الثاني، والدرهم يقابل الدرهم، موضع خلاف كما تقدم.ومن صورها في الوقت الحاضر الذي يقع فيه كثير من الصاغة يعطيه ذهباً قديماً ويأخذ ذهباً جديداً ويوفيه دراهم، هذا الآن داخل في مسألة مد عجوة ودرهم، الآن ذهب قديم كم وزنه؟ قالوا: وزنه خمسون جراماً، أريد ذهباً جديداً مثلا ستين جراماً، ويوفيه دراهم، هو الآن يعطيه ذهباً بذهب، ربوي بجنسه ومع أحدهما من غير جنسهما، هو يوفي الدراهم هذه إما أنها مقابل الزيادة في الذهب الجديد أو أنها مقابل الصنعة. قال الجمهور: هذا محرم ولا يجوز, شيخ الإسلام يرى جوازه، إذا كان مقابل الصنعة يرى أن هذا جائز. أو مثلاً الدراهم التي زدتها نقول: خمسين مقابل خمسين يبقى عشرة جرامات مقابل -مثلاً- ثلاثمائة ريال.الأقرب في هذا ما ذهب إليه الجمهور، وأن الإنسان إذا بادل ربوياً بجنسه أنه لا يجوز أن يزيد، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل سواءً بسواء).هنا ما حصل مثلاً بمثل؛ لأنه بادل ستين جراماً بخمسين جراماً ووفاه دراهم فما حصل مثلاً بمثل.أيضاً: مقابل الصنعة ما حصل، كلام النبي صلى الله عليه وسلم عام (الذهب بالذهب) قديم بجديد لابد خمسين بخمسين، ولا ينظر لاختلاف النوع، ولا للجودة والرداءة, ولا للقدم والحداثة.. إلى آخره, لابد أن يكون مثلاً بمثل.وعلى هذا نقول: بأن هذه الطريقة محرمة ولا تجوز، وهذا هو الأقرب، ويدل لهذا أيضاً حديث ابن عبيد : (أنه اشترى قلادة بسبعة دنانير أو تسعة دنانير وفيها خرز، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حتى تفصل بينهما).مع أنه مبادلة ذهب بذهب ومع الآخر من غير جنسه خرز قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حتى تفصل بينهما)، نقول: بأن هذا غير جائز، لابد أن يكون مثلاً بمثل. وعلى هذا الطريق الصحيح كما ذكر الإمام أحمد رحمه الله: أن يبيع الذهب القديم يتخلص منه ثم يبحث، يقول الإمام رحمه الله: ما يشتري من الشخص الذي باع له بعداً عن شبهة الربا، يبحث عن شخص آخر ويشتري منه لكن إذا كان لا يجد حاجته إلا عند هذا الرجل فإنه يشتري منه، فإن هذا لا بأس به, أما إذا كان يجد حاجته عند غيره فإنه يشتري من غيره.عندما تبادل ربوياً بجنسه إذا خرج الربوي بالصنعة يعني عندنا بر خبزناه جعلناه خبزة فهل يجوز أن نبادل هذه الخبزة ببر؟ عندنا صاعان، صاع من البر خبزناه أو جعلناه كيكاً ونحو ذلك, فهل يجوز أن نبادل هذا الخبز بهذا البر؟لو بادلنا الخبز من البر بشعير يجوز هذا ما فيه إشكال، ما يشترط عندنا التساوي, لكن المشكلة الآن لو بادلنا خبزاً من البر بخبز من الشعير، هل نقول بأن هذا الخبز الآن خرج عن كونه ربوياً أو لا نقول ذلك؟ هذا موضع خلاف، بعض العلماء يقول: خرج عن كونه ربوياً، ما في بأس تبادل خبزتين بصاع من البر، بادل خبزتين بخبزة هذا لا بأس, والمذهب أن هذا غير جائز, لابد أن يتساويا، إذا بادل: نيء بنيء, بر ببر, مخبوز بمخبوز, خبزة بخبزة, خبزتين بخبزتين.وأيضاً هذا المطبوخ المخبوز لابد أن يتساويا في النشاف والرطوبة.
بيع الأصول والثمار
قال المؤلف رحمه الله: [باب بيع الأصول والثمار].الأصول جمع أصل وهو: ما يبنى عليه غيره وما يتفرع منه غيره، والمراد هنا بالأصول: بيع الأراضي والدور والأشجار والثمار والعقارات. والثمار جمع ثمرة وهو ما يجنى من الأشجار.والفقها رحمهم الله يفردون هذه الأحكام في باب مستقل لأنها تنفرد ببعض الأحكام فيفردونها في باب مستقل وإلا فإن بيع الأصول والثمار نوع من أنواع البيع لكنهم يفردونها بباب مستقل لأنها تستقل ببعض الأحكام.قال المؤلف رحمه الله: [روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع), وكذلك سائر الشجر إذا كان ثمره بادياً]. بيع الأصول ينقسم إلى أقسام: القسم الأول: بيع الأشجار مثلاً باع النخيل أو باع أشجار التفاح أو البرتقال أو الزيتون أو غير ذلك من الأشجار، ما الذي يشمله البيع وما الذي لا يشمله؟ نقول: أولاً: إذا باع هذه الشجرة أو هذه الأشجار يشمل ذات الشجرة وما يتفرع عنها من أغصان وجريد ونحو ذلك. ثانيا: هل يشمل البقعة أو لا يشمل البقعة؟ نقول: لا يشمل البقعة، ويترتب على هذا لو أن الشجرة تلفت احترقت ونحو ذلك فهل يملك المشتري أن يغرس غيرها مكانها أو لا يملك؟ نقول: لا يملك. ثالثا: الثمرة الموجودة في الشجرة لمن تكون هل هي للبائع أم المشتري؟ نقول: حكم فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع), وكذا بيع الشجر إذا كان ثمره بادياً، إن كانت قد أبرت هذه النخلة أي لقحت فالثمرة للبائع, وإن كانت لم تلقح فالثمرة للمشتري, وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، العبرة بالتلقيح كما في الحديث الذي ورد عند الإمام أحمد رحمه الله. والرأي الثاني: رأي أحمد والشافعي أن العبرة بتشقق الطلع فما تشقق فهو للبائع وما لم يتشقق فهو للمشتري. والصواب: ما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله فإن التأبير هو التلقيح, فعلى هذا نقول بأن الأشجار تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أشجار النخيل, فالعبرة بالتلقيح، فما لقح فهو للبائع وما لم يلقح فهو للمشتري إلا إذا اشترط البائع أو اشترط المشتري, فالمسلمون على شروطهم، لو أنه لم يلقح وقال البائع: بشرط أنه لي، المسلمون على شروطهم أو أنه لقحه البائع ثم قال المشتري: بشرط أنه لي نقول للمشتري: المسلمون على شروطهم. القسم الثاني: ما عدا النخيل مثل البرتقال والتفاح فالعبرة بظهور الثمرة، ما ظهر للبائع وما لم يظهر فهو للمشتري. هذا القسم الأول, وهو بيع الأشجار. القسم الثاني: بيع الأراضي والدور ونحو ذلك, يعني: إذا باعها أو وهبها أو وقفها أو أوصى بها ونحو ذلك فما الذي يشمله هذا البيع أو هذا الوقف؟ نقول: يشمل أموراً: الأمر الأول منها: القرار فيشمل قرار الأرض حتى الأرض السابعة.

ابو وليد البحيرى
2019-04-11, 04:45 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب البيع [7]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(70)

جاءت الشريعة بما يصلح العباد والبلاد, وبما يدفع الشر والفساد, ومن ذلك أنها بينت أحكام بيع الأصول والثمار, وفصّلت لمن تكون الثمرة عند البيع, ونهت عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها إلا في مسائل مستثناة للمصلحة والحاجة, وأمرت بوضع الجوائح.
تابع بيع الأصول والثمار
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب بيع الأصول والثمار. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع )، وكذلك بيع الشجر إذا كان ثمره بادياً].تقدم لنا ما يتعلق أو بدأنا بما يتعلق ببيع الأصول الثمار، وذكرنا تعريف الأصل، وأن الأصول جمع أصل وهو ما يبنى عليه غيره وما يتفرع منه غيره، وأن المراد ببيع الأصول: بيع الأراضي والمزارع والأشجار ونحو ذلك. وقوله: الثمار جمع ثمرة وهو ما يجنى من الأشجار، وتكلمنا على القسم الأول: بيع الأصول والثمار ينقسم إلى أقسام: القسم الأول: بيع الأشجار، وذكرنا أنه إذا باع الأشجار كأشجار النخيل أو أشجار البرتقال أو أشجار التفاح أو الزيتون ونحو ذلك، أو وقفها أو وهبها أو أوصى بها يتضمن أموراً:الأمر الأول: ذات الشجرة وما يتعلق بها ويلحق بها من الجريد والأغصان .. إلى آخره، هذه تكون داخلة في البيع, تكون للبائع.الأمر الثاني: البقعة الأرض، هل هي تكون داخلة في البيع أو داخلة في الوقف أو نحو ذلك أو ليست داخلة؟ نقول: ليست داخلة، وعلى هذا لو أن هذه الشجرة هلكت وبادت فإن المشتري لا يملك أن يغرس مكانها شيئاً.الأمر الثالث: الثمرة، هل الثمار داخلة في البيع أو ليست داخلة؟ذكرنا أن الثمار تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ثمرة النخيل وهذه بين النبي صلى الله عليه وسلم أمرها فقال عليه الصلاة والسلام: ( من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ).فيؤخذ من الحديث: أن الثمرة إن أبرت إن كان البائع قام بتلقيحها فالثمرة له، وإن كانت لم تؤبر لم تلقح فإن الثمرة للمشتري، هذا إذا كان المبيع نخلاً. القسم الثاني: إذا كان المبيع غير نخل، كأشجار التفاح وأشجار الزيتون والموز والبرتقال والليمون وغير ذلك من الأشجار، فنقول: بالنسبة للثمرة ما بدا يكون للبائع، وما لم يبدُ فإنه يكون للمشتري، هذا ما يتعلق بالقسم الأول وهو بيع الأشجار.
لمن تكون الثمرة عند البيع؟
قال المؤلف رحمه الله: [فإن باع الأرض وفيها زرع لا يحصد إلا مرة فهو للبائع مالم يشترطه المبتاع، وإن كان يجز مرة بعد مرة فالأصول للمشتري والجزة الظاهرة عند البيع للبائع].هذا القسم الثاني: إذا باع الأرض، إذا باع المزرعة، إذا باع الدار، ومثل ذلك أيضاً لو وقف هذا الشيء أو وهبها أو أوصى بها، ما الذي يدخل في هذا الشيء، وما الذي لا يدخل؟نقول: هذا يشتمل على أمور: الأمر الأول: القرار، فإذا اشترى الأرض فإنه يملك قرارها إلى الأرض السابعة، ويترتب على هذا لو أن أحداً أراد أن يجري مواسير تحت أرضك أو أراد أن يفتح نفقاً تحت الأرض هل يملك ذلك أو لا يملك ذلك؟لا يملك ذلك، وتكلم الفقهاء رحمهم الله عن جذور الأشجار إذا امتدت تحت الأرض.فنقول: الأمر الأول مما يتعلق ببيع الأراضي ونحوه من العقارات: القرار. الأمر الثاني: الهواء، فإذا اشترى هذه الأرض أو هذه المزرعة فإنه يملك الهواء إلى السماء الدنيا، وعلى هذا لو أراد شخص أن يبني جسراً فوق هذه الأرض أو أن يمد بناءه أن يخرج ما يسمى بالبلكونة على هذا البيت أو هذه الأرض هل يملك ذلك أو لا يملك ذلك؟نقول: لا يملك ذلك؛ لأن الهواء تابع للقرار والآن قد ملك القرار. الأمر الثالث: إذا كان هذه الأرض فيها بناء ونحو ذلك، فنقول: البناء داخل في البيع وحينئذٍ يكون للمشتري. الأمر الرابع: إذا كان المشترى داراً أو بيتاً وهذه الدار فيها متاع وأثاث، هل يدخل المتاع في البيع أو لا يدخل؟ مثلاً: أنت اشتريت عمارةً أو بيتاً، وهذا البيت فيه مراوح ومكيفات ومفارش وأثاث وفيها ثلاجة، فيها غسالة، فيها أدوات مكتبية, فيها كتب... إلى آخره، ما الذي يدخل في البيع وما الذي لا يدخل؟العلماء قالوا: هذه الأمور لا تخلو من أمرين: الأمر الأول: أن تكون متصلة، فهذه داخلة في البيع، وحينئذٍ تكون للمشتري، فمثلاً المراوح تكون داخلة في البيع مالم يكن هناك عرف أو شرط، مثل المكيفات، لو أنه باع البيت وفيه مكيفات ثم قام البائع ونزع المكيفات فإنه لا يملك ذلك، المتصل تابع للعقار, ما دام أنه متصل فإنه يكون داخلاً في البيع، يكون للمشتري، المطبخ إذا كان فيها مطبخ يكون للمشتري لأنه متصل، وعلى هذا فقس، الأشياء المتصلة تكون داخلة في البيع وللمشتري إلا إذا كان هناك شرط لفظي أو عرفي، تعارف الناس على أن المكيفات أو أن المطبخ للبائع، لكن إذا لم يكن هناك عرف فإنه يكون للمشتري.أو إذا كان هناك شرط لفظي، قال: نبيع لك البيت لكن لي المكيفات أو لي المراوح أو لي الأنوار، إذا لم يكن هناك شرط لفظي أو عرفي نقول: بأنها داخلة في البيع وتكون للمشتري، ومثل ذلك أيضاً الفرش هذه التي تكون ملصقة في الأرض هذه تكون للمشتري وعلى هذا فقس. القسم الثاني: الأشياء المنفصلة، مثل الثلاجة، الغسالة، أواني المطبخ، الكتب، الثياب، الفرش، فهذه تكون للبائع, هذه لا تكون داخلة في البيع إلا إذا كان هناك شرط عرفي أو لفظي، فالمسلمون على شروطهم، فلو أنه اشترط المشتري, قال: بشرط أن الأثاث الموجود في البيت لي، أو اشترط المشتري أن الكتب الموجودة في البيت له، أو الثلاجة له، فنقول: المسلمون على شروطهم. فأصبح عندنا ما يتعلق بالأثاث ينقسم إلى هذين القسمين. الأمر الخامس: إذا كان فيها أشجار، لمن تكون هذه الأشجار؟مثلاً باع الأرض وبها أشجار نخيل أو البيت باعه فيه أشجار تفاح أو برتقال... إلى آخره، نقول: الأشجار تكون للمشتري، تكون تابعة للبيت.وما عليها من الثمار تقدم لنا ما يتعلق بالثمار أنها تنقسم إلى قسمين: ما يتعلق بثمار النخيل: ما أبر فإنه يكون للبائع، وما لم يؤبر فإنه للمشتري, وغير ثمار النخيل كثمر البرتقال وغير ذلك ما ظهر فإنه يكون للبائع, وما لم يظهر فإنه يكون للمشتري، فنقول: إذا كان فيها أشجار فإنها تكون للمشتري وكذلك أيضاً الثمرة تكون للمشتري إلا كما تقدم وسبق ذكره. الأمر السادس: إذا كان فيها زرع، قال المؤلف رحمه الله: (فإن باع الأرض وفيها زرع).ما الفرق بين الشجر والزرع؟ الشجر تطول مدته، بخلاف الزروع فإن مدتها قصيرة، قد تكون مدتها سنة نصف سنة, الأشجار مدتها طويلة وأما الزروع مدتها قصيرة.أيضاً الشجر له ساق والزرع ليس له ساق.الأشجار تكلمنا عليها وقلنا بأن الأشجار تكون للمشتري إذا باع الأرض يملكها إلا ما يتعلق بالثمرة فذكرنا التفصيل فيها.القسم السادس إذا باع الأرض وفيها زروع ، هذه الزروع تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: قال: (وفيها زرع لا يحصد إلا مرة)، وهذا مثل القمح تزرعه وتحصده مرة واحدة ، ومثل أيضاً الشعير تزرعه وتحصده مرة واحدة، إذا كان الزرع لا يحصد إلا مرة واحدة فهو للبائع، باع الأرض أو باع المزرعة وفيها قمح أو غير ذلك مما يحصد مرة واحدة يكون الزرع هنا للبائع، وله أن يبقيه إلى وقت الحصاد إلا إذا اشترط المشتري، قال: بشرط أن الزرع يكون لي فالمسلمون على شروطهم، لكن إذا لم يكن هناك شرط فنقول: بأن الزرع يكون للبائع وليس للمشتري هذا القسم الأول. القسم الثاني: أن يكون الزرع يجز مراراً، تجزه ثم يأتي مرة أخرى، ثم تجزه، ثم يأتي، ثم تجزه، ثم يأتي، أو تأخذ الثمرة ثم تأخذ الثمرة مرة ثانية، فالذي يجز مراراً مثل البرسيم, أصوله تكون في الأرض يجز ثم يخرج مرة ثانية، ومثل الكراث يجز ثم يخرج مرة ثانية وهكذا، والذي يلقط مثل الكوسة تلقطها ثم تأتي مرة ثانية، مثل الطماطم، والباذنجان تلقطه ثم يأتي مرة ثانية وهكذا، يلقط مراراً، فلمن يكون هذا الذي يجز مراراً أو يلقط مراراً؟ قال المؤلف رحمه الله: (وإن كان يجز مرة بعد أخرى فالأصول للمشتري والجزة الظاهرة عند البيع للبائع).نقول: الأصول التي في الأرض تكون للمشتري، الجزة الظاهرة واللقطة الظاهرة هذه للبائع إلا إذا اشترط المشتري، فالمسلمون على شروطهم.الأمر السابع: إذا كان في هذا البيت أو هذه الأرض مال مودع، فهل يدخل في البيع أو نقول: لا يدخل في البيع؟نقول: لا يدخل في البيع، هذا فيما يتعلق ببيع الأراضي والدور والمزارع وغير ذلك.
بيع الثمرة قبل بدو صلاحها
قال المؤلف رحمه الله: [فصل: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها].هذا القسم الثالث: وهو ما يتعلق ببيع الثمرة، فعندنا تكلمنا عن بيع الأراضي وما يتعلق ببيعها، ثم القسم الثاني بيع الأشجار فقط، ثم القسم الثالث وهو بيع الثمرة، الآن أراد أنه يبيع الثمرة فقط، عنده نخيل أو عنده أشجار تفاح أو أشجار موز أو أشجار زيتون أو غير ذلك، أراد أن يبيعك الثمرة، ما حكم بيع الثمار؟ بيع الثمار جائز بشرط أن يبدو صلاحه، والدليل على هذا حديث ابن عمر في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ). وقد استثنى العلماء رحمهم الله ثلاث مسائل: قالوا: يجوز أن تبيع الثمار قبل بدو الصلاح. المسألة الأولى: إذا باعه الثمرة بشرط القطع في الحال، يعني حتى الآن التمر أخضر ما بدا صلاحه, هل يجوز بيعه أو ما يجوز؟ نقول: ما يجوز، لكنه اشتراه بشرط أن يقطعه الآن وينتفع به مثلاً كعلف أو نحو ذلك، هذا جائز ولا بأس به؛ لأنه منع من بيعه قبل بدو صلاحه خشية العاهة، الجائحة وهنا انتفت، سيقطعه الآن، هذا قالوا: إنه جائز. المسألة الثانية: إذا باعه مع الأصل، يعني باع أشجار النخيل وفيها ثمر أخضر ما بدا صلاحه، يجوز أو لا يجوز؟نقول: جائز, الممنوع إذا اشترى ثمرة النخل فقط، أما إذا باعه الأشجار أو باعه المزرعة وفيها أشجار، والأشجار حملت الثمار لكنه ما بدا صلاحه، نقول: بأن هذا جائز ولا بأس به، والقاعدة: أنه يثبت تبعاً ما لم يثبت استقلالاً، هنا لم يبع الثمرة مستقلة وإنما باع الثمرة تبعاً للشجرة أو تبعاً للأصل العقار الأرض أو المزرعة ونحو ذلك، فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس به. المسألة الثالثة: إذا باعه الثمرة قبل بدو صلاحها لمالك أصلها، يعني هذا رجل يملك الثمرة, وهذا رجل يملك الأشجار أو يملك المزرعة، صورة ذلك مثلاً: رجل أوصى قال: ثمرة البستان لزيد ثم مات، المزرعة الآن تكون للورثة، والثمرة تكون لزيد، زيد باع الثمرة على الورثة، الفقهاء يقولون: يصح إذا باع الثمرة على مالك الأصل وهم الورثة وإن لم يبدُ صلاحها، هذا ما ذهب إليه الفقهاء رحمهم الله، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله. والرأي الثاني: أنه لا يصح بيع الثمرة قبل بدو صلاحها حتى ولو باعه لمالك الأصل؛ لعموم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها )، والصواب أنه لا يصح.
كيفية معرفة صلاح الثمرة
كيف نعرف صلاح الثمرة؟ نقول: بأن الثمرة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ثمرة النخلة، وضابط الصلاح فيها أن تحمار أو تصفار، النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيع الثمار حتى تزهو وسئل عن زهوها؟ فقال: أن تحمار أو تصفار ) فالنبي عليه الصلاة والسلام فسر ذلك بأنها تحمار أو تصفار، فإذا احمرت أو اصفرت جاز البيع، قال العلماء: ولو احمرت بسرة واحدة أو اصفرت بسرة واحدة، يعني لو كان عنده ألف نخلة يريد أن يبيعها فيقولون: إن صلاح بعض الشجرة صلاح لها ولسائر الجنس، فهنا جائز بيعها، هذا القول الصواب في هذه المسألة، يعني هل صلاح الشجرة صلاح لسائر الأشجار أو للنوع أو للجنس؟هذا موضع خلاف فبعض العلماء يقول: صلاح لها ولسائر النوع، بمعنى إذا كان المزرعة فيها سكري و... إلى آخره، فاصفرت نخلة من السكري، على القول بأنه صلاح لها ولسائر النوع هل يبيع الشجر أو ما يبيع الشجر؟ ما يبيع الشجر، صلاح لها وللسكري للنوع فقط.والقول الثاني: قالوا: صلاح لها ولسائر الجنس, هل يبيع الشجر أو ما يبيعه؟ يبيعه؛ لأنه صلاح لها ولسائر الجنس، يشمل كل التمر. القول الثالث: أعم من هذا، يقول: صلاح لها ولسائر الأشجار حتى من غير الجنس، حتى لو كان هناك أشجار برتقال أو أشجار ليمون أو نحو ذلك, وهذا ضعيف.الصحيح أنه صلاح لها ولسائر الجنس دون النوع. قلنا: إذا بدا الصلاح بنخلة واحدة بسرة واحدة جاز أن تبيع كل النخيل ولو كان في المزرعة ألف نخلة أو أكثر، هذا إذا باع كل النخيل، لكن لو قال أنا سأبيع مائة نخلة فقط، فهذا لابد من بدو الصلاح في كل نخلة، إن قال: سأبيع النخيل كله في المزرعة فيكفي صلاح بسرة واحدة، إن قال: لن أبيع كل النخيل سأبيع مائة سأبيع عشرة, فنقول: لابد من أن يبدو الصلاح في كل شجرة.هذا القسم الأول وهو ما يتعلق بصلاح النخيل، لما تكلمنا على بدو الصلاح. قلنا: ضابط ذلك أن الأشجار لا تخلو من أمرين:الأمر الأول: أن تكون نخلاً فضابط بدو الصلاح فيها أن تحمار أو تصفار كما تقدم . الأمر الثاني: أن تكون الأشجار التي يراد بيعها غير النخل مثل أشجار البرتقال أشجار التفاح أشجار الموز ونحو ذلك، فهذه ضابط الصلاح فيها أن تنضج ويطيب أكلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: ( نهى عن بيع الثمار حتى تطعم )، فدل ذلك على أنه لابد أن تنضج وأن يطيب أكلها.كلام النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الثمر على الشجر، أما لو قطعته ما في بأس تبيعه وهو أخضر، أنت لو أخذت عوداً من السوق وبعته ما أحد قال لك: لا، لو كان عندك ثمار موز أخضر قطعته ورحت السوق وبعته ما أحد يقول لك: لا، أو ثمر برتقال أخضر ... ونحو ذلك. المقصود أنك ما تبيعه وهو على الشجر؛ لأنه عرضة للآفة، وأيضاً لو اشتريت الجريد أخضر أو بعته ما أحد قال لك: لا، لكن تشتريه وهو على الشجر أخضر لا يجوز، لابد أن يقطعه صاحب المزرعة ثم يبيعه، فالمقصود الثمار التي على الأشجار، أما إذا قطعها المالك وباعها ما أحد يقول له: لا. فيتلخص لنا أن بيع الثمار لا يجوز بيعها حتى يبدو صلاحها، وذكرنا ضابط الصلاح في النخيل، وضابط الصلاح في غير النخيل، وذكرنا أن العلماء رحمهم الله استثنوا ثلاث مسائل.
بيع الزرع قبل أن يشتد
القسم الرابع: بيع الزروع، تكلمنا عن بيع الأشجار والثمار والأراضي والبساتين إلى آخره، بقينا في القسم الرابع: وهو بيع الزروع مثل بيع زرع البر أو البرسيم أو الكراث أو البصل أو الفجل أو غير ذلك، فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن بيع الزرع حتى يشتد )، نقول: لا يجوز بيع الزرع حتى يبدو صلاحه، وصلاح الحبوب بأن تشتد، وكيف تشتد؟ يعني تقوى وتصلب، الحبة إذا أخذتها تجدها قوية صلبة، إذا ضغطها لا تنضغط ما عدا الحبوب مثل: ثمرة الطماطم الباذنجان وغير ذلك من البقول... إلى آخره، فهذه أن تطيب وتنضج، كذلك أيضاً كما قلنا في الثمار نقول في الزروع النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن بيع الزرع حتى يشتد )، لكن العلماء رحمهم الله استثنوا ثلاث مسائل قالوا: يجوز بيع الزرع قبل اشتداده: المسألة الأولى: إذا اشتراه بشرط القطع في الحال، يعني اشترى مثلاً زرع البرسيم بشرط أن يقطعه في الحال قالوا: هذا جائز. المسألة الثانية: إذا اشتراه مع الأصل، اشترى الأرض وفيها زرع حتى الآن لم يشتد، فقالوا أيضاً بأن هذا جائز ولا بأس به. المسألة الثالثة: إذا باعه على مالك الأصل، وقلنا بأنه يصح في مسألتين ولا يصح في المسألة الثالثة.بقي عندنا مسألتان تتعلقان ببيع الزروع: المسألة الأولى: الزروع التي ثمارها مستترة في الأرض: مثل البطاطس والفجل والبصل والجزر إلى آخره، هذه تكون مستترة في الأرض، هل يشترط أن تنبش وتخرج عند البيع؟هذا موضع خلاف, المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يشترط أن تنبش, إذا كان عندك أحواض من البصل أو أحواض من الجزر أو نحو ذلك، إذا أردت أن تبيعه فقم بنبشها أول شيء ثم إذا نبشتها فقم ببيعها، هذا المذهب، والرأي الثاني يرى ابن القيم رحمه الله أنه ليس شرطاً أن تنبش، قال الإمام مالك: ليس شرطاً أن تنبش، وأهل الخبرة يستدلون بما ظهر على ما بطن، فما ظهر يستدل به على ما بطن, وهذا القول الصواب, ونبشها يؤدي إلى فسادها. المسألة الثانية: ما يجز مراراً ويقطف ثمرته مراراً مثل: البرسيم والكراث والكوسة أو يقطف مثل الطماطم والباذنجان هذه الأشياء التي تجز مراراً وتقطف مراراً، الفقهاء وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله يقولون: لابد أن تكون الجزة ظاهرة يعني: ما يجوز أن تبيع جزة معدومة، لابد أن تبيع جزة ظاهرة أو لقطة ظاهرة ما عدا ذلك غير جائز، لو قال: أبيعك لقطتين أو ثلاثة من الطماطم أو يبيع جزتين من البرسيم قالوا: بأن هذا غير جائز. والرأي الثاني: مذهب الإمام مالك رحمه الله واختاره شيخ الاسلام ابن تيمية أنه لا باس أن تبيع جزتين، ثلاث جزات من البرسيم ومن الكراث ومن الطماطم ونحو ذلك، قالوا: بأن هذا جائز ولا بأس به؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك.
وضع الجوائح
قال المؤلف رحمه الله: [ولو باع الثمرة بعد بدو صلاحها على الترك إلى الجذاذ جاز، فإن أصابتها جائحة رجع بها على البائع لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لو بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا, بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ )، وصلاح ثمر النخيل أن يحمر أو يصفر, والعنب أن يتموه, وسائر الثمر أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله].تكلمنا عليه، لكن بقينا في مسألة تكلم عليها المؤلف رحمه الله وهي: ما يتعلق بوضع الجوائح ،كما تقدم بيع الثمار بعد بدو صلاحها وأن حكمه جائز ولا بأس به، وثمر النخيل بدو صلاحه أن يحمر ويصفر، وحتى يحمر ويصفر يحتاج إلى وقت حتى يطيب وينضج، قد يتأخر إلى شهر شهرين ثلاثة أشهر إلى آخره، لو أنه أصابته جائحة ما بين بدو الصلاح والجذاذ، هل هذه الجائحة تكون من ضمان البائع أم من ضمان المشتري؟هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله، فالمشهور من مذهب الإمام مالك رحمه الله: أنها تكون من ضمان البائع ولا تكون من ضمان المشتري؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أمر بوضع الجوائح. حديث جابر رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم : ( من باع ثمراً فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئاً علام يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ ) فظاهر من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن الضمان يكون على البائع، وأنه لا يجوز له أن يأخذ من المشتري شيئاً، وإن أخذ يجب عليه أن يرده ولو شرط، قال البائع: بشرط فإن أصابته جائحة فهو من ضمانك أيها المشتري، وحكم الشرط هذا أنه شرط باطل؛ لأنه مخالف للشرع. المهم إذا أصابته الجائحة يكون من ضمان البائع وليس من ضمان المشتري، هذا مذهب الحنابلة والمالكية.وعند الحنفية والشافعية أنه إذا أصابته جائحة من ضمان المشتري، ويرون أن الجوائح لا توضع، واستدلوا أيضاً بحديث أبي سعيد في صحيح مسلم : ( أن رجلاً أصابه دين بسبب ثمار ابتاعها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه )، وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بوضع الجائحة، وكيف الجواب عن هذا الحديث؟هذا الحديث الجواب عنه سهل، فليس في الحديث تصريح أن الدين بسبب الجائحة، ربما أن الأسعار نقصت ونحو ذلك، أو أنه فرط في أخذ الثمار حتى تلفت.وعلى هذا فالصواب في هذه المسألة القول الأول: بأنها من ضمان البائع، وما المراد بالجائحة؟المراد بها آفة تصيب الثمار والزروع فتؤدي إلى إتلافها كلها أو بعضها مثل الأمطار، الرياح، الثلوج، الجراد، العطش، وغير ذلك.وضع الجائحة هذا يشترط له شروط: الشرط الأول: اشترطه المالكية، وهو أن يكون التالف الثلث فأكثر من الثمار والزروع، وعلى هذا لو تلف أقل من الثلث فما الحكم؟ قالوا: لا يوضع وإنما يكون من ضمان المشتري، والمذهب أنه يوضع القليل والكثير، وهذا الصواب، الصحيح أنه لا يتقيد بالثلث؛ لأن الحديث عام، فنقول: إن الصواب في هذه المسألة أن الجائحة توضع، اللهم إلا إذا كانت أشياء يسيرة عرفاً، هناك أمور يسيرة يتسامح فيها الناس, لكن ما خرج عن اليسير الذي يتسامح فيه فهذا يكون من ضمان البائع ويجب عليه أن يضعه. الشرط الثاني: أن يكون ذلك ما بين بدو الصلاح والجذاذ، فلو كان ذلك بعد وقت الجذاذ يكون من ضمان المشتري، لكن لو أن المشتري تأخر شيئاً يسيراً لكي يقوم بالجذ أو نحو ذلك يوماً يومين ثم تلفت, هذا يكون من ضمان البائع, لكنه لو فرط في أخذها مر أسبوع أسبوعان ولم يأخذها حتى هلكت وأصابتها الجوائح، فنقول: هذا من ضمان المشتري.هل يقاس على الزروع والثمار غيرها في وضع الجائحة أو لا يقاس أو نقول: بأن هذا خاص بالزروع والثمار؟هذا موضع خلاف، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يختار بأنه ليس خاصاً، وإنما يقاس على الثمار والزروع غيرها في وضع الجائحة، فمثلاً: في الإجارة لو أنه أصابته جائحة، استأجر الدكان بعشرين ألف ريال، ثم بعد ذلك احترق المحل، شيخ الإسلام يرى أنه يفسخ العقد؛ لأن ماله قد احترق، أو مثلاً الدكان استأجره بعشرين ألف ريال، ثم بعد ذلك انصرف الناس عن هذه الجهة لسبب أو لآخر ونزلت الأسعار، أصبح الآن هذا المحل لا يأتيه أحد بسبب انصراف الناس أو بسبب تعديل شوارع أو بناء جسور أو غير ذلك، شيخ الإسلام يرى أنه توضع الجائحة، ومثل ذلك أيضاً ما يحصل الآن للمصانع من الحرائق والإتلافات وغير ذلك.

ابو وليد البحيرى
2019-04-15, 04:31 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب البيع [8]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(71)


المتبايعان قد يحصل من أحدهما استعجال في العقد ثم يحصل له الندم، أو قد يظهر له ما يدعوه إلى الفسخ, لذا فقد جعل له الشرع حق الفسخ, فأثبت له خيار المجلس وخيار الشرط وخيار العيب, وقد تكلم الفقهاء على أحكام الخيار بأنواعه, وذكروا ما يثبت فيه الخيار من العقود و
الخيار

