ابو وليد البحيرى
2018-02-08, 07:53 PM
دور الخلفية المعرفية لعبدالحميد بن باديس في توجيه منهجه الإصلاحي
أ.د. محمد وقيع الله
مقدمة:
تختلف التجربة المعرفية للشيخ عبد الحميد بن باديس في كثير من مناحيها، عن التجارب المعرفية التي خاضها شيوخ الإسلام القدامى وحتى المعاصرين نسبياً، من أمثال الإمام محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد رشيد رضا - رحمهما الله -. وقد كان مرد ذلك إلى اختلاف ظروف العصر والبيئة والتحديات التي واجهت كلاً من هؤلاء الأئمة الكرام.
انحدر عبد الحميد بن باديس من أسرة من الأمازيغ كانت ذا سلطة كبيرة في حقب التاريخ الإسلامي الطارف والتليد. وينتسب الشيخ عبد الحميد إلى جده الأعلى مناد بن مكنس الذي تزعّم قبيلته الصنهاجية وإقليمه في أرض البربر في القرن الرابع الهجري. وقد ذكر العلامة عبد الرحمن بن خلدون في تاريخه أنه قد اجتمع أربعون عمامة من أسرة بن باديس في وقت واحد في التدريس والإفتاء والوظائف الدينية. وكان أجداد ابن باديس القريبون قد شاركوا في جهاد الأمير عبد القادر وثورته على الفرنسيين، وأسر بعضهم في عام 1263هـ، وتم نفيهم إلى فرنسا، ثم أفرج عنهم ونقلوا إلى بلاد الشام.
تجربته المعرفية:
جاء عبد الحميد الولد بكراً لوالديه، فقد ولد بمدينة قسطنطينة في عام 1308هـ، وترعرع في ظل أسرته بالغة الجاه والثراء والنفوذ السياسي. وقد حرص أبواه على تعليمه تعليماً نظامياً، لكنه انخرط في سلك تعليم ديني، معاكساً بذلك سلك التعليم المدني الفرنسي الذي درجت عليه أسرته الثرية النافذة.
لكن أجاد الفتى عبد الحميد اللغة الفرنسية، وقصر حديثه بها على الفرنسيين وحدهم، وما كان يتحدث مع غيرهم إلا بالعربية، وهذا ما كان يثير حفيظة كثير من مثقفي عصره من الجزائريين، الذين كانوا يتفاخرون بالتخاطب بلغة الفرنسيس.
وتجافى عبدالحميد عن الطابع الأرستقراطي لأسرته، وانطلق يخالط العامة من المواطنين الجزائريين، وحافظ على الزي الوطني الجزائري، ورفض أن يتزيّى بالزي الأوروبي.
وفي سن 13 حفظ ابن باديس القرآن الكريم على يد الشيخ محمد المداسي، وأعجب شيخه كثيراً بذكائه وسلوكه الطيب، وقدمه ليؤم الناس في صلاة التراويح بالجامع الكبير بقسطنطينة لثلاثة أعوام متتالية.
ثم التحق بالدراسة النظامية، حيث تلقى علوم الدين على يد الشيخ أحمد أبي حمدان الونيسي، وهو الشيخ الذي هاجر فيما بعد إلى المدينة المنورة فاراً بدينه من وطأة الاستعمار الفرنسي، وبقي بالمدينة يدرّس الحديث الشريف إلى أن مات.
وقد حاول ابن باديس أن يهاجر معه، لكن أباه منعه من ذلك، فبقي بالجزائر، حيث تزوج وهو في 15 من العمر، ثم سافر إلى تونس ليلتحق بجامعة الزيتونة عندما بلغ 19 من عمره، وجدّ في طلب العلم على أئمة الزيتونة الكبار من أمثال: الشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ محمد النخلي القيرواني، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وكان أشد تأثره بالشيخين النخلي وابن عاشور.
وعن ابن عاشور ذكر ابن باديس أنه كان أول وأكثر من حبّبه في اللغة العربية ودراسة أدبها الطليّ.