تعريف الخيار والحكمة منه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب الخيار].قال المؤلف رحمه الله: (باب الخيار) مناسبة هذا الباب لما قبله أن الإنسان قبل حصول الشيء في يده يكون له فيه رغبة، ثم بعد تمكنه منه قد تقل رغبته فيه، وقد يلحقه ندم على المعاوضة على هذا الشيء؛ لأن الشخص قبل أن يتمكن من الشيء نفسه راغبة فيه، وقد لا يكون عنده تروي واستشارة، فيعقد ويعاوض، ثم بعد أن يعاوض ويعقد قد تقل رغبته، وقد يندم، فشُرع له الخيار، شُرع له أن يفسخ أو أن يشترط الفسخ؛ لئلا يلحقه بعد ذلك ندم وأسف وحزن، فإذا كان في مجلس العقد له أن يفسخ، وإذا شرط أن له الخيار مدة معلومة له أن يفسخ، هذا الحكمة منه, لما ذكر البيع ذكر الخيار، الخيار فيه فسخ, وعقد البيع عقد لازم من الطرفين لا يتمكن أحدهما من فسخه إلا برضا الآخر في الإقالة كما سيأتي. فمناسبته لما قبله أنه لما ذكر البيع وهو عقد لازم، قد يُقدم الإنسان على البيع بلا تروي ولا استشارة لكونه راغباً في الشيء، ثم بعد ذلك قد تقل رغبته، قد يندم، فشُرع له الخيار الذي يتمكن من خلاله من فسخ هذا العقد اللازم الذي هو عقد البيع. قال المؤلف رحمه الله: (باب الخيار).الخيار اسم مصدر اختار، وفي اللغة: طلب خير الأمرين من الإمضاء والفسخ.وأما في الاصطلاح: فهو طلب خير الأمرين من إمضاء العقد أو فسخه.
مشروعية الخيار
والأصل في الخيار السنة وإجماع العلماء في الجملة، أما السنة فحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، وسيأتينا إن شاء الله. وأما الإجماع، فالعلماء رحمهم الله مجمعون على الخيار في الجملة وإن كانوا يختلفون في التفاصيل وما يثبت من أقسامه وما لا يثبت كما سيأتي إن شاء الله.
خيار المجلس
قال المؤلف رحمه الله: [البيعان بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما].القسم الأول من أقسام الخيار: خيار المجلس, يسميه العلماء رحمهم الله بخيار المجلس، وإضافته إلى المجلس من باب إضافة الشيء إلى محله الغالب، يعني الخيار الذي سببه مجلس العقد، وهذا بناء على الغالب، وإلا هو كما قال المؤلف رحمه الله: ما لم يتفرقا بأبدانهما، يعني أن الخيار ثابت لكل واحد من المتبايعين ما داما لم يتفرقا بأبدانهما، وإن تفرقا من المجلس، وإنما قال العلماء رحمهم الله: خيار المجلس لأن الغالب أنهما إذا تفرقا من المجلس فإنهما يتفرقان بأبدانهما، الغالب أنهما إذا تفرقا من المجلس فإنهما يتفرقان بأبدانهما، ولهذا العلماء رحمهم الله يقولون: خيار المجلس، وهذا كما قلنا على سبيل الغالب، وإلا فلو خرجا من المجلس بأبدانهما فإن الخيار لكل واحد منهما، ما دام أنهما متلازمان بأبدانهما ولو انتقلا من مجلس إلى مجلس آخر فنقول: بأن الخيار ثابت لكل منهما.
مشروعية خيار المجلس
وخيار المجلس ثابت في السنة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا). وذهب إليه الإمام أحمد والشافعي رحمهم الله، ذهبا إلى إثبات خيار المجلس، وأن كل واحد من المتبايعين بالخيار ما دام في المجلس أو نقول: مادام أنهما لم يتفرقا بأبدانهما، ولو خرجا من المجلس من مجلس العقد.وذهب الإمام أبو حنيفة ومالك إلى عدم إثبات خيار المجلس، وأنه إذا تم الإيجاب والقبول فإن عقد البيع لازم لا يتمكن أحدهما من فسخه. والصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه الإمام أحمد والشافعي رحمهم الله؛ لأن الحديث ثابت في ذلك، والسنة ثابتة في ذلك ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا), وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا, وكانا جميعاً, أو يخير أحدهما الآخر, فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع)، وهذا في الصحيحين.قوله: (ما لم يتفرقا)، عند الإمام أحمد والشافعي ما لم يتفرقا بأبدانهما، وعند مالك وأبي حنيفة ما لم يتفرقا بأقوالهما. ولكن كما قلنا الصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه الشافعي وأحمد ، وأما القول بأنهما ما لم يتفرقا بأقوالهما هذا غير صواب؛ لأنه إذا تفرقا بأقوالهما أصلاً ما تم البيع، يعني إذا اختلفا في الإيجاب والقبول أصلاً ما تم البيع، وهنا تم البيع اتفقا في أقوالهما، تم الإيجاب والقبول، فنقول: لكل واحد منهما الخيار ما لم يفسخ أحدهما إذا كان في المجلس، فإذا كان في المجلس فإن له حق الفسخ، إذا تفرقا بأبدانهما فإن حق الفسخ يسقط, حق الخيار يسقط، ويدل على هذا أيضاً فهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولهذا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان إذا أراد أن يُلزم بالعقد مشى خطوات، مما يدل على أن المراد التفرق بالأبدان.
ضابط التفرق بالأبدان
وقول المؤلف رحمه الله: (ما لم يتفرقا بأبدانهما).ما هو ضابط التفرق بالأبدان؟نقول: هذا لم يرد تحديده في الشرع فيُرجع إلى تحديده في العُرف، في الشرع لم يرد حده فيُرجع في تحديده إلى أعراف الناس، وهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان, فمثلاً إذا كان في المحل التجاري فالتفرق بالأبدان أن يخرج أحدهما من المحل التجاري، فإذا اشترى منه السلعة ثم بعد ذلك خرج من المحل التجاري نقول: الآن تفرقا بأبدانهما، إذا كانا في المنزل وباع عليه واشترى منه فنقول: إذا خرج من هذا المكان إلى مكان آخر, مثلاً إذا كان في غرفة ثم خرج أحدهما إلى غرفة أخرى، نقول: الآن تفرقا بأبدانهما، وعلى هذا فقس، إذا كان في الصحراء، فقال العلماء: أن يبتعد عنه، يعني إذا مشى عنه خطوات وابتعد عنه عُرفاً فإنهما تفرقا بأبدانهما. المهم خيار المجلس ثابت ما لم يتفرقا بأبدانهما، فإذا تفرقا بأبدانهما فإن خيار المجلس ينقطع، وضابط التفرق بالأبدان يُرجع فيه إلى أعراف الناس، وهذا يختلف باختلاف المكان واختلاف الزمان.قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن تفرقا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع].إن تفرقا ولم يفسخ أحدهما البيع فنقول: بأن البيع يكون واجباً لازماً، إذا ذهب أحدهما وخرج ولم يفسخ، فنقول: بأن العقد يكون لازماً للآخر.وهل يجوز أن يخرج لكي يُلزم بالعقد أو لا يجوز له ذلك؟نقول: لا يجوز له ذلك، يعني التحيل على إسقاط خيار المجلس وإلزام الآخر بالبيع محرم ولا يجوز، ولو فعل فإن حقه لا يسقط؛ لأن الحيل لا تُسقط الواجبات ولا تُبيح المحرمات، وأما ما ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا أراد أن يلزم بالبيع مشى خطوات فنقول: هذا اجتهاد من ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. والصواب في ذلك أنه ما يسقط حق الآخر، فلو أنه خرج وأراد أن يلزم بالبيع نقول: حق الآخر لا يزال باقياً، له الخيار ما لم يفارق المجلس، فإن فارق المجلس ولم يفسخ نقول: لا خيار له.
العقود التي يثبت فيها خيار المجلس
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع إلا أن يشترطا الخيار لهما].بأي شيء يثبت خيار المجلس؟ هل يثبت خيار المجلس في كل العقود أو نقول: بأنه خاص في عقد البيع وما في معناه؟هذه المسألة موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، وهل ما يثبت به خيار المجلس محدود أو أنه معدود؟هذه موضع خلاف، فمن أثبت خيار المجلس وهم الشافعية والحنابلة يرون أن الذي يثبت فيه خيار المجلس معدود، يعددون يثبت خيار المجلس في كذا وفي كذا وفي كذا إلى آخره.والصواب أنه محدود ومضبوط بضابط، والضابط هو أن خيار المجلس يثبت في البيع وما كان في معنى البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار).فالقاعد ة في ذلك والضابط: أن ما كان بيعاً أو في معنى البيع يثبت فيه خيار المجلس، ماعدا ذلك لا يثبت فيه خيار المجلس، فالعقود على صنفين بالنسبة لخيار المجلس:ما كان بيعاً أو في معناه، ثبت فيه خيار المجلس, ما لم يكن كذلك لا يثبت فيه خيار المجلس، ونتأمل العقود، عقد البيع يثبت فيه خيار المجلس, الصرف يثبت فيه خيار المجلس؛ لأن الصرف بيع نقد بنقد، فإذا صرفت دراهم بدراهم، مثلاً صرفت جنيهات بريالات، أو صرفت ريالات سعودية بريالات سعودية ... إلى آخره، نقول: بيع الصرف هو بيع نقد بنقد، فإذا صرف وأراد أن يفسخ وهو في مجلس العقد نقول: يثبت به خيار المجلس, السلم يثبت فيه خيار المجلس؛ لأن السلم تقديم الثمن وتأخير المثمن، تعطيه ألف ريال على أن يعطيك بعد سنة مائة صاع من البر، مائة صاع من البر، مائة صاع من التمر، يعطيك كذا وكذا من الكتب، يعطيك كذا وكذا من الأقلام، يعطيك كذا وكذا من الأثواب... إلى آخره، هذا السلم، السلم يصح في كل شيء يمكن ضبطه، كل موصوف يمكن ضبطه بالصفة فإن السلم يصح فيه، فنقول: يصح خيار المجلس في السلم يصح خيار المجلس في الإجارة؛ لأن الإجارة بيع للمنافع، فإذا استأجر البيت مثلاً بعشرة آلاف ريال، ثم بدا له أن يفسخ المستأجر أو المؤجر أو أجره محله ثم بدا له أن يفسخ المستأجر أو المؤجر، نقول: نعم له أن يفسخ؛ لأن الإجارة نوع من البيع.عقد المساقاة وعقد المزارعة, المساقاة هي أن تدفع الشجر لمن يقوم عليه بجزء معلوم من الثمرة، عندك نخيل تدفع النخيل لمن يعمل عليها بجزء معلوم من الثمرة، نقول: يثبت فيها خيار المجلس؛ لأن المساقاة عقد لازم على الصحيح وليست عقداً جائزاً، فللمساقي أو المساقى أن يفسخ. أيضاً المزارعة، المزارعة هي دفع الأرض لمن يقوم عليها بجزء مشاع معلوم من الزرع، نقول أيضاً: يثبت فيها خيار المجلس؛ لأن الصواب أن المزارعة عقد لازم، فإذا أراد العامل أن يفسخ وهو في مجلس العقد، أو أراد المالك أن يفسخ وهو في مجلس العقد نقول: له ذلك، فالمزارعة والمساقاة يثبت فيها خيار المجلس.هذه العقود التي يثبت فيها خيار المجلس، ماعدا ذلك ما يثبت فيها خيار المجلس، مثلاً عقد الشركة ما يثبت فيه خيار المجلس؛ لأن عقد الشركة أصله عقد جائز, لكنك تفسخ الآن ولك أن تفسخ بعد ذلك، فلو أنه أعطى دراهمه شخصاً يقوم عليها مضاربة بجزء معلوم مشاع من الربح، قال: خذ هذه مائة ألف ريال وتعمل عليها ولك نصف الربح ولي نصف الربح، نقول: هذا عقد جائز، له أنه يفسخ في المجلس، وله أن يفسخ بعد أن يتفرقا.الوكالة أيضاً عقد جائز, وليست بيعاً ولا في معنى البيع.الضمان أيضاً ليس بيعاً ولا في معنى البيع، لا يثبت فيه خيار المجلس، لو أنه قال: أقرض هذا الرجل وأنا أضمنه، فأقرضه وتم الضمان إلى آخره، لا يملك أن يفسخ؛ لأن هذا ليس بيعاً ولا في معنى البيع.الكفالة أيضاً لو قال: أقرضه وأنا أكفله, نقول: لا يثبت فيها خيار المجلس؛ لأنها ليست بيعاً ولا في معنى البيع.الوقف أيضاً, لو وقف بيته قال: بيتي هذا وقف لله عز وجل، ثم قال: فسخت في المجلس، نقول: ما تملك الفسخ، خلاص هذا شيء أخرجته لله عز وجل، هذا ليس بيعاً ولا في معنى البيع، هذا تبرع لله عز وجل.الهبة، لو وهبه مثلاً هذا الكتاب أو هذا القلم، ثم قال: فسخت رجعت لا يملك ذلك؛ لأن الهبة ليست بيعاً ولا في معنى البيع.المهم نقول: خيار المجلس يثبت في البيع وما في معنى البيع.هناك أمور ذكرها العلماء رحمهم الله جعلوها في معنى البيع مثل هبة الثواب، لو قال: وهبتك الكتاب بشرط أن تعطيني عشرين ريالاً، قالوا: هذا في معنى البيع، هذا يثبت فيه خيار المجلس؛ لأنه في الحقيقة بيع.صلح الإقرار أيضاً قالوا: هذا في معنى البيع، لو أنه ادعى عليه، قال: أنا أريد منك ألف ريال، قال: صح أنت تريد مني ألف ريال لا أنكر، لكن ما عندي ألف ريال، عندي هذه الكتب خذها عن الألف، فهذا في معنى البيع، يثبت فيه خيار المجلس. فتلخص لنا: أن البيع وما في معناه يثبت فيه خيار المجلس، وذكرنا الصرف والسلم وكذلك أيضاً الإجارة وكذلك أيضاً المساقاة والمزارعة ... إلى آخره، هذه كلها يثبت فيها خيار المجلس، ماعدا ذلك من العقود مثل عقد القرض، لو أقرضه ألف ريال ثم قال: أريد أن أرجع، أعطني الألف، نقول: ما تملك ذلك، الذي لا يثبت فيه خيار المجلس: القرض الضمان الكفالة الشركة الوكالة أيضاً، الوقف، عقد النكاح أيضاً، عقد النكاح لا يثبت فيه خيار المجلس، فلو عقد على ابنته لشخص ثم قال: فسخت، أو قال الزوج: فسخت نقول: ما تملك، الزوج يملك الطلاق، لكن هنا لا يثبت خيار المجلس.
خيار الشرط
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلا أن يشترطا الخيار لهما أو لأحدهما مدة معلومة].هذا القسم الثاني من أقسام الخيار، وهو خيار الشرط، وخيار الشرط هذا متفق عليه بين الأئمة، الأئمة كلهم يتفقون عليه، وإن كانوا يختلفون في شيء من تفاصيله، إلا أنهم يتفقون عليه، بخلاف خيار المجلس كما سلف، فإن الحنفية والمالكية لا يرون إثباتها، لكن خيار الشرط هذا يتفق عليه العلماء رحمهم الله. ودليل خيار الشرط قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، والأمر بإيفاء العقد يتضمن الأمر بإيفاء أصله ووصفه، ومن وصفه الشرط فيه، فإذا شرط أحدهما أن له الخيار فإن هذا جائز ولا بأس به، ويدل ذلك أيضاً من السنة حديث أبي هريرة في صحيح البخاري معلقاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم).
مدة خيار الشرط
قال: (إلا أن يشترطا الخيار لهما أو لأحدهما مدة معلومة).فيفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن خيار الشرط لا يتقيد بمدة ما دامت أنها معلومة، سواء كانت هذه المدة قليلة أو كثيرة، خيار الشرط يثبت في المدة سواء كانت قليلة أو كانت كثيرة بشرط أن تكون معلومة، لو قال: لي الخيار لمدة يوم يومين ثلاثة أيام عشرة أيام شهر شهرين، هذا كله جائز ولا بأس به, ولهذا قال: مدة معلومة. وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.والرأي الثاني وعليه أكثر أهل العلم أن خيار الشرط يتقيد بثلاثة أيام، ولا يزيد عن ذلك، يعني لي الخيار لمدة يوم يومين ثلاثة أيام، ما زاد على ذلك قالوا: لا يجوز.واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الخيار ثلاثة أيام في المصراة، والتصرية هي أن تُربط ضروع بهائم الأنعام حتى يجتمع فيها اللبن فيظن المشتري أن هذا عادة لها، ثم بعد الحلب يتبين أنه ليس عادة، ويكون اللبن ناقصاً، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم لمن دُلس عليه في المصراة الخيار مدة ثلاثة أيام، قالوا: وهذا دليل على أن الخيار يكون لمدة ثلاثة أيام. وكذلك أيضاً استدلوا بحديث منقذ بن حبان وكان يُخدع في البيوع، فأثبت له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار ثلاثة أيام، وهذا غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أثبت له الخيار لمدة ثلاثة أيام، وأما بالنسبة للمصراة فنقول: المصراة أمرها يظهر خلال ثلاثة أيام, يتبين ذلك للمشتري بالنسبة للبن ونقص اللبن، فالنبي عليه الصلاة والسلام أثبت فيها ثلاثة أيام؛ لأن هذه المدة يتبين فيها. فالصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله، وأن خيار الشرط لا يتقيد بمدة، بل ما اتفق عليه من المدة، قد يتفقان على يوم أو يومين أو ثلاثة أو أسبوع، قد يحتاج إلى مدة أسبوع لكي ينظر، كما لو كان أراد أن يشتري عقاراً كبيراً, المهم بشرط أن تكون هذه المدة معلومة، هذا هو الصواب.
اشتراط قطع الخيار
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيكونان على شرطهما وإن طالت المدة إلا أن يقطعاها].لكل واحد من المتعاقدين أن يبطل الخيار إذا كان له، ولكل واحد منهما أن يشترط عدم خيار الآخر، في خيار المجلس وفي خيار الشرط؛ لأن الخيار جعله الشارع حقاً لكل واحد منهما، فلهما أن يبطلاه ولهما أن يقطعاه، ولكل واحد منهما أن يشترط على الآخر أنه لا خيار له، فنقول: لهما أن يبطلاه، لو قال: أنا أبيعك، لكن بشرط ليس لك خيار مجلس وليس لك خيار شرط، أنا أبيعك السيارة، لكن بشرط أنه لا خيار مجلس ولا خيار شرط، فنقول: هذا حكمه صحيح، الحق له وقد أسقطه، إذا رضي بذلك نقول: هذا حق له، الشارع جعله حقاً له وقد أسقطه. أيضاً لو قال: أنا لي خيار المجلس وأنت ما لك خيار مجلس، نقول أيضاً: هذا صحيح، المسلمون على شروطهم.ولو قال: لي خيار الشرط لمدة يومين وأنت ليس لك خيار شرط، نقول أيضاً: هذا صحيح ولا بأس به، والمسلمون على شروطهم.ولو قال: لي الخيار لمدة ثلاثة أيام أو أربعة أيام، وبعد أن مضى يوم قطع، قال: خلاص، أنا قطعت الخيار والعقد لازم، نقول: هذا صحيح ولا بأس به.المهم إذا أسقطاه أحدهما أو كلاهما أو اشترطا ألا خيار، نقول: بأن هذا حكمه كله جائز ولا بأس به.
العقود التي يثبت فيها خيار الشرط
ما يثبت به خيار الشرط من العقود؟ في أي العقود يثبت خيار الشرط؟ هل هذا معدود أو محدود؟أيضاً هذا موضع خلاف، فأكثر العلماء على أنه معدود، يعني العقود التي يثبت فيها خيار الشرط أكثر العلماء على أنها معدودة يعددون.يقولون: يثبت خيار الشرط في كذا وكذا، لكن إذا ذهبت إلى المطولات تجد أنهم يقولون: يثبت خيار الشرط في كذا وفي كذا وفي كذا من العقود إلى آخره. شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اختصر هذا كله فقال: يثبت خيار الشرط في كل العقود، وهذا يريح طالب العلم، تقول: بأن خيار الشرط يثبت في كل العقود، ودليله عموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (المسلمون على شروطهم)، فيقول: يثبت في كل العقود، يثبت في عقد البيع, لو أنه باعه ثم قال: لي الخيار لمدة يومين، يثبت في عقد الإجارة، لو أنه أجره ثم قال: لي الخيار لمدة يومين أو ثلاثة أيام، يثبت أيضاً في الصرف، لو صرفه دراهم بدراهم وقال: لي الخيار لمدة يومين، صحيح، ومثل ذلك اليوم شراء الذهب، لابد أن يكون يداً بيد، فيصح أنك تشتري الذهب من الصائغ مثلاً بألف ريال أو خمسمائة ألف ريال، تقول: لي الخيار، إن صلح وإلا رديته، على كلام شيخ الإسلام هذا صحيح ولا بأس به.ويثبت أيضاً في عقد السلم، مع أن عقد السلم يجب قبض المال في المجلس، ويثبت أيضاً في الوقف, على كلام شيخ الإسلام يثبت حتى في الوقف، لو قال: بيتي هذا وقف، لكن لي الخيار لمدة يومين أو ثلاثة أيام، لي الخيار لمدة أسبوع، الأرض هذه أوقفها مسجداً، لكن لي الخيار لمدة ثلاثة أيام قد أرجع.ويثبت في عقد النكاح، المرأة تقول مثلا: أنا أقبل هذا الرجل، لكن لي الخيار لمدة يومين أو ثلاثة أيام، يعني أنا أتزوج من هذا الرجل، لكن قد لا تكون أخلاقه حسنة فلي الخيار لمدة يومين ثلاثة أيام، لي الخيار لمدة أسبوع، فيثبت خيار المجلس في كل العقود، وهذا كما ذكرت يريح، يعني خيار الشرط يثبت في كل العقود، ومثله أيضاً المساقاة والمزارعة والشركات... إلى آخره.والهبة، لو قال: أنا أهبه مثلا هذه الدراهم، أو أهبه هذه الأرض، لكن لي الخيار لمدة يومين لمدة ثلاثة أيام لمدة أربعة أيام، نقول: هذا صحيح، فنقول: بأن خيار الشرط يثبت في كل العقود، وهذا يريح، أما الفقهاء رحمهم الله لو رجعت إلى الشروح المطولة تجد أنه يقول: يثبت في هذا العقد ولا يثبت في هذا العقد ... إلى آخره، وهذا التفريق يحتاج إلى دليل، حتى العتق، لو قال: هو حر لوجه الله عز وجل، لكن لي الخيار لمدة ثلاثة أيام، نقول: هذا صحيح ولا بأس به. المهم كما ذكرنا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مطرد، وأنه يثبت الخيار في كل العقود.
خيار العيب
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن وجد أحدهما بما اشترى عيباً لم يكن علمه فله رده أو أخذ أرش العيب].القسم الثالث من أقسام الخيار ما يسمى بخيار العيب.العيب في اللغة: النقص، أما في الاصطلاح فهو أن يجد أحد المتعاقدين في السلعة عيباً ينقص القيمة، أو نقول: أن يجد أحد المتعاقدين في المال عيباً ينقص القيمة، فإذا كان هذا ينقص القيمة عُرفاً فإنه يثبت به خيار العيب. المؤلف رحمه الله قال: (وإن وجد أحدهما بما اشترى عيباً لم يكن علمه فله رده).
ضابط العيب
لم يذكر المؤلف رحمه الله ما هو ضابط العيب الذي يوجب الرد، نقول: ضابط العيب الذي يوجب الرد هو ما تنقص به القيمة عُرفاً عند التجار، وهذا متعارف عليه عند التجار، فمثلاً إذا اشترى السيارة وفيها عيب، قد يكون العيب يسيراً فهذا لا عِبرة به، لكن إذا كان العيب يُنقص القيمة نقصاً معتبراً عند التجار، فنقول: بأنه عيب يثبت به خيار العيب، قد يجد مثلاً في الماكينة خللاً، قد يجد مثلا في الكتاب طمس صفحات، إذا كان العيب يسيراً عُرفاً هذا لا عِبرة به، هذا مما يتسامح به في العادة، فلا يوجب الفسخ، لكن إذا كان العيب ليس يسيراً، في عُرف التجار يُنقص القيمة، فنقول: بأنه يثبت به العيب.ويدل لهذا أن الأصل في المال السلامة، ووجود العيب هذا يُنقص هذا المال؛ لأن الجزء المعيب كالجزء الفائت، وثبت أيضاً في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ( أتى على صاحب طعام فأدخل النبي عليه الصلاة والسلام يده في الطعام فوجد بللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا جعلته فوق لكي يراه الناس، من غشنا فليس منا). قال المؤلف رحمه الله: (لم يكن علمه).يؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله أنه إذا كان عالماً بالعيب فليس له حق الفسخ، فلو أنه علم أن هذا الكتاب فيه طمس صفحات، أو أن هذه السيارة فيها خلل كذا وكذا، أو أن هذه الآلة فيها كذا وكذا إلى آخره، فنقول: دخل على بصيرة وليس له حق الفسخ.
كيفية أخذ أرش العيب
قال: ( أو أخذ أرش العيب).من وجد في ماله عيباً نقول: بأنه بالخيار، إما أن يفسخ ويرد المعيب ويأخذ حقه، وإما أن يُمسك ويأخذ أرش العيب، وما هو أرش العيب؟ أرش العيب هو قسط ما بين قيمته صحيحاً ومعيباً من الثمن، الأرش تقدير, نقول: الأرش هو قسط ما بين قيمته صحيحاً ومعيباً من ثمنه، يعني عندنا ثمن وعندنا قيمة، الثمن هو ما اتفق عليه المتعاقدان، القيمة ما تساويه السلعة عند التجار، فمثلاً اشترى السيارة بعشرة آلاف ريال، هذه العشرة نسميها ثمناً، اتفق عليه المتعاقدان نسميها ثمناً، وهذه السيارة لها قيمة عند التجار، قد تكون قيمتها عند التجار إحدى عشر، لكن هما اتفقا الآن على عشرة، قد تكون قيمة السيارة اثني عشر ألف، لكن هما الآن اتفقا على عشرة، فنقول: الأرش هو قسط ما بين قيمة الصحة وبين قيمة العيب من الثمن.وعلى هذا نحتاج ننظر إلى الثمن وننظر إلى قيمة الصحة وقيمته معيباً، ثم نُخرج الأرش، فالثمن الآن عندنا عشرة آلاف ريال، ننظر إلى السيارة الآن المعيبة كم تساوي عند التجار؟ قال التجار: هذه السيارة تساوي صحيحة خمسة عشر ألف ريال، وكم تساوي معيبة؟ قالوا: تساوي معيبة اثني عشر ألف ريال، كم فرق ما بين الصحة والفساد؟ ثلاثة آلاف, ثلاثة آلاف انسبها إلى قيمة الصحة، ثلاثة آلاف إلى الصحة خمُس، خذ الخُمس من الثمن، كم يكون العيب؟ خُمس الثمن يكون ألفين، يكون الأرش الآن ألفين، يعني هذه كيفية تقدير الأرش، عندنا ثمن أو عندنا قيمة، قيمة صحة وقيمة فساد.الخطوة الأولى: ننظر إلى قيمة الصحة، ثم ننظر إلى قيمة الفساد المعيب، كم تساوي قيمته معيباً؟ثم بعد ذلك ننظر الفرق بين قيمته صحيحاً وبين قيمته معيباً.ثم بعد ذلك ثالثاً: ننسب هذا الفرق إلى قيمته، وهذه النسبة هي الأرش من الثمن.مثال ذلك كما مثلنا: السيارة ثمنها عشرة آلاف ريال، قيمتها صحيحة خمسة عشر ألفاً، قيمتها معيبة اثنا عشر ألفاً، الفرق بين قيمة الصحة وقيمة الفساد ثلاثة آلاف، ننسب ثلاثة آلاف إلى قيمة الصحة، فالثلاثة إلى الخمسة عشر الخُمس، يكون الأرش خُمس الثمن الذي هو عشرة يساوي ألفين، هذا تقدير الأرش.فنقول لمن وجد في سلعته عيباً: أنت بالخيار، إما أن تفسخ وتأخذ مالك، وإما أن تُمسك وتأخذ الأرش، إذا قال: أنا أريد الأرش, تقدير الأرش كما ذكرنا، ننظر إلى قيمة الصحة ثم قيمة الفساد المعيب، ثم نخرج الفرق بينهما، ثم حاصل الفرق ننسبه إلى قيمة الصحة، ثم بعد ذلك نأخذه من الثمن، نقول: حاصل هذه النسبة تؤخذ من الثمن.وبعض العلماء يرى أن من وجد في سلعته عيباً أنه ليس له حق الأرش إلا برضا الآخر، لكن المشهور من المذهب أن له الأرش، أو أن يُمسك, إما أن يفسخ ويأخذ ماله، أو يأخذ الأرش مع الإمساك.

ابو وليد البحيرى
2019-04-15, 04:35 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب البيع [9]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(72)


من القواعد الفقهية: الخراج بالضمان, فللمشتري ما استفاده من غلة المبيع إذا رده لعيب أو تدليس؛ لأنه كان عليه ضمانه لو هلك عنده, فالغنم بالغرم, ومن صور التدليس: تصرية الإبل والغنم, وعلى من وجد عيباً في السلعة أن يبادر إلى ردها بلا تراضي, وقد تكلم الفقهاء عن
تابع خيار العيب
قال المؤلف رحمه الله: (وإن وجد أحدهما بما اشترى عيباً لم يكن علمه فله رده أو أخذ أرش العيب).تقدم هذا، وهو القسم الثالث من أقسام الخيارات، وهو خيار العيب، وذكرنا أن العيب في اللغة: النقص، وأما في الاصطلاح: فهو ما ينقص قيمة المبيع في عرف التجار، وقال بعض العلماء في تعريفه: هو ما ينقص قيمة المبيع عند التجار أو يفوت غرضاً صحيحاً، وهذا تعريف الشافعية رحمهم الله.وذكرنا أن من وجد عيباً في السلعة فهو بين أمرين: إما أن يفسخ ويرد السلعة ويأخذ ما دفعه، وإما أن يمسك ويأخذ الأرش، وتكلمنا عن تقدير الأرش فيما تقدم، وذكرنا أن بعض العلماء أيضاً قال: ليس لمن وجد عيباً أن يأخذ الأرش إلا برضا الآخر الذي سيدفع الأرش.
ملكية النماء في فترة خيار العيب
ثم قال المؤلف رحمه الله: [وما كسبه المبيع أو حدث فيه من نماء منفصل قبل علمه بالعيب فهو له].ما حصل من نماء في العين المبيعة إذا تبين بها عيب، فإن كان ذلك قبل علمه بالعيب فالنماء لمالك العين، لمن اشتراها، يعني إذا وجد المشتري في السلعة عيباً، ولم يكن علمه قبل، وحصل كسب بهذه السلعة، مثلاً نفرض أن هذه السلعة سيارة، وعمل عليها المشتري واكتسب، فنقول: بأن الكسب هنا يكون للمشتري؛ لأنه كسب ملكه، فالسيارة ملك له.وكذلك أيضاً: لو أن المبيع كان حيواناً ثم ولد هذا الحيوان، حمل وولد عند المشتري، ثم تبين أن فيه عيباً فنقول: بأن الولد يكون للمشتري؛ لأنه نماء ملكه؛ لأنه بالعقد ينتقل الملك للمشتري، ملك السلعة ينتقل للمشتري، وملك الثمن يكون للبائع، ويدل لهذا قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع)، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم أن مال هذا الرقيق يكون للبائع، دل ذلك على أن الرقيق أصبح الآن للمشتري، (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع).وإذا كانت السلعة المباعة انتقلت إلى ملك المشتري، فما حصل فيها من نماء فإنه يكون للمشتري، حتى ولو فسخ المشتري لوجود عيب نقول: النماء له لأن الملك ملكه، كما أنه لو حصل فيها نقص يكون الضمان على المشتري، الخراج بالضمان، والنفقة تكون على المشتري، الخراج بالضمان، الغنم بالغرم، وعلى هذا فقس.وقول المؤلف رحمه الله: (أو حدث فيها من نماء منفصل قبل علمه بالعيب).قوله: نماء منفصل يفهم من كلامه أنه إذا كان النماء متصلاً يكون للبائع، يكون للمالك الأول، والصحيح أنه لا فرق بين النماء المنفصل والنماء المتصل، وأن الجميع يكون لمن انتقلت إليه العين، فالسلعة انتقلت الآن للمشتري فنقول: إذا حصل فيها نماء هذا النماء سواء كان متصلاً أو كان منفصلاً فإنه يكون للمشتري، هذا الصواب، ولا فرق. وقول المؤلف رحمه الله: (قبل علمه).يفهم منه أنه إذا علم بالعيب وأراد أن يفسخ فإن النماء يكون للبائع.قال: [فهو له لأن الخراج بالضمان].هذا لفظ حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخراج بالضمان)، ما معنى الخراج بالضمان؟يعني أن من له خراج شيء فعليه ضمانه، ومن عليه ضمانه فله خراجه، الغنم بالغنم، والخراج هو ما يكون من العين، مثل الكسب، مثل الأجرة، مثل اللبن، مثل الصوف، مثل الشعر، مثل الولد... إلى آخره.فخراج الشاة مثلا ما يحصل من الولد واللبن والصوف ونحو ذلك، وخراج السيارة ما يحصل من الانتفاع بها والكسب, وهكذا الخراج بالضمان، هذا الرجل الآن الذي اشترى هذه السلعة ثم تبين فيها عيب نقول: لك الخراج لأن عليك الضمان، فهذا الرجل مثلاً الذي اشترى هذه الشاة ثم بعد ذلك حلبها أو حملت وولدت عنده نقول: هذا الولد للمشتري، لك هذا الخراج لأن عليك الضمان، لو ماتت هذه الشاة وهي عنده الضمان يكون على المشتري, لو تعيبت عيباً آخر نقول: العيب هنا من ضمان المشتري، فكما أن عليك الضمان لك الخراج، وهذا هو مقتضى العدل، مقتضى العدل الخراج بالضمان، فمن له خراج شيء عليه ضمانه.
متى يتعين أرش العيب
قال: [وإن تلفت السلعة أو أعتق العبد أو تعذر رده فله أرش العيب].ذكر المؤلف أن من وجد فيما انتقل إليه عيباً أنه مخير بين أمرين: إما أن يمسك ويأخذ الأرش، وإما أن يفسخ ويأخذ الثمن.هنا ذكر مسائل يتعين فيها الأرش، ما فيه رد وأخذ الثمن، وإنما الرد هنا يتعذر ويتعين الأرش .قال: (وإن تلفت السلعة)، تلفت السلعة سواء كان بإتلاف المشتري، أو بتلف من أجنبي، أو من قبل الله عز وجل, فنقول: هنا يتعين الأرش، مثال ذلك: رجل اشترى أرزاً، اشترى الأرز وأكله، لما أكل الأرز تبين أن فيه عيباً، هنا هل يتمكن من رد الرز أو ما يتمكن؟ ما يتمكن من رده؛ لأنه تلف الآن، ما نقول له؟ نقول: الآن لك الأرش، تعين لك الأرش.اشترى سيارة ثم بعد ذلك احترقت السيارة، أو صار عليها حادث وتلفت ثم تبين أن فيها عيباً، نقول: للمشتري الأرش؛ لأنه يتعذر الآن أن ترد، فهذه المسألة الأولى إذا تلفت السلعة، سواء كان التلف من قبل آدمي، أو مما لا صنع للآدمي فيه.قال: (أو أعتق العبد).هذه المسألة الثانية، إذا انتقل الملك عن المشتري نقول الآن: ليس لك إلا الأرش، هذا رجل اشترى سيارة، فلما اشترى السيارة ذهب وباعها، أو ذهب وأوقفها، قال: هذه في سبيل الله لطلبة العلم أو لمن يحفظ القرآن ونحو ذلك، الآن انتقل الملك أو وهبها، ثم بعد ذلك تبين أن فيها عيباً، نقول هنا: له الأرش، ما يتمكن الآن من الفسخ. ومثله أيضاً إذا كان عنده رقيق ثم أعتقه، اشترى من زيد رقيقاً، وهو لا يدري أن فيه عيباً، ثم بعد ذلك أعتق الرقيق، لما أعتق الرقيق تبين أن فيه العيب، نقول له: لك الأرش، المهم المسألة الثانية: إذا انتقل الملك عن المشتري فإنه يتعين له الأرش. المسألة الثالثة قال: (أو تعذر رده).هذه هي المسألة الثالثة التي يتعين فيها الأرش، إذا تعذر رده، كما لو لم يتمكن من الرد، مثلا اشترى سيارة، وهذه السيارة سُرقت، ثم تبين أن فيها عيباً، ما يتمكن الآن أنه يرد السيارة، أو مثلاً الحيوان هرب، وتبين أن فيه عيباً، ما يتمكن الآن من الرد، فنقول: لك الأرش.
خيار التدليس
قال المؤلف رحمه الله: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)].هذا القسم الرابع من أقسام الخيارات، وهو خيار التدليس، والتدليس في اللغة: مأخوذ من الدُّلْسة وهي الظلمة، وأما في الاصطلاح فهو أن يظهر البائع السلعة الرديئة بصورة جيدة، أو يظهر الجيد بصورة أجود ليزيد في الثمن، فنقول: هذا تدليس، والتدليس هذا محرم؛ لأنه كالعيب ما يجوز؛ لأن الله عز وجل يقول: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، وهذا من أكل أموال الناس بالباطل، وأيضاً النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من غشنا فليس منا)، وهذا من الغش. التدليس نوعان:النوع الأول: أن يظهر الرديء بصورة الجيد، والنوع الثاني: أن يظهر الجيد بصورة الأجود لكي يزيد في الثمن، واليوم التدليس كثير، كما أن العيوب أيضاً تكثر, اليوم التدليس كثير، وخصوصاً في الصناعات والمنتجات ونحو ذلك، فتجد أن هذه الآلة من صناعة البلد الفلاني، فيكتب عليها صنعت في البلد الفلاني؛ لأن المشتري إذا رأى أنها صنعت في البلد الفلاني زاد في الثمن وأقدم على الشراء، وهذا كما ذكرنا كثير، أو أنها من إنتاج الماركة الفلانية أو الشركة الفلانية إلى آخره، يكتب عليها أنها من إنتاج الشركة الفلانية بحيث يزيد في الثمن، وهذا محرم لما في ذلك من الغش.
تصرية الإبل والغنم
من صور التدليس: ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل)، تصرية الإبل هي أن تربط ضروع بهائم الأنعام حتى يجتمع الحليب، فيظن المشتري أن هذا عادة، فإذا حلبها وجد النقص في الحليب، هذا من التدليس، هو أظهر السلعة بصورة غير الحقيقة لكي يزيد في الثمن، إذا جاء المشتري وجد أن هذا الضرع قد امتلأ وكبر، فيظن أن هذا عادة لها، ثم بعد ذلك إذا حلبها وجد النقص، فنقول: هذا محرم ولا يجوز .قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن ابتاعها- يعني اشتراها- فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)، إذا حلبها المشتري، حلب اللبن الموجود فيها، ثم بعد ذلك تبين النقص في الحليب، فنقول له: أنت بالخيار بين أمرين:إما أن تردها وترد معها صاعاً من التمر، وإما أن تمسك، إما أن ترضى وإما أن تردها وترد صاعاً من تمر، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها ورد صاعاً من تمر، صاع التمر هذا مقابل الحليب، وهل التمر متعين أو ليس متعيناً؟قول النبي عليه السلام: (أو صاعاً من تمر)، هذا ذكر شُرَّاح الحديث فيه مسائل، ورتبوا عليه مسائل:أولاً: هل التمر متعين أو نقول: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره على سبيل التعيين، وإنما ذكره لأنه غالب القوت في ذلك الوقت؟هذا موضع خلاف، فكثير من العلماء يقول: بأنه على سبيل التعيين، وأن النبي عليه الصلاة والسلام عين التمر فيتعين.والرأي الثاني: أن التمر لا يتعين، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صاعاً من تمر)؛ لأن التمر هو القوت في ذلك الوقت، فيرد هذه البهيمة وصاعاً من غالب قوت البلد، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.والصواب في هذه المسألة أنه على سبيل التعيين، إلا إذا اتفقا فالأمر إليهما راجع، فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم عين صاعا من تمر درءاً للنزاع والخلاف والشقاق فيتعين؛ لأنه قد يأتيه بصاع من غالب قوت البلد، ثم يحصل النزاع والشقاق، فالصواب أنه يتعين صاعاً من تمر، والتمر غالب ما يأكله الناس، فغالب ما يأكله الناس يعطيه صاعاً من تمر .لو رد عليه اللبن، هو حلب اللبن ثم رد البهيمة معها اللبن، هل يلزم البائع به، أو نقول: بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بالتمر، لابد أن ترد تمراً؟نقول: إن اتفقا الحمد لله، إن رضي البائع أن يأخذ البهيمة مع اللبن فالحمد لله، لكن إن رد اللبن فنقول: نرجع إلى حكم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم باللبن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم لدرء النزاع والخلاف، فالصواب في ذلك أنه يرجع إلى حكم النبي عليه الصلاة والسلام .أيضاً لو اتفقا على القيمة، نقول: الأمر إليهما راجع، إذا اتفقا على القيمة نقول: هذا لا بأس به، لكن لو اختلفا فنقول: يرجع إلى حكم النبي عليه الصلاة والسلام.قال المؤلف رحمه الله: [فأما إن علم تصريتها قبل حلبها ردها ولا شيء معها].إذا علم بالتصرية والتدليس فإنه لا شيء له؛ لأنه دخل على بصيرة وقد أسقط حقه.
حكم التراخي في طلب الفسخ للعيب والتدليس
قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك كل مُدَلَّسٍ لم يُعلم تدليسه له رده].وهل خيار التدليس على التراخي أو على الفور؟ وقبل ذلك خيار العيب هل هو على التراخي أو على الفور؟خيار العيب ينقسم إلى قسمين، ومثله أيضاً خيار التدليس، نقول: خيار العيب وخيار التدليس ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: إثبات الحق في الخيار، فنقول: متى علم بالعيب أو علم بالتدليس فله حق الخيار حتى لو علم بالعيب بعد سنة، نقول: له حق الخيار، مثلاً هذا رجل اشترى كتاباً، وبعد سنة شرع في القراءة في الكتاب، فوجد أن الكتاب بداخله طمس صفحات، هل يثبت له الحق أو ما يثبت؟نقول: يثبت له الحق، أو اشترى كتاباً ثم تبين أنه قد دلس عليه، كُتب أنه من طباعة كذا وإذا ليس كذلك، أو أنه أشرف على طبعه أو خدمته كذا وليس كذلك، دُلس عليه، نقول: يثبت له حق الخيار ولو طالت المدة، هذا القسم الأول. القسم الثاني: حق طلب الفسخ، هل هذا على الفور؟ يعني حق طلب الفسخ بعد العلم بالعيب أو التدليس، القسم الأول: قبل العلم، القسم الثاني: بعد العلم، حق طلب الفسخ بعد العلم، فنقول: المذهب أنه أيضاً على التراخي، يعني أنت إذا علمت أن السيارة فيها عيب، فلك أن تتراخى في الفسخ، إذا علمت أن السيارة فيها عيب لك أن تفسخ اليوم غدا بعد أسبوع إلى آخره، لكن تبقى أمانة عندك، تحتفظ بها حتى تذهب وتفسخ، إذا علمت أن فيها تدليساً لك أن تتراخى في الفسخ، هذا ما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله.والرأي الثاني: وهو قول الشافعية، أنه يجب المبادرة بالفسخ إذا علم العيب أو علم التدليس، وهذا القول هو الصواب؛ لأن كون الإنسان يؤخر يؤدي إلى ضرر البائع، البائع يتضرر بدلاً من أن يبيع ويستفيد يتضرر، وقد تكسد السلعة يعني يذهب وقتها, فالصواب في ذلك أنه إذا علم العيب أو التدليس يجب عليه أن يبادر بالفسخ، نقول: يجب عليك أن تبادر بالفسخ، ولا يجوز لك أن تتراخى، اللهم إلا إذا كان شيئاً يسيراً، مثل يوم يوماً ونصف ونحو ذلك، لكي يتخفف من العمل الذي عنده، لكي ينتظر الصباح، المهم إذا كان شيئاً يسيراً فلا بأس، أما إذا كان كثيراً فإن هذا غير جائز.
من صور التدليس في البيع
قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك كل مدلس لم يعلم تدليسه له رده، كجارية حَمَّر وجهها].جارية حمر وجهها، هذا تدليس، يعني صبغه بالألوان... إلى آخره، هذا نوع من التدليس، فهو دلس على المشتري.[أو سَوَّد شعرها].قد تكون كبيرة، أو قد تكون شابة، لكن الشعر ليس أسود، فيقوم بصبغه بالأسود ثم يتبين.[أو جعده].يعني بدلاً من أن يكون سبطاً، جعله جعدا؛ لأنه إذا كان جعداً يدل على القوة.قال: (أو رحىً ضم الماء وأرسله عند عرضها على المشتري).الرحى هي التي يطحن بها الحب، وهذه الرحى تدور على الماء، يعني لها سير يكون مرتبط بمكان فيه ماء، فيأتي البائع ويجمع الماء، ثم إذا جاء المشتري أرسل الماء، فإذا كان الماء مجتمعاً ثم أرسل فإنها تدور بسرعة، فيظن المشتري أن هذا عادة، ثم بعد ذلك يتبين خلاف ذلك، فنقول: يثبت له حق الخيار.المهم كما قلنا: القاعدة في التدليس هو أن يظهر الرديء بصورة الجيد، أو الجيد بصورة الأجود.قال: [وكذا لو وصف المبيع بصفة يزيد بها في ثمنه فلم يجدها، كصناعة في العبد، أو كتابة أو أن الدابة هملاجة].الهملاجة هي حسنة السير.[والفهدَ صيود أو معلم أو أن الطير مصوت ونحوه].يعني إذا وصف السلعة بصفة، ثم بعد ذلك لم يجدها المشتري، فنقول: له حق الخيار.
حكم من علم بالتدليس قبل البيع
وقول المؤلف رحمه الله: [وكذلك كل مدلس لم يَعلم تدليسه له رده].ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه إذا تبين للمشتري أنه قد دلس عليه، أنه يرد السلعة وليس له أرش، لو قال المشتري: أنا أمسك السلعة، هو دلس علي يعني هذه السلعة رديئة وأظهرها بصورة الجيدة، رديئة مثلاً بكذا، وجيدة بكذا، أنا أريد أن آخذ الأرش، هل له حق الأرش أو ليس له حق الأرش؟ هه؟ على كلام المؤلف ليس له ذلك.والرأي الثاني في هذه المسألة: إن كان البائع قد غش ودلس فإنه يعامل بأضيق الأمرين، وعلى هذا نقول للمشتري: أنت بالخيار، إن شئت أن ترد، وإن شئت أن تمسك وتأخذ الأرش، هذا الأقرب في هذه المسألة.
خيار التخبير بالثمن
قال المؤلف رحمه الله: [ولو أخبره بثمن المبيع فزاد عليه رجع بالزيادة وحظها من الربح إن كانت مرابحة، وإن بان أنه غلط على نفسه خُيِّرَ المشتري بين رده وإعطائه ما غلط به].هذا القسم الخامس من أقسام الخيارات، وهو خيار التخبير بالثمن، وقد ذكر العلماء رحمهم الله له أربع صور:الصورة الأولى: التورية، والتورية هي أن يبيعه برأس ماله، كيف يبيعه برأس ماله؟ تأتي إليه: بكم السلعة؟ قال لك :بعت السلعة برأس مالي، إذا قال: برأس مالي, يشتري المشتري، يقدم على هذا؛ لأنه يعرف الآن أن البائع ما ربح عليه، وأنه هو الغانم ما دام برأس ماله، قال: أنا برأس مالي أبيع عليك، هذه التورية.ثم بعد ذلك يتبين أن رأس ماله أقل، برأس مالك تبيع عليَّ السيارة؟ قال: نعم برأس مالي، كم رأس مالك؟ قال: رأس مالي عشرة آلاف ريال، ثم بعد ذلك يتبين أن رأس ماله تسعة آلاف ريال، كذب، فيقول المؤلف رحمه الله: خُيِّرَ المشتري بين رده وإعطائه ما غلط به. الصورة الثانية: المرابحة، وأشار إليها بقوله: وحظها من الربح إن كان مرابحة، قال: أنا أبيعك برأس مالي، ولي ربح كذا وكذا، لي ربح ألف أو لي ربح خمسمائة ونحو ذلك، كم رأس مالك؟ قال: رأس مالي عشرة آلاف ريال، يكون الثمن بكم؟ قال: لي ربح ألف يكون الثمن أحد عشر ألفاً، ثم بعد ذلك يتبين أن رأس المال تسعة آلاف، هو قال: أبيعك برأس مالي، ولي ربح ألف, هذه تسمى مرابحة. الصورة الثالثة: الشركة، قال: أبيعك نصف السلعة، نصف رأس مالي، كم رأس مالك؟ رأس مالي عشرة، ثم يتبين أن رأس ماله تسعة، نقول: يثبت له الخيار .الصورة الرابعة: المواضعة، والمواضعة أن يقول: بعتك برأس مالي وخسارة ألف، كم رأس مالك؟ قال: رأس مالي عشرة ليس تسعة، أعطني تسعة، ثم يتبين أن رأس ماله تسعة.هذه أربع صور للتخبير بالثمن، الآن تبين للمشتري أن البائع قد كذب عليه، فاختلف العلماء رحمهم الله في ذلك على قولين:القول الأول: أن المشتري مخير بين أمرين: إما أن يفسخ ويأخذ ما دفعه، وإما أن يمسك ولا شيء له، يعني ما يتعلق بالزيادة التي زادها ليس له، لو قال: هو قال لي: رأس مالي عشرة، ثم تبين أن رأس ماله تسعة، يرد عليه ألف ريال ولا يمسك السلعة، هل له ذلك أو ليس له ذلك؟ على هذا الرأي ليس له ذلك، هو مخير بين أن يمسك ولا شيء له، أو أن يفسخ ويأخذ ما دفعه من الثمن .والرأي الثاني: أنه أيضاً مخير، له أن يطالب بما زاده البائع عليه، فنقول: أنت مخير بين أن تفسخ وتأخذ ما دفعت، وبين أن يأخذ ما زاد عليه؛ لأن كل من غش أو دلس يعامل بأضيق الأمرين، وهذا فيما إذا غش أو دلس، أما إذا قال: غلطت، أنا قلت: برأس مالي، ورأس مالي كذا، ثم تبين أنه ليس كذا فنقول: بأنه ليس للمشتري إلا أن يمسك أو يفسخ ويأخذ ما دفعه .والأقرب في هذه المسألة أنه إن كان البائع قد غش ودلس نعامله بأضيق الأمرين، وأما إن كان لم يغش ولم يدلس فهذا نقول للمشتري: أنت بالخيار، إما أن تمسك ولا شيء لك، أو تفسخ وتأخذ ما دفعت.قال: [وإن بان أنه غلط على نفسه خُيِّرَ المشتري بين رده وإعطائه ما غلط به].يقول المؤلف رحمه الله: وإن بان أنه غلط على نفسه، خُيِّرَ المشتري بين رده وإعطائه ما غلط به، يعني قال البائع: بعتك برأس مالي، كم رأس مالك؟ قال: رأس مالي تسعة، ثم بعد ذلك تبين أن رأس ماله عشرة، فيقول المؤلف رحمه الله: بأنه يخير المشتري بين رده أو إعطائه ما غلط به، نقول: أنت مخير أيها المشتري ما دام أنه غلط بين أن ترده وتأخذ ما دفعت، أو تعطيه ما غلط به، يعني هو قال الآن: بعتك برأس مالي، كم رأس مالك؟قال: رأس مالي تسعة، ثم يتبين أنه غلط، وأن رأس ماله عشرة، فنقول للمشتري: أنت بالخيار، إما أن تعطيه الألف، وإما أن تفسخ وتأخذ ما دفعت. قال المؤلف رحمه الله: [وإن بان أنه مؤجل ولم يخبره بتأجيله فله الخيار بين رده وإمساكه].يعني قال البائع: بعتك برأس مالي. كم رأس مالك؟ قال: رأس مالي عشرة، وهو صادق أن رأس ماله عشرة، لكن تبين للمشتري أنه اشتراه بثمن مؤجل، وإذا كان اشتراه بثمن مؤجل سيزيد, فلابد أن تخبر المشتري؛ لأنه إذا قال: برأس مالي سيقدم المشتري، لابد أن يبين للمشتري أنه اشتراه برأس ماله؛ لأنه بثمن مؤجل، يعني إذا كان بثمن مؤجل سيزيد في السلعة، في هذا ضرر على المشتري، لابد أن يخبر, ولهذا قال لك: إذا تبين للمشتري أن البائع قد اشتراه بثمن مؤجل فله الخيار بين رده وإمساكه، يعني يكون مخيراً بين الرد وبين الإمساك بالثمن حالّاًهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، نقول للمشتري: أنت مخير بين أن ترده وتأخذ الثمن، وبين أن تمسك، والرأي الثاني في هذه المسألة: أنه لا خيار للمشتري، وإنما يكون الثمن مؤجلاً عليه، فكما أن البائع اشتراه بثمن مؤجل، أيضاً نقول للمشتري: يكون الثمن مؤجلاً عليك للبائع. فالرأي الأول الذي ذكره المؤلف رحمه الله أن المشتري مخير بين أن يمسك السلعة، وبين أن يردها ويأخذ ما دفع. والرأي الثاني: أنه لا خيار له، وإنما يكون مؤجلاً على البائع، كما أن البائع قد اشتراه بثمن مؤجل.العلماء رحمهم الله يشددون في هذه المسألة؛ لأن المشتري سيقدم، لو ما قال: بعتك برأس مالي، ثم تبين أنه شرى بثمن مؤجل، هل المشتري له الفسخ أو ليس له الفسخ؟ ليس له الفسخ، لكن المشكل إذا قال: بعتك برأس مالي.العلماء يذكرون صوراً كثيرة، مثل ذلك أيضاً لو قال: بعتك برأس مالي، كم رأس مالك؟ قال: رأس مالي عشرة آلاف ريال، وصحيح أن رأس ماله عشرة آلاف ريال، لكن تبين أنه قد اشتراه من أبيه، قال العلماء: يثبت الخيار؛ لأنه قد يحابي أباه، قد يتبين أنه اشتراه من ابنه، قد يحابي ابنه، قد يتبين أنه اشتراه لحاجة، لغرض، يثبت له الخيار.المهم أنه متى تبين أنه قد حصل ضرر على البائع بسبب قول البائع: بعتك برأس مالي يثبت له الخيار.

ابو وليد البحيرى
2019-04-15, 04:39 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب البيع [10]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(73)


السلم من الأحكام الشرعية التي فيها تسهيل للمعاملات المالية، وفيه سد لباب الربا، وتنفيس للمحتاجين، وتعاون بين المسلمين، وله شروط وأحكام يجب على من يريد التعامل به أن يعرفها، حتى تصح معاملته ويوفق في تجارته.
اختلاف المتبايعين

الاختلاف في قدر الثمن
تقدم لنا شيء من أقسام الخيار، فذكرنا من ذلك خيار بيع العيب, وكذلك أيضاً خيار التدليس, وكذلك أيضاً خيار التخبير بالثمن, وبينا في الدرس السابق صوره الأربع: المرابحة, والتولية, والمواضعة, والشركة، ثم بعد ذلك شرع المؤلف رحمه الله فيما إذا اختلفا البيعان في قدر الثمن.قال المؤلف رحمه الله: [وإن اختلف البيعان في قدر الثمن تحالفا, ولكل واحد منهما الفسخ إلا أن يرضي صاحبه]. الاختلاف بين المتبايعين له صور، من صوره: أن يختلفا في قدر الثمن. مثال ذلك: يقول البائع: بعت بمائة, ويقول المشتري: اشتريت بثمانين، هنا اختلفا في قدر الثمن، فمن القول قوله؟ هل نقول: بأن القول قول البائع ويُلزَم المشتري بأن يدفع مائة أو نقول: بأن القول قول المشتري ويُلزَم البائع بأن يأخذ ثمنه؟ يقول المؤلف رحمه الله: (تحالفا) نقول للبائع: احلف، وللمشتري: احلف، ولابد لهذا التحالف على ما يذكره الحنابلة من أمرين: الأمر الأول: أن يبدأ البائع قبل المشتري. والأمر الثاني: أن يجمع كل واحد منهما في حلفه بين الإثبات والنفي.فنقول أولاً للبائع: احلف واجمع في حلفك بين الإثبات والنفي, فيقول البائع: والله ما بعته بثمانين وإنما بعته بمائة، فهنا بدأ البائع, وجمع في يمينه بين الإثبات والنفي, إثبات المائة ونفي الثمانين, ثم بعد ذلك نقول للمشتري: احلف، وأيضاً لابد أن يجمع في حلفه بين الإثبات والنفي, فيقول المشتري: والله ما اشتريته بمائة, وإنما اشتريته بثمانين.قال المؤلف رحمه الله: (ولكل واحد منهما الفسخ). إذا تم التحالف نقول: كل واحد منهما له أن يفسخ إلا أن رضي أحدهما بقول الآخر، فقال البائع: أنا أرضى أن يعطينا ثمانين، أو قال المشتري: أنا أرضى أعطيه مائة، فنقول: إذا رضي أحدهما بقول الآخر لا حاجة إلى الفسخ، بل لا حاجة إلى التحالف أصلاً، لو رضي كل واحد منهما بقول الآخر نقول: أصلا لا حاجة إلى التحالف, لكن لو حصل التحالف, ثم رضي أحدهما بقول الآخر, فنقول: لا فسخ ويُلزَم الآخر. كذلك أيضاً نصير إلى التحالف إذا لم يكن هناك بينة إن كان هناك بينة، فإنا نرجع إلى البينة, لكن ما عندنا بينة ولم يرض أحدهما بقول الآخر نقول: يتحالفان ثم بعد ذلك كل واحد منهما له الفسخ, ثم بعد الفسخ إن رضي أحدهم بقول الآخر ألزمنا البيع وإن لم يرض أحدهما بقول الآخر فلكل واحد منهما الفسخ, فالبائع يأخذ سلعته والمشتري يأخذ ثمنه, هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله. والرأي الثاني في المسألة: أن نقول: القول قول البائع بيمينه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا اختلفا المتبايعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول رب السلعة). هذا الحديث في السنن وإسناده صحيح, فنقول: احلف أيها البائع أنك إنما بعته بمائة فيحلف, فبعد أن يحلف نقول للمشتري: إما أن ترضى بكلامه وإلا فإنك تفسخ, لك حق الفسخ, قال: نعم.هذه صورة من صور الاختلاف بين المتبايعين وهي الاختلاف في قدر الثمن.
الاختلاف في الأجل أو الشرط
كذلك أيضاً من صور الاختلاف إذا اختلفا في أجل أو شرط: إذا اختلفا في الشرط مثاله: قال البائع: أنا بعته السيارة بشرط أن أستعملها لمدة يوم أو يومين, أو بعته البيت بشرط أن أسكنه لمدة شهر, أو قال المشتري: أنا اشتريت بشرط أن يصلح في السلعة كذا وكذا، وأنكر الآخر, فنقول: بأن القول قول المشتري, القول قول من ينكر؛ لأن الأصل عدم الشرط. أيضاً: إذا اختلفا في أجل، قال المشتري: أنا اشتريت السيارة لكن الثمن مؤجل, قال البائع: لا, الثمن ليس مؤجلاً, فنقول: القول قول من يُنكر الأجل, ومن هو الذي يُنكر الأجل, هنا؟ البائع هو الذي ينكر الأجل، نقول: القول قول من ينكر الأجل؛ لأن الأصل عدم الأجل، الأصل أن يكون الثمن حالاً، هذا هو الأصل, فإذا لم يكن هناك بينات تدل لقول أحدهما نرجع إلى الأصل, والأصل: أن القول قول من ينكر الأجل أو الشرط.
الاختلاف في عين المبيع
أيضاً: من صور الاختلاف بين المتبايعين إذا اختلفا في عين السلعة، فقال البائع مثلاً: بعته هذا الكتاب, قال المشتري: لا، اشتريت منه هذا الكتاب أو قال: بعته هذه السيارة التي صُنعت في عام كذا وكذا, وجنسها كذا وكذا، قال المشتري: لا، أنا اشتريت هذه السيارة التي صُنعت عام كذا وكذا.. إلى آخره, هنا اختلف المتبايعان, العلماء رحمهم الله اختلفوا في ذلك, فقيل: بأنهما يتحالفان، وقيل: بأن القول قول المشتري، والذي يظهر أن الاختلاف هنا كالاختلاف في قدر الثمن, فنقول: بأن القول قول البائع بيمينه، نقول للبائع: احلف أنك إنما بعته هذه السلعة, ثم نقول للمشتري: أنت بالخيار إما أن ترضى بكلامه أو تفسخ. هذه ثلاث صور للاختلاف بين المتبايعين:الصو ة الأولى: في قدر الثمن. الصورة الثانية: في أجل أو شرط. الصورة الثالثة: في عين المبيع.
السلم

تعريف السلم
قال المؤلف رحمه الله: [باب السلم: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُسلفون في الثمار السنة والسنتين, فقال: من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم, ووزن معلوم إلى أجل معلوم)].السلم في اللغة: مأخوذ من الإسلام وهو التقديم. وأما في الاصطلاح فهو: عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد، وهو باختصار: تعجيل الثمن وتأخير المثمن. مثاله أن يقول له: هذه ألف ريال تعطيه بعد سنة بعد سنتين ألف صاع من التمر، ألف صاع من البر، ألف كتاب صفته كذا وكذا، ألف قلم صفته كذا وكذا، ألف ثوب صفته كذا وكذا.. إلى آخره. المهم يلتزم المسلم أن يعطي الدراهم والمسلم إليه يلتزم بإحضار سلع، وهذه السلع موصوفة في الذمة ليست معينة, ما يقول: من هذه الآلات أو من هذه الأقلام, أقلام صفتها كذا، ثلاجات صفتها كذا, غسالات صفتها كذا وكذا.. إلى آخره كما سيأتينا. كل شيء ينضبط بالصفة يصح السلم فيه، موصوف في الذمة يعني غير معين ما يقول: هذه عشرة آلاف ريال تعطيني من هذا البر العام القادم لا، هذا خطأ، السلم إنما يكون للشيء الموصوف في الذمة: بُر صفته كذا وكذا، أقلام صفتها كذا وكذا، سيارات صفتها كذا وكذا، هذا سلم, عقد على موصوف في الذمة.قولنا: الموصوف في الذمة يعني غير معين، مؤجل غير حال, وسيأتينا إن شاء الله حكم السلم في الحال بثمن مقبوض في مجلس العقد.أيضاً: لابد أن يكون الثمن مقبوضاً في مجلس العقد يقول: هذه مائة ألف ريال تعطيني مثلاً عشر ثلاجات أو تعطيني مثلاً ثلاث سيارات بعد سنة سنتين خمسة أشهر سبعة أشهر.. إلى آخره، هذا يسمى السلم.
حكم السلم
السلم دل على جوازه القرآن والسنة والنظر الصحيح, أما القرآن فقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282].قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أشهد أن الدين المضمون إلى أجل قد أحله الله في كتابه, ثم قرأ هذه الآية. وأيضاً من السنة: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يُسلفون في الثمار السنة والسنتين, فقال عليه الصلاة والسلام: من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم). والنظر الصحيح يقتضي ذلك, فإن فيه فائدة لأهل الصناعات والحرف والمزارعين, المزارع ما عنده دراهم، يحتاج إلى دراهم، فيأتي التاجر ويعطيه التاجر الدراهم ويستفيد من هذه الدراهم؛ لأن المزرعة تحتاج إلى أن يحرك مزرعته بهذه الدراهم, التاجر الآن دفع دراهمه أعطى هذا الفلاح عشرة آلاف ريال لكي يقوم بالزراعة, ويشتري الآلات, ويستخرج الماء, ماذا يستفيد التاجر؟ يستفيد الرخص؛ لأنه مثلاً الآن دفع عشرة آلاف ريال، لو أراد يشتري براً أو يشتري ثمراً أو يشتري تفاحاً أو برتقالاً.. إلى آخره تأتي مثلاً بألف صاع الآن, لكن إذا كان مؤخراً له ألف ومائتي صاع، يستفيد بمائتي صاع زيادة، ففيه فائدة للفلاح، وفيه فائدة للتاجر. أيضاً: صاحب المصنع الذي عنده مصنع، صاحب المصنع يحتاج إلى أموال لكي يدير المصنع، يشتري الآلات، يشتري المواد الخام، يدفع أجور العمال.. إلى آخره، فصاحب المصنع يستفيد. وأيضاً: التاجر صاحب الأموال يستفيد رخص السلع، تكون السلع رخيصة، مثلاً يأخذ صاحب المصنع كذا وكذا، ويتفق هو وإياه إذا كان مثلاً المصنع مصنع ثياب يقول: أعطيك ألفين ثوب.. عشرة آلاف ثوب.. إلى آخره, حسب ما يتفقان, وعلى هذا فقس، أصحاب الحرف والمزارع والصناعات.. إلى آخره. أيضاً التجار الذين يشتغلون في تجارات السلع يأخذون هذه الدراهم ويشترون السلع وصاحب الأموال يأخذ منهم السلع بسعر نازل؛ لأنه سيكون مؤجل عليه مقابل الأجل هذا سينزل, وهذا طريق من طرق سد باب الربا. يعني: لو سُلك مثل هذا الطريق ما احتجنا إلى أن يذهب الناس للبنوك ويقترضون بقروض مؤجلة بفوائد ربوية، ما فيه حاجة إلى مثل هذه الأشياء, أو مثلاً مسألة التورق التي انشغل فيها كثير من الناس اليوم، لا حاجة إلى مثل ذلك، لو سُلك سبيل السلم وفُعل بشروطه الشرعية لاستفاد التاجر الذي يذهب الآن ليكون تجارة إلى البنك ويقترض منه قروضاً بفوائد ربوية، هو يحتاج إلى ضمانات وكفالات بنكية ومشاكل، هذا مع لو أنه ذهب إلى التجار الكبار والتجار الكبار صار عندهم تفعيل لهذه المسائل الشرعية, وأعطوه ويأخذون منه سلعاً ويبيعون السلع بعد ذلك, ويستفيدون, رخص الثمن، وانسد هذا الباب.
الشرط الأول: إمكان ضبطه بالوصف
قال المؤلف رحمه الله: [ويصح السلم في كل ما يضبط بالصفات إذا ضبطه بها].هذا ضابط في باب السلم، وهو كل ما أمكن ضبطه بالوصف فإنه يصح السلم فيه, وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة وخصوصاً في يومنا هذا، لماذا؟ الآن السلع تصنع بالآلات فلا تكاد تُفرق، الآن لا تكاد تُفرق بين هذه السلع وبين هذه السلع, بين هذا الإناء وبين هذا الإناء، بين هذه الآلة وبين هذه الآلة, هذه كلها يمكن ضبطها بالوصف, في الزمن السابق الأشياء تصنع الأيدي، وصناعة الأيدي هذه قد تختلف.ولهذا العلماء رحمهم الله بعض الأشياء يمنعونها وبعض الأشياء يجوزونها؛ لأنها كما سلف كانت في زمنهم تُصنع بالأيدي, وهذا قد يتعذر فيه ضبط الوصف، لكن اليوم هذه الأشياء تُصنع عن طريق المكائن والآلات وتخرج السلعتان ولا تكاد تُفرق بينها.فنقول: هذه كلها تضبط بالوصف، فعندنا الضابط في ذلك: أن كل ما أمكن ضبطه بالوصف فإنه يصح السلم فيه, وهذا هو الشرط الأول من شروط صحة السلم أن يكون مما يمكن ضبطه بالوصف, وكما ذكرنا اليوم أغلب السلع يمكن ضبطها بالوصف, الثياب تضبط بالوصف, الآلات, الثلاجات, الغسالات, الأقلام, الكتب, أدوات الكتابة، أشياء كثيرة, وعلى هذا فقس، هذه كلها تضبط بالوصف فنقول: بأن السلم يصح فيها، أيضاً بالنسبة للحبوب تضبط بالوصف البر الثمار التمر ونحو ذلك تضبط بالوصف، قد يكون هناك أشياء تختلف بالصغر والكبر.. إلى آخره، فهذه تضبط بالوزن، هذه نقول تُضبط بالوزن, ومثل البقول والخضراوات التي قد تختلف في حجمها ونحو ذلك تضبط بالحزم. المهم أنه إذا أمكن ضبطها بأي طريق سواء كان عن طريق الوزن, سواء كان عن طريق الوصف, سواء كان عن طريق الحزم.. إلى آخره, نقول: يصح السلم فيها, وعلى هذا لا يكاد يوجد شيء لا يمكن ضبطه, ويترتب على ذلك أن أغلب الأشياء يصح فيها السلم, لا يكاد يوجد شيء لا يصح فيه السلم, فيه أشياء قد لا يمكن ضبطها, مثل: الأحجار الكريمة، الأحجار الكريمة هذه أمور نادرة, وما يمكن ضبطها؛ لأنها تختلف في الصغر والكبر والحسن ونحو ذلك، يعني الأشياء الطبيعية مثل هذه الأحجار الكريمة الطبيعية، قد يكون هناك شيء من اللؤلؤ أيضاً ما يمكن ضبطه، هذه الأمور النادرة التي قد لا يتعامل فيها إلا فئة معينة من التجار، هذه نقول: لا يصح السلم فيها، لكن الغالب على الأشياء: الصناعات والزراعات وأموال التجارات يمكن ضبطها, وعلى هذا يصح السلم فيها. ودليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم, ووزن معلوم, إلى أجل معلوم).
الشرط الثاني: بيان قدر المسلم فيه
قال: [وذكر قدره بما يُقدر به من كيل أو وزن أو ذرع أو عد]. هذا الشرط الثاني، يعني: الشرط الثاني من شروط صحة السلم: أن يذكر القدر بعد أن يذكر الصفة, مثلاً أسلفه في أقلام كم من قلم أسلفه؟ في بر كم من صاع أسلفه؟ في شعير كم من صاع؟ أسلفه في برسيم.. إلى آخره، لابد أن يضبط قدره. قال المؤلف: (من كيل) مثل التمر، مائة صاع من التمر، البر مائة صاع من البر، ألف صاع من البر. (أو وزن) كما قلنا، لو أنه مثلاً أسلفه في لحم على أن يعطيه كذا وكذا من اللحم، وزنة كذا وكذا. (أو ذرع) الثياب كم من متر؟ ونحو ذلك. (أو عد) كم من ثوب إلى آخره.
الشرط الثالث: أن يكون لأجل معلوم
قال: [وجعل له أجلاً معلوماً]. هذا الشرط الثالث: أن يكون مؤجلاً بأجل معلوم، وهذا الشرط يتضمن مسألتين: المسألة الأولى: أن يكون مؤجلاً, هل يشترط التأجيل أو لا يشترط التأجيل؟ هذا موضع خلاف، فأكثر العلماء على أنه يشترط أن يكون مؤجلاً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (من أسلف في شيء فليسلف في وزن معلوم وكيل معلوم إلى أجل معلوم)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلى أجل معلوم) . الرأي الثاني: أنه يصح حالاً يعني: ما يشترط أن يكون مؤجلاً, وإنما يصح أن يكون حالاً, وهذا مذهب الشافعية, واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, إلا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: إذا جاز أن يكون حالاً فإنه يشترط ألا يكون معدوماً يعني: تكون السلع موجودة. واستدلوا على ذلك بأنه إذا جاز السلم مع التأجيل فجوازه مع الحلول أولى؛ لأنه أقل ضرراً، فيصح أن يكون حالاً يعني: ما يشترط أن يكون مؤجلاً على مذهب الشافعية. فيقول مثلاً: أسلفتك ألف ريال على أن تعطيني كذا وكذا من البر, أو أن تعطيني كذا وكذا من الثمر, أو تعطيني كذا وكذا من الثياب أو من الأقلام ونحو ذلك, قالوا: بأن هذا جائز ولا بأس به, وهذا القول الذي لا يشترط أن يكون مؤجلاً قول قوي، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم, ووزن معلوم, إلى أجل معلوم) قالوا: لا يدل على اشتراط الأجل بل يدل على أنه إذا كان مؤجلاً فليكن الأجل معلوماً. وكما ذكرنا هذا القول قوي لكن إذا كان كذلك فإنه يعقد عليه عقد بيع، لا حاجة إلى السلم خروجاً من الخلاف, اعقد عليه عقد بيع لكن لو تم عقد سلم فيظهر -والله أعلم- أنه عقد صحيح. المسألة الثانية: لابد أن يكون الأجل معلوماً لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فلابد أن يكون الأجل معلوماً؛ لأنه إذا قال مثلاً: أعطيتك ألف ريال على أن تعطيني كذا وكذا من البر أو من التمر أو من البرسيم أو من التفاح أو من البرتقال إلى متى؟ لابد أن يبين. وجوز بعض العلماء أن يقيد بوقت الحصاد والجذاذ, وهذا أخف من غيره، مثلاً: لو قال: أسلفتك ألف ريال تعطيني وقت حصاد البر كذا وكذا من البر أو وقت جذاذ التمر كذا وكذا, هذا جوزه بعض العلماء, وهذا الغرر فيه والجهالة ليست كغيره, لكن الأحسن أن يضبط، يُنظر متى وقت الجذاذ ويقول مثلاً: أسلفتك ألف ريال على أن تعطيني في وقت كذا وكذا عندما يحصد الناس البر، متى يجد الناس التمر.. إلى آخره.
الشرط الرابع: تسليم الثمن قبل التفرق
قال المؤلف رحمه الله: [وأعطاه الثمن قبل تفرقهما].هذا الشرط الرابع من شروط صحة السلم, أن يدفع له الثمن قبل التفرق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف في شيء فليسلف) .قال الشافعي : يُسلف يعني يقدم, وهذا البيع على اشتراط تقديم الثمن فليُسلف يعني يُقدم؛ ولأنه إذا كان الثمن مؤجلاً فإنه يكون داخلاً في بيع الدين بالدين, فلابد أن يكون الثمن مقبوضاً في مجلس العقد. وعلى هذا إذا تفرقا قبل قبض الثمن فنقول: بأن عقد السلم هنا باطل ولا يصح, لابد أن يكون مقبوضاً في مجلس العقد, والمالكية يجوزون التأخير لمدة يسيرة, لكن الأظهر في ذلك -والله أعلم- ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله لما ذكرنا من التعليل.
الشرط الخامس: كون المسلم فيه موجوداً غالباً في محله
الشرط الخامس من شروط صحة السلم: أن يكون المُسلَم فيه موجوداً غالباً في محله يعني في وقت حلوله, فلا يصح مثلاً أن يُسلمه دراهم على أن يعطيه رطباً في الشتاء؛ لأن الشتاء ليس وقت خراف الرطب أو يعطيه عنباً في الشتاء نقول: هذا غير صحيح؛ لأن العنب لا يكون نتاجه في وقت الشتاء, وإنما هو في وقت الصيف.
الشرط السادس: أن يكون في الذمة
الشرط الأخير: أن يُسلف في الذمة فلا يصح في معين, يعني أن يقول: أسلفتك كذا وكذا من الدراهم بكذا وكذا، صفته كذا وكذا، ما يقول من هذا الشيء, لو قال: أسلفتك ألف ريال على أن تعطيني من هذا البر أو من هذا التمر أو من هذه الأثواب أو من هذه الأقلام ونحو ذلك, نقول: هذا لا يصح؛ لأن السلم إنما هو للموصوف في الذمة, والبيع إنما هو للمعين, فنقول: إذا كان معيناً اعقد عليه عقد بيع، لكن لو قال: من نتاج المصنع الفلاني أريد مثلا ثياباً من نتاج المصنع الفلاني أو أقلاماً من نتاج المصنع الفلاني ونحو ذلك, أو مثلاً قال: أريد التمر من القرية الفلانية أو من مزرعة فلان، هل هذا جائز أو ليس جائزاً؟ الصواب: أن هذا جائز ولا بأس به، فإذا قال مثلا:ً أسلفتك ألف ريال على أن تعطيني كذا وكذا من مزرعة فلان فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس به إن شاء الله.أو مثلاً: أسلفتك ألف ريال أو مائة ألف ريال على أن تعطيني من المصنع الفلاني من الأثواب التي ينتجها المصنع الفلاني، نقول: الصواب أن هذا جائز ولا بأس به؛ لأنه موصوف في الذمة وليس معيناً, المعين هو أن يقول: أسلفتك كذا وكذا على أن تعطيني من هذا البر أو من هذا التمر أو من هذه الأثواب، هذه هي التي لا تجوز.
قبض المسلم فيه أجزاء متفرقة في أوقات معلومة
قال المؤلف رحمه الله: [ويجوز السلم في شيء يقبضه أجزاء متفرقة في أوقات معلومة].يقول المؤلف رحمه الله: يجوز السلم في شيء يقبضه أجزاء متفرقة في أوقات معلومة, وهذا يكون في الأشياء التي يحتاجها الإنسان كل يوم مثل اللبن مثل الخبز مثل اللحم, وفي وقتنا الآن البنزين للسيارة ونحو ذلك, مثل العلف للبهيمة.. إلى آخره, فيصح أن تُسلم مثلاً صاحب المخبز تعطي الخباز مثلاً ألف ريال مقدمة على أن يعطيك خمسمائة خبزة، كل يوم تأخذ خبزة أو خبزتين، فهذا جائز ولا بأس به. وإنما نص المؤلف رحمه الله على هذه المسألة؛ لأنهم يرون أنه يشترط أن يكون السلم فيه مؤجلاً.
السلم في ثمن واحد في شيئين
قال المؤلف رحمه الله: [وإن أسلم ثمناً واحداً في شيئين لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس منهما]. أسلم ثمناً واحدا قال مثلاً: هذه ألف ريال في شيئين مختلفين في بر وشعير, يقول المؤلف رحمه الله: لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس منهما، أعطاه ألف ريال، قال: أسلفتك ألف ريال على أن تعطيني مائة صاع من البر والشعير، يقول المؤلف رحمه الله: لا يجوز حتى يبين ثمن كل جنس منهما، يقول: هذه ألف ريال لمائة صاع من البر والشعير خمسمائة للبر وخمسمائة للشعير، لابد أن يبين ثمن كل واحد منهما، أو يقول مثلا: ستمائة للبر وأربعمائة للشعير. قال: (وإن أسلم ثمناً واحداً) كما قلنا: ألف ريال مثلاً في شيئين مختلفين كـبر وشعير لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس منهما، فلابد أن يقول: هذه الألف: ستمائة مثلاً للبر وأربعمائة للشعير, البر قدره كذا والشعير قدره كذا.
بيع دين السلم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن أسلف في شيء لم يصرفه إلى غيره]. يعني: من أسلف في شيء لا يصرفه إلى غيره, ويستدلون على هذا بما في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره) وهذا الحديث ضعيف. صورة المسألة: أعطيته ألف ريال يعطيك مثلاً ألف صاع من التمر السكري اتفقت معه على ذلك, جاء وقت الجذاذ وإذا النخيل قد أصابتها الآفة، فقال: بدل ما أعطيك التمر السكري أعطيك بدلاً منه شعيراً، أنت أعطيتني ألف ريال فتريد مني ألف صاع من السكري ما فيه سكري, الآن أعطيك شعيراً أو أعطيك براً ونحو ذلك, هل يجوز هذا أو لا يجوز هذا؟ يقول المؤلف رحمه الله: لا يجوز؛ لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره) والصواب: أن هذا جائز ولا بأس به, والحديث ضعيف, إذا اتفقا على تمر مثلاً ولم يتمكن المُسلم إليه من أن يدفع تمراً إلى المسلم, وعنده مثلاً شعير أو عنده بر فنقول: الصواب أن هذا جائز ولا بأس به بشرط أن يكون بسعر يومه, ما يربح عليه، يكون بسعر يومه. والشرط الثاني: التقابض، إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة. نقول: يجوز بشرطين: الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه. والشرط الثاني: التقابض. إذا كان يجري بينهما ربا النسيئة فهو يريد منه الآن ألف صاع من التمر، ما عنده تمر لكن عنده بر ننظر التمر هذا كم يساوي بالنسبة للبر؟ قالوا مثلاً: ألف صاع من التمر يساوي خمسمائة صاع من البر, نقول: أعطه خمسمائة صاع من البر, ولابد أن يكون يداً بيد؛ لأنك إذا بدلت تمر ببر يشترط التقابض؛ لأنهما يتحدان في العلة، يتحدان كل منهما مكيل مطعوم, هنا يشترط التقابض. لكن لو كان يريد منه تمراً قال: ما عندي تمر، أعطيك ثياباً بدلاً من التمر, هل يشترط التقابض أو لا يشترط التقابض؟ نقول: هنا ما يشترط تقابض، لكن هو يريد منه الآن خمسمائة ألف صاع من التمر كم تجيب من الثياب؟ تجيب مائة ثوب مثلاً، ونقول: بأن التقابض هنا ليس شرطاً؛ لأنه لا يجري الربا بين الثياب والتمر.

ابو وليد البحيرى
2019-04-15, 04:42 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب البيع [11]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(74)



لا يجوز بيع دين السلم على من هو عليه, وعلى غير من هو عليه, ولا الحوالة بدين السلم.ومن الأبواب الفقهية المهمة باب القرض, حيث يذكر العلماء حكمه والحكمة من تشريعه، وكيفية رد القرض سواء كان مثلياً أو قيمياً، وحكم الرد بأفضل منه في الكيفية والكمية، وحكم تأجيل
تابع بيع دين السلم

بيع دين السلم على من هو عليه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن أسلف في شيء لم يصرفه إلى غيره ولم يجز بيعه قبل قبضه].بيع دين السلم ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: بيع دين السلم على من هو عليه.والقسم الثاني: بيع دين السلم على غير من هو عليه. القسم الأول: بيع دين السلم على من هو عليه، أعطيت زيداً من الناس مثلاً ألف ريال على أن يعطيك بعد شهر أو شهرين مائة قلم أو مائة كتاب أو مائة ثوب صفته كذا وكذا، الآن أنت تريد من زيد مائة ثوب، أعطيته ألف ريال على أن يعطيك مائة ثوب، لما حل الأجل أتيته وطلبت منه الثياب، قال: ما عندي ثياب، لكن أعطيك بدل الثياب شعيراً، أو أعطيك بُرْا، أو أعطيك بدل الثياب أقلاماً ونحو ذلك، فقبلت ذلك، وأخذت بدل الثياب أقلاماً، فهنا حصل البيع؛ لأن البيع مبادلة مال بمال، هنا الآن حصل البيع، أنت تريد منه أثواباً وأخذت بدل الأثواب أقلاماً، الأثواب مال، والأقلام مال، فهذا الآن بيع مال بمال، هذا بيع، فأنت الآن بعت الدين على من هو عليه، الدين على زيد، وبعت الأثواب هذه على زيد, وأعطاك الثمن أقلاماً، فنقول: بيع دين السلم على من هو عليه صحيح بشرطين:الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه.والشرط الثاني: التقابض، إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة.فنقول: شرطان: الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه، أنت تريد منه مائة ثوب، هذه الأثواب كم تساوي من الأقلام؟ فقالوا: مائة ثوب تساوي من الأقلام كذا وكذا تساوي مثلاً مائة قلم أو مائتي قلم نقول: أعطه مائتي قلم بسعر يومه.الشرط الثاني: التقابض إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة، هنا الآن الأقلام والثياب هل يجري بينهما ربا النسيئة أو لا يجري؟ ما يجري، يصح أن تبادل الأقلام والثياب وإن لم يحصل القبض، ما يشترط القبض، لكن لو كنت تريد منه بُرَّاً، قال: ما عندي بر سأعطيك تمراً، قلتَ: أعطني تمراً، هل يشترط القبض هنا أو لا يشترط القبض؟نقول: هنا يشترط القبض؛ لأن العوضين البر والتمر عندما تبادل بعضهما البعض لابد أن يكون يداً بيد قبل التفرق.فتلخص لنا: بيع دين السلم على من هو عليه يشترط فيه شرطان:الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه، والشرط الثاني: التقابض إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة.صورة أخرى أعطيته ألف ريال على أن يعطيك صاحب المصنع مثلاً مائة قلم، لما حلّ الأجل المصنع ما أنتج أقلاماً، قال: سأعطيك بدلاً من ذلك تمراً أو شعيراً أو سأعطيك دراهمك، نقول: هذا جائز بالشرطين السابقين. هذا القسم الأول، وهو بيع دين السلم على من هو عليه.
بيع دين السلم على غير من هو عليه
القسم الثاني: بيع دين السلم على غير من هو عليه، أعطيت زيداً ألف ريال على أن يعطيك مائة صاع من البُر بعد ستة أشهر، أعطيته ألف ريال على أن يعطيك مائة صاع من البُر بعد ستة أشهر، أنت تريد من زيد مائة صاع من البُر، جاء صالح إليك وقال: أنت تريد من زيد مائة صاع من البُر بعد ستة أشهر، بِعني لي هذه المائة، تريد منه الآن مائة صاع من البر، كم ثمنها؟ وأعطيك ثمنها، الآن بعت دين السلم عند زيد على صالح، بعت الدين دين السلم على غير من هو عليه، ما بعته على زيد كما في الصورة الأولى، وإنما بعته على صالح، فهنا بعت دين السلم على غير من هو عليه، فنقول: هذا موضع خلاف، والصواب أنه يصح بشروط:الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه، أنت تريد من زيد الآن مائة صاع من البُر, جاء صالح قال: بعها عليّ بخمسمائة ريال، مائة صاع من البر بكم تساوي؟ خمسمائة .. ستمائة .. إلى آخره بسعر يومه, هذا الشرط الأول. الشرط الثاني: أن يكون المشتري قادراً على تحصيل الدين ممن هو عليه، يعني صالح إذا حل الأجل يقدر على أن يأخذ هذا الدين الذي اشتراه من زيد، يعني من المسلم إليه الذي هو زيد، بحيث إذا حل الأجل يذهب صالح ويأخذ حقه بلا مماطلة أو ممانعة. الشرط الثالث: ألا يكون العوضان مما يجري بينهما ربا النسيئة، فإذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة ما يصح؛ لأن القبض هنا متعذر، فمثلاً إذا كنت تريد من زيد مائة صاع من البر وجاء صالح قال: بعها علي, بم تشتريها؟ قال: سأعطيك تمراً، نقول: لا يجوز؛ لأن التمر والبر لابد أن يكونا يداً بيد، وهنا ما فيه يداً بيد، ما فيه تقابض الآن، تقبض التمر، لكن البر متى يقبض؟ سيقبض بعد فترة، نقول: هذا لا يصح.أو مثلاً تريد منه شعيراً وبعته البر لا يصح، أو تريد منه لحماً وبعت اللحم بشحم شيء موزون، نقول: لا يصح؛ لأن العوضين يتفقان في علة ربا النسيئة، لابد من التقابض، والتقابض هنا متعذر، نقول: هذا لا يصح. لكن إذا كان العوضان لا يشترط بينهما التقابض، فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس به، مثلاً تريد منه أثواباً بعته بشعير، تريد منه أثواباً بعته بحديد، تريد منه سيارات بعته بثلاجات ونحو ذلك، هذا جائز ولا بأس به، لكن إذا كان العوضان يشترط بينهما التقابض، نقول: لا يصح، بر بشعير، أو تمر بملح أو بشعير ونحو ذلك كما تقدم لنا في باب الربا.
الحوالة في دين السلم
قال المؤلف رحمه الله: [ولا الحوالة به].أنت تريد مثلاً من زيد مائة صاع من البر، أعطيته ألف ريال على أن يعطيك مائة صاع من البر، أو يعطيك مائة صاع من الشعير، أتيت إليه أعطني البر الذي أريده منك، قال: ما عندي الآن شيء، لكن أحيلك على بكر أنا أريد منه براً، اذهب وخذه منه، يصح أو لا يصح؟ يقول المؤلف رحمه الله: لا تصح الحوالة به يقول.يستدلون بحديث أبي داود : (من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره)، وهذا الحديث كما سبق لنا حديث ضعيف، وعلى هذا الصواب أن المسلم لو جاء للمسلم إليه وقال: أعطني حقي من البر أو من الشعير أو نحو ذلك، وقال: أحيلك على فلان خذ منه حقك من البر أو من الشعير، أنا أريد منه كذا وكذا، نقول: بأن هذا جائز ولا بأس به؛ لأن الأصل في المعاملات الحِلْ، ولا دليل على المنع.
حكم الإقالة في السلم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وتجوز الإقالة فيه وفي بعضه؛ لأنها فسخ].أنت أسلمت زيداً مائة ألف ريال على أن يعطيك مائة صاع من البر، ولما تم السلم جاء قال: أقلني، أقلني في النصف، خذ خمسمائة ريال واطرح نصف البر، يكون خمسمائة بمائتين وخمسين، يصح ذلك أو لا يصح؟يقول المؤلف رحمه الله: يصح، قال: إن هذا جائز ولا بأس به، هذا في بعضه.(أو في كله) قال: أنت أعطيتني ألف ريال على أن تأخذ مني كذا وكذا من الثياب أو من الأقلام أو من الآلات، أقلني، خذ دراهمك، فأقاله، يجوز ذلك ولا بأس به.
القرض

تعريف القرض وحكمه
قال المؤلف رحمه الله: [باب القرض].القرض في اللغة: القطع، ومنه المقراض الذي ما تقطع به الأشياء.وأما في الاصطلاح: فهو دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله.والأصل فيه القرآن والسنة والإجماع، أما القرآن فقول الله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245].والسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً ورد خيراً منه رباعياً.وقال عليه الصلاة والسلام: (أحسنكم أحسنكم قضاء) أخرجه مسلم في صحيحه.والإجماع منعقد على جوازه في الجملة، والنظر الصحيح يقتضي ذلك؛ لما فيه من تفريج الكربة وتنفيس العسرة ونحو ذلك .قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (استسلف من رجل بكراً, فقدمت عليه إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، رجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال: أعطوه إياه؛ فإن خير الناس أحسنهم قضاء)].هل القرض من المسألة المكروهة أو أنه ليس من المسألة المكروهة؟القرض ليس من المسألة المكروهة، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم اقترض، وتوفي النبي عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، لكن لا ينبغي للمسلم أن يحمل ذمته، بحيث لا يقدم على القرض إلا مع الحاجة؛ لأن الإنسان لا يدري ما يحدث له.
كيفية القرض
قال المؤلف رحمه الله: [ومن اقترض شيئاً فعليه رد مثله إن كان مثلياً].ما هو الواجب في القرض؟ الواجب في القرض رد المثل في المثليات، ورد القيمة في المتقومات، يعني يجب رد بدل العين المقرضة، العين المقرضة لا يجب ردها، مثلاً لو أقرضت زيدا كتاباً ثم قلت: رد علي كتابي لا يلزمه ذلك؛ لأنه بالقرض ملكه، لكن يجب عليه أن يرد بدله، إن كان مثلياً رد المثل، وإن كان قيمياً رد القيمة، وما هو المثلي والقيمي؟ المثلي اختلف في ضابطه، المشهور من مذهب الشافعية أن المثلي هو كل مكيل أو موزون لا صناعة فيه مباحة يصح السلم فيه، وماعدا ذلك قيمي، وعلى هذا تكون المثليات قليلة؛ لأنهم حصروا المثليات في المكيل والموزون، أيضاً المكيل والموزون الذي لم تدخله الصناعة المباحة، ويصح السلم فيه, ماعدا ذلك قيميات.مثال المثلي: البر الشعير الذي ما فيه صناعة، لو أن البر صُنِّع وجعل خبزاً ونحو ذلك، فهل هو مثلي أو قيمي؟ قيمي، إذا دخلته الصناعة أصبح قيمياً.أيضاً المكيل إذا كان ما ينضبط بالوصف يكون قيمياً، الموزون من الحديد والصفر والنحاس هذه مثلية، لكن لو أنها دخلتها الصناعة المباحة أصبحت قيمية، ماعدا ذلك قيمي، يعني ماعدا المكيل والموزون قيمي، فمثلاً الكتب قيمية، هي ليست مكيلة ولا موزونة، الثلاجات الآلات السيارات الأقلام الثياب، أشياء كثيرة، الخضراوات الفواكه، هذه كلها ليست مكيلة ولا موزونة، فتكون قيمية. نضرب لهذا أمثلة: أقرضه ثوباً، فما الذي يجب على المقترض أن يرده؟ زيد اقترض من عمرو ثوباً، عمرو هو المقرض وزيد هو المقترض، ما يجب على زيد أن يرد القيمة أو المثل؟القيمة، هذا الذي يجب عليه، إذا اتفقا على المثل الأمر إليهما، إذا أتاه بثوب ورضي الأمر إليهما، لكن لو قال: أنا ما أرضى الثوب، أنا أعطيتك ثوباً والثوب قيمة أعطني القيمة، مَنْ القول قوله؟ القول قول المقرض، يعني إذا اتفقا على شيء فالأمر إليهما راجع، إذا اختلفا فإن كان قيمياً وجبت القيمة، وإن كان مثلياً وجب المثل، وعلى هذا فقس.أقرضه شعيراً، ما يجب عليه أن يرد؟ مثله شعير، لو أعطاه دراهم قال: خذ دراهم, أنت أقرضتني عشرين صاعاً من الشعير قيمتها تساوي مثلاً أربعين ريالاً، خذ هذه القيمة، قال: ما أقبل، ما يجب عليه المثلي أو القيمي؟ وجب عليه المثلي.أقرضه قلماً، ما يجب عليه؟ القيمة، لو أتاه بمثله وقال: أنا أقرضتك قلماً، خذ، فقال: أنا أقرضتك قلماً أعطني قلماً مثل القلم الذي أقرضتك، قال: لا, أعطيك القيمة، مَن يؤخذ بقوله؟ المقرض, يكون له القيمة، والمقترض هو يعطيك القلم ما يعطيني مثل القلم، هل نأخذ بكلام المقرض وإلا المقترض؟ المقرض؛ لأننا نقول: القاعدة عندنا أنهما إن اتفقا على شيء فالأمر إليهما، إن اختلفا فالقول قول من يوافق، المثلي إن كان قرضه مثلياً، والقيمي إن كان القرض قيمياً.وكما ذكرنا لكم أنهم يضيقون المثلي، يجعلونه خاصاً في المكيلات والموزونات، أقرضه خبزاً، ماذا يجب عليه أن يرد؟ القيمة، لأنه دخلته الصناعة، أقرضه تمثالاً من الحديد، هل يرد القيمة لأنه دخلته الصناعة؟ هذا خطأ، نحن قلنا: الصناعة المباحة، والتمثال صناعة محرمة، ما نقول هنا: قيمي، نقول: المحرم شرعاً كالمعدوم حساً، فنقول: الصناعة هنا محرمة لا أثر لها. هذا كلام المؤلف رحمه الله في كلام الحنابلة والشافعية في تفسير المثلي والقيمي. الرأي الثاني في تفسير المثلي والقيمي: أن المثلي ما له مثل في الأسواق، والقيمي ما ليس له مثل في الأسواق، وعلى هذا يكون أكثر الأشياء لها مثل في الأسواق، إذا أقرضه ثوباً نقول: يجب عليه أن يرد ثوباً؛ لأنه مثلي، لكن على الرأي الأول يجب عليه أن يرد القيمة؛ لأنه ليس مكيلاً ولا موزوناً. أقرضه سيارة يجب عليه أن يرد سيارة، وعلى الرأي الأول يجب عليه أن يرد القيمة؛ لأن السيارة عندهم ليست مثلية، المثلي هو المكيل والموزون فقط، هذه وإن كانت موزونة في الأصل، لكن دخلتها الصناعة.أقرضه كتاباً على هذا الرأي يجب عليه أن يرد كتاباً مثله، ما دام أن له مثلاً في الأسواق يجب عليه أن يرده، لكن على الرأي الأول يجب عليه أن يرد القيمة، وعلى هذا فقس. والصواب هو الرأي الثاني، وأن المثلي ما له مثل في الأسواق، والقيمي ما ليس له مثل في الأسواق، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند عائشة فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم بطعام، فضربت عائشة يد الخادم فسقط الإناء وانكسر وانتثر الطعام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إناء بإناء, وطعام بطعام)، وعلى رأي الحنابلة والشافعية الطعام مثلي أو قيمي؟ الطعام على رأي الحنابلة والشافعية قيمي؛ لأنه دخلته الصناعة، والنبي صلى الله عليه وسلم أثبت المثل، فدل على أن المثلي ما له مثل، الإناء على رأي الحنابلة والشافعية قيمي، والنبي أثبت المثل, فدل على أن المثلي ما له مثل، وأن القيمي ما ليس له مثل.
رد القرض بأفضل منه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويجوز أن يرد خيراً منه].ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن يرد خيراً منه، سواء كان ذلك في الكمية أو في الكيفية، وهذا هو الصواب.فمثلاً اقترضت أنت من زيد ألف ريال، ثم ذهبت تريد أن توفيه الألف، فقلت: هذه ألف ومائة أضفت مائة ريال، هل يجوز هذا أو لا يجوز؟نقول: هذا جائز، المؤلف يقول: (ويجوز أن يرد خيراً منه) هذا في الكمية، أنت اقترضت منه ألف ريال، أعطيته ألفاً ومائة, ألفاً ومائتين مكافئة له، أو هو اقترض منك ألفاً ثم جاب لك ألفاً ومائة، نقول: هذا جائز، هذا في الكمية، كذلك أيضاً في الكيفية، اقترض منك براً متوسطاً، وجاب لك براً جيداً، أو اقترض منك تمراً رديئاً مثلاً، نوعه أقل، مثلاً تمر شقر وجاب لك تمراً سكرياً، هذا لا بأس به، سواء كان في الكمية أو في الكيفية، هذا كله جائز ولا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً ورد خياراً رباعياً خيراً منه، وقال: (أحسنكم أحسنكم قضاء)، فنقول: لا بأس أن المقترض يرد القرض ويزيد، يرد خيراً منه في الكمية أو يرد خيراً منه في الكيفية، نقول: هذا جائز ولا بأس به. بل إن بعض العلماء قال: إنه لا بأس أن يقرضه ولو كان يرجو الزيادة، فإذا كان هذا الشخص معروف أنه من أقرضه ألفاً أعطاه ألفين، قالوا: إذا كان هذا الشخص يرجو أن يزيده هذا جائز ولا بأس به.
رد التفاريق جملة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأن يقترض تفاريق ويرد جملة].هذا أيضا لا بأس، كان في الزمن الأول فيه دينار من ذهب أو درهم من فضة، يقترض تفاريق مكسرة من الذهب، يقترض هذه المكسرة، ثم بعد ذلك يرد الدينار كاملاً، أو يقترض مكسرة من الفضة قطعاً، ثم بعد ذلك يرد درهماً كاملاً، هذا جائز ولا بأس به. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إذا لم يكن بشرط].إذا لم يكن بشرط؛ لأنه كما سيأتينا إن شاء الله أن كل شرط جرّ منفعة في القرض فهو ربا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل سلف وبيع).
تأجيل القرض
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن أَجَّلَه لم يتأجل].إن أجل القرض لا يتأجل، يعني جاء إليك رجل قال: أقرضني عشرة آلاف ريال أريد أن أتزوج لمدة سنة، وأقرضته عشرة آلاف ريال يتزوج بها لمدة سنة، يقول المؤلف رحمه الله: القرض ما يتأجل، لك أن تذهب وتطالبه الآن، أنت أقرضته الآن وأعطيته عشرة آلاف ريال، فيقول المؤلف رحمه الله: بأن القرض لا يتأجل بالتأجيل، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ، فيملك المقرض الآن أن يذهب إلى المقترض وأن يطالبه، أنا أقرضتك عشرة آلاف ريال أعطني إياها، قال: أنت, أجلت اتفقنا على سنة، العلماء يقولون: ما يتأجل بالتأجيل، أعطه العشرة الآن، والقاضي يحكم عليك إن تعطيه العشرة الآن, لماذا القرض لا يتأجل بالتأجيل؟قالوا: بأن القرض منع فيه من الفضل من الزيادة، فكذلك أيضاً يمنع فيه من التأجيل ما دام أنه لا توجد زيادة، يعني ما يجوز تقول: هذه عشرة آلاف ريال بإحدى عشر ألفاً، أيضاً المقرض كما أننا نمنعه من أخذ الزيادة أيضاً ما نحمل عليه الأجل، ما نحمل عليه أمرين، نحن الآن منعناه من أخذ الزيادة، ما يصح أن يقول: عشرة آلاف بإحدى عشر ألفاً، كذلك أيضاً ما نحمله أمراً آخراً وهو التأجيل, فيقولون: هذا منع فيه من الفضل فيمنع فيه من التأجيل، ما يحمل أمرين، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله. والقول الثاني: قول الإمام مالك رحمه الله، واختاره ابن القيم أنه يتأجل بالتأجيل، وأنه إذا أجله هذه الدراهم لمدة سنة أو سنتين يجب عليه أن يتقيد بذلك، ولا يحق له أن يطالبه، ودليل ذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [البقرة:40] ، الله عز وجل أمر بالوفاء بالعقد، والعقد تم على أنه مؤجل، فيجب عليه أن يوفي به، وأيضاً الله عز وجل يقول: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم ْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلمون على شروطهم)، فالصواب أنه يتأجل بالتأجيل.
اشتراط المنفعة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يجوز شرط شيء ينتفع به المقرض].لا يجوز أن يشترط شيئاً ينتفع به المقرض، وهذا يشمل المنافع والأعيان، لا يجوز للمقرض أن يشترط شيئاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل سلف وبيع)، فنقول: يشمل المنافع والأعيان والعقود، ما يجوز أن يشترط شيئاً ينتفع به .الدليل على ذلك: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل سلف وبيع).ثانياً: أن القرض مما يراد به وجه الله عز وجل والإحسان والإرفاق، فإذا شرط فيه منفعة فإنه يخرجه عن موضوعه، وموضوعه هو الإرفاق والإحسان، هذا موضوعه، إذا اشترط أخرجه عن موضوعه إلى شيء آخر وهو المعاوضة. ويدل على أنه مبني على الإرفاق والإحسان أن القرض صورته صورة ربا النسيئة؛ لأنك تعطيه ألف ريال وتأخذ منه بعد شهر ألف ريال، الأصل عندما تبادل ألفاً بألف يكون يداً بيد، مثلاً بمثل، تعطيه ذهباً قرضاً وتأخذ بعد شهر الذهب هذا، عندما تبادل ذهباً بذهب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب هاء وهاء، يداً بيد، لا تبيعوا غائباً بناجز)، عندما تبادل ذهباً بذهب بيعاً، لكن في القرض جوزنا ذلك، مع أنه صورة من صور ربا النسيئة، تعطيه الذهب وتأخذه بعد شهر، تعطيه الفضة وتأخذها بعد شهر، تعطيه الدراهم وتأخذها بعد شهر، لماذا جوز في هذه صورة الربا؟ لأنه يراد به الإحسان والإرفاق، ما يراد به المعاوضة، ولذلك يمنع فيه من أن يشترط شيئاً ينتفع به، سواء كان عقداً، مثل لو قال: أقرضك بشرط أن تبيع عليّ هذا شرط باطل، أو قال: أقرضك بشرط أنك تعطيني كذا.. أن تنكحني ابنتك، هذا شرط باطل، أو تعقد معي عقد شركة، أو تصرف لي هذه الدراهم، المهم أنه اشترط عليه عقداً، أو اشترط عليه منفعة، مثال اشتراط منفعة، قال: أقرضك بشرط أن تعطيني السيارة لمدة يوم .. يومين، أو تجعلني أسكن بيتك لمدة يوم أو يومين، أو تعمل لي كذا وكذا، فنقول: بأن هذه كلها محرمة ولا تجوز. أو عين من الأعيان قال: أقرضك على أن تعطيني هذا الكتاب، أو هذا البر، أو هذا الشعير، أو هذا الطعام، نقول: بأن هذا محرم ولا يجوز.قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلا أن يشترط رهناً أو كفيلاً].إذا اشترط رهناً أو كفيلاً هذا جائز ولا بأس به؛ لأن السنة جاءت به، فالنبي عليه الصلاة والسلام ( اقترض من يهودي شعيراً ورهن درعه عنده ), فنقول: والكفيل بمعنى الرهن توثقة، هذه عقود توثقة، فإذا قال: أقرضني، قال: أقرضك بشرط أن تعطيني رهناً تعطيني السيارة رهناً، أو تعطيني البيت رهناً، نقول: هذا جائز ولا بأس به، أو قال: أقرضك بشرط أن تعطيني كفيلاً أو ضميناً، نقول: بأن هذا جائز ولا بأس به.