وعن ذلك قال ابن باديس: “وإن أنسى فلا أنسى دروساً قرأتها من ديوان الحماسة على الأستاذ ابن عاشور، وكانت من أول ما قرأت عليه، فقد حبّبتني في الأدب والتفقه في كلام العرب، وبثّ فيّ روحاً جديدة في فهم المنظوم والمنثور، وأحيت فيّ الشعور بعز العروبة والاعتزاز بها كما أعتزّ بالإسلام”[1].
وأما الشيخ النخلي فكان من تأثيره على ابن باديس أنه فكّ عنه إسار الجمود والتقليد، وجعله يتخطى حرفية الثقافة القديمة التي طبعت أساليب المفسرين ووجّهت تأويلاتهم الجدلية واستصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله. وعندما اشتكى ابن باديس إلى شيخه من هذه الأوضار التي شانت كتب التفسير، أجابه قائلاً: ”اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، وهذه الآراء المضطربة، يسقط الساقط، ويبقى الصحيح، وتستريح”. وعن هذه الإجابة الحكيمة قال ابن باديس:” فوالله لقد فتح بهذه الكلمة القليلة عن ذهني آفاقاً واسعة لا عهد لي بها”[2].
وقد أسهمت هذه الكلمات الفاصلة في إسقاط سُدُول التاريخ وفضوله عن النصوص الإسلامية، فاكتسبت حيويتها من جديد في ذهن ابن باديس، وجعلها من ثم نبراساً للتنوير والتوجيه، وربط العامة والمثقفين الجزائريين بأصول الدين.
وقد تَاحَ للفتى ابن باديس أن يباشر تدريس العلوم الدينية بالجامعة الزيتونية لمدة عام واحد، إذ كان ذلك تقليداً في الجامعة أن يكلف خريجوها بالتدريس للطلاب المبتدئين لمدة عام واحد بحسبان ذلك من قبيل التدريب على التدريس. ثم فضل ابن باديس أن يرجع إلى الجزائر، حيث قام على تدريس العلوم الشرعية بطريقة نظامية للطلاب، وإلقاء الخطب والمحاضرات على العامة، والكتابة في الصحف السيّارة.
وفي عام 1330هـ شدّ ابن باديس رحاله إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وهناك التقى مجدداً شيخه الونيسي، الذي عرض عليه أن يبقى معه بالمدينة المنورة، لكن شيخاً آخر من شيوخ ابن باديس بالمدينة وجّهه بأن يرجع إلى بلاده ليفيد الناس بما تلقى من العلم.
يقول ابن باديس وهو يروي هذه الواقعة: ”أذكر أني لما زرت المدينة المنورة واتصلت فيها بشيخي الأستاذ حمدان الونيسي المهاجر الجزائري، وشيخي حسين أحمد الهندي؛ أشار عليّ الأول بالهجرة إلى المدينة المنورة وقطع كل علاقة لي بالوطن. وأشار عليّ الثاني، وكان عالماً حكيماً، بالعودة إلى الوطن وخدمة الإسلام فيه والعربية بقدر الجهد، فحقق الله رأي الشيخ الثاني، ورجعنا إلى الوطن بقصد خدمته، فنحن لا نهاجر، نحن حراس الإسلام والعربية والقومية بجميع مقوماتها في هذا الوطن”[3].
وهكذا انقلب ابن باديس عائداً إلى الجزائر، لكنه عرّج في طريقه إليها على مصر، حيث زار الأزهر الشريف، ووقف على طرائق التعليم فيه، والتقى بعض كبار شيوخه، مثل: الشيخ محمد بخيت المطيعي، الذي أوصل إليه رسالة توصية حملها من الشيخ الونيسي.
تحصيل الثقافة الغربية:
ومن جانب الثقافة الغربية كان لابن باديس نصيب كبير حصَّله بالاضطلاع المباشر باللغتين الفرنسية والعربية، وبالاحتكاك بمعاصريه من أقطاب الثقافة الفرنسية، لا سيما من عاشوا قريباً منه في الجزائر، كألبير كامو، الذي ولد وعاش صدر شبابه بالجزائر، وعمل فيها بالتدريس والصحافة، وتحاور كثيراً مع ابن باديس راجياً أن يجره إلى التزام موقف فرنسي يساري تجاه بلاده.
لقد تعلم ابن باديس اللغة الفرنسية ليعرف دخائل ومكائد أعدائه تأسياً بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لزيد بن ثابت رضي الله عنه للعبرية: ”إني والله ما آمن يهود على كتاب. قال: فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم”[4].