ابو وليد البحيرى
2019-04-15, 04:48 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب البيع [12]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(75)


حرم الإسلام الربا ورغب في الدَّين إعانة للمحتاجين وتنفيساً عن المكروبين, وأحكام الدين كثيرة تتعلق بحلوله وتأجيله, وحكم المدين إذا كان معسراً أو موسراً, وحكم مطل الغني والحجر عليه حتى يوفي ما عليه.
الهدية للمقرض
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا تقبل هدية المقترض إلا أن يكون بينهما عادة قبل القرض].الهدية من المقترض للمقرض لا تخلو من أمرين:الأمر الأول: أن يكون ذلك بعد الوفاء، فإن هذا جائز، سواء كانت الزيادة والهدية في الكمية أو كان ذلك في الكيفية، مثاله في الكمية: اقترض منه ألف ريال، ثم بعد ذلك عند الوفاء رد ألفاً ومائة، في الكيفية اقترض منه مثلاً بُرَّاً متوسطاً فرد براً جيداً، ودليل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم (استسلف بكراً ورد خيراً منه رباعياً، وقال عليه الصلاة والسلام: خيركم أحسنكم قضاء).فنقول: الهدية من المقترض للمقرض إذا كان ذلك بعد الوفاء أو مع الوفاء، أتاه بالدراهم وزادها، فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس به؛ لما ذكرنا من الدليل على ذلك.الأمر الثاني: أن تكون الهدية قبل الوفاء، فيأتي المقترض ويهدي للمقرض، فهذا غير جائز سواء كان ذلك بشرط، أو كان ذلك بغير شرط، وسواء كان ذلك في الأعيان، أو كان ذلك في المنافع، مثاله بشرط: أن يقول: أقرضتك عشرة آلاف ريال بشرط أن تعطيني كتاباً، هذه هبة عين، نقول: بأن هذا لا يجوز، أو يقول: بشرط أن تعيرني سيارتك أركبها لمدة يوم أو يومين، هذه هبة منفعة، نقول: هذه غير جائزة.وذكرنا الدليل على ذلك، وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يحل سلف وبيع)، وأيضاً ما ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن كل قرض جر نفعاً فهو رِبا.مثاله إذا كان بغير شرط: أهداه مثلا كتاباً، أو أهداه قلماً أو ثوباً أو طعاماً أو نحو ذلك من الهدايا، فهل هذا جائز أو ليس جائزاً؟ أو المنافع، أهداه مثلاً أن يسكن بيته، أن يستعمل سيارته قبل تمام الوفاء. قال المؤلف رحمه الله: (ولا تقبل هدية المقترض إلا أن يكون بينهما عادة قبل القرض).نقول: حالات الأصل أن الهدية للمقرض من قبل المقترض أنها محرمة ولا تجوز؛ لما ذكرنا من الدليل على ذلك، يستثنى من ذلك:الحالة الأولى: إذا كان بينهما عادة بالتهادي، يعني هذان قريبان، أو متجاوران وبينهما عادة في التهادي، هذا يهدي إلى هذا وهذا يهدي إلى هذا، فهنا الهدية ليست بسبب القرض، وإنما بسبب ما بينهما من قرابة أو من جوار وتهادي، فنفهم أن الهدية هنا ليست بسبب القرض، فنقول: بأن هذا جائز، هذه الحالة الأولى. الحالة الثانية: إذا كان سيحتسب هذه الهدية من الدين، كما ورد ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فنقول: بأن هذا حكمه جائز، مثلاً هذا رجل اقترض من زيد، فجاء المقترض وأعطى المقرض كتاباً أو أعطاه قلماً أو ثوباً أو نحو ذلك من الهدايا من الأعيان أو المنافع، فنقول: إذا كان المقرض سيحتسب ذلك من الدين، مثلاً أقرضه ألف ريال، هذا الكتاب قيمته تساوي عشرين ريالاً، أو تساوي ثلاثين ريالاً، وسيحسب هذا من الدين، يطرح عشرين ريالاً قيمة الكتاب، فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس به إن شاء الله، ما دام أن المقرض سيحسب هذا من الدين.ويدل على ذلك أن هذا وارد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فإن رجلاً اقترض منه سماك، يعني رجل يبيع السمك، فكان السماك يعطيه من السمك، فسأل هذا الرجل الذي أقرض هذا السماك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن هذا السمك الذي يأخذه منه؟ فقال: إن كنت تريد أن تحسبه من دينه وإلا فرده عليه، فنقول: بأن هذا جائز إذا كان يريد أن يحسبه من دينه.الحالة الثالثة: إذا كان هذا الشيء مما جرت به عادة الناس، وهذا يكون في الدعوات، يعني لو أن المقترض أضاف المقرض في بيته، يعني دعاه إلى البيت وأدخله البيت وأطعمه، أحضر له مثلا تمراً أو أحضر له مشروباً ونحو ذلك، هل يحسب هذا التمر الذي يأكله؟ المقرض الآن أكل هذا التمر في بيت المقترض، أو شرب هذا الشراب في بيت المقترض، هل يحسب ذلك أو لا يحسب ذلك؟هذا موضع خلاف، قال بعض العلماء: يحسب مثل هذه الأشياء، فإذا أكل عنده تمراً يحسب قيمة التمر، وإذا شرب عنده شيئاً يحسب قيمة هذا الشراب، فهذه الأشياء يقوم بحسبانها .والرأي الثاني: أن هذا يرجع إلى العادة، إذا كانت مثل هذه الأشياء تبذل، يعني إذا كان هذا المقترض بذل هذا الشيء للمقرض، ولو لم يقرضه لبذل له ذلك، هذه أمور جرت بها العادة، فنقول: بأن هذه لا تحتسب، أما إذا كانت خارجة عن العادة فإنه يقوم بحسابها, إذا تكلف له شيئاً خارجاً عن العادة، فنقول: بأن المقرض يقوم بحساب هذا الشيء الذي أكله عند المقترض ويخصمه من الدين.فتلخص لنا أن الهدية إذا كانت قبل الوفاء فالأصل أنها لا تجوز، وذكرنا الدليل على ذلك إلا في ثلاثة مواضع:الموضع الأول: إذا كان بينهما تهادي.الموضع الثاني: إذا كان يريد أن يحسبه من الدين.الموضع الثالث: فيما يتعلق بالدعوات والإضافة، هذا نقول: فيه تفصيل، إن كان هذا الشيء مما جرت به العادة، فإن المقرض لا يحسبه، وإن كان هذا الشيء خارج عن العادة فإنه يحسبه.
أحكام الدَّين

تعريف الدين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب أحكام الديْن]. الدين هو كل ما وجب في الذمة، سواء كان بمقابل أو بغير مقابل، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله. والرأي الثاني رأي الحنفية قالوا: بأن الدين هو ما ثبت في الذمة إذا كان بمقابل. والصواب في ذلك ما ذكره جمهور أهل العلم، فنقول: الدين هو كل ما ثبت في الذمة، سواء كان بمقابل أو كان بغير مقابل. مثال الذي بمقابل: ثمن المبيع، إذا اشتريت شيئا بثمن مؤجل، فهذا الثمن في ذمتك يكون ديناً، إذا اشتريت شيئاً بثمن مؤجل فنقول: هذا الثمن في ذمتك يسمى ديناً، أيضاً إذا اقترض منه قرضاً نقول: هذا يسمى ديناً، أيضاً إذا تزوج امرأة على صداق مؤجل، فهذا الصداق في ذمة الزوج يسمى ديناً، أيضاً قيم المتلفات أروش الجنايات هذه كلها تسمى ديوناً، فمثلاً لو أنه أتلف سيارته وتحتاج إلى ألف ريال، فهذه الألف في ذمة المتلف تسمى ديناً، أيضاً أروش الجنايات، لو أنه جنى عليه جناية وهذه الجناية قدرها كذا وكذا فنقول: بأن ذلك يسمى ديناً.المهم نفهم من ذلك أن الدين هو ما ثبت في الذمة سواء كان بمقابل أو بغير مقابل، مثل الزكاة، فمثلاً إذا حال الحول وجب على التاجر أن يخرج الزكاة، زكاته مثلاً تساوي ألف ريال، أو تساوي ألفي ريال، فنقول: هذه الألف في ذمة التاجر تسمى ديناً، وإن كانت بغير مقابل.
مطالبة المدين بالدين قبل أجله
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [من لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل أجله، ولم يحجر عليه من أجله، ولم يحل بتفليسه]. الدين ينقسم إلى قسمين:ديون مؤجلة، وديون حالّة، والمدين ينقسم إلى أربعة أقسام:القسم الأول: المعسر، والقسم الثاني: الواجد، والواجد تحته صورتان، والقسم الثالث: المفلس الذي يحجر عليه القاضي كما سيأتي بيانه إن شاء الله.هنا شرع المؤلف رحمه الله في بيان حكم الدين المؤجل فقال: (من لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل أجله).من لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل أجله، ودليل ذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، والأمر بإيفاء العقد يتضمن الأمر بإيفاء أصله ووصفه، ومن وصفه الشرط فيه، فإذا اشترط التأجيل مثلاً في ثمن المبيع، فنقول: يجب أن يكون مؤجلاً ،ولا يجوز أن يطالب المشتري، يدل على ذلك حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم).وأيضاً التأجيل حق مالي، وإذا كان كذلك فإنه لا يملك مَنْ له الدين أن يطالب من عليه الدين؛ لأنه يستحق هذا التأجيل.وظاهر كلام المؤلف رحمه الله في قوله: من لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل أجله، أن ذلك يشمل القرض وغيره, فالقرض ما يطالب به المقترض قبل أجله، وثمن المبيع إذا كان مؤجلاً لا يطالب به المشتري، فظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن هذا يشمل القرض وغيره.وسبق لنا أن المؤلف رحمه الله يرى أن القرض لا يتأجل بالتأجيل، وهذا هو المذهب، وعلى هذا لو أقرضه ألف ريال لمدة سنة، فإن المقرض يملك مطالبة المقترض حالّاً، ولا يتأجل بالتأجيل، وسبق أن ذكرنا رأي الإمام مالك رحمه الله، وأن القرض يتأجل بالتأجيل، والصواب في هذه المسألة أن القرض يتأجل بالتأجيل، وعلى هذا لا فرق بين القرض وغيره من الديون، وأنها إذا كانت مؤجلة فإن صاحب الدين لا يملك مطالبة المدين قبل حلول الأجل، كما هو ظاهر كلام المؤلف رحمه الله هنا. قال: (ولم يحجر عليه من أجله).لم يحجر عليه من أجله؛ لأنه لا يستحق المطالبة به قبل أجْله، قبل أجَله، يعني القاضي لا يحجر على هذا المدين الذي عليه دين مؤجل؛ لأنه لا يطالب به قبل حلول الأجل، وإذا كان كذلك فإنه لا يحجر عليه، مثال ذلك: هذا زيد عليه مليون ريال مؤجل لمدة سنة، فجاء صاحب الدين وقال للقاضي: أنا أريد من زيد مليون ريال، أحجر عليه، هل يحجر عليه القاضي أو نقول: بأن القاضي لا يحجر عليه؟نقول: لا يحجر عليه القاضي، لماذا؟ لأنك أنت ما تملك أن تطالبه بوفاء الدين؛ لأنه مؤجل، لا يجوز أن تطالب ما دام أنه مؤجل، وهو يستحق أن يؤخر، إذا كان كذلك فإنك ما تملك أن تطالبه.
مدى حلول الدين المؤجَّل إذا أفلس المدين أو توفي
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولم يحل بتفليسه ولا بموته].يقول المؤلف رحمه الله: إذا فُلِّس لا يحل, مثال ذلك : هذا رجل عليه دين، وعنده مال، الدين الذي عليه مائة ألف، والمال الذي عنده يساوي خمسين ألفاً، هذا له مال وعليه دين، هذا المدين الذي له مال وعليه دين يحجر عليه بطلب الغرماء كلهم أو بعضهم، لكن لو كان هذا الدين الذي عليه -وهو مائة ألف ريال- بعضه مؤجل، وحجر القاضي على هذا الشخص كما سيأتينا، هل الدين المؤجل يحل بتفليس القاضي للمدين أو لا يحل؟ نقول: بأنه لا يحل؛ لأن التأجيل كما سلف حق.نعيد صورة المسألة، هذا رجل عليه دين قدره مائة ألف ريال، وله مال قدره خمسون ألف ريال، هذا الذي يحجر عليه عند العلماء، مدين عليه ديون، وعنده أموال، لكن الأموال لا تفي الديون، أقل من الديون، فهذا يحجر عليه بطلب الغرماء كلهم أو بعضهم. هذه المائة التي هي دين بعضها مؤجل، تسعون ألف حالّة، وعشرة مؤجلة، فحجر القاضي عليه، لما حجر عليه, الدين المؤجل هل يحل بحجر القاضي أو نقول: بأنه لا يحل؟ يقول المؤلف رحمه الله: لا يحل، فيبقى المؤجل مؤجلاً، ولا يملك صاحبه أن يطالب به حتى يحل.قال المؤلف رحمه الله: (ولا بموته).هل يحل بالموت أو لا يحل بالموت؟ هذا رجل اشترى من زيد سيارة بعشرة آلاف مؤجلة، زيد يملك العشرة لكنها مؤجلة، مات المشتري بعد أن مضى شهر، بقي لكي يحل الثمن أحد عشر شهراً، هل نقول بأنه بموت المدين الذي هو المشتري حلّ الدين الذي في ذمته، أو نقول: يبقى مؤجلاً؟قال المؤلف رحمه الله: [إذا وثقه الورثة برهن أو كفيل].فنقول: إن قام الورثة وأعطوا الدائن رهناً؛ لأنهم ربما يقتسمون التركة ويضيع حق الدائن، إذا أعطوه رهناً أو كفيلاً أو ضميناً، هل يحل أو لا يحل؟ نقول: بأنه لا يحل، أما إذا لم يفعلوا ذلك لم يوثقوا لا برهن ولا بضمين ولا كفيل فنقول: بأنه يحل, لماذا؟ نحافظ على حق الدائن، وأيضاً إبراء لذمة الميت؛ لأن الورثة إذا قلنا: بأن هذا الدين حتى الآن لم يحل، ربما اقتسموا التركة، ثم إذا حل الدين وجاء صاحب الدين يطالب لم يجد شيئاً، فنقول: لابد أن الورثة يوثقون برهن أو بضمين أو كفيل، لابد أن يوثقوا بذلك.
سفر المدين قبل حلول الدين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا أراد سفرا يحل الدين قبل مدته أو الغزو تطوعاً فلغريمه منعه إلا أن يوثقه بذلك].هذا يدل على خطر الدين، ومع ذلك اليوم كثير من الناس يتهاونون بالدين، كثير من الفقهاء يقولون: إذا أراد سفراً له أنه يمنعه منه، إذا أراد أن يذهب إلى الجهاد التطوع له أن يمنعه، فإذا أراد سفراً يحل الدين قبل مدته، يعني قبل مدة السفر، أراد مثلاً الذهاب إلى مكة، الذهاب إلى مكة يستغرق عشرين يوماً، والدين يحل بعد عشرة أيام، يملك صاحب الدين أن يمنع المدين من السفر ما دام أنه سيحل قبل أن يقدم، إلا إن وثقه برهن أو كفيل أو ضمين، إن وثقه برهن أو كفيل أو ضمين فإن هذا لا بأس به، لكن إذا لم يوثق نقول: ليس له أن يسافر إذا لم يوثق. ويفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن الدين إذا كان يحل بعد قدومه ليس له أن يمنعه.إذا أراد المدين السفر له حالتان:الحالة الأولى: أن يحل قبل قدومه، فله أن يمنعه إلا أن يوثقه.الحالة الثانية: أن يقدم قبل أن يحل الدين، فهذا لا يملك أن يمنعه.مثله أيضاً الغزو تطوعاً، يعني إذا أراد أن يذهب للغزو التطوع، لا يملك صاحب الدين أن يمنعه إلا أن يوثق ذلك برهن أو بكفيل أو ضمين، حتى إذا كان سيقدم قبل حلوله، لأن الغزو موضع خطر، فما يملك أن يسافر للغزو إذا كان تطوعاً إلا بعد إلا أن يوثق برهن أو ضمين أو كفيل. ويفهم من قول المؤلف رحمه الله: الغزو تطوعاً، أن الغزو إذا كان واجباً لا يملك أن يمنعه.
إنظار المدين المعسر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن كان الدين حالّاً على معسر وجب إنظاره].هذا القسم الثاني من أقسام الديون، القسم الأول: المؤجل، تقدم الكلام عليه، وذكر المؤلف رحمه الله من أحكام المؤجل.الحكم الأول: أنه لا يطالب المدين قبل الأجل، والثاني: أنه لا يحجر عليه من أجل المؤجل، لا يحجر عليه إلا من أجل الحال، وأنه لا يحل بفلسه ولا بموته، هذه أربعة أحكام، وإذا أراد السفر أو الغزو, فذكر المؤلف رحمه الله للدين المؤجل ستة أحكام، ثم بعد ذلك شرع في الدين الحال.الذي عليه دين حال لا يخلو من أمور، عليه دين حال، عليه مائة ألف ريال حالة، خمسون ألفاً ... إلى آخره، نقول: من عليه دين حال لا يخلو من أمور: الأمر الأول قال المؤلف: (وإن كان حالّاً على معسر وجب إنظاره)، الأمر الأول: أن يكون المدين معسراً، مَن هو المعسر؟ المعسر هو الذي لا يقدر على الوفاء، فما الحكم بالنسبة للمعسر؟نقول: تحته أحكام: الحكم الأول: يجب إنظاره؛ لأن الله عز وجل قال: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، لا يجوز لك أن تطالبه، يجب عليك أن تنظره، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:185]، أي: الواجب نظرة إلى ميسرة، ينظر إلى أن تتيسر أموره. الحكم الثاني: يُسن إبراؤه، يسن أن تبرئه ما دام أنه فقير ومعسر؛ لأن هذا من تفريج كربة المسلم كما ثبت في الحديث: (من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، فنقول: يسن لك أن تبرئه من هذا الدين، هذا الحكم الثاني. الحكم الثالث: أنه يحرم الحجر عليه، القاضي ما يحجر عليه؛ لأنه ما الفائدة أن يحجر عليه؟ ليس هناك مال حتى يحجر عليه ويمنع من التصرف.الحكم الرابع: أنه لا يجوز طلبه ولا مطالبته، ما يجوز أن تذهب إليه تطرق عليه الباب إذا كان فقيراً، تعرف أنه فقير وتقول: أعطني المال، هذا طلبه، ومطالبته أن تذهب إلى القاضي في المحكمة تطالبه بالدين وهو معسر، هذا ما يجوز، فلا يطالب ولا يطلب منه، ويجب إنظاره، ويسن إبراؤه، ولا يحجر عليه.
تحليف من ادعى الإعسار
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن ادعى الإعسار حلف وخُلِّي سبيله، إلا أن يعرف له مال قبل ذلك فلا يقبل قوله إلا ببينة].هذا الحكم الخامس، إذا ادعى الإعسار قال: أنا معسر، نقول: احلف، فإذا حلف خلينا سبيله، ما الفائدة أن نحبسه؟ ليس هناك فائدة، فنقول: إذا ادعى الإعسار فإنه يحلف ويخلى سبيله.قال المؤلف: (إلا أن يعرف له مال قبل ذلك فلا يقبل قوله إلا ببينة).يعني نعرف أن هذا الرجل كان صاحب مال، فكيف يدعي الإعسار الآن؟! فلابد من بينة، قد يقول: أنا عندي مال، لكن المال احترق، تأتي ببينة، قد يقول: بأن المال كان في تجارة وخسر، أو في زراعة وهلكت أصابتها الآفات ونحو ذلك، فنقول: لابد أن يأتي ببينة تشهد على ما قال، أن يأتي ببينة تبين صدق قوله.
مطل الغني
قال: [وإن كان موسراً لزمه وفاؤه].هذا القسم الثاني: أن يكون موسراً، والموسر هو الذي يقدر على الوفاء، ماله أكثر من دينه، فعنده مائة ألف وعليه دين يساوي ثمانين ألفاً، فهذا نقول: بأنه موسر.الموسر تحته أحكام: الحكم الأول: قال: (لزمه الوفاء), يجب عليه أن يوفي الناس حقوقهم، الدين حال وأنت موسر يجب عليك أن توفي الناس حقوقهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليُّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته)، وفي لفظ: (مطل الغني ظلم)، المطل هو التأخير في القضاء، سماه النبي صلى الله عليه وسلم ظلماً، والظلم محرم يحل عرضه وعقوبته.نقول: إذا كان واجداً موسراً، والواجد هو الذي ماله أكثر من دينه, يترتب عليه أحكام:الحكم الأول: أنه يجب عليه الوفاء، ويحرم عليه المطل.الحكم الثاني: أنه يحل عرضه وعقوبته، عرضه بأن تقول للقاضي: فلان ظلمني، فلان مطلني حقي، سَوَّفْ في التأخير... إلى آخره، عقوبته أن القاضي يعزره بما يردعه، القاضي يعزره بما يردعه.قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن أبى حبس حتى يوفيه].هذا من العقوبة، إذا أبى أن يوفي فإن القاضي يحبسه حتى يوفي.الحكم الثالث: أنه إذا امتنع بالكلية من الوفاء، فإن القاضي يبيع ماله ويوفي الدين الذي عليه. بقينا في القسم الثالث: من كان ماله مساوياً لدينه، مثال ذلك عنده مائة ألف، وعليه مائة ألف، فهذا حكمه حكم القسم الثاني، نقول: بأن هذا واجد، ويكون حكمه حكم القسم الثاني.
الحجر على المدين
القسم الرابع بينه المؤلف رحمه الله بقوله: [فإن كان ماله لا يفي بدينه كله فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمه إجابتهم].هذا القسم الرابع، وهو الذي ماله أقل من دينه، دينه أكثر من ماله، هذا الرجل عنده مال وعليه دين، الدين الذي عليه يساوي مائة ألف، أو يساوي مليون، وعنده مال يساوي مائة ألف أو مائتي ألف، فهذا هو الذي يحجر عليه، هذا القسم هو الذي يحجر عليه.وسيتكلم المؤلف رحمه الله عن أحكام الحجر، فنقول: هذا هو الذي يحجر عليه القاضي بطلب الغرماء كلهم أو بعضهم، إذا طلب الغرماء الحجر عليه كلهم أو بعضهم فإنه يحجر عليه، ويسمى عند الفقهاء بالمفَلَّسْ، المعسر يسمى المُفْلِسْ، الذي ما عنده شيء يسمى المُفْلِسْ، أما هذا الذي عنده مال، لكنه ما يوفي الدين الذي عليه يسمى بالمُفَلَّسْ. فالحكم الأول: أنه يحجر عليه القاضي بطلب الغرماء كلهم أو بعضهم، وهذا ما عليه ابن حجر ، وهو موضع خلاف، فجمهور أهل العلم يرون الحجر، واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله، وقالوا أيضاً: إن وفاء الدين حكمه واجب، والحجر من طرق وفاء الدين، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.وعند الحنفية أنه لا يحجر عليه، قالوا: لأن الحجر عليه إهدار لأهليته، وإلحاق له بالبهائم! وهذا لا يُسَلَّم، فنقول: الصواب أنه يحجر عليه, نحن حجرنا على ماله، فلا يتصرف في هذا المال؛ لأنه تعلق به حق الناس، فلابد أن نعطي الناس حقوقهم، ولا يلزم من كوننا نستولي على ماله ونمنعه من التصرف فيه لكي يقسمه على الغرماء أن نكون قد أهدرنا أهليته وكرامته وألحقناه بالبهائم، هذا غير مُسَلَّم.هذا الحكم الأول: أنه يحجر عليه بطلب الغرماء كلهم أو بعضهم.قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمه إجابتهم، فإذا حجر عليه لم يجز تصرفه في ماله، ولم يقبل إقراره عليه].هذا الحكم الثاني: أن الحجر يتعلق بأعيان ماله دون ذمته، فمثلاً هذا الرجل عليه دين وعنده سيارتان، وعنده قطعة أرض، وعنده مثلاً عشرة آلاف, عليه مائة ألف أو مليون فرضاً وعنده سيارتان ... إلى آخره، سيأتينا أن الذي يُحجر عليه يُترك له ما يحتاجه كما سيأتي بيانه إن شاء الله، فعنده سيارتان، السيارة الثانية لا يحتاجها نستولي عليها، عنده قطعة أرض زائدة نستولي عليها، حتى قال العلماء: إذا كانت بيته واسعاً نبيع البيت هذا، ونشتري له بيتاً بقدره. فالمهم أن الذي لا يتعلق بحاجته يحجر عليه القاضي، ثم بعد ذلك يمنع من التصرف فيه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-18, 05:42 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب النكاح [1]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(76)

النكاح له فضل عظيم وفوائد عديدة، ومن مقاصده تكثير سواد المسلمين، وإنشاء الأسرة الصالحة، وعلى الرجل أن يحرص على أن تكون زوجته ولوداً ذات دين، وقد أبيح النظر إلى المخطوبة ولذلك أحكام ذكرها أهل العلم.
النكاح

مناسبة جعل الفقهاء لأبواب النكاح بعد العبادات والمعاملات
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كتاب النكاح].يبدأ العلماء والفقهاء في تآليفهم بأحكام العبادات، ثم بعد ذلك يثنون بأحكام المعاملات، والمعاملات تشتمل على أحكام المعاوضات والتبرعات, ثم بعد ذلك يثلثون بأحكام الأنكحة, ثم يربعون بعد أحكام الأنكحة بأحكام الحدود والقصاص، ثم يختمون بأحكام القضاء. وإنما يبدأ العلماء رحمهم الله بأحكام العبادات لأمور, منها:أن العبادات مبناها على التوقيف, والأصل فيها المنع والحظر، فلا يتعبد لمسلم بعبادة من العبادات إلا بعبادة جاءت في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فالأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم الدليل على شرعية هذه العبادة. وأيضاً حاجة الإنسان إلى العبادة أشد من حاجته إلى المعاملة, إذ إن الإنسان تصح منه العبادة إذا بلغ التمييز إلا الحج والعمرة, الحج والعمرة لا يشترط في ذلك التمييز, فالوضوء يصح من الصبي إذا ميز وفهم الخطاب ورد الجواب, يصح منه الوضوء، ويصح منه العسل، ويصح منه التيمم، وتصح صلاته وصيامه, الحج والعمرة لا يشترط في ذلك التمييز؛ ولهذا بدأ العلماء بأحكام العبادات. ويبدءون من أحكام العبادات بالصلاة ويفتتحون الصلاة ويقدمون لها بأحكام الطهارة, وإنما قدموا أحكام الطهارة؛ لأن الطهارة مفتاح الصلاة, كما تقدم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )؛ لأن التخلي قبل التحلي, فالإنسان يتخلى من الحدث، ومن الخبث ثم بعد ذلك يتحلى بالوقوف بين يدي الله عز وجل. ويبدءون بالصلاة؛ لأن الصلاة أهم العبادات, فهي الركن الثاني من أركان الإسلام.وأيضاً اتباعاً لترتيب أركان الإسلام كما ورد في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت ).فيبدءون بالصلاة ويفتتحون الصلاة ويقدمون لها بأحكام الطهارة ثم بعد ذلك يثنون بالزكاة؛ لأن الزكاة حولية؛ ولأنها قرينة الصلاة في كتاب الله عز وجل فيما يقرب من ثلاثة وثمانين موضعاً. ثم بعد ذلك يثلثون بأحكام الصيام، ثم بعد ذلك يربعون بأحكام الحج؛ لأن الحج عمري، وأما الصيام فهو حولي. ثم بعد أحكام العبادات يشرعون بأحكام المعاملات, ويبدءون من أحكام المعاملات بأحكام المعاوضات كالبيع وشروط البيع والشروط في البيع وأحكام الخيارات، وما يتعلق أيضاً بأحكام التوثقات أو عقود التوثقات, كعقد الرهن وعقد الضمان وعقد الكفالة, وأيضاً أحكام الشركات وما يتعلق بذلك, أو ما يلحق بذلك من أحكام المعاوضات، ثم بعد أن يتكلموا عن أحكام المعاوضات يتكلمون عن أحكام التبرعات.وإنما قدموا أحكام المعاوضات على أحكام التبرعات؛ لأن أحكام المعاوضات يحتاج إليها الإنسان أكثر من أحكام التبرعات, فلا يمر على الإنسان يوم إلا وهو يحتاج إلى البيع والشراء، فهو محتاج إلى السلع التي بيد الآخرين, والآخرون محتاجون إلى ما بيده من الأثمان. وبعد أن يتكلموا على أحكام المعاوضات يشرعون في أحكام التبرعات كأحكام الهبة والعطية وأحكام الوصايا وأحكام العتق، وأيضاً أحكام الوقف وما يلحق بذلك من أحكام الإرث. ثم بعد أن يتكلموا عن أحكام المعاملات سواء كان ما يتعلق بأحكام المعاوضات أو أحكام التبرعات يشرعون بأحكام الأنكحة, وإنما أخروا أحكام الأنكحة بعد أحكام المعوضات؛ لأن النكاح لا يحتاج إليه الإنسان إلا في زمن معين, وهو ما بعد البلوغ بخلاف أحكام المعاوضات والتبرعات، فيحتاج إليها الإنسان قبل البلوغ, فيشرعون في أحكام الأنكحة، وما يتعلق بحكم النكاح وأركانه وشروطه وأحكام الصداق، وأيضاً ما يتعلق بذلك أو ما يلحق به من أحكام الشروط في النكاح, وأحكام العيوب وأحكام وليمة العرس.. إلخ.ثم بعد ذلك يشرعون بأحكام الفسوخات: ما يتعلق بفسخ النكاح وإبطاله كأحكام الطلاق وأحكام الخلع.. إلخ.ثم بعد ذلك يربعون بأحكام الحدود والقصاص, وإنما أخروا أحكام الحدود والقصاص لأمرين:الأمر الأول: أن الإنسان إذا حصلت له شهوة البطن، وحصلت له شهوة الفرج قد يحمله ذلك على الأشر والبطر فيعتدي, فشرع ما يتعلق بأحكام الحدود والقصاص؛ لأن الإنسان إذا باع واشترى فإنه سيحصل له شهوة البطن, وإذا نكح ستحصل له شهوة الفرج، فقد يحمله ذلك على شيء من الأشر والبطر والتعدي والظلم فشرع ما يتعلق بأحكام الحدود والقصاص.الأمر الثاني: الأصل في هذه الأشياء ألا تقع من المسلم, يعني: ما يتعلق بأحكام القصاص والحدود الأصل أن المسلم لا تقع منه هذه الأشياء, فأخر الكلام عليها.ويبدءون بأحكام القصاص -فيما يتعلق بالجناية على النفس، وفيما يتعلق على ما دون النفس- قبل أحكام الحدود؛ لأن أحكام القصاص متعلقة بحق الآدمي وأما أحكام الحدود فهي متعلقة بحق الله عز وجل.ثم بعد ذلك يختمون بأحكام القضاء؛ لأن أحكام القضاء لا يحتاج إليه في الغالب إلا شخص واحد وهو القاضي.
تعريف النكاح وبيان حكمه
النكاح في اللغة: يطلق على معانٍ منها الضم والتداخل, ويقال: تناكحت الأشجار إذا حصل بينها شيء من الضم والتداخل.وأما في الاصطلاح: فهو عقد يفيد حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر. والأصل في النكاح من حيث الدليل الكتاب والسنة والإجماع.أما الكتاب فالآيات في ذلك كثيرة من ذلك قوله سبحانه وتعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، ومن ذلك أيضاً قول الله عز وجل: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32].وأما السنة أيضاً فالأحاديث في ذلك كثيرة، وسيأتي إن شاء الله طرف منها, فمن ذلك ما أورده المؤلف رحمه الله من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )، وقال: النبي صلى الله عليه وسلم, في حديث أنس وفي حديث معقل رضي الله تعالى عنهما: ( تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ).والإجماع قائم على شرعية النكاح. واختلف العلماء رحمهم الله في أصل النكاح, هل الأصل في النكاح الوجوب يعني: يجب على الإنسان أن يتزوج, أو الأصل في ذلك السنية وقد يخرج إلى الوجوب؟ اختلفوا في ذلك على رأيين: الرأي الأول: وهو ما يفيده كلام المؤلف رحمه الله وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد وهو قول جمهور أهل العلم: أن الأصل في النكاح السنية, وأنه ليس واجباً، لكن قد يخرج ذلك إلى الوجوب كما سنشير إلى ذلك إن شاء الله تعالى.والرأي الثاني: رأي الظاهرية أن الأصل في النكاح الوجوب. ولكل من هذين القولين دليل:أما الذين قالوا: بأن الأصل في النكاح السنية وليس واجباً لكن قد يخرج إلى الوجوب استدلوا على ذلك بأدلة، منها: قول الله عز وجل: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]. قالوا: بأن الله عز وجل علق النكاح على الاستطابة، ولو كان واجباً لم يعلق على استطابة الإنسان.وكذلك أيضاً استدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم )، فالنبي عليه الصلاة والسلام جعل الصوم بديلاً عن النكاح, والإجماع قائم على أن الصوم غير واجب في غير شهر رمضان, فكذلك أيضاً المبدل منه الذي هو النكاح من باب أولى أن لا يكون واجباً.وكذلك أيضاً استدلوا بحديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : ( إنك تأتي قوماً من أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم )، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الفرائض ما يتعلق بالنكاح. وكذلك أيضاً ما ثبت في الصحيح من حديث أنس وحديث طلحة بن عبيد الله في قصة الرجل الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فرائض الإسلام، فذكر له النبي عليه الصلاة والسلام فرائض الإسلام، ومع ذلك لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الفرائض النكاح، وإنما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة، الزكاة..الخ, ولم يذكر النبي عليه الصلاة والسلام النكاح. أما الذين قالوا: الأصل في النكاح الوجوب، استدلوا على ذلك بأدلة، منها:الأوامر الواردة في النكاح كقول الله عز وجل: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32] . وأيضاً حديث ابن مسعود : ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج )، قالوا: هذه الأوامر تدل على الوجوب. والأقرب في ذلك هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وهو أن الأصل في النكاح السنية, وأنه سنة وليس واجباً، بمعنى: لو أن الإنسان ترك هذا النكاح ولم يتزوج فإننا لا نقول بتأثيمه، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه أنه ألزم أحداً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالنكاح.فالأقرب في ذلك أنه سنة، لكن يخرج عن هذه السنة إلى الوجوب إذا خاف الزنا بتركه, قال العلماء رحمهم الله: إذا خاف الإنسان على نفسه الزنا إذا ترك النكاح فإنه يكون واجباً؛ لأن ترك الزنا واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.وقال ابن قدامة رحمه الله: إذا خاف على نفسه فعل المحظور، وعنده القدرة على النكاح فإنه يجب عليه أن يتزوج, فقوله رحمه الله: إذا خاف على نفسه فعل المحظور، هذا أشمل وأعم من قول من قال: إذا خاف على نفسه الزنا, مثل: الاستمناء إذا خاف على نفسه أنه إذا لم يتزوج يؤدي به ذلك إلى فعل المحرم كالاستمناء أو النظر إلى النساء الأجنبيات, فإنه في هذه الحالة يجب عليه أن يتزوج. فأصبح عندنا النكاح سنة، ويجب قيل: إذا خاف على نفسه الزنا بتركه, والرأي الثاني أعم من ذلك: أنه إذا خاف على نفسه فعل المحظور فإنه يجب عليه أن يتزوج.
فضل النكاح
قال المؤلف رحمه الله: [النكاح من سنن المرسلين].وهذا ظاهر، النكاح من سنن المرسلين، وقد دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أما القرآن فقول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38] . وأما السنة فحديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ).قال المؤلف رحمه الله: [وهو أفضل من التخلي منه لنفل العبادة]. يعني: إذا كان الإنسان بين أمرين: إما أن يتزوج ويشتغل بأمر الزوجة وأمر الأولاد, وإما أن يخلي نفسه للعبادة, لقراءة القرآن والصيام وقيام الليل؟ هل الأفضل أن يخلي نفسه للعبادة فيما يتعلق بقراءة القرآن والصيام وقيام الليل والجهاد ونحو ذلك أو أن نقول: أن الأفضل له أن يتزوج ولو شغله هذا الزواج عن نوافل العبادات؟يقول المؤلف رحمه الله: الأفضل أن يتزوج، وأن هذا الزواج أفضل من أن يخلي نفسه ويفرغها من الزواج لنوافل العبادات, وهذا ما ذكره المؤلف رحمه الله ظاهر؛ لأن الزواج يترتب عليه مصالح كثيرة, فمن ذلك: الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك أيضاً ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود : غض الأبصار وحفظ الفروج. ومن ذلك أيضاً تكثير نسل هذه الأمة وفي ذلك عزتها. ومن ذلك أيضاً تحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم, فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ). ومن ذلك أيضاً القيام على المرأة وكفايتها وغض بصرها، والإنفاق عليها، وحفظ فرجها وغير ذلك.فالصواب ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله: أن النكاح أفضل من نوافل العبادات, فكون الإنسان يتزوج أفضل له من أن يخلي نفسه من الزواج لكي يشتغل بنوافل العبادات لما يترتب على هذا النكاح من مصالح عظيمة.
الأصل في النكاح من حيث التعدد
اختلف العلماء هل الأصل في سنية النكاح التعدد أو الأصل أن الإنسان يقتصر على واحدة؟ يعني: هل السنية تكفي في زواج امرأة واحدة أو أن الإنسان كلما تزوج فهذا هو أفضل؟ في ذلك رأيين لأهل العلم:المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن الأصل في النكاح عدم التعدد، وأن السنة أن الإنسان يقتصر على زوجة واحدة, ويباح له أن يتزوج أكثر من ذلك.والرأي الثاني: أن الأصل هو التعدد، وأن الإنسان كلما عدد من الزوجات -إذا كان عنده القدرة المالية والبدنية- فإن هذا هو الأفضل لما يترتب على ذلك من مصالح النكاح العظيمة, فكلما أكثر الإنسان من الزوج حصل إكثار لهذه المصالح العظيمة، حصل الإكثار من غض الأبصار، وحصل الإكثار من تحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً من تكثير نسل الأمة، ومن القيام على النساء وكفايتهن وكفالتهن.. الخ, ولهذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: خير هذه الأمة أكثرها نساءً. وهذا القول: هو الصواب, وأن الأصل في ذلك التعدد، وأن الإنسان كلما أكثر من الزواج فإن هذا هو الأفضل, لكن بشرط أن يكون عنده القدرة المالية والبدينة على الزواج، وأيضاً يعرف من نفسه العدل؛ لأن الله عز وجل قال: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]، فنقول: الأفضل هو التعدد بهذين الشرطين: القدرة وأيضاً أن يعرف من نفسه العدل.قال المؤلف رحمه الله: [لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد على عثمان بن مظعون التبتل]. التبتل: هو عدم النكاح.
الخطبة

حكم النظر إلى المخطوبة
قال المؤلف رحمه الله: [ومن أراد خطبة امرأة فله النظر منها إلى ما يظهر عادة كوجهها وكفيها وقدميها].هنا شرع المؤلف رحمه الله في مسألة النظر إلى المخطوبة, والنظر إلى المخطوبة هذا يترتب عليه أحكام:المسألة الأولى فيما يتعلق بالنظر إلى المخطوبة: حكم النظر إلى المخطوبة, هل النظر إلى المخطوبة مباح أو سنة؟في ذلك رأيان لأهل العلم رحمهم الله: الرأي الأول: وهو ما أفاده كلام المؤلف رحمه الله أن ذلك مباح؛ ولهذا قال: (ومن أراد خطبة امرأة فله النظر), اللام للإباحة، فأفاد أن النظر إلى المخطوبة مباح، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.واستدلوا على ذلك بحديث محمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئٍ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها )، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا بأس أن ينظر إليها )، هذا يدل على الإباحة.وكذلك أيضاً ورد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها )، فقوله: ( فلا جناح عليه أن ينظر إليها ) هذا يدل على الإباحة.الرأي الثاني: أن النظر إلى المخطوبة سنة ومستحب, وليس مباحاً فقط لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث المغيرة بن شعبة : ( انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما )، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( انظر ) هذا أمر، وأيضاً قوله: ( أحرى أن يؤدم بينكما ) هذا يدل على أن هذا الأمر للاستحباب؛ لأن النظر ما دام أنه يترتب عليه هذه المصلحة العظيمة أنه يؤدم بين الزوجين, يعني: يؤلف بين قلبيهما, وأن هذا داع إلى بقاء النكاح واستمراره وعدم انقطاعه, لا شك أن هذه مصلحة عظيمة لا يقال بمجرد الإباحة، وإنما هو مستحب, وهذا القول: هو الأظهر.نقول: النظر إلى المخطوبة الصواب أنه مستحب, وأنه لا يكتفى فيه بمجرد القول بالإباحة؛ لأن النبي علية الصلاة والسلام قال: ( انظر إليها؛ فإنها أحرى أن يؤدم ). يعني: يؤلف بين قلبيكما.
شروط النظر إلى المخطوبة
قال المؤلف رحمه الله: (فله النظر منها إلى ما يظهر عادة).المسألة الثانية ما يشترط للنظر إلى المخطوبة: أشار المؤلف رحمه الله إلى الشرط الأول: وهو أن ينظر إلى ما يظهر عادة, هذا الشرط الأول, ينظر الخاطب من مخطوبته إلى ما يظهر عادة، وما هو الذي يظهر عادة؟ الذي يظهر عادة هو القدمان والكفان والوجه والرقبة والرأس, هذه هي التي ينظر الإنسان إلى محرمه منها, يعني: كأمه وابنته وأخته..الخ, فلا بأس أن الإنسان ينظر إلى قدمي المخطوبة، وينظر أيضاً إلى كفيها، وينظر أيضاً إلى وجهها وإلى رقبتها وإلى رأسها, هذا هو الشرط الأول: أن ينظر إلى ما يظهر عادة.الشرط الثاني: أن لا يكون هناك خلوة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن خلوة الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية, وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما ).الشرط الثالث: أن يكون النظر بقدر الحاجة؛ لأن الأصل في ذلك التحريم, وأن هذه المرأة أجنبية من هذا الشخص, وأبيح له أن ينظر فيكون النظر مقدر بمقدار الحاجة, فإذا احتاج أن يكرر النظر ويعيده مرة أخرى فلا بأس, فإذا نظر إليها ووقعت في قلبه فلا يجوز له أن يكرر النظر مرة أحرى, فنقول: ينظر إليها حتى يعرف من نفسه إما أنه سيقبلها وإما أنه لا يريدها ولا يقبلها.الشرط الرابع: أن لا يكون هذا النظر بشهوة؛ لأن هذه المرأة أجنبية منه, ما دام أنه لم يحصل عقد النكاح فهذه المرأة أجنبية منه, فينظر إليها ولكن لا يكون نظره بشهوة؛ لأنه إذا نظر بشهوة فإنه يكون تلذذ بامرأة لا تحل له, لكن يرد على ذلك أن الإنسان إذا نظر لا يملك الشهوة وستتطرق إليه حين النظر, فنقول: مع ذلك يقوم بمدافعتها, فإذا دافعها فإنها لا تضره.الشرط الخامس: أن تكون المرأة بهيئتها العادية, بحيث إنها لا تخرج عن هيئتها العادية، فلا تتطيب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن تتطيب المرأة بحضرة الرجال، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أيما امرأة مست بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة )، وأيضاً لا تستعمل ما يتعلق بالتحمير والتصفير.. ونحو ذلك, وليس المعنى: أن المرأة تأتي شعثة متبذلة، لكن تكون بهيئتها العادية، تلبس ثياباً نظيفة ولا بأس أن تسكن شعرها ونحو ذلك، أما أن تختضب وأن تحمر وأن تصفر ونحو ذلك فإن هذا لا يجوز؛ لأنها لا تزال امرأة أجنبية.الشرط السادس: أن يكون النظر مباشرة لهذه المرأة, فإن كان النظر عن طريق الصور فهذا منع منه بعض العلماء المتأخرين, وممن منع منه شيخنا ابن عثيمين رحمه الله، فإن النظر إلى الصورة لا يحكي الواقع, فقد يرى الإنسان الصورة ثم بعد ذلك عندما يتزوج ويدخل يختلف عليه الحال, فقد يحصل في هذه الصورة شيء من التدليس أو شيء من عدم الحقيقة فيتغير عليه الحال. وهل له أن يسمع كلامها؟ هل يطلب منها أن تتكلم؟ هذا لا بأس به، رخص فيه أهل العلم, يعني: لو أراد أن ينظر إلى منطقها أو إلى حديثها، وما يتعلق بكلامها هل عليها شيء، يلحظ لسانها أو يريد أن ينظر إلى ما يتعلق برأيها وعقلها، فإن هذا لا بأس به ورخص فيه أهل العلم رحمهم الله, أما الحديث عن طريق الهاتف ونحو ذلك فإن هذا ممنوع؛ لأنه كما سلف هذه المرأة أجنبية من هذا الشخص, وهذه الأشياء إنما تباح بقدر الحاجة.
وقت النظر إلى المخطوبة
المسألة الثالثة فيما يتعلق بالنظر: اختلف أهل العلم رحمهم الله هل النظر يكون قبل الخطبة أو النظر يكون بعد الخطبة؟ اختلف أهل العلم رحمهم الله في ذلك على رأيين:الرأي الأول: النظر يكون بعد الخطبة يعني: يخطب ثم بعد ذلك ينظر, لحديث جابر رضي الله تعالى عنه أنه خطب امرأة من الأنصار فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً ). الرأي الثاني: النظر يكون قبل الخطبة، ينظر أولاً ثم بعد ذلك يخطب ثانياً, واستدلوا على ذلك بما تقدم من حديث محمد بن مسلمة وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئٍ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها ).والأقرب في ذلك أن النظر يكون حسب الحاجة, فقد يحتاج الإنسان أن يخطب ثم ينظر, وقد يحتاج أن ينظر ثم بعد ذلك يخطب, فالنظر: راجع إلى الحاجة وإلى أعراف الناس.
خطبة الرجل على خطبة أخيه
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه إلا أن لا يسكن إليه].لا يخطب الرجل على خطبة أخيه, يحرم على الرجل أن يخطب على خطبة أخيه, ودليل ذلك حديث أبي هريرة في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك ).فيحرم على المسلم أن يخطب على خطبة أخيه, وقول المؤلف رحمه الله: (على خطبة أخيه)، يفيد أنه لا بأس أن يخطب الرجل على خطبة غير أخيه, يعني: يخطب المسلم على خطبة الكافر, لا بأس أن تخطب على خطبة اليهودي، ولا بأس أن تخطب على خطبة النصراني, يعني: يفيد كلام المؤلف رحمه الله أنه يحرم عليك أن تخطب على خطبة المسلم، لكن لا بأس عليك أن تخطب على خطبة النصراني أو على خطبة اليهودي, فالمسلم يباح له أن ينكح النصرانية ويباح له أن ينكح اليهودية كما سيأتينا إن شاء الله ذلك وبيان شروط ذلك, ودليل ذلك قول الله عز وجل: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5]، فقال الله عز وجل: وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5]، فأفادت هذه الآية أنه لا بأس للمسلم أن يتزوج النصرانية, فلو كان هناك نصراني خطب نصرانية فلا بأس للمسلم -على كلام المؤلف رحمه الله- أن يخطب على خطبة هذا النصراني، أو أن يهودياً خطب يهودية فلا بأس للمسلم أن يخطب على خطبة هذا اليهودي, واستدلوا على ذلك بما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ), والأخوة إنما هي أخوة الإسلام فيفهم من ذلك أنه لا بأس أن يخطب الرجل على خطبة الكافر؛ لأن الكافر ليس أخاً للمسلم, فلا بأس أن يخطب على خطبة النصراني أو خطبة اليهودي, ومن باب أولى غير اليهودي وغير النصراني، لا بأس أن يخطب على خطبته, هذا هو المشهور من المذهب.والرأي الثاني: أنه لا يجوز، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ). خرج مخرج الغالب, والقاعدة عند الأصوليين: أن ما كان قيداً أغلبياً فإنه لا مفهوم له. وهذا القول هو الصواب: وأنه لا يجوز للمسلم أن يخطب على خطبة الخاطب مطلقاً لعموم حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يخطب الرجل على خطبة الرجل )، وهذا حديث عام, وأيضاً لما في الخطبة على خطبة الرجل -حتى وإن كان يهودياً أو كان نصرانياً- من الظلم والاعتداء، والظلم حرمه الله على نفسه وحرمه الله عز وجل على عباده, ففي حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله عز وجل: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ). فالصواب في ذلك ما دل عليه حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما الثابت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يخطب الرجل على خطبة الرجل )، وهذا يشمل اليهودي والنصراني, ولما في ذلك من الاعتداء والظلم, والظلم محرم ولا يجوز.
الأسئلة

استخدام المنبه للقيام لصلاة الفجر
السؤال: شخص لا يأتي إلى صلاة الفجر إلا بعد إقامتها يومياً، فنصحه شخص باستخدام الساعة المنبه من أجل الاستيقاظ, وقال له: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, هل هذا استدلال صحيح في بهذه القاعدة؟ الجواب: هذا صحيح؛ لأن صلاة الجماعة واجبة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فكون الإنسان لا يستيقظ إلا بمنبه أو بموقظ يوقظه لصلاة الفجر فاستخدام مثل هذه الأشياء واجب لوجوب صلاة الجماعة, ويجب من صلاة الجماعة إدراك ركعة، فإذا كان هذا الشخص لا يستيقظ إلا بعد الإقامة ويفوت الركعة الأولى فهذا فاته خير كثير, لكنه إذا كان يستيقظ بدون منبه ويدرك ركعة واحدة فاستخدام المنبه هنا غير واجب، وإنما هو مشروع وسنة مؤكدة لكي يدرك الصلاة من أولها. المهم أن استخدام المنبه لإدراك ركعة من صلاة الجماعة واجب؛ لأن الجماعة واجبة ويجب من الجماعة أدراك ركعة؛ لأنه إذا أدرك ركعة فقد أدرك الجماعة لحديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ).
الجلوس مع المخطوبة مع وجود محرم أو وجود نساء
السؤال: هل للخاطب الكلام مع المخطوبة والجلوس معها مع وجود محرم؟ وهل يجوز ما يفعله بعض الناس من كونه يجلس مع المخطوبة بوجود النساء دون الرجال؟ الجواب: تكلمنا عن الكلام مع المخطوبة وقلنا: بأن هذا راجع إلى المصلحة، وأنه إذا احتاج إلى ذلك فلا بأس, وأما الجلوس وإطالة الجلوس مع المخطوبة فإن هذا محرم ولا يجوز؛ لأن الأصل في ذلك التحريم، وإنما هو ينظر إليها بقدر الحاجة، ولا بأس أن يكرر النظر حتى يعرف من قلبه أنه يريد نكاح هذه المرأة أو أنه لا يريد نكاح هذه المرأة.
خلاف العلماء في صحة نكاح من خطب على خطبة أخيه
السؤال: إذا خطب الرجل على خطبة أخيه هل تنعقد الخطبة الثانية؟الجواب: إذا خطب على خطبة أخيه هل يصلح العقد أو لا يصح العقد؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم, يعني: لو أن رجلاً خطب على خطبة أخيه المسلم ثم عقد للثاني فهل يصح العقد أو لا يصح العقد؟ هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله سيأتي بيانه بإذن الله، ففيه رأيان:جمهور أهل العلم أن العقد صحيح.والرأي الثاني قول الإمام مالك رحمه الله في رواية عنه، وهو قول الظاهرية: أن عقد النكاح باطل ولا يجوز.
طلاق الزوجة الممتنعة من الجماع
السؤال: ما حكم طلاق المرأة التي ترفض الجماع؟الجواب: الأصل في الطلاق أنه مكروه لقول الله عز وجل: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227]، فقال الله عز وجل في الطلاق: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:227] وفي هذا نوع من التهديد، فالأصل في الطلاق أنه مكروه، ولما يترتب على ذلك من تفويت تلك المصالح العظيمة المتعلقة بالنكاح, لكن إذا احتاج الزوج إلى ذلك فإنه لا بأس كما إذا نشزت المرأة وامتنعت مما يجب عليها من حق الزوج فيما يتعلق بالاستمتاع، فإنه لا بأس له أن يطلقها.
النظر إلى شعر المخطوبة
السؤال: هل يجوز النظر إلى شعر المخطوبة؟الجواب : هذا تكلمنا عليه وقلنا: هذا جائز, يجوز للخاطب أن ينظر إلى شعر المخطوبة، يجوز له أن ينظر إلى رأسها, حتى ولو كانت حاسرة لا بأس؛ لأن الشعر مما يقصد في النكاح، وأيضاً مما يرغّب الأزواج في نكاح هذه المرأة.
معنى قوله في الحديث (فإنه له وجاء)
السؤال: ما معنى: (فإنه له وجاء)؟ الجواب: الوجأ في اللغة هو القطع، فالصوم يقطع الشهوة ويخفف غلمة الرجل، هذا قوله عليه الصلاة والسلام: ( فإنه له وجاء ).
حمل حديث: (على خطبة أخيه) على حديث: (على خطبة الرجل)
السؤال: ألا يمكن أن نقول: إن حديث أبي هريرة ( على خطبة أخيه ), خاص وحديث ابن عمر ( على خطبة الرجل ) عام, والخاص يقضي على العام؟الجواب: نقول: لا، نحن نقول: أصلاً قوله: ( على أخيه ) قيد أغلبي ليس مقصوداً للشارع, فأصلاً قوله ليس مقصوداً حتى نقول: بأن الخاص يقضي على العام.
مذهب الظاهرية
السؤال: ما معنى: قول الظاهرية؟الجواب : الظاهرية مذهب من المذهب الفقهية التي تأخذ بظواهر النصوص, يعني: ما دل عليه الظاهر دون النظر إلى المعنى، فهم يأخذون بظاهر النص ويجمدون على ظاهر النص دون النظر إلى معاني الشريعة, ولهم كتب ومؤلفات وعلماء، ومن أشهر كتبهم الموجودة الآن كتاب المحلى لـابن حزم رحمه الله تعالى، ومن أئمتهم داود الظاهري رحمه الله.فهم سموا الظاهرية نسبة إلى أهل الظاهر الذين يأخذون بظواهر النصوص دون النظر إلى المعاني، وأيضاً ينكرون القياس فلا يستدلون به.
النظر إلى قدم المخطوبة
السؤال: النظر لقدم المرأة هل هو جائز؟الجواب: نعم، تكلمنا على هذا وقلنا: لا بأس أن ينظر إلى يديها وكفيها ووجهها ورقبتها ورأسها.
الخطبة على خطبة تارك الصلاة
السؤال: ما حكم الخطبة على خطبة تارك الصلاة؟الجواب: تارك الصلاة لا يصح تزوجه كما سيأتينا إن شاء الله في الكفاءة, وإذا كان لا يصح تزوجه لا بأس أن تخطب على خطبته, إذا كان فعلاً تاركاً للصلاة فإنه لا يصح تزويجه كما سيأتي إن شاء الله في أحكام الكفاءة, وإذا كان كذلك فلا بأس أن يخطب على خطبته.
النظر إلى المخطوبة بعد الخطبة
السؤال: ما الدليل على قول بعض العلماء: إن النظر للمرأة يكون بعد الخطبة؟الجواب: الدليل على ذلك حديث جابر رضي الله تعالى عنه, فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر له جابر أنه خطب امرأة فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( انظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئاً )، قال العلماء: في أعين الأنصار شيء من الصغر.

ابو وليد البحيرى
2019-04-18, 05:50 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب النكاح [2]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(77)


التصريح والتعريض في الخطبة يختلف بحسب اختلاف حال المرأة، والنكاح الصحيح له شروط لا بد من وجودها، منها: الولي، وشاهدي عدل.
تابع الخطبة
أيها الأحبة تقدم لنا طرف من أحكام النكاح, وذكرنا من ذلك تعريف النكاح في اللغة والاصطلاح, وما هو الأصل فيه من حيث الدليل, وما هو الأصل فيه من حيث الحكم الشرعي, وذكرنا رأيين في ذلك: هل الأصل فيه الوجوب أو الاستحباب؟ وتطرقنا أيضاً لما يتعلق بأحكام النظر إلى المخطوبة، وشروط النظر إليها، وحكم النظر هل هو مباح أو مستحب، وذكرنا في ذلك رأيين, وذكرنا أيضاً هل النظر يكون قبل الخطبة أو يكون بعد الخطبة، وذكرنا في ذلك رأيين لأهل العلم رحمهم الله، وأن الأقرب في هذه المسألة أن ذلك يرجع إلى حاجة الخاطب, ثم بعد ذلك تعرضنا لحكم الخطبة على خطبة المسلم، وأن الخطبة على خطبة المسلم محرمة ولا تجوز, والدليل على ذلك حديث أبي هريرة وحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهم اللذين أوردناهما في الدرس السابق, وتكلمنا أيضاً عن حكم الخطبة على خطبة غير المسلم كأن يخطب المسلم على خطبة النصراني أو خطبة اليهودي، وأن المؤلف يفهم من كلامه أن هذا لا بأس به يعني: لا بأس أن يخطب المسلم على خطبة اليهودي أو خطبة النصراني, وذكرنا أن الأقرب في هذه المسألة: أن هذا محرم ولا يجوز لما في ذلك من الظلم والاعتداء.
حالات جواز خطبة المسلم على خطبة أخيه
قال المؤلف رحمه الله: [إلا أن لا يسكن إليه]. الأصل أنه لا يجوز للمسلم أن يخطب على خطبة الرجل إلا أنه يستثنى من ذلك مسائل يجوز فيها أن يخطب المسلم على خطبة الرجل:الحالة الأولى: إذا لم يسكن للخاطب الأول فلا بأس أن يخطب المسلم على خطبته, فلو أن رجلاً خطب امرأة ثم بعد ذلك رد ولم تقبل خطبته فإنه لا بأس أن يخطب أحد على خطبته، والدليل على ذلك أنه إذا رد ولم يسكن إليه فإنه ليس له حق في هذه الخطبة؛ لأن خطبته قد ردت، وحينئذ إذا خطب المسلم على خطبته فليس بذلك ظلم ولا اعتداء.الحالة الثانية: أن يترك الخطبة, إذا خطب هذه المرأة ثم بعد ذلك ترك خطبتها فلا بأس للخاطب الثاني أن يخطب على خطبته, ويدل لذلك حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك )، فدل قوله: ( حتى ينكح أو يترك ) أن الخاطب الأول إذا ترك الخطبة فلا بأس أن نخطب على خطبته؛ ولأنه أيضاً لا حق له في ذلك حينئذ؛ لأنه تنازل عن حقه.الحالة الثالثة: أن يستأذن الخاطب الثاني الخاطب الأول في أن يخطب على خطبته, فإذا استأذن الخاطب الثاني الخاطب الأول في أن يخطب على خطبته فإن هذا لا بأس به , يدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يخطب الرجل على خطبة الرجل حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن )، فدل ذلك على أن الخاطب الثاني إذا استأذن الخاطب الأول في أن يخطب على خطبته أن هذا لا بأس به, لكن يشترط للإذن أن لا يكون إذنه عن حياء، فإن كان إذنه عن حياء فإنه لا يجوز؛ لأنه قد يستأذنه في أن يخطب على خطبته فيستحي من أن يرده فيأذن له، فإذا علمنا أنه قد أذن له عن حياء فلا يجوز أن نخطب على خطبته؛ لأنه وإن رضي في الظاهر فإنه لم يرض في الباطن, وهذه قاعدة في سائر الهبات, سواء كانت هذه الهبات تتعلق بالأعيان أو تتعلق بالمعاني, كل إنسان وهب هبة إذا علمت أنه وهب هذه الهبة عن حياء وخجل فإنه لا يجوز لك أن تقبل.الحالة الأخيرة: إذا جهل الأمر, يعني: لو أن هذا الرجل خطب وجهلنا الأمر، لا ندري هل يعطوه أو لا يعطوه, هل يجوز أن نخطب على خطبته أو لا؟ في ذلك رأيان لأهل العلم رحمهم الله.الرأي الأول: أنه يجوز أن نخطب على خطبته, فلو أن زيداً من الناس خطب هذه المرأة وحتى الآن الولي لم يعطه ولم يرده وهو لم يترك الخطبة، فهل يجوز أن نخطب على خطبته أو لا يجوز أن نخطب على خطبته؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه لا بأس أن نخطب على خطبته، والمحرم عندهم أن لا تخطب على خطبته إذا أعطي, لو أنه قبل لكنه لم يعقد له عقد النكاح فهذا هو الذي لا يجوز لك أن تخطب على خطبته, أما لو أنه خطب وحتى الآن لم يعطه الولي، قد يعطه الولي وقد يرده الولي، فهل لك أن تخطب على خطبته؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن لك أن تخطب على خطبته، واستدلوا على ذلك بأن فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها خطبها ثلاثة أسامة بن زيد ومعاوية بن أبي سفيان وأبو الجهم , فاستشارت النبي صلى الله عليه وسلم, فأشار عليها أن تنكح أسامة , فقالوا: بأن فاطمة رضي الله تعالى عنها خطبها ثلاثة، فدل ذلك على أنه إذا خطب الرجل وجهلنا الأمر هل يعطيه الولي؟ هل تقبله المرأة أو لا تقبله المرأة؟ أنه لا بأس أن تخطب على خطبته. والرأي الثاني: أن هذا لا يجوز؛ لأنه إذا خطب أصبح له حق في هذه الخطبة, وكونك تخطب على خطبته هذا في اعتداء وظلم. وهذا القول: هو الصوب, فالصواب في هذه المسألة أن الإنسان إذا خطب امرأة لا يجوز لك أن تخطب على خطبته حتى وإن لم يعط، ما دام أنه لم يرد فلا تخطب على خطبته حتى يترك الخطبة أو يرد أو يأذن لك لا عن حياء وخجل, فالصواب في ذلك أنه إذا خطب رجل امرأة وجهل الأمر هل يعطيه الولي أو لا يعطيه الولي فإنه لا يجوز لك أن تخطب على خطبته حتى يرد أو يعطى أو يأذن لك في الخطبة. هذا هو الصواب؛ لأنه ربما أن هذا الشخص الذي خطب قد يكون الولي ركن إليه ويريد أن يعطيه لكن احتاج أن يستشير أو يستخير أو غير ذلك, فله شيء من الحق، فكونك تأتي وتخطب على خطبته هذا فيه نوع من الظلم والاعتداء. وأما قصة فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها, وكونه خطبها ثلاثة فهذا لا يدل على الجواز؛ لأن كلاً من هؤلاء الثلاثة جهل أن فلاناً قد خطب, يعني: معاوية خطب وأسامة خطب وأبو الجهم خطب وكل منهم لا يدري أن الآخر قد خطب قبله, فهم معذورون في هذه الحال.
خطبة المعتدة والبائن
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يجوز التصريح بخطبة معتدة، ويجوز التعريض بخطبة البائن خاصة]. التصريح: هو ما لا يحتمل إلا النكاح, كأن يقول: أريد أن أتزوجك. والتعريض بالخطبة هو الذي يحتمل النكاح وغيره, كأن يقول: أنت امرأة صالحة, أو أنا محتاج إلى امرأة صالحة, أو كما مثل المؤلف رحمه الله قال: لا تفوتيني بنفسك أو أنا في مثلك لراغب, أو أنا راغب في زوجة مثلك.. إلخ. المهم الضابط في التصريح في الخطبة أن التصريح في الخطبة هو الذي لا يحتمل إلا النكاح، وأما التعريض فهو الذي يحتمل النكاح وغيره. المرأة لا تخلو من أمرين:الأمر الأول: أن تكون غير معتدة, ليست متعلقة بعدة بسبب طلاق أو وفاة أو فسخ أو خلع أو غير ذلك, فهذه يجوز للمسلم أن يخطبها ما لم تكن محرمة بحج أو عمرة, المحرمة بحج أو عمرة لا يجوز خطبتها.الأمر الثاني: المرأة المعتدة, فما حكم خطبة المرأة المعتدة؟نقول: المعتدات ينقسمن إلى ثلاثة أقسام:القسم الأول: المعتدة الرجعية: وهي التي طلقها زوجها دون ما يملك من عدد الطلقات بلا عوض, يعني: طلقها طلقة واحدة أو طلقتين, فإذا طلقت طلقة واحدة أو طلقت طليقتين فإنها تلحقها العدة ثلاثة قروء كما قال الله عز وجل: وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] ، فهي الآن في أثناء العدة, هل يجوز لك إذا طلقها زوجها طلقة أو طلقها طلقتين أن تخطبها أو لا يجوز لك أن تخطبها؟نقول: المعتدة الرجعية لا يجوز أن تخطب مطلقاً, لا تصريحاً ولا تعريضاً؛ لأن الرجعية زوجة كسائر الزوجات؛ ولهذا قال الله عز وجل: وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228] أي في العدة إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228]، فسمى الله عز وجل الزوج المطلق بعلاً, فدل ذلك على أن الرجعية زوجة كسائر الزوجات, لا تفارق سائر الزوجات إلا في بعض المسائل ذكرها ابن رجب رحمه الله في قواعده, وإلا فالأصل أن الرجعية التي طلقت طلقة أو طلقتين زوجة لها حق النفقة، لها حق الكسوة، لها حق السكن، لا تخرج من البيت إلا بإذن الزوج, هي مباحة للزوج أن ينظر إليها، له أن يخلو بها, لها أن تتجمل له.. إلخ, فهي زوجة كسائر الزوجات, وإذا كانت زوجة كسائر الزوجات فما دامت في العدة فإنه لا يجوز لغير الزوج أن يخطبها لا تعريضاً ولا تصريحاً, هذا القسم الأول المعتدة الرجعية.القسم الثاني: المبانة بدون الثلاث, يعني: المعتدة التي أبينت بدون الثلاث, وهذه كالتي طلقت على عوض, يعني: امرأة طلقت طلقه واحدة بعوض أو خلعت خلعاً, فالطلاق بعوض هذا خلع أو خلعها زوجها بعوض, أو فسخت بعوض, أو فسخت لفوات شرط أو لوجود مانع لوجود عيب, فالمفسوخة والمختلعة بانت بينونة صغرى، فما دامت في العدة يجوز لزوجها أن يخطبها تعريضاً وتصريحاً, فلو أن رجلاً طلق زوجته على عوض خلعها أو أنها فسخت منه لفوات شرط أو لوجود عيب, فما دامت في العدة يجوز لزوجها أن يخطبها تعريضاً وتصريحاً؛ لأن الزوج يجوز له أن يعقد عليها في العدة, وأما غير الزوج فله أن يخطبها في عدتها تعريضاً لا تصريحاً بأن يعرض بحيث يذكر ألفاظاً تحتمل النكاح وغيره كما سبق تمثيله، وأما التصريح فإنه لا يجوز, التصريح هذا لا يجوز لقول الله عز وجل: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ [البقرة:235] ، هذا القسم الثاني من أقسام المعتدات وهي التي المبانة بدون الثلاث, التي أبينت بينونة صغرى بحيث إن الزوج خلعها أو طلقها على عوض وهو الخلع, أو فسخت لفوات شرط أو لوجود عيب, فهذه قلنا: للزوج أن يخطبها تعريضاً وتصريحاً, وأما غير الزوج فله أن يخطبها تعريضاً وأما التصريح فليس له ذلك.القسم الثالث: المبانة بينونة كبرى, أو التي توفي عنها زوجها، فالمبانة بينونة كبرى, وهي التي طلقها زوجها نهاية ما يملك من عدد الطلقات, فهذه التي أبانها زوجها بينونة كبرى طلقها آخر الطلقات الثلاث لا يجوز لزوجها أن يخطبها لا تعريضاً ولا تصريحاً؛ لأنها لا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره, وأما غير الزوج فيجوز له أن يخطبها تعريضاً لا تصريحاً, لما تقدم من الآية؛ ولأن النبي عليه الصلاة والسلام عرض بـأم سلمة رضي الله تعالى عنها. مثل ذلك أيضاً: المتوفى عنها زوجها, الزوج أمره ظاهر قد مات, لكن غير الزوج له أن يعرض في خطبتها ما دامت في العدة وأما التصريح فإنه لا يجوز. فأصبح عندنا المعتدات ينقسمن إلى ثلاثة أقسام:القسم الأول: المعتدة الرجعية هذه لا يجوز أن تخطب لا تعريضاً ولا تصريحاً؛ لأنها زوجة، وزوجها له أن يراجعها في عدتها. القسم الثاني: المبانة بدون الثلاث وهي التي خلعت أو فسخت بفوات شرط أو وجود عيب, هذه يجوز لزوجها أن يخطبها تعريضاً وتصريحاً, وأما غير الزوج فإنه يجوز له أن يخطبها تعريضاً لا تصريحاً. القسم الثالث: المبانة بالثلاث، المبانة بينونة كبرى التي طلقها زوجها نهاية ما يملك من العدد، فهذه لا يجوز لزوجها أن يخطبها لا تعريضاً ولا تصريحاً, وأما غير الزوج فإنه يخطبها تعريضاً لا تصريحاً, كذلك أيضاً المتوفى عنها تخطب تعريضاً لا تصريحاً.
أركان النكاح
قال المؤلف رحمه الله: [ولا ينعقد النكاح إلا بإيجاب من الولي أو نائبه فيقول: أنكحتك أو زوجتك، وقبول من الزوج أو نائبه فيقول: قبلت أو تزوجت]. الآن شرع المؤلف رحمه الله في بيان أركان النكاح، فأركان النكاح ركنان:الركن الأول: الإيجاب والقبول.والركن الثاني: الزوجان.الإيجاب: هو اللفظ الصادر من الولي أو من يقوم مقامه كالوكيل.والقبول: هو اللفظ الصادر من الزوج أو من يقوم مقامه ****ل الزوج.
شروط الإيجاب والقبول
الإيجاب والقبول يشترط له شروط:الشرط الأول: أن يكون الإيجاب بلفظ الإنكاح أو التزوج، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله وكذلك أيضاً مذهب الشافعي .يعني: الولي إذا أراد أن يزوج فإنه يقول: زوجتك أو يقول: أنكحتك, لو قال: ملكتك ابنتي, ما يجزئ عند الشافعية والحنابلة، لو قال: جوزتك ابنتي هذا لا يجزئ, لا بد من لفظ: زوجت أو أنكحت, لو قال: ملكت أو قال: وهبت أو قال: جوزت، هذا لا يجزئ، لا بد من لفظ التزويج: زوجت أو لفظ الإنكاح: أنكحت.هذا بالنسبة للإيجاب, قالوا: لا بد أن يكون الإيجاب بهذين اللفظين فقط ولا يتعداهما, وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله ومذهب الشافعي , وأما القبول فيصح بأي لفظ، لو قال الزوج: قبلت أو قال: رضيت أو قال:لا بأس أو قال: تزوجت.. إلخ, فيصح بأي لفظ, أما الإيجاب فلا بد أن يكون بهذين اللفظين. دليلهم على ذلك قالوا: إن هذا هو الذي ورد في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فالذي ورد هو لفظ الإنكاح أو لفظ التزويج, كما قال الله عز وجل: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]. وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج..إلخ )، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب الشافعي . وعند الإمام أبي حنيفة أن هذا ليس شرطاً، فيصح أن ينعقد الإيجاب بكل ما دل عليه العرف, وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, فإذا قال: زوجتك ابنتي أو قال: جوزتك ابنتي, أو قال: أنكحتك ابنتي أو قال: ملكتك ابنتي, فإن هذا جائز ولا بأس به.يدل على ذلك أدلة من ذلك: حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يرَ فيها النبي حاجة فقال: رجل من أصحابه زوجنيها يا رسول الله..الخ, وفي الحديث قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ملكتكها بما معك من القرآن ), والله عز وجل قال: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ [الأحزاب:50]، وأيضاً النبي عليه الصلاة والسلام أعتق صفية وجعل عتقها صداقها, قال: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك, فهذا يدل على أن النكاح ينعقد بغير لفظ الإنكاح أو التزويج, وهذا القول هو الصواب, فالشرط الأول أن يكون الإيجاب بلفظ التزوج أو الإنكاح هذا فيه نظر.الشرط الثاني: الاتصال بين الإيجاب والقبول, فلا بد من الاتصال بينهما, فإذا قال: زوجتك لا بد أن يكون القبول متصلاً بالإيجاب حقيقة أو حكماً, حقيقة: أن يقول الزوج مباشرة: قبلت, أو حكماً يحصل شيء من السعال أو العطاس أو التثاؤب ثم بعد ذلك يقول الزوج: قبلت. والصواب في ذلك أنه لا يشترط الاتصال إذا كان الفاصل يسيراً عرفاً من كلام أو سكوت يسيرين, فإن هذا لا بأس به, فلو قال: زوجتك، واحتاج الزوج إلى أن يتأمل أو أن يسأل عن هذه المرأة، وكان الفاصل من الكلام يسيراً عرفاً فإن هذا لا بأس به؛ لأن اليسير ملحق بالعدم، وهذا هو الصواب.الشرط الثالث: أن يوافق القبول الإيجاب, أما إذا خالفه فلا ينعقد النكاح، فلو مثلاً قال: زوجتك فقال:لم أقبل, فإن النكاح لا ينعقد, لا بد أن يوافق القبول الإيجاب, هذه شروط الإيجاب والقبول. وهل يشترط في حال الإيجاب أن تكون المرأة طاهرة من دورتها الشهرية من الحيض أو يصح العقد عليها حتى وإن كان عليها الحيض عليها الدورة الشهرية؟ نقول: يصح أن يعقد عليها حتى ولو كانت غير طاهر, وهذه تلتبس على كثير من الناس يظن أنه لا بد أن تكون المرأة طاهرة من دورتها الشهرية, فنقول: يصح العقد على المرأة حتى وإن كان عليها حدث الحيض.
خطبة عقد النكاح وإعلانه

خطبة عقد النكاح
قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب أن يخطب قبل العقد بخطبة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: ( علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الحاجة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ... إلخ )].هذه الخطبة ليست خاصة في عقد النكاح بل كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تستعمل هذه الخطبة في مخاطبة الناس بالعلم, في تعليم الناس كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وموعظتهم ومجادلتهم في بدء الخطب.. إلخ, فليست خاصة بعقد النكاح, لكن يستحب فيه؛ لأن عقد النكاح من الأمور التي يحتاج إليها، فيستحسن أن يبدأ العاقد الذي يقوم بالعقد بقراءة هذه الخطبة، وهذه الخطبة سواء قرأها الولي أو قرأها الزوج أو قرأها أحد الحاضرين من الشهود أو غيرهم, المهم أن تقرأ هذه الخطبة.قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب أن يخطب قبل العقد بخطبة ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم )].قوله: (ونتوب إليه) هذه ليست واردة في الحديث, فإدخال المؤلف رحمه الله هذه اللفظة في هذه الخطبة مع أنها ليست واردة في الحديث فيه نظر، وفيه نوع من التساهل، وألفاظ الأذكار توقيفية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: بأن لفظة: (ونتوب إليه) ليست واردة في الحديث، فلا تذكر عند إيراد هذه الخطبة.قال: (ثم يذكر الآيات الثلاث الآية الأولى في سورة آل عمران) أشار إليها بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، ثم بعد ذلك الآية الثانية في أول سورة النساء, والآية الثالثة في آخر سورة الأحزاب كما هي معروفة.أيضاً استحب طائفة من أهل العلم إذا خطب بخطبة النكاح أن يذكر بعض الأدلة الواردة في النكاح والتي ترغب في النكاح، ويذكر أيضاً العاقد شيئاً من ثمرات النكاح وفوائده, وشيئاً من الحقوق الزوجية ويوصي الزوج بهذه الحقوق.. إلخ.
إعلان النكاح
قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب إعلان النكاح]. يستحب إعلان النكاح، هذا هو المشهور من المذهب. والرأي الثاني:أن إعلان النكاح واجب, وهذا القول هو الصواب, الصواب أن إعلان النكاح واجب ولا يجوز كتمانه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح )، وهذا حديث حسن؛ ولأن التواصي بكتمان النكاح يلحقه بنكاح السر الذي هو الزنا, ففيه تشبه بفاحشة الزنا؛ لأن الزنا هو الذي يكون عن طريق السر؛ ولأن إعلان النكاح فيه فائدة وفيه ثمرة، فقد يكون شيء من الرضاع أو نحو ذلك, فيعلمه الناس وينتشر بين الناس..إلخ. فالصواب في ذلك أن إعلان النكاح واجب, وأما قول المؤلف: يستحب إعلانه فهذا فيه نظر, وإعلان النكاح يرجع فيه إلى العرف, يعني: كيفية الإعلان يرجع فيه إلى العرف, فمثلاً: كون الزوج يفتح بابه أو يدعو طائفة من أصحابه إلى وليمة العرس، ويفتح شيئاً من أنواره..الخ, فهذه كله داخلة في إعلان النكاح ونشره, المهم أنه لا يتواصى بكتمان النكاح؛ لأنه إذا توصي بكتمان النكاح فإن هذا يلحقه بنكاح السر الذي هو الزنا.
الضرب بالدف في النكاح
قال المؤلف رحمه الله: [والضرب عليه بالدف للنساء].أفاد رحمه الله أن الضرب بالدف خاص بالنساء، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم خلافاً لمذهب الإمام مالك رحمه الله، فإن مذهب المالكية يعممون الضرب بالدف للرجال والنساء, والصواب في ذلك ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح )، وقال النبي عليه الصلاة والسلام لما زفوا امرأة من الأنصار إلى زوجها: ( هل بعثتم معها بلهو فإنا لأنصار قوم يعجبهم اللهو؟ ), فنقول: لا بأس للنساء أن تضرب بالدف في العرس، وهذا خاص بالنساء، والضرب بالدف من إعلان النكاح, ويشترط له شروط:الشرط الأول: أن يكون للنساء خاصة على ما ذهب إليه جمهور أهل العلم ؛ لأن هذا هو الذي ورد, ولم يرد أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ضربوا بالدف في الأعراس، وإنما كان يضرب به النساء، هذا الشرط الأول. الشرط الثاني: أن لا يكون في ذلك إطالة, وإنما يضرب بالدف بحسب ما يحتاج إليه من إعلان النكاح، وأن لا يكون هناك شيء من الإطالة.الشرط الثالث: أن يكون الدف خاصة دون بقية آلات اللهو كطبل وغيره، فإن الأصل في هذه الأشياء المنع والتحريم.
ولاية النكاح

شروط النكاح
قال المؤلف رحمه الله: [باب ولاية النكاح].هنا ترجم المؤلف رحمه الله بشرط من شروط النكاح, ولو قال المؤلف رحمه الله: باب شروط النكاح لكان أحسن؛ لأن هذا الباب ذكر فيه المؤلف رحمه الله ولاية النكاح، وذكر فيه أيضاً شروط النكاح, فالمؤلف رحمه الله ترجم بشرط من شروط النكاح, ولو أنه عنون بشروط النكاح كلها كما فعل غيره لكان أحسن.
الولي
قال المؤلف رحمه الله: [لا نكاح إلا بولي]. هذا هو الشرط الأول من شروط صحة النكاح: أن يكون هناك ولي للمرأة يتولى عقد النكاح لها, ويدل لذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل )، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه وإسناده ثابت. وكذلك أيضاً حديث أبي موسى وحديث عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل )، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الإمام أحمد وصححه أيضاً الترمذي وصححه يحيى بن معين ..إلخ. وكذلك أيضاً حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها )، وهذا أخرجه الدارقطني ، وصححه طائفة من أهل العلم.فالشرط الأول أن يكون هناك ولي للمرأة, الدليل عليه ما سمعتم من هذه الأدلة, وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله. وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن المرأة إذا كانت بالغة عاقلة حرة, لها أن تزوج نفسها يعني: يشترط أن تكون حرة ليست أمة، وأن تكون بالغة, ليست صغيرة لم تبلغ, وأن تكون عاقلة، فإذا توافرت هذه الشروط الثلاثة فلها أن تزوج نفسها, واستدلوا على ذلك بدليلين: أما الدليل الأول فقول الله عز وجل: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232].وأما الدليل الثاني: فالقياس على المال, فكما أن المرأة لها أن تبيع بيتها وأن تشتري عقاراً وأن تتاجر بأموالها, كذلك أيضاً لها أن تعقد على بضعها، فما دام أن لها أن تعقد على مالها كذلك أيضاً لها أن تعقد على بضعها, هذا هو المشهور من مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله. والصواب في ذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل ).وأما قوله سبحانه وتعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ [البقرة:232] فهذا خطاب للولي, نزلت في معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه حينما طلق زوج أخته أخته، فأبى معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه أن يرد هذه الأخت على زوجها..الخ, فنزلت هذه الآية، والخطاب هنا للولي، فهذا فيه دليل للجمهور أن الخطاب الوارد في الكتاب أو السنة إنما هو موجه للأولياء, فدل ذلك على اعتبار الولاية. وأما القياس على المال فهذا القياس مع الفارق؛ لأن الأبعاض يحتاط لها ما لا يحتاط للأموال، فرق بين العقد على البضع والعقد على المال.فالصواب في ذلك أنه تشترط الولاية.
شاهدا عدل
قال المؤلف رحمه الله: [وشاهدين من المسلمين]. هذا هو المشهور من المذهب أنه تشترط الشهادة، وهذا أيضاً مذهب الشافعي رحمه الله تعالى أنه لا بد من الشهادة، وهو قول جمهور أهل العلم تشترط الشهادة, يدل لذلك ما تقدم من حديث أبي موسى وحديث عمران أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ).وكذلك أيضاً من الأدلة على ذلك ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا بد في النكاح من أربعة: من الزوج والولي والشاهدين )، وهذا الحديث ضعيف لا يثبت, لكن يستدل لذلك بقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ).والرأي الثاني: رواية عن الإمام أحمد رحمه الله وقول للإمام مالك أن الشهادة في النكاح ليست شرطاً؛ لأن كثيراً من الأنكحة وقعت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ولم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أحضر لها شهوداً, ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي عليه الصلاة والسلام فلم يرَ فيها النبي عليه الصلاة والسلام حاجة فقال رجل من أصحابه: زوجنيها يا رسول الله ..إلخ, وفي الحديث قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ملكتكها بما معك من القرآن ). ومن أدلة الجمهور الذي اشترطوا الشهادة أن الله عز وجل قال في الرجعة: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]، وهذا في مراجعة المرأة, فالله عز وجل أمر بالإشهاد في مراجعة المرأة، ففي ابتداء نكاحها من باب أولى أن يشهد. الذين قالوا: لا يجب الإشهاد قالوا: بأن اشتراط الشهادة يدل عليه أن كثيراً من الأنكحة وقعت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام, ولم يشترط له الشهادة, ولم ينقل إحضار الشهود أو الاعتناء بهذا الأمر, ومن ذلك حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه. الرأي الثالث: رأي الإمام مالك قال: بأن الشهادة ليست شرطاً، هذا الراجح من مذهب الإمام مالك أن الشهادة ليست شرطاً في عقد النكاح, لكن يشترط الإشهاد قبل الدخول, يعني: لو أنه عقد بلا شهادة فالعقد صحيح لكن يشترط الإشهاد قبل الدخول على المرأة, فإذا حصل الإشهاد قبل الدخول على المرأة فإن العقد صحيح, فلو أنه لم يشهد في حال العقد واكتفي بالشهادة عن الدخول فإن هذا كاف, هذا هو الراجح من مذهب الإمام مالك رحمه الله، وله رواية أخرى -كما تقدم- أن الشهادة ليست شرطاً مطلقاً. والأقرب في ذلك والأحوط هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم, وأن الشهادة تشترط. الذين قالوا بأن الشهادة ليست شرطاً قالوا: بأن هذا لو كان شرطاً لتوافرت الدواعي على نقله واشتهر, ولم ينقل مثل ذلك. فنقول: هذا فيه نظر, وأما حديث سهل بن سعد فالنبي عليه الصلاة والسلام زوجها بمحضر من الصحابة، وهذه شهادة، وأيضاً يدل لذلك حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه, وهذا الحديث صححه جمع من الأئمة رحمهم الله، وهذا هو أحوط وأبرأ للذمة وخصوصاً فيما يتعلق بعقد النكاح، فإنه يحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره. الذين قالوا بعدم اشتراط الشهادة استدلوا بالقياس على سائر العقود, فقالوا: كما أن عقد البيع لا يشترط فيه الشهادة فلو أن الإنسان باع أو اشترى وكذلك عقد الرهن وعقد الشركة..إلخ فكذلك أيضاً عقد النكاح, لكن يفرق كما تقدم لنا بين هذه العقود المالية وبين عقد النكاح؛ لأن عقد النكاح يحتاط فيه ما لا يحتاط في مثل هذه العقود المالية. قال: (وشاهدين من المسلمين), اشترط المؤلف رحمه الله بالنسبة للشاهدين أن يكونا مسلمين.
ترتيب الأولياء
قال المؤلف رحمه الله: [وأولى الناس بتزوج الحرة أبوها ثم أبوه وإن علا، ثم ابنها ثم ابنه وإن نزل، ثم الأقرب فالأقرب من عصبتها ثم معتقها، ثم الأقرب فالأقرب من عصبته، ثم السلطان]. نلخص الولاية في النكاح: أولاً: الأصول، ثم بعد ذلك: الفروع، ثم بعد ذلك: الحواشي, ثم بعد ذلك: العصبة بالسبب، ثم بعد ذلك: السلطان. فالأصول في ولاية المرأة: الأب ثم بعد ذلك: الجد وإن علا، ثم بعد ذلك إذا لم يكن هناك شيء من الأصول ننزل إلى الفروع: الابن ثم ابن الابن ثم ابنه وإن نزل, ثم بعد الفروع الحواشي: الإخوة: الأخ الشقيق، ثم بعد ذلك الأخ لأب، ثم أبناؤهم: ابن الأخ الشقيق، ثم ابن الأخ لأب, إذا لم يكن هناك شيء من الإخوة ولا من بنيهم نرجع إلى الأعمام: العم الشقيق ثم بعد ذلك العم لأب ثم ابن العم الشقيق ثم ابن العم لأب, فإن لم يكن هناك شيء من الحواشي, وكان هناك عصبة بالسبب وهو المعتق, لو كان هناك معتق أعتق هذه المرأة, لو أن هذه المرأة أعتقها زيد من الناس، ولم نجد لها أصولاً ولا فروعاً ولا حواشي, فإن الذي يقوم بالعقد عليها معتقها؛ لأنه يرثها, فإن لم يكن المعتق موجوداً فإن عصبته يقومون مقامه, وبالنسبة لعصبة المعتق نبدأ بالفروع ثم الأصول ثم الحواشي, يعني: أبناؤه وأبناء أبنائه، فإن لم يكن فآباؤه فآباء أبائه، فإن لم يكن نرجع إلى الحواشي, إلى إخوانه وبنيهم ثم أعمامه وبنيهم..إلخ, وإن نزل هؤلاء الأبناء, يعني: أبناء الإخوة وأبناء الأعمام, فالترتيب في ولاية المرأة: الأصول ثم الفروع ثم الحواشي ثم العصبة بالنسب ثم العصبة بالسبب (المعتق), فإن لم يكن المعتق موجوداً فروعه ثم أصوله ثم بعد ذلك حواشيه, فإذا لم يكن شيء من ذلك فالسلطان.وقوله: (ثم السلطان) الآن الذي ينوب عن السلطان هو قاضي الأنكحة في المحاكم الشرعية, هذا الذي يتولى العقد على هذه المرأة.ويفهم من قوله: (السلطان) أن ذوي الأرحام لا دخل لهم في ولاية النكاح, يعني: المرأة لا يتولى العقد لها خالها, ولا يتولى العقد لها جدها من قبل الأم، ولا يتولى العقد لها أخوها من قبل الأم, فذوي الأرحام هؤلاء لا يتولون العقد لها, إن كان هناك أصول لها أو فروع أو حواشي أو عصبة بالسبب فإن لم يوجد فالذي يتولى إنكاحها هو القاضي الشرعي أو يوكل القاضي الشرعي من يقوم بالعقد عليها.قال: (ثم ابنه ثم الأقرب فالأقرب من عصبتها), قلنا: بعد الفروع يُبدأ بالإخوة: الأخ الشقيق ثم الأخ لأب ثم ابن الأخ الشقيق وإن نزل، ثم ابن الأخ لأب ثم العم الشقيق، ثم العم لأب، ثم ابن العم الشقيق ثم ابن العم لأب. قال المؤلف رحمه الله: [ثم معتقها, إن لم يكن هناك معتق فروعه ثم أصوله ثم حواشيه ثم الأقرب فالأقرب من عصباته]. هذا فسرناه وقلنا: المعتق إذا لم يوجد نبدأ بفروعه ثم بعد ذلك نبدأ بأصوله ثم بعد ذلك نبدأ بحواشيه ثم السلطان. قال المؤلف رحمه الله: [ووكيل كل واحد من هؤلاء يقوم مقامه]. أفاد المؤلف رحمه الله أن الوكالة تصح في عقد النكاح, فالولي له أن يوكل، الأب له أن يوكل أحد أبنائه بالعقد على بناته, وله أن يوكل رجلاً أجنبياً في أن يعقد على ابنته، كذلك أيضاً الزوج له أن يوكل من يقبل له عقد النكاح. والوكالة هذه ورد ما يدل لها في توكيل النبي عليه الصلاة والسلام عمرو بن أمية الضمري لكنه لا يثبت, وقد ورد الوكالة هذه عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم, وأيضاً الأصل في مثل ذلك الحل، فنقول: الوكالة في عقد النكاح سواء كانت من قبل الولي أو كانت من قبل الزوج صحيحة. قال المؤلف رحمه الله: [ولا يصح تزويج أبعد مع وجود أقرب إلا أن يكون صبياً..إلخ]. فلا يصح تزويج الابن مع وجود الأب, ولا يصح تزويج الابن مع وجود الجد وهكذا, يعني: ما دام هناك أحد من الأصول فإن تزويج الفرع هذا لا يصح, كذلك أيضاً لا يصح تزويج الأخ مع وجود الابن أو ابن الابن, ولا يصح تزويج ابن الأخ مع وجود الأخ وهكذا, تزويج الأبعد مع وجود الأقرب لا يصح إلا إذا وجد مسقط من مسقطات ولاية النكاح, فإذا وجد مسقط من مسقطات ولاية النكاح فإن هذه الولاية تنتقل إلى من بعده. ويفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن تزويج الأبعد لا يصح حتى ولو أذن الأقرب فإنه لا يصح, فلا يجري ما يسمى بتصرف الفضولي في عقد النكاح, وهذا هو المشهور من المذهب، والصواب في ذلك أن تزويج الأبعد صحيح إذا أذن في ذلك الأقرب, فلو أن الابن زوج ثم بعد ذلك جاء الأب وقال: أجزت هذا النكاح أو أن الأخ زوج وأبو المرأة موجود وقال: أذنت في هذا التزويج أو ابن الأخ زوج مع وجود الأخ, أو العم زوج مع وجود أخ المرأة فأجاز هذا التصرف نقول: بأن هذا التصرف صحيح.فالصواب في ذلك أن تصرف الفضولي ينفذ في عقد النكاح, فلو أن أحداً تصرف تصرفاً فضولياً فإن هذا التصرف جائز ولا بأس به خلافاً لما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.
مسقطات ولاية النكاح
قال المؤلف رحمه الله: [إلا أن يكون صبياً أو زائل العقل أو مخالفاً لدينها أو عاضلاً].شرع المؤلف رحمه الله في بيان مسقطات ولاية النكاح:المسقط الأول: أن يكون الأقرب غير أهل للتزويج, غير أهل للولاية, بأن يكون صبياً أو يكون مجنوناً, فإذا كان صغير غيراً بالغ, لو كان لهذه المرأة ابن لكن هذا الابن صغير غير بالغ, فنقول: تنتقل الولاية إلى ما بعد البنوة, ما بعد البنوة الأخوة, يقوم بتزويجها أخوها, لم يكن هناك إخوان يقوم بتزويجها أبناء أخوها, وهكذا, أو كان الأقرب مجنوناً زائل العقل أو معتوهاً لا يعرف مصالح النكاح فإن الذي يزوج من بعده, فلو كان أبوها مجنوناً أو معتوهاً أو مخرفاً فابنها إن كان موجوداً أو أخوها إن كان موجوداً، هذا المسقط الأول.المسقط الثاني: المخالفة للدين, أن يكون الأقرب مخالفاً لدينها، فلو كانت مسلمة وكان ابنها غير مسلم أو كان أبوها غير مسلم.. إلخ فإن ولايته تسقط إلى من بعده لقول الله عز وجل: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، وأيضاً حديث: ( الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ).المسقط الثالث: العضل، فإذا عضل الأقرب فإن ولايته تسقط وتنتقل إلى من بعده, ومتى يكون عاضلاً؟ إذا منع كفئاً رضيته المرأة وبذل ما يصح مهراً, يعني: إذا جاء كفء للمرأة وبذل ما يصح مهراً, وهو كل ما صح أن يكون ثمناً أو أجرة, يعني: حتى لو بذل ريالاً واحداً؛ لأن الريال يصح أن يكون ثمناً أو أجرة, المهم كفء رضيته المرأة, وهذا الكفء بذل ما يصح مهراً، يعني: أعطى ما يصح مهراً حتى ولو كان قليلاً؛ أصبح الآن عاضلاً تسقط ولايته, وبهذا نعرف خطأ أولئك الأولياء الذين يعضلون مولياتهم، يعني: كثير من الناس لا يتقون الله عز وجل في مولياتهم، تجد أنه يأتيه الكفء ذو الخلق والدين ويبذل ما يصح مهراً, وترضاه المرأة لنفسها، حتى لو بذل شيئاً يسيراً من المال فإنه يصح أن يكون مهراً, المهم لا بد من مهر حتى لو كان ريالاً واحداً، ومع ذلك تجده يعضل هذه المرأة، إذا عضل هذه المرأة تسقط ولايته وتنتقل ولايته إلى من بعده, فيصح له أن يعقد على هذه المرأة؛ لأن مبنى الولاية في النكاح هو مصلحة المرأة، وإلا فالمرأة العاقلة تستطيع أن تعقد على نفسها كما أنها تستطيع أن تبيع بيتها الذي يساوي مليون ريال, كما أنها تستطيع أن تعقد عقد الشركة, وعقد البيع وعقد الرهن وأن توقف وأن تهب..إلخ, فأيضاً لها أن تعقد على نفسها لكن اشترطت الولاية في عقد النكاح؛ لأنه يحتاط للأبضاع ما لا يحتاط لغير الأبضاع, فمبنى الولاية هو مصلحة المرأة, فإذا انتفت فهذه المصلحة بحيث كان الولي عضل هذه المرأة انتفت الآن المصلحة, انتفت الحكمة التي من أجلها شرعت الولاية على هذه المرأة فتسقط ولايته.وقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه إذا تكرر عضل الولي لهذه المولية يكون فاسقاً, يعني: لو عضل مرتين فإنه يكون فاسقاً مردود الشهادة. وخيار الولي في باب النكاح ليس خيار تشهي وإنما خيار مصلحة، وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن من اختار لنفسه فإن خياره خيار تشهي له أن يأخذ هذا وله أن يرد هذا, لكن إذا اختار لغيره فإن خياره خيار مصلحة, لابد أن ينظر إلى المصلحة وهذا يدخل فيه سائر الأولياء, كل من يتصرف لغيره من الأولياء والنظراء والأوصياء والوكلاء.. إلخ فإن خيارهم خيار مصلحة, فالولي لا يجوز له أن يعضل, إذا عضل مرة واحدة رد هذا الكفء فإنه تسقط ولايته.
الأسئلة

خطبة المطلقة الرجعية بعد انتهاء العدة
السؤال: إذا طلق رجل زوجته طلقه واحدة ثم انتهت عدة الرجعية فكيف يكون الحكم لمن أراد خطبتها؟الجواب: خلاص الآن ليست معتدة، لو أن رجلاً طلق زوجته طلقة واحدة ثم انتهت عدتها يجوز لغير الزوج أن يخطبها تعريضاً وتصريحاً, وزوجها أيضاً يجوز له أن يخطبها تعريضاً وتصريحاً؛ لأن هذه ليست بمعتدة الآن، كلامنا في المعتدة، أما هذه التي انتهت عدتها فقد خرجت من العدة فيجوز لغير الزوج أن يخطبها تعريضاً وتصريحاً، ويجوز للزوج أن يخطبها تعريضاً وتصريحاً, ولا فرق في ذلك, الكلام في منع التعريض والتصريح هو في المعتدة التي لا تزال في عدة، أما هذه فقد انتهت من عدتها.
حكم النكاح الذي لم يعلن
السؤال: ما أثر عدم إعلان النكاح على صحة النكاح؟الجواب: حكم هذا النكاح صحيح يعني: لو أنه لم يعلن هذا النكاح فهو صحيح؛ لأن شروطه وأركانه موجودة فيه, لكن التواصي بكتمانه هذا محرم ولا يجوز, ويجب إعلانه وإفشاؤه.
معنى الحواشي في النسب
السؤال: ما هي الحواشي؟الجواب: الحواشي غير الأصول والفروع يعني:يشمل الإخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم, هؤلاء هم المراد بالحواشي, فروع الأصول هم الحواشي وهو شامل للإخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم.
حكم ضرب الدف في غير النكاح
السؤال: ما حكم ضرب الدف في حفلات غير النكاح مثل: حفل المركز..إلخ؟الجو اب: ضرب الدف يجوز في أربعة مواضع على الراجح؛ لأن الأصل في الدف -كما ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم- أنه من آلات اللهو، لكن ورد جوازه في أربعة مواضع: الموضع الأول: في العرس كما ورد ذلك في السنة. الموضع الثاني: عند قدوم الغائب, فإن هذا لا بأس به، ويدل على ذلك قصة المرأة التي جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالت: إني نذرت إن قدمت سالماً أن أضرب عند رأسك بالدف, فأقرها النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك. الموضع الثالث: في الأعياد, أيضاً كما أقر النبي عليه الصلاة والسلام الجاريتين. الموضع الرابع: ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه عند الختان. ففي هذه المواضع الأربعة يستثنى الدف، ما عدا ذلك الصواب أن لا يستثنى فيه, فيستثنى في هذه المواضع الأربعة, ومثل ذلك أيضاً وجود بعض الأشرطة التي يوجد فيها الضرب بالدف فنقول: استعمال هذه الأشرطة يصح في هذه المواضع الأربعة: في العرس، في العيد، عند قدوم الغائب، أيضاً في الختان كما ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه.
الصوت في النكاح
السؤال: ما معنى: حديث: ( فصل ما بين الحلال والحرام الصوت في النكاح )؟الجواب: الصوت في النكاح يعني: أن يلقى بعض الشعر كما ورد قول النبي عليه الصلاة والسلام لـعائشة رضي الله تعالى عنها: ( هل بعثتم معها من اللهو؟ ) يعني: بعض الغناء التي تغنيه النساء أو الجواري.. إلخ.
التوكيل في الزواج عن طريق الهاتف
السؤال: هل يجوز الوكالة عن طريق الهاتف، مثلاً: الأب في بلد وبنته وأهله في بلد آخر، هل يوكل بالهاتف؟الجواب: لو أن الأب في بلد ووكّل من يعقد على ابنته فإن هذا جائز، سواء كانت الوكالة عن طريق المكاتبة أو كانت عن طريق الهاتف، المهم أنه إذا حصلت الوكالة فإن هذا جائز ولا بأس به.
شهادة من لا يصلي في عقد النكاح
السؤال: أثناء عقد نكاح عند القاضي شهد في العقد شاهدان أحدهما لا يصلي, ولكن في مكان العقد يوجد من يصلي مثل: والدي وجدها وأبيها, فهل هذا العقد صحيح؟الجواب: هذا العقد صحيح، أما كون الشاهد لا يصلي فكما تقدم أن المؤلف رحمه الله قال: من المسلمين, فيشترط أن يكون مسلماً, لكن ما دام أنه يوجد غير هذا الشاهد يكفي هذا.
حكم العقد من غير مأذون الأنكحة
السؤال: هل لأي شخص شاء أن يعقد بين الزوج وولي المرأة؟الجواب: نعم يعني: المأذون في الأنكحة ليس شرطاً, يعني: يكفي أن يوجد الولي والزوج والشاهدين, يعني: إذا وجد ولي وزوج وشاهدان على رأي جمهور أهل العلم يكفي، فلو أن الولي قال للزوج: زوجتك, فقال: قبلت، خلاص تم عقد النكاح, وأما اشتراط الآن مبنى الأنكحة والكتابات فهذه كلها مسائل تنظيمية، وجدت الآن من أجل تنظيم هذه الأمور وضبطها وحفظها..إلخ, حتى لا تكون مدعاة إلى أمور أخرى يترتب عليها مفاسد, فيحتاج الناس إلى وجود هذه التنظيمات، أما الأصل في ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( زوجتكها بما معك من القرآن فقال: قبلت ), حتى الولي لو كان مأذون الأنكحة أو هو الذي تولى عقد قراءة الخطبة فإن ذلك يصح, المهم ما دام أن الولي موجود والزوج موجود، وأيضاً الشاهدان عند جمهور أهل العلم فإن ذلك كافٍ.
ولي من أسلمت وأهلها كفار
السؤال: إذا أسلمت امرأة وبقية أهلها كفار وهي في بلد الكفر فمن وليها؟الجواب: المراكز الإسلامية الآن التي توجد في الخارج، إذا أسلمت امرأة في تلك البلاد فالقائم على المركز الإسلامي أو رئيس المركز الإسلامي هو الذي يتولى نكاح هذه المرأة, وقد نص العلماء رحمهم الله على مثل ذلك فقالوا: بأن المرأة في بلاد الكفار يتولى نكاحها القائم على أمور المسلمين في ذلك البلد.
تحري عقد النكاح في آخر ساعة يوم الجمعة
السؤال: ما صحة أن العقد يستحب في آخر ساعة في يوم الجمعة؟الجواب: هذا ما ورد فيه دليل يعني: العلماء رحمهم الله استحبوا أن يكون العقد في آخر ساعة من يوم الجمعة, وهذا ليس فيه دليل,لكن وجه الاستحباب في ذلك ورود حديث ضعيف:( أمسوا بالإملاك )، واستحباب العلماء رحمهم الله أن يكون في يوم الجمعة بعد العصر قالوا: لأن هذه ساعة الإجابة, وإذا تم العقد فإن الناس يدعون للمتزوجين, اللهم بارك لهما، وبارك عليهما، واجمع بينها بخير وعافية, فقالوا: يرجى أن يستجاب دعاء الناس لهذين المتزوجين, فقالوا: يستحب أن يكون بعد العصر يوم الجمعة، والله أعلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-18, 05:56 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب النكاح [3]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(78)