وتعمق عن طريق اللغة الفرنسية في دراسة الحضارة الغربية، فقرأ من كتب التاريخ والأديان والثقافة ما مكنه من تكوين إدراك سليم بحقيقة الحضارة الغربية وتكوين رأي معتدل حصيف حولها يقي عاقبة الإعجاب بها والذوبان فيها.
وقد استطاع ابن باديس، بفضل تمكنه من اللسان الفرنسي، مجادلة فطاحلة الرأي والفكر والفلسفة والأدب الفرنسيين وإلزامهم الحجة وقهرهم، من أمثال كان ألبير كامو، الذي نال جائزة نوبل في الأدب بستينيات القرن الماضي[5]!
وبقي ابن باديس على اتصال وثيق بالأدب والفكر الفرنسي عن طريق الاطلاع على الصحافة الفرنسية، التي ما كان يخفي إعجابه بمستواها المهني، فهو القائل: ”لا ننكر أننا من المعجبين بالآداب الفرنسية، ولا ننكر أننا من المعجبين فوق ذلك بالصحافة الفرنسية الكبرى، وما لها من بديع نظام ومهارة أقلام وجرأة وإقدام. ولهذا يؤلمنا ويزعجنا ويملأ أنفسنا حسرة وإشفاقاً أن نرى الآداب الفرنسية وأن نرى الصحافة الفرنسية الكبرى تنحط أحياناً إلى درك الهذر واللغو والسخافة، وتنغمس في حمأة التعصب الممقوت المظلم، فتنكر على غيرها ما تستحسنه لنفسه، وتعتبر الفضيلة عندها رذيلة عند غيرها. ثم تلجأ فوق ذلك كله إلى باب الاختلاق والإفك والبهتان، فتتهم الأبرياء، وهي تعلم أنهم أبرياء، وهي تقلب الحقائق، وهي تعلم أنها تقلب الحقائق، وما ذلك إلا خدمة لغايات انتفاعية، ودفاعاً عن مصالح مادية، لبعض الهيئات التي تغذي صناديق تلك الصحف الكبرى”[6].
وكانت صحيفة (الطان) الفرنسية قد اتهمت الشيخ ابن باديس بالتأثر بالشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحرضت عليه الإدارة الاستعمارية في الجزائر، وضمت إلى التهمة آخرين من شيوخ الإصلاح، فقال: ”وفي كل مكان نجد نشاط دعاة المذهب الوهابي، وأعوان الجامعة العربية، الذين يدينون بفكرة شكيب أرسلان، والذين يتلقون تعاليمه من لوزان عن طريق القاهرة، ومن أهم مطالبهم الوعظ في المساجد وحرية التعليم بلا مراقبة”[7].
وقد برهن الشيخ بردّه التفصيلي على وعيه العميق بخبايا مرامي الصحافة الغربية، وأبان بنقده العمومي لتحيزات الصحافة الغربية وعيه المبكر بداء التبعية الذي يعانيه الإعلام الغربي، ويقعد به عن الاعتدال وبذل كلمة الحق، لا سيما عندما يتعلق الأمر بشأن الإسلام وقضايا المسلمين.
وفي مقابل الصحافة الفرنسية المغرضة في تناولها للشؤون الإسلامية، كان لابن باديس منهل رائق صاف عذب، يتناول منه التحليلات الراقية لشؤون المسلمين، من أمثال: مجلة (الفتح) التي أنشأها الشيخ محب الدين الخطيب في القاهرة، ومجلة (المنار) التي أصدرها الشيخ محمد رشيد رضا أيضاً في القاهرة. وكان تأثره بحديث (المنار) وبصاحب المنار عظيماً جداً، لا سيما في تفسيره للقرآن المسمى تفسير المنار، وقد أعاد نشر جزء منه بمجلة (الشهاب) وقدم له قائلاً: ”نشرنا ما يلي من تفسير حجة الإسلام محمد رشيد رضا، من آخر جزء أصدره من مجلة (المنار)؛ اعترافاً بفضل السبق إلى نشر هداية القرآن على المسلمين بمجلة شهرية كانت قوتنا فيما ننشر من مجالس التذكير”[8]، وهو الاسم الذي أطلقه ابن باديس على تفسيره للقرآن العظيم.