النكاح ميثاق غليظ، فيشترط فيه أن يكون بولي وشهود، والولي له شروط لابد أن تتوافر فيه، وقد بين الفقهاء الأولى بالولاية. ولا تنكح الثيب حتى ستتأمر، ولا البكر حتى تستأذن.
تابع ولاية النكاح
تقد لنا شيء من شروط صحة النكاح في الدرس السابق، فتقدم لنا شرط الولاية، وأن أهل العلم اختلفوا في اشتراط الولاية، هل الولاية شرط من شروط صحة النكاح أو ليست شرطاً؟ على رأيين، وذكرنا أن رأي جمهور العلم رحمهم الله: أن ولاية النكاح شرط من شروط صحته, وعند أبي حنيفة أن المرأة إذا كانت بالغة حرة عاقلة لها أن تزوج نفسها, وذكرنا أن الأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه الجمهور لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل ).وأيضاً تقدم لنا الشرط الثاني شرط الشهادة, وهل الشهادة شرط من شروط صحة النكاح؟ ذكرنا في ذلك ثلاثة آراء، وأن جمهور أهل العلم أن الشهادة شرط من شروط صحة النكاح، والرأي الثاني أنه ليس شرطاً كسائر العقود تصح بلا شهادة, والرأي الثالث: التفصيل أنها ليست شرطاً عند العقد لكن لا بد منها عند الدخول. أيضاً تكلمنا عن مراتب الولاية في باب النكاح, من الأولى بتزويج المرأة فذكرنا أنهم يرتبون, يبدأ بالأصول الأب ثم الجد وإن علا ثم بعد ذلك الفروع الابن ثم ابن الابن وإن نزل، ثم بعد ذلك الحواشي الإخوة وبنوهم والأعمام وبنوهم, ثم بعد ذلك العصبة بالسبب, المعتق وفروعه ثم أصوله, المعتق أولاً إن كان موجوداً ثم بعد ذلك فروعه ثم بعد ذلك أصوله ثم بعد ذلك حواشيه.
تابع مسقطات ولاية النكاح
تكلمنا أيضاً عن مسقطات الولاية، وذكرنا شيئاً من هذه المسقطات.قال المؤلف رحمه الله: (إلا أن يكون صبياً).المسقط الأول: أن يكون الأقرب غير أهل للولاية لكونه صغيراً أو لكونه فاقد العقل أو لكونه ناقص العقل ونحو ذلك, فإذا كان ليس أهلاً للولاية فإن الولاية تنتقل إلى من بعده.المسقط الثاني من مسقطات الولاية: المخالفة في الدين, فإذا كان مخالفاً لدين المرأة فإنه لا ولاية له عليها, وتقدم الكلام على هذه المسألة.المسقط الثالث: العضل، الولي إذا عضل المرأة, وبينا متى يكون عاضلاً وذلك إذا منع كفئاً رضيته, إذا منع الولي كفئاً رضيته المرأة فإنه في هذا الحالة يكون عاضلاً لها, فتسقط ولايته وتنتقل إلى من بعده.قال المؤلف رحمه الله: [أو غاب غيبة بعيدة].هذا هو المسقط الرابع, إذا غاب الولي الأقرب غيبة بعيدة فإن الولي الأبعد يزوج, وقال المؤلف رحمه الله: (إذا غاب غيبة بعيدة), ولم يقدر هذا البعد, يعني: لم يذكر مقدار هذا البعد, وقد حده بعض العلماء بقوله: إذا كانت لا تقطع إلا بكلفة ومشقة, قالوا: إذا غاب الولي غيبة بعيدة لا تقطع إلا بكلفة ومشقة فإن ولايته تسقط وتنتقل إلى من بعده, وكونها لا تقطع إلا بكلفة ومشقة هذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة, فمثلاً: في وقتنا الحاضر يختلف عن الأزمنة فيما مضى لوجود الآن ما يتعلق بوسائل الاتصال، فيمكن أن يكون الشيء البعيد في الزمن السابق هو قريب بتقدم وسائل الاتصال في زمننا هذا. المهم الرأي الثاني: قالوا: بأن الولي إذا غاب غيبة لا تقطع إلا بمشقة وكلفة فإنه تسقط ولايته وتنتقل إلى من بعده, قالوا: إذا غاب غيبة يفوت فيها الخاطب الكفء, فإن ولايته تسقط وتنتقل إلى من بعده فلو مثلاً: أخو المرأة غاب غيبة بحيث لا يمكن أن يقدم إلا بعد أن يفوت الخاطب, الخاطب إذا لم يعط ولم يزوج فإنه ينتقل إلى غير هذه المرأة، فلمن بعده في الولاية كابنه أن يزوج, وهذا القول: هو الأقرب, نقول في تحديده: إذا كان الخاطب الكفء يفوت بسبب غيبة الولي فإن ولايته تسقط وتنتقل إلى من بعده, وتقدم لنا أن أشرنا أن الولاية في عقد النكاح إنما شرعت لمصلحة المرأة, وإلا فإن المرأة تقدر على أن تزوج نفسها, كما أنها تقدر على أن تبيع وأن تشتري وأن تعقد العقود المالية.. إلخ.وعلى هذا فإذا كان الولي غائباً فإنه ليس من مصلحة المرأة أن ننتظر هذا الولي, بل تنتقل الولاية إلى من بعده، فالصواب في ذلك نقول: إذا غاب الولي غيبة يفوت فيها الخاطب الكفء فإن ولايته تسقط وتنتقل إلى من بعده, فإذا كان هذا الخاطب قال: أنا لا أنتظر إلا يومين, ونعرف أن الولي الأقرب لا يقدم إلا بعد ثلاثة أيام أو لا يقدم إلى بعد عشرة أو بعد شهر..إلخ وقال هذا الخاطب: أنا لا أنتظر إلا يومين أو ثلاثة..إلخ فنقول: بأن ولاية الأقرب تسقط وتنتقل إلى من بعده.
أثر المخالفة في الدين في ولاية النكاح
قال المؤلف رحمه الله: [ولا ولاية لأحد على مخالف لدينه إلا المسلم إذا كان سلطاناً أو سيد أمة]. يقول المؤلف رحمه الله: لا ولاية لأحد على مخالف لدينه, هذه المسألة تحتها أمران:الأمر الأول: ولاية الكافر على المسلمة, فنقول: بأن الكافر ليس له ولاية على المسلمة مطلقاً, هذا هو الصواب, لقول الله عز وجل: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الإسلام يعلو ولا يعلى عليه )، فلو كان عندنا نصرانية أسلمت وأبوها ليس مسلماً لم يزل نصرانياً فإنه لا ولاية له عليها في تزويج النكاح, وحينئذ يتولى تزويجها المسلمون، إن كان هناك أحد من أوليائها مسلم فإنه يتولى تزويجها، فإن لم يكن أحد من أوليائها مسلم فإنه يتولى تزويجها سلطان المسلمين أو رئيس المسلمين أو المسئول عنهم في تلك الديار.الأمر الثاني: إذا كان العكس, إذا كان الولي مسلماً والزوجة كافرة فهل يتولى المسلم تزويجها أو لا؟ عكس المسألة السابقة, إذا كان الأب مسلماً أو الأخ مسلماً أو العم مسلماً, وموليته نصرانية تريد أن تتزوج فهل له أن يتولى عقد النكاح لها أو ليس له أن يتولى عقد النكاح لها؟ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يتولى عقد النكاح لها, ولهذا قال: ولا ولاية لأحد على مخالف لدينه, ولم يستثن من ذلك إلا مسألتين، والصواب في هذه أن المسلم يتولى على الكافرة, لما تقدم من قول الله عز وجل: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، وقد جعل الله عز وجل للمؤمنين على الكافرين سبيلاً، وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( الإسلام يعلو ولا يعلى عليه )، فإذا كان الإسلام يعلو فإن المسلم يتولى تزويج الكافرة.فالصواب في هذه المسألة أن المسلم إذا كان ولياً وكانت موليته كافرة فإن المسلم يتولى تزوجها؛ ولأنه مؤتمن عليها. استثنى المؤلف رحمه الله السلطان فقال: (إلا المسلم إذا كان سلطاناً أو سيد أمة), يعني: يقول: المسلم إذا كان سلطاناً فإنه يزوج الكافرة، والصواب في ذلك كما سبق لنا أن المسلم يزوج الكافرة سواء كان سلطاناً أو غير سلطان. قال: (أو سيد أمة), سيد الأمة أيضاً يقوم بتزويجها حتى ولو كان كافراً، والصواب في ذلك أن سيد الأمة إذا كان كافراً لا يملك تزويجها؛ لما تقدم أن الكافر لا يكون ولياً على مسلمة, وإذا كان سيد الأمة مسلماً والأمة كافرة فإنه يتولى تزويجها.الخلاصة في ذلك: ولاية المسلم على الكافرة صحيحة, وولاية الكافر على المسلمة غير صحيحة.
رضا الزوجين بعقد النكاح
قال المؤلف رحمه الله: [فصل: وللأب تزويج أولاده الصغار ذكورهم وإناثهم وبناته الأبكار بغير إذنهم].هذا هو الشرط الثالث من شروط صحة النكاح: رضا الزوجين, تقدم الشرط الأول وهو الولاية، والشرط الثاني وهو الشهادة، والشرط الثالث الآن شرع فيه المؤلف رحمه الله وهو رضا الزوجين, فهل الرضا معتبر في عقد النكاح أو ليس معتبراً في عقد النكاح؟ أفاد المؤلف رحمه الله أن رضا الزوجين ليس معتبراً دائماً في عقد النكاح, يعني: يشترط الرضا لكنه ليس معتبراً دائماً, فهناك من الأزواج من لا يعتبر رضاهم كما سيأتي بيانه إن شاء الله, فنقول: الشرط الثالث من شروط صحة النكاح: رضا الزوجين, ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت ). أخرجه البخاري ومسلم , فقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر ), الأيم: التي لا زوج لها, ويراد بها في هذا الحديث الثيب.والأدلة في ذلك كثيرة من ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه ( أن جارية أتت النبي صلى الله عليه وسلم, فذكرت له أن أباها زوجها من ابن أخيه ليرفع بها خسيسته، فرد النبي عليه الصلاة والسلام النكاح إليهم ), يعني: جعل الأمر موكولاً إليها. وأيضاً ثبت في صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام خير الخنساء لما زوجها أبوها بغير رضاها. إذاً: الشرط الثالث من شروط صحة النكاح رضا الزوجين في الجملة, لكن ذكر المؤلف رحمه الله أن هناك من الأزواج من لا يعتبر رضاهم.
من لا يعتبر رضاهم في النكاح
الذين لا يعتبر رضاهم كما أشار إليهم المؤلف رحمه الله ينقسمون إلى أقسام: قال المؤلف رحمه الله: (وللأب تزويج أولاده الصغار ذكورهم وإناثهم وبناته الأبكار بغير إذنهم).ذكر المؤلف رحمه الله أقساماً من الأزواج لا يعتبر إذنهم ولا رضاهم:القسم الأول: الابن الصغير، هل لأبيه أن يزوجه أو ليس له أن يزوجه؟ يعني: هل للأب أن يعقد لابنه الصغير على امرأة أو ليس له أن يعقد له على امرأة؟ هل له أن يزوجه أو ليس له أن يزوجه؟ الصغير الذي لم يبلغ لا يستأذن؛ لأنه لا يعرف مصالح النكاح, لا إذن له معتبر أصلاً حتى ولو استأذنه أبوه مثلاً: له خمس سنوات أو ست سنوات حتى ولو استأذنه أبوه فإن إذنه غير معتبر, هذا الإذن لا فائدة منه، لكن هل له أن يعقد له النكاح أو ليس له أن يعقد له النكاح؟ المشهور من المذهب أن له أن يعقد له النكاح, لورود ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فإن ابن عمر زوج ابنه وهو صغير، فاختصموا إلى زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه فأجاز زيد ذلك, وهذا أخرجه البيهقي . الرأي الثاني: ليس للأب أن يزوج ابنه الصغير؛ لأن تزويج الأب لابنه الصغير يلزم الابن ببعض التكاليف المادية, كنفقة الزوجة وما يتعلق بذلك من الكسوة والطعام والشراب وغير ذلك. الرأي الثالث: أن الأب له أن يزوج ابنه الصغير إذا كان هناك مصلحة, إذا ترتب على ذلك مصلحة فإن له أن يزوجه، فإن لم يكن له مصلحة فإنه لا يملك أن يعقد له عقد النكاح.وهذا القول: هو الأقرب, ومنشؤه كما تقدم لنا أن الولاية في عقد النكاح تدور على المصلحة, فإذا كان هذا الابن يحتاج إلى من يقوم عليه من زوجة ترعى شؤونه لكون أمه مثلاً: غير موجودة فإنه لا بأس لأبيه أن يعقد له عقد النكاح, فهذا هو القسم الأول: الصبي الصغير, ذكرنا أن إذنه غير معتبر لكن هل لأبيه أن يعقد له عقد النكاح؟ الراجح في ذلك أنه يدور على المصلحة.القسم الثاني: البنت الصغيرة, أيضاً هذه إذنها غير معتبر، فهل لأبيها أن يعقد لها عقد النكاح أو ليس له أن يعقد لها عقد النكاح؟المشهور من المذهب أنه لا بأس, يعني: حتى لو كان لها شهر أو كان لها يوم واحد فلأبيها أن يعقد لها عقد النكاح, هذا هو المشهور من المذهب، وهذا أيضاً مذهب الشافعية وقول أكثر أهل العلم, أن البنت الصغيرة لأبيها أن يعقد لها عقد النكاح, واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله تعالى عنها ولها ست سنوات، ودخل بها ولها تسع سنوات.وذهب طائفة من السلف إلى أن الأب لا يملك أن يعقد على ابنته الصغيرة؛ لأنه يشترط رضاها, والصغيرة لا إذن لها معتبر, حتى لو قالت له: رضيت، قولها هذا لا عبرة به؛ لأنها لا تعرف, فقالوا: الصغيرة يشترط رضاها, لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن )، وإذا كانت صغيرة لا يمكن أن تستأذن، فننتظر حتى تبلغ مبلغاً تعرف فيه مصالح النكاح ثم بعد ذلك نستأذنها في تزويجها.فعندنا العقد على البنت الصغيرة هل هو جائز أو ليس جائزاً؟المشهور من المذهب وهو قول أكثر أهل العلم أنه جائز.والرأي الثاني أنه ليس جائزاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن )، وهذه البنت الصغيرة لا يمكن أن تستأذن, فلا يصح أن نعقد لها عقد النكاح حتى تبلغ مبلغاً تعرف فيه مصالح النكاح, فإذا عرفت مصالح النكاح فإننا نستأذنها في تزويجها. والأقرب في ذلك أن نجمع بين القولين فنقول: يصح العقد على الصغيرة كما عقد النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله تعالى عنها, لكن نثبت لهذه الصغيرة الخيار إذا بلغت مبلغاً تعرف فيه مصالح النكاح، فيكون تصرف الولي هنا من باب التصرف الفضولي, فإن أجازت النكاح نفذ، وإن لم تجز النكاح لا ينفذ, فنقول: يصح ولا يدخل عليها الزوج حتى تبلغ مبلغاً يصح أن تختار وأن تستأذن وأن ينظر في رأيها، ويدل لذلك كما سبق حديث ابن عباس ( أن جارية أتت النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت له أن أباها قد زوجها من ابن أخيه لكي يرفع بها خسيسته فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إليها ).قال المؤلف رحمه الله: (وبناته الأبكار). يعني: البكر البالغة العاقلة لأبيها أن يزوجها بمن لا ترضى ولا يعتبر إذنها, قالوا: يستحب أن يستأذنها, وهذا قول أكثر أهل العلم أن البكر البالغة لأبيها أن يزوجها بغير إذنها، واستدلوا على ذلك بما أورده المؤلف رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها )، الأيم الثيب أحق بنفسها من وليها, فدل ذلك على أن البكر وليها أحق بها, فالثيب لا بد من إذنها, لا بد من رضاها, هي أحق بنفسها من وليها، فيفهم من ذلك أن غير الثيب وليها أحق بها, هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة وهو قول أكثر أهل العلم. والرأي الثاني رأي أبي حنيفة وهو قول الأوزاعي أن البكر البالغة لا بد من إذنها، لما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت ) أخرجاه في الصحيحين.والصوا في هذه المسألة أن يقال كما تقدم: إن العقد على البكر بغير إذنها صحيح، لكن يجعل الأمر إليها, كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إلى الجارية, فإذا عقد أبوها عقد النكاح لشخص من الأشخاص ننظر إلى رأي هذه الفتاة، فإن أجازت العقد صح ذلك، ويكون تصرف الولي من باب تصرف الفضولي، وإن ردت العقد فإنه لا ينفذ, كما تقدم في حديث ابن عباس في قصة الجارية التي زوجها أبوها من ابن أخيه ليرفع بها خسيسته وهي لم ترضَ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إليها, فنقول: إذا زوج الأب ابنته البالغة العاقلة ولم يأخذ رأيها ولم يأخذ إذنها أو زوجها بغير رضاها, نقول: الأمر موكول إلى المرأة، فإن أجازت العقد نفذ، وإن لم تجزه فإنه لا ينفذ.
الاستئذان المرأة في النكاح
قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب استئذان البالغة]. هذا مبني على أن رضا البالغة ليس شرطاً ولا واجباً، لكن إذا قلنا: بأنه واجب، وأنه لا بد منه كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله فنقول: يجب استئذان البالغة ولا بد من رضاها.قال المؤلف رحمه الله: [وليس له تزويج البالغ من بنيه وبناته الثيب إلا بإذنهم]. تقدم أن الأب على المذهب له أن يعقد على ابنه الصغير، وتقدم كلام أهل العلم في هذه المسألة, لكن بالنسبة لابنه الكبير البالغ العاقل فليس له أن يعقد له إلا بإذنه, ولو عقد له على امرأة بلا إذنه فإنه ينظر إلى رأي الزوج فإن أجاز النكاح نفذ وإن رده فإنه لا ينفذ. كذلك أيضاً الثيب ليس للأب أن يزوج ابنته الثيب التي وطئت في نكاح صحيح أو بزنا مع رضا ليس له أن يزوج هذه الثيب إلا بإذنها، ودليل ذلك كما تقدم قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( الأيم أحق بنفسها من وليها )، فالثيب بخلاف البكر، وتقدم كلامهم في البكر.قال المؤلف رحمه الله: [وليس لسائر الأولياء تزويج صغير ولا صغيرة ولا تزويج كبيرة إلا بإذنها]. تزويج الابن الصغير هذا من خصوصيات الأب, لكن لو أن الأب متوفى فأراد الجد أن يزوج ابن ابنه الصغير الذي له سنتان أو ثلاث سنوات لا يملك ذلك, يعني: ملك تزويج الابن الصغير من خصائص الأب فقط, وتقدم الكلام على هذه المسألة, حتى الأب هناك من أهل العلم من يعارض في تزويجه. كذلك أيضاً تزويج البنت الصغيرة هذا من خصائص الأب, أما غيره لو كان الأب متوفى والجد أراد أن يزوج بنت ابنه الصغيرة فإنه لا يملك ذلك أو الأخ أراد أن يزوج أخته الصغيرة فإنه لا يملك ذلك حتى تبلغ مبلغاً تعرف فيه مصالح النكاح وتستأمر وتشاور ويؤخذ إذنها, لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اليتيمة تستأمر في نفسها ).قال: (ولا تزويج كبيرة إلا بإذنها). أيضاً البكر البالغة لا يعتبر رضاها بالنسبة للأب فقط, أما بالنسبة لباقي الأولياء فإنه لا بد من رضاها, وتقدم لنا أن الصحيح أنه لا فرق بين الأب وغيره, وأن الأب إذا زوج ابنته البالغة العاقلة بلا إذنها فإن هذا موكول إلى المرأة، فإن أجازت النكاح نفذ, وإن لم تجز النكاح فإنه لا ينفذ. المهم أن سائر الأولياء ليس كالأب, الجد لا يملك أن يزوج ابنة ابنه البالغة العاقلة إلا برضاها, وأيضاً الأخ لا يملك أن يزوج أخته إلا برضاها، والعم لا يملك أن يزوج أبنة أخيه إلا برضاها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اليتيمة تستأمر في نفسها ).
ما يكون به الإذن
قال المؤلف رحمه الله: [وإذن الثيب الكلام، وإذن البكر الصمات..الخ]. هنا الآن شرع المؤلف رحمه الله في بيان ما يكون به الإذن، فالثيب لا بد أن تتكلم فتستأمر، ويدل لذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر ) يعني: تشاور من الاستئمار, يؤخذ أمرها في هذه المسألة هل تزوج أو لا تزوج, وأما بالنسبة للبكر فإذنها أن تسكت؛ لأن البكر لم تجرب الرجال فيغلب عليها الحياء, فإذا سكتت فإن ذلك علامة على الرضا في الغالب, وقد يكون السكوت ليس علامة على الرضا، ويرجع في ذلك إلى قرائن الأحوال, وإن تكلمت البكر وقالت: رضيت به، فهذا من باب أولى, خلافاً للظاهرية قالوا: بأنها لو تكلمت فهذا لا يعتبر إذناً, بل لابد أن تسكت جموداً على ظاهر النص.
الكفاءة بين الزوجين
قال المؤلف رحمه الله: [وليس لولي امرأة تزوجها بغير كفئها]. هنا الآن أشار المؤلف رحمه الله إلى شرط من شروط لزوم النكاح, الكفاءة بين الزوجين، هل الكفاءة بين الزوجين من شروط صحة النكاح أو من شروط لزوم النكاح؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله, والصواب أن الكفاءة بين الزوجين كما سيأتينا إن شاء الله تختلف, المهم شرط الكفاءة. الكفاءة في اللغة: المساواة, وأما في الاصطلاح: فهي المساواة بين الزوجين في أمور مخصوصة, وهذه الأمور سنبينها إن شاء الله.قال المؤلف رحمه الله: [والعرب بعضهم لبعض أكفاء]. هذا الأمر الأول مما تكون الكفاءة، وهو النسب, فالأعجمي ليس كفئاً لعربية، فلو كان عندنا امرأة عربية, يعني: لها أصل في قبائل العرب, وعندنا رجل ليس له أصل في قبائل العرب, هنا قالوا: لا كفاءة بين الزوجين, فلو أن الأب زوج ابنته العربية التي لها أصل في قبائل العرب من هذا الرجل الذي ليس له أصل في قبائل العرب فإن العقد صحيح, المذهب يقولون: الكفاءة ليست من شروط صحة النكاح, ما نقول: بأن العقد باطل, وإنما العقد صحيح، لكن يقف ذلك على إجازة المرأة وإجازة أوليائها, هذا هو المشهور من المذهب.قال المؤلف رحمه الله: [وليس العبد كفئاً لحرة]. الأمر الثاني: الحرية والرق, فلو أن الأب زوج ابنته الحرة رجلاً رقيقاً, يعني: مملوكاً يباع ويشترى، فإن المرأة إذا لم ترض أو لم يرض بعض أولياء المرأة فله أن يفسخ العقد, والعقد صحيح لكنه ليس بلازم, فإن رضيت المرأة ورضي أولياؤها نفذ, لكن إذا لم يرضوا فلمن لم يرض من المرأة والأولياء الفسخ مثل: النسب, إذا كانت المرأة نسيبة والزوج غير نسيب فلمن لم يرض من المرأة والأولياء الفسخ, هذان أمران.قال المؤلف رحمه الله: [ولا الفاجر كفئاً للعفيفة]. الأمر الثالث, ما يتعلق بالدين, فالفاجر ليس كفئاً لعفيفة, فإذا كان عندنا رجل فاسق والمرأة عدل في دينها, فهذا ليس كفئاً لهذه المرأة، فلمن لم يرض من المرأة وأوليائها الفسخ, هذه ثلاثة أشياء.الرابع: الصناعة, فإذا كان الزوج صناعته مزرية به مثل: الكساح الذي يقوم بتنظيف بيوت الخلاء أو الحجام أو الحلاق..ونحو ذلك, فقالوا: هذا صناعته مزرية, فليس كفئاً للمرأة، فإذا لم ترضَ المرأة ولم يرضَ أحد من أوليائها, فلمن لمن يرض من المرأة والأولياء أن يفسخ.الخامس مما تكون به الكفاءة: الميسرة, فإذا كان الزوج فقيراً معسراً والمرأة من بيت غنى فلمن لم يرض من المرأة والأولياء الفسخ, فإذا كان الزوج فقيراً والمرأة من ذوات الغنى أو من بيت غنى، فلمن لم يرضَ من المرأة والأولياء الفسخ, قالوا: هذه الأشياء شرط للزوم وليست شرطاً للصحة, فالعقد صحيح، فأصبحت الكفاءة تكون في الصناعة، وتكون في الميسرة، وتكون في الحرية، وتكون في الدين، وكذلك أيضاً تكون في النسب, هذه خمسة أمور, وأغلب هذه الأمور موضع اتفاق بين جمهور أهل العلم رحمهم الله.والصواب في ذلك ما ذكره الإمام مالك رحمه الله أن الكفاءة هي الدين فقط, لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي حاتم المزني : ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه )، فلو أن الأب زوج ابنته العربية أو التي لها أصل في قبائل العرب بشخص ليس له أصل في قبائل العرب، وهو ذو خلق ودين فإن العقد لازم، ولا يملك أحد -ما دام أن المرأة راضية- فسخ النكاح, كذلك أيضاً لو أنه زوجها رجلاً فقيراً, أو زوجها رجلاً رقيقاً يباع ويشترى, ورضيت المرأة بذلك؛ لأنه يشترط رضا المرأة كما تقدم من شروط صحة النكاح, فإذا رضيت نقول: بأن العقد صحيح, كذلك أيضاً لو كانت صناعته مزرية ورضيت المرأة بذلك حتى ولو كانت صناعته مزرية كحلاق أو حجام أو منظف وغير ذلك ورضيت المرأة فإن العقد صحيح، فالصحيح في ذلك أن الديانة هي التي تعتبر، هذا هو المعتبر, ويمنع من تزويج ثلاثة: الأول: من لا يصلي؛ لأنه ليس ذا دين، من لا يصلي فإنه يمنع من تزوج المرأة وليس كفئاً, وللمرأة أن تفسخ, في هذه الحالة نقول: المرأة لها أن تفسخ زواج الذي لا يصلي لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( العهد الذي بيننا وبينهم، الصلاة فمن تركها فقد كفر ).الثاني: الزاني, الزاني الذي لم يتب من زناه فإنه لا يصح العقد له, لقول الله تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3].الثالث: من تتضرر به المرأة, كإنسان عنده فسق, يعني: عنده شر وعند فسق كمن يستعمل أموراً يعود ضررها على المرأة كمخدرات..ونحو ذلك, فإنه في هذه الحالة يمنع من ذلك. فالذي يمنع من تزويجهم هؤلاء الثلاثة, إنسان لا يصلي, أو إنسان فسقه يعود بالضرر على المرأة, أو إنسان يستعمل الفواحش ولم يتب منها, لقول الله عز وجل: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3]. ولنعلم أن هذه الأمور الخمسة التي ذكرها العلماء رحمهم الله إنما هي معتبرة في جانب الزوج, يعني: لابد أن يكون الزوج نسيباً كما أن الزوجة نسيبة, لابد أن يكون الزوج حراً كما أن الزوجة حرة.. إلخ, أما العكس فهذا غير معتبر, يعني: لو كانت المرأة غير نسيبة والزوج نسيباً, فالعقد صحيح, لو أن هذا العربي تزوج امرأة ليس لها أصل في قبائل العرب فالعقد صحيح, ولا اعتراض عليه، كذلك أيضاً لو أن الحر تزوج رقيقة، والحر له أن يتزوج الرقيقة بشروط فإن العقد صحيح، لو أن هذا الرجل من بيت شريف وتزوج امرأة أبوها له صناعة مزرية أو هي لها صناعة مزرية, فإن العقد صحيح, لكن بالنسبة للدين لا يصح أن يتزوج امرأة لا تصلي، أو امرأة تزني, أو فسقها يعود بالضرر على الزوج.
تولي طرفي عقد النكاح
قال المؤلف رحمه الله: [ومن أراد أن ينكح امرأة هو وليها فله أن يتزوجها من نفسه بإذنها]. مثلاً: شخص ولي على ابنة عمه, وأراد أن يتزوج هذه المرأة فاستأذنها فأذنت له في ذلك, فيقول فقط: تزوجتك, هو الآن الزوج وهو الولي, فيقول: تزوجتك أو يقول: تزوجت ابنة عمي فلانة. قال المؤلف رحمه الله: [وإن زوج أمته عبده الصغير جاز أن يتولى طرفي العقد]. يعني: إذا أراد أن يزوج عبده الصغير, وقوله: عبده الصغير يخرج العبد الكبير, فالعبد الكبير هو الذي يقبل لنفسه النكاح, أما بالنسبة لعبده الصغير فالسيد هو الذي يقوم بتزويجه، فإذا أراد أن يزوج عبده الصغير من أمته فإنه يقول: زوجت عبدي فلاناً من أمتي فلانة، فقط ويتم عقد النكاح. قال المؤلف رحمه الله: [وإن قال لأمته: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك، بحضرة شاهدين ثبت العتق والنكاح؛ لأن رسول صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها]. إذا قال لأمته: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك صح ذلك كما فعل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام.
تزويج السيد إماءه وعبيده الصغار
قال المؤلف رحمه الله: [فصل: وللسيد تزويج إمائه كلهن وعبيده الصغار بغير إذنهم].أيضاً هذا من الأقسام الذين لا يعتبر إذنهم, الأمة لوليها أن يزوجها بلا إذنها, والصواب في ذلك أن الأمة كالحرة، وتقدم لنا أن الحرة البالغة العاقلة الصحيح أنه يشترط رضاها، فكذلك أيضاً بالنسبة للأمة إذا كان السيد عنده إماء فالصواب في ذلك أنه يعتبر رضاها وإذنها في الزوج لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن ). فالصواب في ذلك أن يعتبر إذنها, وكذلك أيضاً عبده الصغير له أن يزوجه؛ لأنه كما تقدم له أن يزوج ابنه الصغير فكذلك عبده الصغير له أن يزوجه من باب أولى, وتقدم الخلاف في الابن الصغير لكن بالنسبة للعبد الصغير له أن يزوجه سيده؛ لأنه وإن لحقه تكاليف مادية فإن هذه التكاليف المادية تكون في ذمة السيد.
تزويج السيد أمة أمته التي أعتقها
قال المؤلف رحمه الله: [وله تزوج أمة موليته بإذن سيدتها]. له تزوج أمة موليته؛ لأن المرأة لا تكون والية على عقد النكاح، وصورة هذه المسألة: أن زيداً من الناس له أمة فأعتقها، هذه الأمة لما أعتقت الآن أصبحت حرة ملكت أمة، هذه الأمة التي ملكتها أمته السابقة يقول المؤلف رحمه الله: للسيد سيد الأمة الذي أعتقها أن يزوج أمة أمته التي أعتقها, قال: (وله تزويج أمة موليته بإذن سيدتها) يعني: هذا زيد أعتق هذه الأمة، وهذه الأمة ملكت أمة بعد أن أعتقت، فسيد هذه الأمة التي أعتقها له أن يزوج أمة أمته التي أعتقها بإذن سيدتها.
إجبار السيد عبده الكبير على النكاح
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يملك إجبار عبده الكبير على النكاح]. يعني: لا يملك إجبار عبده الكبير على النكاح بلا رضاه؛ لعموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن )، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام للمرأة الإذن فكذلك أيضاً الزوج له الإذن.
زواج العبد بغير إذن سيده
قال المؤلف رحمه الله: [وأيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر]. يعني: إذا تزوج الرقيق بغير إذن مواليه بغير إذن سيده فهو عاهر, أي: زان, وهذا يدل على أن عقد النكاح باطل, ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر ) أي: زان. فنقول: السيد لا يملك أن يجبر عبده الكبير على الزواج, لا بد من إذنه, لكن لو أراد العبد الكبير البالغ الزواج لا بد أن يستأذن سيده في هذا الزواج؛ لأن زواج هذا الرقيق يلحق السيد تكاليف مالية, يلحقه المهر ويلحقه النفقات ونفقة أولاده..إلخ؛ لأن هذا الرقيق نفقته ومهره على سيده، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر ). قال المؤلف رحمه الله: [فإن دخل بها فمهرها في رقبته كجنايته إلا أن يفديه السيد بأقل من قيمته أو المهر]. إذا تزوج الرقيق بغير إذن سيده فالعقد باطل كما تقدم لقول النبي عليه الصلاة والسلام:( أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر )، فالعقد باطل, فإن دخل بهذه المرأة, يعني: دخل عليها وحصل وطء لهذه المرأة فإنه يجب المهر ويستقر بالدخول, يقول المؤلف رحمه الله: الآن المرأة لها المهر, لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ولها المهر بما استحل من فرجها ), يقول المؤلف رحمه الله: يتعلق هذا المهر برقبة هذا الرقيق المتزوج, كيف يتعلق برقبته؟ نقول للسيد: أنت بالخيار إما أن تدفع قيمة المهر للمرأة أو أننا نأخذ هذا الرقيق ونقوم ببيعه, ويوفى المهر من ثمن هذا الرقيق, إن فضل شيء يرد عليك وإن لم يفضل شيء لا تطالب به, فنبيع هذا الرقيق, مثلاً: إذا فرضنا أن المهر ألف ريال وبعنا هذا الرقيق, الرقيق قيمته ألف ومائة ريال، نعطي المرأة ألف ريال ونرد مائة على السيد, إذا كان بالعكس القيمة ألف ريال والمهر ألف ومائة فإننا نعطي هذه الألف للمرأة ولا يطالب السيد بشيء, فنقول: أنت بالخيار إما أن تفديه تدفع المهر ولا يباع الرقيق, وإما أن نبيعه ونسدد من ثمنه المهر, فإن فضل شيء رد عليك وإن نقص شيء فإنك لا تطالب به, نجعل الخيار للسيد، هذا معنى قول المؤلف رحمه الله: (فمهرها في رقبته كجنايته إلا أن يفديه السيد بأقل من قيمته أو المهر) فنقول للسيد: أنت بالخيار إما أن تفديه بالأقل يعني: ينظر الأقل من المهر أو القيمة, ينظر إذا كانت مثلاً: قيمته ألف ومهرها ألف ومائة تدفع الألف أو أننا نقوم ببيعه ونوفي المرأة المهر، فإن فضل شيء رد عليك وإن لم يفضل شيء فإنك لا تطالب به هذا معنى قوله: (فمهرها في رقبته كجنايته).
حكم من نكح أمة على أنها حرة
قال المؤلف رحمه الله: [ومن نكح أمة على أنها حرة ثم علم فله فسخ النكاح ولا مهر عليه إن فسخ قبل الدخول، وإن أصابها فلها مهرها، وإن أولدها فولده حر يفديه بقيمته ويرجع بما غرم على من غره، ويفرق بينهما إن لم يكن ممن يجوز له نكاح الإماء].يأتينا إن شاء الله ما يتعلق بدرس المحرمات في النكاح أن الحر ليس له أن يتزوج الأمة, يعني: الأمة التي تباع وتشترى الحر لا يجوز له أن يعقد عليها عقد نكاح إلا بشروط ثلاثة كما سيأتي إن شاء الله, هنا لو أن حراً تزوج أمة يظن أنها حرة, تزوج هذه المرأة على أنها حرة ثم بعد ذلك تبين أنها أمة, يقول المؤلف رحمه الله: (فله فسخ النكاح ولا مهر عليه إن فسخ قبل الدخول).إذا تزوج الحر امرأة يظن أنها حرة ثم بعد ذلك تبين أنها أمة فإن كان هذا الشخص ممن لا يجوز له أن يتزوج الإماء؛ لأنه لم تتوافر فيه الشروط الثلاثة التي سنذكرها لاحقاً بإذن الله فهذا يجب عليه أن يفسخ عقد النكاح؛ لأن عقد النكاح هذا غير صحيح, فإن كان هذا الرجل له أن يتزوج الإماء نقول: أنت بالخيار إما أن تستمر على العقد وإما أن تفسخ.فعندنا بالنسبة لما يتعلق بفسخ العقد إن كان ممن لا يجوز له أن يتزوج الإماء العقد غير صحيح, وإن كان ممن يجوز له أن يتزوج الإماء نقول: أنت بالخيار، إما أن تفسخ وإما أن تستمر فيكون من باب تصرف الفضولي, هذا بالنسبة لعقد النكاح. بقينا في الأمر الثاني وهو بالنسبة للمهر، إن كان الفسخ قبل الدخول فلا مهر عليه, وإن فسخ بعد الدخول يعني: بعد أن دخل بالمرأة ووطئها فإن المرأة يجب لها المهر, لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولها المهر بما استحل من فرجها )، والزوج يرجع على من غره وغشه, فإذا كان الولي غره يرجع ويغرمه المهر الذي أخذته منه المرأة؛ لأن الولي هو الذي باشر عقد النكاح, إذا كان الزوج جاهلاً بالوضع فإنه يرجع على المرأة, يعني: يعطي المرأة المهر بما استحل من فرجها ثم بعد ذلك يرجع على من غره من الولي أو من المرأة. بقي مسألة ثالثة ذكرها المؤلف رحمه الله: وهي ما إذا أتى بولد, ولد الأمة يكون رقيقاً؛ لأن الولد يتبع أمه, ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [فإن كان ممن يجوز له ذلك فرضي فما ولدت بعد الرضا فهو رقيق].بالنسبة لولد هذا الشخص يكون حراً؛ لأنه مغشوش وقد غر في ذلك, لكن يقول المؤلف رحمه الله: يفديه بقيمته ويرجع بما غرم على من غره, يقول: هذا الولد الذي جاء بعد وطء هذه المرأة وتبين أنها أمة نقول: بأنه حر ولا نحكم بأنه رقيق لسيد الأمة, وعلى أبيه أن يفديه يعني: يدفع قيمته لسيد الأمة، ويرجع على من غره من الولي لهذه المرأة أو من المرأة, فبالنسبة للمهر يعطيه المرأة ويرجع على من غره إما الولي أو المرأة, أيضاً الولد إن ولدت يكون حراً ويفديه بقيمته ويرجع على من غره من الولي أو المرأة, إن رضي بنكاح هذه المرأة وهو ممن له نكاح الإماء فما ولدت بعد ذلك فهو رقيق كما سيأتينا إن شاء الله.
الأسئلة

تعليق الولي موافقته على الخطبة على شرط مباح
السؤال: إذا خطب رجل صالح امرأة صالحة وشرط عليه أهل المرأة إن لم تخرج الموافقة من المحكمة خلال ثلاثة شهور سوف يقبلون من يأتي بعدك لخطبة هذه المرأة إن كان صالحاً، وذلك خوفاً من أن تربط المرأة لهذا الرجل مدة طويلة؟الجواب: هذا شرط صحيح يعني: لو أنه قيل له لما خطب: إن لم يتم الأمر خلال يومين أو خلال أسبوع أو في خلال شهر فإنه لا خطبة لك, فإن هذا شرط صحيح؛ لأن المسلمين على شروطهم.
النظر إلى المخطوبة بلا وجود محرم عندها
السؤال: هناك من يرى أن حضور المحرم ليس ضرورياً بالنسبة للنظر إلى المخطوبة؟ الجواب: المحرم يشترط في السفر، وفي الحضر يشترط عدم الخلوة، فلو أن الرجل نظر إلى المخطوبة وليس هناك خلوة يعني: يكون هناك أحد من أقاربها أو من قريباتها أو من قريباته هو وليس هناك محذور شرعي, فإنه لا بأس بذلك, يعني: ليس بشرط أن يكون المحرم موجوداً؛ لأن المحرم نشترطه في السفر، وفي الحضر نشترط عدم الخلوة, ولذلك نحن ذكرنا في شروط لم نشترط المحرم وإنما اشترطنا عدم الخلوة.
عدة المختلعة
السؤال: امرأة خالعت زوجها فما عدتها؟الجواب: المختلعة هي التي طلقت على عوض, والخلع: هو فراق المرأة على عوض، والصواب أن عدتها حيضة واحدة فقط, ويدل لذلك أن امرأة ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه اعتدت بحيضة واحدة، وكذلك أيضاً الربيع رضي الله تعالى عنها لما اختلعت في زمن عثمان أمرها عثمان رضي الله تعالى عنه أن تعتد بحيضة واحدة, والثلاث الحيض هذه عدة لمن لزوجها أن يراجعها لكي تطول زمن الرجعة, وما الفائدة أن نجعل عدة المرأة ثلاث حيض وزوجها لا يتمكن من مراجعتها مثل: المختلعة والمفسوخة؟ هذه لا يمكن لزوجها أن يرجع إليها إلا بعقد, فإذا كان كذلك فما الفائدة من التطويل ونجعل ذلك ثلاث حيض؟فالصواب أن المختلعة عدتها حيضة واحده كما ثبت في قصة امرأة ثابت بن قيس وأيضاً ورد عن عثمان رضي الله تعالى عنه.
الحكمة من عدم كون ذوي الأرحام أولياء في النكاح
السؤال: ما الحكمة من أن ذوي الأرحام لا يتولون عقد المرأة وتزويجها مع أنهم قد يكونون أحرص على المرأة من معتقها عصباته ومن السلطان؟الجواب: ذوي الأرحام ليس لهم ولاية, فمثلاً: أخ لأم ليس له ولاية على المرأة, بل نقول: العصبات الأصول، الفروع، الحواشي، لم يوجد شيء من ذلك ننتقل بعد العصبة بالنسب إلى العصبة بالسبب، لم نجد شيئاً من ذلك نرجع إلى السلطان، والسلطان يولي من يشاء، إما الخال والجد من قبل الأم وابن العمة وأيضاً ابن الأخت, وأيضاً الأخ لأم..إلخ, فسائر ذوي الأرحام ليس لهم دخل في ولاية النكاح، والعلة في ذلك أن الشارع لم يجعل لهم شيئاً من ذلك.
دخول العريس قاعة النساء والتأخر في الزفاف والتبذير في الطعام
السؤال: قال: ما حكم دخول العريس في قاعة النساء؟ وما حكم إطالة الزواج إلى فترة متأخرة مثل: الساعة الرابعة؟ وما رأيك في الطعام الزائد؟الجواب: هذه كلها من المحذورات والأخطاء والمنكرات التي توجد في عقود الزواج، وإذا نظرنا إلى الشريعة الإسلامية نجد أن الشريعة الإسلامية سهلة، وأنها خففت أمر النكاح, اليوم الناس يشددون على أنفسهم فيما يتعلق بالتكاليف، وفيما يتعلق بالتجهيزات وغير ذلك, فيجعلون كثيراً من العقبات أمام هذا العقد العظيم الذي ينبغي أن نكثر منه، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة )، وانظر إلى حديث سهل في الصحيحين في قصة المرأة التي جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: يا رسول الله وهبت نفسي لك، فلم يرَ النبي عليه الصلاة والسلام فيها حاجة فقال رجل من أصحابه: زوجنيها يا رسول الله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما تصدقها؟ قال: أصدقها إزاري -ما معه إلا إزاره وما عليه رداء- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك، اذهب فالتمس ولو خاتما من حديد، فذهب ولم يجد شيئاً, فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه لم يجد شيئاً، ثم جلس فطال به المقام فقام، فلما انصرف دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل تحفظ شيئاً من القرآن؟ قال: نعم أحفظ سورة كذا وكذا فقال: زوجتكها بما معك من القرآن ), فانتهى العقد بأمور يسيرة جداً؛ لأن الشارع يريد أن يكثر من عقد النكاح, لما يترتب عليه من المصالح العظيمة، من القيام على المرأة وكفالتها وغض الأبصار، وحفظ الفروج, والاستقرار والسكينة والطمأنينة.. إلخ, أما أن نجعل هذه العقبات الكثيرة وهذه الأمور أتى من قبل أعداء الإسلام من قبل اليهود والنصارى, مع أنك إذا تأملت العقود التي توجد عند غير أهل السنة والجماعة تجد أن عقودهم يسيرة سهلة، فمثلاً: الرافضة العقود عندهم سهلة جداً، مهر النكاح عندهم سهل جداً, حتى النصارى المهر عندهم خمسون دولاراً ما يقرب من مائة وعشرين ريالاً، أما عندنا يكلف الزوج بمبالغ باهضة ويستدين..إلخ, فعلينا أيها الأحبة أن نحاب مثل: هذه الأمور.
اشتراط المرأة أن يكون مهرها مصحفاً
السؤال: قال: ما الحكم إذا اشترطت المرأة أن يكون مهرها مصحف؟الجواب: هذا شرط صحيح، والعلماء رحمهم الله يقولون في ضابط الصداق: كل ما صح أن يكون أجرة أو ثمناً من الأعيان والمنافع صح أن يكون مهراً, يعني: حتى ولو ريال واحد يصح أن يكون ثمناً ويصح أن يكون أجرة, حتى المنفعة لو أنك أصدقتها منفعة أن تعلمها كتاب الطهارة صح، أو تعلمها سورة من القرآن أو تعلمها عشر صفحات من كتاب التوحيد..إلخ صح، كل ما صح أن يكون ثمناً أو أجرة من المنافع والأعيان صح أن يكون مهراً.
المهر المؤخر
السؤال: هل ورد في الشرع وجود المهر المؤخر للمرأة؟الجواب: هذا لا يوجد في الشرع، والأحسن أن لا يكون هناك شيء اسمه مؤخر، وإنما يكون مهر يسير يقدمه الزوج, وأما اشتراط مهر مؤخر فهذا الشرط صحيح لكنه ليس موجوداً في الشرع, ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( زوجتكها بما معك من القرآن )، ولم يقل: زوجتكها بدينار أو بدرهم يكون مؤخراً عليك.

ابو وليد البحيرى
2019-04-18, 06:05 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب النكاح [4]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(79)


أكرم الله الإنسان وهذب أخلاقه ورفعه عن الحياة البهيمية، ومن ذلك أن نظم علاقته مع المرأة، وبين ما يحل له من النساء وما يحرم، وقد حرم الله على الإنسان أنواعاً من النساء تحريماً مؤبداً من جهة النسب ومن جهة الرضاع ومن جهة المصاهرة.
المحرمات في النكاح
أيها الأحبة تقدم لنا شيء من شروط صحة النكاح، فتكلمنا عن الولاية, ومراتب الأولياء, وتكلمنا أيضاً عن الشهادة وكلام أهل العلم رحمهم الله في اشتراط الشهادة, ثم بعد ذلك تكلمنا عن رضا الزوجين ومن الذي يعتبر رضاه، ومن الذي لا يعتبر رضاه.. إلخ, ثم بعد ذلك تكلمنا عن الكفاءة بين الزوجين, وهل الكفاءة شرط لصحة عقد النكاح أو أنها شرط للزوم, ثم بعد ذلك ذكرنا شيئاً من أحكام الإماء على سيدهن وأيضاً شيئاً من أحكام الرقيق مع سيدهم.قال المؤلف رحمه الله: [باب المحرمات في النكاح].المحرمات في النكاح, المراد بهذا الباب الممنوع تزوجهن، والأصل في النكاح هو الحل؛ لأن الله عز وجل لما ذكر، عدد المحرمات: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ [النساء:23]، ثم قال الله عز وجل بعد ذلك: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، وفي قراءة سبعية: وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] بفتح الألف والحاء، فأفاد هذا بأن الأصل هو الحل إلا ما جاء الشرع بتحريمه سواء كان ذلك في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
المحرمات تأبيداً
المحرمات ينقسمن إلى قسمين: القسم الأول: محرمات على التأبيد, بمعنى: أنها لا تحل للإنسان إلى يوم القيامة.والقسم الثاني: محرمات على التأقيت. المحرمات على التأبيد ينقسمن إلى خمس أقسام:القسم الأول: محرمات بالنسب.والقسم الثاني: محرمات بالمصاهرة.والقس الثالث: محرمات باللعان.والقسم الرابع: محرمات بالرضاع.والقسم الخامس: محرمات بالاحترام.
المحرمات من النسب
فالمحرمات على التأبيد ينقسمن إلى هذه الأقسام الخمسة. شرع المؤلف رحمه الله في بيان القسم الأول من هذه الأقسام الخمسة وهن المحرمات بالنسب فقال رحمه الله: [وهن الأمهات والبنات والأخوات وبنات الإخوة، وبنات الأخوات والعمات والخالات]. هذا القسم الأول من المحرمات على التأبيد وهن المحرمات بالنسب, فتحرم الأم وأمها وإن علت يعني: تحرم الأم وكل جدة سواء كانت من قبل الأم أو من قبل الأب وإن علت, وتحرم البنت وبنتها وإن نزلت، وبنت الابن وإن نزلت, وتحرم الأخت من أي جهة سواء كانت شقيقة أو كانت لأب أو كانت لأم، وتحرم أيضاً بنت الأخ, أو قبل ذلك العمة سواء كانت هذه العمة شقيقة أو لأب أو لأم، وأيضاً تحرم هذه العمة وإن علت, يعني: عمة أبيك وعمة جدك وعمة أمك..إلخ, هؤلاء كلهن محرمات عليك, أيضاً الخالة تحرم مطلقاً سواء كانت هذه الخالة لأب أو لأم أو شقيقة, وسواء كانت خالة لك أو لأبيك أو لأمك وإن علت, كذلك أيضاً بنت الأخ تحرم مطلقاً سواء كان هذا الأخ شقيقاً أو لأب أو لأم أيضاً حتى وإن نزلت, فتحرم بنت الأخ وبنتها وبنت ابنها وإن نزلن, كذلك أيضاً بنت الأخت تحرم مطلقاً سواء كانت هذه الأخت شقيقة أو لأم أو لأب, وتحرم مطلقاً حتى وإن نزلت، فتحرم بنت الأخت وبنتها وبنت بنتها وبنت ابنها وإن نزلن, هؤلاء محرمات عليك إلى يوم القيامة, هذا هو القسم الأول من المحرمات بالنسب, وهذا دل له الإجماع وقول الله عز وجل كما سلف: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ [النساء:23]، هذا القسم الأول المحرمات بالنسب.
المحرمات بالمصاهرة
قال المؤلف رحمه الله: [وأمهات النساء وحلائل الآباء والأبناء والربائب المدخول بأمهاتهن].هذا القسم الثاني من المحرمات على التأبيد: وهن المحرمات بالمصاهرة, والمحرمات بالمصاهرة أربع:الأولى: زوجة الأب وزوجة كل جد وإن علا, فهذه تحرم بمجرد العقد، زوجة أبيك وزوجة جدك سواء كان هذا الجد من قبل الأب أو من قبل الأم فإنه بمجرد أن يعقد أبوك أو جدك وإن علا على هذه المرأة فإنها تحرم عليك إلى يوم القيامة، وتكون أنت محرماً لهذه المرأة حتى ولو طلقها أبوك أو مات عنها فأنت تكون لها محرماً إلى يوم القيامة.فالأولى من المحرمات بالمصاهرة: زوجة الأب وزوجة كل جد مطلقاً وإن علا, فإنها تكون محرمة بمجرد العقد إلى يوم القيامة, ودليل ذلك قول الله عز وجل: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:22]. قال المؤلف رحمه الله: [وأمهات النساء]. الثانية من المحرمات بالمصاهرة: أم كل زوجة وإن علت, فهذه تحرم عليك بمجرد العقد, فأم الزوجة وأمها وأم أمها, يعني: جدات الزوجة سواء كانت هذه الجدة من قبل الأب أو كانت من قبل الأم فإنها محرمة عليك إلى يوم القيامة بمجرد العقد, حتى ولو طلقت زوجتك فأنت تبقى محرماً لأمها وأيضاً محرماً لجدتها وإن علت هذه الجدة، وسواء كانت هذه الجدة من قبل الأم أو كانت من قبل الأب. فنقول: الثاني ممن يحرم بالمصاهرة: أم الزوجة وأمهاتها وجداتها سواء كانت هذه الجدات من قبل الأم أو من قبل الأب, فإنه بمجرد أن تعقد على هذه المرأة حرمت عليك أمها وجدتها مطلقاً سواء كانت هذه الجدة من قبل الأم أو من قبل الأب حتى ولو طلقت هذه المرأة فإنها تبقى محرمة عليك وتبقى محرماً لها, ودليل ذلك قول الله عز وجل: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ [النساء:23].قال المؤلف رحمه الله: [وحلائل الأبناء].الثالثة ممن يحرمن بالمصاهرة: زوجة الابن مطلقاً, زوجة الابن بمجرد أن يعقد ابنك على هذه المرأة فإنها تكون محرمة عليك إلى يوم القيامة, فابنك وابن ابنك وابن بنتك بمجرد أن يعقد على هذه المرأة فإنها تكون محرمة عليك إلى يوم القيامة, حتى ولو طلقها أو مات عنها وتكون محرماً لها. فنقول الثالثة: زوجة كل ابن وإن نزل وسواء كان هذا الابن نزل بمحض الذكور أو نزل بمحض الإناث فإن زوجته تكون محرمة عليك إلى يوم القيامة بمجرد العقد, ودليل ذلك: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23].قال المؤلف رحمه الله: [والربائب المدخول بأمهاتهن]. الرابعة ممن تحرم بالمصاهرة: الربيبة: بنت الزوجة، بنت الزوجة هذه تحرم عليك بمجرد أن تدخل بأمها، لكن لو عقدت على أمها ثم طلقتها قبل أن تدخل بأمها فإنها لا تحرم عليك.والربائب يحرمن عليك مطلقاً, يعني: بنت الزوجة وبنتها وإن نزلت, يعني: بنت الزوجة وبنتها وبنت بنتها وبنت ابن ابنها. وإن نزلن. فالربائب محرمات عليك مطلقاً بمجرد أن تدخل بأمها, أما لو حصل عقد على هذه الأم ثم حصل طلاق قبل الدخول فإن الربيبة لا تحرم, ودليل ذلك قول الله عز وجل: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23]، فالله عز وجل اشترط شرطين لتحريم الربيبة:الشرط الأول: أن تكون في حجر الزوج, يعني: تربت في بيته.والشرط الثاني: أن يكون دخل بأمها. وقد اختلف أهل العلم رحمهم الله هل لا بد من توافر هذين الشرطين لكي تحرم الربيبة أو أنه يكتفى بشرط واحد؟ على رأيين:الرأي الأول: وهو رأي جمهور أهل العلم: أنه يكتفى بشرط واحد فقط, وهو الدخول بالأم, فإن كان الزوج دخل بالزوجة حرمت عليه بناتها, وبنات بناتها، وبنات أبنائها, وإن لم يكن الزوج دخل بالزوجة, وأما مجرد العقد عليها فإنه لا تحرم عليه الربائب حتى يدخل بها, وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله.الرأي الثاني: أنه لا بد من توافر هذين الشرطين, أن يدخل الزوج بالزوجة، وأن تكون هذه البنت قد تربت في حجر الزوج، فإن دخل الزوج بزوجته ولها بنت لكن هذه البنت لم تترب في حجره فإنها لا تحرم عليه, وهذا ذهب إليه طائفة من السلف، وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.والصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله وأنه يشترط شرط واحد فقط وهو الدخول بالأم, فإذا دخل بأمها حرمت عليه وإن لم تتربَّ في حجره؛ لأن الله عز وجل فصل في هذا الشرط وترك التفصيل في الشرط الآخر، فهذا دليل على أن شرط الحجر غير معتبر؛ لأن الله عز وجل تركه ولم يفصل فيه, وإنما فصل في شرط الدخول فقال الله عز وجل: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23]، ففصل في شرط الحجر, وهذا القول: هو الصواب. وأيضاً لا تحرم الزوجة الربيبة إلا بالدخول بالأم أي بالجماع، فلو أن الزوج عقد على هذه الزوجة وخلا بها واستمتع بها فهل تحرم عليه بنتها أو لا تحرم عليه بنتها؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم, والصواب في ذلك أنها لا تحرم عليه؛ لأن الله عز وجل قال: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23]، فقال الله عز وجل: بِهِنَّ ولم يقل سبحانه: عليهن, فدل ذلك على أنه لا بد من الوطء ولا بد من الجماع لكي تحرم عليه الربيبة. فأصبح عندنا المحرمات بالمصاهرة أربع: ثلاث يحرمن بمجرد العقد، وواحدة لا تحرم إلا بالدخول. اللاتي يحرمن بمجرد العقد: الأولى: زوجة الأب، وزوجة كل جد وإن علت, سواء كان هذا الجد من قبل الأب أو كان من قبل الأم.الثانية: زوجة كل ابن وإن نزل هذا الابن سواء كان هذا الابن نزل بمحض الذكورة أو نزل بمحض الإناث, فهذه تحرم بمجرد العقد. الثالثة: أم كل زوجة وجدة مطلقاً وإن علت, فنقول: أم الزوجة وجداتها مطلقاً سواء كن هؤلاء الجدات من قبل الأب أو من قبل الأم فإنهن يحرمن بمجرد العقد. الرابعة: الربيبة بنت الزوجة مطلقاً سواء كانت بنتاً لها أو نزلت بنت ابنها أو بنت بنتها وإن نزلن فإنهن لا يحرمن إلا بالدخول بالزوجة.
المحرمات بالرضاع
قال: [ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب].هذا القسم الثالث من المحرمات على التأبيد: التحريم بالرضاع, وهذا التحريم بالرضاع سيعقد له المؤلف رحمه الله كتاباً مستقلاً وهو: كتاب الرضاع.قال: (ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب), وهذا دليله قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ). قال المؤلف رحمه الله: [وبنات المحرمات محرمات إلا بنات العمات والخالات]. بنات المحرمات محرمات إلا بنات العمات والخالات, يعني: بنت عمتك لا تحرم عليك مع أن عمتك محرمة عليك، وبنت خالتك لا تحرم عليك مع أن خالتك محرمة عليك. كذلك أيضاً ربيبة أبيك ليست محرمة عليك, مع أنها محرمة على أبيك, أبوك إذا دخل بزوجته, فإن ربيبته تحرم عليه, لكن هذه الربيبة مباحة للابن, فيباح للابن أن يتزوج ربية أبيه، ويباح للابن أيضاً أن يتزوج أم زوجة أبيه, فلو أن أباك أو جدك عقد على امرأة وهذه المرأة لها أم فهذه الأم محرمة على أبيك, لكنها بالنسبة للابن حلال له, فالابن يجوز له أن يتزوج أم زوجة أبيه وجدة زوجة أبيه وإن علت, كذلك أيضاً الابن يجوز له أن يتزوج ربيبة أبيه، فلو أن أباك تزوج امرأة وهذه المرأة لها بنت, ودخل أبوك بزوجته حرمت عليه الربيبة إلى يوم القيامة، فيجوز للابن وإن نزل أن يتزوج ربيبة أبيه, كذلك أيضاً يجوز للأب أن يتزوج أم زوجة ابنه، ويجوز له أيضاً أن يتزوج ربيبة ابنه, فلو أن ابنك تزوج امرأة وهذه المرأة لها أم يجوز لك أن تتزوج أم زوجة ابنك, كذلك أيضاً لو أن ابنك تزوج امرأة وهذه المرأة لها بنت، ودخل ابنك بزوجته حرمت عليه ربيبته، لكن هذه الربيبة مباحة للأب.فنقول: أمهات الأزواج وربائب الأزواج محرمات على الآباء والأبناء, نقول: أم زوجة ابنك محرمة على ابنك، ربيبة ابنك محرمة على ابنك لكنها مباحة للأب، والعكس كذلك أم زوجة أبيك وربيبة أبيك هذه محرمة على أبيك, لكنها بالنسبة للابن حلال له.
هل الحرام يحرم الحلال؟
قال المؤلف رحمه الله: [ومن وطء امرأة حلالاً أو حراماً حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمهاتها وبنتها]. هذه مسألة هل الحرام يلحق بالحلال في التحريم أو لا يلحق به؟هذا موضع خلاف بين أهل العلم:المشهور من المذهب أن الحرام يلحق بالحلال في التحريم. صورة المسألة: أنت عقدت على هذه المرأة، أم هذه المرأة هل تحرم عليك أو لا تحرم عليك؟نقول: تحرم عليك، أم الزوجة وجداتها كما سلف لنا محرمات عليك إلى يوم القيامة بمجرد العقد, هذا بالنسبة للحلال, بقينا في الحرام, زنى رجل بامرأة هل تحرم عليه أمها؟ وهل يحرم عليه أيضاً بنتها، بنت هذه المزني بها؟ يقول المؤلف رحمه الله: الحرام كالحلال تماماً, فإذا زنى رجل بامرأة حرمت عليه أمها كما أنه إذا تزوج هذه المرأة حرمت عليه أمها وجداتها, فكذلك أيضاً إذا زنى بهذه المرأة فإن أمها وجداتها يحرمن عليه إلى يوم القيامة, كما أنه أيضاً إذا تزوج امرأة ودخل بهذه المرأة ولها ربيبة حرمت عليه ربيبته، كذلك أيضاً إذا زنى بامرأة وهذه المرأة لها بنت فإن هذه البنت تحرم عليه, فألحق السفاح بالنكاح, ولهذا قال المؤلف: ومن وطء امرأة حلالاً أو حراماً, حلالاً بعقد النكاح، أو حراماً بالزنا، حرمت على أبيه وابنه، وحرمت عليه أمهاتها وبناتها, فأنت إذا زنيت بامرأة حرمت عليك أمها, كما أنك إذا عقدت عليها تحرم عليك أمها, أيضاً تحرم عليك بنتها كما أنك أيضاً إذا عقدت عليها ودخلت بها حرمت عليك الربيبة كذلك أيضاً إذا زنيت بها حرمت عليك بنتها. كذلك أيضاً قال المؤلف رحمه الله: حرمت على أبيه وابنه, كما أن الشخص إذا عقد على امرأة فإنها تحرم على أبيه؛ لأنه تقدم لنا من المحرمات بالمصاهرة: زوجة كل ابن وإن نزل, فلو أن رجلاً زنى بامرأة حرمت على أبيه, كما أنه في الحلال لو أن هذا الرجل تزوج هذه المرأة حرمت على أبيه؛ لأن من المحرمات بالمصاهرة زوجة كل ابن وإن نزل, كذلك أيضاً تحرم على ابنه, لو أن رجلاً زنى بامرأة حرمت هذه المرأة على أبنائه كما أنه لو عقد عليها حرمت هذه المرأة على أبنائه, فألحقوا السفاح بالنكاح, هذا هو المشهور من المذهب. واستدلوا بالعمومات قالوا: إن الله عز وجل يقول: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [النساء:22]، وكذلك أيضاً قالوا: بأن الله عز وجل يقول: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ [النساء:23], وقالوا بأن هذا يشمل الحلال والحرام, وأيضاً استدلوا بقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها, وكذلك أيضاً قالوا: بأنه موجود في التوراة أنه ملعون من نظر إلى فرج امرأة وبنتها.والرأي الثاني: أن الأصل في ذلك الحل لقول الله عز وجل: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، وأن الرجل إذا زنى بامرأة فإن هذه المرأة لا تحرم على أبيه ولا تحرم على ابنه كما ذكر المؤلف رحمه الله, كذلك إذا زنى بامرأة فإن أم المزني بها لا تحرم على الزاني، وكذلك أيضاً بنت المزني بها لا تحرم على الزاني, ولا نلحق السفاح بالنكاح, وهذا القول: هو الصواب؛ لأن الأصل في ذلك الحل، والمحرم شرعاً كالمعدوم حساً. والمشهور من المذهب أنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك فقالوا: لو أن رجلاً لاط برجل يعني: لو أن رجلاً عمل اللواط برجل, فقالوا: أيضاًهذا الائط الذي لاط بهذا الرجل يحرم عليه أن يتزوج بنته ويحرم عليه أيضاً أن يتزوج أمه, كما أنه إذا عقد على امرأة يحرم عليه أن يتزوج أم زوجته، ويحرم عليه أيضاً أن يتزوج بنت زوجته، فكذلك أيضاً إذا لاط بشخص فإنه يحرم عليه أن يتزوج أمه، وكذلك أيضاً يحرم عليه أن يتزوج ابنته.والصواب في ذلك أن السفاح لا يلحق بالنكاح, وأن المحرم شرعاً كالمعدوم حساً, وإذا كان الشخص له أن يتزوج المزني بها إذا تابت, يعني: لو زنى بامرأة ثم بعد ذلك تابت هذه المرأة وتاب الزاني له أن يتزوجها, فمن باب أولى له أن يتزوج أمها, ومن باب أولى له أن يتزوج بنتها.
التحريم باللعان
الرابع: التحريم بسبب اللعان, إذا حصل لعان بين الزوجين بعد أن يقذف الزوج زوجته بالزنا فإنه يقال له: البينة أو حد في ظهرك أو تلاعن, الأصل أن من قذف غيره بالزنا أنه يطلب منه أمران, إما البينة يأتي بأربعة شهود على ما ذكر من القذف بالزنا أو حد في ظهره, خرجنا عن هذا الأصل في الزوجين, فبالنسبة للزوجين نقول: البينة أربعة شهود إذا قذف الزوج زوجته أو حد في ظهره أو يلاعن, وإنما خرج في حق الزوجين؛ لأن الزوج لا يقدم على قذف زوجته إلا وهو متيقن ما يقول؛ لأنه في لعانه يدنس فراشه ويلوث عرضه, فجعل الله له مخرجاً وهو اللعان, فنقول له: البينة أو حد في ظهره أو يخرج عن هذا باللعان, وإنما خرج عن هذا الأصل (البينة أو حد في ظهره)؛ لأنه كما تقدم لنا أن الزوج لا يقدم على قذف زوجته إلا وهو متيقن, فجعل الله له مخرجاً, بخلاف غير الزوج فقد يقدم على القذف وهو كاذب, أما الزوج الغالب أنه لا يقدم على ذلك إلا وهو متيقن, كوننا نطالبه بالبينة قد يتعذر ذلك، وكوننا نجلده حداً في ظهره قد نظلمه في ذلك, فجعل الله له مخرجاً وهو اللعان، فيتلاعن الزوجان بحضرة القاضي, وإذا تم اللعان ترتبت عليه أحكم من هذه الأحكام الفرقة الأبدية إلى يوم القيامة, فإنه لا يجوز له أن يتزوج هذه المرأة إلى يوم القيامة.
المحرمات بالاحترام
الخامس: المحرمات بالاحترام وهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. فأصبح عندنا القسم الأول: المحرمات على التأبيد وهن خمسة أقسام: الأول: المحرمات بالنسب, وهذه ذكرنا أنهن سبع. الثاني: المحرمات بالمصاهرة وهن أربع. الثالث: المحرمات بالرضاع وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك. الرابع: المحرمات باللعان. الخامس: المحرمات بالاحترام. هذه أقسام التحريم على التأبيد.
المحرمات مؤقتاً
بعد ذلك شرع المؤلف رحمه الله في بيان القسم الثاني: وهن المحرمات على التأقيت, والمحرمات على التأقيت ينقسمن إلى قسمين: القسم الأول: محرمات بسبب الجمع.والقسم الثاني: محرمات بسبب عارض ثم يزول.محرمات بسبب الجمع ومحرمات بسبب عارض ثم يزول.
المحرمات بسبب الجمع
المحرمات بسبب الجمع ذكر بعض العلماء رحمهم الله لهن ضابطاً. قال: إذا كان أحدهما ذكراً والآخر أنثى فإنه لا يتزوج أحدهما من الآخر.. إلى آخر ما ذكر من الضابط كما ذكره ابن رجب رحمه الله, لكن الصواب في ذلك أن نقول: المحرمات بسبب الجمع بينها النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها )، وأيضاً لا يجمع بين الأختين, لقول الله عز وجل: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23].فهذا هو القسم الأول المحرمات على التأقيت بسبب الجمع, فإذا زال الجمع طلق الزوج العمة فإنه يجوز له أن يتزوج ابنة أخيها, طلق الزوج الخالة فإنه يجوز له أن يتزوج ابنة أختها, طلق الزوج الأخت وخرجت من العدة فإنه يجوز له أن يتزوج الأخت الثانية.هذا هو الأمر الأول المحرمات بسبب الجمع من القسم الثاني وهن المحرمات على سبيل التأقيت.قال المؤلف رحمه الله: [فصل: ويحرم الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بينها وبين خالتها )].
المحرمات بسبب عارض
بالنسبة للأمر الثاني وهن المحرمات على سبيل التأقيت بسبب عارض ثم يزول, يشر إليه المؤلف رحمه الله كما سيأتي إن شاء الله.
الجمع بين أكثر من أربع نسوة
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يجوز للحر أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة]. هذا ظاهر وقد حكى بعض العلماء رحمهم الله الإجماع على ذلك، وأن الحر لا يجوز له أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة, وهذا أيضاً يذكره أهل السنة والجماعة في معتقداتهم رداً على الرافضة؛ لأن الرافضة يخالفون في هذه المسألة، ويدل لذلك ( حديث غيلان بن سلمة رضي الله تعالى عنه أنه أسلم وتحته عشر نسوة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعاً منهن ), وهذا أخرجه ابن ماجة والحاكم والبيهقي وإسناده صحيح، وكذلك أيضاً قيس بن الحارث رضي الله تعالى عنه ( أسلم وتحته ثمان نسوة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعا منهن ).قال المؤلف رحمه الله: [ولا للعبد أن يجمع إلى اثنتين].جمهور العلماء رحمهم الله أن الرقيق ليس له أن يتزوج إلا اثنتين, على النصف من الحر, والرأي الثاني رأي الإمام مالك رحمه الله ورأي داود الظاهري أنه لا فرق بين الحر وبين الرقيق فكل منهم له أن يتزوج أربع نسوة للعمومات.قال المؤلف رحمه الله: [فإن جمع بين ما لا يجوز الجمع بينه في عقد واحد فسد العقد]. يعني: لو أنه تزوج أختين في عقد واحد قال له الولي: زوجتك فلانة وفلانة فقال: قبلت، يقول المؤلف رحمه الله: العقد فاسد؛ لأنه لا يجوز له أن يجمع بين من لا يجوز الجمع بينهما في عقد واحد.قال المؤلف رحمه الله: [وإن كان في عقدين لم يصح الثاني منهما]؛ لأن الثاني هو الذي حصل به الجمع, وهذا الجمع محرم ولا يجوز فيفسد, فلو أنه قال له: زوجتك فلانة فقال: قبلت, ثم بعد ذلك عقد له عقداً آخر فقال: زوجتك فلانة أختها, قال: قبلت, فنقول: بأن العقد الأول صحيح إذ لا مانع وأما العقد الثاني فباطل؛ لأنه هو الذي حصل به الجمع وهذا الجمع محرم ولا يجوز, والتحريم يعود إلى ذات المنهي عنه فيقتضي الفساد.
من أسلم وتحته أختان
قال المؤلف رحمه الله: [ولو أسلم كافر وتحته أختان اختار منهما واحدة].وهذا دليله ما ورد أن فيروز الديلمي رضي الله تعالى عنه ( أسلم وتحته أختان فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار واحدة منهما) . قال المؤلف رحمه الله: [وإن كانتا أماً وبنتاً ولم يدخل بالأم فسد نكاحها وحدها]. يعني: إذا أسلم وتحته زوجتان هاتان الزوجتان أم وبنت, ولم يدخل بالأم فسد نكاحها وحدها, يعني: فسد نكاح الأم وحدها؛ لأن الأم يفسد نكاحها؛ لأنها أم زوجة، وأم الزوجة كما تقدم لنا تحرم بمجرد العقد, وأما البنت لا يفسد نكاحها؛ لأن البنت ربيبة هذا الزوج، الآن عنده زوجتان أم وبنت, أسلم الآن, يقول المؤلف: ما دام أنه لم يدخل بالأم حرمت عليه الأم؛ لأن الأم تحرم بمجرد العقد, أما الزوجة تحرم بمجرد العقد, الربيبة لا تحرم إلا بالدخول بالأم ولم يدخل بالأم, فنقول: الربيبة حتى الآن ليست محرمة عليه؛ لأنه لم يدخل بأمها، وأما الأم فهي محرمة عليه؛ لأنها أم زوجة وأم الزوجة تحرم بمجرد العقد, فإذا أسلم وتحته هذه الأم والبنت فنقول: فسد نكاح الأم؛ لأن الأم تحرم على الزوج بمجرد العقد على البنت, وهو الآن عقد على البنت, فنقول: هذه نكاحها فاسد, وأما الربيبة فهذه لا تحرم على الزوج إلا بالدخول بالأم ولم يدخل بالأم, فالربيبة لا مانع في نكاحها فيبقى النكاح ويثبت، وأما الأم فإنه يفسد نكاحها ؛ لأنه سبق لنا أن مجرد العقد على الزوجة يحرم الأم.قال المؤلف رحمه الله: [وإن كان دخل بها فسد نكاحهما وحرمتا على التأبيد]. فسد نكاحهما؛ لأن الأم أم زوجه تحرم بمجرد العقد، وبنت الزوجة وقد دخل بأمها أيضاً فتحرم عليه على التأبيد, فالأم تحرم عليه على التأبيد؛ لأنها أم زوجة وأم الزوجة تحرم بمجرد العقد, والربيبة تحرم على التأبيد أيضاً لكونه دخل بأمها.
من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة
قال المؤلف رحمه الله: [وإن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة أمسك منهن أربعاً وفارق سائرهن]. وهذا كما تقدم لنا دليله حديث قيس بن الحارث رضي الله تعالى عنه, ( لما أسلم وتحته ثمان نسوة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعاً وأن يفارق سائرهن ), وأيضاً غيلان بن مسلمة رضي الله تعالى عنه لما ( أسلم وتحته عشر نسوة أمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يختار أربعاً وأن يفارق سائرهن ). قال المؤلف رحمه الله: [وفارق سائرهن سواء كان أمسك منهن أول من عقد عليها أو آخرهن]. وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله هو الصواب, يعني: لا فرق بين الزوجة المتقدمة أو المتأخرة,فله أن يختار حتى لو اختار الزوجات الأول, أو اختار الزوجات المتأخرات, فإن الأمر راجع له, ولا فرق كما فرق بعض أهل العلم وأشار إليه المؤلف رحمه الله, فالصواب ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى.قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك العبد إذا أسلم وتحته أكثر من اثنتين]. هذا مبني على قول جمهور أهل العلم, وأن العبد لا يجوز له أن يجمع بين أكثر من اثنتين, لكن إذا قلنا بما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله وما ذهب إليه داود الظاهري أن الرقيق له أن يجمع بين أكثر من اثنتين فإنه إذا أسلم وعنده ثلاث أو أربع يبقى على نكاحهن ولا يفارق شيئاً منهن.
المحرمة بسبب العدة
قال المؤلف رحمه الله: [ومن طلق امرأة ونكح أختها أو خالتها أو خامسة في عدتها لم يصح سواء كان الطلاق رجعياً أو بائناً]. شرع المؤلف رحمه الله في الأمر الثاني وهن المحرمات على التأقيت بسبب عارض ثم يزول, تقدم لنا أن القسم الثاني من المحرمات محرمات على التأقيت, والمحرمات على التأقيت ينقسمن إلى قسمين:القسم الأول: محرمات بسبب الجمع, والمحرمات بسبب الجمع لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها, ولا يجمع بين الأختين.القسم الثاني: محرمات بسبب عارض ثم يزول, والمحرمات بسبب عارض ثم يزول ينقسم إلى أقسام:القسم الأول: المحرمة بسبب العدة, فلا يجوز أن يعقد على المرأة في عدتها, يعني: العدة إذا لم تكن للزوج فإنه لا يجوز أن يعقد على المرأة في عدتها, لقول الله عز وجل: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235]، فالمعتدة محرمة بسبب عارض وهو العدة حتى يزول هذا العارض إلا إذا كانت العدة للزوج, فإذا كانت العدة للزوج فإنه يجوز له أن يعقد عليها, فلو أن رجلاً خالع زوجته فيجوز له, وإذا خالع الزوج زوجته فإنه لا يملك أن يراجعها, لكن إذا أراد أن يعقد عليها ورضيت المرأة فلا بأس في العدة, كذلك أيضاً لو أن الزوج فسخ زوجته لفوات شرط أو لوجود عيب ثم بعد ذلك أراد الزوج أن يعقد على زوجته فإن هذا لا بأس به, إذا أراد أن يعقد عليها في عدتها فلا بأس, أما إذا كانت العدة ليست للزوج فإنه لا يجوز له أن يعقد عليها, إذا كانت مطلقة أو مخلوعة أو مفسوخة أو متوفى عنها لا يجوز، وتقدم لنا أيضاً أن التصريح في الخطبة لا يجوز وإنما يجوز التعريض؛ لأن التصريح وسيلة على المحرم وهو العقد عليها في عدتها, ودليله كما تقدم من قول الله عز وجل: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235]. كذلك أيضاً إذا طلق امرأة فإنه ما يجوز له أن يعقد على أختها في العدة, حتى تنتهي أختها من عدتها, يعني: لو أنه طلق زوجته هنداً فإنه لا يجوز له أن يعقد على أختها مادامت هند في العدة, ولا فرق بين الطلاق الرجعي والطلاق البائن, فإذا كان الطلاق رجعياً فالأمر ظاهر؛ لأن هذه المطلقة الرجعية زوجة كما قال الله عز وجل: وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228]، فيكون جمع بين زوجتين أو بين أختين, يعني: إذا طلق هنداً وهند لا تزال في عدتها وهي رجعية فإنه لا يجوز له أن يتزوج أختها؛ لأن الرجعية زوجة، وهذه أصبحت أيضاً زوجة، ففيه جمع بين زوجتين, كذلك أيضاً لو طلق العمة فإنه لا يجوز له أن يتزوج بنت أخيها, لو طلق الخالة لا يجوز له أن يتزوج بنت أختها ما دامت العمة والخالة في عدتها, إن كانت رجعية فالأمر ظاهر؛ لأنها زوجة فيكون جمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها وبين الأختين.وكذلك أيضاً يقول المؤلف رحمه الله: (حتى ولو كانت بائناً), يعني: حتى ولو طلقها آخر الطلقات الثلاث, يعني: طلق زوجته آخر الطلقات الثلاث, فهل له أن يتزوج أختها وزوجته الأولى في عدتها, يقول المؤلف رحمه الله: لا يجوز له أن يتزوج أختها, وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله، وهذا هو الأقرب والأحوط؛ لأن آثار الزواج لا تزال باقية ما دامت الزوجة الأولى في العدة، آثار الزواج لا تزال باقية فإنه لا يجوز له في هذا الحال أن ينكح الأخت حتى ولو كان طلاق الأخت الأولى بائناً, ما دامت في العدة نقول: انتظر حتى تنتهي العدة، كذلك أيضاً ابنة الأخ لا يجوز له أن يتزوجها ما دامت العمة في عدتها، أو بنت الأخت لا يجوز له أن يتزوجها ما دامت الخالة في عدتها, حتى ولو كان الطلاق بائناً آخر الطلقات الثلاث لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره, فنقول: لا يجوز له، وهذا قول جمهور أهل العلم؛ لأن آثار النكاح لا تزال باقية, ولهذا قال المؤلف رحمه الله: سواء كان الطلاق رجعياً أو بائناً.
المحرمة بنسك
الأمر الثاني: المحرمة, هذه محرمة تأقيتاً إلى أن تحل من إحرامها سواء كان الإحرام بالحج أو العمرة, واعلم أنه عندنا ثلاثة: الولي والزوج والزوجة, إذا كان أحدهما محرماً فالعقد غير صحيح, إذا كان الولي محرماً والزوجة حلالاً والزوج حلالاً فإنه لا يصح العقد, أيضاً إذا كانت الزوجة محرمة والزوج والولي حلالين لا يصح عقد, أيضاً إذا كان الزوج محرماً والزوجة والولي حلالين لا يصح العقد, عندنا الزوجة أو الزوج أو الولي إذا كان أحدهما محرماً فإن العقد لا يصح حتى يحل من إحرامه لحديث عثمان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا ينكح المحرم ولا ينكح ).
المطلقة ثلاثاً
الأمر الثالث: المطلقة ثلاثاً, المطلقة ثلاثاً هذه محرمة على التأقيت حتى تنكح زوجاً غير زوجها الأول، لا بد أن يكون النكاح صحيحاً ليس نكاح تحليل، وأيضاً لا بد من الوطء في القبل, ولا بد أن يكون هذا الوطء في نكاح, ولا بد أيضاً من انتشار الذكر، وهل يشترط الإنزال أو لا يشترط الإنزال؟ الصحيح في ذلك أنه لا يشترط الإنزال لقول الله عز وجل: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].
الزانية
الأمر الرابع ممن تحرم على التأقيت لعارض ثم يزول: الزانية, الزانية لا يجوز زواجها حتى تتوب من زناها, فإذا تابت من زناها صح العقد عليها حتى من الزاني, لو أن الزاني تاب وتابت الزانية فإنه يصح الزواج لكل واحد منهما بالآخر لقول الله عز وجل: وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3]، فالزانية لا تحل حتى تتوب من زناها, كذلك أيضاً الصواب أنه لا فرق بين الزاني والزانية كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله حيث يفرقون بين الزاني والزانية, الصواب أيضاً أن الزاني لا يصح نكاحه حتى يتوب من زناه كالزانية تماماً.
نكاح الأمة
الأمر الخامس: الأمة, الأمة بالنسبة للحر لا يجوز له أن يتزوجها إلا بشروط ؛ لأنه كما قال الإمام أحمد رحمه الله: إن الحر إذا تزوج أمة رق نصفه؛ لأن أولاده يكونون أرقاء, فالأمة التي تباع وتشترى لا يجوز للحر أن يتزوجها إلا بثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يعجز عن طول الحرة, يعني: ما يستطيع مهر الحرة, ودليل ذلك قول الله عز وجل: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25].الشرط الثاني: أن يخاف عنت العزوبة, يعني: مشقة العزوبة إما لحاجة المتعة أو لحاجة الخدمة, يعني: يحتاج إلى هذه الزوجة حتى ولو كانت أمة إما لتخدمه أو للمتعة, لقول الله عز وجل: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النساء:25].الشرط الثالث: أن لا يكون عنده ثمن أمة يشتري به, قد لا يستطيع طول الحرة لكن عنده دراهم يستطيع بها أن يشتري بها أمة, فإذا كان عنده دراهم يستطيع أن يشتري بها أمة فلا يجوز له أن يتزوج الأمة , وإنما يتسراها بملك اليمين.فإذا توافرت هذه الشروط الثلاثة حل نكاح الأمة، أما إذا لم تتوافر هذه الشروط الثلاثة فإنه لا يحل نكاح الأمة, وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يحل نكاح الأمة مطلقاً, بشرط أن يشترط الزوج, إذا اشترط الزوج أن أولاده أحرار وليسوا أرقاء جاز له أن يتزوج الأمة, لكن الصواب ما ذهب إليه أكثر أهل العلم, وأنه لا يجوز أن يتزوج الأمة إلا بهذه الشروط؛ لأن الله عز وجل نص عليها في القرآن: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ [النساء:25] إلى أن قال: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النساء:25]، فالله عز وجل اشترط هذين الشرطين وألحق العلماء رحمهم الله شرطاً ثالثاً وهو أن يعجز عن ثمن الأمة.
الكافرة
الأمر السادس والأخير فيما يتعلق بالمحرمات على التأقيت لعارض ثم يزول: الكافرة, فالكافرة لا يجوز نكاحها حتى تسلم لقول الله عز وجل: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221]، وقال الله عز وجل: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10]، لكن يستثنى من ذلك الكتابية: اليهودية أو النصرانية, فإنه يجوز للمسلم أن يتزوجها, وقد اشترط العلماء رحمه الله شروطاً لزواج الكافرة أو النصرانية: الشرط الأول: أن يكون أبواها كتابيين، وهذا ذهب إليه الشافعية والحنابلة, وعند الحنفية أن هذا ليس شرطاً، وهذا القول هو الصواب, يعني: لا يشترط أن يكون أبواها كتابيين, المهم أن تكون هي كتابية, يعني: حتى ولو كان أبوها وثنيا أو كان أبوها مجوسياً أو دهرياً..إلخ, فالصواب أنه لا يشترط أن يكون أبواها كابيين. الشرط الثاني اشترطه بعض أهل العلم: أن تدين بدين اليهود الخالص إن كانت يهودية , أو تدين بدين النصارى الخالص إن كانت نصرانية, وهذا أيضاً الصواب أنه لا يشترط؛ لأن الله عز وجل ذكر عنهم أنهم يشركون بالله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، ومع ذلك قال الله عز وجل: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5]، فأباح الله عز وجل ذبائحهم وأباح نساءهم مع أنه ذكر عنهم أنهم يشركون بالله عز وجل: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، فالصحيح أنه لا يشترط أن تدين بدين اليهود الخالص أو تدين بدين النصارى الخالص, المهم يشترط أن تعتقد أنها نصرانية أو تعتقد أنها يهودية, فإذا كانت تعتقد أنها على دين النصارى أو تعتقد على دين اليهود حتى وإن كانت معرضة عن دينها أو معرضة عن أكثر دينها, المهم لا تعتقد أنها مرتدة، فإذا كانت لا تدين بدين فإنها لا تحل، أما إذا كانت تعتقد أنها تدين بدين اليهود أو بدين النصارى وإن كانت لا تتمسك بالتعاليم كما جاء به موسى أو التعاليم كما جاء به عيسى عليه السلام. فالشرط الأول: أن يكون أبواها كتابيين، وهذا قلنا: فيه نظر, الشرط الثاني: أن تدين بالدين الخالص, وهذا أيضاً فيه نظر، فالصواب في ذلك أنها تحل مادامت أنها تعتقد أنها نصرانية أو أنها يهودية, ومع ذلك ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه منع الزواج من النصرانيات أو اليهوديات من باب السياسة, وأنكر على حذيفة رضي الله تعالى عنه, وأورد عليه حذيفة أن يورد له دليل على التحريم, فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أخشى أن تتزوجوا المومسات منهن.الشرط الثالث: أن تكون حرة, يعني لا بد أن تكون حرة، فإن كانت أمة يهودية أو نصرانية فإنها لا تحل؛ لأن أمة المسلمة لا تحل للمسلم إلا بشروط فكيف بالأمة الكتابية؟الشرط الأخير: أن تكون عفيفة من الزنا.
الأسئلة

تصرف الفضولي
السؤال: ما هو تصرف الفضولي؟ الجواب: التصرف الفضولي أن الإنسان يتصرف تصرفاً في الأصل أنه لا يملكه, وهذا يكون في عقود المعاوضات والتبرعات والأنكحة, يعني: مثلاً: يبيع سيارة صديقة أو سيارة أبيه..إلخ, الأصل أنه لا يملك هذا التصرف, هذا التصرف فضولي, يعني: تصرف تصرفاً في الأصل أنه لا يملكه, فهل ينفذ هذا البيع؟ أو مثلاً: يزوج بنت زيد من الناس وهو لا يملك، ليس من أوليائها فهل ينفذ ذلك أو لا ينفذ؟ ينفذ بالإجازة.
نكاح الحر للأمة بشروط
السؤال: لمَ جاز للعبد أن ينكح الحرة ولم يجز للحر أن ينكح أمة إلا بشروط؟ الجواب: هكذا جاء في القرآن الكريم يعني: الحر ليس له أن يتزوج أمة إلا بشروط, والإمام أحمد رحمه الله قال: إن الحر إذا تزوج أمة رق نصفه يعني: لو أن الإنسان تزوج أمة تباع وتشترى, وعقد عليها عقد نكاح فإن أولاده، كلهم يكونون أرقاء للسيد, ولهذا منع الشارع الحر أن يتزوج أمة إلا بهذه الشروط.
المهر مصحفاً
السؤال: هل يشترط في المهر مال؛ لأنني طلبت مهري مصحفا؟الجواب: هذا المصحف مال، كل ما كان ثمناً أو أجرة أو منفعة يصح أن يكون صداقاً, وهذا يشمل الشيء اليسير، حتى ابن حزم رحمه الله يقول: لو أصدقها ولو حبة شعير, فإن العقد يكون صحيحاً، المهم لا بد من المهر حتى لو كان شيئاً يسيراً, والمصحف يصح أن يكون من المهر؛ لأنه يباع ويشترى.
زواج الزاني التائب
السؤال: إذا فعل الرجل فاحشة الزنا ثم تاب وتطهر بعد ذلك فهل إذا أراد أن يتزوج بعد ذلك عليه عدم الزواج من امرأة طاهرة أي: هل يجب عليه أن يتزوج من زانية مثله؟ الجواب: لا يجب عليه هذا، إذا تاب الإنسان من الزنا فإنه يتزوج من أي امرأة، لكن لا يتزوج من المحرمات التي تقدم الكلام عليهن.
زواج المرأة بناقص الدين
السؤال: إذا لم يأت كفء صالح للمرأة هل لها أن تتزوج من غير كفء ناقص دينه؟الجواب: ليس بشرط أن يأتي المرأة رجل ملتزم تماماً يطبق كل شعائر الإسلام, مادام أن الإنسان لا يعرف عنه الأمور التي سبق أن ذكرنا من ترك الصلاة أو عدم التوبة من الفاحشة..الخ, فإن هذا لا بأس للمرأة أن تتزوجه,كونها تتزوج بإنسان يأتي بشعائر الإسلام هذا أحسن وهذا هو الأولى لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه )، لكن كون المرأة لابد أن تتزوج ملتزماً هذا قد يكون فيه مشقة وصعوبة, إن أرادت المرأة أن تنتظر فلها ذلك، ومثلاً: لو كان عليه بعض الملاحظات مثلاً: يسمع الغناء أو غير ذلك فإنه لا بأس أن المرأة تقدم على أن تتزوج به، وإذا كانت تطمع أن يأتيها أحسن منه فهذا أحسن كونها تنتظر, لكن قد ما تطمع أن يأتيها أحسن من هذا الشخص فنقول: تتزوج.
زوجة العم
السؤال: هل تكون محرماً لزوجة عمك؟ الجواب: زوجة العم لست محرماً لها، ولهذا لو مات عمك لك أن تتزوجها.
الزواج بربيبة الأب
السؤال: إذا تزوج الرجل بامرأة وللمرأة بنت فهل يجوز للأب أن يتزوجها؟ الجواب: ربائب الأبناء وأمهات أزواج الأبناء للأب أن يتزوجهن يعني: لك أن تتزوج أم زوجة ابنك ولك أن تتزوج بنت زوجة ابنك, وكذلك أيضاً العكس, أنت لك أن تتزوج ربيبة أبيك بنت زوجة أبيك, ولك أن تتزوج أم زوجة أبيك.
الزواج بأخت الزوجة
السؤال: متى يجوز للرجل أن يتزوج أخت زوجته؟الجواب: يجوز له أن يتزوجها إذا طلقها وانتهت عدتها.
الخلوة بجمع من النساء
السؤال: ما حكم الخلوة بامرأتين مثل: صاحب أجرة السيارة؟الجواب: لابد أن نفرق بين مسألة المحرم ومسألة الخلوة, المحرم لا نشترطه إلا في السفر، أما في الحضر فلا نشترط المحرم, في الحضر نشترط عدم الخلوة, فإذا كان هناك رجل أجنبي ومعه امرأتان فإنه لا بأس ما دام أنه ليس هناك محظور شرعي ويعني: الخلوة الآن منتفية ما نشترط أن يكون هناك محرم, فالمحرم إنما اشترطه الشارع في السفر، أما في الحضر فإن المحرم ليس شرطاً، وإنما يشترط في الحضر عدم الخلوة, والخلوة تنتفي بوجود امرأة أو بوجود رجل حتى ولو كان عندنا امرأة ورجل أجنبي فهنا لا خلوة، لكن بشرط أنه ليس هناك محذور شرعي.
نوع تحريم الربيبة
السؤال: هل الربيبة محرمة أبدية؟ الجواب: الربيبة محرمة أبدية، أيضاً انتبه للمسألة الأخرى التي تشكل على بعض الناس, الربيبة محرمة عليك إلى يوم القيامة, حتى لو طلقت زوجك وبعد ما طلقت زوجك تزوجت هذه المرأة وأنجبت بنات, هؤلاء البنات محرمات عليك إلى يوم القيامة, وأنت محرم لهن, مع أن هؤلاء البنات لم يأتين إلا بعد أن طلقت زوجتك وتزوجت وأنجبت بنات، فإنهن محرمات عليك إلى يوم القيامة، وأنت محرم لهن, لك أن تنظر إليهن ولك أن تخلو بهن، والله أعلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-18, 06:11 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/75.jpg

شرح عمدة الفقه
- كتاب النكاح [5]
- للشيخ : ( خالد بن علي المشيقح )
(الحلقة الاخيرة)


يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وللرضاع شروط حتى يحكم بأثره، ومن ذلك أن يكون في الحولين، وأن يكون خمس رضعات، على خلاف بين العلماء في بعض أحكامه.
الجمع بين الأختين بملك اليمين
تكلمنا في الدرس السابق عن المحرمات في النكاح، وذكرنا الأصل في هذا الباب، وأن الأصل الحل لقول الله عز وجل: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] لما عدد الله عز وجل المحرمات، وذكرنا أن المحرمات ينقسمن إلى قسمين:القسم الأول: محرمات على التأبيد, والمحرمات على التأبيد ينقسمن إلى خمسة أقسام: محرمات بالنسب وهن سبع اللاتي عددهن الله في سورة النساء. ومحرمات بالمصاهرة، وهن ذكرهن الله عز وجل في سورة النساء وهن أربع. والقسم الثالث: محرمات بالرضاع، وسنتطرق لأحكام الرضاع في هذا الدرس. والقسم الرابع: محرمات بسبب اللعان. والقسم الخامس: محرمات بسبب الاحترام وهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم.وأما القسم الثاني من المحرمات فهن المحرمات على التأقيت, يعني: إلى أمد ثم يزول, وذكرنا أن المحرمات على التأقيت أيضاً ينقسمن إلى قسمين: القسم الأول: محرمات بسبب الجمع. والقسم الثاني: محرمات بسبب عارض ثم يزول. والمحرمات بسبب الجمع بينها الله عز وجل بقوله: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23]. والنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها ). وأما المحرمات بسبب عارض ثم يزول فهذا يدخل في ذلك المعتدة فإنها محرمة إلى أن تنتهي عدتها كما سبق بيانه, وكذلك أيضاً الزانية فإنها محرمة إلى أن تتوب من زناها, وكذلك أيضاً المطلقة ثلاثاً فإنها لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجاً غيره, وكذلك أيضاً المحرِمة فإنها محرمة حتى تحل من إحرامها, وكذلك أيضاً الكافرة فإنها محرمة حتى تسلم, ما عدا النصرانية أو اليهودية, وذكرنا أنها تباح بشروط كما سبق بيانه. وأيضاً تكلمنا عن حكم نكاح الأمة بالنسبة للحر، وأن الأمة لا يجوز للحر نكاحها إلا بشروط ثلاثة: الشرط الأول: أن يعجز عن طول الحرة, يعني: عن مهر الحرة. والشرط الثاني: أن يعجز عن ثمن الأمة. والشرط الثالث: أن يخاف العنت, يعني: المشقة فهو بحاجة إما إلى المتعة, يعني: الانفراد عن الزوجة يشق عليه وهو بحاجة إلى المتعة، أو بحاجة إلى الخدمة.قال المؤلف رحمه الله: [ويجوز أن يملك أختين]. يعني: له أن يشتري أختين. قال المؤلف رحمه الله: [وله وطء إحداهما, فمتى وطئها حرمت أختها, حتى تحرم الموطوءة بتزويج أو إخراج عن ملكه, ويعلم أنها غير حامل]. يعني: لا بأس للإنسان أن يشتري أختين من النسب, وله أن يطأ إحداهما, فإذا وطء الصغرى مثلاً: -جامع الصغرى- فإن الكبرى تحرم عليه حتى يحرم الموطوءة, إما أن يبيعها وإما أن يزوجها..إلخ, المهم أنه يخرجها من ملكه إما ببيع أو إعتاق أو يقوم بتزوجها بعد أن يستبرأها, ففي هذه الحالة إذا قام بتزوجها أو قام ببيعها أو قام بإعتاقها فإنه لا بأس له أن يطأ الأخت الكبرى, ولا يجوز له أن يطأ الأخرى والثانية في ملكه لم يخرجها عن ملكه لا بتزويج ولا ببيع ولا إعتاق ولا هبة ولا نحو ذلك؛ لئلا يجمع ماءه في رحم أختين. فنقول: له أن يملك أختين، فإذا أراد أن يطأ إحداهما فله ذلك، يطأ من شاء منهما, لكن إذا وطء إحداهما فإن الأخرى تحرم عليه, حتى يخرجها عن ملكه إما بإعتاق أو بيع أو هبة أو تزويج أو نحو ذلك, فإذا أخرجها عن ملكه -كما تقدم- له أن يطأ الأخرى التي لم يطأ, فلو فرض أنه وطء الصغرى نقول: حرمت عليك الكبرى, حتى تستبرئ الصغرى وتزوجها, أو تقوم ببيعها أو تقوم بإعتاقها أو تقوم بهبتها..إلخ, فإذا أخرجتها عن ملكك بما تقدم فلك أن تطأ الأخت الكبرى, ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [فمتى وطأها حرمت أختها حتى تحرم الموطوءة بتزوج أو إخراج عن ملكه، ويعلم أنها غير حامل]. لأن ملك اليمين استبراؤها يكون بحيضة إن كانت من ذوات الحيض, فإن لم تكن من ذوات الحيض وكانت من ذوات الأشهر فاستبراؤها يكون بشهر, إلا إن كانت حاملاً, فإن الحمل أم العِدد يقضي على كل عدة, فالحامل استبراؤها يكون بوضع كل ما في بطنها. فإذا وطأ الثانية ثم عادت الأولى إلى ملكه لم تحل له حتى تحرم الأخرى, يعني: لو أنه وطء الصغرى وأراد أن يطأ الكبرى قلنا له: لا بد أن تخرج الصغرى عن ملكك، أخرجها عن ملكه باعها ثم وطء الكبرى ثم بعد ذلك اشترى الصغرى نقول: يحرم عليك أن تطأ الصغرى حتى تخرج الكبرى عن ملكك ببيع أو هبة أو إعتاق أو تزويج أو نحو ذلك, فإذا كانت عنده الكبرى يجوز له أن يشتري الصغرى, فإذا اشتراها نقول له: لا يجوز لك أن تطأها حتى تحرم الكبرى بأن تخرجها عن ملكك إما بتزويجها، أو أنك تقوم ببيعها أو أنك تقوم بهبتها أو أنك تقوم بإعتاقها ونحو ذلك. قال المؤلف رحمه الله: [وعمة الأمة وخالتها في هذا كأختها]. يعني: لا بأس أن يملك العمة وبنت أخيها, لا بأس أن يجمع في ملك اليمين بين امرأتين لا يجوز الجمع بينهما في النكاح, يعني: لا بأس أن يشتري العمة وأن يشتري بنت أخيها, لكن إذا جامع العمة فإن بنت الأخ لا يجوز له أن يطأها حتى يحرم العمة كما تقدم, فإذا حرم العمة كما تقدم جاز له أن يطأ بنت الأخ, فإذا وطء بنت الأخ فأراد أن يشتري العمة بعد ذلك له أن يشتريها لكن لا يجوز له أن يطأها حتى يحرم بنت الأخ, إما بتزويج أو ببيع أو بإعتاق أو هبة..إلخ. ومثل ذلك أيضاً: الخالة مع بنت الأخت, يقال ما قيل في الأخت مع الأخت.
نكاح الأمة المسلمة والكافرة
قال المؤلف رحمه الله: [فصل: وليس لمسلم وإن كان عبداً نكاح أمة كافرة ولا لحر نكاح أمة مسلمة إلا أن لا يجد طول حرة، ولا ثمن أمة ويخاف العنت].تقدم أنه يشترط لزواج الكافرة إذا كانت يهودية أو نصرانية شروط:الشرط الأول: أن يكون أبواها كتابيين,وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي ومذهب الإمام أحمد رحمه الله، وقلنا: بأن هذا الشرط فيه نظر, وأن مذهب أبي حنيفة رحمه الله أن ذلك ليس شرطاً . والشرط الثاني اشترطه بعض السلف أنه يشترط في اليهودية أو النصرانية: أن تدين بدين اليهود الخالص إن كانت يهودية, أو تدين بدين النصارى الخالص إن كانت نصرانية, وقلنا: الصواب أن هذا ليس شرطاً؛ لأن الله عز وجل ذكر عنهم الشرك: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، ومع ذلك أحل الله عز وجل طعامهم وأحل نساؤهم: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5]، فالصواب أنه لا يشترط أن تدين بالدين الخالص، إذا كانت تعتقد أنها يهودية يكفي ذلك, وإذا كانت تعتقد أنها نصرانية فإن ذلك كاف, ما لم تعتقد أنها مرتدة وأنها ليست على دين, فإذا كانت تعتقد أنها ليست على دين فإنها لا يجوز نكاحها.الشرط الثالث: أن تكون حرة، فإن كانت أمة فإنه لا يجوز نكاحها حتى ولو كان الذي يريد أن ينكحها رقيقاً، فيشترط في اليهودية أو النصرانية أن تكون حرة, وهذا هو الشرط الثالث. إذاً: الشرط الأول: أن يكون أبواها كتابيين. الشرط الثاني: أن تدين بالدين الخالص كما تقدم، وهذان الشرطان فيهما نظر. الشرط الثالث: أن تكون حرة, فإن كانت أمة فلا يجوز نكاحها؛ لأن الأمة المسلمة لا يجوز للمسلم أن ينكحها إلا بشروط فمن باب أولى الأمة الكافرة. الشرط الرابع: أن تكون عفيفة.
تعدد الزوجات من الإماء
قال المؤلف رحمه الله: [ولا لحر نكاح أمة مسلمة].هذه من المحرمات على التأقيت, الأمة المسلمة محرمة على الحر المسلم إلا بشروط ثلاثة، وهذه تقدم الكلام عليها في الدرس السابق وذكرناها وذكرنا دليلها. قال المؤلف رحمه الله: [وله نكاح أربع إذا كان الشرطان فيه قائمين]. يعني: الحر يجوز له أن يتزوج الأمة بثلاثة شروط: أن يعجز عن طول الحرة، وأن يعجز عن ثمن الأمة, وأن يخاف عنت العزوبة, فإذا توافر فيه الشرطان السابقان اللذان أشار إليهما المؤلف رحمه الله وهما ثلاثة شروط: أن لا يجد طول الحرة هذا شرط, ولا ثمن أمة هذا شرط, وأن يخاف العنت، إذا توافرت فيه هذا الشروط له أن يتزوج: أمة واحدة، وله أن يتزوج أمتين، وله أن يتزوج ثلاثاً؛ لأنه قد لا تعفه زوجة واحدة من هؤلاء الإماء, فيحتاج إلى زوجة ثانية، فله أن يتزوج الثانية, ويحتاج أيضاً إلى زوجة ثالثة فله أن يتزوج الثالثة, إذا توافرت فيه هذه الشروط, يعني: ما يستطيع طول الحرة, ولا يستطيع ثمن الأمة, ويخاف عنت العزوبة يعني: المشقة, يعني: يحتاج إلى متعة ولا يستطيع طول الحرة ولا ثمن الأمة فله أن يتزوج الثالثة والرابعة..الخ, له أن يتزوج إلى أربع إماء، ما دام أن هذه الشروط متوافرة فيه مع كل زوجة يتزوجها من هذه الإماء، فليس ذلك مقصوراً على زوجة واحدة, بل الزوجة الأولى من الإماء ينظر هل توافرت فيه هذه الشروط أم لا, فإذا كانت هذه الشروط متوافرة فيه جاز أن يتزوجها, أيضاً الزوجة الثانية من الإماء إذا أراد أن يتزوج ثانية, إذا كانت هذه الشروط متوافرة فيه فله أن يتزوجها, وأيضاً الزوجة الثالثة والرابعة.
الرضاع
قال المؤلف رحمه الله: [كتاب الرضاع].الرضاع: في اللغة: المص. وأما في الاصطلاح: فهو مص من دون الحولين لبن آدمية مطلقاً.وقولنا: من دون الحولين، هذا موضع خلاف, سنشير إليه إن شاء الله, وقولنا: آدمية, هذا يُخرج البهيمة, وقولنا: مطلقاً, هذا يشمل ما إذا كان هذا اللبن ثاب عن حمل أو وطءٍ أو ثاب هذا اللبن من غير سبب حمل أو وطء, كما سيأتي إن شاء الله الإشارة إليه. والأصل في الرضاع من حيث الدليل قول الله عز وجل: وَأُمَّهَاتُكُم ُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23]، وأيضاً قول الله عز وجل: وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، وحديث عائشة رضي الله تعالى عنها في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب )، وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام ) أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجه والبيهقي .
حكم رضاع الأم ولدها
هل يجب على المرأة أن توضع ولدها؟ يعني: ما حكم الرضاع بالنسبة للأم؟المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن الأم حتى ولو كانت في حبال الزوج لا يجب عليها أن ترضع ولدها؛ لأن المعقود عليه بالنسبة للزوجين هو منفعة الاستمتاع وليس منفعة الرضاع, فلا يجب على الأم أن ترضع ولدها, والصواب في ذلك أن حكم الرضاع بالنسبة للأم ينقسم إلى قسمين:القسم الأول: أن تكون الأم في حبال الزوج, فإذا كانت الأم في حبال الزوج فإنه يحب عليها أن ترضع ولدها, لقول الله عز وجل: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، وهذا خبر بمعنى الأمر أي: ليرضعن أولادهن حولين كاملين.القسم الثاني: أن تكون الأم ليست في حبال الزوج بأن حصل بين الزوجين طلاق أو فسح أو خلع أو غير ذلك من أسباب الفرقة, فإذا كانت الأم ليست في حبال الزوج فإنه لا يجب عليها أن ترضع ولدها, ولها أن تطالب أبا الولد بالأجرة, ولها أن ترفض إرضاع هذا الولد لقول الله عز وجل: وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [الطلاق:6]. فالصواب في حكم الرضاع بالنسبة الأم أنه ينقسم إلى هذين القسمين: إن كانت في حبال الزوج يجب عليها أن ترضع لما تقدم من الدليل, وإن كانت ليست في حبال الزوج فإنه لا يجب عليها أن ترضع ولدها.
انتشار التحريم بالرضاع
قال المؤلف رحمه الله: [حكم الرضاع حكم النسب في التحريم والمحرمية, فمتى أرضعت المرأة طفلاً صار ابناً لها وللرجل الذي ثاب اللبن بوطئه، فيحرم عليه كل من يحرم على ابنها من النسب].كيف ينتشر التحريم في الرضاع؟القاعدة في ذلك: أن عندنا مرضعة وعندنا صاحب لبن وعندنا مرتضع, انتبه إلى هذا الضابط وتستريح, وتعرف كيف انتشر التحريم بالنسبة لصاحب اللبن، وكيف انتشر التحريم بالنسبة للمرضعة, وكيف انتشر التحريم أيضاً بالنسبة للمرتضع, فنقول: بالنسبة لصاحب اللبن ينتشر التحريم بالنسبة له إلى أصوله, وإلى فروعه، وإلى حواشيه, يعني: إلى أعمامه وعماته وإخوانه وأخواته دون فروعهم, فصاحب اللبن الزوج أو السيد إذا أرضعت زوجته أو أمته طفلاً كيف ينتشر التحريم بالنسبة لصاحب اللبن؟ نقول: ينتشر إلى أصوله الذكور والإناث مطلقاً وإن علا, وينتشر إلى فروعه إلى أبنائه وبناته وإن نزلوا, وينتشر إلى حواشيه, إلى إخوته وأعمامه دون فروعهم دون أولاد إخوته وأولاد أخواته وأولاد أعمامه وأولاد عماته, هذا بالنسبة لصاحب اللبن. بالنسبة للمرضعة أيضاً ينتشر إلى أصولها، الذكور والإناث مطلقاً وإن علوا, وينتشر أيضاً إلى فروعها الذكور والإناث وإن نزلوا، وينتشر أيضاً إلى حواشيها دون فروعهم, فينتشر إلى إخوتها وأخواتها وعماتها وأعمامها دون فروعهم, فالمرضعة وصاحب اللبن ينتشر إلى أصولهم وفروعهم وحواشيهم دون فروع الحواشي. بالنسبة للمرتضع الطفل ينتشر فقط إلى فروعه وإن نزلوا، ولا ينتشر التحريم إلى أصوله ولا ينتشر إلى حواشيه. أضرب لذلك أمثلة: قلنا: بالنسبة لصاحب اللبن ينتشر إلى أصوله وإلى فروعه وإلى حواشيه دون فروعهم, فلو كان المرتضع طفلاً, فهل يجوز لهذا الطفل أن يتزوج أم صاحب اللبن أو لا يجوز؟ نقول: لا يجوز؛ لأنها تكون جدة له، لا يجوز له أن يتزوج أم صاحب اللبن. لو كان المرتضع طفلة, فهل لأبي صاحب اللبن أن يتزوج هذه الطفلة؟نقول: لا يجوز له أن يتزوج هذه الطفلة، تكون ابنة ابنه من الرضاع ويكون هو جداً لها, فينتشر إلى أصوله, وينتشر إلى فروعه.لو كان المرتضع هذا طفلاً هل يجوز له أن يتزوج بنت صاحب اللبن؟ نقول: لا يجوز له أن يتزوج بنت صاحب اللبن؛ لأن بنت صاحب اللبن تكون له أختاً. لو كان المرتضع طفلة فهل لابن صاحب اللبن أن يتزوج هذه الطفلة؟ نقول: لا يجوز؛ لأنها تكون أختاً له. بالنسبة للحواشي إذا كان المرتضع طفلاً فهل يجوز له أن يتزوج أخت صاحب اللبن؟ نقول: لا يجوز؛ لأنها تكون عمة, لكن بنت أخت صاحب اللبن يجوز؛ لأنها تكون بنت عمه، ولذلك قلنا: الحواشي ينتشر إليهم دون الفروع. أيضاً لو كان المرتضع طفلة فهل لأخ صاحب اللبن أن يتزوجها؟ نقول: لا يتزوجها؛ لأنها بنت أخيه وهو عم لها. أيضاً إذا كان المرتضع طفلاً فهل له أن يتزوج أخت صاحب اللبن؟ نقول: لا يجوز له أن يتزوج أخت صاحب اللبن؛ لأنها تكون عمة له وهكذا. هذا بالنسبة لصاحب اللبن أيضاً قل مثل ذلك بالنسبة للمرضعة, فلو كان المرتضع طفلاً فليس له أن يتزوج أم المرضعة؛ لأنها تكون جدة له, وإذا كان المرتضع طفلة فليس لأبي المرضعة أن يتزوج هذه الطفلة؛ لأنه يكون جداً لها.أيضاً لو كان المرتضع طفلاً فهل له أن يتزوج بنت المرضعة أو ليس له أن يتزوجها؟ نقول: ليس له يتزوجها؛ لأن بنت المرضعة تكون أختاً له. فالمرضعة كما تقدم كصاحب اللبن ينتشر إلى أصولها وفروعها وإن نزلوا وحواشيها دون فروعهم, فلو كان المرتضع طفلاً فليس له أن يتزوج أخت المرضعة؛ لأن أخت المرضعة تكون خالة له، لكن هل له أن يتزوج بنت أخت المرضعة؟ نقول: نعم له أن يتزوج بنت أخت المرضعة؛ لأنه في هذا الحالة يكون قد تزوج بنت خالته, وقلنا: بالنسبة للمرضعة ينتشر إلى حواشيها إلى أعمامها إلى إخوانها إلى أخواتها دون فروعهم فلا ينتشر إليهم التحريم. بالنسبة الطفل المرتضع ينتشر إلى فروعه فقط, نضرب لذلك أمثلة: فصاحب اللبن هل له أن يتزوج بنت المرتضع؟ليس له أن يتزوج بنت المرتضع؛ لأنها بنت ابنه من الرضاع وهو جد لها, لكن صاحب اللبن يجوز له أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع, فمثلاً: هذا المرتضع له أخت, صاحب اللبن يجوز له أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع؛ لأننا قلنا: بالنسبة للمرتضع ينتشر التحريم إلى فروعه ولا ينتشر إلى حواشيه, فيجوز لصاحب اللبن أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع, ويجوز لصاحب اللبن أن يتزوج أم ابنه من الرضاع, فلو أن هذا الطفل رضع من لبنه وشرب من لبنه فإنه يجوز لصاحب اللبن أن يتزوج أمه؛ لأن أمه أجنبية منه. وقلنا: بالنسبة للمرتضع ينتشر إلى فروعه فقط، ولا ينتشر إلى أصوله ولا ينتشر إلى حواشيه, أيضاً يجوز لابن صاحب اللبن أن يتزوج أم المرتضع من الرضاع, ويجوز لابن صاحب اللبن أن يتزوج أخت المرتضع, لأننا قلنا: بالنسبة للمرتضع لا ينتشر لا إلى أصوله ولا إلى فروعه, وإنما ينتشر إلى فروعه فقط. أنت إذا فهمت هذا الضابط طبق عليه ما شئت من الأمثلة, وهذا يحصر لك باب الرضاع, كل باب الرضاع الذي يذكره العلماء رحمهم الله ينبني على هذا الضابط، وأيضاً ينبني على شروط الرضاع التي سنشير إليها إن شاء الله, هذا معنى قول المؤلف رحمه الله: (حكم الرضاع حكم النسب في التحريم والمحرمية).
الأحكام المترتبة على الرضاع
ما هي الأحكام المترتبة على الرضاع؟ نقول: الأحكام المترتبة على الرضاع:الحكم الأول: تحريم النكاح, فالمرتضع مثلاً: لا يجوز له أن يتزوج أخت المرضعة؛ لأنه ينتشر التحريم بالنسبة للمرضعة إلى حواشيها, ولا يجوز أيضاً للمرتضع أن يتزوج أم المرضعة؛ لأنها تكون جدته كما تقدم في ضابط التحريم.الحكم الثاني: المحرمية، إذا رضع من امرأة يكون محرما لهذه المرأة ويكون محرماً لأمها؛ لأن أمها تحرم عليه, ويكون محرماً لأختها؛ لأن أختها تحرم عليه فهي خالته من الرضاع, ويكون محرماً لابنتها؛ لأن ابنتها تحرم عليه فهي أخته من الرضاع, هذا الأمر الثاني: محرمية السفر.الحكم الثالث: النظر, لا بأس أن ينظر إلى أمه من الرضاع، ينظر إلى أخته من الرضاع، ينظر إلى جدته من الرضاع، إلى عمته من الرضاع، إلى خالته من الرضاع..إلخ.الحك الرابع: الخلوة, لا بأس أن يخلو بأمه من الرضاع, أن يخلو بأخته من الرضاع، بجدته من الرضاع..إلخ. هذه الأحكام الأربعة المترتبة على النكاح, وأشار المؤلف رحمه الله إلى حكمين.
شروط الرضاع المحرم
قال المؤلف رحمه الله: [وإن أرضعت طفلة صارت بنتاً لهما، تحرم على كل من تحرم عليه ابنتهما من النسب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب )، والمحرم من الرضاع ما دخل الحلق من اللبن سواء دخل بارتضاع من الثدي أو وجور أو سعوط محضاً كان أو مشوباً إذا لم يستهلك]. أشار المؤلف رحمه الله إلى الشرط الأول من شروط الرضاع المحرم: أن يدخل اللبن إلى الجوف من منفذ معتاد, والمنفذ المعتاد منفذان: إما الفم، وإما الأنف, الفم ظاهر أنه منفذ معتاد, والدليل على أنه منفذ معتاد قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث لقيط بن صبرة : ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ) أي إلا أن تكون صائماً لا تبالغ في الاستنشاق, فهذا دليل على أن الأنف منفذ إلى الجوف, فإذا نفذ اللبن عن طريق الفم أو عن طريق الأنف إلى الجوف فإنه محرم وينشر الحرمة. قال: (جور أو سعوط), السعوط: ما يكون عن طريق الأنف, والوجور: ما يكون عن طريق الفم يعني: سواء أخذه عن طريق المباشرة يعني: التقم الطفل الثدي أو شربه بإناء، أو شربه عن طريق الأنبوب، المهم ما دام أنه دخل الأنف ودخل الجوف عن طريق معتاد فإنه يكون محرماً, أما إذا دخله لا عن طريق معتاد مثلاً: هذا اللبن حقن به عن طريق الوريد فإنه لا يحرم. قال: (أو مشوباً إذا لم يستهلك) يعني: هذا اللبن المحرم سواء أخذه وهو سائل أو أخذه وهو غير سائل، حتى ولو كان اللبن جعل جبناً أو جعل أقطاً وأكله هذا الطفل فإنه محرِّم, وأيضاً حتى ولو خلط اللبن بشيء آخر يعني: لو أن هذا اللبن أخرجته المرأة من ثديها وخلط بماء فإنه محرّم ما دام اسم اللبن فيه, يعني: ما دامت خصائص اللبن موجودة فيه, أما إذا استهلك اللبن وأصبح وجوده كعدمه فإنه لا يحرم, أما إذا كان اسم اللبن موجوداً فيه فإنه يكون محرماً, أما إذا استهلك يعني: خلط وفني من الخلط بحيث أصبح وجوده كعدمه فإنه لا يحرم في هذه الحال. فنقول: الشرط الأول: أن يكون نافذاً من منفذ معتاد. الشرط الثاني: أن يكون لبن آدمية، وعلى هذا إذا كان لبن بهيمة فإنه لا يحرم، وهذا بالإجماع, لقول الله عز وجل: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، وهذا إنما في الآدميات.قال المؤلف رحمه الله: [ولا يحرم إلا بشروط ثلاثة أن يكون لبن امرأة بكراً أو ثيباً في حياتها أو بعد موتها, فأما لبن البهيمة أو الرجل أو الخنثى المشكل فلا يحرم شيئاً]. الإجماع على أن هذه الأشياء لا تحرم, يعني: لبن البهيمة بالإجماع أنه ليس محرماً، ولبن الرجل أيضاً هذا بالإجماع أنه ليس محرماً, ولبن الخنثى المشكل الذي يحتمل أن يكون رجلاً ويحتمل أن يكون امرأة ليس محرما, والأصل عدم التحريم.
لا رضاع إلا في الحولين
الشرط الثالث: قال المؤلف رحمه الله: [أن يكون في الحولين, لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء )].هذا الاستدلال ليس صريحاً فيما ذهب إليه المؤلف رحمه الله من اشتراط الحولين, لكن دل على ذلك قول الله عز وجل: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، فدل ذلك على أن مدة الرضاعة هي حولان كاملان, وأيضاًقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس : ( لا رضاع إلا ما كان في الحولين ) أخرجه الدارقطني وصححه جمع من أهل العلم منهم ابن القيم رحمه الله، وكذلك أيضاً هو ثابت عن طائفة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنه يشترط أن يكون في الحولين عن عمر , وعمر رضي الله تعالى عنه له سنة متبعة، وثابت أيضاً عن ابن عمر ، وكذلك أيضاً عن ابن عباس وعن أبي هريرة ، وكذلك أيضاً عن ابن مسعود ، فهو ثابت عن جمع من الصحابة عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وابن مسعود أن المحرم ما كان في الحولين فقط, وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، وكذلك أيضاً مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ومذهب أبي حنيفة قريب من مذهب الشافعي يقول: ثلاثون شهراً, فهو يزيد ستة أشهر فقط, والإمام مالك رحمه الله يقول: في الحولين وما قارب الحولين, يعني: الأمور اليسيرة مثلاً: لو بدأ يرضع بعد الحولين, وكانت المدة يسيرة كشهر يعني: استمر يرضع بعد الحولين شهراً أو شهرين فهذه يعفى عنها عند الإمام مالك رحمه الله ويرى أنه محرم, فمثلاً لو تم له أربعة وعشرين شهراً ثم رضع بعد الأربعة والعشرين شهراً بعد الحولين فيرى الإمام مالك رحمه الله أنه محرم مادام أن المدة يسيرة كشهر أو شهرين, لكن عند أحمد والشافعي أنه لا يحرم. القول الأخير قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا لا يحدد بالسن وإنما يحدد بالحال، فيقول: إن فطم الطفل فإن رضاعه بعد ذلك لا يحرم, وإن لم يفطم فإنه يحرم ولو كان ذلك بعد الحولين, فلو أن طفلاً يرضع من أمه ولم يفطم وتجاوز الحولين ثم أخذته امرأة وأرضعته وهو لا يزال لم يفطم بعد الحولين فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أنه محرم، واستدل على ذلك بما أورده المؤلف رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام )، فحده النبي صلى الله عليه وسلم بالفطام. وأقرب هذه الأقوال وأضبطها هو ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله وكذلك أيضاً الشافعي وأن ذلك مقيد بالحولين لورود ذلك عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم, وأما ما استدل به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من قوله: ( لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام ) فهذا يحتمل أن يكون في الحولين فقط, فالأقرب والأضبط للناس أن يكون في الحولين.
عدد الرضعات المحرّمات
الشرط الرابع قال المؤلف رحمه الله: [أن يرتضع خمس رضعات لقول عائشة : ( أنزل في القرآن عشر رضعات يحرمن, فنسخ من ذلك خمس فصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك )]، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب الشافعي أنه لا يحرم إلا خمس رضعات, وعند أبي حنيفة ومالك أن قليل الرضاع وكثيره محرم حتى لو رضع رضعة واحدة أو رضعتين لا يحد بخمس رضعات, والمالكية والحنفية استدلوا بأدلة من ذلك العمومات كقول الله عز وجل: وَأُمَّهَاتُكُم ُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23]، وقوله سبحانه: وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، وهذا يشمل القليل والكثير، وأيضاً حديث عقبة بن الحارث رضي الله تعالى عنه أنه تزوج امرأة فأتت أمَة فذكرت له أنها قد أرضعتهما, فذهب عقبة رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يفارقها ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم هل أرضعتهما رضعة واحدة أو رضعتين..إلخ؟ فكون النبي عليه الصلاة والسلام لم يستفصل هذا ينزل منزلة العموم في الأقوال، يعني: القاعدة الأصولية: أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في الأقوال.والأقرب في ذلك ما دل له حديث عائشة رضي الله تعالى عنها وأن الرضاعة المحرمة خمس رضعات, والعمومات وحديث عقبة بن الحارث رضي الله تعالى عنه كلها تحمل على الخمس؛ لأن العمومات تقيد بالخمس، فالخاص يقضي على العام, وأما حديث عقبة بن الحارث فيحتمل أن المراد بذلك هو خمس رضعات، وأن هذا مفهوم عند الصحابة رضي الله تعالى عنهم, فنقول: يشترط خمس رضعات.
سبب وجود اللبن الذي يحرم
الشرط الأخير: هذا اشترطه الحنابلة رحمهم الله قالوا: أن يكون اللبن ثاب عن حمل أو وطء, لا بد أن يكون اللبن ثاب عن حمل أو وطء, فلو كان اللبن در من امرأة بكر لم توطأ ولم تحمل، أو در من امرأة آيسة لم توطأ ولم تحمل, آيسة من النكاح كبيرة في السن ولم يحصل ذلك بسبب وطء ولا حمل, فقالوا: بأن هذا غير محرم, هذا المشهور من المذهب, وجمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى الله على خلاف ذلك, وأن اللبن محرم سواء ثاب عن حمل أو وطء أو در بغير حمل ولا وطء, وهذا هو الصواب لعموم الأدلة, فهذه شروط الرضاع.
ضابط الرضعة
ما هو ضابط الرضعة؟اختلف أهل العلم رحمهم الله في ضابط الرضعة على رأيين: الرأي الأول: قالوا: إن ضابط الرضعة مادام ملتقماً للثدي, وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد , يعني: مادام الطفل ملتقماً للثدي فهذه رضعة إلى أن يتركه أو إلى أن يُبعد عن الثدي, يعني: سواء تركه باختياره أو كان بغير اختياره, فبإمكان المرأة في جلسة واحدة أن ترضعه خمس رضعات, يعني: تلقمه الثدي ثم يمص ثم تبعده, ثم تلقمه فيمص ثم تبعده, ثم تلقمه فيمص ثم تبعده, وهكذا، سواء كان ذلك باختياره أو غير اختياره، هذا المشهور من مذهب الإمام أحمد . والرأي الثاني: أن ضابط الرضعة هي المصة, فإذا مص مصة فهي رضعة, وإذا مص مصتين رضعتين, مص ثلاثاً ثلاثاً, أربعاً أربعاً..إلخ, يعني: على هذا الرأي قد يرضع الخمس الرضعات وهو ملتقم الثدي مرة واحدة, قد يلتقم الثدي ثم يمص خمس مصات أو يمص ست مصات وهو ملتقم الثدي فتثبت الخمس الرضعات. القول الثالث وهو اختيار ابن القيم رحمه الله قال: الرضعة كالوجبة والغدوة والعشوة, فالخمس الرضعات خمس وجبات، فلا بد للطفل أن يرتضع -سواء تركه أو لم يتركه- حتى يشبع, ثم بعد ذلك يكون هناك فاصل بحيث إنه يحتاج إلى اللبن مرة أخرى، ثم يعود إلى الثدي ويأخذه ويرتضع حتى يشبع, ثم يكون هناك فاصل أيضاً حتى يحتاج إلى اللبن قد يكون الفاصل طويلاً أو كثيراً أو غير طويل, المهم أنه يحتاج إلى اللبن مرة أخر, يعني: تكون هذه وجبة فما دام أنه محتاج إلى اللبن ورضع ثم شبع ثم بعد ذلك احتاج إليه مرة أخرى فالأولى هي الرضعة كالوجبة تماماً وكالعشوة والغدوة، وهذا اختيار الشيخ ابن القيم رحمه الله وكذلك أيضاً الشيخ السعدي والشيخ محمد بن عثيمين رحمهم الله.
لبن الفحل
قال المؤلف رحمه الله: [ولبن الفحل محرم فإذا كان لرجل امرأتان فأرضعت إحداهما بلبنه طفلاً والأخرى طفلة صارا أخوين؛ لأن اللقاح واحد..الخ]. هذا الأمر ظاهر يعني: لبن الفحل محرم وليس شرطاً أن يكون الرضاع من امرأة واحدة، فلو كان هذا الزوج له زوجتان فجاءت زوجته وأرضعت هذه الطفلة رضعتين، وجاءت زوجته الأخرى وأرضعته ثلاث، فهذا الطفل الذي رضع من الزوجة الأولى رضعتين ورضع من المرأة الثانية ثلاث رضعات يكون ابناً لصاحب اللبن لزوج ولا يكون ابناً للزوجة الأولى؛ لأنها لم ترضعه خمس رضعات، ولا يكون ابناً للزوجة الثانية؛ لأنها لم ترضعه خمس رضعات، وإنما يكون ابناً للزوج لصاحب اللبن, فصاحب اللبن توافر فيه الشرط: خمس رضعات، أما الزوجة الأولى لم يتوافر فيها الشرط وكذلك أيضاًالزوجة الثانية لم يتوافر فيها الشرط.
رضاع الكبير
بقي علينا في كتاب الرضاع مسألة رضاع الكبير, نحن ذكرنا من شروط صحة الرضاع أن يكون في الحولين, بقينا في رضاع الكبير هل رضاع الكبير محرم أو ليس محرماً؟ هذا موضع خلاف, جمهور أهل العلم أن رضاع الكبير غير محرم, يعني: لو كان الإنسان له خمس سنوات أو عشر سنوات أو عشرون سنة , فهل رضاعه محرم أو ليس محرماً؟ جمهور أهل العلم أن رضاع الكبير غير محرم, وعند الظاهرية أن رضاع الكبير محرم، وكل له دليل. أما الذين قالوا: بأنه لا يحرم وهم جمهور أهل العلم قالوا: بأنه لا يحرم، استدلوا بالأدلة الدالة على أن الرضاع إنما يكون في الحولين، كما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( لا رضاع إلا ما كان في الحولين ). أما الذين قالوا: بأنه محرم فاستدلوا بقصة سالم مولى أبي حذيفة فإن سهيلة زوجة أبي حذيفة ( أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن سالماً بلغ مبلغ الرجال وأنه يشق عليها أن تحتجب منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه تحرمي عليه فقالت: يا رسول الله إنه كبير، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمت أنه كبير )، وفي بعض الألفاظ أن سالماً له لحية، ومع ذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أرضعيه تحرمي عليه ). اختلف أهل العلم في توجيه الحديث, هل هو خاص خصوصية عين أو خاص خصوصية حال؟ على رأيين. جمهور أهل العلم أن قصة سالم مولى أبي حذيفة خاصة خصوصية عين, يعني: أن هذه الواقعة خاصة بـسالم مولى أبي حذيفة رضي الله تعالى عنه ولا تتعداه إلى غيره, وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذه ليست خاصة خصوصية عين وإنما هي خاصة خصوصية حال, بمعنى: أن كل من كانت حاله كحال سالم مولى أبي حذيفة رضي الله تعالى عنه فإن الرضاع في حقه ينشر المحرمية, هذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ودليلهم على ذلك بأن الشرع لا ينزل لآحاد الناس بأعيانهم، وإنما هو عام لكل الناس إلى قيام الساعة, فلا ينزل الشرع لأجل سالم مولى أبي حذيفة بعينه, وإنما كل من كان مشابهاً لـسالم مولى أبي حذيفة في حالته, فإن رضاعه ينشر المحرمية. بقينا في التفريعات التي ذكرها المؤلف رحمه الله، هذه تنبني على ما تقدم ذكره من الأحكام والضوابط والشروط التي أشرنا إليها.
نكاح الكفار
قال المؤلف رحمه الله: [باب: نكاح الكفار. لا يحل لمسلمة نكاح كافر بحال، ولا لمسلم نكاح كافرة إلا الحرة الكتابية]. قوله: (باب نكاح الكفار), الكفار يراد بهم أهل الكتاب -اليهود والنصارى- والمجوس والوثنيين..إلخ, والمؤلف رحمه الله يريد في هذا الباب أن يبين حكم أنكحتهم, قال: (لا يحل لمسلمة نكاح كافر بحال), وهذا ظاهر لقول الله عز وجل: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10]، فالكافر لا يجوز له أن يتزوج مسلمة بحال, وقول الله عز وجل: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]، فالكافر لا يجوز له أن يتزوج المسلمة بالإجماع وقد دل على ذلك القرآن كما أشرنا إلى ذلك. قال: (ولا لمسلم نكاح كافرة إلا الحرة الكتابية), الحرة الكتابية يجوز للمسلم أن يتزوجها، وتقدم أن أشرنا إلى ذلك ودليل ذلك قول الله عز وجل: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5]، وتقدم لنا أنه يشترط لنكاح الكتابية شروط وذكرنا هذه الشروط، وذكرنا أن بعض هذه الشروط فيها نظر وبعضها صحيح.
إسلام أحد الزوجين
قال المؤلف رحمه الله: [ومتى أسلم زوج الكتابية أو أسلم الزوجان الكافران معاً فهما على نكاحهما..إلخ]. الأصل في أنكحة الكفار أنها صحيحة، ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4]، وقول الله عز وجل: اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ [التحريم:11]، فالله عز وجل أضاف هذه المرأة حمالة الحطب إلى زوجها، فدل ذلك على صحة عقد النكاح, فنقول: الأصل في أنكحة الكفار أنها صحيحة، وأن الكافرين إذا أسلما لا نفتش عن كيفية العقد, هل عقد بولي أو عقد بشهود..إلخ, هذا لا نفتش عنه, فالأصل في أنكحتهم الصحة، ويترتب عليها ما يترتب على أنكحة المسلمين من الطلاق والظهار والإيلاء والنفقة وغير ذلك, فالأصل فيها الصحة، والدليل على ذلك كما أشرنا قول الله عز وجل: اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ [التحريم:11]، وقول الله عز وجل: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4]، فنسب المرأة إليه, فدل ذلك على أن الأصل في أنكحتهم الصحة، وأيضاً الصحابة رضي الله تعالى عنهم أسلموا ولم يفتش النبي عليه الصلاة والسلام في أنكحتهم, هل حصل شهود أو لم يحصل شهود..إلخ, هل حصل رضا من المرأة أو لم يحصل..إلخ, هذا لم يحصل، ولم يفتش, فنقول: الأصل في أنكحة الكفار الصحة، وأننا لا نتعرض لأنكحتهم, وإذا أسلموا هذا تحته أقسام نجملها كما ذكرها المؤلف رحمه الله: قال المؤلف رحمه الله: (متى أسلم زوج الكتابية), هذا القسم الأول: أن يسلم الزوج وزوجته لم تسلم لكنها كتابية, فنقول: هما على نكاحهما؛ لأن المسلم يجوز له أن يتزوج الكتابية, فإذا أسلم هذا الزوج وزوجته يهودية أو نصرانية ولم تسلم نقول: يبقيان على نكاحهما؛ لأن المسلم له أن يتزوج النكاحية ابتداء فدواماً من باب أولى, هذا القسم الأول. قال: (أو أسلم الزوجان الكافران معاً فهما على نكاحهما), هذا القسم الثاني، أن يتلفظ الزوجان معاً بالإسلام فنقول: أيضاً هما على نكاحهما, فلو أن الزوجين كلاً منهما شهد أن لا إله إلا الله، جميعاً قالا: نشهد أن لا إله إلا الله، تلفظا بالشهادتين جميعاً، فيبقيان على نكاحهما.قال المؤلف رحمه الله: [وإن أسلم أحدهما غير زوج الكتابية، أو ارتد أحد الزوجين المسلمين قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال، وإن كان ذلك بعد الدخول فأسلم الكافر منهما في عدتها فهما على نكاحهما..إلخ], هذا القسم الثالث: إن أسلم أحد الزوجين غير زوج الكتابية, يعني: أسلم الزوج وزوجته ليست كتابية, يعني: مثلاً: مجوسية أو زوجته دهرية, أو زوجته وثنية، أو أسلمت الزوجة وزوجها نصراني أو يهودي..الخ, فالمشهور من المذهب أنه إذا كان قبل الدخول ينفسخ النكاح, يعني: إذا أسلم الزوج وزوجته ليست كتابية, وكان ذلك قبل الدخول ينفسخ النكاح, أو أسلمت الزوجة وزوجها مطلقاً سواء كان كتابياً أو غير كتابي؛ لأن الكافر ليس له أن يتزوج المسلمة, فإنه إذا كان قبل الدخول ووجد العقد لكنه لم يحصل دخول ينفسخ النكاح, هذا إذا كان قبل الدخول, وإذا كان بعد الدخول أسلم الزوج وزوجته ليست كتابية, يعني: وثنية أو مجوسية أو أسلمت الزوجة وزوجها كافر وكان ذلك بعد الدخول, يعني: حصل الوطء والجماع, فيقول المؤلف رحمه الله: يبقى الأمر منبنٍ على العدة: إن رجع الزوج والمرأة في عدتها فهما على نكاحهما، وإن لم يرجع تبينا انفساخ النكاح منذ أسلم الأول. مثال المسألة: هذه امرأة أسلمت وزوجها لم يسلم وكان ذلك بعد الدخول، قبل الدخول ينفسخ بمجرد الإسلام لكن بعد الدخول نقول: الأمر متوقف على انقضاء العدة، أسلمت الزوجة وزوجها لم يسلم نقول: أنتِ في العدة، مثلاً: إذا كانت تحيض عدتها الحيض، إذا كانت لا تحيض عدتها الأشهر، إذا كانت حاملاً عدتها وضع الحمل, ما دمت في العدة إن أسلم الزوج فهم على نكاحهم، انتهت العدة ولم يسلم الزوج يقول المؤلف رحمه الله: ينفسخ النكاح وتبينا أن النكاح انفسخ منذ أسلمت الزوجة؛ لأنها هي السابقة بالإسلام, فيقول: إذا كان بعد الدخول الأمر متوقف على انقضاء العدة، فنقول للمرأة: تنتظرين في العدة إن أسلم الزوج فأنتما على نكاحكما، انتهت عدة المرأة ولم يسلم الزوج تبينا أن النكاح انفسخ منذ أسلمت الزوجة, هذا هو المشهور من المذهب، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رأي آخر, وكذلك أيضاً هو اختيار ابن القيم رحمه الله أن هذا ليس متوقفاً على انقضاء العدة، وأيضاً لا فرق بين الدخول وقبل الدخول, إذا أسلم أحد الزوجين نقول للآخر: أنت بالخيار, إما أن تنتظر وإما أن تتزوج, إن أراد أن ينتظر فله أن ينتظر، وإن أراد أن يتزوج فله أن يتزوج حتى ولو كان بعد انتهاء العدة, فمثلاً: الزوجة الآن أسلمت ولم يسلم زوجها, نقول: أنت بالخيار بعد انتهاء العدة ما ينفسخ النكاح كما هو المشهور من المذهب يعني: بعد الدخول يقولون: ينفسخ النكاح، شيخ الإسلام يقول: لا ينفسخ النكاح، ما دمتِ في العدة ما تتزوجين لكن إذا انتهت العدة أنت بالخيار، إما أن تنتظري حتى يسلم زوجك، وإن شئتِ أن تتزوجي لكي أن تتزوجي، نقول: أنت بالخيار إما أن تنتظر زوجك حتى يسلم، وإما أن تتزوجي أنت بالخيار, فقد تنتظر سنة سنتين ثلاث سنوات..إلخ, فهي بالخيار, كذلك أيضاً شيخ الإسلام يقول: ليس هناك فرق بين ما كان قبل الدخول أو كان بعد الدخول, المذهب إذا كان قبل الدخول ينفسخ بمجرد الإسلام, شيخ الإسلام يقول: ما ينفسخ؛ لأنه قبل الدخول لا عدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49]، قبل الدخول لم يحصل وطء فلا عدة فنقول: هي بالخيار يعني: أسلمت الزوجة وزوجها لم يسلم, نقول: أنت بالخيار الآن ما في عدة، الآن مادام أنه قبل الدخول إن شئتِ أن تتزوجي وإن شئتِ أن تنتظري زوجك حتى يسلم، أنت بالخيار. وهذا القول هو الصواب، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على زوجها أبي العاص وكان بين إسلامهما ما يقرب من ثماني عشرة سنة, زينب رضي الله تعالى عنها أسلمت في أول البعثة وزوجها أبو العاص أسلم في عام خيبر, فبينهما ما يقرب من ثماني عشرة سنة, ومع ذلك رد زينب على نكاحها الأول ولم يجدد لها عقداً، فدل ذلك على أنه إذا أسلمت المرأة نقول: أنت بالخيار بعد انتهاء العدة إما أن تنتظري زوجك لعله يسلم، وإما أن تتزوجي, ومثل هذا الكلام يقال: فيما إذا ارتد أحد الزوجين, مثلاً: لو أن الزوج -نسأل الله السلامة- ارتد عن الإسلام، المذهب إذا كان قبل الدخول ينفسخ العقد، وإن كان بعد الدخول يتوقف الأمر على انقضاء العدة, مثلاً: لو كان يصل ثم ترك الصلاة, الصواب في ذلك أن نقول للمرأة: إذا انتهت عدتها بالخيار إما أن تنتظر زوجها حتى يرجع, وإما أن تتزوج، وسواء كان ذلك قبل الدخول أو كان ذلك بعد الدخول.
المهر في نكاح الكفار إذا أسلما
قال المؤلف رحمه الله: [وما سمي لها وهما كافران فقبضته في كفرهما فلا شيء لها غيره وإن كان حراماً].يعني: ما أعطاها من مهر إن كانت قبضته في حالة الكفر فليس لها شيء, مثل: لو أصدقها خنزيراً أو خمراً فقبضته وهما كافران لا شيء لها؛ لأنه تقدم لنا أن الأصل في أنكحة الكفار الصحة، وما يترتب عليها فهو صحيح لا نفتش عنه.قال المؤلف رحمه الله: [وإن لم تقبضه وهو حرام فلها مهر مثلها أو نصفه حيث وجب ذلك].إن لم تقبضه يقول المؤلف رحمه لله: لها مهر مثلها، والصواب في ذلك أنه ليس لها مهر المثل، وإنما لها بدله يعني: إذا كان حراماً لها بدله، فإذا كان خمراً تعطى عصيراً ونحو ذلك، يقول المؤلف رحمه الله: لها مهر المثل، والصحيح أن يقال: لها بدل المحرم, فينظر إلى هذا المحرم وتعطى بدله فإذا كان مثلاً: أعطاها كتباً محرمة تعطى كتباً مباحة, أعطاها خمراً تعطى عصيراً إذا أعطاها مثلاً: لحم خنزير تعطى لحم غيره… وهكذا.
إسلام الحر وتحته إماء
قال المؤلف رحمه الله: [فصل وإن أسلم الحر وتحته إماء فأسلمن معه، وكان في حال اجتماعهم على الإسلام ممن لا يحل نكاح الإماء انفسخ نكاحهن، وإن كان ممن يحل له نكاحهن أمسك منهن من تعفه وفارق سائرهن ]. وهذا تقدم الكلام عليه إذا أسلم الحر وتحته إماء فأسلمن معه، إن كان هذا الحر يباح له نكاح الإماء أمسك, إن كان لا يحل له نكاح الإماء ينفسخ النكاح، فإن كان يحل له نكاح الإماء أمسك منهن من تعفه وفارق سائرهن. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا هداة مهتدين.
(تم بفضل الله)