يتبع
أ.د. محمد وقيع الله
مقدمة:
تختلف التجربة المعرفية للشيخ عبد الحميد بن باديس في كثير من مناحيها، عن التجارب المعرفية التي خاضها شيوخ الإسلام القدامى وحتى المعاصرين نسبياً، من أمثال الإمام محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد رشيد رضا - رحمهما الله -. وقد كان مرد ذلك إلى اختلاف ظروف العصر والبيئة والتحديات التي واجهت كلاً من هؤلاء الأئمة الكرام.
انحدر عبد الحميد بن باديس من أسرة من الأمازيغ كانت ذا سلطة كبيرة في حقب التاريخ الإسلامي الطارف والتليد. وينتسب الشيخ عبد الحميد إلى جده الأعلى مناد بن مكنس الذي تزعّم قبيلته الصنهاجية وإقليمه في أرض البربر في القرن الرابع الهجري. وقد ذكر العلامة عبد الرحمن بن خلدون في تاريخه أنه قد اجتمع أربعون عمامة من أسرة بن باديس في وقت واحد في التدريس والإفتاء والوظائف الدينية. وكان أجداد ابن باديس القريبون قد شاركوا في جهاد الأمير عبد القادر وثورته على الفرنسيين، وأسر بعضهم في عام 1263هـ، وتم نفيهم إلى فرنسا، ثم أفرج عنهم ونقلوا إلى بلاد الشام.
تجربته المعرفية:
جاء عبد الحميد الولد بكراً لوالديه، فقد ولد بمدينة قسطنطينة في عام 1308هـ، وترعرع في ظل أسرته بالغة الجاه والثراء والنفوذ السياسي. وقد حرص أبواه على تعليمه تعليماً نظامياً، لكنه انخرط في سلك تعليم ديني، معاكساً بذلك سلك التعليم المدني الفرنسي الذي درجت عليه أسرته الثرية النافذة.
لكن أجاد الفتى عبد الحميد اللغة الفرنسية، وقصر حديثه بها على الفرنسيين وحدهم، وما كان يتحدث مع غيرهم إلا بالعربية، وهذا ما كان يثير حفيظة كثير من مثقفي عصره من الجزائريين، الذين كانوا يتفاخرون بالتخاطب بلغة الفرنسيس.
وتجافى عبدالحميد عن الطابع الأرستقراطي لأسرته، وانطلق يخالط العامة من المواطنين الجزائريين، وحافظ على الزي الوطني الجزائري، ورفض أن يتزيّى بالزي الأوروبي.
وفي سن 13 حفظ ابن باديس القرآن الكريم على يد الشيخ محمد المداسي، وأعجب شيخه كثيراً بذكائه وسلوكه الطيب، وقدمه ليؤم الناس في صلاة التراويح بالجامع الكبير بقسطنطينة لثلاثة أعوام متتالية.
ثم التحق بالدراسة النظامية، حيث تلقى علوم الدين على يد الشيخ أحمد أبي حمدان الونيسي، وهو الشيخ الذي هاجر فيما بعد إلى المدينة المنورة فاراً بدينه من وطأة الاستعمار الفرنسي، وبقي بالمدينة يدرّس الحديث الشريف إلى أن مات.
وقد حاول ابن باديس أن يهاجر معه، لكن أباه منعه من ذلك، فبقي بالجزائر، حيث تزوج وهو في 15 من العمر، ثم سافر إلى تونس ليلتحق بجامعة الزيتونة عندما بلغ 19 من عمره، وجدّ في طلب العلم على أئمة الزيتونة الكبار من أمثال: الشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ محمد النخلي القيرواني، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وكان أشد تأثره بالشيخين النخلي وابن عاشور.
وعن ابن عاشور ذكر ابن باديس أنه كان أول وأكثر من حبّبه في اللغة العربية ودراسة أدبها الطليّ.
وعن ذلك قال ابن باديس: “وإن أنسى فلا أنسى دروساً قرأتها من ديوان الحماسة على الأستاذ ابن عاشور، وكانت من أول ما قرأت عليه، فقد حبّبتني في الأدب والتفقه في كلام العرب، وبثّ فيّ روحاً جديدة في فهم المنظوم والمنثور، وأحيت فيّ الشعور بعز العروبة والاعتزاز بها كما أعتزّ بالإسلام”[1].
وأما الشيخ النخلي فكان من تأثيره على ابن باديس أنه فكّ عنه إسار الجمود والتقليد، وجعله يتخطى حرفية الثقافة القديمة التي طبعت أساليب المفسرين ووجّهت تأويلاتهم الجدلية واستصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله. وعندما اشتكى ابن باديس إلى شيخه من هذه الأوضار التي شانت كتب التفسير، أجابه قائلاً: ”اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، وهذه الآراء المضطربة، يسقط الساقط، ويبقى الصحيح، وتستريح”. وعن هذه الإجابة الحكيمة قال ابن باديس:” فوالله لقد فتح بهذه الكلمة القليلة عن ذهني آفاقاً واسعة لا عهد لي بها”[2].
وقد أسهمت هذه الكلمات الفاصلة في إسقاط سُدُول التاريخ وفضوله عن النصوص الإسلامية، فاكتسبت حيويتها من جديد في ذهن ابن باديس، وجعلها من ثم نبراساً للتنوير والتوجيه، وربط العامة والمثقفين الجزائريين بأصول الدين.
وقد تَاحَ للفتى ابن باديس أن يباشر تدريس العلوم الدينية بالجامعة الزيتونية لمدة عام واحد، إذ كان ذلك تقليداً في الجامعة أن يكلف خريجوها بالتدريس للطلاب المبتدئين لمدة عام واحد بحسبان ذلك من قبيل التدريب على التدريس. ثم فضل ابن باديس أن يرجع إلى الجزائر، حيث قام على تدريس العلوم الشرعية بطريقة نظامية للطلاب، وإلقاء الخطب والمحاضرات على العامة، والكتابة في الصحف السيّارة.
وفي عام 1330هـ شدّ ابن باديس رحاله إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وهناك التقى مجدداً شيخه الونيسي، الذي عرض عليه أن يبقى معه بالمدينة المنورة، لكن شيخاً آخر من شيوخ ابن باديس بالمدينة وجّهه بأن يرجع إلى بلاده ليفيد الناس بما تلقى من العلم.
يقول ابن باديس وهو يروي هذه الواقعة: ”أذكر أني لما زرت المدينة المنورة واتصلت فيها بشيخي الأستاذ حمدان الونيسي المهاجر الجزائري، وشيخي حسين أحمد الهندي؛ أشار عليّ الأول بالهجرة إلى المدينة المنورة وقطع كل علاقة لي بالوطن. وأشار عليّ الثاني، وكان عالماً حكيماً، بالعودة إلى الوطن وخدمة الإسلام فيه والعربية بقدر الجهد، فحقق الله رأي الشيخ الثاني، ورجعنا إلى الوطن بقصد خدمته، فنحن لا نهاجر، نحن حراس الإسلام والعربية والقومية بجميع مقوماتها في هذا الوطن”[3].
وهكذا انقلب ابن باديس عائداً إلى الجزائر، لكنه عرّج في طريقه إليها على مصر، حيث زار الأزهر الشريف، ووقف على طرائق التعليم فيه، والتقى بعض كبار شيوخه، مثل: الشيخ محمد بخيت المطيعي، الذي أوصل إليه رسالة توصية حملها من الشيخ الونيسي.
تحصيل الثقافة الغربية:
ومن جانب الثقافة الغربية كان لابن باديس نصيب كبير حصَّله بالاضطلاع المباشر باللغتين الفرنسية والعربية، وبالاحتكاك بمعاصريه من أقطاب الثقافة الفرنسية، لا سيما من عاشوا قريباً منه في الجزائر، كألبير كامو، الذي ولد وعاش صدر شبابه بالجزائر، وعمل فيها بالتدريس والصحافة، وتحاور كثيراً مع ابن باديس راجياً أن يجره إلى التزام موقف فرنسي يساري تجاه بلاده.
لقد تعلم ابن باديس اللغة الفرنسية ليعرف دخائل ومكائد أعدائه تأسياً بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لزيد بن ثابت رضي الله عنه للعبرية: ”إني والله ما آمن يهود على كتاب. قال: فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم”[4].
وتعمق عن طريق اللغة الفرنسية في دراسة الحضارة الغربية، فقرأ من كتب التاريخ والأديان والثقافة ما مكنه من تكوين إدراك سليم بحقيقة الحضارة الغربية وتكوين رأي معتدل حصيف حولها يقي عاقبة الإعجاب بها والذوبان فيها.
وقد استطاع ابن باديس، بفضل تمكنه من اللسان الفرنسي، مجادلة فطاحلة الرأي والفكر والفلسفة والأدب الفرنسيين وإلزامهم الحجة وقهرهم، من أمثال كان ألبير كامو، الذي نال جائزة نوبل في الأدب بستينيات القرن الماضي[5]!
وبقي ابن باديس على اتصال وثيق بالأدب والفكر الفرنسي عن طريق الاطلاع على الصحافة الفرنسية، التي ما كان يخفي إعجابه بمستواها المهني، فهو القائل: ”لا ننكر أننا من المعجبين بالآداب الفرنسية، ولا ننكر أننا من المعجبين فوق ذلك بالصحافة الفرنسية الكبرى، وما لها من بديع نظام ومهارة أقلام وجرأة وإقدام. ولهذا يؤلمنا ويزعجنا ويملأ أنفسنا حسرة وإشفاقاً أن نرى الآداب الفرنسية وأن نرى الصحافة الفرنسية الكبرى تنحط أحياناً إلى درك الهذر واللغو والسخافة، وتنغمس في حمأة التعصب الممقوت المظلم، فتنكر على غيرها ما تستحسنه لنفسه، وتعتبر الفضيلة عندها رذيلة عند غيرها. ثم تلجأ فوق ذلك كله إلى باب الاختلاق والإفك والبهتان، فتتهم الأبرياء، وهي تعلم أنهم أبرياء، وهي تقلب الحقائق، وهي تعلم أنها تقلب الحقائق، وما ذلك إلا خدمة لغايات انتفاعية، ودفاعاً عن مصالح مادية، لبعض الهيئات التي تغذي صناديق تلك الصحف الكبرى”[6].
وكانت صحيفة (الطان) الفرنسية قد اتهمت الشيخ ابن باديس بالتأثر بالشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحرضت عليه الإدارة الاستعمارية في الجزائر، وضمت إلى التهمة آخرين من شيوخ الإصلاح، فقال: ”وفي كل مكان نجد نشاط دعاة المذهب الوهابي، وأعوان الجامعة العربية، الذين يدينون بفكرة شكيب أرسلان، والذين يتلقون تعاليمه من لوزان عن طريق القاهرة، ومن أهم مطالبهم الوعظ في المساجد وحرية التعليم بلا مراقبة”[7].
وقد برهن الشيخ بردّه التفصيلي على وعيه العميق بخبايا مرامي الصحافة الغربية، وأبان بنقده العمومي لتحيزات الصحافة الغربية وعيه المبكر بداء التبعية الذي يعانيه الإعلام الغربي، ويقعد به عن الاعتدال وبذل كلمة الحق، لا سيما عندما يتعلق الأمر بشأن الإسلام وقضايا المسلمين.
وفي مقابل الصحافة الفرنسية المغرضة في تناولها للشؤون الإسلامية، كان لابن باديس منهل رائق صاف عذب، يتناول منه التحليلات الراقية لشؤون المسلمين، من أمثال: مجلة (الفتح) التي أنشأها الشيخ محب الدين الخطيب في القاهرة، ومجلة (المنار) التي أصدرها الشيخ محمد رشيد رضا أيضاً في القاهرة. وكان تأثره بحديث (المنار) وبصاحب المنار عظيماً جداً، لا سيما في تفسيره للقرآن المسمى تفسير المنار، وقد أعاد نشر جزء منه بمجلة (الشهاب) وقدم له قائلاً: ”نشرنا ما يلي من تفسير حجة الإسلام محمد رشيد رضا، من آخر جزء أصدره من مجلة (المنار)؛ اعترافاً بفضل السبق إلى نشر هداية القرآن على المسلمين بمجلة شهرية كانت قوتنا فيما ننشر من مجالس التذكير”[8]، وهو الاسم الذي أطلقه ابن باديس على تفسيره للقرآن العظيم.
يتبع